دولة الإسلام في الأندلس

محمد عبد الله عنان

العصر الأول: من الفتح إلى بداية عهد الناصر

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: دولة الإسلام في الأندلس (الجزء الأول) تأليف: محمد عبد الله عنان العصر الأوَّل - القسم الأوَّل من الفتح إلى بداية عهد الناصر

_ الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة الطبعة: الرابعة، 1417 هـ - 1997 م

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الرابعة 1417 هـ = 1997 م رقم الإيداع: 8988/ 90 الترقيم الدولي: 4 - 082 - 505 - 977 مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر 68 شارع العباسية. القاهرة. ت: 4897851

نموذج من صفحات الجزء المخطوط من تاريخ ابن حيان المحفوظ بمكتبة جامع القرويين بفاس

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة تصدر اليوم الطبعة الرابعة من كتاب " دولة الإسلام في الأندلس "، وقد أتيح لنا بعون الله وتوفيقه، أن نكمل تاريخ الأندلس منذ بدايته إلى نهايته، وأن تظهر عصوره الأربعة على النحو الآتي: العصر الأول - ويشمل تاريخ فتوح إفريقية والأندلس، وعصر الولاة، ثم تاريخ الدولة الأموية الأندلسية منذ قيامها في ظل الإمارة، ثم قيام الخلافة الأموية، وانحلالها على يد الدولة العامرية، ثم انهيارها وسقوطها، وبدء قيام دول الطوائف الأندلسية: 22 - 450 هـ (643 - 1058 م). وهذا العصر، هو الذى نقدمه اليوم إلى القارئ في طبعته الجديدة. العصر الثاني - " دول الطوائف "، ويشمل تاريخ الأندلس منذ قيام دول الطوائف الأندلسية، في أوائل القرن الخامس الهجرى، حتى سقوطها على يد المرابطين في أواخر هذا القرن: 425 - 502 هـ (1033 - 1108 م). العصر الثالث - " عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس " ويشمل تاريخ هاتين الدولتين المغربيتين العظيمتين، منذ بدايته حتى نهايته، وتاريخ الأندلس الكبرى في ظلهما، ثم انهيارها عقب انهيار سلطان الموحدين فى الأندلس، في أوائل القرن السابع الهجرى: 500 - 668 هـ (1106 - 1269 م). العصر الرابع - " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، ويشمل تاريخ مملكة غرناطة آخر دول الإسلام في الأندلس، منذ قيامها حتى سقوطها، ثم تاريخ الأمة الأندلسية المغلوبة تحت نير اسبانيا النصرانية، بعد أن غدت طائفة الموريسكيين أو العرب المتنصرين، وما نزل بها من محن التنصير المغصوب، ومختلف ضروب الاضطهاد المفجعة، حتى إخراجها نهائيا من

الأراضي الإسبانية، وذلك في بداية القرن السابع عشر الميلادى: 635 - 1019 هـ (1237 - 1610 م). وقد أتيح لنا إلى جانب هذه العصور الأربعة من تاريخ الأندلس، أن نصدر في نفس الوقت مؤلفا خاصا عن الآثار والنقوش الأندلسية الباقية، في شبه الجزيرة الأندلسية، وذلك بعنوان " الآثار الأندلسية الباقية، في اسبانيا والبرتغال ". وتشغل هذه العصور الأربعة تسعة قرون من حياة الأمة الأندلسية، زاخرة بالأحداث والعبر والمآسي المشجية، لم نأل جهداً في سردها، وتحليلها، وإسنادها إلى مصادرها الوثيقة. وقد أنفقت في كتابة هذه العصور الأربعة، من تاريخ الأمة الأندلسية، خمسة وعشرين عاماً، قمت خلالها بست عشرة رحلة في اسبانيا والمغرب، لم أدخر خلالها وسعاً في البحث والتنقيب، وتقصى مختلف المصادر والوثائق، ودراسة المخطوطات العربية، والوثائق القشتالية، في مختلف مواطنها. ولقد كان لهذا التجوال المتكرر، في ربوع الأندلس القديمة، والزيارات المتعددة للقواعد الأندلسية الذاهبة، ولاسيما القواعد الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية، وبلنسية، وشاطبة، ومرسية، وسرقسطة، وطليطلة، وبطليوس، وماردة، وأشبونة، وباجة وغرناطة، وألمرية، ومالقة، وغيرها، وهذه الدراسات المستفيضة لآثارها ونقوشها الأندلسية الباقية، وهذه المشاهدات لطبائع الإقليم، والبقاع، والأوساط التي حلت فيها الأمة الأندلسية، وعاشت عدة قرون، ووضعت أسس حضارتها العظيمة - كان لذلك كله في نفسي أعمق الآثار، وقد أمدني بكثير من الحقائق والفكر الجديدة. وأود أن أنوه هنا، بأنه فضلا عن استيعاب المصادر القشتالية واللاتينية القديمة، والمصادر الغربية الحديثة، إلى جانب المصادر العربية المختلفة العامة والخاصة، قد أتيح لي أن أنتفع بكثير من المصادر المخطوطة الهامة، مما عثرت عليه خلال بحوثي في المجموعات الإسبانية (ولاسيما مجموعة الإسكوريال ومجموعة أكاديمية التاريخ)، والمجموعات المغربية في الرباط وفاس، وأن أنتفع في هذا القسم من تاريخ الأندلس، بوجه خاص، بثلاث قطع مخطوطة نادرة

من مؤلف ابن حيّان القيم في تاريخ الأندلس، وهو كتاب " المقتبس في تاريخ رجال الأندلس " أو " المقتبس في أخبار أهل الأندلس ". القطعة الأولى - وتشمل حوادث سنى 180 - 232 هـ، أعني عصري الحكم ابن هشام وعبد الرحمن بن الحكم، وتقع في نحو مائة صفحة (ص 88 - 189) من القطع الكبير، وهي عبارة عن بداية السفر الثاني من كتاب " المقتبس ": ويرجع الفضل في انتفاعي بهذا القسم، إلى صديقي العلامة المرحوم الأستاذ ليفى بروفنسال، وكان قد عثر عليه في مكتبة جامع القرويين بفاس، وقد اختفى الآن هذا القسم ولا نعرف مكان وجوده. القطعة الثانية - وهي تأتي مباشرة بعد القطعة الأولى، وتشمل حوادث سنى 233 - 267 هـ، أعني بقية عصر عبد الرحمن بن الحكم، ومعظم عهد ولده الأمير محمد، والبوادر الأولى للثورة الكبرى، وتقع في 95 لوحة أعني مائة وتسعين صفحة من القطع الكبير، وهي عتيقة بالية كثيرة الخروم، متساقطة الحوافي، مكتوبة بخط أندلسي قديم، وقد كتب في نهايتها " كمل السفر الثاني بحمد الله تعالى، يتلوه الثالث، مبتدأ نجوم عمر بن حفصون كبير الثوار بالأندلس ". وهي تحتوى على تفاصيل ومعلومات هامة عن بلاط قرطبة وأحواله في هذا العصر، وعن الصقالبة والوزراء والعمال. وقد عثرت على هذه القطعة في مكتبة جامع القرويين بفاس، وحصلت منها على صورة فتوغرافية، وانتفعت بها منذ الطبعة الثالثة من الكتاب انتفاعاً عظيما، وذلك بالرغم من صعوبة المراجعة في هذه المخطوطة البالية (¬1). ويتلو هذا القسم المخطوط الذى يشتمل على السفر الثاني من " المقتبس "، السفر الثالث، الذى قام بنشره المستشرق الإسباني الأب الأوغسطيني ملشيور أنتونيا عن مخطوطة المكتبة البودلية بأكسفورد (باريس سنة 1937)، وهو يشتمل على عهد الأمير عبد الله بن محمد، وحوادث الفتنة الكبرى من سنة 275 إلى سنة 298 هـ، قبيل عهد الناصر بعامين. القطعة الثالثة - وهي تتعلق بأعظم اكتشاف من نوعه من كتاب " المقتبس "، ¬_______ (¬1) وقد قام صديقي الدكتور محمود علي مكي أخيراً بتحقيق هذه القطعة ونشرها، وسوف تظهر قريبا.

وهو العثور على " السفر الخامس " منه المتعلق بعهد عبد الرحمن الناصر. إن هذا الاكتشاف يتعلق بأعظم قطعة مخطوطة عثر بها البحث حتى اليوم من هذا المؤلف الكبير. وقد تم العثور عليها منذ أعوام قلائل بين موجودات الخزانة الملكية بالرباط، وقد كان من حسن الطالع أن أتيح لنا الاطلاع عليها ودراسة محتوياتها دراسة وافية. وهي عبارة عن جزء ضخم من كتاب " المقتبس " يقع في مائة وخمسة وثمانين ورقة كبيرة تضم 370 صفحة، ولا يحمل المخطوط عنوانا لأنه ناقص من أوله. ولكن لا يصعب على من يعرف منهج ابن حيان التاريخي وأسلوبه النقدي، ومصادره التي يقتبس منها، أن يدرك لأول وهلة أنه أمام جزء كبير من المقتبس. ومن جهة أخرى، فإنه مما يقطع بصحة هذا الاستنتاج، ما قرأناه في حوادث سنة 327 هـ، عن موقعة الخندق، من قول المؤلف خلال حديثه عمن قتل من المسلمن في الموقعة "وفشا القتل فيمن سواهم من المستنفرين والمحشودة، فافترطنا فيهم إلى جدنا حيان الأمثل طريقة أبا سعد مروان بن محمد بن حيان رحمه الله". ويضم هذا المجلد الضخم السفر الخامس من كتاب " المقتبس "، وذلك حسبما ورد في ختامه. وهو يتعلق جميعه بعصر عبد الرحمن الناصر. ومن ثم كانت أهميته البالغة، بيد أنه مع ضخامته لا يشمل عصر الناصر كله، وهو يبدأ من سنة 300 هـ وينتهي في سنة 350 هـ. بل تنقص هذا السفر الخامس من " المقتبس " في البداية نحو ستين صفحة، وهو يبدأ بحوادث سنة " سبع وثلاثمائة "، وينتهي بحوادث سنة 330 هـ وإن كان يتناول أحيانا بعض الحوادث التي وقعت قبل ذلك أو بعد ذلك حتى سنة 340 هـ. والمخطوط قديم، ومكتوب بخط أندلسي جميل، ولكنه لا يحمل تاريخ كتابته (¬1). وقد قضينا في دراسة هذا المخطوط والنقل منه فترات طويلة، وانتفعنا ¬_______ (¬1) هذا وقد كتبت عن هذا الاكتشاف بحثا مفصلا، نشر بمجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد في المجلد الثالث عشر (سنة 1965 - 1966). ثم ألقيت بعد ذلك عنه محاضرة بالإنجليزية بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن في ربيع سنة 1967.

بمحتوياته أعظم انتفاع، في هذه الطبعة الرابعة من كتابنا، وما نقلناه منه يرى الضياء لأول مرة. وتوجد إلى جانب ذلك قطعة مخطوطة أخرى من تاريخ ابن حيّان في مكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة كوديرا)، تقع في 136 صفحة صغيرة، وتشتمل على حوادث سنى 361 - 364 هـ، وهي أواخر عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وتحتوي على معلومات هامة عن الشؤون المالية والإدارية في هذا العصر. فإذا ذكرنا بعد ذلك كله، ما نقله الكتاب والمؤرخون اللاحقون مثل ابن بسام صاحب الذخيرة, وابن عذارى صاحب البيان المغرب، وابن الخطيب، في الإحاطة، وأعمال الأعلام، والمقّري في نفح الطيب، من الفصول والشذور العديدة، من تاريخ ابن حيان، أدركنا أننا قد ظفرنا في الواقع بقدر كبير، وربما بمعظم محتويات هذا التاريخ العظيم الجامع، الذي يعتبر بحق من أقيم مصادر التاريخ الأندلسي، وأكثرها اتزانا، وأقواها من حيث الروح التحليلية والنقدية، ولا سيما فيما يتعلق بحوادث سقوط الخلافة الأموية، وأوائل عهد الطوائف، وهو العصر الذي أدركه ابن حيان وعاش فيه، وشاهد أحداثه المثيرة، وترك لنا عنها أبدع الصور وأقواها. ونكتفي بهذه الإشارة إلى المصادر المخطوطة، وهي عديدة ذكرت في مواضعها، وكذلك المصادر الأخرى من عربية وقشتالية وغيرها، فقد ذكرت كذلك في مواضعها، وسوف نثبتها جميعا في نهاية الكتاب في ثبت خاص. وأما المصادر والنصوص والوثائق اللاتينية والقشتالية، فقد راجعت معظمها في مدريد، في المكتبة الوطنية، وقسم المحفوظات التاريخية، وكذلك في مكتبة معهدنا المصرى بمدريد، وهي تضم مجموعة نفيسة من مصادر التاريخ الأندلسي. * * * ولا بد لي أن أكرر هنا ما سبق أن ذكرته في مقدمة الطبعة الأولى، وهو أني بذلت في كتابة هذا المؤلف الذي يمتزج فيه تاريخ الشرق والغرب، والإسلام والنصرانية، جهداً خاصا لتمحيص الروايات والنصوص العربية والإفرنجية، واستخراج الرواية الراجحة، وتكوين الرأي المستقل مهما يكن هذا الرأي

ومما تجدر ملاحظته أن تاريخ الأندلس كتاريخ الحروب الصليبية، يمتاز في كثير من الأحيان بتباين واضح بين الرواية الإسلامية والرواية النصرانية، وقد تتأثر هذه الرواية أو تلك، بالمؤثرات القومية أو الدينية؛ ولكن الرواية الإسلامية فيما يتعلق بتاريخ الأندلس، تبدو على العموم أقل تحاملا، وأكثر دقة واعتدالا. وأما الرواية النصرانية فكثيرا ما يشوبها الإغراق والتحامل، وينقصها الإنصاف والدقة. ويرجع ذلك إلى أن الروايات النصرانية الأولى، التي كتبت عن تاريخ اسبانيا المسلمة، كانت من تصنيف بعض الأحبار المتعصبين، وإلى أن مؤرخي اسبانيا المحدثين، لبثوا حتى أواخر القرن الثامن عشر يكتبون تاريخ اسبانيا من ناحية واحدة، ويرجعون إلى المصادر النصرانية دون غيرها، ويجتنبون كل بحث أو تنقيب في المصادر العربية، وذلك بالرغم من أن تاريخ اسبانيا المسلمة يشغل أعظم مكانة في تاريخ اسبانيا في العصور الوسطى، ويكون صفحة من أمجد صفحاته. وقد نعى النقد الإسباني الحديث نفسه هذا المسلك على مؤرخي اسبانيا النصرانية، فمثلا يقول العلامة المستشرق الإسباني جاينجوس في مقدمة ترجمته لكتاب نفح الطيب: " إن ماريانا وأكابر المؤرخين الإسبانيين تحدوهم عاطفة بغض قومي عميق، أو نزعة تعصب ديني، أبدوا دائما أبلغ الإحتقار لمؤلفات العرب .. فكانوا يرفضون وسائل البحث التي تقدمها لهم الوثائق التاريخية العربية الكثيرة، ويهملون المزايا التي قد تترتب على المقارنة بين الروايات النصرانية والإسلامية، ويؤثرون أن يكتبوا تواريخهم من جانب واحد. وقد ترتب على هذا الروح الضيق الذي يطبع كتاباتهم أثر واضح. ذلك أن تاريخ اسبانيا في العصور الوسطى، ما يزال بالرغم من كل ما أفاض عليه النقدة المحدثون، معتركا من الخرافة والمتناقضات ". وقد أرسل العلامة جاينجوس هذه الصيحة منذ نحو قرن. ومع ذلك فإن فريقا من المؤرخين والمفكرين الإسبان، ما زال حتى عصرنا يعتبر تاريخ الأمة الأندلسية صفحة بغيضة من التاريخ القومي، وأن القضاء على الأمة الأندلسية وعلى حضارتها إنما هو نصر قومي باهر، وأن مطاردات ديوان التحقيق المروعة لبقايا الأمة المغلوبة، إنما هي عمل إنقاذ وسلام. وينسى هذا الفريق أو يتناسى كل المزايا، وكل الجهود الإنتاجية، وكل التراث الحضاري، وكل التقدم الإنسان الذي

حققه المسلمون في اسبانيا؛ بل نجد في العصر الحديث عالما إسبانيا مثل المستشرق سيمونيت، يبرر، بل ويمجد العمل الوندلي الذي ارتكبه الكردينال خمنيس مطران طليطلة، بجمع الكتب العربية من المسلمن بعد سقوط غرناطة بقليل، وقد بلغت زهاء مائة ألف أو تزيد، والاحتفال بإحراقها أكداسا في ميادين غرناطة، لكى تحرم الأمة المغلوبة بذلك من غذائها الروحي والفكري. على أن البحث الغربي الحديث، استطاع أن يستدرك كثيراً من شوائب هذا النقص، الذي يكتنف تاريخ اسبانيا في العصور الوسطى، فدرست الكتب والوثائق العربية منذ أوائل القرن الماضي، وتبوأت المصادر الإسلامية مكانها إلى جانب المصادر النصرانية، وترجم البعض منها إلى اللغات الأوربية، وظهرت طائفة كبيرة من الكتب والبحوث النقدية بمختلف اللغات الأوربية ومنها الإسبانية، تكشف للغرب عن كثير من الحقائق المتعلقة بتاريخ الأندلس، وأحوال المجتمع الإسلامي في اسبانيا، وتكشف بالأخص عن القسط البارز، الذي ساهمت به المدنية الإسلامية بالأندلس، في بناء الحضارة الإسبانية الحديثة، وحضارة عصر الإحياء الأوربي. هذا وقد راعيت في سائر فصول هذه القصة الأندلسية المشجية، أن أسلك سبيل التبسط المعتدل، بعيداً عن الإيجاز المخل، بعيدا في الوقت نفسه عن الإسهاب والتفاصيل الكثيرة، إلا ما دعت إليه المناسبات الهامة أو المواقع الحاسمة، حريصا خلال ذلك كله على أن أبرز الحوادث والشخصيات والصور في إطارها النقدي، الذي تدعمه الوثائق والنصوص والقرائن، بعيدا كل البعد عن التأثر بالعاطفة أو الأهواء أو الاتجاهات القومية أو الدينية من أى نوع، وإني لأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك، إلى تأدية رسالة الحق والصدق والاعتدال، في كتابة هذه الصفحات المشرقة المؤسية معا من تاريخ الأمة الأندلسية. وقد حرصت إلى جانب تاريخ اسبانيا المسلمة، أن أكتب في نفس الوقت تاريخ اسبانيا النصرانية، فاستعرضت منذ البداية نشأة المملكة النصرانية الأولى، ثم تاريخ الممالك النصرانية اللاحقة، ثم تناولت تاريخها تباعا في عصورها المتعاقبة، وعنيت بعد ذلك بتتبع أحداث المعركة الأبدية المضطرمة، التي نشبت بين الأندلس المسلمة وبين هاته الممالك النصرانية، وهي التي غدت فيما بعد محور التاريخ الأندلسي

كله، ثم تحولت من جانب اسبانيا النصرانية إلىَ ما يسميه المؤرخون الإسبان " معركة الاسترداد " La Reconquista، وانتهت إلى نتيجتها الطبيعية المحتومة، أعني إلى القضاء على دولة الإسلام في اسبانيا. وهذه الطبعة الجديدة من " دولة الإسلام في الأندلس " تتضمن بعض الإضافات والنصوص الجديدة، التي استطعنا أن نقتبسها بالأخص من " السفر الخامس " من تاريخ ابن حيان، وهو الذي يتضمنه مخطوط المكتبة الملكية الذي سبق ذكره، وقد كنا لحسن الطالع، أول من وفق إلى مراجعته والانتفاع به. وقد نقلنا منه كثيرا من النصوص والوثائق الهامة، ولا سيما كتاب الناصر عن فتنة ابن مسرة، وكتابه عن موقعة الخندق، وغيرهما من الوثائق الرسمية التي ترى الضياء لأول مرة في البحوث الأندلسية. كما تتضمن هذه الطبعة فصلين جديدين ينشران لأول مرة، الأول عن نظم الحكم والأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في عصر الإمارة والخلافة، والثاني عن الحركة الفكرية الأندلسية. هذا إلى ما تتضمنه هذه الطبعة أيضا من النصوص والتعليقات الكثيرة، المستمدة من المصادر النصرانية والقشتالية، وهو أثر من آثار المراجعة المستمرة التي عكفت عليها في مدريد، خلال رحلاتي المتوالية إلى شبه الجزيرة الإسبانية. ولقد تمنيت في ختام مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب، أن يكون صدوره " بداية مشجعة تبعث إلى اهتمام الباحثين بهذه الصفحة المجيدة من تاريخ الإسلام في الغرب ". وإنه لما يدعو إلى الغبطة، ما يلاحظ من تقدم الدراسات الأندلسية وانتعاشها في العهد الأخير، وذلك سواء في ميدان الكتابة والتصنيف، أو ميدان نشر الآثار الأندلسية المخطوطة، وهو نشاط تساهم القاهرة في قسميه بأوفي نصيب. القاهرة في المحرم سنة 1389 الموافق مارس سنة 1969 محمد عبد الله عنان

الكتاب الأول فتوح العرب فى إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة فى الأندلس

الكتاب الأول فتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس 22 - 138 هـ: 643 - 755 م

الفصل الأول فتوح العرب في إفريقية

الفصل الأول فتوح العرب في إفريقية الصراع بين الدولتين الإسلامية والرومانية. اتجاه الفتوح الإسلامية نحو الغرب. غزو برقة. جرجير حاكم إفريقية الروماني. موقعة سبيطلة وهزيمة الروم. فتح سبيطلة عقد الصلح. إفريقية وقت الفتح الإسلامي. أحوالها في ظل الحكم الروماني. انتقالها إلى الدولة الشرقية. فتحها على يد الوندال. كلمة بربر مدلولها. إستعادة الدولة الشرقية لإفريقية. ضعفها وانحلالها. وقف الفتوح العربية واستئنافها على يد الدولة الأموية. موقعة حصن الأجم. إفتتاح سوسة وحصن جالولاء. ولاية عقبة بن نافع الفهرى لإفريقية. افتتاحه لأقطار المغرب. بناؤه لمديئة القيروان. ولاية أبي المهاجر الأنصاري. ولاية عقبة الثانية. مسيره ثانية إلى المغرب. ثورة البربر وقيام كسيلة بن لمزم. هزيمته المسلمين واستيلاؤه على القيروان. ولاية زهير البلوى. زحفه على القيروان. مقتل كسيلة وافتتاح القيروان. هجوم الروم من البحر على برقة. هزيمة العرب ومقتل زهير. مسير حسان بن النعمان إلى إفريقية. غزو العرب لقرطاجنة واستيلاؤهم عليها. فقدهم إياها ثم استردادهم لها. ثورة البربر وقيام الكاهنة. القتال بين العرب والبربر. هزيمة العرب ارتدادهم إلى برقة. عود حسان إلى غزو المغرب. انصراف البربر عن الكاهنة وهزيمتها. تنظيم حكومة إفريقية وتجديد القيروان. عزل حسان وولاية موسى بن نصير. نشأة موسى وحياته الأولى. الخلاف على تاريخ توليته لإفريقية. عود البربر إلى الثورة. هزيمتهم وسحق ثورتهم. فتح موسى لطنجة. ولاية طارق بن زياد لها. إنشاء موسى للأسطول. غزو العرب لجزائر البليار وصقلية وسردانية. كان الصراع الذي نشب بين الدولة الإسلامية الناشئة، وبين الدولة الرومانية الشرقية، يضطرم حيثما تبسط الدولة الشرقية سلطانها. وكانت بسائط الشام مهاد المعارك الأولى بين الدولتين، وكانت أول قطر غنمته الخلافة من أراضي الدولة الرومانية؛ ثم افتتح العرب مصر بعد الشام، وهي أيضا ولاية رومانية، وكان افتتاحها في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، على يد عمرو بن العاص، وذلك في المحرم سنة عشرين من الهجرة (ديسمبر سنة 640 م). ولما كانت مصر تتصل من الغرب بأملاك أخرى للدولة الرومانية هي الولايات الإفريقية، فقد كان من الطبيعي أن يتخذ العرب مصر قاعدة لافتتاح إفريقية، توطيداً لسلطانهم في مصر

والشام، وإتماما لسلسلة الفتوحات الغربية. غير أن تقدمهم نحو الغرب كان محفوفاً بمشاق وصعاب لم يألفوها في فتوحهم الأولى، فقضوا زهاء نصف قرن في معارك عنيفة مع الروم (الرومان) والبربر، وأصيبوا إلى جانب انتصاراتهم، بأكثر من هزيمة شديدة، وواجهوا عدة ثورات محلية عنيفة، وانهار سلطانهم الفتي غير مرة، قبل أن يستقر نهائيا في إفريقية. وبدأ العرب فتوحهم في إفريقية عقب افتتاحهم لمصر مباشرة. ففي سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، أعني بعد افتتاح مصر بنحو عامين، سار عمرو ابن العاص غرباً إلى برقة، فافتتحها وصالح أهلها على الجزية، ثم افتتح طرابلس (أو إطرابلس) بعد أن حاصرها شهراً ولجأ سكانها إلى سفنهم في البحر، ولكنه تركها بعد اغتنام ما فيها (¬1). وفي خلافة عثمان توغل العرب في قفار إفريقية. وفي سنة سبع وعشرين (647 م) (¬2) سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي خلف عمراً في ولاية مصر إلى إفريقية في نحو عشرين ألف مقاتل (¬3)، وسارت معه حامية برقة بقيادة عقبة بن نافع، وكان عمرو قد ولاه على تلك الأنحاء (¬4). وقصد الغزاة بادئ بدء إلى طرابلس وهي يومئذ أغنى وأمنع ثغور إفريقية (¬5). ¬_______ (¬1) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (طبعة لجنة ذكرى جب) ص 121، وأبو الفداء (مصر) ج 1 ص 164، وابن الأثير (مصر) ج 3 ص 10. (¬2) هذه هي رواية ابن عبد الحكم (ص 187) وهي أقدم رواية. ويوافقه البلاذري، وهو معاصر له تقريبا، ولكنه يضيف إلى ذلك أن هناك رواية بوقوع هذه الغزوة سنة 28هـ، وثالثة بوقوعها سنة 29 (فتوح البلدان - مصر - ص 226). ويضع الطبري تاريخ هذه الغزوة في سنة 27هـ متفقا مع ابن عبد الحكم والبلاذري (مصر ج 5 ص 48 و49). ولكن ابن الأثير يضع ْتاريخها في سنة 26 هـ (ج 3 ص 33). (¬3) فتوح مصر ص 184. (¬4) فتوح البلدان ص 224. (¬5) يطلق العرب اسم إفريقية على الأقطار الواقعة شمال هذه القارة دون مصر. وذكر ياقوت في معجمه أن حد إفريقية من برقة شرقا إلى طنجة الخضراء غرباً، وعرضها من البحر إلى الرمال التي في أول السودان (معجم البلدان في مقال إفريقية). وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول، إفريقية ويمتد من حدود مصر الغربية إلى شرق الجزائر، والثاني المغرب الأدنى ويشمل قطر الجزائر تقريبا، والثالث المغرب الأقصى ممتدا من غرب الجزائر إلى المحيط، ويشمل إقليم مراكش وطنجة. وكانت كلمة إفريقية تطلق أيضا في العصور الوسطى بمعنى أخص على إقليم تونس وما يليه.

ولكن الروم تقدموا إلى لقاء المسلمين في مائة وعشرين ألف مقاتل (¬1) بقيادة جريجوريوس أو جرجير حاكم إفريقية الروماني (¬2). وتختلف الرواية الإسلامية في أمر جرجير هذا، ويقول البعض إنه كان من الفرنج وليس من الروم، وإنه كان ملك الفرنجة في إفريقية ما بين طرابلس وطنجة، وإن سبيطله كانت دار ملكه. والحقيقة أن إفريقية كانت في ذلك الحين ولاية رومانية، تخضع لقيصر (إمبراطور) قسطنطينية، وكان جرجير أو جريجوريوس حاكمها من قبل الإمبراطور. على أن حاكم إفريقية الروماني، كان يتمتع وقتئذ بكثير من الإستقلال، نظراً لضعف السلطة المركزية في عاصمة الدولة الشرقية. وهكذا كان شأن جرجير، فقد كان حاكما بأمره في ولايته. ولما علم العرب بتحرك جرجير، تركوا حصار طرابلس وساروا إلى لقاء الروم، ونشبت بين الجيشين مدى أيام معارك شديدة في ظاهر سبيطلة (سوفيتولا) بالقرب من أطلال قرطاجنة القديمة، وهي عاصمة إفريقية يومئذ، فهزم الروم هزيمة شديدة، وقتل قائدهم جريجوريوس، وأسرت إبنته (28 هـ - 648 م) (¬3). ثم حاصر عبد الله سبيطلة، وافتتحها وخربها، وبث جيوشه في تلك الأنحاء حتى قفصة. ثم عقد الصلح مع أهلها على أن يؤدوا الجزية. وقضى في تلك الغزوات خمسة عشر شهرا، ولكنه لم ينشئ في البلاد المفتوحة حكومة جديدة. ولم يتخذ بها قاعدة إسلامية. ثم عاد إلى مصر بعد أن أنشأ حامية في برقة وأخرى في زويلة (¬4). ويجب قبل أن نمضي في الكلام على افتتاح إفريقية أن نذكر كلمة عما كانت عليه أحوالها وظروفها وقت الفتح الإسلامي. كانت إفريقية منذ زوال قرطاجَنّة القديمة، في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد إلى أوائل القرن الخامس بعده, ولاية رومانية تخضع لسلطة رومة أولا، ثم بعد سقوطها لسلطة قسطنطينية أو الدولة ¬_______ (¬1) أبن الأثير ج 3 ص 34 - Li,.Gibbon: Roman Empire, Ch (¬2) ابن خلدون - كتاب العبر - ج 6 ص 107. (¬3) روى ابن عبد الحكم أن ابنة جريجوريوس وقعت بعد أسرها في نصيب رجل من الأنصار، ولكنها انتحرت أثناء الطريق (فتح مصر ص 185). (¬4) ابن عبد الحكم ص 183.

الرومانية الشرقية؛ ولما غزت القبائل الجرمانية رومة واستولت على معظم أقطار الدولة الرومانية الغربية، نفذ الوندال إلى غاليا أو غاليس (جنوبي فرنسا) ثم إلى اسبانيا، واستقر الوندال حيناً في جنوبي اسبانيا في ولايات الأندلس، التي سميت يومئذ باسمهم " فانداليتا " Vandalita أو فاندلوسيا Vandalusia أى بلد الوندال (¬1). وكان البربر أو سكان إفريقية، قبل الفتح الروماني، يدينون بالوثنية، ولكن رومة استطاعت منذ أوائل القرن الرابع، أن تفرض النصرانية على معظم القبائل. ويقول لنا ابن خلدون من جهة أخرى، إن القبائل البربرية كانت وقت الفتح الإسلامي تدين باليهودية، وإنهم تلقوها منذ أقدم العصور عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم لقرب الشام وسلطانه منهم، وكان من هؤلاء قبائل جبل أوراس وملكتهم الكاهنة (¬2). وكان الفتح الروماني شديد الوطأة على القبائل المغلوبة، وكانت النظم الإدارية والمالية التي فرضتها عليهم رومة غاية في التعسف والشطط، مع ما يقترن بها من اقتضاء الضرائب والمغارم الفادحة، فكان البربر يتوقون إلى التخلص من نيرها، وقد نزعوا فعلا إلى الثورة في عهد الإمبراطور تيودوسيوس في أواخر القرن الرابع، ونادوا بأحد زعمائهم ملكاً عليهم، ولكن الثورة أخفقت وأخمدت. ولما انتقلت إفريقية إلى سلطان قسطنطينية بعد سقوط رومة، كانت قد اضمحلت ثروتها، واضطربت نظمها، ومزقتها الخلافات الدينية، وضعف سلطان الدولة عليها، وكثر الخوارج من الحكام والزعماء المحليين. وفي أوائل القرن الخامس، عبر الوندال البحر من اسبانيا إلى إفريقية، بقيادة ملكهم جنسريك، وافتتحوها في سنة 429 م، وعاونهم البربر (¬3) حباً في التخلص من ْنير رومة. ولكن الوندال عاثوا في إفريقية أيما عيث، وخربوا المدن والمنشآت ¬_______ (¬1) سوف نفصل في حاشية لاحقة أصول هذه التسمية وفقا لمختلف الروايات. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 107. (¬3) يطلق العرب كلمة " البربر " على سكان " إفريقية " أعني من برقة إلى المحيط، وأصل التسمية مجهول. ولكن المحقق أنها كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي بعصور بعيدة. وترجعها الرواية اللاتينية إلى أقدم العصور. فكان يطلقها اليونانيون القدماء على الأمم ذات اللغات واللهجات المعقدة بوجه عام وحيثما وجدت، وعلى الأمم الغريبة عن لغة اليونانيين وحضارتهم. وكان يطلقها الرومان على شعوب الإمبراطورية خلا إيطاليا وولاياتها، ثم انتهوا إلى تحديد معنى الكلمة بإطلاقها على القبائل=

الرومانية، واستقروا سادة في البلاد المفتوحة مدى قرن، عانى البربر فيه أمر ضروب العسف والطغيان. وفي سنة 534 م بعث يوستنيان، إمبراطور (قيصر) الدولة الشرقية قائده الشهير بليزاريوس إلى إفريقية على رأس جيش ضخم فافتتحها وحطم سلطان الوندال وأجلاهم عنها؛ ومن ذلك الحين عادت إفريقية إلى سلطان الدولة الشرقية، وظلت كذلك حتى الفتح الإسلامى. وكانت إفريقية يومئذ في حال يرثى لها من الانحلال والتفكك، يسود الاضطراب نظمها وإدارتها، وتمزقها الأهواء والمطامع والفتن؛ وكانت عصور من الطغيان والجور والمصادرة قد عصفت بمواردها، ولكن الثروات كانت مع ذلك تتكدس في بعض الثغور والمدن؛ وكانت الدولة الشرقية قلما تعني بإصلاح هذه الأقطار أو إعداد وسائل الدفاع عنها، وإنما كانت ترى فيها قبل كل شىء مورداً للكسب على نحو ما قدمنا، فكان البربر على استعداد للتخلص من هذا النير المرهق، ومعاونة الفاتحين الجدد. ولكن العرب شغلوا حيناً عن متابعة الفتح حينما عصفت ريح التفرق بالخلافة الإسلامية، ونشب الخلاف بين علي بن أبي طالب، الذي ولى الخلافة على أثر مقتل عثمان، في مستهل سنة 35هـ (655 م)، وبين خصمه ومنافسه القوي معاوية بن أبي سفيان والى الشام، واضطرمت ثورة الخوارج التي كادت أن تزعزع أسس الدولة الإسلامية الناشئة، وشغلت الجزيرة العربية بضعة أعوام، بتلك الحوادث والفتن الداخلية. وكان مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في رمضان سنة 40هـ خاتمة هذا النضال المؤلم، فآلت الخلافة إلى معاوية، وقامت الدولة الأموية في الشام لتفتتح في تاريخ الإسلام عصراً جديداً. وكانت الدولة الأموية، تتشح إلى جانب ثوبها الخلافي، بأثواب الملك ¬_______ = المتوحشة أو المعادية خارج الإمبراطورية بأسرها. ثم حرفها العرب عند الفتح من اللاتينية وأطلقوها على الأمم والقبائل التي تسكن إفريقية (خلا مصر) راجع ( Gibbon. ibid, Chap.Li (note) ويقول ابن خلدون في أصل هذه التسمية، إن أحد ملوك التبابعة العرب لما غزا المغرب وإفريقية، ورأى هذا الجيل من الأعاجم، وسمع رطانتهم تعجب من ذلك وقال ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر. والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير المفهومة، ومنه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة (كتاب العبر ج 6 ص 89).

الإمبراطوري، وهكذا قدر لها أن تكون منشئة الإمبراطورية الإسلامية الكبرى. وما كادت تستقر الأمور الداخلية، حتى نشطت سياسة الفتح مرة أخرى. وكانت الخلافة في نفس الوقت الذي تسير فيه جيوشها نحو الشمال وتقترب من عاصمة الدولة الشرقية، تتجه ببصرها نحو الغرب، حيث كانت فتوحها في إفريقية ما تزال بحاجة إلى التوسع والتوطد. وهكذا وجه معاوية عنايته إلى إتمام فتح إفريقية. وكان الروم قد عادوا إلى الأرض المفتوحة عقب انسحاب العرب، فعاد إلها الجور والإرهاق، وأثقل كاهل البربر بما فرض عليهم من الأعباء والمغارم الجديدة، فاتصل زعماؤهم بالعرب واستحثوهم إلى العود واستئناف الفتح. ففي سنة 45هـ (665 م) سار معاوية بن حُديج التجيبي (¬1) إلى إفريقية وهزم الروم عند حصن الأجم، وتفرق الغزاة في مختلف الأنحاء، فسار عبد الله ابن الزبير إلى سوسة وافتتحها، وافتتح عبد الله بن مروان حصن جالولاء، وافتتحت عدة أخرى من البلاد والحصون. وفي سنة خمسين (670 م) (¬2) قام العرب بأعظم فتح في إفريقية بقيادة عقبة ابن نافع الفهري. وكان عقبة جندياً عظيماً، خبيراً بتلك الأنحاء والمسالك، وكان يتولى قيادة حامية برقة منذ فتحها، فاختاره الخليفة (معاوية) لولاية إفريقية، وبعث إليه بعشرة آلاف مقاتل ليتم فتحها. فجاز عقبة وهاد برقة، وتوغل غربا حتى المغرب الأقصى، وافتتح جميع العواصم والثغور الإفريقية تباعاً، وهزم جيوش الروم والبربر في مواقع عديدة، وتوغل في مفاوز المغرب الأقصى، ثم ¬_______ (¬1) وذكر بعض المؤرخين أن معاوية بن حديج كان في ذلك الحين واليا على إفريقية (ابن الأثير ج 3 ص 184)، وذكر البلاذري أنه ولي بعد ذلك على مصر سنة 50هـ، وأنه هو الذي بعث عقبة بن نافع إلى إفريقية (ص 327)، وذكر الطبري أن معاوية بن حديج ولي مصر وعزله معاوية عنها سنة 50هـ (ج 6 ص 134). ويضع ابن الأثير تاريخ ولاية ابن حديج لمصر في سنة 47هـ. على أن صاحب النجوم الزاهرة الذي عنى عناية خاصة بتعداد ولاة مصر يقول: إن حاكم مصر من سنة 45 - 48هـ هو عقبة بن عامر الجهني (النجوم الزاهرة ج 1 ص 130)، وإن الذي وليها بعده هو مسلمة بن مخلد الأنصاري، واستمر في ولايتها حتى سنة 62هـ، وفي ولايته وقع فتح إفريقية الكبير. (¬2) هذه هي الرواية الراجحة، ولكن ابن عبد الحكم يضع تاريخ هذه الغزوة في سنة 46هـ.

أنشأ مدينة القَيرُوان لتكون عاصمة للولاية الإسلامية الجديدة، وحصنا للدفاع عنها، وقاعدة لرد الروم والبربر. ولم يمض قليل على قيام عقبة بذلك الفتح الكبير, حتى عزله والي مصر مسلمة بن مخلد الذي جمع له معاوية بين حكم مصر والمغرب (¬1)، وولى مكانه على إفريقية أبا المهاجر الأنصاري، فلبث في ولايتها عدة أعوام لم تقع فيها حوادث تذكر. ثم عزل أبو المهاجر وأعيد عقبة سنة 62هـ في بدء خلافة يزيد بن معاوية. وكانت البلاد المفتوحة ما تزال تضطرم بعوامل الخروج والثورة. وكان الروم والبربر كلاهما يترقب الفرص، ولكن عقبة شغل عن توطيد الدولة الفتية بفتوحات جديدة، وعاد فاخترق المغرب إلى أقصاه، ووصل إلى ساحل المحيط هذه المرة. وهنا تقول الرواية العربية، إن عقبة لما انتهي إلى المحيط دفع فرسه إلى الماء حتى بلغ نحره، ثم قال: " اللهم إني أشهدك أن لا مجاز، ولو وجدت مجازا لجزت " (¬2). ففي ذلك الحين ثار البربر بقيادة زعيم لهم يدعى كسيلة بن لمزم (¬3) كان قد اعتنق الإسلام وحالف العرب ثم تغير عليهم، وانضمت إليه جموع كثيرة من الروم والبربر، وانتهز فرصة تفرق المسلمين في مختلف الأنحاء، وانقض بجموعه على جيش عقبة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة هزم فيها المسلمون، وقتل عقبة وجماعة من القادة (سنة 62هـ) وزحف كسيلة على القيروان واستولى عليها، وارتد حاكمها زهير بن قيس البلوي بقواته القليلة إلى برقة، وكادت بذلك تذهب دولة العرب في إفريقية. ولما تولى الخلافة عبد الملك بن مروان (سنة 65 هـ) اعتزم أن يعمل لاستعادة إفريقية، فولى عليها زهير بن قيس البلوي، وكان منذ سقوط القيروان يتولى الدفاع عن برقة، وأمده بجيش ضخم، فزحف زهير على القيروان سنة 69 هـ (688 م) والتقى على مقربة منها بجيش كسيلة، فهزم البربر بعد معركة شديدة ¬_______ (¬1) ويضع ابن عبد الحكم تاريخ هذا العزل في سنة 51 هـ، ويقول الطبري إنه وقع في سنة 50 هـ (ج 6 ص 134). (¬2) ابن عبد الحكم ص 199، وابن الأثير ج 4 ص 42. (¬3) هذه هي تسمية ابن عبد الحكم (ص 200) وابن خلدون (ج 6 ص 108) ولكن ابن الأثير يسميه كسيلة ابن كمرم.

قتل فيها كسيلة وكثير من أصحابه، ودخل زهير القيروان وترك فيها حامية للدفاع عنها، وفرق جنده لإخضاع الثوار في مختلف الأنحاء. ولكن الروم انتهزوا فرصة توغل المسلمين غربا، وأمدهم قيصر قسطنطينية (¬1) بأسطول من صقلية، فنزلوا في قرطاجَنة ثم زحفوا. على برقة في جموع عظيمة، وعلم زهير بتلك المفاجأة، فارتد للدفاع عن برقة، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة هزم فيها المسلمون، وقتل زهير ومعظم ضباطه، وذهب المغرب من قبضة المسلمين مرة أخرى. وكان وقع هذا الخطب شديداً في حكومة دمشق، وكانت تشغل يومئذ بمحاربة ابن الزبير وصحبه الخوارج عليها، فمضت أعوام أخرى قبل أن تتمكن من العناية بشئون إفريقية، فلما انتهت الثورة وقتل ابن الزبير، وجه عبد الملك عنايته إلى استعادة إفريقية، فولى عليها حسان بن النعمان الغساني سنة 73 هـ (¬2) (692 م) وسيره إليها في جيش ضخم كان أعظم قوة سيرتها الخلافة إلى إفريقية، فاخترق حسان برقة وقصد قرطاجَنة عاصمة إفريقية الرومانية، وكانت لا تزال في يد الروم ولم يغزها المسلمون بعد لحصانتها واتصالها بالبحر، وقربها من صقلية حيث كانت ترسل إليها الأمداد بسرعة، فحاصرها بشدة ثم اقتحمها واستولى عليها، ولكن الإمبراطور سير إليها جيشا بقيادة حاكمها يوحنا، يعاونه أسطول من صقلية، وقوة من القوط أرسلها ملك اسبانيا القوطي الذي أزعجه اقتراب العرب من بلاده، فانسحب العرب وارتدوا إلى القيروان، حتى إذا جاءتهم الأمداد أعادوا الكرة على قرطاجنة، وهزموا الروم والقوط هزيمة شديدة، ففروا إلى سفنهم، وخربت قرطاجنة وهدمت حصونها القوية. ثم سار حسان غربا وهزم الروم والبربر في عدة مواقع، واستعاد الإسلام سلطانه فيما بين برقة والمحيط (¬3). وعاد حسان إلى القيروان لينظم جيشه. وكان البربر والقبائل الجبلية قد ¬_______ (¬1) كان إمبراطور قسطنطينية في ذلك الحين يوستنيان الثاني، 685 - 695 م. (¬2) ابن عبد الحكم ص 200؛ ولكن ابن الأثير يضع تاريخ توليته في سنة 74هـ. (¬3) ابن الأثير ج 4 ص 143، ومعجم ياقوت تحت كلمة قرطاجنة، وكذلك: Gibbon, ibid, Chap. L. 1

اجتمعوا منذ مقتل زعيمهم كسيلة، في مفاوز المغرب الأقصى، تحت لواء امرأة من قبيلة جراوة يعتقدون فيها السحر والكهانة وتعرف بالكاهنة (¬1)، وكانت تقيم ملكها في جبل أوراس. فسار حسان لقتالها وخرجت اليه بجموعها، فالتقيا عند نهر نيني، ونشبت بينهما موقعة هائلة هزم فيها العرب هزيمة شديدة، وقتل منهم جمع كبير، وارتد حسان إلى برقة. وسارت الكاهنة شرقا حتى قابس واستولت على كثير من البلاد والحصون، وبسطت سلطانها على معظم إفريقية مدى خمسة أعوام. ولبث حسان في برقة حتى أمده عبد الملك بالجند، فزحف على المغرب ثانية سنة 79هـ (698 م)، ولم تر الكاهنة وسيلة لوقفه إلا أن تحول البلاد إلى خراب بلقع، فهدمت جميع المدن والحصون، وأحرقت جميع القرى والضياع الواقعة في طريق المسلمين، ولكن ذلك لم يثن حسانا عن عزمه، فتابع سيره حتى أقاصي المغرب في وهاد ومفاوز صعبة. وكان البربر قد سئموا نير الكاهنة وعسفها، فهرع الكثير منهم إلى حسان يطلبون حمايته، وتفرقت جموع الكاهنة، وأدركها المسلمون بجبل أوراس فمزقت جموعها وقتلت. واستأمن البربر على الإسلام والطاعة، وأن يمدوا المسلمن باثنى عشر ألف مقاتل. وولى حسان جبل أوراس ابنَ الكاهنة بعد أن استوثق من طاعته، ثم عاد إلى القيروان بعد أن محق كل مقاومة وقضى على كل نزعة إلى الخروج والثورة (¬2). ولبث حسان بن النعمان بإفريقية حينا، ينظم شؤونها العسكرية والإدارية والمالية، وينشئ الدواوين ويرتب الخراج والجزية، ويوطد سلطان الحكم الجديد في الثغور والنواحى. ثم جدد مدينة القيروان وأنشأ بها المسجد الجامع (¬3)، ولبث ¬_______ (¬1) ويسميها ابن خلدون دهيا بنت ماتية بن تيفان (ج 6 ص 109) ويسميها بعض المؤرخين الأوربيين داميا؛ راجع Aschbach: Geschicchte der Omaijaden in Spanien. B. 1.21 (¬2) ابن الأثير ج 4 ص 144، وابن خلدون ج 6 ص 109. وفي روايته من حيث التاريخ شيء من التناقض، فهو يؤرخ غزوة حسان الأولى وفتح قرطاجنة بسنة 79هـ ثم يؤرخ حرب الكاهنة المرة الثانية بعد أن يذكر أنها لبثت تحكم افريقية خمسة أعوام بسنة 74هـ - ولعل هذا تحريف في النقل أو الطبع، إذ يقتضي أن يكون هذا التاريخ طبقا لرواية ابن خلدون هو سنة 84هـ. ولكن ابن عبد الحكم وهو أقدم رواية وثيقة يؤرخ غزوة حسان الأولى بسنة 73هـ ويؤرخها ابن الأثير بسنة 74هـ - وينقض رواية ابن عبد الحكم عن مقتل الكاهنة تاريخ هذه الواقعة (ص 201). (¬3) ابن خلدون ج 6 ص 110، وابن عبد الحكم ص 201.

في منصبه حتى توفي عبد الملك بن مروان سنة 86هـ (705 م) فخلفه ابنه الوليد بعهد منه، وولى عمه عبد الله بن مروان على مصر، فعزل حسانا عن ولاية إفريقية، واختار لولايتها موسى بن نصير اللخمي، وكانت إفريقية تابعة لمصر في شؤون الحكم والولاية كما بينا. وكانت ولاية موسى بن نصير لإفريقية سنة 89هـ (708 م). ويجب قبل أن نمضي في الكلام عن حوادث إفريقية، أن نقول كلمة عن الرجل الذي قدر أن يجوز الإسلام على يديه لأول مرة إلى القارة الأوربية، وأن يكتب فيها صفحة من أمجد صفحاته. كان موسى بن نصير من أعظم الزعماء والقادة الذين وجهتهم الخلافة إلى الغرب. ومع أن الرواية الإسلامية تتبع حياته بإفاضة منذ ولايته لحكم إفريقية، فإنها لا تقدم إلينا عن نشأته وحياته الأولى تفاصيل شافية، شأنها نحو كثير من زعماء الإسلام في القرن الأول من الهجرة. بيد أننا نعرف مع ذلك أنه من التابعين، وأنه ولد سنة 19هـ في خلافة أمير المؤمنين عمر، في قرية من قرى الجزيرة، أو بوادي القرى في شمالي الحجاز على قول آخر. وأما عن نسبته، فتقول الرواية إنه ينتسب إلى بكر بن وائل، وان أباه نصيرا كان ممن سباهم خالد بن الوليد في موقعة عين التمر (سنة 12هـ) (¬1). وقيل إنه ينتسب بطريق الولاء إلى بني لخم، وان أباه نصيراً كان على حرس معاوية بن أبي سفيان. ثم كان وصيفا لعبد العزيز بن مروان فأعتقه (¬2). وأما عن حياة موسى الأولى فلا تذكر الرواية سوى القليل. وكل ما نعرفه منها أنه تقلب في بعض المناصب الحربية والإدارية الهامة، قبل أن يعهد إليه بحكم إفريقية، وأنه قاد بعض الحملات البحرية في عصر معاوية بن أبي سفيان، وغزا قبرص وغيرها من الجزر القريبة (¬3). وفي بعض الروايات أن عبد الملك بن مروان حينما ولى أخاه بشرا على البصرة في سنة 73هـ، وكيان يتولى قيادة الجند ¬_______ (¬1) الطبري ج 4 ص 22، و" أخبار مجموعة في فتح الأندلس " ص 3، وأبو المحاسن في النجوم الزاهرة (مصر) ج 1 ص 235. (¬2) ابن خلكان ج 2 ص 176، وابن الأثير ج 4 ص 209، والبلاذري في فتوح البلدان ص 232. (¬3) النجوم الزاهرة ج 1 ص 225.

بمصر، ندب موسى بن نصير لمعاونته، وكان يومئذ بمصر في خدمة أميرها عبد العزيز بن مروان صديقه وحاميه، وأن موسى لبث وزيراً ومستشارا لبشر أيام ولايته للبصرة. فلما وُليّ الحجاج حكم العراق في سنة 75 هـ، اتهم موسى باختلاس أموال البصرة، ولم ينقذه من بطش الحجاج سوى تدخل عبد العزيز ابن مروان، وكان قد وفد يومئذ على الشام بأموال مصر، وهرع إليه موسى مستجيرا به. ثم عاد موسى إلى مصر مع عبد العزيز بن مروان، ولبث بها يتبوأ لديه أسمى مراتب النفوذ والثقة حتى عين حاكما لإفريقية (¬1). وتختلف الرواية في تاريخ ولاية موسى بن نصير لإفريقية اختلافا بينا، فالبعض يقول إنها كانت في سنة 78 أو 79 هـ في عهد عبد الملك، ويقول البعض الآخر إنها كانت في سنة 86 أو سنة 89 هـ في عهد ابنه الوليد (¬2)؛ ونحن نؤثر الأخذ بالقول الثاني لأنه أكثر اتفاقاً مع سير الحوادث في إفريقية، ولأن معظم الروايات تجمع على أن حسان بن النعمان والى إفريقية لبث على ولايتها حتى وفاة عبد الملك، وقد توفي عبد الملك في شوال سنة 86 هـ. وكان عبد العزيز بن مروان أمير مصر قد توفي قبل ذلك سنة 85 هـ، وندب عبد الملك ولده عبد الله أميرا ¬_______ (¬1) وردت هذه التفاصيل في كتاب " الإمامة والسياسة " المنسوب لابن قتيبة. ومع أن هذه النسبة يحيط بها كثير من الشك، فإن الكتاب يتضمن كثيرا من الأخبار والتفاصيل المفيدة عن رجالات الإسلام في عصر الخلفاء الراشدين والدولة الأموية (راجع الكتاب المشار إليه - طبع مصر - ج 2 ص 60 وما بعدها). وقد اعتبره المستشرق الإسباني جاينجوس Gayangos قديما وصحيحا، وإن كان يشك في نسبته لابن قتيبة لعدة أسباب وجيهة؛ وانتفع به المستشرق الألمانى فايل Weil، والمستشرق الإيطالى أماري Amari. ويرى دوزي أن الكتاب غير قديم وغير صحيح، وأنه يحتوي على أخطاء تاريخية وروايات خيالية غير معقولة، وعلى ذلك فلا يمكن أن يكون ابن قتيبة صاحب هذا التصنيف الضعيف؛ ويرى المستشرق هاماكر ويوافقه دوزي أن هذا الكتاب وأمثاله من الكتب التاريخية الحماسية (مثل الكتب التي نسبت للواقدى)، قد ألفت أيام الحروب الصليبية لبث الحماس في نفوس المسلمين، وتذكيرهم بأمجاد أسلافهم وبطولاتهم الخارقة. راجع دوزي: Recherches sur l'Histoiret Littérature de l'Espagne au moyen àge; V.i.p.21 (¬2) يقول بالرواية الأولى ابن عبد الحكم (ص 203)، ويتبعه صاحب كتاب الإمامة والسياسة (ج 2 ص 62)، وابن الأبار في الحلة السيراء (ليدن ص 70)، والحميدي في جذوة المقتبس (مصر ص 317)، والنجوم الزاهرة (ج 1 ص 188)، ويقول بالثانية ابن الأثير (ج 4 ص 144 و206)، وابن خلكان (ج 2 ص 176). وابن عذارى في البيان المغرب (ج 1 ص 23).

على مصر، فدخلها في جمادى الآخرة سنة 86 هـ قبيل وفاة أبيه بأشهر قلائل. وعزل عبد الله، حسان بن النعمان عن ولاية إفريقية، واختار لولايتها موسى بن نصير. وكانت ولاية موسى لإفريقية على أرجح الأقوال في سنة 89 هـ (708 م). وكان موسى بن نصير قد اخترق مفاوز إفريقية من قبل، وسيره عبد العزيز ابن مروان في سنة 84 هـ إلى برقة، فافتتح درنة وسبى من أهلها جموعاً غفيرة. وكان البربر لا يزالون على اضطرابهم وتمردهم، يتحينون الفرصة للثورة كلما سنحت. فما كاد موسى يلي الحكم حتى نزعوا إلى الثورة شأنهم عند كل تغيير في الحكم، ولكنهم أخطأوا تقدير عزم الحاكم الجديد وصرامته. وسرعان ما سحقت الثورة في كل ناحية، ومزق موسى جموع الثوار بيد من حديد، ودوخ هوارة وزَتانة وكتامة وصِنهاجة وغيرها من القبائل البربرية القوية، ثم سار إلى طنجة وهي آخر معقل اعتصم به الثوار، ولم يكن غزاها العرب بعد، فافتتحها، وولى عليها جندياً عظيما هو طارق بن زياد الليثى، وأثخن في مفاوز المغرب الأقصى، وطهرها من العصاة والمتآمرين، وأحرز في تلك الغزوات من الغنائم والسبي ما لا يحصى، واستمال إليه وجوه القبائل، وحشد في جيشه آلافا من البربر المسالمين، واهتم بنشر الإسلام بين البربر اهتماماً عظيماً، فأقبلوا على اعتناقه وذاع بينهم ذيوعاً كبيراً، وهبت ريح من الأمن والسكينة على البلاد المفتوحة. وكان الروم (الرومان) بعد أن أخفقوا في الحرب البرية، ويئسوا من استرداد إفريقية، قد لجأوا إلى غزو الثغور ونهبها، فابتنى موسى داراً عظيمة للصناعة (بناء السفن) على مقربة من أطلال قرطاجنة، وأنشأ أسطولا ضخماً لحماية الثغور. وكان العرب قد بدأوا غزواتهم البحرية الأولى في تلك المياه قبل ذلك بعدة أعوام، وسير موسى ابنه عبد الله في السفن إلى الجزر القريبة فغزا جزائر البليار (الجزائر الشرقية) وكانت يومئذ من أملاك ملك اسبانيا القوطى، وافتتح مَيُورقة ومِنُورقة (710 م) ولكنه لم يكن فتحاً مستقراً (¬1). وسارت ¬_______ (¬1) تعرف هذه الغزوة بغزوة الأشراف لكثرة من اشترك فيها من أكابر المسلمين. وورد في كتاب " الإمامة والسياسة " أن هذه الغزوة التي قادها عبد الله بن موسى كانت خاصة بصقلية لا بميورقة (ج 2 ص 73).

حملات بحرية أخرى إلى صقلية وسردانية وعاثت في ثغورها، وعادت مثقلة بالسبى والغنائم. وهكذا بسط العرب سلطانهم على شمالي إفريقية كله في البر والبحر، ولم يبق من ثغوره بيد النصارى بعد افتتاح طنجة سوى ثغر سبتة (¬1) الواقع في نهاية البحر الأبيض المتوسط شرقي طنجة، وكانت يومئذ من أملاك اسبانيا، ويحكمها زعيم من القوط أو الفرنج يدعى الكونت يوليان. وكانت سبتة قد استطاعت لمنعتها الطبيعية ويقظة حاكمها، أن ترد هجمات العرب، رغم مجاورتهم لها من الجنوب والغرب، وكان موسى يتوق إلى افتتاح هذا المعقل الحصين. على أن مشاريعه في الفتح لم تكن تقف عند سبتة بل كانت تجاوزها إلى ما وراء ذلك البحر الشاسع، الذي عرف العرب كثيراً عن شواطئه الشرقية والجنوبية، ولكنهم لم يعرفوا بعد شيئاً أو لم يعرفوا سوى القليل عن شواطئه الشمالية والغربية: أجل، كان موسى يتوق إلى افتتاح ما وراء ذلك البحر من الممالك والأمم المجهولة. ¬_______ (¬1) ومقابلها الإفرنجي هو Ceuta

الفصل الثاني إسبانيا قبل الفتح الإسلامى

الفصل الثاني إسبانيا قبل الفتح الإسلامي أصل القوط. نزوحهم من الشمال إلى الجنوب. عبورهم نهر الدانوب. يهزمون الإمبراطور ديسيوس. هزيمتهم على يد الإمبراطور قسطنطين ثم الإمبراطور فالنس. زحف الهذن على القوط. دخولهم في طاعة الإمبراطور. ثورة القوط في عهد هونوريوس. زعيم القوط ألاريك. عقدهم الصلح مع الإمبراطور واندماجهم في الجيش الروماني. استقرارهم في غاليس. فاليا أول ملوكهم. تيودريك الأول يعاون الدولة في محاربة آتيلا. تيودريك الثاني يفتتح إسبانيا من يد الوندال. قيام مملكة القوط في اسبانيا. اعتناقهم للنصرانية. اسبانيا وقت الفتح الإسلامي. المجتمع الإسباني. استئثار القوط بالسيادة والثراء. نفوذ رجال الدين. بؤس الشعب وانحلال الجيش. ركون القوط الى الرفاهة والدعة. يهود اسبانيا. اضطهاد الكنيسة لهم وإرغامهم على التنصير. محاولتهم الثورة والمبالغة في إرهاقهم. ملك القوط وتيزا والخوارج عليه. تفرق المملكة ونشوب الثورة. مقدم العرب إلى شواطىء الجزيرة. محاصرة العرب لسبتة. زعيم الثورة ردريك. الحرب بينه وبين وتيزا. مقتل وتيزا واستيلاء ردريك على الملك. الكونت يوليان حاكم سبتة والخلاف في شأنه. الاتفاق بينه وبين وتيزا عل الإستنجاد بالعرب. قصة فلورندا إبنة الكونت يوليان. أقوال الرواية الإسلامية في شأنها. إنكار الرواية الإسبانية لصحتها. ما يرجحها في نظر التاريخ. كانت اسبانيا (¬1) في الوقت الذي امتد فيه سلطان العرب إلى الشواطىء القريبة منها، وإلى الجزر المجاورة لها، خاضعة لنير القوط وكانت قبل ذلك بنحو ثلاثة قرون كإفريقية، ولاية رومانية تخضع لسلطان رومة. فلما اضمحل سلطان رومة، وغزتها القبائل البربرية الجرمانية في أوائل القرن الخامس الميلادي، ¬_______ (¬1) لا يستعمل العرب اسم " اسبانيا " للإشارة إلى شبه الجزيرة المعروفة بهذا الإسم، وإنما يطلق العرب اسم " الأندلس " على شبه الجزيرة كلها (راجع الروض المعطار - مصر - ص 1). وفي بعض الروايات العربية أن التسمية نسبة لملك من الرومان اسمه إشبان بن طيطش غلب الأفارقة على ملك الأندلس، وباسمه سميت إشبانية. وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فحرف. وأنه هو الذي بني إشبيلية، وأن " اشبانية " كانت تطلق على إشبيلية التي كان ينزلها اشبان هذا. ثم غلب الاسم، بعده عل الأندلس كله، فالعجم يسمونه إشبانية (نفح الطيب عن الرازي ج 1 ص 67)؛ وذكر ابن حيان أن الإشبانيين ينسبون إلى إشبان وفسر منشأهم بخرافة دينية (نفح الطيب ج 1 ص 69). ولم تنفرد الرواية الإسلامية بذكر " إشبان Espan " هذا ولكن تذكره أيضا رواية ألفونسو العاشر القشتالية، فتقول لنا انه ابن أخ للملك هرقل، وأنه هو الذي عمر جزيرة قادس واتخذها مقرا له. راجع: Primera Cronica General de Espana (Ed. Pidal) Vol, I.p. 10

اقتسمت هذه القبائل أملاك رومة الغربية، واستولت على إيطاليا وفرنسا واسبانيا وكانت اسبانيا من نصيب القوط. والقوط هم إحدى هذه القبائل أو الشعوب البربرية. التي هبطت من شمال أوربا، وقوضت صروح الإمبراطورية الرومانية. وتقول الأساطير القديمة إنهم نزحوا من اسكندناوة، وهي رواية يؤيدها كثير من القرائن والشواهد. ويذكر المؤرخ تاسيتوس أنهم كانوا منذ ظهور النصرانية إلى أواخر القرن الثاني، يسكنون شواطىء البلطيق الجنوبية، وأن قبائل عديدة من الوندال كانت تسكن على ضفاف نهر "أودر". وهنالك من المشابهات بين القوط والوندال، في الدين والعادات والأخلاق والتقاليد، ما يدل على أنهما يرجعان في الأصل إلى شعب أو جنس عظيم واحد. وفي عهد الإمبراطور اسكندر سيفروس (222 - 235 م) ظهرت طلائع القوط في ولاية "داسيا" (¬1) الرومانية، وأغارت على بعض مدنها، وكان هذا نزوحهم الثاني حيث استقروا عندئذ في إقليم " اليوكرين ". وفي عهد الإمبراطور ديسيوس عبروا نهر الدانوب وخربوا ولاية ميزيا (¬2) الرومانية، ثم تقدموا إلى قلب البلقان، فسار ديسيوس لقتالهم ولكنه هزم ومزق جيشه (250 م) وسار القوط إلى اليونان فعاثوا فيها وخربوها. ولم ينقطع عيثهم حتى نشط الإمبراطور قسطنطين الكبير لقتالهم ورد عدوانهم، فحاربهم في عدة مواقع وهزمهم هزيمة شديدة، وردهم إلى أقاصي داسيا (سنة 322 م) وفرض عليهم شروطا فادحة. ثم حاربهم الإمبراطور فالينس قيصر قسطنطينية وهزمهم في سنة 369 م. وفي سنة 375 م زحف الهون من المشرق على القوط ومزقوهم، ففروا إلى ضفاف الدانوب. واستغاثوا بالإمبراطور وطلبوا الدخول في طاعته، فأجابهم إلى ذلك، واستقروا حيناً في ولاية تراقية، ولكنهم ثاروا مراراً من جراء قسوة الحكام الرومانيين وعسفهم (¬3). وفي عهد الإمبراطور هونوريوس، قام القوط بثورة أعظم وأبعد أثرا بقيادة زعيمهم " ألاريك "، وخربوا تراقية واليونان، ثم عبروا إلى إيطاليا ¬_______ (¬1) كانت ولاية داسيا تقع في شرقي حوض الدانوب وتشغل مكان رومانيا والمجر. (¬2) كانت ولاية ميزيا تقع في وسط البلقان وتشغل مكان بلغاريا الحديثة. (¬3) Gibbon, ibid, Chap X, XIV & XXV

وافتتحوا رومة ونهبوها (سنة 410 م). ولكن زعيمهم ألاريك توفي في نفس هذا العام فارتدوا إلى الشمال. ثم عقدوا الصلح مع الإمبراطور، واندمجوا في الجيش الإمبراطوري، وقاموا بقمع الثورات المحلية في غاليا أو غاليس (¬1) (جنوبي فرنسا) وشمالي اسبانيا، ثم استقروا في أواسط فرنسا وجنوبها، فيما بين نهري اللوار والجارون، واتخذوا تولوز (تولوشة) عاصمة لهم. وأقطع الإمبراطور ملكهم " فاليا " حكم هذا القطر، وقامت بذلك مملكة قوطية تابعة للدولة الرومانية. وعاون القوط الدولة على محاربة الوندال والآلان والسوابيين (¬2)، وعاونها بالأخص ملكهم تيودريك الأول ولد ألاريك، على هزيمة آتيلا التتري وبرابرته الهون في موقعة شالون (سنة 451 م). ثم عبر خلفه وأخوه تيودريك الثاني إلى اسبانيا، لانتزاعها من الوندال والسوابيين المتغلبين عليها، مشترطاً على الدولة أن يحتفظ بما يفتتحه من اسبانيا لنفسه ولعقبه. وحارب الوندال والسوابيين وهزمهم (سنة 456 م)، وافتتح اسبانيا ما عدا ركنها الشمالي الغربي (جليقية)، الذي استعصم به الوندال حيناً. ولم تأت نهاية القرن الخامس حتى ملك القوط شبه الجزيرة كلها، وامتد ملكهم من اللوار إلى شاطىء اسبانيا الجنوبي. ولكن الفرنج غزوهم من الشمال، وأجلوهم عن فرنسا في أعوام قلائل، فاستقروا في اسبانيا، واتخذوا طليطلة دار ملكهم، ووضعوا لمملكتهم الجديدة نظماً وقوانين خاصة، تتأثر بروح الحضارة والأنظمة الرومانية؛ وكانوا أيضاً قد اعتنقوا النصرانية منذ أواخر القرن الرابع، كما اعتنقها الوندال وغيرهم من الشعوب البربرية، التي تقاسمت تراث رومة وأملاكها. ولبث القوط زهاء قرنين سادة لإسبانيا حتى الفتح الإسلامي (¬3). ¬_______ (¬1) هكذا يسميها ابن الأثير. ويسميها البكري، " بلاد غاليش " وهو اسمها الروماني: La Gaule (¬2) ويبدي ابن خلدون دقة في تسمية هؤلاء البربر، فيسميهم " القندلس والآبيون والشوابيون " (ج 2 ص 235). (¬3) يقدم المؤرخون المسلمون عن تاريخ اسبانيا قبل الفتح الإسلامي روايات غامضة أكثرها خرافي. ولكن بعضها يقترب من التاريخ. فابن الأثير مثلا يشير في روايته عن القوط إلى غزوهم لمقدونية ومحاربة قسطنطين الأكبر لهم. ثم يذكر زعيمهم " ألريق " (ألاريك) وكيف غزا رومة، وكيف استقر القوط أولا في غاليس (أى غاليا) ثم انتقلوا إلى اسبانيا. غير أنه يذكر ثبت ملوكهم=

ولنعرض بعد ذلك إلى حالة اسبانيا وقت الفتح. كانت المملكة القوطية تجوز دور انحلالها قبل ذلك بأمد طويل، وكان المجتمع الإسباني يعاني صنوف الشقاء والبؤس، وقد مزقته عصور طويلة من الظلم والإرهاق والإيثار. ولم يكن القوط في الحقيقة أمة بمعنى الكلمة، فإنهم لم يمتزجوا بسكان الجزيرة، ذلك الامتزاج الذي يجعل الغالب والمغلوب، والحاكم والمحكوم، أمة واحدة. بل كان القوط يستأثرون بمزايا الغلبة والسيادة، وينعمون بإحراز الإقطاعات والضياع الواسعة، ومنهم وحدهم الحكام والسادة والأشراف. أما سواد الشعب الأعظم، فقوامه طبقة متوسطة رقيقة الحال، وزراع شبه أرقاء يلحقون بالضياع، وأرقاء للسيد عليهم حق الحياة والموت. وإلى جانب السادة والأشراف، يتمتع رجال الدين بأعظم قسط من السلطان والنفوذ؛ ذلك أن القوط كانوا أتقياء مؤمنين رغم خشونتهم، وكان للأحبار عليهم أيما تأثير، وقد استطاعوا أن يوجهوا القوانين والنظم، وأن يصوغوا الحياة العقلية والاجتماعية، وفقا لمثل الكنيسة وغاياتها. ثم استغلوا هذا النفوذ في إحراز الضياع وتكديس الثروات، واقتناء الزراع والأرقاء. وهكذا كانت ثروات البلاد كلها تجمع في أيدي فئة قليلة ممتازة من الأشراف ورجال الدين، اختصت بترف العيش ومتاع الحياة، وكل نعم الحرية والكرامة والاعتبار. أما الشعب فقد كان في حالة يرثى لها من الحرمان والبؤس، يعاني أمر ضروب الظلم والعسف والإرهاق، ويُخص وحده دون الطبقات الممتازة، بأعباء المغارم والضرائب الفادحة، ومشاق العمل، والسخرة في ضياع الأشراف والأحبار، وتسلبه فروض العبودية والرق، كل شعور بالعزة والكرامة. ولم يكن الشعب كما قدمنا سوى كتلة مهيضة من طبقة فقيرة وسطى، ومن جمهرة من الزراع شبه الأرقاء والأرقاء، ومع ذلك فقد كان يقع عليه إلى جانب هذه الفروض والمغارم ¬_______ = في كثير من التحريف والخلط (ج 4 ص 212 و213). وقال ابن حيان بعد أن ذكر أصل اسم اسبانيا " وغلب على هؤلاء الإشبانيين من عجم رومة أمة يدعون البشتولقات (الوندال) وملكهم طلويش بن بيطة وذلك من بعث المسيح. ثم دخلت عليهم أمة القوط " (نقله المقري في نفح الطيب ج 1 ص 69). وأقرب الروايات إلى الصحة هي رواية ابن خلدون، فهو يقول متفقا مع الرواية اللاتينية: " إن القوط قد امتلكوا القطر الأندلسي لمئتين من السنين قبل الإسلام. بعد حروب كانت لهم مع اللطنيين، حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن تنصرف القوط إلى الأندلس " (ج 4 ص 116).

الفادحة، عبء الحرب والدفاع عن الوطن. وكما أن الجيوش الرومانية كانت وقت ظهور الإسلام، قد فقدت وحدتها وروحها القومي وقوتها المعنوية، لتكوينها من الرعايا الأجانب والمرتزقة، فكذلك كان الجيش الإسباني منذ العهد الروماني، قوامه الزراع شبه الأرقاء واليهود. فلما حل القوط في اسبانيا وذاقوا نعم السلم، بعد مشاق التجوال والغزو، وتبوأوا مراكز الغلبة والسيادة، اعتمدوا في الدفاع عن ملكهم الجديد على هذا الجيش، الذي تموج صفوفه بجماعات مضطهدة ناقمة على سادتها. " ولاريب أن شبه الأرقاء كانوا في الجيش أكثر بكثير من الأحرار، وهذا ما يعني أن الدفاع عن الدولة كان يعهد به إلى أولئك الذين يؤثرون ممالأة العدو على الذود عن ظالميهم " (¬1). أما القوط أنفسهم فقد فقدوا منذ بعيد خلالهم الحربية القوية، وركنوا إلى حياة النعماء والدعة، وفتت في عزائمهم وشجاعتهم نعومة الجو وترف العيش، ولم يعودوا بعد أولئك الغزاة الأشداء الذين أخضعوا رومة، وتوغلوا فيما بين الدانوب والمحيط، " بل كان خلفاء ألاريك يحتجبون بصخور البرنيه غارقين في سبات السلم، لا يعنون بتحصين مدينة، ولا يعبأ شبابهم بتجريد سيف " (¬2). وكان يهود الجزيرة كتلة كبيرة عاملة، ولكنهم كانوا موضع البغض والتعصب والتحامل، يعانون أشنع ألوان الجور والاضطهاد. وكانت الكنيسة منذ اشتد ساعدها ونفوذها تحاول تنصير اليهود، وتتوسل إلى تحقيق غايتها بالعنف والمطاردة. ففي عصر الملك سيزبوت (¬3) فرض التنصر على اليهود أو النفي أو المصادرة، فاعتنق النصرانية كثير منهم كرها ورياء (سنة 616 م). ثم توالت عليهم مع ذلك صنوف الاضطهاد والمحن، فركنوا إلى التآمر وتدبير الثورة، وتفاهموا مع إخوانهم يهود المغرب على المؤازرة والتعاون. ولكن المؤامرة اكتشفت قبل نضجها (694 م). وكان ذلك في عهد الملك إجيكا، فقرر أن يشتد في معاقبتهم، واجتمع مؤتمر الأحبار طليطلة للنظر في ذلك، وأجاب الملك إلى ما طلبه، وقرر معاقبة اليهود باعتبارهم خوارج على الدولة يأتمرون بسلامتها، ولأنهم ارتدوا ¬_______ (¬1) I. p. 269.Dozy: Histoire des Musulmans de l'Espagne (1932) Vol (¬2) L1. .Gibbon, Ibid, Chap (¬3) ويسميه ابن الأثير، سيسفوط (ج 4 ص 213).

عن النصرانية التي اعتنقوها من قبل؛ وقرر أن ينزع أملاكهم في سائر الولايات الإسبانية، وأن تحول إلى جانب العرش، وأن يشردوا ويقضى عليهم بالرق الأبدي للنصارى، وأن يهبهم الملك عبيداً لمن شاء، وألا يسمح لهم باسترداد حرياتهم ما بقوا على اليهودية، وأن يحرر أرقاؤهم من النصارى ويمنحون بعض أملاكهم، وأن ينزع أبناؤهم منذ السابعة ويربون على دين النصرانية، وألا يتزوج عبد يهودي إلا بجارية نصرانية، ولا تتزوج يهودية إلا بنصراني (¬1). وهكذا عصفت يد البطش والمطاردة باليهود أيما عصف، فكانوا قبيل الفتح الإسلامي ضحية ظلم لا يطاق، وكانوا كباقي طوائف الشعب المهيضة يتوقون إلى الخلاص من هذا النير الجائر، ويرون في أولئك الفاتحين الذين يتركون لهم حرية الضمائر والشعائر مقابل جزية ضئيلة ملائكة منقذين (¬2). هكذا كانت حال اسبانيا حينما افتتح العرب إفريقية واقتربوا من شواطىء الأندلس. وكان على عرش اسبانيا يومئذ الملك وتيزا (¬3) خلف الملك إجيكا وولده. وكان يحكم مملكة مزقها الخلاف وشعباً أضناه العسف. وتحمل بعض الروايات الإسبانية القديمة على وتيزا، وتصفه بأنه كان ملكاً خليعاً فاجراً، مغرقا في شهواته، وأنه كان على رأس بلاط منحل وضيع الخلال. ويقول البعض الآخر إنه كان بالعكس ملكاً فاضلا حسن السيرة، وافر الحكمة والعدالة، وإنه عمل على رد المظالم وإقامة العدل (¬4). والمرجح المتداول، أنه أحسن السيرة في بداية عهده، ورد إلى اليهود سابق حقوقهم وامتيازاتهم، ولكنه حاول أن يحد من سلطة الأشراف والأحبار، وأن يجمع السلطة في يد العرش، فسخط عليه الأشراف ورجال الدين، ودبروا لإسقاطه ثورة بعد ثورة؛ ولكنه أخمدها ¬_______ (¬1) راجع كتاب " تاريخ لانجدوك " Histoire de Languedoc، تأليف الراهب Dom Vissette ( الطبعة الجديدة ج 1 ص 750 و751)، وهذا المؤلف موسوعة ضخمة من ستة عشر مجلدا، ويشتمل على وثائق وتفاصيل هامة عن تاريخ اسبانيا قبل الفتح الإسلامي، وغزوات العرب الأولى لإسبانيا وفرنسا. (¬2) Dozy: Hist,: V. I. p. 268 (¬3) ويسميه العرب " غيطشة ". (¬4) يقول بالرواية الأولى سبستيان الشلمنقي وردريك الطليطلي، ويقول بالرواية الثانية إيزيدور الباجي؛ ويوافقه في هذا ابن عذارى المراكشي (البيان المغرب ج 2 ص 4). وراجع: Dozy: Recherche, V. I p. 16

جميعاً، وهدم جميع المعاقل والحصون الداخلية لكي يحطم سلطان خصومه ويجردهم من وسائل الدفاع والمقاومة، فلم يزدهم البطش والهزيمة إلا ظمأً إلى الخروج والثورة. وكان في مقدمة خصومه الذين يخشى بأسهم دوق تيودوفريد الذي نفاه أبوه الملك إجيكا إلى قرطبة، فزاد على ذلك أن سمل عينيه مبالغة في النكاية به، وحاول أن يفعل ذلك مع بلاجيوس ولد فافيلا دوق كانتابريا، ولكنه استطاع الفرار من نقمته (¬1). وكان الشعب من جهة أخرى يرزح أبداً تحت نير الجور والإرهاق، فكان عرش القوط يرتجف فوق بركان مضطرم من السخط. وتقول الرواية النصرانية إن الزعماء الناقمين انتهزوا فرصة اقتراب أسطول إسلامي من جنوب اسبانيا ورفعوا لواء الثورة، وإن وتيزا استطاع أن يرد هذا الأسطول وإن تيودومير قائد الأسطول القوطي هزم المسلمين في معركة بحرية كبيرة وذلك في سنة 708 م (¬2). وكان العرب كما قدمنا قد طوقوا أسوار سبتة معقل القوط في الضفة المقابلة من البحر، وأمد وتيزا حاكمها الكونت يوليان بأشجع جنده، فانتهز خصومه فرصة ضعفه في الداخل ليدبروا الثورة مرة أخرى. وقاد الثورة عندئذ زعيم جرىء هو رُدريك ابن دوق تيودوفرد الذي سمل وتيزا عيني أبيه، فكان يحفزه باعث الانتقام أيضا، وكان يتزعم حزباً قوياً، والتف حوله رجال الدين والأشراف والأسر الرومانية، فجمع جيشاً كبيراً ونادى بنفسه ملكاً. ووقعت بين الفريقين حرب أهلية شديدة. وهنا تختلف الرواية فيقال إن وتيزا قتل في هذا النضال وخلص الملك لمنافسه، وفي رواية أخرى أن ردريك ظفر به وسمل عينيه انتقاماً لأبيه، ويقال أيضاً إنه ارتد إلى إحدى الولايات الشمالية وامتنع بها حتى وفاته. ويختلف المؤرخون كذلك في تاريخ ولاية ردريك الملك، فيقول البعض، ومنهم ردريك الطليطلي، إنه تولى سنة 711 م، وحكم مع وتيزا قسما من اسبانيا، وإنه لما توفي وتيزا في سنة 713 م، استأثر بالحكم مدى ¬_______ (¬1) Dom Vissette: Ibid, V. I. p. 756 (¬2) أورد هذه الرواية إيزيدور الباجي Isidorus Pacensis ونقلها المؤرخ الألماني يوسف أشباخ في كتابه Geschichte der Omajaden in Spanien ( ج 1 ص 26). والظاهر أن المقصود هنا هو الحملة البحرية التي جهزها موسى بن نصير بقيادة ابنه عبد الله سنة 89 هـ (708 م) وهي المعروفة بغزوة الأشراف. ولكن المسلمين لم يهزموا يومئذ في أية معركة بحرية، وقد غزوا جزائر البليار كما قدمنا.

عام آخر حتى فتح اسبانيا، ويقول إيزودور الباجي، إن ردريك ظفر بالعرش في أواخر سنة 711 م وإنه لم يحكم قبل الفتح سوى عام واحد (¬1)؛ وفي الروايتين تحريف ظاهر، ولا بد أن ردريك ولى الملك قبل سنة 711، إذ كان فتح العرب لاسبانيا في صيف هذا العام نفسه. وعلى أى حال فإن المعركة استمرت مدى حين بين ردريك وولدي وتيزا، وهما إيفا وسيزبوت يعاونهما عمهما أوباس (¬2) أسقف طليطلة وإشبيلية ورأس الكنيسة، والتفت حولهما رجال الدين وكل أنصار الحكم القديم. وكان ردريك قوى الجانب وافر الشجاعة والعزم، فاستطاع أن يخمد الثورة في كل ناحية، واستتب له الأمر حينا، ومع ذلك فقد بقيَ عرش القوط مضطربا يهتز في يد القدر، وكان الخطر يجثم في ناحية أخرى. ذلك أن خصوم ردريك اتجهوا بأبصارهم إلى خارج الجزيرة. وكان الكونت يوليان حاكم سبتة والمضيق، محط أنظارهم ومساعيهم. وقد اختلف في أمر ْالكونت يوليان اختلافا بينا، فالروايات العربية القديمة كلها تشيد بذكره، وبالدور العظيم الذي أداه في الفتح، وينكر وجوده بعض أكابر المؤرخين الإسبان مثل ماسدي وغيره، لأن ذكره لم يرد لأول مرة إلا في روايات القرن الثاني عشر. على أنه مما يعزز إجماع الرواية العربية، إشارة إيزيدور الباجي، صاحب أقدم رواية إسبانية عن الفتح، إلى شريف نصراني كان يصحب موسى في كل غزواته. كذلك تختلف الرواية في صفة الكونت، فيقال إنه لم يكن تابعا لملك القوط، وإن سبتة كانت في ذلك الحين ما تزال تابعة لقيصر الدولة الشرقية، ولكن حاكمها الكونت رأى لبعدها وعزلتها أن يستظل بحماية اسبانيا (¬3). على أنه يبدو من أقوال الرواية العربية، وهي في نظرنا أقوى وأرجح، أن الكونت يوليان كان قوطيا اسبانيا، وأنه كان يرتبط ببلاط طليطلة بصلات وثيقة. وتؤيد الرواية العربية ¬_______ (¬1) Dom Vissette: Ibid, V. I. p. 756 وذلك نقلا عن Rodericus Tolétanus Chronicon و Isidorus Pacensis (¬2) يسمى ابن القوطية أولاد وتيزا كما يأتي: المند. ورملة. ثم أرطباس. ولعل أرطباس هو أوباس. ولكن صاحب " أخبار مجموعة في فتح الأندلس " أصح وأدق فهو يسميهما شبشرت وأبة باعتبار أنهما اثنان فقط (ص 8). (¬3) Dozy: Recherches: V. I. p. 60-65, Hiet: v. I. p. 270

بعض التواريخ النصرانية المتأخرة، فيقول لنا ردريك الطليطلي، ولوقا التطيلي، إن الكونت يوليان كان حاكماً لسبتة، وهي يومئذ من أملاك العرش القوطي، وإنه كان رجلا شجاعاً، ولكنه كان مغامراً منتقماً، وإنه كان من أقارب الملك فامبا (¬1). ويقول لنا ألفونسو العاشر في تاريخه العام إن الكونت يوليان كان من أكابر الأشراف الذين يرجع أصلهم إلى القوط، وإنه كان قريبا للملك وتيزا (¬2). ولما نشب الخلاف الداخلي حول العرش، انضم الكونت إلى أنصار الحكم القديم وأنصار الملك وتيزا. وكان غنيا شديد البأس، كثير الأتباع والجند، يعتصم بالبحر، بعيداً عن سلطة العرش، ويقبض على مفتاح اسبانيا بحكمه لسبتة والمضيق. وكان من خصوم الحكم الجديد يخشى عواقبه على مركزه وسلطانه. فاتصل به إبنا وتيزا وباقي الزعماء الخوارج، واستقر الرأي على الاستنجاد بالعرب جيران الكونت، وهذا هو التعليل التاريخي للتحالف الذي عقد بين يوليان وموسى ابن نصير وانتهى بفتح العرب لإسبانيا. ولكن الرواية - والرواية الإسلامية بنوع خاص - تقدم إلينا تعليلا آخر، فتقول لنا إن يوليان كان يعمل بدافع الانتقام الشخصي أيضا. فقد كانت له إبنة رائعة الحسن تدعى فلورندا أوكابا، أرسلها إلى بلاط طليطلة جريا على رسوم ذلك العصر، لتتلقى ما يليق بها من التربية بين كرائم العقائل والفرسان، فاستهوى جمالها الفتان قلب ردريك فاغتصبها وانتهك عفافها. وعلم الكونت بذلك فاستقدم ابنته إليه وأقسم بالانتقام، ونزع ردريك ذلك العرش الذي اغتصبه. فلما نشبت الحرب الأهلية بين ردريك وخصومه، والتجأ هؤلاء الخصوم إليه، رأى الفرصة سانحة للعمل، ولم ير خيرا من الاستنصار بالعرب ومعاونتهم على فتح اسبانيا. والرواية الإسلامية تجمع على قبول هذه القصة والأخذ بها، مع أخذها في الوقت نفسه بالعوامل السياسية التي ذكرناها (¬3). ولكن الرواية النصرانية تتردد ¬_______ (¬1) Camille Julian: Histole de la Gaule p. 727. (¬2) Pr. Cronica General (Ed. Pidal) Vol. l. p. 307 (¬3) يتناقل المؤرخون المسلمون هذه القصة منذ أقدم العصور، فتراها في رواية ابن عبد الحكم الذي كتب تاريخ فتح الأندلس بعد وقوعه بنحو قرن فقط (أخبار مصر وفتوحها ص 205). وذكرها ابن حيان مؤرخ الأندلس (نقله نفح الطيب ج 1 ص 109)، وابن القوطية القوطي في " افتتاح الأندلس " (ص 8) - وهو يصف يوليان بأنه كان تاجرا من تجار العجم لا حاكما لسبتة، ويعلل=

في قبولها، وتنكرها معظم الروايات الإسبانية الحديثة، وتعتبرها أسطورة صاغتها الأغاني والقصص القديمة. وهكذا نجد ماريانا وماسدي أعظم مؤرخي إسبانيا في مقدمة المنكرين لصحتها. ويذهب البعض الآخر مثل مونتيخار وغيره إلى أبعد من ذلك، فينكر شخصية الكونت يوليان ذاته، ويعتبرها شخصية خيالية، ويعتبر القصة كلها خرافة وأسطورة فقط (¬1). ويقول كوندي إن اسم كابا (فلورندا) ووصيفتها أليفا وكل أشخاص هذه الرواية تدل على أن القصة كلها إنما هي خرافة موريسكية (¬2) اشتقت من الأساطير والأغاني العامية التي كانت ذائعة بين المسلمين والنصارى (¬3). ْوإنكار الرواية الإسبانية لمثل هذه القصة معقول ظاهر الحكمة، فهي تأبى الاعتراف بواقعة تسجل خيانة الوطن على نفر من زعماء اسبانيا الأوائل، وهي خيانة كان من أثرها أن افتتح العرب اسبانيا وحكمها الإسلام قروناً طويلة. على أننا نجد في القصة ما يبعث إلى إنكارها، فوقوعها ممكن معقول في مثل الظروف التي كانت تجوزها اسبانيا يومئذ، من خلاف في الرأي، وتنازع على السلطة، وانحلال أخلاقي واجتماعي. ولسنا من جهة أخرى نلمس في الرواية الإسلامية أثر الاختراع. فليس ثمة ما يدعو إليه. وليس من المعقول أن تخترع الرواية الإسلامية قصة مفادها أن المسلمين لقوا في فتح اسبانيا معاونة لم يتوقعوها، وأن هذه المعاونة سهلت لهم سبل الفتح، ولعلهم لم يقدموا بدونها على الاضطلاع به، أو لعلهم كانوا يتعرضون للإخفاق والفشل. هذا إلى أن بعض الروايات الإسبانية ْالقديمة، ومنها ما هو قريب من الفتح، يشترك مع الرواية العربية في سرد قصة فلورندا والأخذ بها. ¬_______ = وقوع الفتح بخروج أولاد وتيزا وخيانتهم. وكذا صاحب أخبار مجموعة (ص 5). وابن الأثير (ج 4 ص 213). وابن خلدون (ج 2 ص 236 وج 4 ص 117). وعبد الواحد المراكشي في " المعجب " (ص 6). وابن عذار المراكشي في " البيان المغرب " (ج 2 ص 8). وصاحب الروض المعطار في " وصف جزيرة الأندلس " المنشور بالقاهرة 1937 (ص 7). (¬1) راجع الهامش في: Aschbach: ibid, I. p. 28 (¬2) نسبة إلى الموريسكيين Moriscos أو العرب المتنصرين، وهم بقية الأمة الأندلسية المغلوبة بعد سقوط غرناطة (1492 م) وانتهاء دولة الإسلام في الأندلس. (¬3) Historia de la Dominacion de los Arabes en Espana

فمن ذلك ما ورد في رواية إيزيدور الباجي الذي عاش في أوائل القرن الثامن، وما ذكره ردريك الطليطلي في روايته، من أن الكونت يوليان ثار لاعتداء ردريك على ابنته أو زوجه، واعتزم أن ينتقم لنفسه بدعوة العرب إلى فتح اسبانيا، وهي قصة يرددها أيضاً التاريخ العام الذي وضع بأمر الملك ألفونسو العالم في أواخر القرن الثالث عشر (¬1). ففي هذه الروايات الإسبانية النصرانية كلها تأييد لهذه القصة الشهيرة. كذلك يختلف النقد الأوربي الحديث في أمر هذه القصة، فيرى البعض أنها أسطورة لا يصح الأخذ بها، ويرى البعض الآخر أنها معقولة لا أثر للاختراع فيها (¬2). ونحن مع هذا الفريق نرى قصة فلورندا حادثاً طبيعيا معقولا، ونرى في إجماع الرواية الإسلامية على تدوينها دليلا آخر على صحتها. ومهما كان من أمر يوليان، ومهما كان من بواعث غضبه ونقمته على مليكه، فقد كان تدخله أكبر عامل في تذليل فتح المسلمين لشبه الجزيرة الإسبانية، والقضاء على مملكة القوط. ¬_______ (¬1) Gibbon, ibid. Chap. LI (Note) - Pr Cronica General ; Vol.I.P. 307, C. Julian, ibid, p, 757 (¬2) قال الفيلسوف جيبون في تعليقه على تلك القصة: " طالما كانت أهواء الملوك يطبعها الجموح والعبث. ولكن هذه القصة المعروفة، وإن كانت روائية في ذاتها، لم تؤيدها الأدلة الكافية، وتاريخ اسبانيا يقدم من بواعث المصلحة والسياسة ما هو أليق بتفكير السياسي القديم (يريد الكونت يوليان) Gibbon, ibid, L1. ويسخر فولتير في تاريخه العام من القصة ويقول: " إن الاغتصاب صعب التنفيذ صعب التدليل، فهل يتحالف الأحبار من أجل فتاة ". ولكن المؤرخ المستشرق دوز يروي القصة ويأخذ بها في شرح حوادث الفتح Dozy: Histoire V.p.I 271. وكذا يرويها ويأخذ بها المستشرق كاردون في كتابه: Histoire de l'Afrique et de l'Espagne p.65..

الفصل الثالث فتح أسبانيا

الفصل الثالث فتح أسبانيا المفاوضة بين موسى بن نصير والكونت يوليان. استئذان موسى الوليد في الفتح. فكرة يوليان وأصحابه في استدعاء العرب. حملة تمهيدية إلى الجزيرة الخضراء. حملة الفتح. طارق بن زياد. عبوره الى الأندلس واختراقه الجزيرة الخضراء. تأهب ردريك ملك القوط لملاقاة العرب. مكان اللقاء بينهما. موقعة شذونة أو وادي لكة. تفرق الجيش القوطي. هزيمة القوط ومقتل ردريك. الخطاب الذي ينسب إلى طارق والشك في صحته. هل أحرق طارق سفن الحملة. اللقاء الثاني بين القوط والعرب في استجة. هزيمة القوط الثانية. زحف طارق على طليطلة. إفتتاح قرطبة وغرناطة ومالقة. معاونة اليهود للمسلمين. افتتاح تدمير وعقد الصلح مع أميرها. طارق يخترق الأندلس. كلمة أندلس وأصلها. استيلاء طارق على طليطلة. اختراقه قشتالة وليون وجبال أستورية. عوده إلى طليطلة. موسى وموقفه من الفتح. أوامره لطارق. يقود حملة جديدة إلى اسبانيا. استيلاؤه على شذونة وقرمونة واشبيلية. حصاره لماردة وافتتاحها. غضبه على طارق ثم عفوه عنه. مسيرهما إلى الشمال وافتتاحهما لسرقسطة وطركونة وبرشلونة. مسير طارق إلى جليقية. موسى يخترق البرنيه ويغزو سبتمانيا. افتتاحه لأربونة وقرقشونة ووادي الرون. مشروعه في اختراق الأمم النصرانية شرقا إلى مقر الخلافة. إعتراض حكومة دمشق. مسيره لإخضاع جليقية. استدعاؤه وطارق إلى دمشق. بواعث هذا الإستدعاء. افتتاح عبد العزيز بن موسى لبلنسية ولبلة. معاهدته مع تيودمير. إشبيلية عاصمة الأندلس. إستخلاف موسى لولده عبد العزيز. سفره وطارق إلى المشرق. ما أصاب المسلمون من غنائم الأندلس. مصير موسى واختلاف الرواية في شأنه. وفاته وخلاله. مصير طارق. مصير الكونت يوليان والأمراء المحالفين للعرب. سارة القوطية وحفيدها المؤرخ. في الوقت الذي كانت شبه الجزيرة الإسبانية تجوز فيه هذه الحوادث والأزمات الخطيرة، كان العرب قد أتموا فتح المغرب الأقصى، واستولوا على ثغر طنجة، وأشرفوا على شواطىء الأندلس من الضفة الأخرى من البحر، ولم يبق لإتمام فتح افريقيه سوى ثغر سبتة الذي يقع مقابل طنجة في الطرف الآخر من اللسان المغربى. وكانت سبتة قد استطاعت لمنعتها وسهر حاكمها الكونت يوليان، أن تحبط كل محاولة لأخذها. وكان موسى بن نصير بتوق إلى افتتاح هذا الثغر المنيع، وتطهير افريقية من البقية الباقية من العدو. وبينا هو يرقب الفرص لتحقيق هذه الأمنية، إذ جاءته رسالة من الكونت يوليان نفسه يعرض فيها

تسليم معقله، ويدعوه إلى فتح اسبانيا، وجرت بينهما المفاوضة في هذا المشروع الخطير. وتختلف الرواية في أمر هذا الاتصال، فيقال إن موسى ويوليان اتصلا بالمراسلة، وقيل إنهما اتصلا بالمقابلة الشخصية، وإن الكونت استدعى موسى الى سبتة، وهنالك وقعت المفاوضة بينهما. وقيل أخيرا إنهما اجتمعا في سفينة في البحر (¬1). وعلى أى حال فقد استجاب موسى لدعوة الكونت، واهتم بمشروعه أعظم اهتمام، وكان قد وقف على أحوال اسبانيا وخصبها وغناها، واستطاع أن يقدر أهمية مثل هذا الفتح، وجليل مغانمه ومزاياه، فلما علم من يوليان وحلفائه ما تعانيه اسبانيا من الخلاف والشقاق، وما يسودها من الانحلال والضعف، ورأى مما يعرضه يوليان من تسليم سبتة وباقي معاقله، وتقديم سفنه لنقل المسلمين في البحر، ومعاونته بجنده وإرشاده، أن الفوز ميسور محقق، كتب إلى الوليد بن عبد الملك يخبره بأمر المشروع، فكتب إليه الوليد أن يختبره بالسرايا، أعني بالحملات الصغيرة بادىء بدء، وألا يزج بالمسلمين إلى أهوال البحر، بيد أن المسلمين كانوا قد خاضوا قبل ذلك غمر المعارك البحرية في هذه المياه، وغزوا صقلية وسردانية، ثم غزوا جزائر البليار (الجزائر الشرقية) كما قدمنا، وكان البحر الذي يفصل بين إفريقية والأندلس مجازا ضيقا سهل العبور. ولبث موسى حينا بطنجة يهيئ عُدة الفتح، والظاهر أن يوليان وحلفاءه لم يقصدوا بدعوة موسى أن يمتلك العرب اسبانيا، وأن يحكموها، بل كان مشروعهم أن يستعينوا بالعرب على محاربة المغتصب وإسقاطه، واستخلاص الملك لأنفسهم. وكان اعتقادهم أن العرب متى امتلأت أيديهم بالأسلاب والغنائم، قفلوا إلى إفريقية. وهو فرض معقول يؤيده سير الحوادث في اسبانيا، فقد كان الخوارج على ردريك يقصدون إلى انتزاع الملك من يده. وتحقيق أطماعهم يالحلول مكانه. أما الفرض الآخر - وهو أنهم كانوا يقصدون بالفعل تسليم وطنهم إلى العرب - فمعناه أنهم كانوا يعملون للقضاء بأنفسهم على مشاريعهم وأطماعهم، وهو مما يصعب قبوله وتعليله (¬2)، والظاهر أن موسى بن نصير كان من جانبه ¬_______ (¬1) راجع ابن الأثير ج 4 ص 213، والبيان المغرب ج 2 ص 6. (¬2) قدم ابن الأثير في روايته ما يفيد صحة الفرض الأول (ج 4 ص 214). وكذا صاحب =

يؤكد ليوليان أنه لايقصد بالغزو سوى مجد الفتح وكسب الغنائم، وأنه لا ينوي إنشاء دولة مسلمة فيما وراء البحر. ونزل موسى على نصح الخليفة في اختبار الفتح الجديد بالسرايا، وبدأ مشروعه بمحاولة صغيرة، فجهز خمسمائة مقاتل بينهم مائة فارس، بقيادة ضابط من البربر يدعى طريف بن مالك، فعبروا البحر من سبتة في أربع سفن قدمها يوليان، إلى البقعة المقابلة التي سميت جزيرة طريف باسم قائد الحملة، وذلك في رمضان سنة إحدى وتسعين (يوليه سنة 710 م)، وجاست الحملة خلال الجزيرة الخضراء بإرشاد يوليان، فأصابت كثيراً من الغنائم، وقوبلت بالإكرام والترحيب، وشهدت كثيرا من دلائل خصب الجزيرة وغناها، ثم عادت في أمن وسلام، وقص قائدها على موسى نتائج رحلته، فاستبشر بالفوز، وجد في أهبة الفتح. وفي شهر رجب سنة اثنتين وتسعين (إبريل سنة 711 م) جهز موسى جيشا من العرب والبربر يبلغ سبعة آلاف مقاتل بقيادة طارق بن زياد الليثي، وكان يومئذ حاكماً لطنجة كما قدمنا (¬1). ومن الغريب أن الرواية الإسلامية لا تحدثنا عن فاتح الأندلس بشىء قبل ولايته لطنجة، بل إنها لتختلف في أصله ونسبته، فقيل هو فارسي من همذان، كان مولى لموسى بن نصير، وقيل إنه من سبي البربر، وقيل أخيراً إنه بربري من بطن من بطون نفزة، وهذه فيما يظن أرجح رواية، وهي رواية يؤيدها صاحب البيان المغرب، بإيراد نسبة طارق مفصلة. ويبدو منها أن طارقاً تلقى الإسلام عن أبيه زياد عن جده عبد الله، وهو أول اسم عربي إسلامي في نسبته، ثم ينحدر مساق النسبة بعد ذلك خلال أسماء بربرية محضة حتى ينتهي إلى نفزة، وهي القبيلة التي ينتمي إليها (¬2). ¬_______ = " أخبار مجموعة " (ص 8)، والمقري (ج 1 ص 120). ومن جهة أخرى فإن البحث الحديث يؤيده ويرجحه. راجع دوزي: Dozy: Hist, V.l.p.272، وأيضا جيبون حيث يقول: " يظهر أن الكونت لا يستحق وصمات الخيانة والخسة والغدر مطلقة، فإن التاريخ لم يثبت أنه كان يريد تسليم بلاده للعرب. وإنما كان مشروعه أن يستعين بهم على قلب الحكومة وإسقاط ردريك حتى يكون له في حكومة هو منشؤها مكانة أسمى " ( note) L1. .Gibbon: ibid. Chap (¬1) يقول صاحب البيان المغرب إن ولاية طارق لطنجة كانت في سنة 85هـ (ج 2 ص 28)، ولكن الظاهر أنه وليها بعد ذلك ببضعة أعوام. (¬2) راجع البيان المغرب (ج 2 ص 6) وفيه ترد نسبة طارق هكذا: - طارق بن زياد ابن عبد الله بن ولغو ين ورفجوم بن نيرغاس بن ولهاص بن يطومث بن نفزا؛ وراجع أيضا نزهة =

وتقدم إلينا الرواية الإسلامية التي يسوقها الينا صاحب كتاب " الإمامة والسياسة " وصفا لشخص طارق خلاصته أنه كان " رجلا طويلا أشقر، بعينيه قبل أى حول وبيده شلل " (¬1). فإذا صحت هذه الرواية، فإنها يمكن أن تقدم إلينا دليلا آخر على انتماء طارق إلى الجنس البربري. فالبربر حسبما شهدنا من التجوال في بعض ربوعهم بالمغرب، يكثر بينهم الطول والشقرة. وكان طارق جنديا عظيما ظهر في غزوات المغرب بفائق شجاعته وبراعته، وقدر موسى مواهبه ومقدرته واختاره لحكم طنجة وما يليها، وهي يومئذ أخطر بقاع المغرب الأقصى وأشدها اضطربا، ثم اختاره لفتح الأندلس. فعبر البحر من سبتة بحيشه تباعا في سفن يوليان القليلة، ونزل بالبقعة الصخرية المقابلة التي ما زالت تحمل اسمه إلى اليوم أعني جبل طارق، وذلك في يوم الإثنين الخامس من رجب سنة 92هـ (27 إبريل سنة 711 م) (¬2). واخترق طارق المنطقة المجاورة غرباً بمعاونة يوليان وإرشاده، وزحف على ولاية الجزيرة التي كان يحكها تيودومير القوطي عامل ردريك واحتل قلاعها، بعد أن هزم شراذم من القوط تصدت لوقفه. وبادر حكام الولايات المجاورة بإخطار بلاط طليطلة بالخطر الداهم. وكان ردريك يشتغل يومئذ بمحاربة بعض الخوارج في الولايات الشمالية، فهرع إلى طليطلة شاعراً بفداحة الخطر المحيق بعرشه وأمته، وبعث قائده إديكو لرد العدو حتى يستكمل أهبته. ولكن طارقا هزمه ثم اخترق بسائط " الفرنتيره " (¬3) معتزماً السير صوب عاصمة القوط. وكان رُدريك أو رذريق أو لذريق كا يسميه العرب (¬4)، أميراً شجاعاً وافر المقدرة والعزم، ولكنه كان طاغية يثير بقسوته وصرامته حوله كثيراً من البغضاء ¬_______ = المشتاق للشريف الإدريسي حيث يقول إنه بربري من زناته (طبع رومة ص 179)، وكذلك ابن خلدون (ج 4 ص117)، والمقري (نفح الطيب ج 1 ص 119). (¬1) الإمامة والسياسة ج 2 ص 74. وذقل إلينا المقري ما يفيد أن طارقا كان ضخم الهامة، وفي كتفه الأيسر شامة (ج 1 ص 107). (¬2) المقري (ج 1 ص 119)، والبيان المغرب؛ وهناك خلاف على الشهر الذي عبر فيه طارق. (¬3) الفرنتيره La Frontera، هي المنطقة الوسطى والغربية في المثلث الإسبانى. (¬4) ويسميه الواقدي باسم آخر هو "الأدرينوق"؛ راجع الطبري ج 8 ص 82.

والسخط (¬1). وكان عرشه يرتجف فوق بركان من الخلاف، وكانت اسبانيا قد مزقت شيعا وأحزابا، يتطلع كل منها إلى انتزاع السلطان والملك، وكان أهم هذه الأحزاب وأقواها حزب العرش القديم الذي يلتف حول ولدي وتيزا (غيطشة). ومع ذلك فقد اعتصم القوط حين الخطر الداهم بنوع من الاتحاد، واستطاع ردريك أن يجمع حوله معظم الأمراء والأشراف والأساقفة، وحشد هؤلاء رجالهم وأتباعهم، فاجتمع للقوط يومئذ جيش ضخم تقدره بعض الروايات بمائة ألف (¬2)، ويقدره مؤرخ أندلسي متأخر بتسعين ألف (¬3)، وسار ردريك نحو الجنوب للقاء المسلمين، وكان طارق قد وقف على أمر هذه الأهبة العظيمة، فكتب إلى موسى يستنجد به، فأمده بخمسة آلاف مقاتل، فبلغ المسلمون اثنى عشر ألفاً، وانضم إليهم يوليان في قوة صغيرة من صحبه وأتباعه. كان القوط أضعاف المسلمين، وكان المسلمون يقاتلون في أرض العدو في هضاب ومفاوز شاقة، ولكن قائدهم الجرىء تقدم إلى الموقعة الحاسمة بعزم. فكان اللقاء بين الجيشين في سهل الفرنتيره Frontera على ضفاف نهر وادي لكه أو وادي بكه. وقد اختلف البحث الحديث في تحديد المكان والنهر الذي يحمل هذا الاسم الذي تورده الرواية العربية. فذكر البعض أنه هو نهر "جواداليتي" Guadalete ( وادي لكه) الذي يصب في خليج قادس على مقربة من مدينة شريش، وأن اللقاء حدث على ضفته الجنوبية شمالي مدينة شذونة. وذكر البعض الآخر، وهي الرواية الراجحة فيما يرى البحث الحديث، أن اللقاء قد حدث جنوبي بحيرة " خَندة " Janda الصغيرة المتصلة بنهر بارباتي Barbate الصغير ¬_______ (¬1) p.62.Cardonne: ibid (¬2) راجع ابن الأثير ج 4 ص 214؛ والمقري ج 1 ص 120. ويقدره في مكان آخر بسبعين ألف (ص 112). ويأخذ جيبون بهذه الرواية فيقدر جيش القوط بتسعين ألف أو مائة ألف (الفصل الحادي والخمسون). ولكن ابن خلدون يقدره بأربعين ألف فقط، وهو في نظرنا أقرب إلى المعقول (ج 4 ص 117). (¬3) هذه هي رواية علي بن عبد الرحمن بن هذيل صاحب كتاب " تحفة الأنفس وشعار أهل الأندلس " وهو من كتاب القرن الرابع عشر الميلادي (مخطوط بالإسكوريال رقم 1652 دير نبور - لوحة 48) وهو مؤلف فريد في بابه يتحدث عن الجهاد والمغازي والصوائف والفروسية وأحوالها وشروطها. وبه نبذ تاريخية مفيدة. وقد نشره المستشرق مرسييه.

خريطة: مواقع معركة وادي لكه وخط سير طارق.

الذي يصب في المحيط على مقربة من رأس " طرف الغاز " (¬1) وأن الرواية العربية تقصد هذا النهر بما تورده من إسم وادي لكه أو وادي بكه. ففي هذا السهل الصغير الذي تحده من الجنوب سلسلة من التلال العالية، وعلى ضفاف بحيرة خنده ونهر " بارباتي " تلاقى العرب والقوط، والإسلام والنصرانية، وذلك في الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 92 (17 يوليه سنة 711 م) (¬2). وفرق النهر بين الجيشين مدى أيام ثلاثة شغلت بالمعارك البسيطة. وفي اليوم الرابع التحم الجيشان ونشبت بينهما معركة عامة. وظهر ردريك وسط الميدان في حلل ملوكية فوق عرش تجره الخيل المطهمة، وهو منظر يثير سخرية الفيلسوف جيبون ولاذع تهكمه إذ يقول: " ولقد يخجل ألاريك (مؤسس دولة القوط) عند رؤية خلفه (ردريك) متوجا باللآلىء، متشحا بالحرير والذهب، مضطجعاً في هودج من العاج " (¬3). واستمرت المعركة هائلة مضطرمة بين القوى النصرانية الضخمة، وبين القوة المسلمة المتواضعة نحو أربعة أيام (¬4). ولكن الجيش القوطي كان رغم كثرته مختل النظام منحل العري، وكان يقود جناحيه إيفا وسيزبوت خصما ردريك (¬5)، ¬_______ (¬1) يقول دوزي إن هذا النهر يحمل اليوم اسم سلادو Salado ( ج 1 ص 273 هامش) وهو خطأ لأن هذا الإسم يطلق على نهر آخر يقع شمالي نهر بارباتي. ويسميه ابن القوطية " وادي بكه " (ص 7). وراجع: الأستاذ ليفي بروفنسال: Histoire de l'Espagne Musulmane p.15 & 16. (1944) والهوامش. (¬2) تجمع الرواية الإسلامية تقريبا على أن الموقعة كانت في ذلك التاريخ. ولكن ابن حيان مؤرخ الأندلس يقول إنها كانت في السابع من ربيع الأول سنة 92 هـ (المقري عن ابن حيان ج ص 116) ولعله ينفرد بهذا الخلاف. (¬3) تشير معظم الروايات الإسلامية إلى هذا المنظر؛ فيقول الطبري نقلا عن الواقدي: " فزحف الأدرينوق في سرير الملك، وعلى الأدرينوق تاجه وقفازه وجميع الحلة التي كان يلبسها الملوك " (ج 8 ص 82)، والمقري (ج 1 ص 112)، وابن الأثير (ج 4 ص 212)، وابن عذارى (ج 2 ص 9). (¬4) قال الرازي: " كانت الملاقاة يوم الأحد لليلتين بقيتا من شهر رمضان، فاتصلت الحرب بينهم إلى يوم الأحد لخمس خلون من شوال. ثم هزم الله المشركين فقتل منهم خلق عظيم أقامت عظامهم بعد ذلك بدهر طويل ملبسة بتلك الأرض، قالوا: وحاز المسلمون من عسكرهم ما يجل قدره، فكانوا يعرفون كبار العجم وملوكهم بخواتم الذهب يجدونها في أصابعهم، ويعرفون من دونهم بخواتم الفضة، ويميزون عبيدهم بخواتم النحاس " (المقري ج 1 ص 121). (¬5) أخبار مجموعة (ص 8).

وتتكون صفوفه من أتباعهما وأتباع حلفائهما من الأمراء والزعماء الناقمين، الذين تظاهروا بالإخلاص وقت الخطر، وكلهم يتحين الفرصة للإيقاع بالملك المغتصب (¬1)، فكانت الخيانة تمزق جيش القوط شر ممزق. واستمال يوليان والأسقف أوباس وهما في صف المسلمين كثيراً من جند القوط، وبثا بدعايتهما في الصفوف الموالية لردريك كثيراً من عوامل الشقاق والتفرق، فأخذ كل أمير يسعى في سلامة نفسه. وتمكن الجيش الإسلامي على ضآلة عدده، بجلده وثباته واتحاد كلمته، من جيش القوط، فلم يأت اليوم السابع من اللقاء حتى تم النصر لطارق وجنده، وهزم القوط شر هزيمة، وشتتوا ألوفاً في كل صوب. أما ردريك آخر ملوك القوط، فقد اختفي عقب الموقعة، ولم يعثر له بأثر. ويقول إيزويدور الباجي إنه بقي في ميدان الحرب حتى قتل مدافعاً عن عرشه وأمته. وتقول بعض الروايات النصرانية الأخرى إنه فر عقب الهزيمة على ظهر جواده، ولكنه غرق في مياه النهر. وتميل التواريخ الإسلامية إلى تأييد هذه الرواية، وتقول لنا إن ملك القوط مات غريقاً، وإنهم عثروا على جواده وسرجه الذهبي، ولم يعثر إنسان بجثته. وتزعم بعض الروايات النصرانية أيضا أن ردريك استطاع أن يلوذ بالفرار، ولكنه قتل بعد ذلك، أو أنه فر إلى بعض الأديار في البرتغال وترهب، وعاش متنكراً حيناً من الدهر. وينفرد صاحب كتاب الإمامة والسياسة بين المشارقة برواية أخرى، وهي أن طارقاً ظفر بجثة ردريك، فاحتز رأسه وبعث بها إلى موسى بن نصير، وبعث بها موسى إلى الخليفة، ويتابعه في هذه الرواية كاتب أندلسي هو صاحب كتاب تحفة الأنفس الذي تقدم ذكره (¬2). هذا إلى روايات كثيرة أخرى. ولكن المرجح في هذه الروايات كلها هو أن ردريك فقد حياته في الموقعة التي فقد فيها ملكه، وأنه مات قتيلا أو غريقاً على الأثر (¬3). ¬_______ (¬1) ابن الأثير (ج 4 ص 214) والمقري (ج 1 ص 121) ودوزي (ج 1 ص 272). (¬2) راجع كتاب الامامة والسياسة ج 2 ص 75 و76. ووردت هذه الرواية في كتاب تحفة الأنفس في المخطوط المتقدم ذكره (لوحة 48). (¬3) راجع في مصير ردريك، notes &،LI. Chap.C.Julian: Histoire de la Gaule p.750 - Gibbon, ibid وراجع من المصادر الإسلامية: ابن الأثير حيث يقول إنه غرق في نهاية الموقعة (ج 4 ص 214). والمقري حيث يقول إنه رمى بنفسه مختارا إلى النهر، وقد ثقلته الجراح (نفح الطيب=

هكذا كانت موقعة شذونة التي دالت فيها دولة القوط، بعد أن لبثت زهاء ثلاثمائة عام منذ قيامها في غاليس، وغنم الإسلام فيها ملك إسبانيا. وتحيط الرواية الإسلامية حوادث الفتح بطائفة كبيرة من الأساطير والقصص التي لا يستطيع المؤرخ أن يقف بها (¬1). بيد أنه يجدر بنا في هذا المقام أن نذكر ما تعرضه الرواية من أن طارقا خطب جنده قبيل نشوب المعركة الحاسمة؛ كما أنه يجدر بنا أن نورد نص هذا الخطاب الشهير الذي ينسب لفاتح الأندلس، والذي يعتبر نموذجا بديعا من الفصاحة والحماسة الحربية وهو: " أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم. وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم. وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمرا، ذهبت ريحكم وتعوضت. القلوب عن رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذا الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمرا أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعا فيها للنفوس، أبدأ بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفي من حظي. وقد بلغكم ما أنشات هذه الجزيرة من الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان. ¬_______ = ج 1 ص 121). وقال ابن الأبار في الحلة السيراء إنهم عثروا على جواد ردريك وسرجه من ذهب وزبرجد وإحدى نعليه وغاب شخصه، فما وجد حيا ولا ميتا (ليدن ص 31). وهذه هي أيضا رواية صاحب " أخبار مجموعة " (ص 6)، وقال ابن عذارى إن ردريك اختفي ولم يعرف له موضع ولا وجدت له جثة، وإنما وجد له خف مفضض، فقالوا إنه غرق وقالوا إنه قتل (ج 2 ص 10)؛ وتردد بعض التواريخ الغربية هذه الرواية (كامي جوليان في تاريخ " غاليس " ص 758). وتقول بعض الروايات الإسبانية إنه فر إلى مغار ناسك، والبعض الآخر إنه ألقى حيا إلى بئر ملأى بالأفاعي حيث صاح: " وإنها تلتهم الجزء الذي ثقلته بالخطايا " (جيبون الهامش في الفصل الحادي والخمسين). (¬1) راجع رواية ابن عبد الحكم عن فتح الأندلس (ص 304 وما بعدها) فقد تخللها بعض هذه الأساطير، ولكن المقري يستوعب الكثير منها نقلا من مختلف الروايات (نفح الطيب ج 6 ص 114 وما بعدها).

والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوى التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبد الملك أمير المؤمنين من الأبطال عربانا، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهارا وأختانا، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى وليُّ إنجادكم على ما يكون لكم ذكرا في الدارين. أيها الناس: ما فعلت من شىء فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإنى عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه حتى أخالطه وأمثل دونه، فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا، فتفشلوا وتذهب ريحكم، وتولوا الدبر لعدوكم فتبدوا بين قتيل وأسير. وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة، والراحة من المهنة والذلة، وما قد أحل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومفيدكم، تبوءوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي " (¬1). ويشير صاحب كتاب تحفة الأنفس إلى خطبة طارق في قوله: " لما التقى العرب والقوط، فاقتتلوا ثلاثة أيام أشد قتال، فرأى طارق ما الناس فيه من الشدة، فقام يعظهم ويحضهم على الصبر ويرغبهم في الشهادة، وبسط في آمالهم "، ثم يورد نص الخطبة (¬2). ثم تنوه الرواية الإسلامية بما كان لهذا الخطاب من أثر فعال في إذكاء همم المسلمين وشجاعتهم وثقتهم، ودفعهم إلى طريق النصر والظفر. على أنه يسوغ لنا أن نرتاب في نسبة هذه الخطبة إلى طارق؛ فإن معظم المؤرخين المسلمين، ولاسيما المتقدمين منهم لايشير إليها، ولم يذكرها ابن عبد الحكم ¬_______ (¬1) هذا، ومما ينسب لطارق أيضا من قصيدة قالها في الفتح: ركبنا سفينا بالمجاز قصيرا ... عسى أن يكون الله منا قد اشترى نفوسا وأموالا وأهلا بجنة ... إذا ما اشتهينا الشىء فيها تيسرا ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا ... إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا (¬2) كتاب تحفة الأنفس وشعار أهل الأندلس؛ المخطوط المتقدم ذكره لوحة 48.

ولا البلاذري، وهما أقدم رواة الفتوحات الإسلامية؛ ولم تشر إليها المصادر الأندلسية الأولى، ولم يشر إليها ابن الأثير وابن خلدون، ونقلها المقري عن مؤرخ لم يذكر اسمه؛ وهي على العموم أكثر ظهوراً في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين. وليس بعيداً أن يكون طارق قد خطب جنده قبل الموقعة، فنحن نعرف أن كثيرا من قادة الغزوات الإسلامية الأولى، كانوا يخطبون جندهم في الميدان؛ ولكن في لغة هذه الخطبة، وروعة أسلوبها وعباراتها، ما يحمل على الشك في نسبتها إلى طارق، وهو بربري لم يكن عريقاً في الإسلام والعروبة. والظاهر أنها من إنشاء بعض المتأخرين، صاغها على لسان طارق مع مراعاة ظروف المكان والزمان. وتشير الرواية الإسلامية في هذا الموطن إلى واقعة أخرى جديرة بالتأمل والبحث؛ وهي واقعة قد يغلب عليها لون الأسطورة، وإن كانت مع ذلك تعرض علينا في ثوب التاريخ الحق؛ تلك هي واقعة إحراق السفن التي نقل عليها طارق جيشه من الشاطىء الإفريقى إلى شاطىء الأندلس. ونحن نعرف مما تقدم أن الكونت يوليان هو الذي قدم السفن التي ركبها العرب إلى الأندلس في بعثتهم الاستكشافية الأولى بقيادة طريف بن مالك، ثم في حملتهم الغازية بقيادة طارق. وهنا تذكر الرواية أن طارقاً ما كاد يعبر بجيشه إلى الشاطىء الأندلسي، حتى أمر بإحراق السفن التي عبر عليها جيشه، وذلك لكى يدفع جنده إلى الاستبسال والموت، أو النصر المحقق، ويقطع عليهم بذلك كل تفكير في التخاذل والارتداد. فما مبلغ هذه الرواية من الصحة؟ إن جميع الروايات الإسلامية التي تحدثنا عن فتح الأندلس لا تذكر شيئاً عن هذه الواقعة، ولا تذكرها الرواية الإسلامية إلا في موطن واحد، فقد ذكر الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي " نزهة المشتاق " عند الكلام على جغرافية الأندلس، أن طارقا أحرق سفنه بعد العبور بجيشه إلى الأندلس (¬1)، وقد نقلت بعض التواريخ النصرانية المتأخرة هذه الرواية عن الإدريسي فيما يرجح. وفيما عدا ذلك فإن جميع الروايات الإسلامية تمر عليها بالصمت المطلق. وقد يقال إن في الخطاب المنسوب إلى طارق ما يؤيد صحة هذه الرواية، ¬_______ (¬1) نزهة المشتاق في اختراق الآفاق (المختصر)، طبع رومة، ص 178.

فطارق يستهله بقوله: " أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر ... "، وفي ذلك ما يمكن أن يحمل على أن الجيش الفاتح قد جرد من وسائل الارتداد والرجعة إلى الشاطئ الإفريقي، أو بعبارة أخرى قد جرد من السفن التي حملته في عرض البحر إلى اسبانيا، ولكنا رأينا أن هذا الخطاب لا يمكن الاعتماد عليه من الوجهة التاريخية، كوثيقة بعيدة عن شوائب الريب. ولو صح أن طارقا ألقى في جنده مثل ذلك الخطاب، فقد نجد تفسيراً لأقوال طارق في أن السفن كانت ملكاً للكونت يوليان، وفي أنها لم تكن تحت تصرف الغزاة في جميع الأوقات. ومع ذلك كله فإن رواية الشريف الإدريسي عن واقعة إحراق طارق للسفن ليست من الأمور المستحيلة؛ وهي عمل بطولة يتفق مع بطولة فاتح الأندلس. على أنها تبقى عرضة لكثير من الريب، فقد دونت لأول مرة في القرن الخامس الهجري. أعني بعد فتح الأندلس بأكثر من ثلاثة قرون، ولم تؤيدها أية رواية إسلامية أخرى (¬1). وعلى أثر الموقعة الحاسمة التي غلب فيها الجيش القوطي ومزق، ساد الرعب على القوط، فامتنعوا بالحصون والجبال، وقصدوا إلى الهضاب والسهول. وذاعت أنباء النصر في طنجة وسبتة وما جاورهما من أراضي العدوة، فعبر إلى الجيش الفاتح سيل من المجاهدين والمغامرين من العرب والبربر. وزحف طارق بجيشه شمالا. وكانت بقية الجيش القوطي قد اجتمعت عند إستجة لتحاول رد الجيش الفاتح، فالتقى الجيشان هناك ثانية، وهزم القوط مرة أخرى، ولم يبق إلا أن يستولى الفاتحون على المدن والقواعد الحصينة واحدة بعد الأخرى. وكان يوليان وأصحابه إلى جانب المسلمين، يعاونهم بالنصح والإرشاد كما قدمنا، ففي إستجة وضعت خطة السير، وتقرر أن يسير طارق بنفسه إلى طليطلة عاصمة المملكة القوطية، وأرسل طارق مغيثاً الرومي مولى الوليد بن ¬_______ (¬1) يقدم لنا التاريخ الحديث مثلا بديعا للفاتح الذي يحرق السفن التي عبر عليها جيشه لكى يقطع على جيشه كل تفكير في الرجعة والارتداد، هو مثل المستكشف الإسباني هرناندو كورتيث فاتح المكسيك. فقد أمر هذا الفاتح الشهير، حينما أشرف على شواطىء المكسيك. مستكشفا فاتحا في سنة 1519 م. بإحراق سفنه التي قدم عليها جيشه من اسبانيا. ومن الغريب أن يكون بطل هذا الحادث إسبانيا، وهو ما يحملنا على الظن بأنه قد تأثر في عمله بالمثل الذي ينسب لطارق فاتح الأندلس.

عبد الملك إلى قرطبة في سبعمائة فارس، فاقتحم أسوارها الحصينة واستولى عليها دون مشقة، وأرسل حملات أخرى إلى غرناطة وإلبيرة ومالقة، فافتتحت مالقة وفر سكانها إلى الجبال، ثم لحق جيشها بالجيش المتجه إلى إلبيرة وغرناطة، فحوصرت غرناطة قليلا وفتحت، ثم فتحت إلبيرة. وكان اليهود يعاونون المسلمين في كل هذه الفتوح، فكان المسلمون يضمون إليهم في كل مدينة من المدائن المفتوحة حامية صغيرة لحفظها. ثم سار المسلمون بعد ذلك شرقاً نحو ولاية مرسية، وكانت تسمى يومئذ تيودمير (أو تدمير) باسم أميرها، وقاعدتها مدينة أوريولة؛ وكان تيودمير جندياً كبيراً، وافر العزم والبأس، فالتقى بالمسلمين ونشبت بينه وبينهم معارك شديدة هلك فيها معظم رجاله، فارتد إلى أوريولة، وامتنع بها، وعرض النساء، حسبما تقول الرواية، على الأسوار بأثواب الرجال إيهاما بكثرة جنده، واستطاع بثباته وجلده، أن يعقد الصلح مع المسلمين بشروط حسنة أنقذت بها مدينته من السبي والجزية (¬1). وسار طارق في بقية الجيش إلى طليطلة مخترقاً هضاب الأندلس (¬2) وجبال ¬_______ (¬1) ابن الأثير (ج 4 ص 215). والبيان المغرب (ج 2 ص13). وسنورد فيما بعد نص هذه المعاهدة. (¬2) يطلق المؤرخون والجغرافيون العرب كلمة " الأندلس " على شبه جزيرة إيبيريا المكونة من اسبانيا والبرتغال (ياقوت في معجم البلدان تحت كلمة الأندلس. والروض المعطار ص 1). وتطلق في الرواية العربية أيضا على اسبانيا المسلمة، التي كانت عقب الفتح تشمل كل إسبانيا ما عدا جليقية وولايات جبال البرنيه. ولكن " الأندلس " تطلق في العصور المتأخرة وفي الجغرافية الحديثة على ولايات الأندلس الواقعة في جنوبي إسبانيا بين نهر الوادي الكبير والبحر، وبين ولاية مرسيه وإشبيلية؛ وما زالت " الأندلس " Andelucia تحتل في تقسيم اسبانيا الإداري الحاضر نفس هذه المنطقة. والرواية العربية تعلل هذه التسمية بصور مختلفة فتقول مثلا إنها سميت أندلس باسم أول من سكنها من قديم الزمان وهم قوم من الأعاجم يقال لهم أندلوش (نفح الطيب ج 1 ص 67). ويقول ابن الأثير إن النصارى يسمون الأندلس إشبانة باسم اشبانس أحد ملوكها، وهذا هو اسمها عند بطليموس (ج 4 ص 212). ولكن ابن خلدون يقدم لنا تعليقا أدق فيقول إنها سميت "الأندلس" باسم "قندلس" ولعلها فندلس، ومن الواضح أنه يقصد الفندال أى الوندال (ج 2 ص 235 في تاريخ القوط). ويقدم لنا البكري خلاصة دقيقة لهذه المسميات الجغرافية التاريخية فيقول في وصفه لجزيرة الأندلس، " إن اسمها في القديم إباريه Iberia من وادي إبره، ثم سميت بعد ذلك باطقة Baetica، من وادي بيطي وهو نهر قرطبة. ثم سميت إشبانية من إسم رجل ملكها في القديم كان اسمه إشبان. وقيل سميت بالإشبان سكنوه في أول الزمان على جرية النهر وما والاه. وقال قوم إن اسمها هو في الحقيقة إشبارية Hisperia =

سيرّا مورينا (جبل الشارّات) التي تفصل بين الأندلس وقشتالة، بإرشاد يوليان وأصحابه. وكان القوط قد فروا منها نحو الشمال بأموالهم وآثار قديسيهم. ولم يبق بها سوى اليهود وقليل من النصارى، فاستولى طارق عليها، وأبقى على من بقي من سكانها، وترك لأهلها عدة كنائس، وترك لأحبارها حرية إقامة الشعائر الدينية، وأباح للنصارى من القوط والرومان اتباع شرائعهم وتقاليدهم، واختار لحكمها وإدارتها أوباس مطرانها السابق وأخا الملك وتيزا. وتابع طارق زحفه شمالا، فاخترق قشتالة ثم ليون في وهاد ومفاوز صعبة، وطارد فلول القوط حتى أسترقة؛ فلجأت إلى قاصية جليقية واعتصمت بجبالها الشامخة. وعبر طارق جبال أشتوريش (أستورياس) (¬1) واستمر في سيره حتى أشرف على ثغر خيخون الواقع على خليج بسكونية (غسقونية) فكان خاتمة زحفه ونهاية فتوحاته، ورده عباب المحيط عن التقدم فعاد إلى طليطلة حيث تلقى أوامر موسى بوقف الفتح. وكان ذلك لعام فقط من عبوره إلى اسبانيا. وقد اختلف المؤرخون في تعليل البواعث التي حملت موسى على أن يصدر أوامره إلى طارق بوقف الفتح، فقيل إن موسى لم يكن يتوقع كل هذا الفوز لقائده ومبعوثه، فلما وقف على مبلغ فوزه وتقدمه، تحول إعجابه به إلى حسد وغيرة، وخشى أن ينسب ذلك الفتح العظيم إليه دونه، فكتب إليه ألا يتقدم ¬_______ = من إشبرش وهو الكوكب المعروف بالأحمر. وسميت بعد ذلك بالأندلس من أسماه الأندليش من الذين سكنوها ". والأندليش هم الوندال Vandals. ( أبو عبيد البكرى في جغرافية بلاد افريقية والمغرب طبعة دى سلان). وهذا هو التعليل الذي يأخذ به دانفيل Danville إذ يقول إن الاشتقاق مأخوذ من كلمة فاندالوسيا Vandalusia أى بلد الوندال، (نقله جيبون عن كتاب ممالك أوربا في هامش الفصل الحادي والخمسين). وهذا ما يقرره الغزيري أيضا في معجم مخطوطات الإسكوريال ( Bibliotheca Arabico - Hispana Escurialensis II, p.237) (¬1) وهنا تذكر الرواية العربية أن طارقا انتهى إلى مدينة المائدة خلف جبال أستوريه واستولى على مائدة سليمان بن داود، وهي خضراء من زبرجد حافاتها منها وأرجلها ثلثمائة وخمسة وستون. ويقال إن هذه المائدة غنمها الرومان من المشرق أو بيت المقدس في بعض غزواتهم ثم نقلوها إلى رومة، فغنمها القوط حين افتتحوا رومة، ثم أحرزها العرب عند فتح اسبانيا. وذكر ابن الأثير أن أحد ملوك اسبانيا في عهد الوندال غزا بيت المقدس وأحرز المائدة (ج 4 ص 212). وذكر صاحب الروض المعطار، كما ذكر بعض مؤرخي الإفرنج، أن هذه المائدة هي من نفائس ملوك القوط، وأن العرب عثروا بها في كنيسة طليللة وهو أقرب إلى المعقول. (الروض المعطار ص 5).

حتى يلحق به، ويتوعده بالعقاب إذ توغل بعد بغير إذنه (¬1). ولكن البعض يعلل غضب موسى على طارق ولحاقه به، بأن طارقا خالف الأوامر الصادرة إليه بألا يجاوز قرطبة أو حيث تقع هزيمة القوط (¬2). وهذا تعليل حسن يتفق وما أثر عن موسى من الحيطة والحذر، فقد ينكب المسلمون إذا توغلوا في أراض ومسالك مجهولة. على أن ذلك لا يمنع من أن يكون للغيرة أثرها أيضاً في نفس موسى وفي تصرفه. وعلى أى حال فقد عبر موسى البحر إلى اسبانيا في عشرة آلاف من العرب وثمانية آلاف من البربر، في سفن صنعها خصيصا لذلك، يحفزه شغف الفتح بالرغم من شيخوخته، ونزل بولاية الجزيرة حيث استقبله الكونت يوليان، وذلك في رمضان سنة ثلاث وتسعين (يونيه سنة 712 م). وبدأ موسى زحفه بالاستيلاء على مدينة شَذُونة (¬3)، ثم سار إلى قَرْمونة وهي يومئذ من أمنع معاقل الأندلس، فاستولى عليها بمعاونة يوليان وأصحابه. وقصد بعدئذ إلى إشبيلية أعظم قواعد الأندلس. فافتتحها بعد أن حاصرها شهرا. ثم سار إلى ماردة وحاصرها مدة، وقتل تحت أسوارها جماعة كبيرة من المسلمين في كمين دبره النصارى. وانتهت بالتسليم في رمضان أو شوال سنة أربع وتسعين، على أن تكون أموال الغائبين والكنائس، غنيمة للمسلمين دية لمن قتل منهم. وقصد موسى بعدئذ إلى طليطلة فالتقى بطارق على مقربة منها وكان قد سار إلى استقباله. فأنبه وبالغ في إهانته، وزجه مصفداً إلى ظلام السجن بتهمة الخروج والعصيان، وقيل بل هم بقتله أيضا (¬4). ولكنه ما لبث أن عفا عنه ورده إلى منصبه (¬5). ¬_______ (¬1) هذه هي رواية ابن عبد الحكم (ص 207)، وصاحب أخبار مجموعة (ص 15)، وابن القوطية (ص 9)، وابن الأثير (ج 4 ص 215)، وابن خلدون (ج 4 ص 117)، وابن حيان مؤرخ الأندلس (نفح الطيب ج 1 ص 126)، وبغية الملتمس للضبى (ص 11)، والحميدى في جذوة المقتبس (طبع مصر) ص 5. (¬2) البيان المغرب (ج 2 ص 15 و18). (¬3) Medina Sedonia، ويسميها ابن الأثير مدينة سالم (ج 4 ص 215). ولكن شدونة أو شذونة تسمية أكثر ذيوعا. (¬4) ابن عبد الحكم (ص 208)، وابن الأثير (ج 4 ص 215)، والمقري في نفح الطيب (ج 1 ص 127)، والحميدي في جذوة المقتبس (ص 6). (¬5) ينفرد ابن عبد الحكم برواية عن إطلاق سراح طارق، هي أن طارقا استجار بمغيث الرومى وكان عائدا من الأندلس إلى المشرق، ووعده بمائة عبد إذا هو أبلغ أمره إلى الوليد بن عبد الملك، فقام مغيث بالرسالة وبادر الوليد بالكتابة إلى موسى أن يطلق سراح طارق ويتوعده إذا أساء اليه=

ووضع الإثنان خطة لافتتاح ما بقى من إسبانيا. ثم زحفا نحو الشمال الشرقي واخترقا ولاية أراجون (الثغر الأعلى) وافتتحا سرقسطة وطركونة وبرشلونة وغيرها من المدائن والمعاقل. ثم افترق الفاتحان، فسار طارق نحو الغرب ليغزو جليقية، وليتم القضاء على فلول القوط. وسار موسى شمالا فاخترق جبال البرنيه (جبال البرت أو البرتات أو الممرات) (¬1)، وغزا ولاية لانجدوك أو سبتمانيا التي كانت تابعة إذ ذاك لملوك القوط، واستولى على قرقشونة (كاركاسون) وأربونة (ناربون). ثم نفذ إلى مملكة الفرنج وغزا وادي الرون (رذونة) حتى مدينة لوطون أو لوذون (ليون)، فاضطرب أمراء الفرنج وأخذوا في الأهبة لرد الغزاة؛ ويقال إن المعارك الأولى بين العرب والفرنج وقعت في تلك السهول على مقربة من أربونة (¬2). وهنا فكر القائد الجرىء في أن يخترق بجيشه جميع أوربا غازياً فاتحا، وأن يصل إلى الشام من طريق قسطنطينية، وأن يفتتح في طريقه أمم النصرانية والفرنجة كلها. وهو ما يجمله ابن خلدون في تلك العبارة القوية: " وجمع أن يأتي المشرق على القسطنطينية، ويتجاوز إلى الشام ودروب الأندلس، ويخوض مابينها من بلاد الأعاجم أمم النصرانية مجاهداً فيهم، مستلحماً لهم إلى أن يلحق بدار الخلافة " (¬3). وكان موسى يقدر تنفيذ مشروعه العظيم بجيش ضخم يقتحم البرنيه، يؤيده من البحر أسطول قوي، فيبدأ بافتتاح مملكة الفرنج ثم يقصد إلى مملكة اللومبارد (¬4) في شمالي إيطاليا، فيخترقها فاتحا إلى رومة قاعدة النصرانية، فيفتتحها ويقضى فيها على كرسي النصرانية. ويتابع سيره بعدئذ شرقاً إلى سهول الدانواب، ¬_______ = وحمل مغيث هذا الكتاب إلى الأندلس، فأفرج موسى عن طارق ورده إلى منصبه (ص 210)، وذكر الطبري أن طارقا ترضى موسى فرضي عنه وقبل منه عذره (ج 8 ص 90). (¬1) البرت أو البرتات محرفة عن الاسبانية Puerta، ومعناها الباب. وسميت الجبال بهذا الاسم لأنها تحتوى على خمسة أبواب أو ممرات طويلة كانت تستعمل للعبور والغزو. وسنعود إلى تفصيل ذلك. أما تسميتها بجبال البرانس فهو خطأ جغرافي حسبما نوضح بعد. (¬2) ابن حيان مؤرخ الأندلس (نقله المقري في نفح الطيب ج 1 ص 128)، والبيان المغرب (ج 2 ص 14). ومعظم الروايات على أن موسى وقف في زحفه عند أربونة. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 117، ونفح الطيب ج 1 ص 130. (¬4) في الجغرافية العربية بلاد اللنبرد أو أنكبردية.

مثخنا في القبائل الجرمانية التي تسيطر على ضفافه، ثم يخترق أراضي الدولة البيزنطية حتى قسطنطينية فيستولى عليها، ثم يعبر إلى آسيا الصغرى قاصدا إلى دمشق فيصل بذلك أملاك الخلافة الإسلامية فيما بين المشرق والمغرب من طريق الشمال، كما اتصلت من طريق الجنوب (¬1). ولم يك ثمة ما يحول دون تنفيذ هذا المشروع الضخم، فقد كان الإسلام يومئذ في ذروة الفتوة والقوة والبأس، وكانت جيوشه تقتحم أرجاء العالم القديم ظافرة أينما حلت. وكانت أمم الغرب من جهة أخرى يسودها الضعف والانحلال، وكانت مملكة الفرنج وهي أضخمها وأقواها يمزقها الخلاف والتفرق، وقد بدأ العرب غزوها بالفعل. ولم تستطع النصرانية أن توحد جهودها لرد الإسلام، ولم تقم فيها زعامة قوية تجمع كلمتها وتنظم قواها في جهة دفاعية موحدة. ولم تكن أوربا في ذلك الحين سوى مزيج مضطرب من الأمم والقبائل المتنافرة، تمزقها المطامع والأهواء المختلفة. فكان الإسلام يستطيع غزوها وفتحها. ولم يكن حلما وإغراقاً ما تصوره موسى بن نصير واعتزمه. ولكن سياسة الإحجام والتردد التي اتبعها بلاط دمشق نحو الفتوح الغربية، والتي كادت تحول دون فتح اسبانيا، أودت بذلك المشروع البديع، وكتب الوليد بن عبد الملك إلى موسى يحذره من التوغل بالمسلمين في دروب مجهولة، ويأمره بالعود، فارتد موسى مرغما آسفا، ولكنه تمهل في العود حتى يتم إخضاع معاقل جليقية التي اعتصمت بها فلول القوط، ويطهر اسبانيا بأسرها من كل خروج ومقاومة، فاخترق جليقية واستولى على معظم معاقلها، ومزق كل قوة تصدت لمقاومته، ولم يبق من النصارى سوى شراذم يسيرة اجتمعت حول زعيم يدعى بلاجيوس أو بلايو، ولجأت إلى قاصية جليقية؛ وبينما كان موسى يتأهب للحاق بها وسحقها، إذ وصله كتاب آخر من دمشق يستدعيه وطارقا، ويأمرهما بتعجيل العودة ولعل أقوى البواعث التي حملت الوليد على هذا الاستدعاء ما نمى إليه من خلاف موسى وطارق، وخوفه أن ينتهي هذا الخلاف، بتفرق كلمة المسلمين ونكبتهم في تلك الأقطار ¬_______ (¬1) V.I.p. 96-97.Cardonne: ibid. ويقول الفيلسوف جيبون تعليقا على هذا المشروع إنه تمكن مقارنته بخطة مثراديتيس ليفتتح ما بين القرم ورومة، أو خطة قيصر ليفتتح المشرق ثم يعود من طريق الشمال. ويفوق هذه المشاريع جميعا مشروع هانيبال الذي نفذ بنجاح عظيم (الفصل الحادي والخمسون).

الجديدة المجهولة التي افتتحوها (¬1). أو لعله خوف الوليد أن يفكر موسى بما عرف من طمعه ودهائه، في الاستقلال بذلك الملك الجديد النائي، وهو أفضل تعليل يقبله النقد الحديث ويرجحه. وربما كان من هذه البواعث أيضا ما بلغ الوليد عن وفرة الأموال والتحف التي اغتنمت من الأندلس، وخوفه أن تمتد إليها يد التبديد. ومهما كانت العوامل التي دفعت، الوليد إلى استدعاء فاتحي الأندلس، فلا ريب أنه كان خطراً على مستقبل الإسلام في اسبانيا. ذلك أن هذه الشراذم النصرانية الصغيرة التي نجت من المطاردة واعتصمت بصخور جليقية، لم تلبث أن نمت وقويت، وكانت منشأ المملكة النصرانية التي قامت في الشمال، ولبثت قرونا تكافح دولة الإسلام في اسبانيا حتى انتهت بالقضاء عليها. وفي ذلك الحين كان عبد العزيز بن موسى قد افتتح منطقة الساحل الواقعة بين مالقة وبلنسية، وأخمد الثورة في إشبيلية وباجة، وافتتح لبلة وغيرها من المعاقل والحصون، وأبدى في معاملة البلاد المفتوحة كثيرا من الرفق والتسامح، والاعتدال في تطبيق الأحكام وفرض الضرائب. ولنا في معاهدته مع تيودمير خير شاهد باعتدال السياسة الإسلامية ولينها وتسامحها. وإليك نص هذه المعاهدة، حسبما نقله إلينا الغزيري في معجمه، نورده نموذجاً للوثائق السياسية الإسلامية في عصر الفتح: " نسخة كتاب الصلح الذي كتبه عبد العزيز بن موسى لتدمير عبدوش - بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد العزيز إلى تدمير، أنه نزل على الصلح، وأنه له عهد الله وذمته أن لا ينزع عنه ملكه، ولا أحد من النصارى عن أملاكه. وأنهم لا يقتلون ولا يسبون، أولادهم ولا نساؤهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا تحترق كنائسهم ما تعبد ونصح، وأن الذي اشترط عليه أنه صالح على سبع مدائن، أوريوالة وبلنتلة ولقنت ومولة وبقسرّة وأنة ولورقة. وأنه لا يأوى لنا عدوا، ولا يخون لنا أمناً ولا يكتم خبرا علمه. وأنه عليه وعلى أصحابه دينارا ¬_______ (¬1) لم توضح الرواية الإسلامية أسباب هذا الاستدعاء. ولكن الغزيري نقل في معجمه عن بعض أوراق مخطوطة في الإسكوريال في سبب الاستدعاء هذه الفقرة: " ولما علم الوليد بن عبد الملك ما حدث لطارق بن زياد وموسى بن نصير من الخلاف بعث فيهما فانصرفا إلى المشرق ". ويعتقد الغزيري أن الأوراق التي عثر بها ونقل منها هذه الفقرة إنما هي من تاريخ الرازي لقرائن ذكرها. راجع II.p. 328.Casiri: ibid ; V.

كل سنة، وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير، وأربعة أقساط طلا، وأربعة أقساط خل، وقسطي عسل، وقسطي زيت، وعلى العبد نصف ذلك. كتب في أربع من رجب سنة أربع وتسعين من الهجرة. شهد على ذلك ... الخ " (¬1). واتخذ موسى بن نصير أهبته للعود إلى دمشق نزولا على أوامر الخليفة. فنظم حكومة الأندلس قبل رحيله ما استطاع، وجعل حاضرتها إشبيلية (¬2) لاتصالها بالبحر وكانت حاضرتها أيام الرومان، واختار لولايتها ولده عبد العزيز، واستخلف على المغرب الأقصى ولده عبد الملك، كا استخلف على إفريقية عبد الله أكبر أولاده. وفي شهر ذي الحجة سنة خمس وتسعين (أغسطس 715 م) قفل راجعاً إلى المشرق وطارق معه، وفي ركبه من نفيس التحف والغنائم ما لا يقدر ولا يوصف، ومن أشراف السبي عدد عظيم (¬3). ¬_______ (¬1) نقل الغزيري هذا النص في معجمه عن بعض مخطوطات الإسكوريال، وقرنه بترجمة لاتينية ( Casiri: ibid.V II.p. 105) هذا وقد أورد لنا العذري نصا آخر لهذا الأمان في كتابه " ترصيع الأخبار وتنويع الآثار "؛ على نفس المدن السبعة، جاءت شروطه على النحو الآتي: " ألا يقدم ولا يؤخر لأحد من أصحابه بسوء، وأن لا يسبون، ولا يفرق بينهم وبين نسائهم وأولادهم، ولا يقتلون ولا تحرق كنائسهم، ولا يكرهون على دينهم؛ وأنه لا يدع حفظ العهد، ولا يحل ما انعقد، ويصحح الذي فرضناه عليه، وألزمناه أمره، ولا يكتمنا خبرا علمه، وأن عليه وعلى أصحابه غرم الجزية من ذلك على كل حر دينار .. الخ " ثم يلي ذلك شهود هذا الأمان " (راجع " نصوص عن الأندلس " وهي عبارة عن أوراق منقولة من كتاب " ترصيع الأخبار " ومنشورة بعناية الدكتور عبد العزيز الأهواني، وصادرة عن معهد الدراسات الإسلامية بمدريد - ص 4 و5). (¬2) اقتبس العرب اسم " إشبيلية " من اسمها اللاتيني " هسبالي " Hispali، ثم حرف الإسبان هذا الاسم إلى " سفيليا " Sevilla، وهو الذي يطلق عليها في الجغرافية الحديثة. (¬3) تفيض الرواية الإسلامية في وصف ما أصابه المسلمون في الأندلس من الغنائم الجليلة والسبي الذي لا يحصى. وتقول إن موسى بن نصير حمل إلى دمشق من التحف والذخائر من الذهب والدر والياقوت والزبرجد ما لا يقدر؛ منها مائدة سليمان السالفة الذكر؛ وأما السبايا فيقال إنه حمل منها ثلاثين ألفا، بينهم مئات من أشراف القوط والوصفاء المختارين، من ذو الشباب الغض والجمال الباهر ذكورا وإناثا. وذكر ابن القوطية أن موسى بن نصير عاد ومعه من أبناء الملوك والعجم أربعمائة، على رؤوسهم تيجان الذهب وفي أوساطهم مناطق الذهب (ص 10). ونقل المقري عن بعض المؤرخين أن العرب وجدوا في طليطلة حين فتحوها من الذخائر والأموال ما لا يحصى، فمن ذلك مائة وسبعون تاجا من الذهب الأحمر مرصعة بالدر وأصناف الحجارة الكريمة، ووجد فيها ألف سيف ملوكي، ومن الدر والياقوت أكيال، ومن أواني الذهب والفضة ما لا يحيط به وصف (نفح الطيب ج 1 ص 130 و135 و136).

وقد اختلفت الرواية العربية في مصير موسى بن نصير، واختلف الرواة في أمر لقائه بالخليفة؛ فقيل إنه وصل إلى دمشق قبل وفاة الوليد بن عبد الملك، وقدم إليه الأخماس والغنائم؛ فأكرمه وأحسن إجازته، وقيل بل وصل عقب وفاة الوليد وارتقاء سليمان بن عبد الملك أخيه عرش الخلافة، وأن سليمان غضب عليه ونكبه (¬1). على أنه يمكن التوفيق بين القولين أعني وفود موسى على الوليد ابن عبد الملك ثم نكبته على يد سليمان. وهنالك ما يرجح لدينا أنه لحق بالوليد قبيل وفاته، فإن ابن عبد الحكم وهو أقدم رواة فتوح الأندلس، يقول لنا إن موسى بن نصير مر بمدينة الفسطاط في أواخر شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين في طريقة إلى دمشق (¬2). وقد توفي الوليد في منتصف جمادى الآخرة من هذا العام أعني بعد وصول موسى إلى مصر بأكثر من شهرين ونصف. ولما كانت مسافة السفر بين الفسطاط ودمشق لا تتجاوز في هذا العصر بضعة أسابيع، فإن الوقت كان يكفي لمقدم موسى على الوليد قبل وفاته بأسابيع. على أن الرواية من جهة أخرى تكاد تجمع على أن سليمان سخط على فاتح الأندلس ونكبه. ذلك أن موسى وصل إلى الشام والوليد في مرض موته، فكتب إليه سليمان ولي العهد أن يتمهل في السير، رجاء أن يموت الوليد بسرعة، فيقدم عليه في صدر خلافته بما يحمل من التحف والغنائم الكثيرة، فأبى موسى وجد في السير حتى قدم والوليد حى فسلم إليه الأخماس والغنائم. ثم توفي الوليد بعد ذلك بقليل مستخلفا أخاه سليمان على كرسى الخلافة. فغضب سليمان على موسى، وزاد في حقده عليه، ما قدمه في حقه طارق ومغيث من مختلف التهم (¬3). وفي الحال أمر، بعزله واتهمه وبنيه باختلاس مقادير عظيمة من المال والتحف، وقضى عليه بردها، وبالغ في إهانته وتعذيبه، ثم ألقاه إلى ظلام السجن. واستجار موسى بصديقه يزيد بن المهلب من نقمة سليمان. وكان من أخصائه وذوى النفوذ عنده، فيروى أن يزيداً ¬_______ (¬1) يقول بالرواية الأولى ابن عبد الحكم (فتوح مصر ص 211)، وصاحب كتاب الإمامة والسياسة (ج 2 ص 93 و94)، وابن خلكان (ج 2 ص 181). ويقول بالرواية الثانية ابن الأثير (ج 4 ص 216)، والحميدي في جذوة المقتبس (ص 6)، وابن خلدون (ج 4 ص 118). (¬2) فتوح مصر ص 211. (¬3) أخبار مجموعة ص 29.

قال له: " لم أزل أسمع عنك أنك من أعقل الناس وأعرفهم بمكائد الحروب ومداراة الدنيا. فقل لى كيف حصلت في يد هذا الرجل بعد ما ملكت الأندلس، وألقيت بينك وبين هؤلاء القوم البحر الزخار، وتيقنت بعد المرام واستصعابه، واستخلفت بلاداً أنت اخترعتها، وحصل في يدك من الذخائر والأموال والمعاقل ما لو أظهرت به الامتناع ما ألقيت عنقك في يد من لا يرحمك. ثم إنك علمت أن سليمان ولي عهد وأنه الوالي بعد أخيه، وقد أشرف على الهلاك لامحالة، وبعد ذلك خالفته وألقيت بيدك إلى التهلكة، وأحقدت مالكك ومملوكك ". وما زال يزيد بسليمان حتى عفا عن موسى، وأعفاه من الغرامة الفادحة التي قضى بها عليه، ويقال بل عفا عن حياته، ولم يعفه من الغرامة، وإن موسى استطاع أن يفتدي نفسه ببعض ما فرض عليه، وإن سليمان عفا عنه بعد ذلك (¬1)، وأقر ابنه عبد الله على إفريقية وابنه عبد العزيز على الأندلس. وتبالغ بعض الروايات فتقول إن سليمان أصر على معاقبة موسى وتغريمه، حتى كان يطوف أحياء العرب مع حراسه ليسأل بعض المال ليفتدي نفسه، وإنه لبث على تلك الحال حتى توفي في منتهي البؤس والذلة بوادي القرى في شمال الحجاز حيث ينسب مولده، وذلك سنة سبع وتسعين (¬2). بيد أنه لا يوجد ما يبرر الأخذ بمثل هذه الرواية المغرقة. والصحيح المعول عليه أن سليمان عفا عن موسى، وأقاله من محنته؛ وتوفي موسى بعد ذلك بقليل في سنة سبع وتسعين (وقيل في سنة تسع وتسعين) وهو في طريقه إلى الحج مع سليمان، وقد جاوز الثمانين من عمره. ¬_______ (¬1) هذه هي رواية ابن عبد الحكم (فتوح مصر ص 213). وهي رواية يؤيدها البلاذري (فتوح البلدان ص 230). (¬2) يراجع في مصير موسى بن نصير: فتوح مصر (ص 211)، وأخبار مجموعة (ص 29 و30)، وابن القوطية (ص 10 - 11)، وابن الأثير (ج 4 ص 216)، والمقري عن ابن حيان وابن بشكوال والحجارى، (نفح الطيب ج 1 ص 134 و135)، وابن خلكان (ج 2 ص 181)، وكذلك كتاب الإمامة والسياسة (ج 2 ص 86، 89 و93، 96). هذا ويبدي المستشرق دوزي ريبه في صحة الروايات والقصص التي قيلت عن مصير موسى بن نصير، ويقول إنه لا يوجد ثمة ما يبررها، لأن موسى كان يتمتع بحماية يزيد بن المهلب صديق سليمان وصاحب النفوذ لديه، ويستشهد برواية البلاذري إلى أشرنا إليها، وأيضا برواية مؤرخ نصراني معاصر هو إيزيدور الباجي ( Dozy, Hist.V.I.p. 134-135)

هذا ما تردده الرواية الإسلامية عن مصير موسى بن نصير. ومهما كان من الأمر، فإن فاتح الأندلس لم يلق الجزاء الحق، بل غمط حقه وفضله أشنع غمط، وأبدت الخلافة بهذا الجحود والنكران، أنها لم تقدر البطولة في هذا الموطن قدرها، ولم تقدر عظمة الفتح الباهر الذي غنمته على يد رجلها وقائدها. وكان موسى بن نصير من أعظم رجال الحرب والإدارة المسلمين في القرن الأول للهجرة. وقد ظهرت براعته الإدارية في جميع المناصب التي تقلدها، كما ظهرت براعته الحربية في جميع الحملات البرية والبحرية التي قادها. على أن هذه المواهب تبدو بنوع خاص في حكمه لإفريقية، حيث كانت الحكومة الإسلامية تواجه شعباً شديد المراس، يضطرم بعوامل الانتقاض والفتنة، وإذا كان موسى قد أبدى في معالجة الموقف وإخماد الفتنة كثيرا من الحزم والشدة، فقد أبدى في الوقت نفسه خبرة فائقة بنفسية الشعوب، وبراعة في سياستها وقيادتها. وكان موسى فوق مواهبه الإدارية والعسكرية غزير العلم والأدب، متمكنا من الحديث والفقه، عالماً بالفلك مجيداً للنثر والنظم. غير أن هذه المواهب والخلال البديعة كانت تشوبها نزعة قوية إلى الطغيان والبطش، وشهوة الحقد والحسد (¬1). وإلى موسى بن نصير يرجع الفضل الأول في عبور الإسلام إلى أوربا من الغرب وقيام دولته فيها، بعد أن اخفقت محاولته في العبور إليها من المشرق عن طريق قسطنطينية. ومع أن سيل الفتح الإسلامي رد غير بعيد في سهول بلاط الشهداء، فإن الإسلام استطاع مع ذلك أن يستقر في إسبانيا قروناً، يبهر بضوء مدنيته الزاهرة جميع الأمم الأوربية في العصور الوسطى. * * * هذا ما كان من شأن موسى ومصيره، فماذا كان مصير طارق؟ هذا ما تمر عليه الرواية الإسلامية بالصمت. وكل ما هنالك أنها تشير إلى ما كان من نية سليمان بن عبد الملك في تعيينه والياً للأندلس مكان موسى، وكيف عدل عن ذلك حينما وقف من مغيث الرومي فاتح قرطبة، على ماكان يتمتع به طارق في الأندلس من عظيم الهيبة والنفوذ، وذلك توجساً مما قد يجيش به من أطماع ومشاريع نحو ذلك ¬_______ (¬1) نفع الطيب (ج 1 ص 133 و134).

القطر النائي من أقطار الخلافة (¬1). وقد كان مغيث يحقد على موسى وطارق منذ الفتح ويسعى إلى منافستهما والإيقاع بهما، وكان لوقيعته ومساعيه ضدهما أكبر الأثر في استدعائهما إلى دمشق. وإذا كانت هذه الرواية لا تلقى ضوءا كافيا على مصير طارق، فإنها قد تسمح لنا مع ذلك أن نعتقد أن طارقاً لم يلق مثل المصير المحزن الذي لقيه موسى، وأنه بالعكس قد استقبل في بلاط دمشق استقبالا حسناً، وربما أحسن الخليفة فوق ذلك إثابته، بدليل أنه فكر في تعيينه واليا للقطر الذي ساهم في افتتاحه بأعظم قسط. ولكن الرواية الإسلامية لا تحدثنا بعد ذلك عن طارق بشىء، ولا تذكر لنا أين ومتى توفي، بل تسدل على نهايته حجابا عميقا من الصمت (¬2). وليس في وسعنا إزاء هذا الغموض الذي يحيط بسيرة طارق أن نتحدث عن صفاته وخلاله، وكل ما نستطيعه في هذا الموطن هو أن ننوه بخلاله العسكرية الباهرة، التي ظهرت بوضوح في حروب المغرب وفتح الأندلس، وهو بهذه الخلال يتبوأ مكانته بين أعظم الفاتحين المسلمين. أما مصير الكونت يوليان الذي مهد لفتح الأندلس، فلم تشر إليه الرواية الإسلامية. وفي بعض الروايات أنه عاد بعد الفتح إلى سبتة وأقطع ما حولها من الأراضي، وقُلد إمارتها جزاء خدماته. ولكنه بقي نصرانيا هو وبنوه الأقربون، ثم دخل عقبه في الإسلام بعد ذلك. وتقول الرواية الكنسية الإسبانية إنه قتل بيد مواطنيه في معركة نشبت بينه وبينهم، أو أنه قتل بعد ذلك بأعوام في ولاية الحر الثقفي بيد العرب لريبة في ولائه. وتقول هذه الرواية أيضاً إن العرب أعدموا ابني وتيزا وأفراد أسرته لمثل هذا السبب (¬3). وهذا ما تنفيه الرواية الإسلامية وتؤكد عكسه. فالمصادر الإسلامية تجمع كلها على أن العرب أحسنوا معاملة إيفا (أو إيبا) وسيزبوت ابني وتيزا وعمهما أوباس؛ فأما أوباس فقد عين كما تقدم مطراناً لطليطلة، وأقطع إيفا وسيزبوت ما كان لأبيهما من الضياع. ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 55. (¬2) ولا نعرف مصدرا لما يقوله السيد أمير على من أن طارقا لقي نفس المصير التعس الذي قيل إن موسى لقيه وأنه مات في فقر وضعة: History of the Saracens p. 122 (¬3) Empire, V. I. P. 259 Ch Li - Scott: Moorish.P. 324.Cardonne: ibid. V.I.P.85 - Gibbon, ibid.II. Cronica General ; Vol

ثم توفي إيفا أكبر الأخوين بعد ذلك بأعوام عن إبنة تدعى سارة وولدين صغيرين، فاغتصب سيزبوت ميراثه وضياعه، فبادرت سارة بالسفر مع أخويها إلى دمشق، وشكت عمها إلى الخليفة هشام بن عبد الملك، فأنصفها وقضى لها برد ميراث أبيها، وبعث بذلك إلى والي الأندلس أبي الخطار الكلبي. وتزوجت سارة في دمشق من سيد عربي يدعى عيسى بن مزاحم، ورزقت منه بولدين هما إبراهيم وإسحاق. ثم عادت مع زوجها إلى الأندلس، وأحرز ولداها، مكانة ممتازة. وإليها ينتمي نسب ابن القوطية القرطبي المؤرخ، نسبة إلى لقبها العربي وهو سارة " القوطية " (¬1). ¬_______ (¬1) تضطرب معظم الروايات العربية في ذكر ابناء وتيزا، فتقول إنه ترك ثلاثة بنين وتسميهم المند ورملة وارطباس. والظاهر أن الخطأ في اعتبارها أوباس (ولعله هو أرطباس) ابنا لوتيزا. والمند هو إيفا ورملة هو سيزبوت. (راجع فتح الأندلس لابن القوطية ص 5 و6): والمقري (ج 1 ص 125)، ولكن صاحب " أخبار مجموعة " يقرر أنهما اثنان. ويسميهما ششبرت وأبة، وهو تعريب حسن للاسمين (ص 8)، وكذا ابن الأثير (ج 4 ص 213).

الفصل الرابع إسبانيا بعد الفتح الإسلامي

الفصل الرابع إسبانيا بعد الفتح الإسلامي (1) آثار الفتح الإسلامي. سياسة العدل والتسامح. أقوال النقد الغربي الحديث في ذلك. الحرية الدينية. المجتمع الإسلامي الجديد. عناصر الضعف فيه. العرب والبربر والمولدون. الخصومة بين اليمنية والمضرية. أسباب هذه الخصومة. رأى ابن خلدون في تعليلها. الخصومة بين العرب والبربر. أثر دعوة الخوارج في إذكائها. (2) الأقاليم الأندلسية الجديدة. تفرق القبائل في المدن المختلفة. منازل البربر في شبه الجزيرة. ولاية عبد العزيز بن موسى. تنظيمه للحكومة الجديدة. زواجه بأرملة ردريك. التوجس من سياسته. مقتله. بواعث هذه الجريمة. ولاية أيوب ابن حبيب اللخمي. نقل قاعدة الحكم إلى قرطبة. ولاية الحر الثقفي. قمعه للمنازعات والفتن. غزوه لسبتمانيا وافتتاحه لقواعدها. محاربته لثوار الشمال. الإضطراب في قرطبة. ولاية السمح بن مالك. فصل حكومة الأندلس عن إفريقية. فكرة عمر بن عبد العزيز في جلاء المسلمين عن الأندلس. إصلاحات السمح ومنشآته. غزوه لسبتمانيا. زحفه على تولوشة. - 1 - كان فتح الإسلام لاسبانيا فاتحة عصر جديد، وبدأ تطور عظيم في حياتها العامة وفي نظمها الاجتماعية. وقد كانت لعهد الفتح كما رأينا ترزح في غمر مرهقة من الجور والعسف، وكانت أقلية باغية من الأمراء والنبلاء تسود شعباً بأسره وتستغله أشنع استغلال، وتفرض عليه رسوم الرق والعبودية، وتستبيح منه كل الحريات والحرم. فجاء الإسلام ليقضي على ذلك كله، وليحمل نعم العدل والحرية والمساواة إلى الناس جميعاً، وليعطي كل ذي حق حقه، وليقمع البغي والظلم. وبالرغم من أن العرب شغلوا حيناً بتوطيد الفتح الجديد وتوسيعه، فإنهم استطاعوا في أعوام قلائل أن يقمعوا عناصر الشر والفوضى، وأن ينظموا إدارة البلاد المفتوحة، وأن يبثوا في الجزيرة روحا جديدا من العزم والأمل، فنشطت الزراعة والصناعة والتجارة بعد ركودها، وهبت ريح من الرخاء والدعة، على مجتمع أضناه العسف والفاقة مدى عصور. قضى الفتح على سلطان الطبقات الممتازة، فتنفس الشعب الصعداء، وخف عن كاهله ما كان ينوء به من الأعباء والمغارم. وفرض المسلمون الضرائب

بالمساواة والاعتدال والعدل، بعد أن كان يفرضها حكم الهوى والجشع، وأمن الناس على حياتهم وحرياتهم وأموالهم. وترك الفاتحون لرعاياهم الجدد حق اتباع قوانينهم وتقاليدهم، والخضوع لقضائهم وقضاتهم، واختاروا في معظم الأحوال لهم حكاما من أبناء جنسهم، يعهد إليهم بسن الضرائب المطلوبة، والإشراف على النظام والسكينة. أما في شأن الدين وحرية العقائد والضمائر، فقد كانت السياسة الإسلامية مثلا أعلى للتسامح. فلم يظلم أحد أو يرهق بسبب الدين أو الاعتقاد، وكان أداء الجزية هو كل ما يفرض على الذميين من النصارى أو اليهود، لقاء الاحتفاظ بدينهم وحرية عقائدهم وشعائرهم, ومن دخل الإسلام منهم سقطت عنه الجزية، وأصبح كالمسلم سواء بسواء في جميع الحقوق والواجبات. ونرى في هذا الموطن أن نقدم طائفة من الأقوال والآراء التي يعلق بها المؤرخون والنقدة الغربيون، على سياسة الفتح الإسلامي وآثاره في اسبانيا. يقول العلامة المستشرق رينهارت دوزي: " لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي مما يدعو إلى كثير من الشكوى بالنسبة لما كانت عليه من قبل. أضف إلى ذلك أن العرب كانوا يتحلون بكثير من التسامح. فلم يرهقوا أحداً في شئون الدين. ولم تكن الحكومة - إذا لم تكن مغرقة في الدين - لتشجع إسلام النصارى، إذ كانت خزانة الدولة تخسر بإسلامهم كثيرا. ولم يغمط النصارى للعرب هذا الفضل، بل حمدوا للفاتحين تسامحهم وعدلهم، وآثروا حكمهم على حكم الجرمان والفرنج وانقضى القرن الثامن كله في سكينة، وقلما نشبت فيه ثورة. كذلك لم يبد رجال الدين في العصور الأولى كثيراً من التذمر، وإن كانت لديهم أكثر البواعث لذلك. وهذا ما تؤيده روح الرواية اللاتينية التي كتبت سنة 754 في قرطبة، والتي تنسب لإيزيدور الباجي، فإن كاتبها رغم كونه من رجال الدين، يبدي نحو المسلمين من العطف، ما لم يبده أى كاتب إسباني آخر قبل القرن الرابع عشر ". ويقول دوزي عن آثار الفتح الإجتماعية: " كان الفتح العربي من بعض الوجوه نعمة لإسبانيا. فقد أحدث فيها ثورة إجتماعية هامة، وقضى على كثير من الأدواء التي كانت تعانيها البلاد منذ قرون .. وحطمت سلطة الأشراف والطبقات الممتازة أو كادت تمحى، ووزعت الأراضي توزيعاً كبيرا، فكان ذلك حسنة سابغة، وعاملا في ازدهار الزراعة إبان الحكم العربي. ثم كان الفتح عاملا في تحسين أحوال الطبقات المستعبدة،

إذ كان الإسلام أكثر تعضيداً لتحرير الرقيق من النصرانية، كما فهمها أحبار المملكة القوطية. وكذا حسنت أحوال أرقاء الضياع، إذ غدوا من الزراع تقريبا، وتمتعوا بشىء من الإستقلال والحرية " (¬1). ويقول الأستاذ لاين بول: " أنشأ العرب حكومة قرطبة التي كانت أعجوبة العصور الوسطى، بينما كانت أوربا تتخبط في ظلمات الجهل، فلم يكن سوى المسلمين من أقام بها منائر العلم والمدنية ". " ماكان المسلمون كالبرابرة من القوط أو الوندال، يتركون وراءهم الخراب والموت. حاشا، فإن الأندلس لم تشهد قط أعدل وأصلح من حكمهم. ومن الصعب أن نقول أنى اكتسب العرب تلك الخبرة الفائقة بالشئون الإدارية، فقد خرجوا من الصحراء إلى الغزو، ولم يفسح لهم تيار الفتح مجالا يدرسون فيه إدارة الأمم المفتوحة " (¬2). ويقول المستشرق الإسباني جاينجوس: " لقد سطعت في اسبانيا (الأندلس) أول أشعة لهذه المدنية، التي نثرت ضوءها فيما بعد على جميع الأمم النصرانية. وفي مدارس قرطبة وطليطلة العربية، جمعت الجذوات الأخيرة للعلوم اليونانية بعد أن أشرفت على الانطفاء، وحفظت بعناية. وإلى حكمة العرب، وذكائهم، ونشاطهم، يرجع الفضل في كثير من أهم المخترعات الحديثة وأنفعها " (¬3). وقال المؤرخ الأمريكي سكوت: " في أقل من أربعة عشر شهراً، قضى ¬_______ (¬1) II, p. 277 - 278. Dozy: Histoire, V. ويذكر دوزي من جهة أخرى أن الفتح أعقبته فترة من الفوضى نهب فيها المسلمون عدة أماكن، وأحرقوا عدة مدن وشنقوا بعض الأشراف، وقتلوا الأطفال بالخناجر، ولكن الحكومة العربية قمعت في الحال هذه الفظائع (ج 2 ص 275). ويندد من جهة أخرى بقضاء العرب على حرية الكنيسة، واستئثارهم بتكوين المجالس الدينية، وتعيين الأساقفة وعزلهم. ثم يقول إن العرب بعد أن توطد سلطانهم، كانوا أقل احتراما للمعاهدات المعقودة (ج 2 ص 281). ونقول نحن إن دوزي لم يعتمد في سرد هذه الفظائع إلا على الرواية النصرانية وهي متحاملة مغرضة تحمل طابع المبالغة، خصوصا فيما يتعلق بقتل الأطفال. أما تنديده بقضاء العرب على سلطة الكنيسة فليس مما يمكن تبريره، لأن سياسة الفتح المستنيرة، وبواعث توطيد دعائم الدولة الجديدة، تقضي بأن يأخذ الغالب بزمام كل السلطات في البلد المفتوح. (¬2) Lane - Poole: The Moors in Spain, Ch. I. (¬3) p VII & VIII.I.Gayangos: History of the Mohammedan Dynasties in Spain V.P

على مملكة القوط قضاء تاما، وفي عامين فقط وطدت سلطة المسلمين فيما بين إلبحر الأبيض المتوسط وجبال البرنيه. ولا يقدم لنا التاريخ مثلا آخر اجتمعت فيه السرعة والكمال والرسوخ بمثل ما اجتمعت في هذا الفتح ... وقد كان المظنون في البداية أن الغزو إنما هو أمر مؤقت فقط. ولم يتوقع أحد أن يكون احتلال البلاد دائما. فلما استقرت الجماعات المستعمرة، وفتحت الثغور لتجارة المشرق، وأقيمت المساجد، أدرك القوط فداحة الخطب الذي نزل بهم. ولكن اعتدال حكامهم الجدد خفف من ألم الهزيمة. وكان دفع الجزية يضمن الحماية لأقل الناس, وكان يسمح للورع المتعصب أن يزاول شعائره دون تدخل، كمكا يسمح للملحد أن يجاهر بآرائه دون خشية المطاردة، والأحبار يزاولون شئونهم في سلام. أما أقوال الكتاب النصارى التي ينسبون فيها للعرب أفظع المثالب، فهي محض مبالغة أو افتراء " (¬1). أجل، لم يك ثمة ما يدعو لأن يعتبر الفتح الإسلامي لاسبانيا كارثة قومية يفزع لها الشعب ويأسو، بل كان كل ما هنالك بالعكس يدعو إلى اعتباره نذير الخلاص والأمل. ألم يكن شعار الفاتحين التسامح والعدل والمساواة؟ لقد كان تسامح الإسلام نبراساً يشع بضوئه المنقذ في هاتيك المجتمعات التي أضناها الإرهاق الديني، ولم ير الإسلام بأساً من أن يستقبل النصارى واليهود إلى جانب المسلمين في مجتمع واحد، يسوي فيه بينهم في جميع الحقوق والواجبات، ولم ير بأساً من أن تقوم الكنائس والبيع إلى جانب المساجد، ألم يكن ذلك أبدع وأروع ما في سياسة الفتح الإسلامي؟ لقدكانت حرية الضمائر والعقائد والفكر، وما زالت منذ أقدم العصور, أثمن ما تحرص عليه الشعوب الكريمة وتذود عنه. فإذا ذكرنا أن هذا التسامح الذي أبداه الإسلام نحو الأمم المغلوبة، وهذا الاحترام لضمائر الناس وعقائدهم، وهذه الحرية التي تركها لهم في إقامة شعائرهم، إنما جاءت بعد عصور طويلة من الاضطهاد الديني، اتخذت فيها مطاردة الضمائر والعقائد أشنع الأساليب والصور، استطعنا أن نقدر ما كان لذلك الانقلاب من ¬_______ (¬1) Scott: ibid, V.I.P 260 & 264. وينوه باحث أمريكي حديث آخر هو الدكتور لي Lea بتسامح العرب والمسلمين خلال العصور الوسطى، وترفعهم عن الخصومات الدينية، وبغض الأجناس أو التفرقة بينها. راجع: History of the Inquisition in Spain V.I.P.356.

أثر عميق في نفسية الشعوب المغلوبة وعواطفها، وما كانت تحبو به حكم الإسلام من التأييد والرضى. ويبدي كثير من العلماء الإسبان أنفسهم مثل هذا التقدير، والإشادة باعتدال السياسية الإسلامية وآثار مسلكها المستنير. ذلك أن العرب تركوا الشعب المغلوب دون مضايقة، يحيا حياته الخاصة في نظمه وتقاليده. وهذا ما يسلم به المستشرق سيمونيت، بالرغم من كونه من أشد العلماء الإسبان تحاملا، فهو يقول لنا " إنه فيما يتعلق بالقوانين المدنية والسياسية، فإن النصارى الإسبان احتفظوا في ظل حكم الإسلامي بنوع من الحكومة الخاصة، واحتفظ الناس بأحوالهم القديمة دون تغيير كبير؛ وفيما يتعلق بالتشريع، فإنهم قد احتفظوا في باب النظم الكهنوتية بقوانين الكنيسة الإسبانية القديمة، واحتفظوا في الناحية المدنية بالقوانين القوطية أو قانون التقاضي " Fuero Juzgo "، يخضعون لها في كل ما له علاقة بحكومتهم. وهي حكومة بلدية محلية، وما لم يكن يتعارض مع القوانين والسياسة الإسلامية " (¬1). وفيما يتعلق بالناحية النظامية يقول العلامة ألتاميرا، إن أغلبية الشعب الإسباني الروماني والقوطي بقيت في ظل حكم المسلمين محتفظة برؤسائها (وهم الأقماط أو الكونتات Condes) وقضائها وأساقفتها وكنائسها، وبالجملة بقيت محتفظة بما يشبه استقلالها المدني الكامل. وقنع الولاة بأن يفرضوا على النصارى المحكومين الضرائب الشرعية " (¬2). ويقول المستشرق كارديناس: " إن الفضل يرجع إلى تسامح الولاة والأمراء الأوائل، في أنه خلال العصور الأولى من الحكم الإسلامي، كان الشعبان - المسلمون والمستعربون (النصارى) - يعيشان جنباً إلى جنب عيشة حرة ". " واستطاع المستعربون في ظل الحكم الإسلامي أن يحتفظوا باستقلالهم، ولغتهم وعاداتهم وقوانينهم، وأحياناً بأساقفتهم وكونتاتهم، وأن يسهروا على صيانة الفنون القوطية التي كان العرب أنفسهم يقتبسون من أساليبها " (¬3). ¬_______ (¬1) V. I. p. 106 (Madrid 1897) D. Francisco J. Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana (¬2) R. Altamira y Crevea: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola (Barcelona 1900) T. I. P. 217 (¬3) O. Almagro y Cardenas: La Cultura Arabigo - Sevillana (Sevilla 1894) P. 10

ونكتفي بما تقدم من أقوال المؤرخين والمفكرين الغربيين في الإشادة باعتدال السياسة الإسلامية وتسامحها. وفي أقوالهم أبلغ رد على ما ينسبه بعض الأحبار والعلماء المتعصبين لحكم المسلمين، من ضروب التعصب والطغيان المدني والديني. غير أن هذا الدولة الجديدة التي أنشأها الإسلام في اسبانيا، كانت تحمل منذ البداية جرثومة الخلاف الخطر. وكان هذا المجتمع الجديد الذي جمع الإسلام شمله ومزج بين عناصره، يجيش بمختلف الأهواء والنزعات، وتمزقه فوارق الجنس والعصبية. كانت القبائل العربية ما تزال تضطرم بمنافساتها القديمة الخالدة، وكان البربر الذين يتألف منهم معظم الجيش، يبغضون قادتهم ورؤساءهم العرب، وينقمون عليهم استئثارهم بالسلطهّ والمغانم الكبيرة، واحتلالهم لمعظم القواعد والوديان الخصبة، وكثيراً ما رفعوا لواء العصيان والثورة. وكان المسلمون الإسبان وهم " المولدون أو البلديون " (¬1) محدثين في الإسلام، يشعرون دائماً بأنهم رغم إسلامهم، أحط من الوجهة الاجتماعية، من سادتهم العرب. ذلك أن العرب رغم كون الإسلام يسوي بن جميع المسلمين في الحقوق والواجبات، ويمحو كل فوارق الجنس والطبقات، كانوا يشكون في ولاء المسلمين الجدد، ويضنون عليهم بمناصب الثقة والنفوذ، هذا إلى أن العربي في الأقطار القاصية التي افتتحها بالسيف، لم يستطع أن يتنازل عن كبرياء الجنس، التي كانت دائما من خواص طييعته، فكان مثل الإنكليزي السكسوني يعد نفسه أشرف الخليقة (¬2). على أن الخلاف بن العرب أنفسهم كان أخطر ما في هذا المجتمع الجديد من عوامل التفكك والانحلال، فقد كانت عصبية القبائل والبطون، ما تزال قوية حية في الصدور، وكان التنافس على السلطان والرياسة بين الزعماء والقادة، يمزق الصفوف ويجعلها شيعا وأحزاباً، وكانت عوامل الغيرة والحسد تعمل عملها في نفوس القبائل والبطون المختلفة. وأشد ما كانت تستعر نار ذلك الخلاف والتنافس بين اليمنية والمضرية، وذلك لأسباب عديدة ترجع إلى ما قبل الإسلام. منها أن الرياسة كانت لعصور طويلة قبل الإسلام في حمير وتُبع، أعظم القبائل اليمنية، وكانت لهم دول ومنعة وحضارة زاهرة، بينما كانت مضر بدوا متأخرين يخضعون لحمير ويؤدون ¬_______ (¬1) ابن القوطية - افتتاح الأندلس - ص 30. (¬2) Ameer Ali: ibid, p. 118

الجزية لهم. وكان بينهما خصومات وحروب مستمرة طويلة الأمد، إذ كانت حمير تعمل للاحتفاظ برياستها وسلطانها، وتجاهد مضر في سبيل استقلالها وحريتها. ولنا في " أيام " العرب ووقائعها المشهورة، أمثلة رانعة من هذا النضال. قال ابن خلدون: " واستمرت الرياسة والملك في هذه الطبقة اليمانية أزمنة وآماداً، بما كانت صبغتها لهم من قبل، وأحياء مضر وربيعة تبعاً لهم - فكان الملك بالحيرة ْللخم في بني المنذر، وبالشام لغسان في بني جفنة، ويثرب كذلك في الأوس والخزرج. وما سوى هؤلاء من العرب فكانوا ظواعن بادية وأحياء ناجعة. وكانت في بعضهم رياسة بدوية وراجعة في الغالب إلى أحد هؤلاء. ثم نبضت عروق الملك، وظهرت قريش على مكة ونواحى الحجاز، أزمنة عرفت فيها منهم ْودانت الدول بتعظيمهم. ثم صبغ الإسلام أهل هذا الجيل، فاستحالت صبغة الملك إليهم وعادت الدول لمضر من بينهم، واختصت كرامة الله بالنبوة بهم، فكانت فيهم الدول الاسلامية كلها، إلا بعضاً من دولها قام بها العجم اقتداء بالملة وتمهيداً للدعوة " (¬1). وهكذا أسفر النضال لظهور الإسلام عن تحول في الرياسة، إذ انتهت إلى قريش زعيمة المضرية، بعد أن لبثت عصوراً طويلة في اليمنية، وانقلبت الآية، فأصبحت المضرية تعمل على الاحتفاظ برياستها، واليمنية تجاهد في انتزاعها منها. وكانت مسألة اللغة أيضاً من أسباب ذلك الخلاف. ذلك أن لسان حمير، كان أصل اللغة العربية التي اعتنقتها مضر، وأسبغت عليها آيات باهرة من الفصاحة والبيان، ونزل بها القرآن الكريم على النبي القرشي المضري - صلى الله عليه وسلم -، فكانت اللغة من مفاخر مضر، تغار عليها وتحافظ على سلامتها ونقائها، بينما فسدت لهجات القبائل الأخرى بالاختلاط وضعف بيانها. وفي ذلك قول ابن خلدون: " ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها، لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم، ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وتميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وأياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم " (¬2). أضف إلى هذا وذاك ما كان بين الفريقين من تباين شديد ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 2 ص 239 و240. (¬2) ابن خلدون ج 1 (المقدمة) ص 487.

في الطبائع والخلال، مما كان يذكى بينها أسباب النفور والتباعد. وقد كان الإسلام مدى حين عاملا قوياً في جمع الكلمة، وتوطيد الصفوف، وتلطيف أسباب الخصومة، ولاسيما في شبه الجزيرة العربية. ولكن ما كاد ينقضي العصر الأول، حتى هبت كوامن الخصومة والنضال من مرقدها، وعادت تعصف بوحدة المجتمع الإسلامي، وكان هذا الخلاف أخطر وأشد في الأقطار القاصية التي افتتحها الإسلام، ففتحت أمام القبائل والأجناس المختلفة، التي تعمل معا تحت لوائه، مجالا واسعا للتنافس والتطاحن. وكان هذا هو بالأخص شأن المجتمع الإسلامي المضطرم المتنافر، الذي قام عقب الفتح في اسبانيا. وكانت إفريقية وهي أقرب قطر إسلامي لإسبانيا، وتتبعها حكومة الأندلس من الوجهة الإدارية، تفيض أيضاً بعناصر اضطراب خطرة. فقد نزح إليها الدعاة الخوارج منذ أواخر القرن الأول، وذاعت مبادئ الخوارج الثورية بين البربر بسرعة، لحداثة عهدهم بالإسلام، وتعددت نحلهم وطوائفهم، واشتد الخلاف والجدل فيما بينهم، وفسد من جهة أخرى مابينهم وبين العرب من علائق الإخاء والمودة، وكثر نزوعهم إلى الثورة. وهذا ما يصفه ابن خلدون في قوله: " ثم نبضت فيهم (أى البربر) عروق الخارجية، فدانوا بها، ولقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق، وتعددت طوائفهم، وتشعبت طرقها من الإباضية والصفرية. وفشت هذه البدعة، وعقدها رؤوس النفاق من العرب، وجرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة الانتزاء على الأمر، فاختلفوا في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر، تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها، إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمر العرب " (¬1). واشتد تحريض الخوارج على حكومة الأمويين في إفريقية، بعد أن أخفقوا في مقاومتها في العراق، وتوالت الثورات والحروب الأهلية حينا. وكان لذلك كله صداه في اسبانيا، وخصوصا بن البربر الذين يتألف منهم معظم الجيش، فاضطرب أمر الحكم والنظام في الأندلس، وذكا الخلاف بين الزعماء والقادة على نحو ما قدمنا، ولبثت حكومة اسبانيا العسكرية مدى حين عرضة للخروج والثورة، وذهب ضحية الفتنة جماعة من الحكام والزعماء كما نفصل بعد. ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 110.

- 2 - عنى الفاتحون عقب الفتح بتنظيم شئون الحكم والإدارة، فقسمت اسبانيا على ضوء تقسيمها القديم أيام الرومان والقوط، في المبدأ، إلى أربع ولايات كبيرة على رأس كل منها حاكم محلي يعينه الحاكم العام، ويُسئل أمامه مباشرة عن أعماله وشئون إدارته. أما حاكم الأندلس أو واليها العام، فكان تعيينه في المبدأ راجعا إلى حاكم إفريقية يختاره بموافقة الخليفة. وكانت الولاية الأولى تشمل إقليم الأندلس، الممتد بين البحر المتوسط ونهر الوادي الكبير، وما يلي هذا النهر حتى نهر وادي أنة أو وادي يانة، وأشهر مدنها قرطبة، وإشبيلية، ومالقة، وإستجة، وجيان. وتشمل الثانية جميع اسبانيا الوسطى، من البحر المتوسط شرقا إلى حدود البرتغال غربا (لوزيتانيا)، ثم إلى نهر دويره (دورو) شمالا، وأشهر قواعدها طليطلة، على نهر تاجُه، وقونقة وشقوبية، وبلنسية، ودانية، ولقنت، وقرطاجنة، ومرسية، ولورقة، وبسطة. وتشمل الثالثة جليقية ولوزيتانيا (البرتغال القديمة)، وأشهر قواعدها ماردة، ويابرة، وباجة، وأشبونة، وقلمرية، ولك، وأسترقة، وشلمنقة وغيرها. وتمتد الرابعة من نهر دويره إلى جبال البرنيه (جبال البرت أو الممرات) على ضفتي نهر إبره (إيبرو)، وغربا إلى جليقية. وأشهر قواعدها سرقسطة، وطرطوشة، وطركونة، وبرشلونة، وأرقلة (أرجل)، وبلد الوليد، ووشقة، وببشتر وغيرها. ولما اتسع نطاق الفتوح الإسلامية شمالا، أنشئت ولاية خامسة شمالي جبال البرنيه شاملة لأربونة، ونيمة (أونومشو)، وقرقشونة، وبزييه، وأجده، وماجويلون (أو مقلون)، ولوديف (¬1). ففي هذه الولايات والقواعد الجديدة تفرقت القبائل والعشائر المختلفة، فنزلت قبائل دمشق بكورة قرطبة، وحمص بإشبيلية ولبلة وأنحائهما، وقنسرين بجيان وأنحائها، وفلسطين بشذونة والجزيرة وريُّه ومالقة وأنحائها، وقبائل اليمن بطليطلة وأراضيها، ونزل الفرس بشريش وأحوازها، والعراقيون، بكورة إلبيرة (غرناطة). ¬_______ (¬1) يقدم لنا أبو عبيدة البكرى في وصفه للأندلس تفصيلا لهذا التقسيم، ويسميه تقسيم قسطنطين. وهو يقوم على تقسيم اسبانيا إلى ست وحدات إدارية، تقترب في أوضاعها مما ذكر. (راجع الروض المعطار - الترجمة الفرنسية ص 246).

والمصريون بتدمير وماردة وأشبونة وأراضيها، واستقر الحجازيون بالقواعد الداخلية (¬1). وأما البربر فقد نزل أغلبهم بالأطراف الغربية في نواحي ماردة وبطليوس وأراضي البرتغال، ونواحي الثغر الأوسط شمالي طليطلة فيما وراء نهر التاجُه، وفي بعض أنحاء الثغر الأعلى، وفي قطاع قونقة والسهلة، ونزلت أقليات منهم بين القبائل العربية، بنواحي شاطبة ولقنت، وفي أحواز شذونة وأراضي الفرنتيرة (¬2). ويلاحظ من الناحية الإقليمية، أن القبائل العربية قد احتلت معظم البقاع والوديان الخصبة في شبه الجزيرة، وأن البربر نزلوا أو بعبارة أخرى أنزلوا بالعكس في معظم الأقاليم والهضاب القاحلة، ولم يحتلوا من البقاع الخصبة سوى القليل. وقد كان هذا التقسيم المجحف للأقاليم المفتوحة عاملا آخر في ازدياد الشقاق بين العنصرين الفاتحين - العرب والبربر -. وسنرى فيما بعد كيف كان استقرار البربر في تلك الأطراف الوعرة النائية، من العوامل التي شجعتهم على تحدي السلطة المركزية، ورفع لواء الثورة من آن لآخر. وقد ذكرنا أن موسى بن نصير قبل رحيله إلى المشرق في شهر ذي الحجة سنة 95، اختار ولده عبد العزيز لولاية الأندلس، فكان أول ولاتها من المسلمين، وأنه استخلف ولده عبد الله في ولاية إفريقية، وأن سليمان بن عبد الملك أقر هذا الاختيار. فقضى عبد العزيز بن موسى في ولايته زهاء عامين عنى فيهما بتحصين الثغور، وقمع الخروج والعصيان، وافتتح عدة أماكن وحصون، وأبدى همة في تنظيم الحكومة الجديدة وإدارتها، وأنشأ ديوانا لتطبيق الأحكام الشرعية وتنسيقها، لتوافق مشارب الرعايا الجدد، ولتجمع حولها كلمة المسلمين من مختلف القبائل، وشجع الزواج بين العرب والإسبان، وتزوج هو بالملكة إيجلونا (¬3) أرملة ردريك ملك القوط، واختار في إشبيلية عاصمة، الأندلس ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 119. (¬2) يقدم لنا ابن حزم في كتاب " الجمهرة " بيانا مفصلا عن القبائل والبطون البربرية التي نزلت في شبه الجزيرة، والنواحي التي نزلت بها. راجع " جمهرة أنساب العرب " (القاهرة) ص 464، 465. (¬3) ويسميها العرب " إيلة " أو أم عاصم. وقال الواقدي، ونقله ابن عبد الحكم، إنها كانت ابنة ردريك لا زوجته (أخبار مصر ص 212)، وكذا ورد في البيان المغرب (ج 2 ص 22).

الجديدة، دير " سانتا روفينا " ليكون مقاما له ولزوجه، وفيه أجريت أول تعديلات على الطراز العربي، ووفد عليه المهاجرون من مصر والشأم والعراق وفارس، فأحيوا بالجزيرة سبل الزراعة والصناعة والتجارة. ولكنه لم يستطع أن يوفق بين مختلف القبائل، ولا أن يهدىء من فورة الجند. هذا إلى ما ثار من ريب حول مقاصده ونياته، بانقياده إلى زوجه، واتخاذه نوعاً من رسوم الملك، حتى قيل إنه تنصر، وقيل إنه كان يبغى الملك ويسعى إليه بتحريض زوجه، ويعمل للاستقلال بإسبانيا (¬1). وهذا ما يراه المستشرق سيمونيت، إذ يقول إن عبد العزيز بن موسى كان يدبر مشروعا يرمي إلى الاستقلال بإسبانيا، والى أن يؤسس مملكة أو إمارة مستقلة فوق أنقاض المملكة القوطية، وقد كان مما يدفعه إلى هذا العزم، فضلا عن طموحه الشخصي، تحريض زوجه إيجلونا، التي كانت تضطرم رغبة في استرداد تاجها القديم، وأسباب أخرى تتعلق بالسياسة العليا. ولم يكن يخفى عليه أن سلطان خلفاء المشرق، غدا قاصراً عن أن يسيطر على هذا القطر الغربي، الذي كان سكانه الوطنيون أقل انحطاطا من الأمم الأخرى التي فتحها المسلمون، والذي كان يقدم إلى الفاتحين بعدده وحضارته مزية عظيمة (¬2). وبالرغم من أنه ليست لدينا أدلة حاسمة على مشروع عبد العزيز بن موسى في الاستقلال باسبانيا، فإنه يبدو ممكنا ومعقولا في الظروف التي كانت تجوزها اسبانيا يومئذ. وعلى أي حال، فإن خصومه شنوا عليه وعلى تصرفاته دعاية قوية انتهت بالثورة، فوثب به جماعه من الجند على رأسهم وزيره حبيب بن أبي عبدة الفهري، وقتلوه أثناء صلاته بأحد مساجد إشبيلية، وذلك في رجب سنة 97 (يناير 716 م)، وبعثوا برأسه إلى دمشق. ومن المرجح أن يد الخلافة لم تكن بعيدة عن هذه المؤامرة، وأن سليمان بن عبد الملك هو روحها والمحرض عليها، فمن المعقول أن يتوجس سليمان ريبة من عبد العزيز ومقاصده، بعد الذي أنزله بأبيه موسى، وأن يرى التخلص منه وسيلة لتأمين الخلافة على سلطانها في ذلك القطر الجديد. وفي اهتمام ¬_______ (¬1) ابن الأثير، ج 5 ص 8. وراجع C. Julian: ibid, p. 778 (¬2) F.J. Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana, Vol. I, P. 147

الجناة بإرسال رأس القتيل إلى دمشق اتهام واضح للخليفة. وقد عزل سليمان، عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية، في نفس الوقت. الذي قتل فيه عبد العزيز، وهو ما يؤيد هذا الفرض. أيضا. والواقع أن أكثر من رواية إسلامية وثيقة يلقى تبعة هذه الجريمة على سليمان، ويتهمه البعض صراحة بأنه مدبرها، بل لقد ذهب بعضهم إلى القول بأن سليمان لم يكتف بأن حمل الجناة إليه رأس عبد العزيز، وأنه عرضها على أبيه موسى زيادة في إيلامه والتشفي منه (¬1)، على أن سليمان لم يعدم من الرواة من يبرئه من ارتكاب هذه الجريمة، فقد ذكر لنا صاحب " أخبار مجموعة " أن سليمان أسف لمقتل عبد العزيز، أو بعبارة أخرى أنه برىء من تبعة مقتله، وهي الرواية الوحيدة من نوعها، وهي رواية ظاهرة الضعف (¬2). وعلى أثر مقتل عبد العزيز، اتفق الزعماء في إشبيلية على تولية أيوب بن حبيب اللخمي، وهو ابن أخت موسى بن نصير، وكان عاقلا صالحا، فهدأت الخواطر نوعاً، ولبث في ولايته ستة أشهر نقلت خلالها قاعدة الحكم من إشبيلية إلى قرطبة باتفاق الجماعة (¬3). ثم أقاله محمد بن يزيد الذي خلف عبد الله بن موسى في ولاية إفريقية، وعين لولاية الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فقدمها في ذى الحجة سنة 97 في جماعة كبيرة من وجوه إفريقية. وأنفق الحر صدر ولايته في قمع الفتن والمنازعات التي كانت قائمة بين العرب والبربر، وإصلاح الجيش، ومطاردة الخوارج والمعتدين من الجند، وتنظيم الإدارة وتوطيد الأمن، وكان صارماً جائراً شديد الوطأة. ثم سار نحو الشمال في جيش ضخم ليستعيد المدن والحصون الشمالية التي غزاها المسلمون من قبل، فعبر جبال البرنيه واخترق ولاية سبتمانيا (¬4) أو لانجدوك في ربيع سنة 718 (99هـ)، وكانت مدن سبتمانيا قرقشونة ¬_______ (¬1) راجع ابن عبد الحكم ص 212 و213؛ والبيان المغرب ج 2 ص 22 و23؛ وابن الأثير ج 5 ص 8، وابن القوطية (ص 41) وهو صريح في أن سليمان هو الذي دبر الجريمة وعهد بتنفيذها إلى جماعة معينة من الجند، وابن خلدون وهو صريح أيضا في أن الجريمة تمت بتحريض سليمان (ج 4 ص 118). (¬2) راجع أخبار مجموعة ص 22. (¬3) وهناك رواية أخرى في أن الذي نقل قاعدة الحكم إلى قرطبة هو الحر الثقفي، راجع البيان المغرب ج 2 ص 24 و25؛ ونفح الطيب ج 2 ص 56. (¬4) سميت كذلك لاحتوائها على المدن السبعة أربونة وقرقشونة وأجدة وبيزييه ولوديف ونيمة وماجويلون.

وأربونة وبزييه ونيمة تابعة لمملكة القوط، وكانت تخلفت عن الطاعة بعد أن غزاها المسلمون لأول مرة بقيادة موسى بن نصير على نحو ما قدمنا. فافتتحها الحر واستولى عليها، وتابع زحفه حتى ضفاف نهر الجارون. ولكنه اضطر أن يعود أدراجه، إذ علم أن النصارى في منطقة نافار الجبلية (نبره أو بلاد البشكنس)، قد نظموا حركة مقاومة خطيرة، وأن الأمور قد اضطربت في قرطبة. وكان النظام قد اختل، وعادت المنازعات والدسائس تعمل عملها، في تقويض الأمن والسكينة، فأنفق الحر حينا آخر في قمع الفتنة، حتى عزله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، في منتصف سنة مائة لقسوته وصرامته، واضطراب النظام في عهده، فكانت ولايته سنتان وثمانية أشهر، سادت فيها القلاقل والفتن. واختار عمر بن عبد العزيز لولاية الأندلس السمح بن مالك الخولاني. وقرر أن تكون الأندلس ولاية مستقلة عن إفريقية تابعة للخلافة مباشرة، لما رآه من أهميتها واتساع شئونها، وكانت إلى ذلك الحين تابعة لعامل إفريقية وإليه تعيين ولاتها. ويقال إن عمر بن عبد العزيز فكر في إخلاء الأندلس وإجلاء المسلمين قاطبة عنها، لانقطاعهم بها، وعزلتهم فيما وراء البحر عن باقي أقطار الخلافة، فقيل له إن المسلمين قد تكاثروا بها واستقروا، فعدل عن مشروعه. " قالوا وليت الله تعالى أبقاه حتى يفعل، فإن مصيرهم مع الكفار إلى بوار إلا أن يستنقذهم الله برحمته " (¬1). وقدم السمح إلى الأندلس في رمضان سنة مائة (إبريل سنة 719) مزوداً بنصح الخليفة في أن يتبع الرفق والعدل، وأن يقيم كلمة الحق والدين. وكان السمح حاكما وافر الخبرة والحكمة والعقل. فقبض على زمام الأمور بحزم وهمة، وبادر بقمع المنازعات والفتن، وإصلاح الإدارة والجيش. وخمس جميع أراضي الأندلس التي فتحت عنوة، أعني مسحها وقرر عليها الخراج بنسبة الخمس. ويقول لنا العلامة ألتاميرا، فيما يتعلق بتوزيع أراضي الأندلس ما يأتي: " وقد ترك الفاتحون للإسبان الذين أسلموا أو خضعوا، سواء أكانوا جندا ¬_______ (¬1) أورد هذه الرواية صاحب البيان المغرب (ج 2 ص 25)، ونقلها المقري عن ابن حيان مؤرخ الأندلس (ج 2 ص 56)، وأشار إليها ابن الأثير أيضاً (ج 5 ص 182).

أم نبلاء - حقوقهم في ملكية أملاكهم كلها أو بعضها، مع فرض ضريبة عقارية عليهم مشابهة للخراج هي (الجزية)، على الأراضي المنزرعة والأشجار المثمرة، واتبعت هذه القاعدة نحو بعض الأديار، كما حدث في الامتياز الذي منح لمدينة " قُلُمرية "، وأبيح لهؤلاء الملاك فوق ذلك حرية التصرف في أملاكهم، وهو حق كان وفقا للقوانين الرومانية القديمة مقيدا أيام القوط. وأما مازاد عن الخمس في الأراضي التي استولى عليها الفاتحون، فقد وزع بين الرؤساء والجند، وبين القبائل التي يتألف منها الجيش. " وقد روعي في توزيع الأراضي أن تخصص الولايات الشمالية، وهي جليقية وليون والأسترياس للبربر، وأن تخصص الولايات الجنوبية، أعني الأندلس للقبائل العربية. وكان يفرض على العمال الملازمين siervos من القوط، الذين يشتغلون بزرع الأرض، أن يدفعوا للسيد أو القبيلة المالكة ثلثي أو ثلاثة أخماس المحصول. وكان من أثر ذلك أن تحسنت أحوال المزارعين، كما أنه أدى في نفس الوقت إلى تقسيم الملكية وتمزيق الملكيات الكبيرة. كذلك تحسنت حال العبيد، لأن المسلمين كانوا يعاملونهم بأفضل مما كان الإسبان الرومان والقوط، ولأنه كان يكفي أن يدخل العبد في الإسلام ليغدو حرا " (¬1). وأنشأ السمح قنطرة قرطبة الشهيرة، على نهر الوادي الكبير، تحقيقا لرغبة أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، وأبدى في جميع أعماله حزما ورفقا وعدلا، فالتف الزعماء حوله، وخبت الفتنة وهدأت الخواطر، واستقر النظام والأمن. وكان السمح فوق كفايته الإدارية جندياً جريئاً وقائداً عظيماً. فلما انتهي من مهمة التنظيم والإصلاح، تأهب لاستئناف الغزو، وتوطيد سلطان الخلافة في الولايات الجبلية، والقواعد الشمالية، التي لم يستطع أن يتمم إخضاعها الحر الثقفي. فزحف على لانجدوك (سبتمانيا) في أواخر سنة 719 م في جيش ضخم، وفي جماعة كبيرة من وجوه الزعماء والقادة، واخترق جبال البرنيه من الشرق من ناحية روسيون، واستعاد أربونة وقرقشونة ومعظم قواعد سبتمانيا وحصونها، وعاث في تلك الأنحاء، وشتت كل قوة تصدت لمقاومته. ووقعت هذه الغزوة ¬_______ (¬1) R. Altamira. Historia de Espana. V.I.p. 217-218.

الشاملة في سنة 720 م (101 هـ). ويقول إيزيدور الباجي إن العرب اجتاحوا يومئذ غاليس القوطية كلها وجميع قواعد سبتمانيا (¬1). ثم اتجه السمح بعد ذلك نحو الشرق ليغزو مملكة الفرنج الجنوبية أو أكوتين، وزحف توا على قاعدتها تولوشة (تولوز) (¬2)، وبدأ بذلك النضال بين العرب والفرنج في بسائط غاليس قوياً رائعاً. ¬_______ (¬1) Dom Vissette: ibid. V.I.p. 781. (¬2) ويسميها ابن عذارى طرسونة (البيان المغرب ج 2 ص 25) وهو تحريف ظاهر لأن طرسونة كانت من أعمال تطيلة في شمال شرق الأندلس (راجع معجم ياقوت).

الفصل الخامس غاليس بين العرب والفرنج

الفصل الخامس غاليس بين العرب والفرنج (1) مملكة الفرنج. نزوحهم من الشمال إلى فرنسا. كلوفيس أول ملوكهم. كلوتير الثاني. داجوبرت. نمو مملكة الفرنج. ضعف سلطان العرش. الزعماء المحليون. محافظ القصر. الأسرة الكارلية. نفوذها وتقدمها في الرياسة. المعارك الأهلية. قيام إمارة أكوتين. ببين دي هرشتال محافظ القصر. حفيده تودفالد يخلفه. ولده كارل مارتل ينتزع السلطة لنفسه. الدوق أودو أمير أكوتين. السمح يغزو إمارته. موقعة تولوشة ومقتل السمح. (2) انتخاب عبد الرحمن الغافقي للرياسة. إخماده للفتنة في الشمال. ولاية عنبسة بن سحيم الكلبي. رد الأندلس إلى حكومة إفريقية. سير عنبسة الى الشمال. غزوه لسبتمانيا. استيلاؤه على قرقشونة. غزوه لوادي الرون. تفاهم أودو مع المسلمين. أقوال ايزودور الباجي. كمين الفرنج لعنبسة ومقتله. تتابع الولاة على الأندلس. عزرة بن عبد الله الفهري. يحيى بن سلمة الكلبي. عثمان بن أبي نسعة الخثعمي. حذيفة بن الأحوص القيسي. الهيثم ابن عبيد الكلابي. اضطراب شئون الأندلس. غزو الفرنج لمواقع المسلمين. اجتماع فلول القوط في جليقيه. إصلاحات الهيثم. عبوره إلى سبتمانيا. غزوه لوادي الرون وبرجونية. ولاية محمد ابن عبد الله الأشجعي. ولاية عبد الرحمن الغافقي الثانية. مواهبه وخلاله. بوادر الثورة في الشمال. منوسة حاكم الولايات الشمالية. غموض شخصيته. أطماعه ومشاريعه. تفاهمه مع أودو دوق أكوتين وتحالفه معه. اقترانه بلامبيجيا ابنة الدوق. ارتياب عبد الرحمن في موقفه وتصرفاته. إرساله جيشا إلى الشمال. فرار منوسة ومقتله وأسر زوجه. مخاوف أودو. تأهب عبد الرحمن للغزوة الكبرى. سيره إلى الشمال. زحفه على مدينة آرل واستيلاؤه عليها. اختراقه لأكوتين. موقعة الدردون وهزيمة الفرنج. استيلاء عبد الرحمن على بوردو. سيره ثانية إلى وادي الرون. استيلاؤه على ليون وبيزانصون وصانص. زحفه غربا نحو اللوار. أقوال الفيلسوف جيبون. - 1 - يجدر بنا قبل أن نمضي في تتبع الغزوات الإسلامية لتلك الأنحاء، أن نقول كلمة عن مملكة الفرنج تمهيداً لما سيجىء من لقاء العرب والفرنج وتطور العلائق يينهما. كان الفرنج (أو الفرنك) شعبة من القبائل الجرمانية استقرت منذ أواخر القرن الخامس للميلاد، بين نهر الرَّين والبحر في إقليم فلاندر وما إليه (البلجيك الحديثة)، ثم على ضفاف الرين الوسطى والموزل. وفي نهاية القرن الخامس كان زعيم هذه القبائل أمير شجاع مقدام يدعى كلوفيس بدأ حكمه في مدينة "تورني".

وفي سنة 486 م غزا شمال فرنسا وانتزعه من يد الحاكم الروماني سباجريوس، وكان قد أقام به دولة مستقلة، ثم حارب قبائل " الألماني " القاطنة شرق نهر الرين، وافتتح أراضيها حتى بافاريا. وفي سنة 507 م حارب كلوفيس القوط، وكانوا قد استقروا كما قدمنا في القسم الجنوبي من فرنسا المسمى بغاليا (أو غاليس) وقتل ملكهم ألاريك، واستولى على الأراضي الواقعة ما بين اللوار والبرنيه، عدا ولاية سبتمانيا (لانجدوك) التي بقيت في يد القوط. واعتنق كلوفيس النصرانية وأذاعها بين قبائله الوثنية، وجعل باريس مقر ملكه الشاسع، وبذا قامت مملكة الفرنج القوية أصل فرنسا الحديثة. وتابع أبناء كلوفيس وخلفاؤه من بعده سياسة الفتح، وافتتحوا برجونية وأواسط ألمانيا وشمالي إيطاليا. ثم وقعت الحرب الأهلية حينا بين أمراء الفرنج الذين اقتسموا تراث كلوفيس، حتى جاء كلوتير الثاني سنة 613 م فبسط سلطانه على غاليس كلها (فرنسا) (¬1)، واستأنف الفتح لإخضاع باقي الإمارات الفرنجية الواقعة شرقي الرين. وسار ولده داجوبيرت في أثره، وجمع كلمة الفرنج تحت لواء واحد، وغلبت سلطة الفرنج على ألمانيا الغربية ثانية، وهذبت النصرانية التي جاهد في إذاعتها الفرنج بين هذه القبائل المتوحشة، كثيراً من خشونتها، وقضت على كثير من رسومها الوثنية. ولكن داجوبيرت كان آخر ملك من الفرنج الميروفنجية - أسرة كلوفيس (¬2) - استطاع أن يقبض على زمام السلطة المركزية بيد قوية. ذلك أن نظام الإقطاع والعشائر، كان يسود هذه المملكة الشاسعة، وكانت جمهرة من الأمراء والدوقات والكونتات تتقاسم السلطة في مختلف الولايات والأنحاء، وكلما ضعف سلطان العرش اشتد نفوذ أولئك الزعماء المحليين. وكان أولئك الزعماء قد استطاعوا خلال العصور المتعاقبة، أن يحدوا تباعا من سلطة العرش، وأن يحرزوا لأنفسهم كثيرا من الامتيازات والسلطات، فلما جاء كلوفيس استطاع بعزمه وصرامته، أن يقبض على السلطة المركزية بيد قوية، وأن يبسط على مملكة الفرنج كلها سلطانا مطلقا، واستطاع بعض خلفائه ¬_______ (¬1) تطلق كلمة غاليس في الرواية الإسلامية على جنوب فرنسا، وهي تعريب حسن لكلمة Gaule أو Gaulia ( راجع ابن الأثير ج 4 ص 213). وتسمى فرنسا أيضا في الجغرافية العربية بالأرض الكبيرة. (¬2) The Merovingians، نسبة إلى مؤسس أسرتهم الملك مرفيج جد كلوفيس.

حتى داجوبيرت أن يبسطوا مثل هذا السلطان حيناً. ولكن خلفاء داجوبيرت كانوا رجالا ضعاف الخلال والعزائم، ينغمسون في نعماء الترف والملاذ، فضعف سلطان العرش، وانهارت السلطة المركزية القوية التي كان يقبض عليها، واسترد الأشراف والزعماء المحليون استقلالهم وامتيازاتهم. هذا إلى أن ما استطاع العرش أن يحتفظ به من السلطات، امتدت إليه سلطة جديدة في القصر ذاته، هي سلطة محافظ القصر. وكان هذا المنصب في المبدأ متواضعا، ليست له أية صفة سياسية أو إدارية، تقتصر مهامه على النظر في شئون القصر المنزلية، ولكنه غدا منذ أوائل القرن السابع، أعني منذ أخذت سلطة العرش في الضعف، منصبا هاماً، يتولاه رجال أقوياء يتطلعون إلى السلطان، وتؤازرهم عصبية الأسرة والثروة، وأصبح بمضي الزمن أهم مناصب الدولة السياسية والإدارية، يستأثر صاحبه بكل السلطات الحقيقية، وإليه منتهى الأمر في أخطر شئون الدولة، يباشرها باسم العرش ومن ورائه، ولا يباشر الملك إلى جانبه غير رسوم الملك الإسمية، ويلتف حوله الزعماء والأكابر، ويباشر في معظم الأحيان سلطة الملك الحقيقية، خصوصاً إذا كان الملك طفلا قاصراً، فهو عندئذ يغدو الملك الحقيقي باسم الوصي أوالنائب. وكانت الأسرة الكارلية (¬1) القوية قد اختصت بهذا المنصب الخطير، منذ عهد الملك داجوبيرت، وأخذت تهدد بنفوذها وقوتها مصير الأسرة الميروفنجية الملكية. وكانت أقوى بطون الفرنج في أوستراسيا (مملكة الفرنج الغربية)، تملك ضياعاً شاسعة ما بين نهري الرَّين والموز وتتزعم جماعة النبلاء، وترعاها الكنيسة لنفوذها وسلطانها، ويمنح زعيمها محافظ القصر لقب " دوق الفرنج " تنويها برياسته وسلطانه، الذي أصبح فوق سلطان العرش. وكان انحلال الأسرة الميروفنجية وانهيار سلطانها على هذا النحو، سببا في تفرق كلمة الفرنج وانحلال الإمبراطورية الفرنجية الشاسعة، وتطلع الزعماء إلى الاستقلال والرياسة، أسوة بما انتهى إليه محافظ القصر؛ فاضطرمت الحرب الأهلية حيناً بين الفرنج في أوستراسيا والفرنج في نوستريا (الفرنج الشرقية)، وأسفر هذا الصراع عن استقلال ولاية أكوتين في غاليا الجنوبية، وكذا استقلال معظم الولايات الألمانية، برياسة طائفة من ¬_______ (¬1) Carlovingians أو Carolingians، نسبة إلى أعظم ملوكها كارل الأكبر أو الإمبراطور شارلمان.

الأمراء الأقوياء. ثم آل منصب المحافظ في أواخر القرن السابع إلى أمير مقدام جرىء من الأسرة الكارلية، هو ببين دى هرشتال، فحارب الفرنج الخوارج في فريزيا وسكسونيا وبافاريا وأخضعهم، ولبث محافظا للقصر يحكم مملكة الفرنج في الشرق والغرب بقوة وعزم، مدى سبعة وعشرين عاماً، تم توفي سنة 715 م موصياً بمنصبه لحفيده الطفل تودفالد، ولد ابنه جريمولد الذي قتل قبل وفاته. وكان لببين ولد آخر من زوجته " ألفايده " ابنه راتبود زعيم فريزيا الوثني، وهو كارل (أو شارل) مارتل، تركه أبوه فتى قوياً في نحو الثلاثين من عمره، وكان من الطبيعي أن يكون هو محافظ القصر بعد وفاة أخويه الكبيرين جريمولد ودروجو. ولكن ببين تأثر بتحريض زوجه الأولى " بلكترود " وأوصى بالمنصب لحفيده، فكان محافظ القصر طفلا هو تودفالد، يحكم مكان الملك الميروفنجي وهو طفل أيضاً، بواسطة بلكترود التي عينت وصية على حفيدها. وكان أول ما فعلت بلكترود أن قبضت على كارل مارتل، وزجته إلى السجن لتأمن شره ومنافسته. ولكن أشراف أوستريا ساءهم أن تتولى الحكم امرأة. فثاروا ونادوا بأحد زعمائهم " راجنفرد " محافظاً للقصر، ونشبت الحرب بين الفريقين، وهزم حزب بلكترود، فارتدت مع حفيدها إلى كلونية، وقبض راجنفرد على زمام الحكم. وفي تلك الأثناء فر كارل مارتل من سجنه، والتف حوله جماعة من أنصار أبيه، وحارب النوستريين، فاستغاث راجنفرد بالدوق أودو أمير أكوتين القوي، فلم يغنه ذلك شيئاً، وانتهي كارل بأن هزمه ومزق قواته، واضطره إلى التسليم والصلح. أما بلكترود فقد عقدت الصلح أيضاً، ونزلت عن كل حقوقها. وغدا كارل منذ سنة 720 م محافظاً للقصر لا ينازعه منازع، يحكم جميع الفرنج في أوستراسيا ونوستريا (¬1). وهكذا كانت مملكة الفرنج حينما عبر المسلمون إلى غاليا أو غاليس (فرنسا) لثالث مرة بقيادة السمح بن مالك، وغزوا ولاية سبتمانيا القوطية، واستولوا على قواعدها، وزحفوا على مدينة تولوشة (تولوز) عاصمة أكوتين. وكان أودو ¬_______ (¬1) راجع في تاريخ مملكة الفرنج ونشأتها وعصر الأسرتين الميروفنجية والكارلية: Zeller: Histoire de l'Allemagne Ch. VII وكذلك Hodgkin: Charles the Great, ch. II & III

دوق أكوتين أحد أعضاء الأسرة الميروفنجية، أقوى أمراء الفرنج في غاليا وأشدهم بأساً. وكان أثناء الاضطراب الذي ساد مملكة الفرنج، قد استقل بأكوتين وبسط حكمه على جميع غاليس الجنوبية، من اللوار إلى البرنيه، والتف حوله القوط والبشكنس (النافاريون)، وأخذ يطمح إلى انتزاع ملك الفرنج أو ملك أسرته، ويعد العدة لقتال كارل مارتل المتغلب عليه. ولكنه اضطر أن يشتغل عن مشروعه برد خطر العرب الداهم. استولى السّمح على سبتمانيا وأقام بها حكومة إسلامية، ووزع الأراضي بين العرب والسكان، وفرض الجزية على النصارى، وترك لهم حرية الاحتكام إلى شرائعهم، ثم زحف نحو الغرب ليغزو أكوتين كما قدمنا، فقاومه البشكنس والغسقونيون سكان هذه الأنحاء أشد مقاومة. ولكنه مزق جموعهم وقصد إلى تولوشة. وكان الدوق أودو قد جمع في تلك الأثناء جيشاً ضخماً وسار لرد العرب، وعلم السمح بذلك فارتد عن مهاجمة تولوشة ليلقى جيش الدوق رغم تفوقه على جيشه في العدد. والتقى الفريقان بظاهر تولوشة، ونشبت بينهما معركة هائلة سالت فيها الدماء غزيرة، وكثر القتل في الجيشين، وأبدى المسلمون رغم قلتهم شجاعة خارقة، وتراوح النصر حيناً بين الفريقين. ولكن السمح سقط قتيلا من فوق جواده، فاختل نظام الفرسان المسلمين، ووقع الإضطراب في الجيش كله، وارتد المسلمون إلى سبتمانيا بعد أن فقدوا زهرة جندهم، وسقط منهم عدة من الزعماء الأكابر، وذلك في التاسع من ذي الحجة سنة اثنتين ومائة (9 يونيه سنة 721 م) (¬1). وعلى أثر مقتل السمح اختار الجيش أحد زعمائه، عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي للقيادة العامة، فارتد عبد الرحمن إلى الجنوب تواً، وأقرته " الجماعة " واليا للأندلس، حتى يأتي الحاكم الجديد. فلبث في منصبه فترة وجيزة، ولكنه استطاع خلالها أن يخمد بوادر الخروج التي ظهرت في الولايات الجبلية الشمالية، ¬_______ (¬1) يضع كوندى وهو ينقل عن مصادر عربية اسبانية لم يبينها، تاريخ الموقعة في سنة 103 هـ Conde: ibid.I.p. 72)) ولكن المصادر العربية التي بين أيدينا تجمع كلها على أن الموقعة كانت سنة 102 هـ (نفح الطيب عن ابن بشكوال وابن حيان ج 2 ص 56، والبيان المغرب ج 2 ص 25، وابن خلدون ج 4 ص 118). ومعظم المصادر الفرنجية على أن الموقعة كانت سنة 721 م (102 هـ) متفقة بذلك مع الرواية الإسلامية. راجع Dom Vissette: ibid ; I.p. 781 & 784

وأن يستبقى الجزية على أربونة وغيرها من قواعد سبتمانيا. ولبث يخمد الفتن، ويصلح الأمور حتى قدم عنبسة بن سحيم الكلبي، الذي اختاره بشر بن صفوان الكلبي والي إفريقية، واليا للأندلس. وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز قد جعل الأندلس ولاية مستقلة كما قدمنا، تتبع الخلافة مباشرة. ولكن خلفه يزيد بن عبد الملك لم يقر هذا التعديل، فعادت الأندلس تابعة في إدارتها لإفريقية كما كانت. وقدم عنبسة بن سحيم الكلبي إلى الأندلس في صفر سنة 103. وأنفق حيناً في تنظيم الإدارة، وضبط النواحي، وإصلاح الجيش، وإعداده لغزوات جديدة. وفي أواخر سنة 105 هـ (أوائل سنة 724 م) سار عنبسة في الجيش إلى الشمال غازياً، وعبر جبال البرنيه (¬1) مرة أخرى، وغزا سبتمانيا التي فقد المسلمون كثيرا من معاقلها، منذ هزيمة تولوشة، واستولى على قرقشونة ونيمة وما بينهما من القواعد، وارتد القوط عن محالفة الفرنج إلى محالفته. وتابع زحفه شمالا في وادي الرون ونفذ إلى برجونية حتى مدينة أوتون فغزاها وخربها (أغسطس سنة 725 م)، ثم غزا مدينة صانص. وخشى أودوق أكوتين أن يهاجمه المسلمون مرة أخرى، فسعى إلى مفاوضتهم ومهادنتهم. وبسط المسلمون سلطانهم قويا في شرق جنوبي فرنسا. وفي ذلك يقول إيزيدور الباجي: " كان نجاح عنبسة راجعاً إلى الجرأة والبراعة، أكثر منه إلى القوة والكثرة. وكان لينه ورفقه وحسن معاملته للسكان، عاملا في تقوية سلطان الإسلام في جنوبي فرنسا ". ولكن قضى نكد الطالع أن ينكب المسلمون مرة أخرى. فإن عنبسة حين عوده إلى الجنوب، داهمته قبل أن يجتمع إليه جميع جيشه، جموع كبيرة من الفرنج، فأصيب أثناء الموقعة التي نشبت بجراح بالغة توفي على أثرها، وذلك في شعبان سنة 107 هـ (ديسمبر سنة 725) فارتد الجيش إلى الداخل، وعاد الاضطراب إلى الجزيرة مرة أخرى. ¬_______ (¬1) يحسن بنا أن نشير هنا إلى أن بعض الكتاب والباحثين يسمون جبال البرنيه خطأً بجبال " البرانس " ذلك لأن جبال البرنيه تسمى في الجغرافية العربية حسبما قدمنا بجبال البرت أو البرتات. أما جبال " البرانس " فهي سلسلة أخرى من الجبال الإسبانية، تقع شرقي ماردة، وجنوبي طليطلة، وهي التي تعرف في الجغرافية الحديثة بجبال المعدن Sierra de Almaden، لوقوعها على مقربة من مدينة " المعدن ". وسيمت في الجغرافية العربية " بالبرانس " نسبة لقبيلة البرانس البربرية، التي كان منزلها في الأندلس على مقربة من هذه الجبال (راجع البيان المغرب ج 2 ص 143 و163 حيث يشير إلى الحملات التي جردت لمقاتلة الثوار في منطقة جبال البرانس).

وتوالى على الأندلس مدى الأعوام الخمسة التي تلت وفاة عنبسة، ستة ولاة أولهم عزرة بن عبد الله الفهري (¬1)، الذي تولى قيادة الجيش عقب وفاة عنبسة، فلبث في منصبه شهرين فقط. ثم يحيى بن سلمة الكلبي، ولاه بشر بن صفوان عامل إفريقية، فقدم الأندلس في شوال سنة 107، وامتد حكمه عامين ونصف لم تقع فيهما حوادث أو غزوات تذكر. ثم توفي بشر بن صفوان، وخلفه في ولاية إفريقية عبيدة بن عبد الرحمن السلمي، فولى على الأندلس عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، فقدمها في شعبان سنة 110، ولبث في منصبه ستة أشهر فقط ثم عزل، وخلفه حذيفة بن الأحوص القيسي فلم تطل ولايته سوى أشهر أيضا، فخلفه الهيثم ابن عبيد الكلابي أو الكناني، ولاه أيضا عبيدة السلمي عامل إفريقية، فقدم الأندلس في المحرم سنة 111 هـ. وكان تتابع الولاة على هذا النحو سببا في تفاقم الخلل والاضطراب في شئون الجزيرة، وتفاقم الخلاف بين الزعماء والقبائل. وكان تخلف المسلمين عن الغزو من جهة أخرى مشجعا للفرنج على مهاجمة القواعد الشمالية، مشجعة للخوارج من القوط والبشكنس على تنظيم قواتهم. وكان أخطر أولئك الخوارج شراذم القوط التي لجأت كما أسلفنا إلى قاصية جليقية، واجتمعت هناك حول زعيم يدعى بلايو أو بلاي، ولم يعن الولاة بتتبعها والقضاء عليها، إما احتقاراً لشأنها أو لوعورة الجبال التي امتنعت بها، ففي أثناء اضطراب الشئون وانشغال الولاة، كانت هذه الشراذم تنمو وتشتد داخل هضابها النائية، وكانت هي نواة هذه المملكة النصرانية القوية التي نشأت سراعاً، واشتد ساعدها، حتى غدت قبل قرن تنافس الإسلام وتنازعه سيادة اسبانيا. فلما ولى الهيثم حاول أن يقمع الفوضى، وأن يرد النظام. وكان الهيثم حازما قوى العزم، ولكن صارماً شديد الوطأة، فطارد الشغب والفوضى بشدة، واضطهد معظم الزعماء والمخالفين له في الرأي، وبالأخص اليمنية، وتتبع كثيرين منهم بالسجن والمطاردة، وقاد حملة ضد " منوسة " وهو حسبما نوضح بعد زعيم بربري غامض الشخصية، كان حاكماً لمنطقة الأسترياس وظهرت منه أعراض التمرد، ولكنه لم يوفق إلى القضاء عليه. ثم سار في الجيش إلى الشمال ليقمع ¬_______ (¬1) يرى بعض المؤرخين أن عزرة لم يكن من ولاة الأندلس، أو أن ولايته كانت غير رسمية (المقري عن ابن بشكوال ج 2 ص 57؛ والبيان المغرب ج 2 ص 26).

أعراض الثورة التي بدأت في الولايات الجبلية، وليستأنف الغزو؛ فعبر البرنيه، واخترق سبتمانيا إلى وادي الرون وغزا ليون (لوذون) وماسون (¬1) وشالون الواقعة على نهر الساؤون، واستولى على أوتون وبون، وعاث في أراضي برجونية الجنوبية. ولكن هذا الفتح الكبير لم يكن ثابت الأثر، فقد أدى اختلاف القبائل وتمرد البربر إلى تفكك الجيش الفاتح، وإلى تخلف المدن المفتوحة عن قبضة الفاتحين. فعاد الهيثم إلى الجنوب، ولم يلبث أن توفي بعد أن حكم الأندلس مدى عامين، فاختارت " الجماعة " مكانه محمد بن عبد الله الأشجعي حتى يعين الوالي الجديد (¬2)، فلبث في منصبه شهرين، حتى عين عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي واليا للأندلس، عينه عبيدة بن عبد الرحمن السلمي والي إفريقية بمصادقة الخليفة هشام بن عبد الملك في صفر سنة 113هـ (إبريل سنة 731) (¬3) فكانت ولايته الثانية. وكانت ولايته الأولى سنة 103هـ على أثر كل مقتل السمح كما قدمنا. وكان عبد الرحمن جندياً عظيماً ظهرت مواهبه الحربية في غزوات غاليا، وحاكماً قديراً بارعاً في شئون الحكم والإدارة، ومصلحاً كبيراً يضطرم رغبة في الإصلاح، بل كان بلا ريب أعظم ولاة الأندلس وأقدرهم جميعاً. وتجمع الرواية الإسلامية على تقديره والتنويه برفيع خلاله، والإشادة بعدله وحلمه وتقواه (¬4). فرحبت الأندلس قاطبة بتعيينه ¬_______ (¬1) لعل ماسون هي التي يسميها ابن عذارى منوسه (راجع البيان المغرب ج 2 ص 27). (¬2) يقدم كوندي رواية أخرى عن مصير الهيثم، فيقول إن أمر عسفه وجوره نمى إلى الخليفة هشام بن عبد الملك، فانتدب محمد بن عبد الله الأشجعي للتحقيق معه. فلما تحقق صحة التهم المنسوبة إليه عزله وسجنه وصادر أمواله، وأطلق الذين اعتقلهم ظلما. ويقول كوندي أيضا إن الأشجعي هو الذي اختار عبد الرحمن الغافقي لولاية الأندلس، لما تحقق من شجاعته وحزمه بتفويض لديه من الخليفة Condeibid.V.I.p. 81 ويأخذ دوزي بهذه الرواية (( Hist.V.I.p. 137. وكوندي يستقي روايته من بعض المصادر العربية الإسبانية، ولكنه لا يعين هذه المصادر. على أن المصادر العربية التي أمامنا تجمع على أن ولاية الهيثم اختتمت بوفاته، وأن الأشجعي خلفه باختيار الجماعة (البيان المغرب ج 2 ص 27، ونفح الطيب ج 2 ص 58 عن ابن بشكوال، وابن خلدون ج 4 ص 119). (¬3) تختلف الرواية الاسلامية في تارخ ولاية عبد الرحمن، فيقول الضبي إن تعيينه كان في ْحدود سنة 110هـ (بغية الملتمس رقم 1021)، وكذا ابن بشكوال (نفح الطيب ج 2 ص 56). ويقول ابن عذارى إنه كان في صفر سنة 112 (ج 2 ص 28)، وابن حيان إنه كان في صفر سنة 113 (نفح ج 2 ص 56). وهي أرجح رواية فيما نعتقد وبها أخذنا لاتفاقها مع سير تواريخ الولاة المتقدمين. (¬4) راجع ابن عبد الحكم ص 216، 217 وبغية الملتمس رقم 1021، والحميدي في جذوة المقتبس ص 6 و255.

وأحبه الجند لعدله ورفقه ولينه، وجمعت هيبته كلمة القبائل، فتراضت مضر وحمير، وعاد الوئام نوعاً في الإدارة والجيش، واستقبلت الأندلس عهداً جديدا. وبدأ عبد الرحمن ولايته بزيارة الأقاليم المختلفة فنظم شئونها، وعهد بإدارتها إلى ذوي الكفاية والعدل، وقمع الفتن والمظالم ما استطاع، ورد إلى النصارى كنائسهم وأملاكهم المغصوبة، وعدل نظام الضرائب وفرضها على الجميع بالعدل والمساواة، وقضى صدر ولايته في إصلاح الإدارة، ومعالجة ما سرى إليها في عهد أسلافه من عوامل الاضطراب والخلل. وعني بإصلاح الجيش وتنظيمه عناية خاصة، فحشد الصفوف من مختلف الولايات، وأنشأ فرقاً قوية مختارة من فرسان البربر بإشراف نخبة من الضباط العرب، وحصن القواعد والثغور الشمالية، وتأهب لإخماد كل نزعة إلى الخروج والثورة (¬1). وكانت الثورة في الوقع توشك أن تنقض في الشمال، وبطلها في تلك المرة زعيم مسلم هو حاكم الولايات الشمالية. فمن هو ذلك الزعيم الثائر؟ إن الرواية الإسلامية تلتزم الصمت إزاء شخصية هذا الزعيم، وإزاء الحوادث التي اقترنت باسمه. وكل ما هنالك أن صاحب البيان المغرب يقول لنا في حديثه عن ولاية الهيثم بن عبيد الكناني " وهو الذي غزا أرض منوسة " (¬2). ثم يردد المقري هذه العبارة في قوله مشيراً أيضا إلى الهيثم " وغزا أرض منوسة فافتتحها " (¬3). ويبدو لأول وهله من استقراء هاتين الإشارتين القصيرتين، أن " منوسة " تنصرف فيما يرجح إلى المكان، ومنوسة قد تكون مدينة " ماسون " وهي التي غزاها الهيثم ضمن، غزواته في أرض فرنسا. ولكن معظم الروايات النصرانية والفرنجية المعاصرة، تحدثنا في نفس الوقت عن شخصية زعيم مسلم يدعى Munuza " منوزا " أو Munez " مونز "، وهو كما يبدو مطابق لاسم " منوسة "، تسرد لنا سلسلة من الحوادث الهامة التي اقترنت باسمه. وفي موطن واحد فقط تقول الرواية النصرانية إن منوسة كان زعيماً نصرانياً من زعماء منطقة الأسترياس، وأنه كان حاكماً لمدينة خيخون (¬4). ولنسلم نحن بهذه المطابقة بين الإسمين، ¬_______ (¬1) Conde ; ibid V.I.p. 82 & 83 (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 27 (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 109. (¬4) Cronica General ; Vol.I.p.319 & V.II.p.324.

فتقول إن منوسة، كان وفقا لأقوال هذه الروايات النصرانية والفرنجية، زعيما مسلما يحكم بعض ولايات البرنيه الغربية وسبتمانيا فيما وراء البرنيه باسم حكومة الأندلس، وذلك حوالي سنة 725 إلى سنة 730 م (¬1). وكان الدوق أودو أمير أكوتين منذ اجتاح المسلمون أراضيه، ورأى خطر الفتح الإسلامي يهدد ملكه يسعى إلى مهادنة المسلمين والتقرب من حكومة الأندلس، ويحاول في نفس الوقت أن يجمع الحلفاء من حوله لمقاومتها إذا اقتضى الأمر. فلما تولى منوسة حكم الولايات الشمالية. وهي تجاور أكوتين من الشرق والجنوب، سعى الدوق إلى التفاهم معه. وكان منوسه كما تصفه الرواية النصرانية المعاصرة، زعيما قوي المراس، كثير الأطماع، نافذ الهيبة في هاتيك الوهاد، ولم يكن على اتفاق مع حكومة الأندلس. ذلك أنه كان من أقطاب البربر الذين عبروا الأندلس مع طارق بن زياد (¬2)؛ وقد سبق أن شرحنا عوامل الخلاف بين العرب والبربر، وكيف حقد البربر على العرب لاستئثارهم بمغانم الفتح والرياسة. وعلى ضوء هذه التفاصيل، نعود فنتساءل من يكون " منوسة "؟ هل يكون هو عثمان بن أبي نسعة الخثعمي الذي ولى إمارة الأندلس قبل ذلك بثلاثة أعوام حسبما قدمنا، ولم يطل أمد ولايته سوى أشهر قلائل؟ وهل يكون اسم " منوسة " Munuza تحريفاً نصرانياً للقب " نسعة " العربي؟ إذا صح أن منوسة كان زعيما بربريا كما تصفه الروايات النصرانية المعاصرة، وهي وحدها مصدر التعريف عنه، فيكون من المشكوك فيه إذن أن يكون منوسة، هو عثمان ابن أبي نسعة الخثعمي والى الأندلس (¬3). ذلك أن عثمان بن أبي نسعة كان زعيما ¬_______ (¬1) ويقول ألتاميرا إن " منوسه " Munuza هو الحاكم البربري الذي تركه موسى ابن نصير في خيخون في منطقة الأسترياس وكان حاكما لمدينة أوفيدو، وأنه أي منوسة قد اضطر عقب فشله في القضاء على بلايو الزعيم القوطي، وهزيمته في موقعة كوفادونجا أن يخلي منطقة الأسترياس. راجع: Altamira: ibid, T.I.p. 221-223 (¬2) هذه هي رواية إيزيدور الباجي وقد نقلتها بعض الروايات النصرانية المتأخرة؛ راجع Dom Vissette: ibid, V.I.p. 794 & II. p.129 و Dozy: Histoire,V.I.p. 160 et nots (¬3) كنت من قبل أعتقد كبعض الباحثين أن " منوزا " (منوسة) هو تحريف لاسم ابن أبى نسعة؛ وأنهما اسمان لشخص واحد. وهذا ما يقوله في الواقع يوسف كوندي ( V.I.p. 80) . ولكني أصبحت بعد الذي قرأته من مختلف التفاصيل والتعليقات التي أوردتها الروايات النصرانية المعاصرة، وبعد مقارنتها بأقوال الرواية الإسلامية عن ابن أبي نسعة، أشك في صواب هذا الرأي. والمرجح كما يبدو من مختلف الشروح المتقدمة أن منوسة كان فعلا من زعماء البربر المتمردين على حكومة قرطبة.

عربيا ينتسب إلى خثعم إحدى البطون العربية العريقة (¬1)، ولم يفز بإمارة الأندلس في تلك الفترة سوى زعماء العرب، ولم تسند إلى أحد من البربر. هذا إلى أن الرواية الإسلامية تقدم إلينا عن مصير عثمان بن أبي نسعة رواية أخرى غير التي تقدمها إلينا الرواية النصرانية عن مصير "منوسة"، فهي تقول لنا ان ابن أبي نسعة ولي الأندلس في شعبان سنة 110هـ (728 م) واستمرت ولايته خمسة شهور أو ستة ثم عزل، وانصرف إلى القيروان فمات بها (¬2). أما " منوسة " فقد مات محارباً، ومات قتيلا كما سنرى. وعلى أي حال فقد تفاهم دوق أكوتين ومنوسة، وقوت المصاهرة بينهما أواصر الصداقة والتحالف. ذلك أنه كانت للدوق ابنة رانعة الحسن تدعى لامبجيا (أو منينا أو نوميرانا على قول بعض الروايات) فرآها منوسة أثناء بعض رحلاته في أكوتين أو أنه أسرها في بعض غاراته عليها. تقول الرواية: " وكانت لامبجيا أجمل امرأة في عصرها، كما كان منوسة أقبح رجل في عصره، وكانت نصرانية متعصبة، ولكن أطماع الوالد غلبت على كل شىء، فارتضى مصاهرة الزعيم المسلم ". وكما يحيط الغموض بشخصية منوسة، فكذلك يحيط بشخصية لامبجيا وظروف زواجها من الزعيم المسلم، فتقول الرواية مثلا، إن منوسة بعد أن أسر لامبجيا، وشغف بها حبا وتزوج بها، حمل بتأثيرها ونفوذها على محالفة أبيها الدوق ومناوأة حكومة الأندلس، وتقول أيضا إن ابنة الدوق أكوتين التي تزوجها منوسة لم تكن لامبجيا التي اشتهرت بفائق حسنها، بل كانت أختها " منينا " التي كانت من قبل زوجة لفرويلا القوطي أمير أستورية، كما تورد لنا غير ذلك من الأنباء والتفاصيل التي يقع معظمها في حد الأساطير (¬3). وهكذا اجتمعت عوامل الحب والسياسة لتوثيق عرى التحالف بين الزعيم المسلم وبين الدوق أودو. وكان أودو، فضلا عما يهدده من خطر الغزو الإسلامي، يخشى بأس خصمه القوي كارل مارتل زعيم الفرنج، وكذا كان كارل مارتل ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 1 ص 139. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 28. (¬3) راجع خلاصة الروايات النصرانية والفرنجية في موسوعة Bayle V.IV. والتعليقات.

ينقم على أودو نفوذه واستقلاله بالجنوب، وقد غزا بالفعل أكوتين غير مرة وهزم أميرها. فكان أودو في الواقع بين نارين، يخشى الفرنج في الشمال، والعرب في الجنوب. وكانت جيوش كارل مارتل تهدده وتعيث في أرضه (سنة 731) في نفس الوقت الذي سعى فيه منوسة إلى محالفته، والاستعانة به على تنفيذ مشروعه في الخروج على حكومة الأندلس، والاستقلال بحكم الولايات الشمالية. وقد رأى منوسة اكتساباً للوقت وكتماناً لحقيقة مشروعه، أن يسبغ على محالفته مع الدوق صفة هدنة عقدت بينه وبين الفرنج، ولكن عبد الرحمن أمير الأندلس ارتاب في أمر الثائر ونياته، وأبى إقرار الهدنة التي عقدها. وعندئذ كشف منوسة القناع، وأعلن الثورة، فأرسل عبد الرحمن إلى الشمال حملة قوية بقيادة ابن زيان لتأديب الزعيم الثائر، والتحوط لسلامة الولايات الشمالية، فاستعصم منوسة بمواقعه الجبلية، وتحصن في عاصمة إقليمه " مدينة الباب " (¬1)، الواقعة على منحدر جبال البرنيه، وكان يظن أنه يستطيع أن يتحدى الجيش الإسلامي، وأن يعتصم بالصخر، كما اعتصم به الزعيم القوطي "بلاجيوس" (بلايو) ولكنه كان مخطئاً في تقديره، فقد نفذ ابن زيان بجيشه إلى مدينة الباب، وحاصر الثائر في عاصمته، ففر منها إلى شعب الجبال الداخلية، فطارده ابن زيان من صخرة إلى صخرة، حتى أخذ وقتل مدافعاً عن نفسه، وتحطمت أطماعه ومشاريعه (113هـ - 731 م) (¬2)، وأسرت زوجه الحسناء لامبجيا، وأرسلت إلى بلاط دمشق، واستقبلها الخليفة (هشام بن عبد الملك) بحفاوة وإكرام، وزوجت هنالك من أمير مسلم لا تذكر لنا الرواية اسمه (¬3). ¬_______ (¬1) واسمها بالقشتالية Ciudad de la Puerta، وقد كانت تقع على أحد ممرات البرنيه وتسمى أحيانا "بويكاردا ". (¬2) تمر الرواية الإسلامية على هذه الحوادث كلها بالصمت كما قدمنا، ولا تذكر لنا أي تفصيل أو لمحة تلقي الضياء عل شخصية منوسة، ويوافق دوزي على أن منوسة Munuza هو اسم للزعيم البربري المتقدم الذكر. راجع: & Dozy: Histoire V.II.p.129 & note, وكذلك Lévy - Provençal: Hist.de l'Espagne Musulmane (1944) p.43 & note. . (¬3) Dom Vissette: ibid, I.p. 764. وتحيط الرواية سيرة لامبجيا وزوجها بكثير من القصص الخيالية الشائقة، التي اتخذت فيما بعد مستقى لخيال بعض الشعراء والكتاب. غير أن معظم هذه القصص لا يخرج عن حد الأساطير.

هذا، وهناك في شأن "منوسة" وزوجه رواية أخرى، أوردها الحبر ماريانا كبير مؤرخي إسبانيا، فقد ذكر أن منوسة كان زعيماً نصرانياً اختاره المسلمون لحكم المنطقة الواقعة غرب البرنيه، ولكنه كان صارماً يشتد في معاملة النصارى، وأنه كان للدون بلاجيوس زعيم جليقية القوطي أخت بارعة الحسن، شغف بها منوسة حباً، ولكن بلاجيوس لم يوافق على زواجها منه، فاحتال منوسة، وبعثه في مهمة إلى قرطبة، وأسر الأميرة أثناء غيبته وتزوج بها قصراً، فأسر بلاجيوس وأخته هذه الإهانة، ولبثا يرتقبان الفرص حتى استطاعت الأميرة فراراً من أسرها وسارت مع أخيها إلى جبال جليقية حيث اعتصم بلاجيوس مع أنصاره، وأعلن الخروج والثورة، فأخطر منوسة حكومة قرطبة، فأرسلت حملة لتأديب الثائر بقيادة " علقمة ". ولكن بلاجيوس استطاع مع أنصاره القلائل، أن يعتصم بشعب الجبال، فارتد المسلمون منهزمين، وقتل علقمة، وارتاع منوسة لفوز خصمه، وخشي انتقام مواطنيه، فحاول الفرار إلى الجنوب، ولكنه وقع في يد شرذمة من الفلاحين النصارى فقتلوه، ويضع ماريانا تاريخ هذه الحوادث في سنة 718 م (¬1). ولكن رواية ماريانا هذه ظاهرة الضعف، أولا لأنه ليس بمعقول أن تعهد حكومة الأندلس المسلمة بحكم ولاية من ولاياتها إلى زعيم نصراني. وثانياً لأن هذه الرواية تخالف في مجموع تفاصيلها كل ما كتبته الروايات المعاصرة عن شخصية منوسة، وعن مصاهرته لأمير أكوتين. وثالثاً لأن تاريخ هذه الحوادث متأخر عن التاريخ الذي يعينه ماريانا بأكثر من عشرة أعوام. ولما قتل منوسة، وانهارت مشاريعه، ورأى أودو ما حل بحليفه، واستشعر الخطر الداهم تأهب للدفاع عن مملكته، وبدأ الفرنج والقوط في الولايات الشمالية بالتحرك لمهاجمة المواقع الإسلامية. وكان عبد الرحمن يتوق إلى الانتقام لمقتل السمح وهزيمة المسلمين عند أسوار تولوشة، ويتخذ العدة منذ بدء ولايته لاجتياح مملكة الفرنج كلها. فلما رأى الخطر محدقاً بالولايات الشمالية، لم ير بدا من السير إلى الشمال، قبل أن يستكمل كل أهبته. على أنه استطاع أن يجمع أعظم جيش سيره ¬_______ (¬1) Mariana في تاريخ اسبانيا العام - الترجمة الفرنسية ج 3 ص 5 وما بعدها.

المسلمون إلى غاليس (فرنسا) منذ الفتح. وفي أوائل سنة 732 م (أوائل سنة 114هـ) سار عبد الرحمن إلى الشمال مخترقا ولاية أراجون (الثغر الأعلى) ونافار (بلاد البشكس) وعبر البرنيه من طريق بنبلونة، ودخل فرنسا في ربيع سنة 732 م، وزحف تواً على مدينة آرل الواقعة على نهر الرون، لتخلفها عن أداء الجزية، واستولى عليها بعد معركة عنيفة، نشبت على ضفاف النهر بينه وبين قوات الدوق أودو. ثم زحف غربا وعبر نهر الجارون، وانقض المسلمون كالسيل على ولاية أكوتين (¬1)، يثخنون في مدنها وبسائطها، فحاول أودو أن يقف زحفهم، والتقى الفريقان على ضفاف نهر الدردون، فهزم الدوق هزيمة فادحة، ومزق جيشه شر ممزق. قال إيزيدور الباجي: " والله وحده يعلم كم قتل في تلك الموقعة من النصارى ". وطارد عبد الرحمن جيش الدوق حتى عاصمته بوردو (بردال). واستولى عليها بعد حصار قصير (¬2)، وفر الدوق في نفر من صحبه إلى الشمال، وسقطت أكوتين كلها في يد المسلمين. ثم ارتد عبد الرحمن نحو الرون كرة أخرى واخترق الجيش الإسلامي برجونية واستولى على ليون وبيزانصون (¬3)، ووصلت سرياته حتى صانص، التي تبعد عن باريس نحو مائة ميل فقط. وارتد عبد الرحمن بعد ذلك غربا إلي ضفاف اللوار ليتم فتح هذه المنطقة ثم يقصد إلى عاصمة الفرنج (¬4). ¬_______ (¬1) كانت إمارة أكوتين في ذلك الحين تمتد بين نهر الرون شرقا وخليج غسقونية (بسكونية) غربا، وبين نهر اللوار شمالا ونهر الجارون جنوبا، وتشمل من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبيرجور وسانتونج وبواتو وفنده وجزءا من أنجو. (¬2) Dom Vissette: ibid, I.p. 795 (¬3) وهى مسقط رأس الشاعر الفرنسي الأشهر فكتور هوجو. (¬4) يقدم المستشرق كاردون شرحا آخر لسير عبد الرحمن، فيقول إنه زحف أولا على آرل وحاصرها فبادر الكونت إلى إنجادها، فلقيه عبد الرحمن وهزمه وألجأه إلى الفرار، ثم عبر عبد الرحمن نهر الجارون واستولى على بوردو. وكان الكونت قد جمع جيشا جديدا وحاول رده فهزم مرة أخرى، ثم اخترق عبد الرحمن وبيرجور وسانتونج وبواتو وهو يثخن في تلك الأنحاء حتى انتهي إلى تور Cardonne: Hist.de l'Afrique et de l'Espagne - I - 129 ولكن عبد الرحمن اقتحم وادي الرون أيضا كما بينا، وقد شرحنا سيره طبقا لجميع الروايات مجتمعة، وطبقا للمواقع الجغرافية التي تتعلق بهذه الغزوة. وقد يكون أن عبد الرحمن لم يسر بنفسه شمالا نحو برجونية، ولكن الجيش الإسلامي اقتحم هذه الأنحاء بلا ريب.

وتم هذا السير، وافتتح نصف فرنسا الجنوبي كله من الشرق إلى الغرب، في بضعة أشهر فقط. قال إدوارد جيبون: " وامتد خط الظفر مدى ألف ميل من صخرة طارق إلى ضفاف اللوار. وقد كان اقتحام مثل هذه المسافة يحمل العرب إلى حدود بولونيا وربى اسكتلندا. فليس الرَّين بأمنع من النيل أو الفرات، ولعل أسطولا عربيا كان يصل إلى مصب التيمز دون معركة بحرية، بل ربما كانت أحكام القرآن تدرس الآن في معاهد أكسفورد وربما كانت منابرها تؤيد لمحمد صدق الوحي والرسالة ". (¬1) ¬_______ (¬1) Gibbon: ibid, Ch - LII

الفصل السادس بلاط الشهداء

الفصل السادس بلاط الشهداء معركة الاسلام والنصرانية. تحول هذه المعركة إلى سهول فرنسا. العرب والفرنج على أطلال الدولة الرومانية. حلول الفرنج في فرنسا. خواص المجتمع الفرنجي. انحلال عصبيته بالاستقرار. تفككه وتنافره. خطر القبائل الجرمانية الوثنية. الدولة الإسلامية. انتظامها وتماسكها. تفرق الفرنج. سيل الفتح الإسلامي. عبد الرحمن الغافقي وجيشه. كيف يصوره الشاعر سوذي. اختراق عبد الرحمن لفرنسا. موقف الدوق أودو. كارل مارتل محافظ القصر. تمهله في لقاء العرب. ما تقوله الرواية في ذلك. اتجاه أودو إلى كارل. مسير كارل للقاء العرب. اجتياح العرب لأكوتين. أين التقى العرب والفرنج. هجوم المسلمين على مدينة تور. وصول الفرنج إلى اللوار. ارتداد عبد الرحمن الى ما وراء النهر. حالة الجيش الإسلامي. وفرة غنائمه وخطرها على نظامه. بدء القتال. المعارك المحلية. المعركة العامة. مهاجمة الفرنج لمعسكر الغنائم. ارتداد الفرسان المسلمين لحمايته. اختلال نظام المسلمين. مقتل عبد الرحمن الغافقي. الذعر في الجيش الإسلامي. رجحان كفة الفرنج. افتراق الجيشين. الخلاف في القيادة الإسلامية. تقرير الانسحاب. ارتداد المسلمين إلى الجنوب. توجس كارل مارتل. أقوال الرواية الكنسية. مبالغتها في التقدير والتصوير. وصفها لحوادث اللقاء الحاسم. صمت الرواية الأندلسية. وصفها لحوادث الغزوة الإسلامية. وصفها للجيش الإسلامي. حديثها عن الموقعة الحاسمة. أقوال المستشرق كاردون. تحفظ الرواية الإسلامية ومغزى هذا التحفظ. بلاط الشهداء. لون الموقعة الديني. أقوال المؤرخين المسلمين عنها. موقف الرواية النصرانية. مبالغتها في تصوير هزيمة المسلمين وتقدير خسائرهم. ما يدحض هذا الإغراق. إحجام الفرنج عن مطاردة العرب. خسارة المسلمين بمقتل عبد الرحمن. النقد الحديث وبلاط الشهداء. كيف ينوه بأهميتها في خلاص النصرانية من سلطان الإسلام. تأملات. أجل، كان اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب على وشك الوقوع. وكان اجتياح الإسلام للعالم القديم سريعاً مدهشاً، فإنه لم يمض على وفاة النبي العربي نصف قرن، حتى سحق العرب دولة الفرس الشامخة، واستولوا على معظم أقطار الدولة الرومانية الشرقية، من الشام إلى أقاصي المغرب، وقامت دولة الخلافة قوية راسخة الدعائم فيما بين السند شرقاً والمحيط غرباً، وامتدت شمالا حتى أواسط آسيا الصغرى. وكانت سياسة الفتح الإسلامي مذ توطدت دولة الإسلام، ترمي إلى غاية أبعد من امتلاك الأقطار، وبسطة السلطان والملك. فقد كان الإسلام يواجه في الأقطار التي افتتحها من العالم القديم أنظمة

راسخة مدنية واجتماعية، تقوم على أصول وثنية أو نصرانية. وكانت النصرانية قد سادت أقطار الدولة الرومانية منذ القرن الرابع. فكان على الخلافة أن تهدم هذا الصرح القديم، وأن تقيم فوق أنقاضه في الأمم المفتوحة، نظماً جديدة تستمد روحها من الإسلام، وأن تذلل النصرانية لصولة الإسلام، سواء بنشر الإسلام بين الشعوب المفتوحة، أو بإخضاعها من الوجهتين المدنية والاجتماعية لنفوذ الإسلام وسلطانه. وكان هذا الصراع بين الإسلام والنصرانية قصير الأمد في الشام ومصر وإفريقية، فلم يمض نصف قرن حتى غمر الإسلام هذه الأمم بسيادته ونفوذه، وقامت فيها مجتمعات إسلامية قوية شاملة، وغاضت الأنظمة والأديان القديمة. ثم دفعت الخلافة فتوحها إلى أقاصى الأناضول من المشرق، وجازت إلى اسبانيا من المغرب. فأما في المشرق فقد حاول الإسلام أن يعبر إلى الغرب عن طريق قسطنطينية، وبعثت الخلافة جيوشها وأساطيلها الزاخرة إلى عاصمة الدولة الشرقية مرتين، الأولى في عهد معاوية بن أبي سفيان في سنة 49هـ (669 م) والثانية في عهد سليمان بن عبد الملك سنة 98 هـ (717 م)، وكانت قوى الخلافة في كل مرة تبدي في محاصرة قسطنطينية، غاية الإصرار والعزم والجلد، ولكنها فشلت في المرتين، وارتدت عن أسوار قسطنطينية منهوكة خائرة، وأخفق مشروع الخلافة في افتتاح الغرب من تلك الناحية، ولقي الإسلام هزيمته الحاسمة في المشرق أمام أسوار بيزنطية، وقامت الدولة الشرقية في وجه الإسلام حصناً منيعا يحمى النصرانية من غزوه وسلطانه. ولكن جيوش الإسلام جازت إلى الغرب عن طريق اسبانيا، وأشرفت من هضاب البرنيه على باقي أمم أوربا النصرانية، ولولا تردد الخلافة وخلاف الزعماء، لاستطاع موسى بن نصير أن ينفذ مشروعه في اختراق أوربا من الغرب إلى المشرق، والوصول إلى دار الخلافة بطريق قسطنطينية، ولكان من المرجح أن تلقى النصرانية يومئذ ضربتها القاضية، وأن يسود الإسلام أمم الشمال كما ساد أمم الجنوب، ولكن الفكرة غاضت في مهدها لتوجس الخلافة وترددها. على أن الفتوح التي قام بها ولاة الأندلس بعد ذلك في جنوب فرنسا، كانت طورا آخر من أطوار ذلك الصراع بين الإسلام والنصرانية. فقد كانت مملكة الفرنج أعظم ممالك الغرب والشمال يومئذ، وكانت تقوم في الغرب بحماية النصرانية،

على نحو ما كانت الدولة الرومانية في الشرق، بل كانت مهمتها في هذه الحماية أشق وأصعب، إذ بينما كان الإسلام يهدد النصرانية من الجنوب، كانت القبائل الوثنية الجرمانية تهددها من الشمال والشرق. وكانت الغزوات الإسلامية تقف في المبدأ عند سبتمانيا ومدنها، ولكنها امتدت بعدئذ إلى أكوتين وضفاف الجارون، ثم امتدت إلى شمال الرون وولاية برجونية، وشملت نصف فرنسا الجنوبي كله، وهكذا بدا الخطر الإسلامي على مصير الفرنج والنصرانية قوياً ساطعاً، وبدت طوالع ذلك الصراع الحاسم، الذي يجب أن تتأهب لخوضه أمم الفرنج والنصرانية كلها. كانت المعركة في سهول فرنسا إذاً بين الإسلام والنصرانية، بيد أنها كانت من الجانب الآخر بين غزاة الدولة الرومانية، والمتنافسين في اجتناء تراثها. كانت بين العرب الذين اجتاحوا أملاك الدولة الرومانية في المشرق والجنوب. وبين الفرنج الذين حلوا في ألمانيا وغاليس (فرنسا). والفرنج هم شعبة من القبائل البربرية التي غزت رومة وتقاسمت تراثها، من وندال وقوط وآلان وشوابيين. فكان ذلك اللقاء بين العرب والفرنج في سهول فرنسا، أكثر من نزاع محلي على غزو مدينة أو ولاية بعينها: كان هذا النزاع في الواقع أبعد ما يكون مدى وأثرا، إذ كان محوره تراث الدولة الرومانية العريض الشاسع، الذي فاز العرب منه بأكبر غنم، ثم أرادوا أن ينتزعوا ما بقي منه بأيدي منافسيهم غزاة الدولة الرومانية من الشمال. وكانت هذه السهول الشمالية، التي قدر أن تشهد موقعة الفصل بين غزاة الدولة الرومانية، تضم مجتمعاً متنافراً، لم تستقر بعد قواعده ونظمه على أسس متينة. ذلك أن القبائل الجرمانية التي عبرت نهر الرين وقضت على سلطان رومة في الأراضي المفتوحة، كانت مزيجاً مضطرماً من الغزاة الظمأى إلى تراث رومة من الثروة والنعماء. وكان القوط قد اجتاحوا شمالي إيطاليا منذ القرن الخامس، وحلوا في جنوبي غاليس واسبانيا. ولكن هذه الممالك البربرية لم تكن تحمل عناصر البقاء والاستقرار، فلم يمض زهاء قرن آخر حتى غزا الفرنج فرنسا، وانتزعوا نصفها الشمالي من يد حاكمه الروماني المستقل بأمره، وانتزعوا نصفها الجنوبي عن القوط، وحلت في غاليس سلطة جديدة ومجتمع جديد. وكان الغزاة في كل

مرة يقيمون ملكهم على القوة وحدها، ويقتسمون السلطة في نوع من الإقطاع، فلا يمضي وقت طويل حتى تقوم في القطر المفتوح عدة إمارات محلية، ولم يعن الغزاة بإقامة مجتمع متماسك ذي نظم سياسية واجتماعية ثابتة، ولم يعنوا بالأخص بأن يندمجوا برعاياهم الجدد. فكان سكان البلاد المفتوحة من الرومان والغاليين، الذين لبثوا قرونا يخضعون لسلطان رومة، ما تزال تسود فيهم لغة رومة وحضارتها، ولكن القبائل الجرمانية الغازية كانت تستأثر بالحكم والرياسة، وتكون وحدها مجتمعا منعزلا، لبثت تسوده الخشونة والبداوة أحقاباً، قبل أن يتأثر بمدنية رومة وتراثها الفكري والاجتماعي. وكان اعتناق الفرنج للنصرانية منذ عهد كلوفيس، أكبر عامل في تطور هذه القبائل وتهذيب عقليتها الوثنية وتقاليدها الوحشية. ثم كان استقرارها بعد حين في الأرض المفتوحة، وتوطد سلطانها وتمتعها بالنعماء والثراء، بعد طول المغامرة والتجوال، وشظف العيش، وحرصها على حياة الدعة والرخاء، عوامل قوية في انحلال عصبيتها الحربية وفتور شغفها بالغزو، وإذكاء رغبتها في الاستعمار والبقاء. وهكذا كانت القبائل الجرمانية التي عبرت الرّين تحت لواء الفرنج واستقرت في غاليس، قد تطورت في أوائل القرن الثامن، إلى مجتمع مستقر متماسك نوعا. ولم تكن غاليس قد استحالت عندئذ إلى فرنسا، ولكن جذور فرنسا المستقبلة كانت قد وضعت، وهيئت الأسباب والعوامل لنشوء الأمة الفرنسية. بيد أن هذا المجتمع رغم تمتعه بنوع من الاستقرار والتماسك، كان وقت أن نفذ العرب إلى فرنسا، فريسة الانحلال والتفكك، وكان الخلاف يمزقه كما قدمنا. وكانت أكوتين وباقي فرنسا الجنوبية، في يد جماعة من الأمراء والزعماء المحليين، الذين انتهزوا ضعف السلطة المركزية، فاستقلوا بما في أيديهم من الأقاليم والمدن. ثم كانت القبائل الجرمانية الوثنية، فيما وراء الرين من جهة أخرى، تحاول اقتحام النهر من آن لآخر، وتهدد بالقضاء على مملكة الفرنج. فكان الفرنج يشغلون برد هذه المحاولات ويقتحمون النهر بين آونة وأخرى لدرء هذا الخطر، ولإرغام القبائل الوثنية على اعتناق النصرانية. فكانت المسألة الدينية أيضاً عاملا قويا في هذا النضال الذي يضطرم بين قبائل وعشائر تجمعها صلة الجنس والنسب. ولم ينقذ مملكة الفرنج من ذلك الخطر، سوى خلاف القبائل الوثنية وتنافسها وتفرق كلمتها (¬1). ¬_______ (¬1) راجع Creasy: Decisive Battles of the World, Ch. VII ( الفصل السابع) =

هكذا كانت مملكة الفرنج والمجتمع الفرنجي في أوائل القرن الثامن، أعني حينما انساب تيار الفتح الإسلامي من اسبانيا إلى جنوبي فرنسا. وكان قد مضى منذ وفاة النبى العربي، إلى عهد هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية (سنة 732 م)، مائة عام فقط. ولكن العرب كانوا خلال هذا القرن، قد افتتحوا جميع الأمم الواقعة بين السند شرقاً والمحيط غرباً، واكتسحوا العالم القديم، في فيض مدهش من الظفر الباهر، واستولوا على جميع أقطار الدولة الرومانية الجنوبية، من الشأم إلى أقاصي المغرب واسبانيا، وعبروا البرنيه إلى أواسط فرنسا، هذا بينما أنفقت القبائل الجرمانية الشمالية، أكثر من ثلاثة قرون في افتتاح أقطار الدولة الشمالية، ومحاولة الاستقرار فيها. وبينما قامت الدولة الإسلامية ثابتة وطيدة الدعائم، وقامت في جميع أقطار الخلافة حكومات محلية قوية، ومجتمعات إسلامية مستنيرة، وجيوش غازية منظمة، إذا بمعظم القبائل الجرمانية غزاة رومة من الشمال، ما يزال إذا استثنينا مملكة الفرنج، على حاله كل من البداوة والتجوال والتفرق. وكان الفرنج هم قادة القبائل الجرمانية في هذا الصراع، الذي نشب في سهول فرنسا، وآذن طوره الحاسم بعبور المسلمين إلى فرنسا في ربيع سنة 732 م. وكان سيل الفتح الإسلامي، ينذر باجتياح فرنسا منذ عشرين عاماً، أعني مذ عبر المسلمون جبال البرنيه بقيادة موسى بن نصير لأول مرة واستولوا على سبتمانيا، ثم اقتحموا بعد ذلك وادي الرون وأكوتين غير مرة. ولكن مملكة الفرنج كانت يومئذ تشغل بالمعارك الداخلية، وتقتتل حول السلطان والرياسة، حتى ظفر كارل مارتل بمنصب محافظ القصر، وأنفق أعواماً أخرى في توطيد سلطانه، بينما كان خصمه ومنافسه أودو أمير أكوتين، يتلقي وحده ضربات العرب. فلما استفحل خطر الفتح الإسلامي، وانساب نحو الشمال حتى برجونية، فزع الفرنج وهبت القبائل الجرمانية في أوستراسيا ونوستريا لتذود عن سلطانها وكيانها. وكان الخطر داهماً حقيقياً في تلك المرة، لأن المسلمين عبروا البرنيه عندئذ في أكبر جيش حشد، وأتم أهبة اتخذت منذ الفتح. وكان على رأس الجيش الإسلامي قائد وافر الهمة والشجاعة والمقدرة هو عبد الرحمن الغافقي، وهو أعظم ¬_______ = ففيه استعراض حسن لأحوال المجتمع الجرماني في هذا العصر، وعرض شائق لحوادث موقعة تور. وراجع أيضا Zeller: Hist.de l'Allemagne, p. 67.

جندى مسلم عبر البرنيه. وكان قد ظهر ببراعته في القيادة منذ موقعة تولوشة، حيث استطاع إنقاذ الجيش الإسلامي من المطاردة عقب هزيمته ومقتل قائده السمح، والارتداد إلى سبتمانيا. وتبالغ الرواية الفرنجية في تقدير جيش عبد الرحمن وأهبته، فتقدره بأربعمائة ألف مقاتل، هذا غير جموع حاشدة أخرى صحبها لاستعمار الأرض المفتوحة. وهو قول ظاهر المبالغة. وتقدره بعض الروايات العربية بسبعين أو ثمانين ألف مقاتل، وهو أقرب إلى الحقيقة والمعقول. وقد أثارت هذه الغزوة الإسلامية الشهيرة، وهذا الجيش الضخم، خيال الشاعر، الأوربي الحديث، فنرى الشاعر الإنجليزي سوذي يقول في منظومته عن ردريك آخر ملوك القوط. " جمع لا يحصى. " من شأم وبربر وعرب، وروم خوارج. " وفرس وقبط وتتر عصبة واحدة. " يجمعها إيمان، هائم راسخ الفتوة. " وحمية مضطرمة، وأخوة مروعة. " ولم يك الزعماء، " أقل ثقة بالنصر، وقد شمخوا بطول ظفر " يتيهون بتلك القوة الجارفة، " التي أيقنوا أنها كما اندفعت، " حيثما كانوا بلا منازع، ستندفع ظافرة إلى الأمام، " حتى يصبح الغرب المغلوب كالشرق، " يطأطىء الرأس إجلالا لاسم محمد، " وينهض الحاج من أقاصي المنجمد، " ليطأ بأقدام الإيمان، الرمال المحرقة، " المنتثرة فوق صحراء العرب وأراضي مكة الصلدة " (¬1). ونفذ عبد الرحمن في جيشه الزاخر إلى فرنسا، في ربيع سنة 732 م (أوائل سنة 114 هـ)، واقتحم وادي الرون وولاية أكوتين، وشتت قوى الدوق أودو، وأشرف بعد هذا السير الباهر على ضفاف نهر اللوار. وتقول بعض الروايات ¬_______ (¬1) Southy: Roderic the last of the Goths

الكنسية، إن أودو هو الذي استدعى عبد الرحمن إلى فرنسا، ليعاونه على محاربة خصمه كارل مارتل (¬1). ولكن هذه الرواية مردودة غير معقولة، لما قدمنا من أن أودو هو الذي بادر إلى مقاومة عبد الرحمن ورده، وكانت مملكته وعاصمته أول غنم للمسلمين. وكان ملك الفرنج يومئذ تيودوريك الرابع، ولكن ملوك الفرنج كانوا في ذلك العصر أشباحاً قائمة فقط. وكان محافظ القصر كارل مارتل هو الملك الحقيقي، يستأثر بكل سلطة حقيقية، وعليه يقع عبء الدفاع عن ملكه وأمته. وكان منذ استفحل خطر الفتح الإسلامي يتخذ أهبته ويحشد قواه. ولكن عبد الرحمن سار إلى قلب فرنسا قبل أن يتحرك للقائه. وترد الرواية الإسلامية هذا التمهل إلى خطة مرسومة مقصودة. فتقول في هذا الموطن: " فاجتمعت الفرنج إلى ملكها الأعظم قارلة وهذه سمة لملوكهم، فقالت له ما هذا الخزي الباقي في الأعقاب. كنا نسمع بالعرب ونخافهم من جهة مطلع الشمس حتى أتوا من مغربها، واستولوا على بلاد الأندلس، وعظيم ما فيها من العدة والعدد، بجمعهم القليل وقلة عدتهم وكونهم لا دروع لهم. فقال لهم ما معناه: الرأي عندى أن لا نعترضهم في خرجتهم هذه، فانهم كالسيل يحمل من يصادره، وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تغني عن كثرة العدد، وقلوب تغني عن حصانة الدروع، ولكن أمهلوهم حتى تمتلىء أيديهم من الغنائم، ويتخذوا المساكن، ويتنافسوا في الرياسة، ويستعين بعضهم ببعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر " (¬2). ونستطيع أيضاً أن نفسر تمهل كارل مارتل بأنه كان يقصد إلى ترك خصمه ومنافسه أودو دون إغاثة، حتى يقضي المسلمون على ملكه وسلطانه، فيتخلص بذلك من منافسته ومناوأته. وعلى أى حال فإن عبد الرحمن كان قد اقتحم أكوتين وجنوبي فرنسا كله، حينما تأهب كارل مارتل للسير إلى لقائه. وجاء الدوق أودو بعد ضياع ملكه، تمزيق ¬_______ (¬1) موسوعة Bouquet: Recueil des Historiens de la Gaule et de la France رواية القديس دني Vol.III.p. 310. وراجع أيضا موسوعة: Bayle: Dictionnaire Historique et Critique تحت كلمة Abderame (¬2) المقري عن الحجاري في المسهب (نفح الطيب ج 1 ص 129). ويورد الحجارى هذه الرواية بمناسبة عبور موسى بن نصير إلى فرنسا. ولكن ظاهر من اسم قارلة (كارل) أن الأمر يتعلق بالغزوة الكبيرة التي نتحدث عنها؛ وإليها ترجعها الرواية الكنسية اللاتينية. راجع: Gibbon: ibid, Ch.LII حيث يورد نفس هذه الفقرة في كلامه عن موقعة تور.

قواته يطلب العون والنجدة من خصمه القديم أعني كارل مارتل (¬1). وكان كارل قد حشد جيشا ضخماً من الفرنج ومختلف العشائر الجرمانية المتوحشة، والعصابات المرتزقة فيما وراء الرين، يمتزج فيه المقاتلة من أمم الشمال كلها، وجله جند غير نظاميين، نصف عراة يتشحون بجلود الذئاب، وتنسدل شعورهم الجعدة، فوق أكتافهم العارية. وسار زعيم الفرنجة في هذا الجيش الجرار نحو الجنوب لملاقاة العرب في حمى الهضاب والربى، حتى يفاجىء العدو في مراكزه قبل أن يستكمل الأهبة لرده. وكان الجيش الإسلامي قد اجتاح عندئذ جميع أراضي أكوتين، التي تقابل اليوم من مقاطعات فرنسا الحديثة جويان وبريجور وسانتونج وبواتو، وأشرف بعد سيره المظفر على مروج نهر اللوار الجنوبية، حيثما يلتقي بثلاثة من فروعه هي " الكريز " و" الفيين " و" الكلين ". ومن الصعب أن نعين بالتحقيق، مكان ذلك اللقاء الحاسم في تاريخ الشرق والغرب، والإسلام والنصرانية. ولكن المتفق عليه أنه السهل الواقع بين مدينتي بواتييه وتور، حول نهري كلين وفيين فرعي اللوار، على مقربة من مدينة تور. والرواية الإسلامية مقلة موجزة في الكلام عن تلك الموقعة العظيمة، وليس فيما لدينا من المصادر العربية عنها أي تفصيل شامل، وإنما وردت تفاصيل للرواية الإسلامية عن الموقعة، نقلها إلينا المؤرخ الإسباني كوندي سنعود إليها بعد. وتفيض الرواية الفرنجية والكنسية بالعكس في حوادث الموقعة، وتقدم إلينا عنها تفاصيل شائقة، ولكن يحفها الريب وتنقصها الدقة التاريخية. وقد رأينا أن نحاول وصف الموقعة أولا مما لدينا من أقوال الروايتين، ثم نعود بعد ذلك إلى ذكر كل منهما. انتهي الجيش الإسلامي في زحفه إلى السهل الممتد بن مدينتي بواتييه وتور كما قدمنا، واستولى المسلمون على بواتييه، ونهبوها وأحرقوا كنيستها الشهيرة. ثم هجموا على مدينة تور الواقعة على ضفة اللوار اليسرى، واستولو عليها وخربوا كنيستها أيضا. وفي ذلك الحين كان جيش الفرنج قد انتهي إلى اللوار، دون أن يشعر المسلمون بمقدمه بادئ بدء، وأخطأت الطلائع الإسلامية تقدير عدده وعدته. فلما أراد عبد الرحمن أن يقتحم اللوار، لملاقاة العدو على ضفته اليمنى فاجأه كارل مارتل بجموعه الجرارة. وألفى عبد الرحمن جيش الفرنج يفوقه في ¬_______ (¬1) Dom Vissette, ibid, V.I. p. 795

الكثرة، فارتد من ضفاف النهر ثانية إلى السهل الواقع بين تور وبواتييه. وعبر كارل اللوار غربي تور، وعسكر بجيشه إلى يسار الجيش الإسلامي بأميال قليلة، يين نهري كلين وفيين فرعي اللوار. وكان الجيش الإسلامي في حال تدعو إلى القلق والتوجس، فإن الشقاق كان يضطرم بين قبائل البربر التي يتألف منها معظم الجيش، وكانت تتوق إلى الانسحاب ناجية بغنائمها الكبيرة. وكان المسلمون في الواقع قد استصفوا ثروات فرنسا ْالجنوبية أثناء سيرهم المظفر، ونهبوا جميع كنائسها وأديارها الغنية، وأثقلوا بما لا يقدر ولا يحصى، من الذخائر والغنائم والسبي، فكانت هذه الأثقال النفيسة تحدث الخلل في صفوفهم، وتثير بينهم ضروب الخلاف والنزاع. وقدر عبد الرحمن خطر هذه الغنائم على نظام الجيش وأهبته، وخشي مما تثيره في نفوس الجند من الحرص والانشغال، وحاول عبثا أن يحملهم على ترك شىء منها. ولكنه لم يشدد في ذلك خيفة التمرد. وكان المسلمون من جهة أخرى، قد أنهكتهم غزوات أشهر متواصلة، مذ دخلوا فرنسا، ونقص عددهم بسبب تخلف حاميات عديدة منهم، في كثير من القواعد والمدن المفتوحة. ولكن عبد الرحمن تأهب لقتال العدو وخوض المعركة الحاسمة بعزم وثقة. وبدأ القتال في اليوم الثاني عشر أو الثالث عشر من أكتوبر سنة 732 م (أواخر شعبان سنة 114 هـ) فنشبت بين الجيشين معارك محلية مدى سبعة أيام أو ثمانية، احتفظ فيها كل بمراكزه. وفي اليوم التاسع نشبت بينهما معركة عامة، فاقتتلا بشدة وتعادل، حتى دخول الليل. واستأنفا القتال في اليوم التالى، وأبدى كلاهما منتهي الشجاعة والجلد، حتى بدا الإعياء على الفرنج، ولاح النصر في جانب المسلمين. ولكن حدث عندئذ أن افتتح الفرنج ثغرة إلى معسكر الغنائم الإسلامي، وخشي عليه من السقوط في أيديهم، أو حدث كما تقول الرواية أن ارتفعت صيحة مجهول في المراكز الإسلامية، بأن معسكر الغنائم سوف يقع في يد العدو. فارتدت قوة كبيرة من الفرسان من قلب المعركة إلى ما وراء الصفوف لحماية الغنائم، وتواثب كثير من الجند للدفاع عن غنائمهم، فدب الخلل إلى صفوف المسلمين. وعبثا حاول عبد الرحمن أن يعيد النظام وأن يهدئ روع الجند، وبينما هو يتنقل أمام الصفوف يقودها ويجمع شتاتها، إذ أصابه من جانب الأعداء سهم أودى

بحياته، فسقط قتيلا من فوق جواده، وعم الذعر والاضطراب في الجيش الإسلامي، واشتدت وطأة الفرنج على المسلمين، وكثر القتل في صفوفهم. ولكنهم صمدوا للعدو حتى جن الليل، وافترق الجيشان دون فصل. وكان ذلك في اليوم الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 732 م (أوائل رمضان سنة 114 هـ) (¬1). وهنا اضطرم الجدل والنزاع بين قادة الجيش الإسلامي، واختلف الرأي وهاجت الخواطر، وسرى التوجس والفزع. ورأى الزعماء أن كل أمل في النصر قد غاض، فقرروا الانسحاب على الأثر. وفي الحال غادر المسلمون مراكزهم، وارتدوا في جوف الليل وتحت جنح الظلام، جنوبا صوب قواعدهم في سبتمانيا، تاركين أثقالهم ومعظم أسلابهم غنماً للعدو. وفي فجر الغد، لاحظ كارل وحليفه أودو سكون المعسكرات العربية، فتقدما منها بحذر وإحجام، فألفياها خاوية خالية إلا من بعض الجرحى الذين لم يستطيعوا مرافقة الجيش المنسحب، فذبحوا على الأثر وخشي كارل الخديعة والكمين فاكتفى بانسحاب العدو، ولم يجرؤ على مطاردته، وآثر العود بجيشه إلى الشمال. هذه هي أصدق صورة لحوادث تلك الموقعة الشهيرة، طبقا لمختلف الروايات. والآن نورد ما تقوله الرواية الفرنجية الكنسية ثم الرواية الإسلامية. أما الرواية الفرنجية الكنسية فيشوبها كثير من المبالغة والتحامل والتعصب، وهي تصف مصائب فرنسا والنصرانية من جراء غزوة العرب، في صور مثيرة محزنة، وتفصل حوادث هذه الغزوة فتقول إحداها: " لما رأى الدوق أودو أن الأمير شارل (كارل) قد هزمه وأذله، وأنه لا يستطيع الانتقام، إذا لم يتلق النجدة من إحدى النواحي، تحالف مع عرب اسبانيا، ودعاهم إلى معاونته ضد الأمير شارل وضد النصرانية، وعندئذ خرج العرب وملكهم عبد الرحمن، من ¬_______ (¬1) تجمع معظم الروايات الفرنجية والكنسية على أن الموقعة كانت في أكتوبر سنة 732 م. وهذا التاريخ يوافق بالهجرية شعبان سنة 114. بيد أن الرواية الاسلامية تختلف في تحديد هذا التاريخ؛ فالبعض يقول إنها كانت سنة 115 هـ (ابن عبد الحكم ص 317، والضبي في بغية الملتمس رقم 1021، وابن عذارى في البيان المغرب ج 1 ص 37؛ ولكنه يعود فيذكر أن الموقعة كانت سنة 114هـ (ج 2 ص 28). ولكن ابن الأثير (ج 5 ص 74)، وابن خلدون (ج 4 ص 119) والمقري عن ابن حيان (ج 1 ص 109 وج 2 ص 56) متفقون عل أنها كانت سنة 114هـ؛ ويقول الأخيران إنها كانت في رمضان سنة 114 هـ، وهو أصح تعيين يتفق مع الرواية الغربية.

اسبانيا، مع جميع نسائهم وأولادهم وعددهم وأقواتهم، في جموع لا تحصى ولا تقدر، وحملوا كل ما استطاعوا من الأسلحة والذخائر، كأنما عولوا على البقاء في أرض فرنسا، ثم اخترقوا مقاطعة جيروند، واقتحموا بوردو، وقتلوا الناس، ونهبوا الكنائس، وخربوا كل البسائط، وساروا حتى بواتيو ... " (¬1). وتقول أخرى: " ولما رأى عبد الرحمن أن السهول قد غصت بجموعه، اقتحم الجبال، ووطيء السهول بسيطها ووعرها، وتوغل مثخنا في بلاد الفرنج، وسحق بسيفه كل شىء، حتى أن أودو حينما تقدم لقتاله على نهر الجارون وفر منهزما أمامه، لم يكن يعرف عدد القتلى سوى الله وحده، ثم طارد عبد الرحمن الكونت أودو، وحينما حاول أن ينهب كنيسة تور المقدسة ويحرقها، التقى بكارل أمير فرنج أوستراسيا، وهو رجل حرب منذ فتوته، وكان أودو قد بادر بإخطاره. وهناك قضى الفريقان أسبوعاً في التأهب، واصطفا أخيراً للقتال، ثم وقفت أمم الشمال كسور منيع، أو منطقة من الثلج لا تخترق، وأثخنت في العرب بحد السيف ". " ولما أن استطاع أهل أوستراسيا (الفرنج)، بقوة أطرافهم الضخمة، وبأيديهم الحديدية، التي ترسل من الصدر تواً ضرباتها القوية، أن يجهزوا على جموع كبيرة من العدو، التقوا أخيراً بالمك (عبد الرحمن) وقضوا على حياته. ثم دخل الليل ففصل بين الجيشين، والفرنج يلوحون بسيوفهم عالية احتقارا للعدو. فلما استيقظوا في فجر الغد، ورأوا خيام العرب الكثيرة كلها مصفوفة أمامهم، تأهبوا للقتال معتقدين أن جموع العدو. جاثمة فيها. ولكنهم حينما أرسلوا طلائعهم، ألفوا جموع المسلمين، قد فرت صامتة تحت جنح الليل، مولية شطر يلادها. على أنهم خشوا أن يكون هذا الفرار خديعة يعقبها كمين من جهات أخرى، فأحاطوا بالمعسكر حذرين دهشين. ولكن الغزاة كانوا قد فروا، وبعد أن اقتسم الفرنج الغنائم والأسرى فيما بينهم بنظام، عادوا مغتبطين إلى ديارهم " (¬2). ¬_______ (¬1) هذه هي رواية القديس دني Saint Denis - وردت في موسوعة Bouquet. ووردت في هذه الموسوعة أيضا أقوال آخرين من الرواة الأحبار. (¬2) هذه هي رواية إيزيدور الباجي وهو معاصر للموقعة. راجع Creasy: ibid , Ch.VII و Hodgkin,Charles the Great;Ch.III، وكذلك Gibbon: ibid ,Ch.LII ففيها تنقل هذه التفاصيل أو تلخص.

وأما الرواية الإسلامية فهي ضنينة في هذا الموطن كل الضن كما أسلفنا. ويمر معظم المؤرخين المسلمين على تلك الحوادث العظيمة، بالصمت أو الإشارة الموجزة كما سنرى. غير أن المؤرخ الإسباني كوندي يقدم إلينا خلاصة من أقوال ينسبها الى الرواية الأندلسية المسلمة (¬1)، عن غزو فرنسا وعن موقعة تور؛ ونحن ننقلها مترجمة فيما يلى: " لما علم الفرنج وسكان بلاد الحدود الإسبانية بمقتل عثمان بن أبي نسعة، وسمعوا بضخامة الجيش الإسلامي الذي سير إليهم، استعدوا للدفاع جهدهم، وكتبوا إلى جيرانهم يلتمسون الغوث. وجمع الكونت وسيد هذه الأنحاء (يريد أودو) قواته وسار للقاء العرب، ووقعت بينهم معارك سجال. ولكن النصر كان إلى جانب عبد الرحمن بوجه عام، فاستولى تباعاً على كل مدن الكونت. وكان جنده قد نفخ فيهم حسن طالعهم المستمر، فلم يكونوا يرغبون إلا في خوض المعارك، واثقين كل الثقة في شجاعة قائدهم وبراعته. " وعبر المسلمون نهر الجارون، وأحرقوا كل المدن الواقعة على ضفافه، وخربوا جميع الضياع، وسبوا جموعاً لا تحصى، وانقض هذا الجيش على البلاد كالعاصفة المخربة فاجتاحها، وأذكى اضطرام الجند، نجاح غزواتهم، واستمرار ظفرهم وما أصابوا من الغنائم. " ولما عبر عبد الرحمن نهر الجارون اعترضه أمير هذه الأنحاء، ولكنه هزمه ففر أمامه وامتنع بمدينته. فحاصرها المسلمون ولم يلبثوا أن اقتحموها، وسحقوا بسيوفهم الماحقة كل شىء. ومات الكونت مدافعاً عن مدينته، واحتز الغزاة رأسه (¬2). ثم ساروا مثقلين بالغنائم في طلب انتصارات أخرى، وارتجت بلاد ¬_______ (¬1) لم نقف في أي المصادر العربية التي بين أيدينا، على أصل هذه التفاصيل التي يقول كوندي إنه اقتبسها من الرواية العربية، ولم يذكر هو مصدر اقتباسه. ولعله نقلها عن بعض مخطوطات الإسكوريال أو المجموعات الخاصة وقد فقدت آثارها اليوم، كما فقدت مخطوطات كثيرة من المجموعة الأندلسية بالإسكوريال. ولعله أيضا نقل شيئا منها من شذور لابن حيان وابن بشكوال كانت موجودة في عصره ولم تصل الينا. ويلوح لنا أن الحجاري في كتابه " المسهب " قد تناول هذه الحوادث بالتفصيل حيث نقل المقري عنه شذرة تفيد ذلك. (نفح ج 1 ص 139)، ولعل كوندي وقف على شىء منها. على أننا لم نعثر خلال بحوثنا في مجموعة الإسكوريال على أثر لمثل هذه المخطوطات أو الأوراق. راجع حديث كوندي عن مصادره: Conde: ibid, V.I Prologo, p. 20 & 21. (¬2) هذا خلط بين، لأن الكونت أودو لم يقتل عندئذ، بل فر إلى الشمال، وعاد لقتال عبد الرحمن في تور كما قدمنا.

الفرنج كلها رعباً لاقتراب جموع المسلمين، وهرع الفرنج إلى ملكهم قلدوس في طلب الغوث، وأخبروه بما يأتيه الفرسان المسلمون من العيث والسفك، وكأنهم في كل مكان، وكيف أنهم أحتلوا واجتاحوا كل أقاليم أربونة وتولوشة وبردال (¬1) وقتلوا الكونت. فهدأ الملك روعهم ووعدهم بالغوث العاجل. وفي سنة 114هـ سار على رأس جموع لاتحصى للقاء المسلمين. وكان المسلمون قد اقتربوا عندئذ من مدينة تور، وهنالك علم عبد الرحمن بأمر الجيش العظيم الذي سيلقى. وكان جيشه قد دب إليه الخلل، لأنه كان مثقلا بالغنائم من كل ضرب. ورأى عبد الرحمن وأولوا الحزم من زملائه, أن يحملوا الجند على ترك هذه الأثقال، والاقتصار على أسلحتهم وخيولهم، ولكن خشوا التمرد أو أن يثبطوا عزائم الجند، واستسلموا لرأي الواثقين المستهترين. واعتمد عبد الرحمن على شجاعة جنده، وحسن طالعه المستمر. ولكن الأضطراب خطر خالد على سلامة الجيوش. نعم إن الجند يحملهم ظمأ الغنم، قد أتوا جهوداً لم يسمع بها، فطوقوا مدينة تور، وقاتلوا حصونها بشدة رائعة، حتى سقطت في أيديهم أمام أعين الجيش القادم لإنقاذها، وانقض المسلمون على أهلها كالضواري المفترسة، وأمعنوا القتل فيهم. قالوا، ولعل الله أراد أن يعاقب المسلمين على تلك الآثام، وكان طالعهم قد ولى. " وعلى ضفاف نهر " الأوار " (اللوار) اصطف رجال اللغتين، والتقى المسلمون والنصارى، وكلاهما جزع من الآخر، وكان عبد الرحمن ثقة منه بظفره المستمر، هو البادئ بالهجوم، فانقض بفرسانه على الفرنج بشدة، وقابله الفرنج بالمثل. ودامت المعركة ذريعة مروعة طوال اليوم حتى جن الليل. وفرق بين الجيشين. وفي اليوم التالي استؤنف القتال منذ الفجر بشدة، وشق بعض مقدمي المسلمين طريقهم إلى صفوف العدو وتوغلوا فيها. ولكن عبد الرحمن لاحظ والمعركة في أوج اضطرامها، أن جماعة كبيرة من فرسانه، غادرت الميدان بسرعة لحماية الغنائم المكدسة في المعسكر العربي، لأن العدو أخذ يهددها. فأحدثت هذه الحركة خللا في صفوف المسلمين، وخشي عبد الرحمن عاقبة هذا الاضطراب، فأخذ يثب من صف إلى صف يحث جنوده على القتال، ولكنه ما لبث أن أدرك أنه يستحيل عليه ضبطهم، فارتد يحارب مع أشجع جنده حيثما استقرت المعركة، ¬_______ (¬1) مدينة بوردو.

حتى سقط قتيلا مع جواده وقد أثخن طعانا. وهنا ساد الخلل في الجيش الإسلامي وارتد المسلمون في كل ناحية، ولم يعاونهم على الانسحاب من تلك المعركة الهائلة سوى دخول الليل. " وانتهز النصارى هذه الفرصة فطاردوا الجنود المنهزمة أياماً عديدة، واضطر المسلمون أثناء انسحابهم أن يحتملوا عدة هجمات، واستمر الصراع بين مناظر مروعة حتى أربونة. " وقد وقعت هذه الهزيمة الفادحة بالمسلمين، وقتل قائدهم الشهير عبد الرحمن سنة 115 هـ. ثم أن ملك فرنسا حاصر مدينة أربونة، ولكن المسلمين دافعوا عنها بشجاعة فائقة، حتى أرغم على رفع الحصار، وارتد إلى داخل بلاده وقد أصابته خسائر كبيرة " (¬1). وأورد المؤرخ كاردون من جهة أخرى في كلامه عن الموقعة، فقرة ذكر أنه نقلها عن ابن خلكان جاء فيها: "لما استولى العرب على قرقشونة خشي قارله (كارل) أن يتوغلوا في الفتح، فسار لقتالهم في الأرض الكبيرة (فرنسا) في جيش ضخم، وعلم العرب بقدومه وهم في لوذون (ليون) وأن جيشه يفوقهم بكثرة، فعولوا على الارتداد. وسار قارله حتى سهل أنيسون دون أن يلقى أحداً إذ احتجب العرب وراء الجبال وامتنعوا بها، فطوق هذه الجبال دون أن يدري العرب، ثم قاتلهم حتى هلك عدد عظيم منهم، وفر الباقون إلى أربونة. فحاصر قارلة أربونة مدة، ولم يستطيع فتحها فارتد إلى أراضيه، وأنشأ قلعة وادي رذونة (الرون)، ووضع فيها حامية قوية لتكون حداً بينه وبين العرب " (¬2). ونعود بعد ذلك إلى الرواية الإسلامية فنقول إن المؤرخين المسلمين يمرون على حوادث هذه الموقعة الشهيرة إما بالصمت أو الإشارة الموجزة. ويجب أن نذكر بادىء بدء أن موقعة تور، تعرف في التاريخ الإسلامي بواقعة البلاط أو بلاط ¬_______ (¬1) Conde: ibid , Vol,I, p. 86-88 (¬2) راجع: Cardonne: ibid, V.I.P.129-131 وقد بحثنا طويلا في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان في مظان وجود هذه التفاصيل فلم نعثر بها. ولعل كاردون وقد كتب في أواسط القرن الثامن عشر، واستعان بمخطوطات عربية في المكتبة الملكية في باريس، قد نقل عن نسخة لابن خلكان فيها زيادات عن النسخة التي بين أيدينا. ولسنا نعلم من جهة أخرى أن لابن خلكان مؤلفا تاريخيا آخر يمكن أن يحتوي مثل هذه التفاصيل.

الشهداء، لكثرة من استشهد فيها من أكابر المسلمين والتابعين. وفي هذه التسمية ذاتها، وفي تحفظ الرواية الإسلامية، وفي لهجة العبارات القليلة التي ذكرت بها الموقعة، ما يدل على أن المؤرخين المسلمين، يقدرون خطورة هذا اللقاء الحاسم بين الإسلام والنصرانية، ويقدرون فداحة الخطب الذي نزل بالإسلام في سهول تور. ويدل على لون الموقعة الديني ما تردده الأسطورة الإسلامية، من أن الأذان لبث عصوراً طويلة يسمع في بلاط الشهداء (¬1). ونستطيع أن نحمل تحفظ المؤرخين المسلمين في هذا المقام، على أنهم لم يروا أن يبسطوا القول في مصاب جلل نزل بالإسلام، ولا أن يفيضوا في تفاصيله المؤلمة، فاكتفوا بالإشارة الموجزة، ولم يكن ثمة مجال للتعليق أيضا، ولا التحدث عن نتائج خطب، لاريب أنه كان ضربة للإسلام ولمطامع الخلافة ومشاريعها. وإذا استثنينا بعض الروايات الأندلسية التي كتبت عن الموقعة في عصر متأخر، والتي نقلناها فيما تقدم، فإن المؤرخين المسلمين يتفقون جميعا في هذا الصمت والتحفظ. وهذه طائفة من أقوالهم وإشاراتهم الموجزة: قال ابن عبد الحكم، وهو من أقدم رواة الفتوح الإسلامية وأقرب من كتب عن فتوح الأندلس ما يأتي: " وكان عبيدة (يريد والي إفريقية) قد ولى عبد الرحمن بن عبد الله العكي على الأندلس، وكان رجلا صالحا فغزا عبد الرحمن إفرنجة، وهم أقاصي عدو الأندلس، فغنم غنائم كثيرة وظفر بهم ... ثم خرج إليهم غازيا فاستشهد وعامة أصحابه، وكان قتله فيما حدثنا يحي عن الليث في سنة خمسة عشر ومائة " (¬2). ولم يذكر الواقدي والبلاذري والطبري وهم أيضا من أقدم رواة الفتوح شيئاً عن الموقعة. وقال ابن الأثير في حوادث سنة ثلاث عشرة ومائة مرددا الرواية ابن عبد الحكم. " ثم إن عبيدة استعمل على الأندلس عبد الرحمن ابن عبد الله، فغزا إفرنجة وتوغل في أرضهم وغنم غنائم كثيرة. ثم خرج غازيا ببلاد الفرنج في هذه السنة (أعني 113 هـ)، وقيل سنة أربع عشرة ومائة وهو الصحيح، فقتل هو ومن معه شهداء " (¬3). وينسب ابن خلدون الموقعة خطأ لابن الحبحاب والى مصر وإفريقية فيقول: " وقدم بعده (أي بعد الهيثم) محمد ¬_______ (¬1) المقري عن ابن حيان (نفح الطيب ج 2 ص 56). (¬2) فتوح مصر وأخبارها ص 216 217. (¬3) ابن الأثير ج 5 ص 64.

ابن عبد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية فدخلها (أي الأندلس) سنة ثلاث عشرة، وغزا إفرنجة وكانت له فيهم وقائع، وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة فولى سنتين " (¬1). ولدينا من الرواية الأندلسية ما قاله صاحب " أخبار مجموعة " عند ذكر ولاة الأندلس وهو: " ثم (أي وليها) عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، وعلى يده استشهد أهل البلاط الشهداء، واستشهد معهم واليهم عبد الرحمن " (¬2). ونقل الضبي في ترجمة عبد الرحمن ما ذكر ابن عبد الحكم عن الموقعة (¬3). وقال الحميدي وهو من مؤرخي الأندلس في حديثه عن عبد الرحمن: " وعبد الرحمن الغافقي هذا من التابعين ... استشهد في قتال الروم بالأندلس سنة خمس عشرة ومائة " (¬4). وقال ابن عذارى المراكشي: " ثم ولي الأندلس عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي، فغزا الروم واستشهد مع جماعة من عسكره سنة 115، بموضع يعرف ببلاط الشهداء " (¬5) وقال في موضع آخر " ثم ولي الأندلس عبد الرحمن هذا (أى الغافقي) ثانية وكان جلوسه لها في صفر سنة 112 فاقام والياً سنتين وسبعة أشهر وقيل وثمانية أشهر، واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة 114 " (¬6). وقال المقري فيما نقل: " قدم عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي من قبل عبيد الله بن الحبحاب صاحب إفريقية، فدخلها (أى الأندلس) سنة ثلاث عشرة، وغزا الإفرنجة وكانت له فيهم وقائع، وأصيب عسكره في رمضان سنة أربع عشرة في موضع يعرف ببلاط الشهداء وبه عرفت الغزوة " (¬7). ونقل في موضع آخر: " وذكر أنه قتل (والإشارة هنا خطأ إلى السمح بن مالك) في الواقعة المشهورة عند أهل الأندلس بوقعة البلاط، وكانت جنود الإفرنجة قد تكاثرت عليه، فأحاطت بالمسلمين فلم ينج من المسلمين أحد. قال ابن حيان، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 119، وفي نسبته الموقعة لمحمد بن الحبحاب خطأ بين لأن ابن الحبحاب كان عامل مصر، ولم يندب لولاية إفريقية سوى سنة عشرة ومائة. ولم يل هو أو ولده الأندلس قط (راجع ابن عبد الحكم ص 217). (¬2) أخبار مجموعة في فتح الأندلس ص 25. (¬3) بغية الملتمس رقم 1021. (¬4) جذوة المقتبس (طبع القاهرة) ص 256. (¬5) البيان المغرب ج 2 ص 27. (¬6) البيان المغرب ج 2 ص 28. (¬7) نفح الطيب ج 1 ص 109.

فيقال إن الأذان يسمع بذلك الموضع إلى الآن ". ونقل عن ابن حيان: " قال دخل الأندلس (أي عبد الرحمن) حين وليها ولايته الثانية من قبل ابن الحبحاب في صفر سنة ثلاث عشرة ومائة، وغزا الإفرنج فكانت له فيهم وقائع جمة إلى أن استشهد، وأصيب عسكره في موضع يعرف ببلاط الشهداء. قال ابن بشكوال وتعرف غزوته هذه بغزوة البلاط " (¬1). هذه الفقرات والإشارات الموجزة، التي تكاد تتفق جميعا في اللفظ والمعنى، هي ما ارتضت الرواية الإسلامية أن تقدمه إلينا في هذا المقام، وإن كان في تحفظها ذاته ما ينم عن تقديرها لرهبة الحادث وخطورته وبعد آثاره. وإذا كان صمت الرواية الإسلامية تمليه فداحة الخطب الذي أصاب الإسلام في سهول تور، فإن الرواية النصرانية تفيض بالعكس في تفاصيل الموقعة إفاضة واضحة، وتشيد بظفر النصرانية ونجاتها من الخطر الإسلامي، وترفع بطولة كارل مارتل إلى السماكين. وتذهب الرواية النصرانية، ومعظم كتابها من الأحبار المعاصرين، في تصوير نكبة المسلمين إلى حد الإغراق، فتزعم أن القتلى من المسلمين في الموقعة بلغوا ثلاثمائة وخمسة وسبعين ألفاً، في حين أنه لم يقتل من الفرنج سوى ألف وخمسمائة. ومنشأ هذه الرواية رسالة أرسلها الدوق أودو إلى البابا جريجورى الثاني، يصف فيها حوادث الموقعة وينسب النصر لنفسه، فنقلتها التواريخ النصرانية المعاصرة واللاحقة، كأنها حقيقة يستطيع العقل أن يسيغها. بيد أنها ليست سوى محض خرافة، فإن الجيش الإسلامي كله، لم يبلغ حين دخوله فرنسا على أقصى تقدير، أكثر من مائة ألف (¬2). والجيش الإسلامي لم يهزم في تور ولم يسحق، بالمعنى الذي تفهم به الهزيمة الساحقة، ولكنه ارتد من تلقاء نفسه بعد أن لبث طوال المعركة الفاصلة، يقاتل حتى المساء محتفظا بمراكزه أمام العدو، ولم يرتد أثناء القتال ولم يهزم. ومن المستحيل أن يصل القتل الذريع في جيش يحافظ على ثباته ومواقعه، إلى هذه النسبة الخيالية. ومن المعقول أن تكون خسائر المسلمين فادحة في مثل هذه المعارك الهائلة، وهذا ما تسلم به الرواية الإسلامية. ولكن مثل هذه ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 56. (¬2) وهذا التقدير يأخذ به بعض الؤرخين الغربيين أيضا، مثال ذلك المؤرخ الفرنسي Mezeral. راجع التعليقات في موسوعة Bayle، تحت كلمة Abderame.

الخسائر لا يمكن أن تعدو بضع عشرات الألوف في جيش لم يزد على مائة ألف. وأسطع دليل على ذلك هو حذر الفرنج وإحجامهم عن مطاردة العرب عقب الموقعة، وتوجسهم أن يكون انسحاب العرب خديعة حربية، فلو أن الجيش الإسلامي انتهي إلى أنقاض ممزقة، لبادر الفرنج بمطاردته والإجهاز عليه. ولكنه كان مايزال من القوة والكثرة إلى حد يخيف العدو ويرده (¬1). على أن خسارة المسلمين كانت بالأخص فادحة في نوعها، تتمثل في مقتل عبد الرحمن وجمع كبير من زعماء الجيش وقادته. بل كان مقتل عبد الرحمن أفدح ما في هذه الخسارة، فقد كان خير ولاة الأندلس، وكان أعظم قائد عرفه الإسلام في الغرب، وكان الرجل الوحيد الذي استطاع بهيبته وقوة خلاله، أن يجمع كلمة الإسلام في اسبانيا، فكان لمقتله في هذا المأزق العصيب، ضربة شديدة لمثل الإسلام ومشاريع الخلافة في افتتاح الغرب (¬2). ويعلق النقد الحديث على هذا اللقاء بين الإسلام والنصرانية أهمية كبرى، وينوه بخطورة آثاره وبعد مداها في تغيير مصاير النصرانية وأمم الغرب، ومن ثم في تغير تاريخ العالم كله. وإليك طائفة مما يقوله أكبر مؤرخي الغرب ومفكريه في هذا المقام: قال إدوارد جيبون، إن حوادث هذه الموقعة " أنقذت آباءنا البريطانيين وجيراننا الغاليين (الفرنسيين) من نير القرآن المدني والديني، وحفظت جلال رومة، وأخرت استعباد قسطنطينية، وشدت بأزر النصرانية، وأوقعت بأعدائها بذور التفرق والفشل " (¬3). ويعتبر المؤرخ أرنولد الموقعة " إحدى هاته المواقف ¬_______ (¬1) قال ادوارد جيبون تعليقا على مزاعم الرواية الفرنجية " ولكن تلك القصة الخرافية يمكن ردها بحذر القائد الفرنسي (كارل مارتل) إذ توجس من شراك المطاردة ومفاجآتها ورد حلفاءه الألمان إلى أوطانهم. ان سكون الفاتح ينم عن فقد الدماء والقوة، وأن أشنع تمزيق للعدو لا يقع حين التحام الصفوف، وإنما حين الانسحاب وتولية الأدبار ". (¬2) راجع موسوعة Bayle تحت كلمة Abderame، ففيها أيضا إنكار للرواية الفرنجية عن خسائر العرب. وفي هذه الموسوعة تعليقات وملاحظات مفيدة لطائفة من المؤرخين الفرنسيين تجمع كلها على التنديد بمبالغة الرواية الفرنجية. وراجع أيضا Dom Vissette: ibid , V.I.p. 797 حيث يدحض مزاعم الروايات النصرانية. (¬3) Romann Empiree - Ch.LII..

الرهيبة لنجاة الإنسانية وضمان سعادتها مدى قرون " (¬1). ويقول السير إدوار كريزي: " إن النصر العظيم الذي ناله كارل مارتل على العرب سنة 732 وضع حدا حاسما لفتوح العرب في غرب أوربا، وأنقذ النصرانية من الإسلام، وحفظ بقايا الحضارة القديمة، وبذور الحضارة الحديثة، ورد التفوق القديم للأمم الهندية الأوربية على الأمم السامية " (¬2). ويقول فون شليجل في كلامه عن الإسلام والإمبراطورية العربية: " ما كاد العرب يتمون فتح إسبانيا حتى تطلعوا إلى فتح غاليا وبرجونية. ولكن النصر الساحق الذي غنمه بطل الفرنج كارل مارتل بين تور وبواتييه وضع لتقدمهم حداً، وسقط قائدهم عبد الرحمن في الميدان مع زهرة جنده. وبذا أنقذ كارل مارتل بسيفه أمم الغرب النصرانية من قبضة الإسلام الفتاكة، الهدامة إلى الذروة " (¬3)، ويقول رانكه: " إن فاتحة القرن الثامن من أهم عصور التاريخ، ففيها كان دين محمد ينذر بامتلاك إيطاليا وغاليا، وقد وثبت الوثنية كرة أخرى إلى ما وراء الرّين فنهض إزاء ذلك الخطر فتى من عشيرة جرمانية هو كارل مارتل، وأيد هيبة النظم النصرانية المشرفة على الفناء، بكل ما تقتضيه غريزة البقاء من عزم، ودفعها إلى بلاد جديدة " (¬4). ويقول زيلر: " كان هذا الانتصار بالأخص انتصار الفرنج والنصرانية. وقد عاون هذا النصر زعيم الفرنج على توطيد سلطانه، لا في غاليا وحدها ولكن في جرمانيا التي أشركها في نصره " (¬5). على أن هناك فريقاً من مؤرخي الغرب لا يذهب إلى هذا الحد في تقدير نتائج الموقعة وآثارها. ومن هذا الفريق المؤرخان الكبيران سسموندي وميشليه، فهما لايعلقان كبير أهمية على ظفر كارل مارتل. ويقول جورج فنلي: " إن أثرة الكتاب الغاليين قد عظمت من شأن تغلب كارل مارتل على حملة ناهبة من عرب اسبانيا، وصورته كانتصار باهر، ونسبت خلاص أوربا من نير العرب إلى شجاعة الفرنج، في حين أن حجاباً ألقى على عبقرية ليون الثالث (إمبراطور قسطنطينية) وعزمه، مع أنه نشأ جنديا يبحث وراء طالعه، ولم يكد يجلس على ¬_______ (¬1) History of the Roman Commonwealth (¬2) Decisive Battles of the World (¬3) Philosophie der Geschichte (¬4) History of the Reformation (¬5) Histoire de l'Allemagne. .

العرش حتى أحبط خطط الفتح، التي أنفق الوليد وسليمان طويلا في تدبيرها " (¬1) ونحن مع الفريق الأول نكبر شأن بلاط الشهداء أيما إكبار، ونرى أنها كانت أعظم لقاء بين الإسلام والنصرانية، وبين الشرق والغرب، ففي سهول تور وبواتييه فقد العرب سيادة العالم بأسره، وتغيرت مصائر العالم القديم كله، وارتد تيار الفتح الإسلامي أمام الأمم الشمالية، كما ارتد قبل ذلك بأعوام أمام أسوار قسطنطينية، وأخفقت بذلك آخر محاولة بذلتها الخلافة لافتتاح أمم الغرب، واخضاع النصرانية لصولة الإسلام. ولم تتح للإسلام المتحد فرصة أخرى، لينفد الى قلب أوربا في مثل كثرته وعزمه واعتزازه، يوم مسيره إلى بلاط الشهداء. ولكنه أصيب غير بعيد بتفرق الكلمة، وبينما شغلت إسبانيا المسلمة بمنازعاتها الداخلية، إذ قامت فيما وراء البرنيه إمبراطورية فرنجية عظيمة موحدة الكلمة، تهدد الإسلام في الغرب وتنازعه السيادة والنفوذ. ¬_______ (¬1) Byzantine Empire

الفصل السابع الأندلس بين المد والجزر

الفصل السابع الأندلس بين المد والجزر صدى بلاط الشهداء. اهتمام الخلافة بحوادث الأندلس. تعيين عبد الملك بن قطن واليا للأندلس. مسير ابن قطن إلى الشمال. محاربته للثوار في الثغر الأعلى وبسكونية. غزوه لأكوتين. هزيمته أثناء العودة. صرامته وعزله. ولاية عقبة بن الحجاج. حزم عقبة وإصلاحاته. غزوه لجليقية. تحصينه لقواعد الثغر. غزواته في غاليس. حوادث أكوتين. عبد الرحمن اللخمي فارس الأندلس يغزو آرل. تحالف مورنتوس دوق بروفانس مع العرب. غزو القوات المتحدة لبرجونية. مهاجمة الفرنج لأفنيون واستيلاؤهم عليها. حصار كارل مارتل لأربونة. موقعة بين العرب والفرنج. هزيمة العرب. رفع الحصار عن أربونة. استيلاء كارل على مدن سبتمانيا وتخريبها. عوده إلى الشمال. مسير عقبة إلى سبتمانيا. استرداده لآرل. غزو الفرنج واللومبارد لبروفانس. قدوم كارل مارتل. ارتداد المسلمين. هزيمة مورنتوس وتمزيق قواته. مهاجمة البشكنس لعقبة حين عبوره الجبال. وفاة عقبة. ولاية عبد الملك ابن قطن الثانية. حوادث إفريقية. سخط البربر على العرب. ذيوع الدعوة الخارجية بين البربر. موقف البربر في اسبانيا. أقوال ابن خلدون في ذلك. أقوال دوزي. اضطرام البربر بعوامل الثورة. إخماد الثورة في المغرب الأقصى. ولاية إسماعيل بن عبيد الله للمغرب. عودة الثورة بزعامة ميسرة المدغري. استيلاء الثوار على طنجة. الحرب بين العرب والبربر. مصرع ميسرة. موقعة الأشراف. ولاية كلثوم بن عياض لإفريقية. الخلاف بين زعماء العرب. مسير كلثوم إلى المغرب. استئناف الحرب بين العرب والبربر. هزيمة العرب ومقتل كلثوم. امتناع الشاميين بسبتة. ولاية حنظلة بن صفوان لإفريقية. الثورة في إفريقية الوسطى. قتال حنظلة للثوار. هزيمة البربر ومصرع زعمائهم. كان للخطب الجلل الذي أصاب الإسلام في بلاط الشهداء وقع عظيم في بلاط دمشق، وفي جميع أرجاء العالم الإسلامي، وكان ارتداد الإسلام أمام أسوار قسطنطينية قد وقع للمرة الثانية قبل ذلك بأربعة عشر عاما فقط، فكانت نكبة البلاط تتمة الفشل المؤلم، الذي أصاب مشاريع الخلافة في افتتاح أمم الغرب. ْعلى أنها لم تكن خاتمة الفتوح الإسلامية في فرنسا. وأثار هذا الخطب في نفس هشام بن عبد الملك، أيما اهتمام بشئون الأندلس ومصير الإسلام في الغرب، فاختار عبد الملك بن قطن الفهري واليا للأندلس، وأمره أن يعمل على حماية شبه الجزيرة، وتوطيد هيبة الإسلام في تلك الأقطار

النائية. فعبر عبد الملك إلى اسبانيا، في جيش منتخب من جند إفريقية، في أواخر سنة 114هـ (¬1). كان ثوار المقاطعات الشمالية قد انتهزوا فرصة مقتل عبد الرحمن وانحلال جيشه، وحاولوا أن ينزعوا عنهم نير الإسلام، فسار عبد الملك إلى الثغر الأعلى (أراجون) وهزم الثوار في عدة مواقع، ثم عبر البرنيه إلى بسكونية (بلاد البشكنس) (¬2) سنة 115 هـ (733 م)، وكانت دائما أشد المقاطعات الجبلية مراساً، وأكثرها خروجاً وانتقاضاً، فعاث فيها وشتت جندها وألجأهم إلى طلب الصلح (¬3). ثم سار إلى لانجدوك، وكان الفرنج منذ موقعة البلاط، يتطلعون إلى استردادها، ويكثرون من الإغارة عليها، فنظم حامياتها، وحصن قواعدها. ثم أغار على أراضي أكوتين وعاث فيها، فاعترضه الدوق أودو ورده، ولم يخاطر عبد الملك بالتوغل في أرض الفرنج لصغر جيشه, فارتد إلى الجنوب، ولكنه أثناء عبوره جبال البرنيه، هاجمته العصابات الجبلية البسكونية، وأصابته في قتالها خسارة كبيرة، فعاد إلى قرطبة دون أن يتمكن من إخضاعها. ولم يطل عهد عبد الملك بعد عوده، فقد كان صارماً، شديد الوطأة، كثير الظلم والبطش (¬4). فسخط عليه الزعماء وأولو الرأي، ودب الخلاف بين القبائل، وبدت بوادر الفتنة. هذا إلى أنه لم يوفق إلى إخماد الثورة في الولايات الشمالية، وتوطيد سلطان الإسلام فيها. فعزل في رمضان سنة 116 لسنتين من ولايته. واختار عبيد الله بن الحبحاب عامل إفريقية، مكانه لولاية الأندلس. عقبة بن الحجاج السلولي. فدخلها في شوال سنة 116 (أواخر سنة 734 م). وكان عقبة من طراز عبد الرحمن الغافقي جندياً عظيماً، نافذ العزم والهيبة، محمود الخلال والسيرة، كثير العدل والتقوى (¬5)، فأقام النظام والعدل، ورد المظالم، وقمع الرشوة ¬_______ (¬1) المقري ج 2 ص 58، ابن الأثير ج 5 ص 64. ولكن ابن عبد الحكم يقول إن ولاية ابن قطن كانت سنة 115هـ (ص 217). وهذا يرجع إلى أنه يقول كما قدمنا بوقوع بلاط الشهداء سنة 115. (¬2) بسكونية أو بسكونس أو بلاد االبشكنس بالعربية هي vasconia القديمة، وقد كانت تشمل الرقعة الممتدة في غرب البرنيه بحذاء الشاطىء إلى شرق الأسترياس، وكانت أهم أجزائها في ذلك العصر ولاية نافار التي يسميها العرب أحيانا نبره، وكانت عندئذ إمارة مستقلة يحكمها على الأرجح زعيم أو أمير قوطي، وتشمل من مقاطعات اسبانيا الحديثة نافار وبسكاية Vizcaya (¬3) المقري ج 2 ص 58. (¬4) المقري ج 1 ص 110؛ وعن ابن بشكوال ج 2 ص 58. (¬5) المقري ج 2 ص 58؛ والبيان المغرب ج 2 ص 28.

والاختلاس، وعزل الحكام الظلمة وألقاهم في غيابة السجن، وأقام مكانهم جماعة من ذوى الحزم والنزاهة، وأنشأ كثيرا من المدارس والمساجد. فاستقرت الأحوال وخبت الفتنة، وتراضت القبائل. واعتزم عقبة في الوقت نفسه أن يعيد عهد الجهاد والفتوح العظيمة، وأن يوطد سلطان الإسلام في الولايات الشمالية، وفي غاليس (فرنسا). فنظم الجيش وزاد في قواته وأهبته، وغزا جليقية وتوغل فيها، واستولى على كثير من مواقعها، ولكنه لم يستطع أن يسحق بقية النصارى التي اجتمعت حول الزعيم القوطي بلاي (أو بلايو)، وما زالت معتصمة بأقاصي الجبال في شعب عرفت لمنعتها " بالصخرة "، متحدية كل أمير وقائد مسلم (¬1). وحصن عقبة جميع المواقع الإسلامية على ضفاف نهر الرون، واتخذ ثغر أربونة قاعدة للجهاد والغزو، فحصنها وبعث إليها بالجند والمؤن والذخائر. وتقول الرواية الإسلامية إن عقبة لبث طوال حكمه الذي امتد خمسة أعوام مثابرا على الجهاد والغزو، وأنه كان يخرج للغزو كل عام، حتى عاد نهر الرون رباط المسلمين أو معقل فتوحاتهم (¬2)، بعد أن كان الفرنج قد استردوا ما بيد المسلمين في تلك الأنحاء. ولا تفصل الرواية الإسلامية حوادث هذه الغزوات، ولكن الروايات الفرنجية المعاصرة تلقى عليها شيئا من الضياء، وإليك ملخص الغزوات الإسلامية في غاليس في تلك الفترة حسبما تقصه علينا تلك الروايات: رأى الفرنج على أثر ما أصاب المسلمين في بلاط الشهداء، أن الفرصة قد سنحت لإخراجهم من فرنسا. ولكن كارل مارتل شغل حينا بمحاربة القبائل الوثنية فيما وراء الرّين، في فريزيا وسكسونية، وشغل أودو برد العرب حينما غزوا أكوتين مرة أخرى بقيادة ابن قطن. ثم توفي أودو في العام التالي (سنة 735 م)، وتخلص كارل مارتل بذلك من منافسه القوي، وبادر إلى غزو أكوتين ودخل بوردو عاصمتها، وأقام هونالد ولد أودو دوقا مكان أبيه، على أن تكون أكوتين تابعة للمملكة الفرنجية. وفي تلك الأئناء ولي الأندلس عقبة بن الحجاج، وأخذ ينظم الأهبة لاسترداد الثغور الإسلامية الشمالية. وفي سنة 735 م (117هـ) غزا العرب مدينة آرل للمرة الثانية، بقيادة عبد الرحمن بن علقمة اللخمي والي ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 29. (¬2) المقري ج 2 ص 58؛ والبيان المغرب ج 2 ص 29.

أربونة، الموصوف بأنه " فارس الأندلس في عصره " تنويها بشجاعته الفائقة (¬1) واستولوا عليها. وكانت الولايات المجاورة لسبتمانيا الواقعة حول ضفاف الرون، وكلها مزيج من القوط والبرجونيين، تنزع إلى الخروج على كارل مارتل، وتحاول التخلص من نير الفرنج، وكان الدوق مورنتوس أو مورنت أمير بروفانس أقوى زعماء هذه المنطقة، يحكم ما بين نهر الرون وجبال الألب، ويسعى إلى توطيد استقلاله. وتوزيع ملكه على نحو ما كان يفعل أودو في أكوتين، فاتصل بالعرب وتحالف معهم. وفي سنة 736 م عبر الدوق وعبد الرحمن اللخمي الرون في جيش مشترك، واستولوا على مدينة أفنيون ورغم حصانتها (¬2). واخترق العرب بعد ذلك إقليم دوفينه، استولوا على أوسيز وففييه وفالانس وفيين وليون وغيرها، وغزوا برجونية وحصلوا على غنائم لا تحصى (¬3). وعلم كارل مارتل بذلك أثناء انشغاله بالحرب في سكسونية، فبعث أخاه شلدبراند في جيش ضخم ليصد العرب، ثم لحق به جيش آخر، وزحف الفرنج على أفنيون في كثرة وهاجموها بشدة حتى سقطت في أيديهم، وقتلوا حاميتها المسلمة، وتحصن العرب في أربونة، فسار إليها كارل مارتل، وحاصرها فقاومه المسلمون أشد مقاومة. وردوا كل هجماته. وأرسل عقبة في الحال جيشا لإنقاذ المدينة، فقصدها من جهة البحر. وجاز إلى الشاطئ قبل أن يشعر به الفرنج حتى صار على مقربة من أربونة. فلما علم كارل بمقدم هذا الجيش الجديد، بادر إلى لقائه ونشبت بينه وبين العرب موقعة هائلة، فيما بين البحر وأربونة، هزم فيها العرب هزيمة شديدة، وطاردهم الفرنج حتى الشاطىء، فلم ينج منهم سوى شراذم قليلة لجأت إلى السفن، وذلك في ربيع سنة 737 م (119هـ) ومع ذلك فلم تسلّم أربونة ولم يهن عزمها. فاضطر عندئذ كارل مارتل إلى رفع الحصار عنها، وارتد إلى مهاجمة المواقع الإسلامية الأخرى، فاستولى على بزييه وأجده وماجلونة وخرب قلاعها ومعاهدها، وأحرق نيمة وآثارها الرومانية الفخمة، فغدت جميعا أطلالا دارسة، بعد أن كانت أيام المسلمين زاهرة باسمة، وحول السهل الواقع غرب سبتمانيا وشمالها إلى قفر بلقع ليحول دون تقدم المسلمين. وهنا وصلته الأنباء بوفاة تيودوريك الرابع ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 59 و62. (¬2) وهي في الرواية العربية " صخرة أبنيون " (راجع نفح الطيب ج 1 ص 128). (¬3) Dom Vissette: ibid, V.I. P. 803.

ملك الفرنج الميروفنجي (سبتمبر سنة 737)، فارتد مسرعاً إلى عاصمة ملكه ليتقي تدابير خصومه، ولم يقم ملكا جديداً على العرش رغم وجود أعضاء من الأسرة الميروفنجية، بل آثر أن يترك العرش خاليا، حتى تمهد الظروف له أو لبنيه اعتلاءه، وتتويج سلطان محافظ القصر الفعلي بألقاب الملك. وفي ذلك الحين كان عقبة بن الحجاج يتأهب لاستئناف الغزو، واسترداد ما انتزعه كارل مارتل من قواعد سبتمانيا. ففي ربيع سنة 738 م (120هـ) عبر عقبة جبال البرنيه في جيش ضخم ونفذ إلى سبتمانيا، وعبر الرون واسترد مدينة آرل للمرة الثالثة أو الرابعة. ثم استولى بمعاونة الدوق مورنتوس على أفنيون وعدة معاقل أخرى في بروفانس. وكان كارل في ذلك الحين قد عاد إلى محاربة السكسونيين، فبعث لقتال العرب جيشا بقيادة أخيه شلدبراند، واستغاث بصهره وحليفه لوتيراند ملك اللومبارد (¬1)، فغزا بروفانس من جهة الشرق ليضيق على قوات الدوق، ثم أسرع كارل إلى الرون بجيش ثالث، وزحفت الجيوش المتحدة على مواقع المسلمين، فاضطر عقبة إلى إخلاء بروفانس والارتداد الى ما وراء الرون، واستولى الفرنج أيضا على معظم سبتمانيا، ولم يبق منها بيد المسلمين سوى أربونة، ورقعة ضيقة من الأرض على الشاطىء بين أربونة والبرنيه، ومزقت قوى الدوق مورنتوس، وطارده الفرنج في شعب الجبال، ففر ناجياً بحياته، واستولى الفرنج على أراضيه، واصطدم عقبة حين عبوره البرنيه إلى الأندلس بعصابات قوية من البسكونيين والقوط، حاولت بتحريض الفرنج أن تسد دونه ممرات الجبال، فتكبد في تمزيقها بعض الخسائر، ولكنه ارتد بجيشه سالما إلى قرطبة. وكان هذا اللقاء الأخير بين العرب والفرنج في سهول الرون في سنة 739 م (121هـ) (¬2). ثم توفي عقبة بن الحجاج بعد ذلك بقليل، وقدمت الجماعة مكانه عبد الملك ابن قَطَن، فولى الأندلس للمرة الثانية. وقيل بل ثار ابن قطن على عقبة في جمع ¬_______ (¬1) يسمى العرب لومبارديا أنكبردة، واللومبارد بالأنكبرد، محرفة عن التسمية القديمة (لانجوبارد) Langobard ( راجع معجم ياقوت الجغرافي ج 1 ص 262). (¬2) رجعنا في تفصيل هذه الغزوات والوقائع إلى ما ورد في موسوعة Bouquet من أقوال الرواة والمؤرخين المعاصرين من الأحبار وغيرهم. وراجع أيضا: Dom Vissette: ibid , V.I.p 807 & 809.

كبير من أنصاره، وكان عقبة قد ولاه على أثر عزله، قيادة الجيش في الشمال، فلبث يتحين الفرص للخروج والثورة. فأسر عقبة وقتل، أو أسر حتى توفي، وانتزع ابن قطن ولاية الأندلس لنفسه، ووقع هذا الانقلاب سنة 122 هـ (¬1)، وقيل بل سنة 123. قال الرازي: " ثار أهل الأندلس بأميرهم عقبة في صفر سنة ثلاث وعشرين، في خلافة هشام بن عبد الملك، وولوا عليهم عبد الملك بن قطن ولايته الثانية، وكانت ولاية عقبة ستة أعوام وأربعة أشهر، وتوفي بقرمونة في صفر سنة ثلاث وعشرين واستقام الأمر لعبد الملك " (¬2). وعلى أى حال فقد كان هذا الانقلاب بالنسبة للأندلس فاتحة عهد من الاضطراب والفتن والحرب الأهلية المتصلة كما سنرى. ويجب لكي نعرف عوامل هذا الاضطراب، أن نعود إلى حوادث إفريقية قبل ذلك بثلاثة أعوام أو أربعة. ففي سنة 116هـ عُين عبيد الله بن الحبحاب عامل مصر والياً لإفريقية، وقد بينا فيما سلف كيف كان البربر يضطرمون سخطاً على سادتهم العرب، وشرحنا طرفاً من عوامل هذا السخط، وبينا كيف أن دعوة الخوارج ذاعت بين البربر منذ أواخر القرن الأول، فأقبلو على اعتناقها لما تضمنت من مبادئ الحرية والديمقراطية، والحث على مقاتلة الغاصبين للرياسة والحكم. كذلك رأينا كيف استبسل البربر في الدفاع عن حرياتهم، وانقضوا على الفاتحين غير مرة، وحطموا سلطانهم، وفتكوا بقادتهم وجيوشهم، ولم يخضعوا لنير العرب إلا بعد كفاح رائع، استطال زهاء نصف قرن. ومع أن الأمر استتب للعرب آخر الأمر، واستطاعوا أن يفرضوا سلطانهم ودينهم على البربر، وأن يتخذوهم جندا لجيوش الخلافة في الغرب، فإن البربر لبثوا يعتبرون العرب أجانب غاصبين لحرياتهم، ولبثت القبائل البربرية القاصية، تضطرم دائما بنزعات الخروج والثورة. وكانت مثل هذه العواطف تحفز البربر في اسبانيا، إلى مخاصمة العرب والسخط عليهم والتربص بهم، خصوصاً لأنهم رغم قيامهم بمعظم أعباء الفتح، لم يفوزوا بكثير من مغانمه، واستأثر العرب دونهم بالسلطان والحكم. وفي ذلك يقول ابن خلدون: " ثم نبضت فيهم (أى البربر) عروق الخارجية ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 29. (¬2) المقري عن الرازي (نفح الطيب ج 1 ص 110). راجع أيضا عن مصير عقبة، نفح الطيب ج 2 ص 58، وابن الأثير ج 5 ص 92، وابن خلدون ج 4 ص 119.

فدانوا بها، ولقنوها من العرب الناقلة ممن سمعها بالعراق، وتعددت طوائفهم، وتشعبت طرقها من الإباضية والصفرية. وفشت هذه البدعة وعقدها رؤوس النفاق من العرب، وجرت إليهم الفتنة من البربر ذريعة الانتزاء على الأمر، فاختلوا في كل جهة، ودعوا إلى قائدهم طغام البربر، تتلون عليهم مذاهب كفرها، ويلبسون الحق بالباطل فيها، إلى أن رسخت فيهم عروق من غرائسها. ثم تطاول البربر إلى الفتك بأمر العرب " (¬1). ويصف دوزي موقف البربر من العرب فيما يأتي: " اعتنق البربر سكان الأكواخ الحقيرة، كل التعاليم بحماسة لا توصف، ولا ريب أنهم لجهالتهم وسذاجتهم، لم يدركوا شيئاً من تضارب المذاهب ودقائقها، مما تدركه وتسيغه أذهان مستنيرة، فمن العبث إذاً أن نبحث عن أي الفرق كانوا يفضلون الانضمام إليها، وعما إذا كانوا من الحرورية أو الصفرية أو الإباضية، فقد اختلف الرواة في ذلك. ولكنهم كانوا يفقهون من المبادئ. ما يسمح لهم باعتناق المبادئ الثورية والديمقراطية، ومشاطرة الآمال الخيالية التي يذيعها فقهاؤهم في المساواة العامة، وما يقنعهم بأن ظالميهم كانوا آثمين نصيبهم النار. ولما كان الخلفاء منذ عثمان جميعاً غاصبين غير مؤمنين، فلم يكن جريمة أن يثوروا على المظالم الذي يسلبهم أراضيهم ونساءهم. فقد كان هذا حقاً بل كان واجباً. ولما كان العرب قد أبعدوهم عن السلطة، ولم يتركوا لهم إلا ما عجزوا عن أخذه منهم، أعني حكم القبائل، فقد اعتقدوا بسهولة أن نظرية سيادة الشعب، وهي نظرية يعتنقونها في ظل استقلالهم الوحشي منذ غابر العصور، إنما هي نظرية عريقة في الإسلام عريقة في الإيمان. وأن أقل بربري يمكن رفعه إلى العرش برأي الجماعة. وهكذا كان هذا الشعب الذي بولغ في ظلمه، يثيره متعصبون أنصاف فقهاء وأنصاف جند، وينزع إلى رفع هذا النير باسم الله وباسم النبي، وباسم هذا الكتاب المقدس (القرآن) الذي اعتمد عليه آخرون في إقامة الطغيان الرائع " (¬2). فلما ولي عبيد الله بن الحبحاب إفريقية، كانت القبائل البربرية تضطرم بعوامل الثورة ولاسيما في المغرب الأقصى، فسير عبيد الله إلى مواطن الثورة في قاصية المغرب جيشاً بقيادة حبيب بن أبي عبيدة الفهري، فأثخن في هاتيك الأنحاء ومزق ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 110. (¬2) Dozy: Hist.V.I. P. 149 - 150

جموع الثائرين، وعاد مثقلا بالغنائم والسبي، وسادت السكينة حيناً في المغرب الأقصى. وسير ابن الحبحاب حبيباً في معظم قواته في غزوة بحرية إلى سردانية وصقلية، وعين ولده إسماعيل واليا للمغرب الأقصى. ولكن هذه السكينة كانت ظاهراً خلباً فقط، فقد كان البربر يتوقون إلى الانتقام ويرقبون الفرص. وكان إسماعيل يحفزهم ويثيرهم بعسفه وسوء تصرفه، وذاع فوق ذلك أنه ينوي أن يعتبر مسلمي البربر كالنصارى فيئاً وغنيمة، وأن يفرض الأخماس عليهم. فذكا الهياج واستفحل، وانتهز البربر فرصة غياب الجيش والقادة في صقلية، فأعلنوا الثورة والتفوا حول داعية من الخوارج الصفرية، وهو سقاء يدعى ميسرة المدغري، وانقضوا على طنجة وهزموا حاميتها، وقتلوا قائدهم عمر بن عبد الله، واستولوا عليها ودعوا لميسرة بالخلافة. ثم زحفوا على السوس وهزموا إسماعيل بن عبيد الله وقتلوه، فقويت جموعهم واستفحل شأنهم، وذاعت الدعوة الخارجية في قفار المغرب ذيوعاً كبيراً، واضطرب سلطان العرب في معظم النواحي. فسير ابن الحبحاب في الحال جيشاً إلى المغرب الأقصى بقيادة خالد بن حبيب، واستدعى حبيب بن أبي عبيدة وجيشه من صقلية، ووقعت بين خالد والبربر بقيادة ميسرة معارك شديدة غير حاسمة في ظاهر طنجة، تم ارتد ميسرة إلى طنجة حينا، واغتاله بعض أنصاره لأمور نقموها منه، وولوا مكانه خالد بن حميد الزناتي، وهو من بطون زناتة. فبرز لقتال العرب ثانية، ونشبت بين الفريقين في مكان يعرف بوادي سلف، معارك هائلة هزم فيها العرب، وقتل خالد بن حبيب وجماعة كبيرة من الزعماء والقادة، وسميت الموقعة لذلك بغزوة الأشراف (أوائل سنة 123هـ) (¬1). فلما رأى هشام بن عبد الملك عجز ابن الحبحاب عن ضبط الأمور، استدعاه وأقاله، واعتزم أن يخمد ثورة البربر بأي الوسائل، فعين لولاية إفريقية كلثوم ابن عياض القشيري (¬2)، وسيره إليها في جيش ضخم من عرب الشام، بقيادة ابن أخيه بَلْج بن بشر القشيري (جمادى الثانية سنة 123) واجتمعت إليه أثناء ¬_______ (¬1) ابن عبد الحكم ص 217 و218؛ ابن الأثير ج 5 ص 70؛ وابن خلدون ج 6 ص 110 (¬2) هكذا يسميه ابن الأثير (ج 5 ص 70)، وابن خلدون (ج 6 ص 111)، والمقري (ج 2 ص 58) ولكن ابن عبد الحكم يسميه كلثوم بن عياض القيسي (ص 218). وكذا بشر ابن بلج فيسميه القيسي بدلا من القشيري (ص 219).

مسيره قوات أخرى من مصر وطرابلس، حتى بلغ جيشه زهاء سبعين ألفا (¬1). وكان حبيب بن أبي عبيدة قد وقف بجيشه في منتصف الطريق، مترددا لما رآه من استفحال أمر البربر، فاستوقفه كلثوم حتى يصل إليه. وكان حبيب وزعماء العرب في إفريقية، يتوجسون شرا من غلبة الشاميين، فاستقبلوا كلثوما وبَلْجا بفتور، وأبدى بلج بالأخص جفاء وخشونة في معاملة أهل القيروان، وثارت بينه وبين حبيب مناقشات عاصفة، وكاد الخلاف يضطرم بين الفريقين، ويرتد العرب لقتال بعضهم بعضا لولا أن غلبت الحكمة إزاء الخطر الداهم (¬2). فسارت القوات المتحدة لقتال البربر، وسار البربر لقتالهم من طنجة في جموع زاخرة بقيادة خالد بن حميد الزناتي، ونشبت بين الفريقين على مقربة من طنجة في مكان يعرف بوادي سبسر، معارك هائلة كان النصر فيها حليف البربر، فمزق العرب للمرة الثالثة، وقتل كلثوم وحبيب وكثير من الزعماء والقادة (¬3). وارتدت فلول العرب إلى القيروان، وفر بلج بن بشر ونفر من الزعماء، منهم ثعلبة بن سلامة الجذامي وعبد الرحمن بن حبيب في بقية من جند الشام إلى سبتة، فامتنعوا بها واستغاثوا بوالي الأندلس عبد الملك بن قطن، ووقعت هذه النكبة في أواخر سنة 123 أو أوائل سنة 124هـ (741 م). عندئذ سير هشام بن عبد الملك والي مصر، حنظلة بن صفوان الكلبي واليا لإفريقية، فقدمها في ربيع الثاني سنة 124. وكانت دعوة الخوارج قد سرت أيضاً إلى إفريقية الوسطى، بعد أن خرج المغرب الأقصى من قبضة الخلافة، وثار البربر في كثير من النواحي. وخرج منهم في ناحية قابس زعيم يدعى عكاشة الفزاري. وخرج في غرب القيروان زعيم آخر هو عبد الواحد بن يزيد الهواري. فحشد حنظلة كل قواته، ولقي الفزاري أولا، وهزمه وبعد معركة عنيفة ومزق جموعه. ثم التقى بجيش عبد الواحد على مقربة من القيروان بمكان يعرف بالأصنام، ¬_______ (¬1) المقري عن ابن حيان ج 2 ص 58. (¬2) ابن عبد الحكم (ص 219)، وابن الأثير (ج 5 ص 70) وراجع أيضا دوزي: Hist, V.I.p. 245. (¬3) يتفق ابن عبد الحكم (ص 220) وابن الأثير (ج 5 ص71) وابن خلدون (ج 6 ص 111)، على أن كلثوم بن عياض قتل في الموقعة، ولكن المقري يقول نقلا عن ابن حيان إنه فر مع بلج إلى سبتة، وعبر إلى الأندلس حيث توفي (ج 2 ص 58 - 59).

ويقال إن جموع البربر بلغت يومئذ ثلاثمائة ألف، وبلغ العرب أربعين ألفاً فقط (¬1). ونشب بين الفريقين قتال رائع ثبت فيه العرب، ومزق البربر وقتلت منهم جموع عظيمة، وقتل عبد الواحد وأسر الفزاري وقتل بأمر حنظلة. وكانت هذه الموقعة الشهيرة سنة 125هـ (842 م). وليس من موضوعنا أن نتتبع ما تلا من الحوادث في إفريقية (¬2)، ويكفي أن نقول إن ثورة الخوارج لبثت على اضطرامها، وظهر الثوار والمتغلبون في كل ناحية، ولبثت إفريقية عصراً آخر فريسة الاضطراب والفوضى، واضمحلت سيادة العرب، ثم زالت غير بعيد لتحل مكانها سيادة المستعربين من البربر والموالي. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 5 ص 71. (¬2) يفصل ابن خلدون هذه الحوادث في ج 6 ص 111 وما بعدها، وكذلك ابن عبد الحكم في أخبار مصر وفتوحها ص 233 وما بعدها.

الفصل الثامن الحرب الأهلية

الفصل الثامِنُ الحرب الأهلية صدى حوادث إفريقية في الأندلس. استغاثة الشاميين بابن قطن. إعراضه عن دعوتهم. ثورة البربر في الأندلس. مفاوضة ابن قطن لبلج زعيم الشاميين واستقدامهم. سير القوات المتحدة لمحاربة البربر. هزيمة البربر في شذونة وقرطبة. سحق ثورتهم. مطالبة ابن قطن الشاميين بالجلاء. ثورة بلج بن بشر وادعاؤه ولاية الأندلس. مقتل ابن قطن وولاية بلج. ثورة أمية وقطن ابنى عبد الملك. الخصومة بين الشاميين والعرب المحليين. لقاء الفريقين في ظاهر قرطبة. مصرع بلج وانتصار الشاميين. ولاية ثعلبة بن سلامة. ضعف حكومة قرطبة. خروج الزعماء في مختلف النواحي. استئناف الحرب بين الشاميين وخصومهم. هزيمة ثعلبة ثم فوزه. مقدم أبي الخطار الوالي الجديد. قبضه على زمام السلطة. تفرقته للشاميين. ضمه لولاية تدمير إلى الأندلس. مطاردته للزعماء الخوارج. سكون الفتنة. تعصب أبي الخطار لليمنية. الصميل بن حاتم زعيم المضرية. ثورة المضرية والجذامية. الحرب بين الفريقين. هزيمة أبي الخطار. ولاية ثوابة بن سلامة. ثورة أبي الخطار. زحفه على قرطبة. فشله وهزيمته. الخلاف بين اليمنية والمضرية. ولاية عبد الرحمن اللخمي لشئون الحكم. الاتفاق على تولية يوسف بن عبد الرحمن الفهري. كان لهذه الفتنة التي اضطرمت في إفريقية، بين العرب والبربر. وما اقترن بها من الأحداث الخطيرة، صداها في شئون الأندلس. وكانت الأندلس تتبع يومئذ إفريقية من الوجهة الإدارية، فكان لاضطراب الحكم في إفريقية أثره في اضطراب الحكم في الأندلس، كما كان لثورة البربر في المغرب. أثرها في تحريك البربر في الضفة الأخرى من البحر. وقد سبق أن بينا كيف كان البربر في شبه الجزيرة الإسبانية يجيشون سخطا على العرب. لما استأثروا به دونهم من مغانم السيادة والحكم، وكيف كانت عصبية القبيل تمزق وحدة العرب أنفسهم، وكيف كانت عوامل التنافس والتنازع، تضطرم باستمرار بين اليمنية والمضرية. وسنرى الآن كيف كان صدى هذه العوامل المختلفة قوياً بارزاً في حوادث الأندلس، وفي اضطراب شئونها، وتمزيق وحدتها. وكيف انحدرت الأندلس من جرائها، إلى معترك خطر من الفتن، والحروب الأهلية الطاحنة، والفوضى. تولى عبد الملك بن قطن الفهري إمارة الأندلس للمرة الثانية على أثر وفاة عقبة بن الحجاج سنة 122 أو 123هـ، وثورة البربر يومئذ على أشدها في المغرب

الأقصى. فلما هزم الجيش العربي في مفاوز طنجة للمرة الثالثة، وقتل كلثوم ابن عياض والي إفريقية ومعظم قواده، فر بَلْج بن بشر في بقية من جند الشام إلى سبتة، وامتنع بها حسبما أسلفنا، فطاردهم البربر وشددوا الحصار عليهم حتى جهدوا وأشرفوا على الهلاك. واستغاث بلج وزملاؤه بعبد الملك بن قطن ورجوه أن يعاونهم على العبور إلى الأندلس. وكان عبد الملك مضريا شهد موقعة الحَرَّة (¬1) قبل ذلك بستين عاماً، وشهد ما ارتكبه جند يزيد في المدينة من رائع السفك والإثم، فكان يبغض الشاميين أشد البغض، وكان فوق ذلك يخشى مطامعهم ومنافستهم، فأبى إغاثتهم بادىء ذى بدء، وعاقب بالجلد والقتل زعيما من بني لخم، أمدهم ببعض المؤن، ولكنه من جهة أخرى خشي عاقبة تصرفه، وأن يتهمه الخليفة بالعمل على إهلاك جنده. ولم يمض قليل حتى اضطرته الحوادث نفسها إلى استدعاء بَلْج وأصحابه. ذلك أن ثورة البربر كان لها في الأندلس أكبر صدى، فتحرك البربر في معظم الأقاليم الشمالية. وعصفت بالأندلس ريح ثورة بربرية دينية سياسية، كتلك التي عصفت بإفريقية، وإن كانت دونها شدة، واضطرمت الثورة بالأخص في جليقية وماردة وقورية وطَلْبيرة، وحشد الثوار جموعهم واختاروا لهم إماما، واعتزموا الزحف على طليطلة وقرطبة ثم الجزيرة، ليمهدوا لبربر العدوة سبيل القدوم إلى اسبانيا، ومعاونتهم على سحق العرب. واستطاع البربر، وهم في عنفوان ثورتهم، أن يهزموا كل الحملات، التي وجهها ابن قطن لإخضاعهم. وهنا ارتاع ابن قطن، وفكر في الحال أن يستعين بجند الشام المحصورين في سبتة، وهم زهاء عشرة آلاف، فكتب إلى بلج يدعوه إلى معاونته، واشترط عليه للعبور إلى الأندلس، أن يغادرها متى صلحت حال جنده، وانتهت الثورة. فقبل بَلْج وقدم الرهائن من أصحابه لتنفيذ هذا الميثاق. وعبر بَلْج وأصحابه إلى الأندلس (سنة 123 هـ)، وقدمت إليهم المؤن والثياب. وانضموا إلى قوات ابن قطن بقيادة ولديه أمية وقطن. والتقت القوات المتحدة بالبربر أولا في شذُونة (مدينة سدونيا) فهزم البربر، وأصاب الشاميون منهم غنائم كثيرة. ثم وقع القتال في ظاهر قرطبة مع جموع البربر الزاحفة عليها، فهزموا أيضا بعد مقاومة ¬_______ (¬1) هي ضاحية المدينة الشرقية وتعرف بحرة واقم، وكانت موقعة الحرة سنة 63 هـ؛ وفيها هاجم جند يزيد بن معاوية المدينة بقيادة مسلم بن عقبة المري، واستباحوها وقتلوا من أهلها جموعا كبيرة، ونهبوا الأموال، وسبوا الذرية، وهتكوا الأعراض؛ وكانت من أشنع الوقائع.

شديدة، ثم هزم البربر للمرة الثالثة، في وادي سليط على مقربة من طليطلة، وكانوا قد بدأوا حصارها, وبذلك سحقت الثورة، ومزق البربر وطوردوا في كل مكان، وانتعش بلج وأصحابه وقويت نفوسهم واشتدت شوكتهم (¬1). وعندئذ طالب ابن قَطَن بتنفيذ الميثاق وجلاء الشاميين عن الأندلس متوجسا من بقائهم. ولكن بَلْجا كانت تحدوه أطماع أخرى، فماطل في الجلاء وسوّف، ثم كشف القناع فجأة، وادعى أنه أمير الأندلس الشرعي بعهد من عمه كلثوم، وأيده في ذلك ثعلبة بن سلامة وغيره من الزعماء. ثم نادى الشاميون بخلع ابن قطن وتولية بلج، وانحازت إليه اليمانية، ووثب بلج وأصحابه على ابن قطن وهو في قلة من جنده, فقبضوا عليه بقصره بقرطبة، وكان شيخاً قد أشرف على التسعين فلم يرحموا شيخوخته بل قتلوه وصلبوه ومثلوا بجثته، فتم الأمر بذلك لبلج بن بشر القشيري، وتولى إمارة الأندلس في أوائل ذى القعدة سنة 123 هـ (سبتمبر سنة 741 م) (¬2). ولكن الفتنة لم تنته بعد. فإن أمية وقَطَن ابنى عبد الملك فرا إلى الشمال، وحشدا جموعهما في سرقسطة، وآزرهما البلديون (العرب المحليون) والبربر، وانضم إليها جماعة من الزعماء، الذين أنكروا فعلة بلج بعبد الملك، مثل عبد الرحمن ابن حبيب الفهري كبير الجند، وكان من أنصار بلج قبل الانقلاب، وعبد الرحمن ابن علقمة اللخمي، حاكم أربونة " فارس الأندلس في عصره "، وكان قوي البأس كثير الأتباع. وانقسمت الأندلس بذلك إلى معسكرين كبيرين، معسكر الشاميين (¬3) المتغلبين على الحكم، ومعسكر العرب والبربر المحليين الذين اعتبروا الشاميين دخلاء غاصبين، فعظمت الفتنة واشتد الاضطراب، وسار أمية وقطن وأنصارهما إلى قرطبة لقتال الشاميين في جيش قيل إنه بلغ نحو مائة ألف، وتأهب بلج وأنصاره للدفاع في نحو عشرين ألفاً، والتقى الفريقان على مقربة من قرطبة في شوال سنة 124 (أغسطس سنة 742 م) ونشبت بينهما معارك ¬_______ (¬1) المقري عن ابن حيان ج 2 ص 59، والبيان المغرب ج 2 ص 30 و31، وراجع أيضا: Dozy: Hist.V.I. P. 163 (¬2) ابن عبد الحكم ص 220، وابن الأثير ج 5 ص 92. (¬3) ويعرف هؤلاء الجند الشاميون أيضا " بالطالعة البلجية " نسبة إلى زعيمهم بلج (ابن الأبار في الحلة السيراء - ليدن - ص 51).

شديدة، وأبدى الشاميون شجاعة وجلداً. ولكن عبد الرحمن اللخمي صمم على قتل بلج، فحمل بجند أربونة على الشاميين، وشق بينهم طريقاً إلى مكان بلج، وأثخنه طعاناً توفي منها بعد أيام. ومع ذلك فقد انتصر الشاميون على البلديين انتصاراً باهراً فارتدوا منهزمين. وعاد الشاميون ظافرين إلى قرطبة، وقدموا عليهم ثعلبة بن سلامة العاملي، وكان من أصحاب بلج الذين عبروا معه إلى الأندلس كما قدمنا. فتولى إمارة الأندلس، وقيل في إمارته ما قيل في إمارة بلج، من أنه وليها بعهد من الخليفة، أو من كلثوم والي افريقية يليها بعد بلج، وكانت ولايته في شوال سنة 124 (¬1). فقبض ثعلبة على زمام الأمور بحزم، وحاول أن يضبط النظام والأمن، وأبدى كثيرا من اللين والاعتدال، ولكن سلطان الحكومة المركزية كان قد تضعضع، وانقسمت الأندلس إلى مناطق عديدة للنفوذ، ولبثت الغلبة في الأقاليم الوسطى والشمالية، لجماعة من الزعماء الخارجين على حكومة قرطبة، مثل أمية وقطن ابنى عبد الملك، وعبد الرحمن بن حبيب الفهري، وعبد الرحمن اللخمي حاكم أربونة، واستمر يؤازر هذا الفريق سواد العرب المحليين والبربر. ولم تمض أشهر قلائل حتى اضطرمت الحرب مرة أخرى بين الفريقين المتنازعين، ونشبت بينهما مواقع عديدة على مقربة من ماردة، فهزم الشاميون أولا واعتصم ثعلبة بقلعة ماردة، ولكنه عاد فكر على خصومه وهزمهم هزيمة شنيعة، وأسر وسبى منهم جموعا كبيرة، وعاد ظافرا إلى قرطبة، وقرر إعدام الأسرى ليلقى على خصومه درسا قاسياً. ولكنه قبل أن يتمكن من تنفيذ عزمه، قدم إلى قرطبة حاكم جديد للأندلس، هو أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي، بعثه حنظلة بن صفوان والي إفريقية، إجابة لجماعة من زعماء الأندلس، خشوا من عواقب الفتنة، وما قد تؤدي إليه من استظهار نصارى الشمال، وإغارتهم على الأراضي الإسلامية (¬2)، وقيل إن الذي اختار أبا الخطار لولاية الأندلس، هو هشام بن عبد الملك (¬3)، اختاره قبيل وفاته بقليل، إذ توفي في ربيع الثاني سنة 125. وقدم أبو الخطار إلى الأندلس ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 32 و33؛ ونفح الطيب ج 2 ص 59 و60؛ وابن الأثير ج 5 ص 95. (¬2) ابن عبد الحكم ص 221؛ وأخبار مجموعة ص 45؛ وابن الأبار في الحلة السيراء ص 46؛ وكذلك Dozy: Hist , V.I. p. 168 (¬3) ابن الأثير ج 5 ص 100؛ وابن الأبار ص 48.

في رجب، ولم يكن مضى على ولاية ثعلبة سوى عشرة أشهر، فقبض في الحال على زمام السلطة. وأفرج عن جموع الأسرى والسبايا، التي اعتزم أن يزهقها وينكل بها ثعلبة، واهتم برد السكينة والنظام، وإخماد شوكة الزعماء الخارجين، ففرق الشاميين في مختلف الكور تمزيقا لعصبتهم، وأنزل جند الشام بإلبيرة (غرناطة)، وجند حمص بإشبيلية ولَبْلة، وجند فلسطين بشذونة والجزيرة، وجند الأردن برَيُّه، وجند قنسرين بجيان، وجند مصر بعضهم في أكشُونبة وباجة والبعض في تدمير. ونذكر أن ولاية تدمير (مرسية) كانت قد تركت عند الفتح لصاحبها تيودمير، وفقا للمعاهدة التي عقدت بينه وبين عبد العزيز بن موسى (¬1)، ولكن تيودمير كان قد توفي، وخلفه في حكم الولاية ولده أتاناجلد. واعتبر أبو الخطار أن نص المعاهدة، كان قصرا على تيودمير، وأنه لا يسري على خلفائه، وطالب أتاناجلد بتأدية الجزية لحكومة قرطبة، وأنزل جند مصر قسرا بقواعد تدمير، وأقطعهم أراضيها، وبذلك فقد القوط آخر معاقلهم الحرة في الجنوب، وضمت تدمير إلى باقي ولايات الأندلس، تحت سلطان الحكومة المركزية (¬2). وتتبع أبو الخطار الزعماء الخارجين، فقبض على ثعلبة ونفاه إلى إفريقية مع نفر من زملائه، وأعلن أمية وقطن ابنا عبد الملك الطاعة، وتفاهما مع أبي الخطار، فولاهما حكم بعض الولايات الشمالية. أما عبد الرحمن بن حبيب فاستطاع أن يتقي المطاردة وفر إلى تونس، وهناك أقام حينا يرقب الحوادث، حتى سنحت له فرصة الوثوب وانتزاع إمارة إفريقية من حنظلة ابن صفوان على ما سيجىء. وأما عبد الرحمن اللخمي فلبث مستقلا برباط الثغر في أربونة وما جاورها. وسلك أبو الخطار في البداية سبيل الحزم والاعتدال، وسوى بين جميع القبائل في المعاملة، فرضى الجميع واجتمعت الكلمة على تأييده وطاعته، وسكنت الفتنة واستقر النظام حينا. ولكن نزعة العصبية ما لبثت أن حملته كما حملت أسلافه من قبل، فمال إلى قومه اليمانية، وتنكر لخصومهم من المضرية، واضطرمت الأحقاد ¬_______ (¬1) أوردنا نص هذه المعاهدة في ص 55 و56 من هذا الكتاب. وراجع في توزيع القبائل على الكور، ابن الأبار في الحلة السيراء ص 46. وكذلك: Conde: ibid, V.I. P. 112. (¬2) Conde: ibid, quot isodorus,V.I.P. 112 (note) وكذلك Aschbach: ibid.v.I.P.92

والمنافسات القديمة. وحدث أن اعتدى أبو الخطار على زعيم من زعماء المضرية بالإهانة والضرب لأنه تدخل لحماية رجل من بني قومه. وهذا الزعيم هو الصُّمَيل ابن حاتم بن شمر الكلابي، وجده شمر بن ذى الجوشن من أشراف الكوفة، وكان قد اشترك في قتل الحسين بن علي في كربلاء، ثم نزح بأسرته إلى الشام خيفة الانتقام، فلما ولي كلثوم بن عياض القشيري حكم إفريقية. كان الصميل بين أشراف الشام الذين انتظموا في جيش بلج القشيري، ثم جازوا معه إلى الأندلس (¬1). وكان الصميل فارساً شجاعاً وزعيماً ذا نجدة، يلتف حوله المضرية وبعض اليمنية، من خصوم أبي الخطار ومنافسيه مثل جذام ولخم. فلما اعتدى أبو الخطار عليه بعث إلى قومه في مختلف الأنحاء، وأيدته المضرية وحلفاؤهم في الخروج، وتفاهم مع باقي الزعماء الناقمين على أبي الخطار، ومنهم ثوابة بن سلامة الجذامي زعيم جذام، وكان يمنيا ولكنه كان يحقد على أبي الخطار. لأنه عزله عن ولاية إشبيلية. وتكفل ثوابة بمحاربة أبي الخطار، وقدّمته المضرية، وزحف بجموعه على قرطبة، فلقيه أبو الخطار بقواته في شذونة على ضفاف وادي لكه في رجب سنة 127 , ونشبت بين الفريقين معارك شديدة انتهت بهزيمة أبي الخطار وأسره، ودخل ثوابة قرطبة وارتضته المضرية أميراً للأندلس مكان أبي الخطار، ووافق عبد الرحمن بن حبيب الفهري أمير إفريقية على هذا الاختيار. وكان قد استطاع ْفي تلك الفترة أن ينتزع ولاية إفريقية من حنظلة بن صفوان. ولكن أبا الخطار استطاع أن يفر من سجنه بمعونة نفر من أصدقائه. فذهب إلى باجة وحشد جموعه وقصد إلى قرطبة، فلقيه الصميل في المضرية وثوابة في أنصاره من اليمنية، ووقعت بينهما معركة غير حاسمة، وعندئذ دعا بعض اليمنية من فريق ثوابة إلى وقف القتال، ونعى على أنصار أبي الخطار أنهم بقاتلون ثوابة. مع أنه يمني منهم، وقد عفا عن أبي الخطار وعف عن دمه حين كان في قبضته؛ فأحدثث هذه الدعوة أثرها، وانفض عن أبي الخطار جنده. واضطر أن يعود إلى باجة وهنالك لبث ينتظر مجرى الحوادث (¬2). ولم يمض سوى قليل حتى توفي ثوابة في أوائل سنة تسع وعشرين ومائة. ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 49؛ والمقري عن ابن حيان في نفح الطيب ج 2 ص 62. (¬2) المقري ج 2 ص 60 و61، وابن الأثير ج 5 ص 126، والبيان المغرب ج 2 ص 35 و36.

بعد أن حكم الأندلس زهاء عام ونصف. وهنا نشب الخلاف بين الزعماء والقبائل كرة أخرى، وأصرت اليمنية على أن يكون الأمير منهم خلفاً لأميرهم المتوفي، وأصر الصميل أن يكون الأمير من المضرية، واشتد النزاع بين الفريقين، ووقعت بينهما مصادمات ومعارك عديدة، ولبثت الأندلس بضعة أشهر دون أمير رسمي، وتولى الأحكام فيها عندئذ عبد الرحمن بن كثير اللخمي باتفاق الفريقين. ولما تفاقم الخلاف، وخشي الزعماء عاقبة الفتنة والحرب الأهلية، اتفقوا على تولية يوسف ابن عبد الرحمن الفهري أحد زعماء المضرية، فولى إمارة الأندلس في ربيع الثاني سنة 129 (يناير 747) دون مصادقة أو مراجعة من دمشق أو إفريقية. وكانت حكومة دمشق قد اضطربت يومئذ شئونها، وأخذت نذر السوء تبدو في الأفق، وشغلت الخلافة الأموية بما يهددها من خطر داهم على سلطانها، وضعف إشراف الحكومة المركزية على الولايات النائية، فاستقلت إفريقية والأندلس كل بشئونها، حتى يستبين المصير، وتستقر الأمور.

الفصل التاسع خاتمة عصر الولاة

الفصل التاسع خاتمة عصر الولاة ْأصل يوسف الفهري. عبد الرحمن بن حبيب واستيلاؤه على إفريقية. استئثار يوسف بالسلطة. تحرك اليمنية. خروج أبي الخطار وابن حريث. التقاء المضرية واليمنية في شقندة. هزيمة اليمنية ومقتل زعمائها. استقرار الأمر ليوسف والصميل. ولاية الصميل لسرقسطة. إصلاحات يوسف الإدارية والمالية. تقسيم اسبانيا الجديد. إصلاحه للجيش. إرساله جيشا إلى الشمال. ثورة البشكنس والقوط. استيلاء الفرنج على المواقع الإسلامية في سبتمانيا. اضطراب أمر الخلافة في المشرق. سخط الزعماء على يوسف والصميل. عبد الرحمن اللخمي فارس الأندلس. محاولته الخروج ومصرعه. الثورة في إشبيلية وسحقها. ثورة عروة بن الوليد في باجة. استيلاؤه على إشبيلية. هزيمته ومصرعه. ثورة المضرية واليمنية بقيادة عامر العبدري. فراره إلى الشمال وتحالفه مع الحباب الزهري وتميم الفهري. محاصرة الثوار الصميل في سرقسطة. هزيمة الصميل واستيلاء الثوار على سرقسطة. إدعاء عامر لولاية الأندلس. ولاية الصميل لطليطلة. مسير يوسف إلى سرقسطة واستيلاؤه عليها. أسر زعماء الثورة ومصرعهم. اجتماع يوسف والصميل في طليطلة الإخطار بمقدم عبد الرحمن الأموي. مسيره إلى قرطبة. ببين ملك الفرنج وأنزيموند أمير القوط يحاصران أربونة. القتال بين ببين وأمير أكوتين. مصرع أنزيموند. خيانة النصارى في أربونة. سقوطها في يد الفرنج. انتهاء سيادة الإسلام فيما وراء البرنيه. نصارى الشمال. امتناعهم بهضاب جليقية. إغارتهم على الأراضي الإسلامية. نمو المملكة النصرانية. ويجب أن نقف قليلا عند شخصية يوسف بن عبد الرحمن الفهري هذا، الذي اختارته " الجماعة " واليا للأندلس، واستقل بولايتها زهاء عشرة أعوام، وكان آخر هذا الثبت من أمرائها، وعلى يده انتقلت إلى عهد جديد، ودولة جديدة. فمعظم الروايات على أنه ولد عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع الفهري فاتح إفريقية. ويؤيد هذا القول من مؤرخي الأندلس ابن القوطية، وابن حزم، والرازي، وابن الفرضي. ولكن ابن حيان يرتاب في هذه النسبة ويقول لنا إنه لم يقف على ما يؤيد بنوة يوسف لعبد الرحمن بن حبيب، أو صلته بهذا الفرع (¬1). بيد أن اتفاق معظم مؤرخي الأندلس، ولا سيما المتقدمين منهم ¬_______ (¬1) نقل ابن الأبار في الحلة السيراء أقوال ابن القوطية وابن حيان وابن حزم في هذه النقطة - الحلة السيراء ص 53 و54 - وراجع أقوال ابن الفرضي والرازي في نفح الطيب ج 2 =

على صحة هذه النسبة يجعلها في نظرنا أقوى وأرجح. وإذن فيوسف بن عبد الرحمن خاتمة ولاة الأندلس هو ولد عبد الرحمن بن حبيب، الذي تتبعنا أخباره فيما تقدم خلال الحروب الأهلية، التي اضطرمت منذ قدوم بَلْج القشيري إلى شبه الجزيرة. وقد أسلفنا أنه فر إلى تونس اتقاء لنقمة أبي الخطار، وهنالك لبث يرقب الحوادث مدى حين، فلما جاءت الأخبار إلى إفريقية بمقتل الخليفة الوليد بن يزيد بن عبد الملك (في جمادى الآخرة سنة 126)، رأى عبد الرحمن الفرصة سانحة للعمل، فدعا أنصاره وحشد جموعه لقتال حنظلة بن صفوان والى إفريقية، وزحف على القيروان، وخشى حنظلة عاقبة الفتنة، فانسحب مع أصحابه إلى الشام دون قتال، ودخل عبد الرحمن القيروان (سنة 127 هـ) وأعلن ولايته لإفريقية، وأيدته المضرية، وبعث إلى الثغور عمالا من أقاربه وأنصاره. ولم يختر يزيد بن الوليد، الذي ولى الخلافة عقب مقتل أبيه، والياً لإفريقية نزولا على حكم الواقع. فلما خلفه مروان بن محمد بعد ذلك بأشهر، كاتبه عبد الرحمن وهاداه وأظهر له الطاعة فأقره على ولايته (¬1). ولبث عبد الرحمن مستقلا بحكم إفريقية أكثر من عشرة أعوام، وفي عهده وقعت بإفريقية ثورات وقلائل كثيرة، فأخمدها جميعاً وغزا صقلية وسردانية. ولما دالت دولة بني أمية أعلن الطاعة لبنى العباس، ودعا لهم بإفريقية. ولكنه لم يلبث أن قتل غيلة في شهر ذي الحجة سنة 138 (755 م). وأما ابنه يوسف فقد فر منه مغضباً لأمور نقمها عليه، ودخل الأندلس يبحث وراء طالعه في حوادثها، وكان مثل أبيه فارساً هماماً وخطيباً مفوهاً (¬2). فلم يلبث أن ظهر بين أنجاد المضرية وسادتهم، ولازم الصميل وصادقه حتى عظم نفوذه، وانتهي بأن ظفر بإمارة الأندلس في ربيع الثاني سنة 129، وهو يومئذ في السابعة والخمسين من عمره. وكانت مصاير الخلافة الأموية تهتز يومئذ في يد القدر، وقد شغلت بما يواجهها من خطر الفناء الداهم عن حوادث الأندلس، فلم تحاول تدخلا أو اعتراضا على ما يحدث في ذلك القطر النائي، ولم يكن يوسف بحاجة إلى مصادقة أو مراجعة. ¬_______ = ص 61. ويقر ابن عذاري هذه النسبة أيضا (البيان المغرب ج 3 ص 107) وكذلك صاحب أخبار مجموعة (ص 21). (¬1) البلاذري في فتوح البلدان ص 233. (¬2) نفح الطيب (عن الرازي) ج 2 ص 61، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 55.

وكان المتفق عليه بين اليمنية والمضرية أن يتعاقبا في الولاية فيمكث يوسف عاما فقط ثم يُرد الأمر إلى اليمنية (¬1). ولكن المضرية وعلى رأسهم الصميل مرجع الزعامة والأمر يومئذ، لم يفكروا بلا ريب في تمكين اليمنية من الرياسة بأى الصور، وكذلك لا ريب في أن يوسف بن عبد الرحمن لم يفكر بعد أن ظفر بالإمارة أن ينزل عنها طائعاً مختاراً، بل بادر منذ البداية إلى استخلاص جميع السلطات لنفسه، فنزع ولاية ريُّه من يحيى بن حريث الجذامي أحد الزعماء اليمنية، وكان ينافسه ويعارض إمارته، فأقطع ريه ثمناً لموافقته. فلما نزعت منه ريه ثار قومه من اليمنية والتفوا حوله. وهنا أيضا ظهر أبو الخطار الأمير المعزول على مسرح الحوادث، وكان يقيم كما تقدمنا في باجة، بغرب الأندلس. فلما علم بتولية يوسف وخروج ابن حريث، تحرك للعمل، وفاوضه ابن حريث ولكنهما لم يتفقا، إذ أصر كل منهما على ترشيح نفسه للإمارة، بيد أنهما اجتمعا على قتال يوسف ابن عبد الرحمن، وحشد كل منهما جموعه من الفريق الذي يؤازره، وزحفا على قرطبة. وحشد يوسف والصميل جموع المضرية، وبالغ كل فريق في الأهبة، والتقيا أخيرا في شقندة بالقرب من قرطبة (سنة 130 هـ - 747 م) ونشبت بينهما موقعة هائلة تبالغ في روعتها الرواية الأندلسية، إذ تقول لنا: " إنه لم يك بالمشرق ولا بالمغرب، حرب أصدق منها جلاداً ولا أصبر رجالا، طال صبر بعضهم على بعض إلى أن فنى السلاح، وتحاذبوا بالشعور، وتلاطموا بالأيدي، وكلّ بعضهم عن بعض " (¬2). واستمر القتال حيناً سجالا بين الفريقين، ثم داهمت المضرية ذات يوم جموع اليمنية على غرة، فأوقعت بها، وأسر أبو الخطار واِبن حريث وكثير من أصحابهما، وقتلوا جميعاً بأمر الصميل، وجردت اليمنية من زعمائها، واستقر الأمر ليوسف، ولكنه كان يخشى الصميل، لأنه كان بنفوذه وكثرة عصبته، يقبض على ناصية الموقف، فرأى أن يبعده عن قرطبة، وأقطعه ولاية سرقسطة وأعمالها، فسار الصميل إلى سرقسطة واستقل يوسف بالأمر. ونشط يوسف إلى ضبط النظام، وإصلاح الشئون في ظروف صعبة. وكانت السلطة المركزية قد اضمحلت، وهبت ريح الفتنة من كل صوب. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 5 ص 183. (¬2) المقري عن ابن حيان ج 2 ص 61.

واستقل كثير من العمال بالنواحي، وتحرك النصارى في الولايات الشمالية، وعصف القحط فوق ذلك بالأندلس سنة 133هـ (750 م)، واستطال زهاء عامين، فأجدبت السهول والوديان، وأمحلت الزراعة، وفتك الجوع بالمدن والقرى، وهبطت عندئذ على شواطىء الأندلس عصابات بحرية ناهبة كثيرة من أمم الشمال، وعاثت في الشواطىء والثغور والمدن القريبة (¬1). ولكن يوسف أبدى في مغالبة هذه الصعاب والمحن همة فائقة، فطاف بالأقاليم وعزل الحكام العابثين، وقمع المظالم والفوضى ما استطاع، وأصلح الطرق الحربية، لتكون ممهدة لحملاته حيثما اضطر إلى الحرب، وعدل نظام الضرائب فاقتضى ثلث الدخل من كل ولاية، ولكنه أمر بمراجعة السجلات القديمة، واستبعاد الأموات منها، وكانت الضرائب ما تزال تجبى طبقاً للإحصاء القديم، فكان في ذلك إرهاق للسكان، لأن عددهم تناقص منذ الفتح، فقرر يوسف أن تجبى الضرائب عن الأحياء فقط، وأسقطها عمن توفوا، واكتسب بذلك عطف كثير من النصارى (¬2). وأعاد يوسف أيضاً تنظيم الأقاليم الإداري، فقسم اسبانيا إلى خمس ولايات كما كانت أيام القوط، وكما قسمت عند الفتح مع تعديل في حدودها، فأصبحت كما يأتي: ولاية الأندلس وهي ولاية " باطقة " Baetica القديمة، وتقع بين نهر وادي يانة والبحر الأبيض المتوسط، وأشهر قواعدها قرطبة، وقرمونة، وإستجة، وإشبيلية، وشَذُونة، ولَبْلَة، ومالقة، وإلبيرة، وجيان. وولاية طليطلة، وهي ولاية قرطاجنة القديمة، وتمتد من جبال قرطبة في شمال شرقي ولاية الأندلس حتى نهر دويره (الدورو)، وجبال وادي الحجارة شمالا، أشهر قواعدها طُلَيطلة، ومرسية، ولوَرقَة، وأوريولة، وشاطبة، ودانية، ولَقنت، وبلنسية، وشَقُوبية، ووادي الحجارة، وقُونْقَة. وولاية ماردة وهي ولاية اوجدانيا أو جلِّيقية القديمة، وتمتد فيما وراء نهر وادي يانة شرقاً حتى المحيط، وأشهر قواعدها ماردة، وباجة، وأُشبُونة، وأستُرقه، وسمُّورة، وشلمنقة. وولاية سَرَقُسطة، وهي ولاية كانتبريا القديمة، وتمتد من منابع نهر التَّاجُه شرقاً، على ضفتي نهر إيبرو حتى ¬_______ (¬1) إيزودور الباجي. راجع: Aschbach: ibid,V.I.p. 102. وكذا البيان المغرب ج 2 ص 38. (¬2) Conde: ibid,V.I.p Aschbach,quot.Isidorus,ibid.V.I.p. 101

جبال البرنيه وبلاد البشكنس، وأشهر قواعدها سرقسطة، وطركونة، وجيرندة، وبرشلونة، وأرقلة، ولاردة، وطُرطُوشة، ووشقة. ثم ولاية أربونة وهي ولاية الثغر، وتقع شمال شرقي جبال البرنيه حتى البحر، وتشمل مصب نهر الرون، وأشهر قواعدها أربونة، ونيمة، وقَرْقشونة، وأجدة، وبزييه، وماجلونة (¬1). وعنى يوسف بتنظيم الجيش وإصلاحه أشد عناية، وحشد قوات جديدة ليستطيع قمع الثورة في الداخل وحماية الحدود الشمالية، وسير إلى الشمال جيشا بقيادة ولده محمد أبي الأسود، وسليمان بن شهاب، والحصين العقيلي. وكان النصارى قد انتهزوا فرصة الاضطراب الداخلي، وأغاروا على الأراضي الشمالية، واستولوا على كثير من القلاع والحصون، ووصلوا في تقدمهم حتى ضفاف نهر دويره (الدورو). وثار البشكنس والقوط فيما وراء البرنيه واستدعى أميرهم الكونت آنزيموند، ملك الفرنج ببين الملقب " بالقصير " لمحاربة المسلمين، وكان آنزيموند هذا من نبلاء القوط، فانتهز فرصة اضطراب الحوادث في اسبانيا، واستولى على قواعد سبتمانيا المسلمة، وهي نيمة وأجدة وماجلونة وبزييه وما حولها، وأنشأ منها مملكة صغيرة، والتف حوله السكان النصارى، واستطاع بمؤازرة الزعماء المحليين، أن يقضى على سلطان المسلمين في تلك الأنحاء. ولكنه رأى أنه لايستطيع الاحتفاظ بمملكته الصغيرة، والعرب على مقربة منه في أربونة أقوياء يخشى بأسهم، وكذلك توجس شراً من جاره أمير أكوتين، إذ كان يطمح إلى ضم هذه الأراضي إلى أملاكه، فلم خيراً من الانضواء تحت لواء ملك الفرنج ببين، واستدعائه لمعاونته (¬2). وكان ببين قد خلف أباه كارل مارتل كحافظ للقصر الفرنجي، ولكنه لم يلبث أن قبض على مليكه شلدريك الثالث آخر الملوك الميروفنجية، وزج به إلى ظلام الدير، وانتزع العرش لنفسه (751 م). فلما استدعاه آنزيموند، استجاب لدعوته، ورحب بتلك الفرصة ليتم ما بدأه أبوه من إجلاء المسلمين عن غاليس، وغزا لانجدوك، وهاجم المواقع الإسلامية مع حليفه آنزيموند، وفتك بالمسلمين في تلك الأنحاء (753 م). وقاومته الحاميات الإسلامية أشد مقاومة، ولكنها لم تثبت طويلا لعزلتها، وحرمانها من كل معاونة ومدد، واستولى الفرنج على تلك ¬_______ (¬1) سبق أن أشرنا إلى تقسيم اسبانيا الإدارى الذي أورده البكري، راجع الهامش في ص 70 (¬2) Dom Vissette: ibid, V.I.p. 872

القواعد والمعاقل كلها خلا أربونة، فإنها لبثت بيد المسلمين أعواماً أخرى. ولم يستطع الجيش الذي سيره يوسف إلى الشمال، أن يحقق الغاية المنشودة، بل رد بخسارة فادحة وقتل قائده سليمان بن شهاب، ونجا الحصين العقيلي وفرسانه بصعوبة (¬1). وترك الشمال لمصيره، واستغرقت الثورات والحروب الداخلية اهتمام يوسف وكل نشاطه وموارده. ذلك أن الأحقاد والمنافسات القديمة التي هدأت حيناً بتولية يوسف، عادت فاضطرمت حين استأثر يوسف وحليفه الصميل بكل سلطة وولاية، وكان المفهوم أن ولاية يوسف لإمارة الأندلس إنما هي حل مؤقت لحالة طارئة حتى يأتي الأمير الشرعي الذي يختاره الخليفة، ولكن الخلافة الأموية لقيت مصرعها غير بعيد (132هـ - 750م)، وتفاقم الاضطراب الذي سرى إلى شئون إفريقية والأندلس قبل ذلك بأعوام، وأصبح تراث الخلافة الأموية نهباً مباحاً لكل طامع ومتغلب. وكان بالأندلس عدة من الزعماء النابهين ذوى الجاه والعصبية، ينقمون من يوسف والصميل استئثارهما بالسلطة، ويرى كل منهم أنه أولى بها وأجدر، وكان يوسف يعمل من جهة أخرى لتوطيد سلطانه في ذلك القطر البعيد، الذي رفعه القدر إلى ولايته ورياسته، والذي يضارع بضخامته وأهميته ملكاً عظيماً. وكان أقوى أولئك الخصوم والزعماء المنافسين ليوسف، عبد الرحمن بن علقمة اللخمي حاكم ثغر أربونة الملقب " بفارس الأندلس " تنويهاً بفائق شجاعته (¬2). وكان قد اشترك في الحرب الأهلية قبل ذلك بأعوام حسبما قدمنا. ثم ارتد بجنده إلى أربونة، واستعصم بها يرقب الحوادث والفرص. فلما تولى يوسف إمارة الأندلس، واضطربت شئون الشمال، أخذ يدبر العدة لعبور البرنيه ومحاربة يوسف، ولكن لم يلبث أن اغتاله بعض أصحابه وحملوا رأسه إلى يوسف، وتمت هذه الخيانة بوحي يوسف وتحريضه على الأرجح، وانهارت تلك المحاولة في مهدها (¬3). وخرج على يوسف في إشبيلية يوسف بن عمرو بن يزيد الأزرق، وكثر جمعه وقوى أمره، فزحف إليه يوسف وقاتله حتى هزمه وقتله. وخرج عليه في باجة عروة بن الوليد ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 58. وكذا Conde: ibid, V.I.p 127 و Aschbach:ibid,V.I.p. 102 ويضع صاحب أخبار مجموعة تاريخ هذه الحملة بعد ذلك بنحو عامين ص 76 و77. (¬2) ابن القوطية ص 43. (¬3) المقري عن ابن حيان ج 2 ص 62، والبيان المغرب ج 2 ص 39.

المعروف بالذمي لتحالفه مع أهل الذمة، والتف حوله النصارى فضلا عن أنصاره من العرب والبربر، وسار إلى إشبيلية فاستولى عليها, واتسع نطاق الثورة في تلك الأنحاء، فوجه إليه يوسف جيشاً لقتاله فهزمه عروة، فسار إليه يوسف بنفسه، ووقعت بينهما معارك شديدة انتهت بهزيمة عروة وأسره، ثم بقتله مع نفر من أصحابه. بيد أن ثورة أخطر وأوسع نطاقا كانت تدبر عندئذ في الشمال لخلع يوسف والصميل وسحق سلطانهما. وكان روح هذه الثورة ومدبرها زعيم مضري شديد البأس والجاه، هو عامر بن عمرو بن وهب العبدري، وكان عامر عريق الحسب والعصبية، وافر الجاه والأتباع، يتزعم مضر ويقودها خلال الحوادث، وكان صديقاً ليوسف الفهري قبل ظفره بالإمارة، يتولى مثله قيادة الجيش، فلما وُلِّى يوسف نزعها منه، وكان كباقي الزعماء ينقم من يوسف والصميل استئثارهما بالسلطة واستبدادهما بالشئون. فلما اضطرمت الأندلس بالفتن واتسع نطاق الثورة، أخذ يدبر وسائل الخروج على يوسف، وكان يبسط نفوذه على الجزيرة الخضراء، ثم انتقل إلى قرطبة يرقب الحوادث، وكاتب الخليفة العباسي أبا جعفر المنصور، وعرض عليه أن يدعو له بالأندلس، وأن يحكمها باسمه، إذا بعث إليه بمرسوم إمارتها. وكان يتودد فوق ذلك إلى اليمانية، وينعى على يوسف والصميل إسرافهما في سفك دمائهم يوم شَقُندة، فالتفت حوله اليمنية والمضرية. ولم يكن يوسف يجهل حركاته وتدابيره، فلما هم بمطاردته والقبض عليه، فر إلى الشمال في كثير من أتباعه. وكان ثمة زعيمان قرشيان آخران هما الحباب بن رواحة الزهري من بني كلاب، وتميم بن معبد الفهري، قد رفعا لواء الثورة في ولاية سرقسطة، فتفاهم معهما عامر وتحالف، واجتمع إليه جيش كبير من اليمنية والمضرية والبربر، وزحف عامر والحباب الزهري على سرقسطة، حيث كان الصميل، وضيقا عليه الحصار. فاستغاث الصميل بحليفه يوسف. ولكن يوسف لم يستطع أو لم يُرد إنجاده بغية القضاء على سلطانه (¬1). فاضطر الصميل أن يلقى خصومه في أنصاره وأتباعه القلائل. ونشبت بين الفريقين مدى أشهر معارك عديدة، انتهت بهزيمة الصميل وانسحابه من سرقسطة في فل أنصاره، فدخلها عامر وحليفه، واستوليا عليها (سنة 136 هـ - 753 م). وعمت الثورة كورة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 38 و43.

سرقسطة وما إليها، ودعا عامر لنفسه بولاية الأندلس، بمرسوم زعم أنه تلقاه من أبي جعفر المنصور، وخرج الشمال كله عن قبضة يوسف الفهري. أما الصميل فارتد إلى طليطلة التي أسند إليه يوسف ولايتها بدلا من سرقسطة، وكان يوسف قد أنهكت قواه واستنفدت موارده تلك الحروب والثورات المتوالية، فاضطر أن يلزم السكينة حيناً. وبسط عامر سلطانه زهاء عامين، على كورة سرقسطة. وفي أواخر سنة 137هـ (754 م) سار يوسف إلى سرقسطة في جيش كبير، وحاصرها بشدة حتى ضاق أهلها بالحصار ذرعاً، ورأوا أن يتقوا مصائب الحصار، بتسليم عامر وابنه وهب والحباب الزهري إلى يوسف، فحملهم يوسف معه في الأصفاد، وارتد صوب طليطلة، ثم أمر بهم فقتلوا أثناء الطريق، وتخلص يوسف بذلك من آخر الزعماء الخوارج عليه (¬1). ولكنه لم يقدر أن خطراً آخر سيأتيه من خارج الجزيرة، وينذر جميع مشاريعه وتدابيره بالانهيار. ذلك أنه ما كاد يجتمع بصديقه وحليفه الصميل في ظاهر طليطلة، حتى أقبل عليه رسول من قرطبة يحمل كتاباً من ولده عبد الرحمن، خلاصته أن فتى من بني أمية يدعى عبد الرحمن بن معاوية قد نزل بساحل الأندلس في ثغر المُنكّب Almunecar، واجتمع إليه أشياع بني أمية في كورة إلبيرة (غرناطة)، وانتشرت دعوته في جنوب الأندلس بسرعة. وذاع الخبر في جيش يوسف فأحدث فيه ذعراً واضطراباً، وتفرق كثير من جنده. وقيل إن نبأ مقدم الأمير الأموي انتهى إلى يوسف أثناء سيره إلى الشمال ليقاتل نصارى جلّيقية، وبعد أن سحق الثوار في سرقسطة (¬2). وعلى أى حال فقد بادر يوسف والصميل فيمن بقى من الأشياع والجند بالسير إلى قرطبة، ليدبرا الخطط لرد هذا الخطر الجديد، وكان ذلك في أواسط سنة 138هـ (أواخر سنة 755 م). وفي أثناء هذه الفتن والقلاقل المتواصلة، استولى الفرنج كما قدمنا على جميع القواعد والأراضي الإسلامية في سبتمانيا ولانجدوك، وهي التي تكون ولاية الثغر أو رباط الثغر، ولم يبق منها بيد المسلمين سوى أربونة. وكانت ¬_______ (¬1) راجع في تفصيل هذه الحوادث، ابن الأبار في الحلة السيراء ص 52؛ وابن الأثير ج 5 ص 140 و184؛ والبيان المغرب ج 2 ص 43 و44؛ وكذا في Dozy: Hist: V.I.p. 184 & 185 (¬2) ابن القوطية ص 20؛ ونفح الطيب ج 1 ص 154.

أمنع قلاع المسلمين فيما وراء جبال البرنيه، وقد استطاعت أن ترد غزوات الفرنج أيام كارل مارتل. فلما فقدت أربونة بطلها المدافع عنها أعني عبد الرحمن اللخمي فارس الأندلس، وسقطت أراضي الثغر كلها في يد النصارى، زحف ببين ملك الفرنج ومعه حليفه الكونت آنزيموند القوطي أمير سبتمانيا على أربونة، وطوقها بقوات كثيفة وضرب حولها الحصار الصارم (سنة 755 م). وكانت أربونة في غاية المنعة والحصانة، فاعتزم المسلمون الدفاع عنها لآخر نسمة، واضطر ببين خلال الحصار أيضاً، أن يرتد عنها بقسم من جيشه لمحاربة أمير أكوتين حفيد الدوق أودو، ورده عن الأراضي الفرنجية، وترك آنزيموند لمتابعة الحصار. ولكن آنزيموند قتل أثناء ذلك غيلة تحت أسوار أربونة، فعاد ببين لاستئناف الحصار وهاجم المدينة المحصورة مراراً، ولكن المسلمين استطاعوا أن يقاوموا الفرنج، ْوأن يردوا كل هجماتهم مدى أربعة أعوام، رغم عزلتهم وانقطاع صلتهم بالأندلس، وعدم تلقيهم أى مدد من أولى الأمر في قرطبة، لاشتغالهم بالحرب الأهلية. وكان اتصال المدينة بالبحر يسهل على المسلمين تلقى بعض المؤن، وتحمل ويلات الحصار. فلما رأى ببين أنه لا يستطيع أخذ المدينة بالحرب لجأ إلى الخديعة والخيانة، وتفاهم مع أهلها القوط، وقطع لهم عهوداً مؤكدة أنهم إذا عاونوه على أخذها، فإنه يترك لهم حرية التمتع بقوانينهم، ويمنحهم حقوقاً ومزايا كثيرة، فعمل القوط على إضرام الثورة داخل المدينة، ثم انقضوا ذات يوم على حراسها المسلمين وقتلوهم وفتحوا أبوابها، فدخلها الفرنج وفتكوا بسكانها المسلمين أيما فتك، وخربوا مساجدها ومعاهدها ودورها وذلك في سنة 759 م (142هـ) (¬1). وسقطت بذلك آخر المعاقل الإسلامية في غاليس في يد النصارى، وانهارت سيادة الإسلام فيما وراء جبال البرنيه، بعد أن استمرت هنالك زهاء نصف قرن، وعادت قوى النصرانية، فاحتشدت وراء تلك الآكام تتربص بالإسلام في الأندلس، بينما كانت قوى الإسلام داخل شبه الجزيرة يمزق بعضها بعضا. وحذا نصارى الشمال حذو الفرنج في الاستفادة من تمزق الإسلام بالأندلس، ونريد بنصارى الشمال تلك البقية الباقية من القوط الذين ارتدوا أمام الفتح الإسلامي ¬_______ (¬1) Dom Vissette: ibid, V.I.p. 827

الكتاب الثاني الدولة الأموية فى الأندلس القسم الأول عصر الإمارة من عبد الرحمن الداخل إلى عبد الرحمن بن الحكم

الكتابُ الثاني الدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْ القسم الأول عَصْرُ الإمارة من عبْد الرحمن الداخل إلى عبْد الرحمن بن الحَكم 138: 238 هـ - 756: 852 م

الفصل الأول مصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية

الفصل الأول مصرع الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية اضمحلال الدولة الأموية إبان فتوتها. عوامل هذا الاضمحلال. السياسة الأموية. ما أثارته وسائلها من السخط. استغلال الشيعة لهذه العاطفة. اضطرام العصبية والخلافات القومية. خلاف العرب والبربر. خلاف العرب فيما بينهم. وهن دعائم الدولة الأموية. العوامل الخفية التي عملت على تقويضها. الخصومة بين بني أمية وآل البيت. تقدم الدعوة الشيعية. ظهور الشيعة في النواحي. أئمة الشيعة بعد الحسين. محمد بن علي ولد العباس. أبو مسلم الخراساني أعظم دعاة الشيعة. إضطرام الدعوة في خراسان. إستنجاد أميرها نصر بن سيار بالخليفة. غزو أبي مسلم الخراساني وفرار أميرها. استيلاء أبى مسلم على خراسان وفارس. وفاة إبراهيم الإمام والدعوة لأخيه عبد الله بن محمد. غزو الشيعة العراق. نزول أبي العباس عبد الله بن محمد بالكوفة. من هو السفاح. مسير مروان الثاني لقتال الشيعة. لقاء الأموية والشيعة على ضفاف الزاب. هزيمة مروان. فراره ومصرعه. ذهاب الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية. كانت الدولة الأموية دولة الإمبراطورية الإسلامية الكبرى، ففي ظلها امتدت الفتوح الإسلامية شرقاً إلى السند وغرباً إلى المحيط الأطلنطي وإسبانيا، ووصلت الإمبراطورية الإسلامية إلى ذروة ضخامتها وقوتها، متماسكة الأجزاء، وثيقة العرى، موحدة السلطان والإدارة. ولكن الدولة الأموية لم تنعم طويلا بطور فتوتها ومنعتها ووحدتها، ولم تأت فاتحة القرن الثاني للهجرة حتى كانت هذه الدولة الشامخة التي لم تجز بعد طور الفتوة، قد هرمت سراعاً وأدركها الانحلال والوهن، وتصدع صرح وحدتها الباذخ. واختتم ثبت الخلفاء الأقوياء من بني أمية، بالوليد بن عبد الملك وأخيه سليمان (86 - 99هـ) ثم بأخيهما هشام. ومنذ عصر هشام بن عبد الملك، نجد عوامل الانحلال والتفكك، تعمل عملها في هذا الصرح العظيم، فلم يمض طويل حتى اضطرمت الأندلس بالفتن وخرجت من حظيرة الإمبراطورية، ولم يبق للخلافة عليها سوى سلطة إسمية، واستقل الزعماء المتغلبون بحكم إفريقية، بعد أن خرجت أطرافها القصوى عن قبضة الخلافة، واضطرب سلطان الخلافة في الولايات الشرقية النائية مثل خراسان وفارس، وأخذ ملك بني أمية يهتز فوق بركان مضطرم من الدعوات الخصمية، التي لبثت قبل

ذلك بنصف قرن تعمل في الخفاء، ثم لاح لها أن الفرصة قد آذنت بالانفجار. ولهذا الانحلال الذي سرى إلى الدولة الأموية، قبل أن تستكمل أطوار نموها وئوطدها، أسباب خاصة، ترجع إلى الظروف التي قامت فيها، وإلى الآثار الدينية والمعنوية، التي أثارتها السياسة الأموية في الجزيرة العربية. ثم إلى نتائج تلك المعركة الخالدة التي نشبت بين مختلف العناصر والقوى، التي اشتركت في بناء الإمبراطورية الإسلامية. فقد استطاع بنو أمية أن ينتزعوا الخلافة والملك، خلال معركة اعتبرها فريق كبير من الأمة العربية، خروجا على آل البيت ذوي الحق الشرعي في الخلافة، وبوسائل لم تكن دائماً نزيهة ولا عادلة. وكان لما ارتكبه بنو أمية خلال هذه المعركة من الأحداث المثيرة، أسوأ وقع في نفوس الأمة العربية. فقد فتك بنو أمية بآل البيت وشيعتهم أشنع فتك، وكان مقتل الحسين ابن علي في كربلاء (سنة61هـ) (¬1)، ومقتل عدة من أبنائه وإخوته أشهر حوادث الفتك بآل البيت وأروعها. ومع أن مصرع الحسين وآله، لم يكن سوى نتيجة للصراع السياسي الذي اضطرم بين آل البيت وبين بني أمية منذ خلافة علي، فقد كان لهذا الحادث أعظم وقع في العالم الإسلامي، ولم يمض عامان على تلك المأساة المؤلمة، حتى أرسل يزيد بن معاوية (سنة 63 هـ) جنده إلى المدينة بقيادة مسلم بن عقبة المرِّي، لمعاقبة أهلها على خروجهم عن طاعة بني أمية، فاقتحم الجند الأمويون مدينة الرسول، وعاثوا فيها واستباحوا الحرم المقدسة، وارتكبوا أشنع صنوف الكبائر والإثم (¬2)، ثم ساروا بعد ذلك إلى مكة فحاصروها، وضربوا البيت الحرام بالمنجنيق والنار. وكان لهذه الحوادث وأمثالها أثر عميق في الأمة الإسلامية، وألفى الشيعة صحب آل البيت ودعاتهم، في تلك الأحداث المثيرة، غذاء للتشهير بالسياسة الأموية وأساليبها، وأصيبت هيبة الخلافة الأموية من هذه الناحية، بصدع لم تنهض من بعده، وذكت عوامل السخط عليها. ¬_______ (¬1) كان مقتل الحسين بن علي في كربلاء في العاشر من المحرم سنة 61هـ، وهو يوم " عاشوراء " الذي اتخذته الخلافة الفاطمية بمصر يوم حزن وأسى؛ وكانت تقام في ذلك اليوم بمدينة القاهرة طائفة من المراسم والاحتفالات المؤثرة. (راجع كتابي الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية - الطبعة الثانية - ص 354). (¬2) وتعرف هذه الموقعة الشهيرة بموقعة الحرة أو حرة واقم، وهي ضاحية المدينة الشرقية، وقد سبقت الإشارة إليها.

واستغل الشيعة هذه العاطفة لبثِّ دعوتهم وتدعيم قضيتهم، وحشد العناصر الناقمة في صفوفهم. وكان اضطرام العصبية والخلافات القومية من جهة أخرى، يعمل عمله لتمزيق روابط هذه الإمبراطورية الشاسعة. ففي إفريقية كانت ثورات البربر القومية، تستنفد قوى الخلافة ومواردها بلا انقطاع، وكان الخلاف بين العرب والبربر في الأندلس، يهدد مصير الإسلام والخلافة في ذلك القطر النائي، ويفت في عضد الزعماء والقادة، ويبعث الاضطراب والوهن إلى صفوف الغزاة. وكان العرب أنفسهم قدوة سيئة في تفرق الرأي والكلمة. فكانت المعركة الخالدة بين مضر وحمير، وبين مختلف القبائل والبطون، تمزق أوصال الوحدة العربية، وتقوض دعائم هذه العصبية القومية، التي دفعت يوم اتحادها وتماسكها، سيل الفتوح الإسلامية إلى أقاصي المشرق والمغرب. كانت الخلافة الأموية تسيطر على دولة عظيمة مترامية الأطراف. ولكن سلطانها الحقيقي كان محدود المدى داخل هذه الإمبراطورية الشاسعة، وكان فوق ذلك يقوم على دعائم مضطربة. وفي ذلك ما يفسر تلك الظاهرة التي يعرضها سقوط الدولة الأموية. فبينا هي تبدو في أوج قوتها وفتوحها، إذ بها تنهار فجاة، وتبدو في الحال مظاهر ضعفها وتفككها، ويبدو ما كان يحيط بسلطانها الشاسع من عوامل مصطنعة، وما كان يهدده من عوامل الهدم الخفية، المعنوية والنفسية. وكانت هذه العوامل الخفية في الواقع أخطر ما يهدد سلطان بني أمية، فإن تلك الأحقاد المرة التي أثارتها السياسة الأموية في نفوس خصومها، كانت تسري وتجيش، وتحيط ملك بني أمية بسياج خطر من الحفيظة والبغض. وكانت هذه الخصومة الخطرة التي يغذيها ظمأ الانتقام، هي عماد الدعوة الشيعية التي لبثت تشق طريقها منذ مقتل عليّ، ثم مقتل بنيه من بعده. ثم تأثلت هذه الخصومة وتوطدت منذ أوائل القرن الثاني من الهجرة. واستطاع الشيعة أن يظهروا في النواحي، ولاسيما في العراق وخراسان، وأن يدبروا عدة ثورات محلية خطيرة. وقد أخمدت هذه الحركات الأولى في سيل من الدماء. ولكن القمع كان يذكي النضال، وإراقة الدم تذكي ظمأ الانتقام. ولم تكن المعركة متكافئة من الوجهة المادية، فلم يك للشيعة جيوش منظمة أو موارد يعتد بها، ولكن خطر المعركة كان يجثم في نواحيها المعنوية. واشتد هذا الخطر حينما ضعف أمر العمال في

النواحي، واتسع الأمر على الحكومة المركزية، وانحل سلطانها في الأنحاء النائية، وأضحى عرضة للانتقاض والانهيار. ولبث دعاة الشيعة زهاء نصف قرن ينظمون دعوتهم، ويضعون لها الأصول والقواعد، ويحشدون لها الصحب والأنصار في سائر النواحي، وكانت كغيرها من الدعوات السرية الثورية، تلقى في الخفاء تأييداً كبيراً. وليس من موضوعنا أن نتحدث عن مبادئ الشيعة ورأيهم في الإمامة ومساقها (¬1). ويكفي أن نقول إن اختلاف الشيعة فيما بينهم، على حق الإمامة ومساقها في ولد علي، لم يحل دون إجماعهم على خصومة بني أمية، ولا دون استمرار الدعوة الشيعية وتقدمها. وكانت إمامة الشيعة قد انتقلت بعد مقتل الحسين إلى أخيه، محمد بن علي بن أبى طالب المعروف بابن الحنفية (¬2). فلما توفي سنة 81هـ، قام بها ولده أبو هاشم عبد الله بوصية منه. واستمر أبو هاشم أيام الوليد بن عبد الملك وأخيه سليمان قائماً بأمر الشيعة، يفدون عليه ويؤدون له الخراج. ثم توفي مسموماً سنة 98هـ بتحريض سليمان بن عبد الملك فيما يقال، وأوصى بالإمامة إلى ابن عمه محمد ابن على بن عبد الله بن العباس كبير عقلاء الشيعة يومئذ. والعباس هو ابن عبد المطلب عم النبي. وتقدمت الدعوة الشيعية على يد محمد بن علي تقدما كبيراً، وظفرت في ذلك الحين بأعظم دعاتها السياسيين، ونعني أبا مسلم الخراساني. وقد كان أبو مسلم شخصية عظيمة، وكان يتمتع بمقدرة ومواهب فائقة. ولكن الغموض محيط مع ذلك بأصله ونشأته، وتختلف الرواية في أمره اختلافاً كبيراً، حتى أنها لتختلف فيما إذا كان من الأحرار أو الموالي. فيقول البعض إنه حر، يرجع إلى أصل فارسي رفيع المنبت، وإنه ولد بأصبهان ونشأ بالكوفة، واسمه الحقيقي إبراهيم بن عثمان بن بشار. ويقول البعض إنه من الموالي، وأصله من أصبهان، واسمه إبراهيم. وقيل بل كان عبداً لبكير بن ماهان أحد عمال السند، وإنه استصحبه إلى مكة في زيارته لإبراهيم الإمام، فأعجب إبراهيم بذكائه وفطنته واشتراه منه. وأما تسميته بأبى مسلم، فيقال إنه سمى نفسه عبد الرحمن بن مسلم، ¬_______ (¬1) أورد ابن خلدون في مقدمته شرحا حسنا لمبادىء الشيعة ومساق الإمامة عند مختلف فرقهم (المقدمة ص 164 - 168). ويتناولها الشهرستاني في " الملل والنحل " بشيء من التفصيل؛ وكذلك عبد القاهر البغدادي في كتابه " الفرق بين الفرق ". (¬2) وهو أخو الحسن والحسين من الأب فقط. ويعرف بابن الحنفية نسبة لأمه خولة بنت جعفر بن قيس المعروف بالحنفية.

واتخذ كنيته أبا مسلم، وقيل إن إبراهيم الإمام هو الذي سماه بهذا الإسم. ولعل أرجح رواية في شأن هذا الداعية الكبير أنه كان فتى مغموراً، ولد بمرو في أسرة رقيقة الحال، ونشأ بأصبهان، واتصل منذ فتوته ببعض نقباء الشيعة في الكوفة، فآنسوا فيه ذكاء خارقاً، وحماسة تضطرم لآل البيت وقضيتهم، وسار معهم إلى محمد بن علي بن عبد الله بمكة، فأعجب بذكائه وعزمه، واختاره داعية للشيعة في خراسان، موطنه وأصلح ميدان لنشاطه. ولما ظهر أبو مسلم وقوي أمره، وكثر أنصاره، ادعى أنه من آل البيت من ولد سليط بن عبد الله بن عباس (¬1). ولما توفي محمد بن علي، وخلفه في الإمامة ولده إبراهيم الملقب بالإمام بعهد منه (سنة 126 هـ) استمر أبو مسلم في مهمته، يبث الدعوة، ويحشد لها الأنصار. وكانت خراسان كما قدمنا أخصب ميدان للدعوة الشيعية لبعدها عن الحكومة المركزية، وتعاقب الفتن فيها بن المضرية واليمنية. وكان أميرها من قبل بني أمية نصر بن سيار في مأزق صعب، يستنجد عبثاً بحكومة دمشق، ويشهد تفاقم الحوادث عاجزاً، وحركة الشيعة تشتد، وتجتاح خراسان بسرعة. ويروى أن نصر بن سيار كتب إلى مروان بن محمد الخليفة يومئذ، هذا الشعر الفياض بالنبوءة والنذير يستنجد به، ويستحثه للدفاع عن عرشه وتراث أسرته: أرى تحت الرماد وميض نار ... ويوشك أن يكون لها ضرام فان النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام فإن لم يطفها عقلاء قوم ... يكون وقودها جثث وهام فقلت من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام فان كانوا لحينهم نياماً ... فقل قوموا فقد حان القيام فقري عن رحالك ثم قولي ... على الإسلام والعرب السلام (¬2) وكان أبو مسلم رجل الموقف يدير الخطط بقوة وبراعة، فلم يمض بعيد حتى ألفى الفرصة سانحة للعمل الحاسم، فاعتزم أمره ووثب في صحبه على نصر بن سيار ¬_______ (¬1) راجع في أصل أبي مسلم وسيرته، ابن الأثير ج 5 ص 95 - 97، وابن خلكان ج 1 ص 352 - 354، وابن خلدون ج 3 ص 100 و117 - 120. (¬2) تروى هذه الأبيات بصورة أخرى. راجع مروج الذهب للمسعودي (بولاق) ج 2 ص 159.

وقوات بني أمية وهزمهم في عدة معارك (سنة129 - 130هـ) " واستولى على مرو وسمرقند وخراسان ونيسابور، وطرد منها عمال بني أمية، وفر نصر بن سيار إلى العراق. وبسط أبو مسلم سلطانه على خراسان وفارس، ورفع فيهما لواء الشيعة الأسود، ودعا لأبي العباس عبد الله بن محمد بن علي المعروف " بالسفاح " أخى إبراهيم الإمام وخلفه. وكان الخليفة الأموي مروان بن محمد، قد هاله ما رأى من تغلغل الدعوة الشيعية في النواحي، فقبض على إبراهيم الإمام، وهو يومئذ بإحدى قرى الشام، وزجه إلى السجن حتى مات (سنة 132هـ)، وزعم أخوه عبد الله أبو العباس وأصحابه، أنه أوصى إليه بالإمامة من بعده. فدعا له أبو مسلم في خراسان وفارس حسبما تقدم. ثم سير أبو مسلم جيشاً إلى العراق فلقيه أميرها ابن هبيرة في قواته، ووقعت بين الفريقين على ضفاف الفرات معارك شديدة، هزم فيها ابن هبيرة وفر إلى الشمال. واستولى الشيعة على العراق، ودعوا لأبى العباس بالخلافة (ربيع الآخر سنة 132 هـ)، ونزل أبو العباس عبد الله " السفاح " بالكوفة، واستقر بها يرقب الحوادث. وفي ذلك الحين كان مروان بن محمد أو مروان الثاني (¬1)، الذي ولى الخلافة سنة 127هـ، يتأهب للدفاع عن ملك بني أمية، الذي تصدع صرحه سراعاً. فحشد جيشاً ضخماً، وسار شرقاً حتى وصل إلى ضفاف نهر الزاب، وهو فرع من دجلة يتصل به في الضفة الشرقية جنوب شرقي الموصل، وسار للقائه قائد المسوّدة (الشيعة) في الشمال، أبو عون عبد الملك بن يزيد الأزدي، وأمده أبو العباس بجيش آخر بقيادة عمه عبد الله بن علي، وبلغت قوات الشيعة كلها زهاء عشرين ألفاً، وبلغت القوات الأموية زهاء مائة وعشرين ألفاً. ولكن حماسة الشيعة كانت تغني عن الكثرة، وكان تعاقب الظفر يذكي عزائمهم ويضاعف قواهم، وكان الجيش الأموي على ضخامته قد خبت عزائمه، واختلت صفوفه وغاضت قواه المعنوية. والتقى الفريقان على ضفة الزاب اليسرى ونشبت بينهما معركة شديدة حاسمة، انتهت بهزيمة الجيش الأموي وتمزيقه، وذلك في الحادي عشر من جمادى الثانية سنة 132 هـ (25 يناير 750 م)، وغرق في النهر آلاف من جند الشام، وعدة من زعمائه وقادته، واستولى الشيعة على أسلابه، وفر ¬_______ (¬1) يعرف مروان بن محمد أيضا بمروان الجعد، وحمار الجزيرة، أو مروان الحمار.

مروان في فل من صحبه إلى الشام، فسار في أثره عبد الله بن علي، وحاصر دمشق واقتحمها في الخامس من رمضان من نفس العام. وفر مروان إلى فلسطين ثم إلى مصر. فبعث " السفاح " في أثره جيشا بقيادة عمه صالح بن علي، فلحق به في مصر، وظل يطارده من مكان إلى مكان، حتى ظفر به في قرية بوصير على مقربة من الجيزة. وهنالك مزقت البقية الباقية من أنصار بني أمية، وقتل مروان آخر الخلفاء الأمويين بالمشرق، وأرسل رأسه إلى "السفاح" وذلك في السابع والعشرين من ذى الحجة سنة 132هـ (6 أغسطس سنة 750 م). وهكذا انهارت دعائم الدولة الأموية بسرعة مدهشة، وقامت على أنقاضها دولة بني العباس. ولا ريب أن أكبر الفضل في تحطيم ذلك الصرح الشامخ، يرجع إلى جهود تلك الشخصية العظيمة ونعني أبا مسلم الخراساني. كان أبو مسلم إحدى هذه العبقريات الشاملة، التي تتفتح في معترك الإنقلابات الحاسمة، وتقوم على سواعدها الدول العظيمة. وكانت دعوة الشيعة وإمامة آل البيت مبعث هذا الانقلاب وروحه. ولكن بني العباس ما كادوا يتبوأون ذلك الملك الباذخ، حتى غلبت عليهم عصبية الأسرة، وألفوا في أبي مسلم منافساً تخشى عواقبه، وفي الدعوة الشيعية خطراً يجب القضاء عليه. فلم تمض أعوام قلائل حتى قتل أبو مسلم (شعبان سنة 137هـ)، قتله أبو جعفر المنصور أخو أبي العباس وخلفه. ثم تتبع زعماء الشيعة وولد علي بن أبي طالب بالقبض والمطاردة، حتى مزق شملهم وسحق دعوتهم. واستخلص بنو العباس تراث بني أمية لأنفسهم. وقامت تلك الدولة العباسية الزاهرة، تصل تاريخ الإسلام في المشرق، وتسير به إلى عصر جديد من العظمة والبهاء.

الفصل الثانى بعث الدولة الأموية في الأندلس

الفصل الثاني بعث الدولة الأموية في الأندلس موقف الأندلس بعد سقوط الدولة الأموية. يوسف الفهري حاكم بأمره. مطاردة بني العباس لبني أمية. المذبحة الرائعة. من هو السفاح. نجاة عبد الرحمن بن معاوية. فراره وظروفه المؤثرة. تجوله في برقة وإفريقية. نجاته من قبضة عبد الرحمن بن حبيب. التجاؤه إلى المغرب الأقصى. إرساله لبدر مولاه إلى الأندلس. مفاوضة بدر الزعماء. سعي أبي عثمان وعبد الله بن خالد لتأييد عبد الرحمن. موقف الصميل بن حاتم. عبور عبد الرحمن إلى الأندلس. توجس يوسف الفهري واختلال جيشه. تقدم الدعوة الأموية. الزعماء المؤيدون لعبد الرحمن. عود يوسف والصميل إلى قرطبة. عرض يوسف على عبد الرحمن وكتابه إليه. رفض عبد الرحمن لهذا العرض. مبايعة ريه وشذونة وإشبيلية لعبد الرحمن. زحفه على قرطبة. خروج يوسف والصميل لملاقاته. لقاء الفريقين في موقعة المسارة. هزيمة يوسف والصميل. دخول عبد الرحمن قرطبة ومبايعته بالإمارة. الموقف بعد المسارة. مهمة عبد الرحمن الفادحة. معركة الدولة والإمارات المستقلة. الأخطار التي تحيق بالأندلس. الكفاح المستمر. بينما كانت حوادث هذا الانقلاب الحاسم في مصاير الإسلام تجري في المشرق، كانت حوادث الأندلس تؤذن بانقلاب عظيم آخر في مصاير الإسلام في ذلك القطر النائي. وكانت الفتن والحروب الأهلية المتعاقبة التي فصلنا أخبارها، تدفع بالأندلس إلى مصير مجهول تخشى عواقبه، وتعصف تباعا بمنعة الإسلام في الغرب، وتشجع الفرنج ونصارى الشمال على اقتطاع الأطراف النائية، والتوغل في الأراضي الإسلامية. وكان من عناية القدر أن تولي أمر الأندلس في ذلك المأزق العصيب، رجل قوي حازم هو يوسف بن عبد الرحمن الفهري. ولكن ولاية يوسف لم تكن حلا نهائياً للأزمة، لأنه تولى دون مصادقة شرعية من السلطة العليا، ولأن منافسيه من الزعماء والخوارج لم يقروا بولايته، ولم يخلدوا إلى السكينة، وأخيراً لأن السلطة العليا التي يرجع إليها أمر الأندلس، ونعني خلافة دمشق قد انهارت غير بعيد، وقامت على أنقاضها دولة وخلافة جديدتان. والحقيقة أن يوسف بن عبد الرحمن الفهري كان حاكماً بأمره في الأندلس. وكانت الأندلس في ذلك الحين إمارة أو دولة مستقلة، يتوقف مصيرها ومصير السلطات فيها على سير الظروف والحوادث. وكان للانقلاب الذي وقع في المشرق صداه

في الأندلس، إذ قام بعض الخوارج على يوسف يدعو لبني العباس، طمعاً في الرياسة على نحو ما بينا، ولكنه كان صدى ضعيفاً لم يحدث أثره، واستمر يوسف ثابتاً في مركزه، يناهض الخارجين عليه بقوة وعزم. ولاريب أنه كان يحرص على ذلك السلطان الذي ألقى إليه به القدر، بل لعله كان يعمل لغاية أتم وأبعد، هي أن يؤسس بالأندلس مملكة مستقلة قوية، يتبوأ عرشها، وأسرة ملوكية جديدة من بنيه وعقبه، يلقى إليها بهذا التراث الباذخ. على أن حوادث المشرق كانت تتمخض عن عوامل ومفاجآت أخرى. ذلك أن بني العباس بعد أن ظفروا بملك بني أمية ومزقوا شمل أسرتهم، أخذوا في تتبع من بقي من أمرائهم وزعمائهم، حتى لا تقوم لفلهم قائمة بعد. وعهد أبو العباس عبد الله " السفاح "، إلى عمه عبد الله بن علي وهو بالشام، تنظيم هذه المطاردة الدموية (¬1). فتتبع وجوه بني أمية ومواليهم في كل مكان، وأمعن في مطاردتهم وسفك دمائهم، وقتل منهم جماعة كبيرة من الأمراء والسادة، ولم يبق حتى على النساء والأطفال، ولما شعر أن كثيرين منهم فروا ولاذوا بالاختفاء، زعم أن أبا العباس قد ندم على ما فرط منه في حقهم، وأنه يشملهم بعفوه وأمانه، فخدع كثيرون منهم بهذا الوعد، ولبوا دعوة عبد الله إلى الظهور، واستطاع بهذه الوسيلة أن يقتل منهم نحو سبعين رجلا آخر. وكانت مأساة هائلة ارتكبت خلالها ضروب مروعة من القسوة، ومثل بكثير من الضحايا أشنع تمثيل، وألقيت جثثهم للكلاب، واستخرجت رفات الخلفاء الأمويين من مثواها وبددت، ولم تترك جريمة مثيرة، أو لون من العقاب أو المهانة، إلا كان فلُّ بني أمية لها فرائس وضحايا (¬2). وهنا يسوغ لنا أن نتساءل، من هو " السفاح "؟ أهو أبو العباس عبد الله ابن محمد أول خلفاء بني العباس؟ أم هو عمه عبد الله بن علي؟ هذا ما تختلف ¬_______ (¬1) وقد أشار أحد الشعراء من دعاة بني العباس وهو سديف بن ميمون إلى هذه المطاردة في شعر أنشده بين يدي أبى العباس وفيه يقول: لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داء دويا فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا (¬2) راجع طرفا من فظائع هذه المطاردة في ابن خلدون ج 3 ص 132 و133؛ وابن الأثير ج 1 ص 161.

الرواية الإسلامية في شأنه. ويتفق معظم المؤرخين المسلمين، مثل الطبري، وابن الأثير، وابن خلكان، وابن خلدون (¬1) على أن " السفاح " إنما هو لقب أبى العباس عبد الله بن محمد أول الخلفاء العباسيين. ويذكر لنا الطبري وابن الأثير كيف أن أبا العباس، هو الذي أطلق على نفسه هذا اللقب حينما ألقى خطابه الأول بمسجد الكوفة على أثر مبايعته بالخلافة، إذ قال للناس في ختام خطابه -: "فاستعدوا فأنا السفاح المبيح، والثائر المنيح " (¬2). ولكن هناك روايات أخرى ومنها رواية قديمة هي رواية صاحب " أخبار مجموعة في فتح الأندلس " تذكر لنا أن لقب "السفاح " لم يطلق على أبي العباس ولكنه أطلق على عمه عبد الله بن علي (¬3). ولهذه الرواية ظاهر من الوجاهة فيما ارتكبه عبد الله بن علي من الفتك الذريع ببنى أمية، وتتبعهم بالقتل في سائر الأنحاء دون هوادة. ولكن من الذي يحمل في الواقع تبعة هذه المطاردة الدموية المروعة؟ إن الذي أوصى بمطاردة بني أمية والفتك بهم هو أبوالعباس ذاته، وهو أول من اجتنى ثمار الجريمة، وتلقى تراث القتلى، ولم يكن عمه عبد الله بن علي سوى منفذ لإرادته وأمره، وعلى ذلك فهو أحق بأن يحمل ذلك اللقب الذي يتفق مع تبعاته ونتائج لسياسته، وهو لقب يخصه به جمهرة من الثقاة المؤرخين. ولكن هذه المطاردة الدموية الشاملة لم تجتث الشجرة من أصلها، وشاء القدر أن تفلت بعض فروعها من يد الجناة، وأن تزكو لتستعيد أصلها الراسخ في أرض أخرى. وكان ممن نجا من المذبحة الهائلة فتى من ولد هشام بن عبد الملك هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام. وكان وقت أن حلت النكبة بأسرته يقيم مع أهله وأخوته، في قرية تعرف بدير خنان من أعمال قنسرين، وفيها كان مولده قبل ذلك بنحو عشرين عاماً سنة 113 من الهجرة (731 م)؛ وقيل بل كان مولده بالعليا من أعمال تدمير. وتوفي أبوه معاوية شاباً في أيام أبيه هشام بن ¬_______ (¬1) راجع الطبري ج 9 ص 123؛ وابن خلكان في الوفيات ج 1 ص 354؛ وابن الأثير ج 5 ص 145 و155، وابن خلدون ج 3 ص 128 و131 و173. (¬2) الطبري ج 9 ص 132؛ وابن الأثير ج 5 ص 155. (¬3) راجع " أخبار مجموعة في فتح الأندلس " ص 48؛ وراجع أيضا كتاب الإمامة والسياسة ج 2 ص 148.

عبد الملك في سنة 118 هـ، فكفله وأخوته جدهم هشام (¬1). ولما انهار صرح الخلافة الأموية، وأمعن الظافر في مطاردة بني أمية، فر عبد الرحمن بأهله وولده إلى ناحية الفرات، وحل هناك ببعض القرى واختفى بها حيناً يدبر أمره، ولكن جند المسوّدة ما لبثت أن حلت بتلك الجهة تستقصي آثار بني أمية، فبادر عبد الرحمن بالفرار. وتنقل إلينا الرواية على لسانه قصة مؤثرة عن حوادث فراره، وتصف لنا كيف أدركته خيل المطاردين على ضفة النهر مع أخيه الصبي، فوثبا إلى النهر واستطاع عبد الرحمن أن يقطعه سباحة إلى الضفة الأخرى، ولكن الغلام عجز عن قطعه وعاد إلى الضفة الأولى، حيث وعده المطاردون بالأمان، ولكنه ما كاد يقع في أيديهم حتى انقضوا عليه وقطعوا رأسه أمام عينى أخيه، وقلبه يتفطر روعة وأسى (¬2). ولما أن أمن عبد الرحمن خطر مطارديه، سار مختفياً إلى الجنوب، قاصداً إلى المغرب. وتقول لنا الرواية أيضا، إن المغرب كان مقصده منذ الساعة الأولى، وإن نفسه كانت تحدثه بما سيكون له في الأندلس من شأن، وإن بني أمية كانوا قبل مصرعهم، يهجسون بمثل هذه النبوءة ويرددونها (¬3). واخترق عبد الرحمن فلسطين ومصر، ولحق به مولياه بدر وسالم، أنفذتهما إليه أخته أم الأصبغ بشىء من المال والجوهر، تم جاز إلى برقة والتجأ إلى أخواله بنى نفزة، وهم من برابرة طرابلس، وكانت أمه بربرية منهم تدعى راح، وأقام لديهم طويلا يرقب الفرص. والظاهر أن محاولة الاستيلاء على إفريقية لم تكن بعيدة عن ذلك الذهن الجرىء المغامر، وقد كانت إفريقية في الواقع منذ ربع قرن مطمح الخوارج والمتغلبين. وكان عبد الرحمن بن حبيب الفهري قد انتزعها لنفسه في سنة 127 هـ، ولما دالت دولة بني أمية دعا لبني العباس كما قدمنا، ولكن الفتى الأموي لم يجد على ما يظهر أية فرصة للعمل في هذا السبيل. وكان عبد الرحمن ابن حبيب يخشى على سلطانه من ظهور بني أمية في إفريقية، فطارد اللاجئين إليها منهم، وقتل ولدين للوليد بن يزيد بن عبد الملك، واعتقل آخرين وصادر أموالهم. ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 156. (¬2) أورد هذه الرواية صاحب أخبار مجموعة (ص 51 - 53). وكذلك أوردها ابن حيان مؤرخ الأندلس ونقلها المقري (نفح الطيب ج 2 ص 62 و63). (¬3) أخبار مجموعة ص 51؛ نفح الطيب ج 2 ص 62؛ والبيان المغرب ج 2 ص 43، وابن خلدون ج 4 ص 121.

ولما شعر بظهور عبد الرحمن الأموي حاول القبض عليه، ولكن عبد الرحمن استطاع أن يتجنب المطاردة، وفر مع صحبه إلى المغرب الأقصى، وتجول حيناً في تلك الأنحاء، ولقي كثيراً من الصعاب والخطوب، وكان يرى الموت والأسر ينذرانه في كل خطوة. وأقام حيناً متخفياً عند شيخ من شيوخ البربر يدعى وانسوس، كانت له فيما بعد لديه حظوة، ثم نزل عند قوم من زناتة على شاطىء البحر، ولحق حينا بمليلة وغيرها، وكان أثناء تجواله يدرس أحوال الأندلس وأخبارها، ويرقب فرص العبور إليها. وفي أواخر سنة 136 هـ (753 م) لاحت له فرصة العمل، وقوي أمله ما علمه من اشتداد الخلاف بين المضرية واليمنية، فبعث بدراً مولاه إلى الأندلس ليسبر غور شئونها، وليحاول بث دعوته بين أنصار بني أمية وأهل الشام، فنزل بدر بساحل إلبيرة (كورة غرناطة) وكانت منزل جند الشام كما أسلفنا، وفيها تجتمع عصبة بني أمية. وكانت رياسة الأمويين (أو المروانية) والشاميين يومئذ لزعيمين من موالي بني أمية، هما أبو عثمان عبيد الله بن عثمان وصهره عبد الله ابن خالد. فاجتمع بدر بأبى عثمان وأبلغه رسالة عبد الرحمن، وناشده العمل لنصرته، وبث دعوته بين أصدقائه وشيعته، ولاسيما بين اليمنية، وهم خصوم يوسف الفهري ومنافسوه (¬1). فاستجاب أبو عثمان لهذه الدعوة، وكانت بينه وبين الصميل مودة وصداقة، ففكر في التماس عونه في ذلك المشروع، وسار إليه مع عبد الله بن خالد في طليطلة، وكان الصميل قد ارتد إليها منهزماً عن سرقسطة وفي نفسه مرارة من يوسف لأنه قصر في غوثه وإنجاده، ففاوضاه في أمر عبد الرحمن وطلبا منه العون والتأييد. ولكن الصميل أبدى تردداً وفتوراً، واقترح أن يتزوج عبد الرحمن من ابنة يوسف، وأن ينزل آمناً في ظله، ثم صرفهما ببعض الوعود الغامضة (¬2). وكان الصميل يحرص في الواقع على أن تبقى السلطة ليوسف، ¬_______ (¬1) يروي لنا ابن حيان قصة اتصال بدر باليمانيين على النحو الآتي: قال لهم، ما رأيكم في رجل من أهل الخلافة يطلب الدولة بكم، فيقيم أودكم، ويدرككم آمالكم؛ فقالوا: ومن لنا به في هذه الديار. فقال بدر: ما أدناه منكم، وأنا الكفيل به. ثم ذكر لهم خبر عبد الرحمن ومكان وجوده، وأنه يقدم نفسه إليهم، فقالوا: فجىء به أهلا، إنا سراع إلى طاعته، وأرسلوا بدرا بكتبهم يستدعونه (راجع الإحاطة لابن الخطيب (1956) ج 1 ص 453). (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 45؛ ونفح الطيب ج 2 ص 64؛ وابن القوطية ص 23.

لأنه مستأثر في ظله بالنفوذ والسلطان، ويشاركه في تدبير الأمر وحكم الأندلس، فعاد أبو عثمان وزميله إلى إلبيرة ونشطا إلى بث الدعوة فيها، وحث اليمنية على القيام للأخذ بالثأر، وبثا عمالهما في أنحاء الأندلس يدعون إلى تأييد عبد الرحمن الأموي. وعاد بدر إلى عبد الرحمن على مركب خاصة جهزها أبو عثمان ومعه عدة من أنصار الأموية، وأفضى إليه بنتائج رحلته، فاستبشر عبد الرحمن، وعبر البحر معهم إلى الأندلس، ونزل بساحل إلبيرة في ثغر المُنكَّب Almunecar (¬1) ، وذلك في ربيع الآخر سنة 138هـ (سبتمبر سنة 755 م)، فاستقبله أبو عثمان وأنزله بمقامه في طرُّش Torrox، وهي قرية تقع غربي المنكب على مقربة من البحر، فاستقر بها ينظم دعوته ويدبر خططه (¬2). وكان يوسف بن عبد الرحمن الفهري أثناء ذلك في الشمال يعسكر بجيشه تحت أسوار سرقسطة، وقد استعصم بها عامر العبدري والحباب الزهري. فلما تم له الأمر بالاستيلاء على سرقسطة والقبض على الزعيمين الثائرين وإعدامهما علي نحو ما فصلنا، ارتد بجيشه صوب طليطلة. وبينا هو في الطريق على مقربة منها، إذ أتاه رسول أوفده على جناح السرعة ولده عبد الرحمن بن يوسف، الذي استخلفه على قرطبة، ومعه كتاب ينبؤه فيه بمقدم عبد الرحمن الأموي، وانتشار دعوته في جنوب الأندلس، فذعر يوسف، وذاع النبأ في الجيش، فسرى إليه الخلل، وتسللت العناصر الناقمة، ولم يبق منه سوى فلول يسيرة. فهرول يوسف في بقية جنده إلى طليطلة، ليبحث مع الصميل في خير الوسائل لرد هذا الخطر. وكانت الدعوة الأموية في ذلك الحين قد اجتاحت جنوبي الأندلس، والتف حول عبد الرحمن عدة من زعماء القبائل والجند، منهم تمام بن علقمة اللخمي (¬3)، وقد أخذ له بيعة جند فلسطين، ويوسف وبن بخت وقد أخذ له بيعة جند الأردن، وجدار بن عمرو المذحجي من زعماء ريُّه، وحسان بن مالك الكلبي من زعماء ¬_______ (¬1) وما تزال المنكب كما كانت ثغرا من ثغور الأندلس الجنوبية. وهي مدينة كبيرة بيضاء تقع على خليجين متجاورين كقوسين في البحر، وتحميها الجبال من الخلف. وربما كان موقعها الحصين من البر والبحر، هو الذي حدا بعبد الرحمن إلى اختيارها للنزول في شاطىء الأندلس. فضلا عن قربها لمركز دعوته. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 46؛ ونفح الطيب ج 2 ص 65؛ وأخبار مجموعة ص 76. (¬3) لعله أخ لعبد الرحمن بن علقمة اللخمي والي أربونة، المعروف بفارس الأندلس الذي فصلنا أخباره فيما تقدم.

إشبيلية، وحشد أبو عثمان وعبد الله بن خالد حوله جموعاً كبيرة من الأموية وأهل الشام. وعاد يوسف والصميل إلى قرطبة ليدبروا الأمر معاً، وأشار الصميل على يوسف بمصانعة عبد الرحمن وملاطفته وإغرائه بمصاهرته، فأرسل إليه يوسف وهو ما يزال بطرُّش وفداً يعرض عليه أن يزوجه ابنته، ويقطعه كورة إلبيرة (غرناطة) أو كورة ريه أو يقطعه ما بينهما، وبعث إليه هدية وشيئاً من المال، وكتاباً طويلا يرغبه فيه بمحالفته. وينقل إلينا منه صاحب البيان المغرب هذه الفقرة: " أما بعد فقد انتهى إلينا نزولك بساحل المنكب، وتأبش من تأبش إليك، ونزع نحوك من السراق وأهل الختر والغدر، ونقض الأيمان المؤكدة التي كذبوا الله فيها وكذبونا، وبه جل وعلا نستعين عليهم. ولقد كانوا معنا في ذرى كنف ورفاهية عيش، حتى غمضوا ذلك، واستبدلوا بالأمن خوفا، وجنحوا إلى النقض، والله من ورائهم محيط. فإن كنت تريد المال وسعة الجناب. فأنا أولى بك ممن لجأت إليه، أكنفك وأصل رحمك، وأنزلك معي إن أردت أو بحيث تريد، ثم لك عهد الله وذمته بي، ألا أغدرك ولا أمكن منك ابن عمي صاحب إفريقية ولا غيره ... ". ولكن عبد الرحمن لم يخدع بوعود يوسف وعهده، فأبى عرضه ورد رسله، وكان يسمو بأطماعه إلى أبعد من ذلك وأرفع، وكان سلطان الأندلس كلها مطمح آماله (¬1). وكان قد آنس عندئذ ذيوع دعوته وقوة أنصاره، فسار في صحبه من طرّش إلى ريُّه، فبايعه عاملها عيسى بن مساور، ثم إلى شذونة فبايعه عاملها علقمة بن غياث اللخمي، ثم إلى إشبيليه، فبايعه كبيرها أبو الصباح بن يحيى اليحصبي زعيم اليمنية، وانضم إليه أثناء تجواله كثير من الأنصار والجند، واجتمع له في إشبيلية زهاء ثلاثة آلاف فارس، وذاعت دعوته في غربي الأندلس كله، وأقبلت إليه المتطوعة من كل صوب، من المضرية واليمنية وأهل الشام. ولما رأى أنه يستطيع البدء بمناجزة يوسف سار في قواته صوب قرطبة، وكان ذلك في فاتحة ذى الحجة سنة 138 هـ (أوائل سنة 756 م). وفي ذلك الحين كان يوسف والصميل قد حشدا جموعهما، ومعظمها من الفهرية والقيسية، وكان جند يوسف قد وهن، وتفرق معظمه خلال الفتن والغزوات المتوالية، وجاءت دعوة عبد الرحمن الأموي فزادته تفرقاً وضعفاً. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 47؛ وأخبار مجموعة ص 79 و80.

وخرج يوسف بقواته إلى المسارّة في ظاهر قرطبة من الغرب، على ضفة نهر الوادي الكبير، وكان عبد الرحمن قد أشرف بجيشه على ضفة النهر الجنوبية، في قرية مقابلة تسمى " بلَّة نوبة " (فليا نويفا Villanueva) (¬1) . وفرق النهر بين الجيشين مدى أيام ثلاثة، وفي اليوم الرابع وهو يوم الخميس تاسع ذى الحجة، هبط ماء النهر وانحسر في بعض المواضع، فتأهب الفريقان للحرب، ولم تنجح محاولة يوسف في سبيل عقد الصلح، وصمم عبد الرحمن على القتال في اليوم التالي أعني يوم الجمعة، وكان يوم الأضحى، متيمنا في ذلك بذكرى موقعة مرج راهط الشهيرة، التي انتصر فيها جده مروان بن الحكم، على قوات عبد الله ابن الزبير، التي يقودها الضحاك بن قيس الفهري، وذلك في يوم الأضحى - وقد كان الجمعة أيضاً - سنة 64 هـ. وفي اليوم التالي دفع عبد الرحمن قواته لاقتحام النهر، وكان أول من اقتحمه منهم جند بني أمية، وكان يوسف يتفوق على خصومه بكثرة فرسانه، ولكن التفرق كان يسود جنده، وكانت جموع عبد الرحمن تضطرم على قلتها عزماً وحماسة، فنشبت بين الفريقين معركة عنيفة ولكن قصيرة، فلم يأت الضحى حتى مزقت خيل يوسف، وهزم جيشه هزيمة شديدة، ونهبت أسلابه، وقتل كثير من وجوه القيسية والفهرية (¬2). وفر يوسف صوب طليطلة، حيث كان ولده عبد الرحمن، وفر الصميل صوب جيان. ودخل عبد الرحمن الأموي وصحبه قرطبة دون معارضة، وحمل جنده ما استطاع على الاعتدال والقناعة، وحمى أسر خصومه وحريمهم وأموالهم من العيث، وصلى الجمعة في الجامع، ثم نزل بالقصر، وبويع في الحال بالإمارة، وذلك في العاشر من ذى الحجة سنة 138هـ (13 مايو سنة 756 م) (¬3). كان يوم المسارّة بالنسبة لعبد الرحمن فاتحة الظفر لا غايته، فقد استطاع بعد أحداث وخطوب جمة أن يجوز إلى الأندلس، وأن يفتتح عاصمتها، وأن ينتزع إمارتها لنفسه، ولكنه ظفر بعرش لم يتوطد سلطانه بعد. وكان ثمة بينه وبين مُلْك ¬_______ (¬1) ابن القوطية ص 26. (¬2) ويبالغ البعض في تقدير عدد القتلى فيقدره بسبعين ألفا (ابن القوطية ص 27). (¬3) يفرد صاحب أخبار مجموعة فصلا مسهبا لهذه الموقعة، وكيفية تقسيم الجيشين المتحاربين وأسماء القادة في كل منها (ص 86 - 90). وراجع أيضا ابن القوطية ص 26 - 28؛ ونفح الطيب ج 2 ص 65 و66؛ والبيان المغرب ج 2 ص 48 و49.

الأندلس الحقيقي مراحل بعيدة، وكان ملك الأندلس قد غدا منذ انحلال الخلافة الأموية، كما رأينا، نهباً مشاعاً يتنازعه الزعماء والمتغلبون، وكانت الفتن المتوالية قد عصفت بالسلطة العليا، واقتصت من أطرافها، واستقل الزعماء الأقوياء بكثير من النواحي، وقضى يوسف الفهري معظم ولايته في إخماد الفتنة، واستخلاص الرياسة، ولكنه لم يوفق إلى إخماد كل عناصر النزاع والخروج. فلما ظهر الفتى الأموي في الميدان، كان صرح الأندلس يهتز فوق دعائمه الواهنة، وكان توطيده يتطلب كثيراً من العزم والعمل القوي. وكان يوم المسارّة حاسما في مصاير الأندلس، وكان فاتحة عهد جديد في تاريخها. ولكن المهمة كانت فادحة، والمعركة شاقة مشعبة النواحي. وكما أن يوم المسارة كان فاتحة الظفر، فقد كان فاتحة الكفاح أيضا. ذلك أن الأندلس كانت يومئذ بسيطاً من الفتن المتأججة، وكانت الثورة تجثم في كل ناحية، وانحلت عري العصبية القديمة الشاملة، وانتثرت فرقا وشيعا صغيرة، فلم تبق الخصومة قاصرة على المضرية واليمنية فقط، ولكن غدت كل قبيلة وكل بطن تلتف حول زعامتها ومصالحها الخاصة. وكانت هذه القوى المنتثرة المستقلة برأيها وهواها، تتمسك باستقلالها المحلي، وتأبى الخضوع لأية سلطة عامة. وكان عبد الرحمن يرمي إلى إحياء دولة الإسلام في الأندلس موحدة متماسكة، كما كانت قبل أن تمزقها الحرب الأهلية، فكانت المعركة في الواقع معركة الدولة والإمارات المستقلة، ومعركة السلطة المركزية والإقطاع المحلي: معركة الرياسة الشاملة، والعصبية المتناثرة. وكان البربر عنصراً قوياً في الفتنة، يحتفظون دائماً ببغضهم القديم للعرب، ويحرصون على ما انتزعوه منهم خلال الفتنة من النواحي والضياع. ثم كان هنالك ما هو أشد خطراً على دولة الإسلام في الأندلس، ونعني اسبانيا النصرانية التي استطاعت أن تخرج سراعاً من غمر الهزيمة والفوضى، وأن تنتظم إلى مملكة جديدة في الشمال، وكذلك مملكة الفرنج القوية التي استطاعت أثناء الفتنة أن تنتزع الأراضي الإسلامية فيما وراء البرنيه. وكان نصارى الشمال والفرنج يتربصون يومئذ بالأندلس، ويرون في تفرقها وضعفها فرصة صالحة للعمل، ويتصلون بكثير من الزعماء والخوارج، ويمدونهم بالنصح والعون، ويتخذونهم وسائل لتحقيق مشاريعهم في تمزيق الأندلس وانتزاع أطرافها.

كان عبد الرحمن غداة ظفره الأول، يواجه هذه الخطوب والأخطار كلها، وكان عليه أن يقارعها جميعاً، لكي يغنم رياسة الأندلس القوية المتحدة. ولكن ذلك الأمير الفتى الذي لم يكن يجاوز السادسة والعشرين يوم ظفره، كان رجل الموقف، قد شحذت من عزمه الخطوب والمحن، وأعدته لحياة النضال والمغامرة. فقضى بقية عمره - اثنين وثلاثين عاما - في كفاح مستمر، لا ينتهي من معركة إلا ليخوض أخرى، ولا يقمع ثورة إلا تليها ثورة، ولا يسحق خارجاً إلا ليعقبه خارج، ولم تبق بالأندلس ناحية أو مدينة إلا ثارت عليه، ولا قبيلة إلا نازعته في الرياسة، ولم تبق قوة خفية أو ظاهرة إلا عملت لسحقه. فكانت الأندلس طوال عهده بركاناً يتأجج بضرام الحرب والثورة والمؤامرة. ولكنه صمد لتلك الخطوب كلها، واستطاع بكثير من الذكاء والإقدام والعزم والجلد، أن يغالب تلك الأخطار والقوى، وأن يقبض على مصاير الأندلس بيده القوية، وأن يحيى سلطان أسرته المندثر، في ذلك القطر النائي، ليستقر ويزدهر أكثر من قرنين. وكان تفرق خصومه أهم عامل في ظفره، فلم تك ثمة زعامة شاملة بعد يوسف والصميل، يجتمع الخصوم حولها، وكانت القوى الخصيمة منتثرة في النواحي والمدن، تعمل كل بمفردها حول زعيمها المحلي، وكانت فوق ذلك يعارض بعضها بعضاً في معظم الأحيان، وقد استطاع عبد الرحمن أن يقدر هذا الظرف وأن يستغله، فعمد إلى لقاء معارضيه في الميدان فرادى، واستطاع أن يخمد ثوراتهم، وأن يحطم قواهم بالتعاقب، وهو في كل مرة يزداد قوة ومنعة، ويزداد خصومه ضعفاً وتفرقاً، حتى قضى عليهم جميعاً.

الفصل الثالث ولاية عبد الرحمن الداخل

الفصل الثالث ولاية عبد الرحمن الداخل - 1 - بدء المعارك الداخلية. القتال بين يوسف والصميل وبين عبد الرحمن. إذعانهما إلى طلب الصلح وعودهما إلى قرطبة. فرار يوسف وسجن الصميل. يوسف يستأنف الحرب. هزيمته وفراره. مصرعه في طليطلة ومقتل ولده عبد الرحمن. فرار ولده محمد إلى طليطلة. هزيمته وأسره. مصرع الصميل. تأملات عن يوسف والصميل. ثورة القاسم بن يوسف في الجزيرة الخضراء. استيلاؤه على إشبيلية. مهاجمة عبد الرحمن لإشبيلية. هزيمة القاسم وأسره. ثورة عبد الغافر اليمني في إشبيلية وإخمادها. استئنافها على يد حيوة بن ملامس. عبد الرحمن يقاتله ويهزمه. ثورة هشام بن عزرة الفهري بطليطلة وامتناعه بها. ظهور العلاء بن مغيث واضطرام الثورة في باجة. شهر الدعوة العباسية واتساع نطاق الثورة. مسير عبد الرحمن لمقاتلة العلاء وحلفائه. لقاؤهما في قرمونة. هزيمة الثوار ومصرعهم. إرسال رؤوسهم إلى إفريقية ومكة. استئناف حصار طليطلة. تسليمها ومصرع زعمائها. ثورة المطري بلبلة. هزيمته ومقتله. ثورة أبي الصباح في إشبيلية. إستدراجه إلى قرطبة ومقتله. ظهور الفاطمي البربري ودعوته. ثورته في غرب الأندلس. هزيمته لقوات عبد الرحمن. مسير عبد الرحمن لقتاله. التجاؤه إلى الجبال. خطة عبد الرحمن لتفريق جموعه. عود الثورة إلى إشبيلية ولبلة. مسير عبد الرحمن لقتال الثوار. تفرق الثوار وهزيمتهم. عود عبد الرحمن لقتال الفاطمي. التجاؤه إلى شنت برية. اغتياله وانهيار دعوته. وكان أول ما عنى به عبد الرحمن من أدوار ذلك النضال بعد يوم المسارة، هو أن يتعقب يوسف والصميل أقوى خصومه وأخطرهم. وكان يوسف قد فر عقب الموقعة صوب طليطلة، وفر الصميل إلى جيان معقل قومه. وحشد يوسف في طليطلة ونواحيها ما استطاع من أنصاره، بمعاونة عامله عليها هشام بن عزرة الفهري، ووافاه الصميل بمن حشد من المضرية. ثم سارا في قواتهما إلى جيان ثم إلى إلبيرة (غرناطة)، واجتمع أهل هذه الأنحاء حول يوسف، ونزل يوسف بإلبيرة يتأهب لمحاربة عبد الرحمن. ولكنه ما كان يستقر في إلبيرة، حتى بادر عبد الرحمن بالسير إليه، وترك حماية قرطبة لحليفه وقائده أبى عثمان. ولما علم يوسف مسيره إليه، بعث ابنه عبد الرحمن في بعض قواته إلى قرطبة، فاقتحمها وأسر أبا عثمان ونفراً من أهل عبد الرحمن وحريمه، ثم غادرها في الحال خشية

المفاجأة. ولكن عبد الرحمن الأموي لم يلو في طريقه على شىء، وقصد إلى إلبيرة توا، وحاصر يوسف والصميل. فلما شعرا بأن المقاومة عبث، فاوضاه في الصلح والتسليم بالأمر له، ونبذ كل دعوى في الولاية والسلطة، على أن يؤمنهما في النفس والمال والأهل، وأن يُؤمن حلفاؤهم وأصدقاؤهم جميعاً، وأن يُسمح لهما بسكنى قرطبة تحت رعايته ورقابته، فأجابهما عبد الرحمن إلى الصلح على ذلك، وعلى أن يقدم يوسف ولديه عبد الرحمن ومحمداً أبا الأسود رهينة لديه، يعتقلهما في قصر قرطبة برفق وإكرام، حتى تطمئن النفوس وتستقر الأمور، وتم عقد الصلح بين الفريقين في صفر سنة 139هـ، وأفرج عن أبي عثمان وباقي الأسرى الذين أسرهم ولد يوسف، وتصافى الفريقان، وقفل يوسف والصميل مع عبد الرحمن إلى قرطبة، وانفض جندهما (¬1). ونزل يوسف بشرقي قرطبة في قصر الحر الثقفي أحد الولاة السابقين، ونزل الصميل بداره بالربض (الضاحية)، وأبدى عبد الرحمن نحوهما عطفاً وليناً، وهو مع ذلك يشدد عليهما الرقابة، ويحرص على تجريدهما من كل سلطة وقوة. وكان في قرطبة فل من عصبة يوسف وأنصاره السابقين، الذين نالوا على يديه جاها وحظوة، يتطلعون إلى العهد السابق، ويلومون يوسف على تسليمه واستكانته، ويحرضونه على استعادة مركزه وسلطانه، وكان يوسف من جهة أخرى يشعر أنه في شبه اعتقال، وأن عبد الرحمن يضيق الخناق عليه، ويؤلب عليه صنائعه، ينازعونه في أملاكه وأمواله لدى القضاء، والقضاء يميل إلى غبنه وإعناته، حتى ذهب معظم أملاكه، وهو يشعر أن عبد الرحمن من وراء ذلك الاضطهاد (¬2). عندئذ عول على الفرار، وكاتب أنصاره في ماردة وطليطلة، ثم فر إلى ماردة، وكان بها معظم أهله وأصهاره (سنة 141هـ)، وهناك حشد أنصاره من العرب والبربر، حتى اجتمع له زهاء عشرين ألفاً، وتخلف الصميل ولم ويوافقه، فقبض عليه عبد الرحمن وألقاه في غيابة السجن بتهمة التحريض والتآمر. وبينا كان عبد الرحمن يحشد جنوده، سار يوسف بقواته إلى إشبيلية، وعليها عبد الملك بن عمر بن مروان المعروف بالمرواني، فحاصره في إشبيلية حتى أتاه ولده عبد الله بالمدد، ثم وقعت بينهما معارك شديدة ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 66؛ وأخبار مجموعة ص 93 و94؛ والبيان المغرب ج 2 ص 50. (¬2) المقري عن ابن حيان (نفح الطيب ج 2 ص 66)، وأخبار مجموعة ص 95.

قتل فيها كثير من الفريقين، وارتد يوسف منهزما بفلوله. وكان عبد الرحمن الأموي يرابط عندئذ بقواته في حصن المدوّر، الواقع على مقربة من غربي قرطبة، على نهر الوادي الكبير، فوافته الأخبار بهزيمة يوسف وفراره، فتوقف عن مطاردته، وسار يوسف إلى طليطلة، ولبث يتردد في أنحائها مدى أشهر، وهو يحاول أن ينظم قواته مرة أخرى، ولكن بعض الخونة من أنصاره أو مواليه ائتمروا به، واغتالوه ذات يوم على مقربة من طليطلة، وحملوا رأسه إلى عبد الرحمن في قرطبة (سنة 142هـ). والظاهر أن هذه الجريمة لم تكن بعيدة عن وحي عبد الرحمن. وانتهت بذلك حياة يوسف الحافلة المضطربة، وأمن عبد الرحمن شره وخطره، وقتل ابنه عبد الرحمن المعتقل لديه، ورفع رأسيهما فوق الرماح أمام القصر ليلقي الرعب في قلوب الخوارج والمخالفين (¬1). أما ولد يوسف الآخر وهو محمد أبو الأسود، فقد استطاع أن يفر من سجنه، وقصد تواً إلى طليطلة معقل عصبة أبيه وتحصن بها، فبعث عبد الرحمن في أثره جيشاً بقيادة تمام بن علقمة وعينه والياً لطليطلة، فحاصرها حتى سلمت، وأسر محمد بن يوسف ثانية وجىء به إلى قرطبة، واستولت جنود عبد الرحمن على طليطلة (ذى الحجة سنة 142)، وسحق بذلك وكر الثورة الفهرية. وزج محمد إلى السجن ثانية وادعى العمى حتى استطاع الفرار بعد محنة طويلة، وعاد يرفع علم الثورة كما سيأتي. واستطاع أخوه الأصغر القاسم بن يوسف أن يفر من طليطلة متنكراً قبل سقوطها. وأما الصميل، فلبث يرسف في سجنه مدى أسابيع أخرى حتى دس عليه عبد الرحمن من قتله داخل السجن خنقا (أواخر سنة 142هـ) (¬2). وهكذا انتهت بذهاب يوسف والصميل مرحلة خطيرة من الإضطراب والقلاقل. كان يوسف شخصية قوية وزعيما ممتازاً، وقد استطاع أن يحكم الأندلس زهاء عشرة أعوام في ظروف عصيبة، وأن يسهر على وحدتها وسلامتها بقوة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 51؛ وأخبار مجموعة ص 100. ولكن كوندي يورد عن مصرع عبد الرحمن بن يوسف رواية أخرى هي أنه كان عند مقتل أبيه حرا طليقا، وقتل في معركة دموية نشبت بينه وبين جنود تمام بن علقمة والي طليطلة ( Conde: ibid, V.I.p. 174) وهي رواية ظاهرة الضعف. (¬2) نفح الطيب ج 2 ص 67؛ وابن الأبار في الحلة السيراء ص 50؛ والبيان المغرب ج 2 ص 51، وأخبار مجموعة ص 101.

وذكاء، وأن يدرأ عنها خطر نصارى الشمال والفرنج، ولما فقد يوسف رياسة الأندلس في يوم المسارة، لبث مع ذلك أخطر قوة تهدد طالع عبد الرحمن الأموي وسلطانه، ولبث روح الثورة والمعارضة مدى أعوام أخرى. وكان الصميل زعيما قوى العصبية، نافذ الرأي والكلمة، وافر الدهاء والمكر، يخشى بأسه ووحيه. فكان ذهابهما من الميدان فوزاً لعبد الرحمن، وخطوة كبيرة في سبيل استقرار رياسته وتوطدها. وقطع عبد الرحمن أعوامه التالية في كفاح مستمر، يتلقى وثبات الخوارج عليه من كل صوب. وكان أول الخوارج عليه بعد مصرع يوسف والصميل، القاسم ابن يوسف وحليفه رزق بن النعمان الغساني. وكان القاسم حينما فر من طليطلة كما قدمنا، قد سار إلى الجزيرة الخضراء، والتجأ إلى شيخها رزق بن النعمان صديق أبيه، وحشد حوله جمعاً من الأنصار والمرتزقة، واستولى بمعونة حليفه على شذونة، ثم سارا في قواتهما إلى إشبيلية، ولم تكن بها قوة تدافع عنها، فاستوليا عليها دون مشقة، فبادر عبد الرحمن الأموي في قواته إلى إشبيلية، ونشبت بينه وبين الخوارج معركة عنيفة، قتل فيها رزق بن النعمان ومزق جنده، ودخل عبد الرحمن إشبيلية ضافراً، وذلك في أواخر سنة 143هـ. أما القاسم فالتجأ بقواته إلى شذونة، وبعث عبد الرحمن في أثره تماماً والي طليطلة، فطارده حتى أسره ومزق قواته (¬1). ولبث عبد الرحمن بإشبيلية بضعة أشهر، ولكنه ما كاد يغادرها إلى قرطبة حتى نشبت فيها ثورة أخرى، بقيادة عبد الغافر اليماني زعيم اليمانية، واستولى عبد الغافر على ما جاور قرطبة من الأنحاء، وكثرت جموعه ولا سيما من البربر، وأصبح يهدد قرطبة. فخرج عبد الرحمن لقتاله، والتقيا بوادي قيس على مقربة من قرطبة، فاستمال عبد الرحمن حلفاء عبد الغافر من البربر وانفض عنه جندهم، واقتتل الفريقان فهزم عبد الغافر هزيمة شديدة، وفر إلى لَقَنت، وطارد عبد الرحمن جنده حتى قتل منهم ألوفاً عديدة (سنة 144 هـ). ورفع لواء الثورة من بعده في إشبيلية أيضاً، حيوة بن ملامس الحضرمي ¬_______ (¬1) Conde: ibid., V.I.p. 178 , وأخبار مجموعة ص 101.

كبير زعمائها، وتغلب على إشبيلية وإستجة وكثير من نواحي الغرب (¬1)، والتف حوله أهل هذه الأنحاء واستفحل أمره. فسار إليه عبد الرحمن، ونشبت بينهما معارك عنيفة مدى أيام، ودافع الثوار عن أنفسهم بمنتهى البسالة، حتى كادت الدائرة تدور على عبد الرحمن، ولكن التفرق دب أخيراً إلى صفوف الثوار، ولحقهم الإعياء والملل، فوقعت عليهم الهزيمة، وفر زعيمهم حيوة، وكتب إلى عبد الرحمن يلتمس منه العفو والأمان (سنة 144هـ - 761م) (¬2). وعلى أثر ذلك نشبت الثورة في طليطلة. وكان عبد الرحمن قد اختار لولايتها تمام بن علقمة، ثم عينه لحجابته فكان أول حجابه، وخلفه في ولاية طليطلة حبيب بن عبد الملك. وكانت المدينة ما تزال تضطرم بعناصر الثورة وفيها كثير من أنصار الفهرية، فلم يلبث أن قام زعيمهم هشام بن عزرة الفهري، ولد عزرة أمير الأندلس السابق، وأعلن الثورة واعتصم بالمدينة. فسار إليه عبد الرحمن وحاصره مدى أشهر، حتى اضطر إلى طلب الصلح، وقدم ولده رهينة بحسن طاعته، فأجابه عبد الرحمن إلى طلبه، وآثر أن يهادنه مؤقتاً. ولكنه ما كاد يصل إلى قرطبة حتى عاد هشام إلى الثورة، فارتد إليه عبد الرحمن ليعاقبه على نكثه، وحاصره ثانية وقتل ابنه، وأطلق رأسه بالمنجنيق داخل الأسوار، ولكنه لم يظفر بحمل الثاثر على التسليم، فعاد إلى قرطبة ليضاعف أهباته، بيد أنه لم يستطع أن يعود تواً إلى طليطلة، إذ نمى إليه عندئذ خبر حادث داهم الخطر يتطلب كل جهوده وقواه. ذلك أن داعية من خصوم بني أمية هو العلاء بن مغيث اليحصبي (¬3)، وكان من وجوه باجة وله بها رياسة وعصبة، كاتب أبا جعفر المنصور، واتصل برسله ¬_______ (¬1) كورة " الغرب " كانت تقع غربي إشبيلية، حتى جنوبي البرتغال ما بين لبلة وولبة والمحيط، وقد حرفت في الإفرنجية إلى كلمة Algarve. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 53، والمقري ج 2 ص 73. ويذكر كوندي أن حيوة بن ملامس كان بالعكس صديقا حميما لعبد الرحمن، وبالغ في الاحتفاء به يوم نزوله بإشبيلية، وأنه توفي بعد ذلك بقليل فرثاه عبد الرحمن بأبيات مؤثرة ( Conde: ibid, V.I.p. 179) , ولكن كوندي يخلط هنا في الوقائع. والحقيقة أن حيوة بن ملامس كان من أصدقاء عبد الرحمن لأول مقدمه وكانت له لديه منزلة، وينقل إلينا ابن الأبار بيتين ينسب قولهما إلى عبد الرحمن في امتداح حيوة وجوده ووفائه (الحلة السيراء ص 33 و34). ولكنه غدا بعد من ألد خصومه ومنافسيه. وله أخبار أخرى ستجىء. (¬3) وقيل الحضرمي (أخبار مجموعة ص 107). والجذامي (البيان المغرب ج 2 ص 53).

في إفريقية، واستصدر منه سجلا بولايته للأندلس، ثم ارتد إلى الأندلس، وعاد إلى باجة في قوة كبيرة، ودعا لبني العباس، ورفع العلم الأسود، وأعلن أنه قد عين أميرا للأندلس من قبل المنصور (¬1) (سنة 146هـ). وكان الخليفة العباسي يحاول بهذه الدعوة، أن يحطم مشاريع بني أمية فيما وراء البحر، وأن يبسط سلطانه الإسمي على الأندلس. وقد رأينا أن عبد الرحمن بن حبيب المتغلب على إفريقية، دعا لبني العباس حينما انهار سلطان بني أمية، وكاتب الخليفة العباسي فأقره على حكم إفريقية، فكانت إفريقية تابعة لبني العباس من الوجهة النظرية، وهكذا كان شأن العلاء بن مغيث، فقد رأى أن يستظل في ثورته بالدعوة العباسية، لكي يسبغ عليها لونا من الشرعية، ولم يكن للخليفة العباسي اعتراض على محاولة لا يتحمل تبعتها من الوجهة المادية، وإن كان يعضدها من الناحية المعنوية، وقد أرسل بالفعل سجلا إلى الثائر بما طلب. وكان بعض الزعماء الخوارج على يوسف ابن عبد الرحمن، قد استظلوا بالدعوة العباسية كما قدمنا. وسنرى كيف يشهر الخوارج على عبد الرحمن الأموي هذه الدعوة في حوادث وخطوب أخرى (¬2). واضطرمت باجة وما حولها بنار الثورة، وهرعت القبائل والأحزاب المختلفة إلى الانضواء تحت اللواء الأسود، ولاسيما الفهرية واليمنية وجند مصر، واستفحل أمر العلاء وكثر جمعه، وانضم إليه أمية بن قطن وأصحابه. وأعلن غياث ابن علقمة الثورة في شذونة محالفا للعلاء. فخرج عبد الرحمن من قرطبة في جميع قواته، وبعث بدرا مولاه في بعضها إلى شذونة، فحاصرها حتى أذعن غياث لطلب الصلح. وسار عبد الرحمن إلى قرمونة ما بين قرطبة وإشبيلية نظرا لمناعتها، واتخذ موقف الدفاع، فسار إليه العلاء في جموعه، وهاجم قرمونة مرارا، وحاصرها مدى أسابيع حتى وهنت قوى جنده، وعندئذ انقلب عبد الرحمن من الدفاع إلى الهجوم، وداهم العلاء في صفوة جنده، ونشبت بين الفريقين معارك شديدة مدى أيام، حتى هزم العلاء ومزق جيشه، وقتل منهم آلاف عديدة، وكان العلاء نفسه بين القتلى؛ وأسر ابن قطن. وجمع عبد الرحمن رؤوس الزعماء والقادة من خصومه ورقمها بأسمائهم. وحملها بعض رسله إلى القيروان، فألقيت في أسواقها سرا، وأثارت هناك دهشة وارتياعا، ووضعت رأس العلاء في سفط، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 54. (¬2) راجع ابن القوطية ص 32؛ وابن الأثير ج 5 ص 213؛ وابن خلدون ج 4 ص 122.

ومعها اللواء الأسود وسجل المنصور للعلاء، وحمله بعض التجار الثقاة إلى مكة، حيث كان المنصور يؤدي فريضة الحج في العام التالي (سنة 147 هـ). وألقي أمام سرادق المنصور، وحمل إليه فارتاع لرؤيته، وقال ما معناه: " ما في هذا الشيطان مطمح، فالحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر " (¬1). ْوهكذا استطاع عبد الرحمن أن يسحق هذه الدعوة الخطرة، وكان أخطر ما فيها أنها لم تكن دعوة حزب أو قبيلة، وإنما كانت دعوة عامة تدعمها الصبغة الشرعية، ولم يك أصلح منها لجمع خصوم عبد الرحمن من سائر الأحزاب والقبائل تحت لواء واحد (¬2). ولما عاد عبد الرحمن إلى قرطبة كانت الثورة التي يثير ضرامها هشام الفهري في طليطلة، قد استفحلت واتسع نطاقها. فأرسل عبد الرحمن قائديه بدراً وتمام بن علقمة في جيش كبير إلى طليطلة، فطوقها وشدد الحصار عليها حتى ضاق أهلها ذرعاً، واضطروا إلى طلب الصلح، على أن يسلموا الزعماء الثائرين، وقبضوا على هشام وعدة من أصحابه، فأخذوا إلى قرطبة مصفدين معذبين، ثم صلبوا بأمر عبد الرحمن، وتم بذلك سحق الثورة في طليطلة إلى حين (سنة 147 هـ - 764 م). وفي أوائل سنة 149 هـ - 766 م، خرج سعيد اليحصبي المعروف بالمطري بمدينة لَبْلة، مطالباً بثأر اليمانية الذين قتلوا مع العلاء، فهرعت إليه اليمانية وقوى جمعه. ثم سار إلى إشبيلية فاستولى عليها، وارتد عنها واليها عبد الملك بن عمر المرواني لقلة جنده، ولبث ينتظر المدد. وكانت إشبيلية مطمح كل ثائر لقربها من قرطبة، ولأنها لبثت مدى أعوام من أهم مراكز الثورة في الأندلس. وخرج في الوقت نفسه غياث بن علقمة اللخمي بمدينة شذونة ناكثاً لعهده. فسار عبد الرحمن أولا إلى إشبيلية، وانقلب المطري إلى قلعة رعواق القريبة وامتنع بها، فحاصره عبد الرحمن وقطع علائقه مع بقية أنصاره، فلما ضاق الثائر بالحصار ذرعا، حاول الخروج ليشق له طريقاً بين الجيش المحاصر، ووقعت بين الفريقين معركة شديدة قتل فيها المطري، وارتدت فلوله إلى القلعة، وقدموا عليهم خليفة بن مروان، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 54؛ والمقري ج 1 ص 156 وج 2 ص 67؛ وأخبار مجموعة ص 102 و103؛ وابن القوطية ص 33. (¬2) Dozy: Hist, V.I.p. 234

فاستمر عبد الرحمن في محاصرة الخوارج، حتى أذعنوا لطلب الصلح، وسلموا اليه قائدهم فقتله، واستولى على القلعة وهدمها، ثم سار إلى شذونة فحاصرها حتى أذعن أهلها لطلب الأمان. وفي العام التالي عادت الثورة فاضطرمت في إشبيلية، ومدبرها وزعيمها في تلك المرة أبو الصباح بن يحيى اليحصبي، صديق عبد الرحمن وحليفه، وكان أبو الصباح زعيم اليمنية في إشبيلية يوم قدوم عبد الرحمن إلى الأندلس، فكان في طليعة من هرعوا يومئذ لتأييده ونصرته، وقاتل معه يوم المسارة، وغدا إلى جانب أبى عثمان وعبد الله بن خالد، من خاصة أعوانه وأركان دولته. ولكن عبد الرحمن كان يحقد عليه ويتوجس منه، لحديث نقل عنه يوم المسارة بوجوب التخلص من عبد الرحمن بعد التخلص من يوسف الفهري ورد الأمر إلى اليمنية (¬1). وكان عبد الرحمن قد ولاه إشبيلية، ثم عزله عنها لما ظهر من عجزه عن قمع الفتنة، فغضب أبو الصباح وأظهر الخلاف، واجتمع إليه أنصاره، ورأى عبد الرحمن أن يأخذه بالحيلة والملاطفة، فبعث إليه تمام بن علقمة يدعوه إلى قرطبة للتفاهم، ويبذل له ما شاء من الوعود، فسار أبو الصباح إلى قرطبة في أربعمائة من رجاله، واستقبله عبد الرحمن بالقصر، وعاتبه على ما كان منه، فأغلظ أبو الصباح في الجواب، ولامه على النكث بوعوده له، فأمر الفتيان بقتله، فقتل طعناً بالخناجر وانفض جمعه (سنة 150هـ). ولم يمض قليل على ذلك حتى نشبت فتنة خطيرة من نوع جديد، شغلت عبد الرحمن مدى الأعوام التالية، وكان نشوبها في شمال شرقي الأندلس بين البربر، وزعيمها ومثير ضرامها، داعية بربري خطر يدعى شقنا أو شقيا بن عبد الواحد، وأصله من بربر مكناسة، وكان فقيها يعلم الصبيان، فزعم ذات يوم أنه سليل النبي ومن ولد فاطمة والحسين، وتسمى بعبد الله بن محمد. فذاعت دعوته بين البربر في تلك المنطقة، وكانوا أكثرية بها. والخصومة بين العرب والبربر قديمة مؤثلة كما بينا، وقد كان البربر دائماً على قدم الأهبة للثورة ضد العرب. ولما آنس الدعي الفاطمي قوة جمعه، سار إلى شَنت بريّة (¬2). فاستولى عليها وجعلها مركزه ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 66؛ وابن القوطية ص 30. (¬2) شنت برية وبالإسبانية Santaver من الكور الأندلسية القديمة التي اندثرت، وكان موقعها يشغل مقاطعة قونقة اليوم، وقاعدتها شنت برية تقع شرقي وادي الحجارة. وسميت كذلك عن اسمها القديم Santebria.

العام، ثم سار في جموعه غرباً واستولى على ماردة وقورية ومدلين، وعلى جميع المنطقة الواقعة حولها بين نهري التاجُه ووادي يانة، فقويت دعوته وعظم أمره، واشتد بغيه وعيثه في تلك الأنحاء، وأخذت العناصر المخالفة لعبد الرحمن من العرب في التحرك أيضاً. فعهد عبد الرحمن إلى والي طليطلة أن يقمع ثورة الدعي، فبعث إلى شنت برية جيشاً بقيادة سليمان بن عثمان، فخرج إليه الفاطمي في قواته، فهزمه هزيمة شديدة، وأسر قائده سليمان وقتله، وزاد هذا الظفر في سلطانه وبغيه. فسار إليه عبد الرحمن بنفسه في العام التالي (سنة 152هـ)، واقتحم منطقة الثورة، ونشبت بينه وبين البربر وقائع عديدة ثبت فيها البربر، وامتنع الثائر بالجبال، ولم يجد عبد الرحمن سبيلا إلى مطاردته. فارتد إلى قرطبة، وبعث إلى شنت برية مولاه بدراً ليتابع القتال، فاستمر الفاطمي ممتنعاً بصحبه في الجبال، محاذراً لقاء الجيش المهاجم. وعاد عبد الرحمن لقتاله بنفسه في العام التالي (سنة 154هـ)، وشدد في محاصرته ومطاردته، ولكنه لم يفلح أيضاً في حمله على مغادرة مواقعه، ثم بعث لقتاله في العام التالي مولاه عبيد الله بن عثمان، فخرج الفاطمي للقائه واستمال جنده البربر، وبث الخلاف إلى صفوفه، فانحل عسكره وأثخن فيه الفاطمي، ففر عبيد الله واستولى الثائر على معسكره وأسلاب جيشه، وقتل جماعة كبيرة من وجهاء جنده (سنة 155هـ) (¬1). وهكذا فشلت الحملات المتوالية لإخماد الثورة في تلك المنطقة الوعرة، فعاد عبد الرحمن بجيش جديد إلى شنت برية، ولكنه لجأ عندئذ إلى وسيلة جديدة لتمزيق شمل الثوار، فاستقدم إليه كبير البربر في شرقي الأندلس واسمه هلال الميديوني، وأقره على ما بيده من الأنحاء، وأصدر له عهداً بولاية الأنحاء التي غلب عليها الفاطمي، وفوض إليه أمر استخلاصها منه، وكان لتلك الحيلة أثرها في بث الخلاف إلى صفوف البربر، فانفض عن الفاطمي كثير من أنصاره، واضطر أن ينسحب من شنت برية إلى الشمال ليعتصم بالجبال مرة أخرى، وبينا عبد الرحمن يجد في مطاردته ويقتحم معاقله وضياعه، وينكل بأنصاره حيثما وجدوا، إذ بلغه نشوب الثورة في إشبيلية ولبلة وباجة، وقوامها اليمنية من عصبة أبي الصباح ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 56 و57؛ وابن الأثير ج 5 ص 224؛ وابن خلدون ج 4 ص 123.

وأنصاره. وكان على رأس الثورة في إشبيلية زعيمها القديم حيوة بن ملامس الحضرمي، وفي باجة عبد الغافر اليحصبي، وفي لبلة عمر بن طالوت، وهما من أبناء عمومة أبي الصباح، وانضم إليهم كثير من البربر، فحشد الثلاثة جموعهم واعتزموا السير إلى قرطبة في غيبة عبد الرحمن، وكان قد استخلف عليها مولاه بدرا (¬1). فعاد عبد الرحمن إلى قرطبة مسرعاً، ثم غادرها تواً إلى لقاء الثوار، فالتقى بهم في وادي منبس على نهر "بمبيزار" أحد فروع الوادي الكبير، ونشبت بين الفريقين في المبدأ عدة معارك محلية. ثم لجأ عبد الرحمن إلى الحيلة والخديعة، فعهد إلى جماعة من وجهاء البربر من جنده، أن يتصلوا بزملائهم البربر من جند العدو، وأن يقنعوهم بخطأ تصرفهم في نصرة اليمنية، وأنه إذا تغلب عليه العرب، كانت العاقبة وبالا عليهم أيضاً، فانسل الرسل إلى معسكر العدو تحت جنح الظلام، وخاطبوا أبناء جنسهم بما تقدم، وأخذوا عليهم العهود والمواثيق. وفي اليوم التالي نشبت بين الفريقين موقعة عامة. فنكث البربر وتقاعدوا عن القتال، فهزم الثوار شر هزيمة، وكثر القتل في جموعهم حتى قتل منهم زهاء ثلاثين ألفا (¬2). وهلك معظم الزعماء الثائرين، وفر عبد الغافر وركب البحر إلى المشرق، وقرن عبد الرحمن ظفره باجراء دموي آخر، إذ قبض على ثلاثين من وجهاء إشبيلية ممن كانوا في جيشه وأمر بهم فأعدموا (سنة 157 - 158 هـ). وفي العام التالي عاد عبد الرحمن إلى مطاردة الفاطمي، فالتجأ الثائر إلى الجبال كعادته، ولم يجد عبد الرحمن سبيلا إلى اللحاق به، فغزا قورية وأثخن في تلك الأنحاء، وكان أمر الفاطمي قد ضعف خلال هذه الأعوام وتضاءل جمعه، ولكنه لبث يسيطر على شنت برية وماردة، ولبثت دعوته خطرا يهدد سلام الأندلس. فوجه عبد الرحمن لقتاله في العام التالي حملة قوية أخرى بقيادة تمام ابن علقمة وعبيد الله بن عثمان، فلقيهما الفاطمي ووقعت بينهما معارك شديدة، رجحت فيها كفته، ثم التجأ إلى حصن شبطران بقرب شنت برية، فحاصره تمام وعبيد الله مدى أشهر، ولم يظفروا منه بطائل، فعادا إلى قرطبة، وخرج الفاطمي عل أثر عودهما إلى شنت برية، ونزل بقرية من أعمالها تسمى قرية العيون، ¬_______ (¬1) ويقول ابن الأثير إنه كان يستخلف عليها ولده سليمان (ج 6 ص 3). (¬2) ابن القوطية ص 31 و32.

وهنالك ائتمر به اثنان من أصحابه هما أبو معن داود بن هلال وكنانة بن سعيد، وانقضا عليه ذات يوم وقتلاه، واحتزا رأسه وحملاها إلى عبد الرحمن في قرطبة، وبذلك انفضت جموعه، وخبت ثورته، بعد أن لبثت زهاء عشرة أعوام تحمل الدمار والسفك إلى شرقي الأندلس وغربيها، وتهدد سلطان عبد الرحمن بشر العواقب، وحققت الخيانة في لحظة واحدة ما لم تحققه الحملات والبعوث المتعاقبة في أعوام طويلة. ولعل هذه الضربة الناجعة لم تكن بعيدة عن أصبع عبد الرحمن أو وحيه، وقد كانت الخيانة والجريمة من بعض أسلحته في مقارعة خصومه، وكانتا تحققان له في بعض الأحيان من الظفر ما لا تحققه أى الوسائل. وكان مصرع الفاطمي وانتهاء ثورته سنة 160هـ (776 م) (¬1). ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 111؛ وابن الأثير ج 6 ص 17.

الفصل الرابع موقعة رونسفال أو باب شزروا

الفصل الرابع موقعة رونسفال أو باب شزروا الثورة في الشمال. تحالف ابن يقظان والي برشلونة والحسين الأنصاري والي سرقسطة. هزيمة جيش عبد الرحمن وأسر قائده. سعي ابن يقظان لدى ملك الفرنج واستدعاؤه لغزو اسبانيا. تلبية شارلمان للدعوة. اتصال الزعماء الخوارج بالفرنج. سياسة الفرنج في تشجيع الثورة في الأندلس. صلة الخلافة العباسية بهذه السياسة. الصراع بين الأندلس والفرنج. اللون الديني لهذا الصراع. أقوال الروايات اللاتينية في تأييد هذه الخاصة. مسير شارلمان إلى اسبانيا. اختراقه لنافار وحصاره لبنبلونة. مقاومة البشكنس. سقوط المدينة في يد الفرنج. مقدم سليمان وتسليمه للرهائن. زحف شارلمان على سرقسطة. مقدم بقية الجيش الفرنجي. تطور الحوادث. تحول الحسين وامتناعه بسرقسطة. فشل شارلمان في أخذها. اعتقاله لسليمان وارتداده. بواعث هذا الارتداد الفجائى. عود شارلمان إلى مهاجمة بنبلونة وتخريبها. بدء المسير للعود. عيشون ومطروح ولدا سليمان. تحالفهما مع الحسين الأنصاري. سيرهما في قواتهما في أثر الفرنج. مسير شارلمان إلى البرنيه. أبواب البرنيه. رونسفال أو باب شزروا. مفاجأة الجيش الفرنجي وفصل مؤخرته. من هم الذين هاجموه. المسلمون أم البشكنس. المسلمون هم الذين دبروا الهجوم. معاونة البشكنس. وصف الرواية اللاتينية للهجوم. تمزيق مؤخرة الجيش الفرنجي. مصرع الفرسان والسادة الفرنج. أنشودة رولان وبعدها عن التاريخ الحق. مكانتها في أدب الفروسة. لماذا لم ينتقم شارلمان لهزيمته. مقارنة بين الروايتين العربية واللاتينية. في ذلك الحين كانت ثمة حوادث هامة أخرى تقع في شمال الأندلس. وقد تتبعنا ثورة الفاطمي والبربر إلى نهايتها حرصا على صلة الحديث. ونعود الآن بضع سنين إلى الوراء. ففي سنة 157 هـ (774 م) ثار سليمان بن يقظان الكلبي (أو الأعرابي) والي برشلونة (أو برشنونة) (¬1) وجيرونة (جيرندة)، والحسين ابن يحيى الأنصاري والي سرقسطة، وهو من ولد سعد بن عبادة، وتحالفا على قتال عبد الرحمن وخلعه. وكان استمرار الثورة في الجنوب، وانشغال عبد الرحمن الدائم بقمعها، وطبيعة الشمال الجبلية ومنعته، مما يذكي عوامل الثورة في الولايات الشمالية، ويشجع مشاريع الزعماء الخوارج. وكان عبد الرحمن يشتغل يومئذ بمقاتلة الفاطمي، فأرسل إلى الشمال جيشاً بقيادة ثعلبة بن عبيد الجذامي، فهزمه ¬_______ (¬1) وهو تعريب مطابق لأصلها اللاتيني Barcenona

سليمان وأسره وتفرق جيشه (158هـ - 775 م) (¬1). واستفحل أمر الثورة في الشمال، ولكن زعماء الثورة وعلى رأسهم سليمان بن يقظان لم يطمئنوا إلى ذلك النصر المؤقت لما يعلمونه من عزم عبد الرحمن وبأسه وروعة انتقامه، ففكروا في الاستنصار بملك الفرنج. وسار سليمان (وتسميه الرواية اللاتينية ابن الأعرابي) مع نفر من صحبه الخوارج، إلى لقاء شارلمان أو كارل الأكبر في ربيع سنة 777 م (160هـ)؛ وكان يومئذ يقيم بلاطه في مدينة بادربورن من أعمال وستفاليا (شمال غربي ألمانيا)، ويعقد الجمعية الكبرى، حيث كانت جموع السكسونيين المغلوبة تعمّد للنصرانية، بعد أن شتت شارلمان شملهم وفر زعيمهم فيدوكنت؛ فهنا وفد عليه سليمان وصحبه، وعرض عليه المحالفة على قتال عبد الرحمن، واقترح عليه غزو الولايات الأندلسية الشمالية، وتعهد بمعاونته، وبأن يسلمه المدن التي يحكمها هو وصحبه من قبل أمير قرطبة ولاسيما سرقسطة، وأخيراً بأن يسلمه أسيره القائد ثعلبة بن عبيد. وتضيف الرواية اللاتينية إلى ذلك أنه كان مع ابن الأعرابي ولد ليوسف الفهري حاكم الأندلس السابق جاء ومعه صهره ليسعيا كذلك إلى خلع عبد الرحمن، وتقول الرواية الإسبانية النصرانية، إن الذي دعا شارلمان إلى غزو اسبانيا هو ألفونسو أمير إمارة ليون النصرانية (جليقية). ولكن الروايتين العربية والفرنجية (اللاتينية) كلتاهما صريحة في أن الدعوة جاءت من سليمان بن يقظان (الأعرابي) وحلفائه. والرواية العربية تقول لنا بمنتهى الوضوح، إن سليمان استدعى قارله (كارل أو شارلمان) ملك الفرنج إلى بلاد المسلمين، ووعده بتسليم برشلونة أوسرقسطة (¬2). وتوافق الرواية اللاتينية على ذلك، وتزيد أن سليمان ¬_______ (¬1) ويقدم إلينا الرازي بعض تفاصيل عن ذلك. فيقول لنا إن سليمان بن يقظان الكلبي (وهو الأعرابي) كان من زعماء سرقسطة، فلما ولى الثغر بدر مولى عبد الرحمن الداخل نقله إلى قرطبة، فحرضه البعض عل القيام بثأر قومه اليمانية فخرج من قرطبة إلى سرقسطة ودخلها. وخرج لمحاربة ثعلبة بن عبيد سنة أربع وستين ومائة، ونزل مدينة طرسونة، ووالى حربه، واضطرب على باب سرقسطة بمعسكره، فافترس سليمان بن يقظان غفلته، وافتراق أهل الجيش، فهجم عليه وأسر ثعلبة بن عبيد، وبعث به إلى ملك الفرنج. وأهم مفارقة في رواية الرازي هو التاريخ المتأخر الذي يقدمه إلينا عن هذه الموقعة، وذلك حسبما يتضح بعد من سير الحوادث (وقد نقل إلينا هذه الرواية العذري في كتابه ترصيع الأخبار الذي سبقت الإشارة إليه ص 125). (¬2) أخبار مجموعة ص 112 و113، وابن الأثير ج 6 ص 5 و21، وابن خلدون ج 4 ص 124.

وحلفاءه أعلنوا خضوعهم لملك الفرنج وانضواءهم تحت حمايته (¬1). ولبى ملك الفرنج دعوة الثوار المسلمين ووافق على عروضهم. وبعث إليه سليمان بأسيره ثعلبة بن عبيد قائد عبد الرحمن، عنواناً للثقة والتحالف، فسجن في إحدى القلاع الفرنسية. وفي رواية أخرى أنه سلمه إليه عقب مقدمه إلى اسبانيا. وعلى أى حال فقد كان حصول هذا الأسير، وهو من خاصة عبد الرحمن وأكابر وزرائه في يد ملك الفرنج، ضربة لعبد الرحمن، ورهينة قيمة يمكن استغلالها. وكان سليمان زعيم أولئك الخوارج يعمل مستقلا لنفسه، ويرمي قبل كل شىء إلى تحطيم سيادة قرطبة، وإلى الاستقلال بما في يده تحت حماية ملك الفرنج. ولكن ملك الفرنج كانت له مشاريع أخرى. وكانت السياسة الفرنجية ترمي إلى تعضيد روح الثورة والخلاف في إسبانيا المسلمة، ولاسيما منذ انهارت سيادة الإسلام في جنوبي فرنسا وارتد المسلمون إلى ما وراء البرنيه. وبدأ تطبيق هذه السياسة منذ عهد ببين أبى شارلمان. وكان سليمان بن يقظان زعيم الثورة في الشمال يتصل بملك الفرنج منذ سنة 760 م، أعني منذ استيلائه على أربونة واتصال الحدود الفرنجية بحدود اسبانيا المسلمة، ويسعى بهذا التحالف إلى تأييد استقلاله. وهكذا بدأت العلاثق تنتظم بين الزعماء المسلمين، الخوارج على حكومة قرطبة، وبين الفرنج المتربصين بدولة الإسلام في الأندلس، فكان الزعماء الخوارج كلما حاولوا الثورة والاستقلال بحكم مدينة أو ولاية، اتجهوا إلى الفرنج يستمدون عونهم ومناصرتهم، وكان الفرنج يسارعون إلى تلبية هذه الدعوات، ويتخذونها ذريعة للتدخل في شئون اسبانيا المسلمة، وإذكاء روح التفرق فيها، وسنرى كيف استطاع ملوك الفرنج تنفيذ هذه السياسة في فرص عديدة متعاقبة. والظاهر أن الخلافة العباسية في المشرق لم تكن بعيدة عن تأييد هذه السياسة في المغرب، والتوصل بذلك إلى مناوأة بني أمية الذين استطاعوا أن ينتزعوا هذا القطر النائي من أقطار الخلافة، ويقيموا فيه دولتهم الذاهبة على دعائم جديدة، فإن الرواية الفرنجية تحدثنا عن ¬_______ (¬1) تراجع أقوال الرواية اللاتينية في مؤلف العلامة الأستاذ بيدال: Ramon Menendez Pidal: La Chanson de Roland y el Neotradicionalismo (Espana - Calpe, Madrid 1959) p. 179-180. وهو مؤلف ضخم جامع، وأحدث ما أخرجه العلامة الإسباني، وهو يتناول حوادث موقعة باب الشزري بإفاضة شافية وتحليل ممتع. وراجع أيضا موسوعة بوكيه Bouquet. Vol.V.p. 14, 40 & 142 وكذلك Reinaud: Invasions des Sarrazins, en France, p. 94

علائق المنصور وببين وتقول لنا، إن ببين بعث في سنة 765 م سفارة إلى بغداد، ورد المنصور بإرسال سفراء إلى ملك الفرنج وفدوا عليه بعد ذلك بثلاثة أعوام، وقضوا حينا في البلاط الفرنجي في مدينة متز (¬1). وسار شارلمان ولد ببين على سياسة أبيه، فكان بينه وبين الرشيد فيما بعد تلك المكاتبات والسفارات الشهيرة التي فصلتها الرواية الفرنجية أيضاً، والتي نعود إليها في مقامها المناسب. وسنرى فيما بعد، أنه في الوقت الذي كان فيه يعقد هذا التحالف بين ثوار الشمال وبين ملك الفرنج، كانت ثمة محاولات تبذل لنشر الدعوة العباسية في الأندلس حيث نزل عبد الرحمن بن حبيب الفهري المعروف بالصقلبي في تدمير يدعو للخلافة العباسية على نحو ما نفصل بعد. وكانت إسبانيا المسلمة تجوز إزاء هذا الخطر الأجنبي الذي يتربص بها ظرفا من أدق ظروفها، فقد كانت مصايرها تهتز في يد القدر، وكان الإسلام يجوز فيها معركة الحياة والموت، بعد أن كان قبل ذلك بحقبة يسيرة يتدفق إلى ما وراء البرنيه بقوة، ويسود معظم أنحاء فرنسا الجنوبية. وكانت مملكة الفرنج بالعكس قد توطدت دعائمها، وانتزعت من الإسلام كل معاقله في فرنسا، بعد أن لبث مدى حين يزعجها ويهدد وجودها. وبينما اجتمعت كلمة الفرنج بزعامة الأسرة القارلية القوية، إذا بالإسلام في اسبانيا تعصف به ريح التفرق من كل صوب وتمزقه شر ممزق، وإذا بالأندلس تغدو بركانا من القلاقل والحروب الأهلية. وكان كارل الأكبر (شارلمان) مذ ولي العرش (سنة 768 م) يشغل عن التدخل في اسبانيا المسلمة، بمحاربة القبائل الوثنية السكسونية فيما وراء الرين ليرد خطر اعتدائها على مملكته، وليخضعها إلى سلطانه. وكانت غزوات الأسرة القارلية تتخذ فيما وراء الرّين منذ عهد كارل مارتل، جد كارل الأكبر، لوناً دينياً عميقاً كالذي تتخذه حروب الفرنج مع العرب في غاليس. ذلك أن حروب الفرنج فيما وراء الرين كانت تتخذ مظهر حماية النصرانية، من خطر الوثنية المتدفق من المشرق، وكانت حروبهم في غاليس تتخذ مظهر حماية النصرانية، من وثبات الإسلام المتدفق من الجنوب. وكانت الكنيسة روح هذه المعارك توحي بها وتذكيها، إلى جانب شهوة الظفر والفتح. فلما ظفر الفرنج برد تيار الإسلام إلى ما وراء البرنيه، واستولوا ¬_______ (¬1) Reinaud: ibid.p. 89 & 92.

على جميع ثغوره ومعاقله في فرنسا، وفترت تلك النزعة الدينية العميقة، التي جعلت غاليس مدى نصف قرن مسرحا لصراع العرب والفرنج، بقيت الأطماع والبواعث السياسية، تحفز الفرنج إلى قتال الإسلام ومطاردته، وانتزاع اسبانيا أو على الأقل ولاياتها وثغورها الشمالية من قبضته، لتكون معقلا لدرء فورانه ووثباته من الجنوب. وتشير الروايات اللاتينية إلى غايات السياسة الفرنجية من التدخل في شئون اسبانيا المسلمة، وتحدثنا عن هذا المزج بين الغايات الدينية والدنيوية. فأما عن الناحية السياسية فإن إجنهارت مؤرخ شارلمان يقول لنا إن الحملة التي نظمها الملك الفرنجي إلى اسبانيا كان يقصد بها مهاجمة قرطبة. وإنه ليبدو من ضخامة الجيش الذي حشده شارلمان، أن الأمر لم يكن متعلقا فقط بالاستيلاء على المدن التي وعد سليمان بن يقظان بتسليمها، وأن شارلمان كان يرمي بالعكس إلى السيطرة على اسبانيا كلها، أو على الأقل نصفها الشمالي. ويقول لنا "أبَدَال " وهو مؤرخ حملة شارلمان الإسبانية، إن الأمر لم يكن متعلقا بغاية دينية قوامها تحطيم دولة " كافرة " ولكن الحملة كانت ترمي إلى غاية سياسية قوامها أن يوضع حد لأخطار الغزوات الإسلامية لفرنسا. ويرى الأستاذ بيدال أن شارلمان لم تكن له غاية دينية خالصة في أية حملة من حملاته، وأن الباعث كان دائماً سياسياً، ولكنه يبطن في ثنيته الغاية الدينية. ذلك لأن المشكل الوحيد لإخضاع شعب " كافر " هو حمله على اعتناق النصرانية، وهذا ما وقع بالنسبة لحملات شارلمان ضد " الأفار " (¬1)، وضد " السكسونيين ". ومن ثم فقد كان مسير شارلمان إلى اسبانيا يبطن الغاية الدينية إلى جانب الغاية السياسية، وهذا ما تؤيده الرواية اللاتينية Anales Mettenses، التي كتبت في حياة شارلمان، وفيها "أن كارلوس قد هزته شكاوى النصارى الإسبان الذين نكل بهم المسلمون فسار بجيشه إلى هنالك ". ويضيف الأستاذ بيدال إلى ذلك " انه وإن كان الإسلام يتسم حقا بالتسامح، إلا أن النصارى واليهود في اسبانيا كانوا يعانون ضغطا وإرهاقا في ظل الحكومة الإسلامية، ومن ثم فقد كان للنصارى المستعربين ¬_______ (¬1) الأفار أو الأفاريين Avars هم مجموعة من القبائل القوية كانت تسكن حوض نهر الدانوب الأوسط. وقد حطمهم شارلمان وانتهى الأمر بتنصيرهم (791 - 795 م).

أن يستقبلوا شارلمان كمحرر لهم ". وتؤيد هذه النزعة الدينية للحملة، روايات لاتينية كثيرة أخرى معاصرة ولاحقة. بيد أن أقطع دليل على روح الحملة الدينية هو أن شارلمان قد أبلغ البابا هادريان بأمرها قبل أن يضطلع بها، وأن البابا بارك عزيمته ووعده بإقامة الصلوات، لكى يعود ظافرا إلى مملكته (¬1). وكان كارل حينما استدعاه الخوارج المسلمون لغزو اسبانيا، قد انتهى من الحرب في سكسونية، وهزم القبائل الوثنية الجرمانية، وأخضع زعيمها القوي " فيدوكنت " وألجأه إلى الفرار، فجاءت الدعوة إليه في وقت ملائم. وانتظر كارل حتى مضى الشتاء، ثم سار إلى الجنوب وقت أعياد الفصح في أكوتين على مقربة من بوردو. وفي فاتحة ربيع سنة 778 م، جمع قواته المؤلفة من فرنج نوستريا ومن الجرمان واللونبارد وفرق من بريتانيا وأكوتين، واخترق ولاية أكوتين، وقرر أن يفتتح الغزوة الإسبانية توا حتى لا يفاجئه الشتاء، وقسم جيشه الضخم إلى قسمين، عبر أحدهما جبال البرنيه من الناحية الشرقية، وعبرها القسم الثاني بقيادة كارل نفسه من الناحية الغربية، من الطريق الروماني القديم فوق آكام "جان دى لابور" الشاهقة التي تشرف على مفاوز رونسفال الوعرة، على أن يجتمع الجيشان على ضفاف نهر الإيبرو أمام سرقسطة حيث يلتقي شارلمان بحلفائه المسلمين. وكان عبوره لجبال البرنيه من " باب الشزرى " في شهر أبريل على الأرجح. واخترق شارلمان بلاد البشكنس أو نافار الحديثة، وحاصر عاصمتها بنبلونة، وهي قلعة النافاريين، واستولى عليها بعد قليل. وقد كان أولئك النافاريون دائماً شعبة خاصة من " البشكنس "، وكانت بنبلونة دائما مدينة البشكنس منذ أيام سترابون (¬2). وقد كان البشكنس دائما يحاولون الاحتفاظ باستقلالهم منذ أيام القوط، وكثيراً ما لجأوا في سبيل ذلك إلى الخروج والعصيان، والامتناع بهضابهم وجبالهم الشاهقة. وكان هذا شأنهم حينما وفد شارلمان بقواته الضخمة، فقد كانوا يحرصون على هذا الاستقلال، ولا يودون الخضوع لأية جهة، لا إلى الفرنج، ولا إلى مملكة (جليقية)، ولا إلى إمارة قرطبة الإسلامية. ومن ثم فقد اضطر شارلمان إلى محاصرة بنبلونة وأخذها بالعنف. وهنا تبرز هذه الحقيقة، وهي ¬_______ (¬1) راجع: R.M.Pidal: ibid, p. 181, 182, 183, 184 (¬2) R.M.Pidal: ibid, p. 186

أن شارلمان بغزو بلاد البشكنس، كان يحارب أمة من النصارى، وهو في ذلك لم تكن تحدوه سوى بواعث السياسة والفتح. ولم تكن النزعة الدينية خاصة بارزة في تلك الغزوة. أما الجيش الفرنجي الذي اخترق شرقي البرنيه، فقد كان يسير في منطقة يسيطر عليها الفرنج، مذ تقلص عنها سلطان المسلمين، منذ أيام ببين والد شارلمان، ومن ثم فقد كان يخترق بلادا صديقة، يرحب أهلها بمقدمه، أملا في عونه وحمايته. وتقول لنا بعض الروايات اللاتينية (¬1) إن سليمان بن يقظان (ابن الأعرابي)، كان يتردد عندئذ بانتظام على بنبلونة، وإنه وفقا لتعهداته سلم الرهائن إلى شارلمان، وإنه قد وفد كذلك على بنبلونة أبو ثور بن قسي حاكم وشقه، وقدم أخاه وولده رهينة، وقد بقيت هذه الرهائن في معسكر شارلمان حتى وقعت النكبة. بيد أنه توجد روايات أخرى مفادها أن الرهائن سلمت فيما بعد، حين وفود شارلمان على سرقسطة. وعلى أى حال، فقد سار شارلمان بعد استيلائه على بنبلونة ومعه سليمان إلى سرقسطة (¬2)، وهي معقد المشروع كله حسبما اتفق عليه في بادربورن؛ وكان القسم الآخر من الجيش، قد اخترق في تلك الآونة منطقة جيرندة (جيرونة) وبرشلونة، واتجه غربا إلى سرقسطة حيث انضم إلى القوات التي يقودها شارلمان، وكان شارلمان، يعتقد حينما سار إلى سرقسطة أنه سيلقى هناك حلفاءه المسلمين على أهبة لمعاونته وتحقيق رغباته في الاستيلاء على المدينة الكبرى. ولكن الحوادث كانت تطورت عندئذ، ودب الخلاف بين الخوارج المسلمين. وكان الحسين بن يحيى الأنصاري والي سرقسطة حليف سليمان منذ البداية، وكان عضده في مشروعه لاستدعاء الفرنج، وبالرغم من أنه لم يذهب إلى بادربورن، ولا إلى بنبلونة، فقد كان موافقاً على الحلف الذي عقده سليمان مع شارلمان، وعلى العهود التي قطعها له. والظاهر أن الحسين نقم على سليمان موقف الصدارة والزعامة الذي اتشح به إزاء الفرنج، فنشبت بينهما الخصومة، أو أنه خشي عاقبة التورط في حلف الفرنج. فعدل موقفه في آخر لحظة حينما شعر بمسير الفرنج إلى مدينته والظاهر أيضاً أنه لم يكن في سرقسطة حينما أقبل إليها الجيش الفرنجي؛ إذ تقول ¬_______ (¬1) R.M. Pidal: ibid, cit. Anales Breves.p. 187 (¬2) ابن الأثير ج 6 ص 5.

لنا الرواية الإسلامية، إنه سبق إليها سليمان، وتحصن بها، فلما أشرف شارلمان مع حليفه سليمان على سرقسطة، رفض الحسين أن يستقبله، وألفى المدينة محصنة متأهبة للدفاع والمقاومة، فعبر نهر الإيبرو إلى الضفة الأخرى، وقدم إليه سليمان رهائن عدة من الأعيان والأكابر، وفي مقدمتهم ثعلبة بن عبيد قائد عبد الرحمن وكان أسيرا لديه حسبما تقدم. ولكنه لم يستطع أن يفعل شيئا لإقناع الحسين بفتح أبواب سرقسطة، ولم يستطع شارلمان من جهة أخرى الاستيلاء عليها، وردت المدينة المحصورة كل هجماته بشدة (¬1)، وعجز سليمان أن يحقق شيئا من وعوده في تسليم المدن والحصون الواقعة في تلك المنطقة. ولم يشأ ملك الفرنج أن يخوض في تلك الوهاد والهضاب الصعبة معارك لم يتأهب لخوضها، وارتاب من جهة أخرى في نية سليمان وموقفه، فقبض عليه (¬2)، وارتد بجيشه نحو الشمال الشرقي في طريق العودة. وكان ذلك في شهر يوليه سنة 778 م (شوال سنة 161هـ). بيد أن هذه الوقائع ينقصها شىء من الوضوح. ذلك أنه لم تقع بين الفريقين معارك ذات شأن. فهل ارتد ملك الفرنج من تلقاء نفسه، أم اضطر مرغماً إلى الارتداد لبواعث وأسباب لا نعلمها؟. يقول الأستاذ بيدال " إن الانسحاب لا شك فيه. ولكن فشل حملة الملك الفرنجي لا تفسرها لنا هجمات المحصورين. إذ كيف يرتد هذان الجيشان الفرنجيان اللذان يضمان هذه الجموع من جند بريتانيا ونوستريا وبافاريا ولومبارديا؟ وكيف يرتد كارل وهو في عنفوان قوته بهذه السهولة؟ كيف يرتد هذا العاهل القوي وجيشه العظيم ما يزال سليما لم يمس، دون أن يخضع الحسين، ودون أن يفتتح أواسط إسبانيا؟ " (¬3). إن الروايات اللاتينية تحاول أن تلقى الضوء على ذلك الغموض؛ فيقول لنا " أبدال " السالف الذكر، إن شارلمان قدر أنه قد يجد نفسه وحيدا في قلب شعب معاد، مع صعوبة التموين لجيشه العظيم. بيد أنه يوجد تعليل آخر أقوى وأوضح، تقدمه إلينا رواية لاتينية أخرى في نصها الآتي: " إن السكسون المارقين حينما ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 113. (¬2) ابن الأثير ج 6 ص 5. (¬3) R.M.Pidal: ibid.; p 188

علموا أن الملك كارلوس في منطقة سرقسطة، قد شقوا الطاعة، وخربوا وأحرقوا الأراضي حتى ضفاف الرين. ونمى ذلك إلى كارلوس وهو في اسبانيا، فلما وقف عليه عاد مسرعاً إلى فرنسا " (¬1). وربما كان في ذلك خير تفسير لانسحاب شارلمان، وتركه سرقسطة لمصيرها. ارتد شارلمان على رأس قواته المجتمعة وفي ركابه سليمان أسيره وعدد من الرهائن وسار شمالا نحو بلاد البشكنس. وكان النافاريون في تلك الأثناء قد جمعوا فلولهم، واعتزموا الدفاع عن حاضرتهم بنبلونة وعن حرياتهم التالدة، خصوصا وقد شجعتهم وقفة سرقسطة وصاحبها الحسين ضد الملك الفرنجي، وانضم إليهم كثير من المسلمين من أبناء الأنحاء المجاورة، للتعاون في دفع العدو المشترك؛ ولكن شارلمان هاجم بنبلونة بعنف، ولم تجد بسالة النافاريين وحلفائهم المسلمين شيئا، فتركوا المدينة، وتفرقوا في مختلف الأنحاء؛ واستولى شارلمان على بنبلونة للمرة الثانية، وهدم حصونها وأسوارها حتى لا تعود إلى المقاومة إذا عاد إلى تلك الأنحاء، ولكي يمهد لجيشه طريق العود المأمون إلى فرنسا. وغادر شارلمان بنبلونة متجهاً إلى جبال البرنيه من طريق هضاب رونسفال المؤدية إلى باب الشزري. فما الذي حدث عندئذ؟ تقول الرواية العربية إن شارلمان " لما أبعد من بلاد المسلمين واطمأن، هجم مطروح وعيشون إبنا سليمان في أصحابهما، فاستنقذا أباهما ورجعا به إلى سرقسطة " (¬2). وفي هذه الكلمات القليلة تشير الرواية العربية إلى النكبة الهائلة التي أصابت الجيش الفرنجي أمام باب الشزري والتي تقدم إلينا الروايات اللاتينية اللاحقة تفاصيلها. والظاهر أيضا من الرواية العربية أن ولدي سليمان، حينما قبض شارلمان على أبيهما، عادا إلى الاتفاق مع الحسين بن يحيى على مقاومة الفرنج، وجمعا في الحال قوات أبيهما وأتباعه، وسارا بجيشهما في أثر ملك الفرنج يحاولان مهاجمته وإنقاذ أبيهما من أسره. وكان شارلمان في ذلك الحين قد غادر بنبلونة بعد تخريبها متجهاً صوب جبال البرنيه، ليعبرها كرة أخرى إلى فرنسا، وكان عبوره من نفس الطريق التي أتى منها، أعني من مفاوز رونسفال. ويقع ممر رونسفال Roncesvalles، ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid ; cit. Chronicon Moissiocense ; p. 189 (¬2) ابن الأثير ج 6 ص 5.

الذي يسمى بالعربية " باب شيزروا " (¬1)، أو باب الشزري، في طرف البرنيه الغربي شمال شرقي بنبلونة، وعلى قيد عشرين كيلومتر منها، وهو أحد ممرات عدة كانت تستعمل منذ عهد الرومان لاختراق البرنيه من الشمال أو الجنوب. وهي نفس الممرات أو الأبواب التي كان يستعملها العرب للعبور إلى غاليس (¬2). وقد لبثت هذه الجبال الوعرة الشاهقة على ممر القرون حاجزا منيعا يفصل بين شبه الجزيرة الإسبانية وبين غاليس، ولا يتأتى للغزاة، عبوره إلا خلال هذه الممرات الشهيرة. ففي مفاوز رونسفال الوعرة، وتجاه ممر البرنيه المسمى بهذا الاسم أعني باب شيزروا، وقعت المفاجأة الهائلة. ذلك أن الجيش الفرنجي ما كاد يبدأ عبور الجبال، حتى أشرف المسلمون بقيادة عيشون ومطروح على مؤخرته، وهاجموه بشدة رائعة، وفصلوا عنه مؤخرته، وانتزعوا منها الأسلاب والأسرى، وفيهم سليمان بن يقظان. والرواية العربية صريحة في أن المسلمين هم الذين دبروا هذا الهجوم الفجائي، على مؤخرة الجيش الفرنسي، ولكن بعض الروايات اللاتينية التي تتحدث عن الموقعة، تقول لنا إن الذين ¬_______ (¬1) هذه هي تسمية الشريف الإدريسي، وهي مشتقة من الاسم الروماني القديم Portus Ciserei أو Portus Sizarae (¬2) يقدم لنا الشريف الإدريسي وصفا دقيقا لجبال البرنيه التي تسمى في الجغرافية العربية بجبال البرت أو البرتات كما قدمنا، وللأبواب الرومانية التي كانت بها فيقول: " وطول هذا الجبل من الشمال إلى الجنوب مع سير تقويس سبعة أيام، وهو جبل عال جدا صعب الصعود، وفيه أربعة أبواب فيها مضايق يدخلها الفارس بعد الفارس. وهذه الأبواب عراض لها مسافات وهي منحرفة الطرق. وأحد هذه الأبواب الباب الذي في ناحية برشلونة ويسمى " برت جاقة " (جاكا)؛ والباب الثاني الذي يليه يسمى " برت أشبرة "؛ والباب الثالث منها يسمى " برت شيزروا " Roncesvalles وطوله في عرض الجبل خمسة وثلاثون ميلا؛ والباب الرابع منها يسمى " برت بيونة ". ويتصل بكل برت منها مدن في الجهتين، فما يلي برت شيزروا مدينة بنبلونة؛ والباب المسمى جاقة عليه مدينة جاقة. (راجع نزهة المشتاق للشريف الإدريسي؛ وكذا وصف الإدريسي لجغرافية الأندلس ص 65 من طبعة Saavedra) وظاهر أن كلمة برت تعنى الباب أو الممر، وأصلها من الإسبانية Puerta وقد سميت جبال البرنيه بالعربية البرتات نسبة إلى الأبواب والممرات المذكورة. والجغرافية الحديثة لا تختلف كثيرا عما تقدم، وفيها أن هذه الأبواب والممرات خمسة: (1) ممر بربنيان، بين برشلونة وأربونة (2) ممر بوكيردا الموصل إلى شرطانية (3) الممر بين بنبلونة وسان جان دى بييدبور (ويسميها الإدريسي شنت جوان) وهو باب شيزروا (4) ممر تولوز (طلوشة) إلى بيونة (5) ممر جاكا. وكانت هذه الأبواب أو الممرات تستعمل لاختراق الجبال حين الغزو إلى فرنسا ومنها في طريق العودة.

هاجموا مؤخرة شارلمان حين ارتداده، هم البشكنس النصارى انتقاما لما أنزله الفرنج ببلادهم وعاصمتهم بنبلونة من العيث والتخريب. وإليك ما تقوله هذه الرواية: " إن شارلمان عاد من سرقسطة إلى بنبلونة، وهدم أسوار هذه المدينة من أساسها لكي لا تستطيع الثورة عليه وقرر العودة، وبدأ يجوز شعب البرنيه. وهنا، وفي أرفع نقطة هجم البشكنس، وقد كانوا يكمنون في المؤخرة، وأوقعوا الخلل في الجيش كله، فساده أيما اضطراب وجلبة، وبالرغم من أن الفرنج أبدوا تفوقهم على البشكنس، سواء في السلاح أو الروح المعنوية، فقد بقوا هم الأضعف بسبب رداءة الموقع وعدم التكافؤ في وضع المعركة " (¬1). وهنا يحق لنا أن نتساءل إزاء هذا التناقض بين الروايتين، من هم الذين دبروا هذا الهجوم على مؤخرة الجيش الفرنجي؛ أهم المسلمون وحدهم حسبما تقرر الرواية العربية، أم هم البشكنس وحدهم حسبما تقرر الرواية الفرنجية؟ يقول الأستاذ بيدال، إنه لمن غير المعقول، بل ومن المستحيل أن يقوم البشكنس وحدهم بمهاجمة مؤخرة جيش عظيم كجيش شارلمان، والأكثر احتمالا هو أنهم يبحثون عن العون ضد المعتدي الخارجي، وإنه لكذلك من غير المعقول أن يستطيع إبنا سليمان وحدهما انتزاع الأسرى من الجيش الفرنجي، وذلك في الأرض المكشوفة ما بين سرقسطة وبنبلونة، وإنه لا يمكن الاعتقاد بأي حال بأن يسمح جيش شارلمان لنفسه أن يُفاجأ مرتين في أيام قليلة، وإذا فلا بد أن البشكنس والمسلمين معاً قد فاجأوه في شعب البرنيه: البشكنس الذين أثارهم تخريب بنبلونة، والمسلمون الذين يحاولون استنقاذ ابن الأعرابي والرهائن (¬2). ثم يقول العلامة الإسباني " إنه باستعراض سائر الروايات يبدو أن هناك حقيقة تاريخية، وهي أن المسلمين تعاونوا مع البشكنس في موقعة باب الشزري؛ وأن أنشودة رولان، وهي مستمدة من أناشيد معاصرة للنكبة، هي أصح من الرواية اللاتينية Anales Regios". ونقول نحن إن هذا الاستعراض لمختلف الروايات يدلي بأن المسلمين هم الذين دبروا الهجوم على مؤخرة الجيش الفرنجي، وإنه ¬_______ (¬1) Anales Regios hssta 829; cit.por R.M. Pidal: ibid ; p. 191 & 192 (¬2) R.M.Pidal: ibid ; p. 193 & 194 وراجع أيضا Conde: ibid, V.I. P.201 و Dozy: Hist.V.I.p. 243 & notes وهل أدل على أن العرب هم الذين مزقوا مؤخرة الفرنج من أنشودة رولان الشهيرة، التي نتحدث عنها بعد.

خريطة: مواقع غزوة شارلمان لسرقسطة ومعركة باب الشزري.

فيما يرجح قد اشتركت معهم جموع كبيرة من البشكنس في هذا الهجوم، وإن مضمون أنشودة رولان حسبما نقدمه بعد، يؤكد هذا الاستنتاج في إسناد الدور الرئيسي في الموقعة إلى المسلمين. وقد وصفت لنا إحدى هذه الروايات اللاتينية، تعاون المسلمين والبشكنس في الهجوم، وفيها " أن جيش شارلمان كان يتكون من خمسة آلاف فارس من ذوي الأسلحة الثقيلة وعدد مماثل من المشاة، وأن المؤخرة كانت تتكون من ألف فارس ومعها دواب الحمل، وأن الكمين وقع في الأماكن الصاعدة من الطريق المعبد. وقد تعاون بشكنس بنبلونة والمسلمون ولاسيما مطروح وعيشون ولدي ابن الأعرابي، وكان هذا التحالف ضرورياً، لأن المسلمين كانوا في حاجة إلى المعرفة الدقيقة لهذه الوهاد وهو ما يتقنه البشكنس، وكان البشكنس بحاجة إلى مقدرة المسلمين في التنظيم العسكري، وهما معاً قد استطاعا أن يسحقا مؤخرة هذه الصفوف التي ارتجت لها سائر إسبانيا " (¬1). وقع هذا الهجوم الفجائي من المسلمين على مؤخرة الجيش الفرنجي بمعاونة ْالبشكنس، فأسفر عن أروع نتيجة يمكن تصورها. ذلك أن الفرنج لم يحسنوا الدفاع عن أنفسهم في تلك الشعاب الضيقة المنحدرة. وقد فصلت مؤخرة الجيش الفرنجي، وانتزعت منها الأسلاب والأمتعة وفي مقدمتها الخزانة الملكية، وكذلك الرهائن، وفي مقدمتهم سليمان، ومزقت المؤخرة نفسها شر ممزق، وهلك خلال المعمعة الهائلة عدد عظيم من سادة الجيش الفرنجي وفرسانه، ولم تسمح المفاجأة المذهلة بأى عمل أو محاولة منظمة لإنقاذ الفرق المنكوبة. وكانت نكبة مروعة لبث صداها يتردد مدى عصور في أمم الغرب والنصرانية. وتضع الرواية الفرنجية تاريخ الموقعة في 18 أغسطس سنة 778 (ذى القعدة سنة 161هـ) (¬2). وقد رأينا فيما تقدم كيف تقنع الرواية العربية بالإشارة إليها في ¬_______ (¬1) Anales Regios, cit. por R.M. Pidal: ibid. p. 197 (¬2) ولكن الرواية العربية تقدم تاريخها عن ذلك فتضعها في سنة 157هـ (774 م) وهي رواية ابن الأثير (ج 6 ص 5) والمقري في نفح الطيب (ج 2 ص 73). والظاهر من نص الرواية العربية أنها تنصرف هنا إلى بداية الحوادث لا إلى الموقعة ذاتها، وقد وقعت فيما بعد، وهو ما يفسر التباين بين التاريخين. ولا ريب أن الرواية الفرنجية أقرب إلى الصحة والتحقيق لأنها معاصرة قريبة من الحوادث.

عبارات موجزة، وإن كانت مع إيجازها في منتهى الدقة، وكيف أن الرواية اللاتينية الفرنجية والكنسية تفيض بالعكس في تفاصيلها إفاضة واضحة، وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعض هذه الروايات التي اقتبسنا بعض نصوصها، وربما كانت رواية إجنهارت (أينهارت) مؤرخ شارلمان، عن الموقعة، هي أدق هذه الروايات وأوثقها، فقد كتبت في سنة 829 م بعد وفاة شارلمان بقليل، واعتمد فيها على كثير من أقوال المعاصرين وشهود العيان. وهو يفصل لنا حوادثها ويذكر من هلك فيها من الأمراء والسادة، ومنهم إيجهارد رئيس الخاص، وأنسلم محافظ القصر، وهردولاند حاكم القصر البريتاني، وكثير من الرؤساء ورجال الخاص والحاشية. وهردولاند، هو رولان Roland بطل الأنشودة الشهيرة، التي نظمت فيها بعد عن هذه الموقعة، واستمدت من أناشيد معاصرة لها، والتي ما زالت أثراً خالداً لقريض الفروسية في العصور الوسطى. بيد أن أنشودة رولان تنحرف في كثير من مناحيها إلى الأسطورة. وقد اتخذت الأسطورة من حوادث الموقعة موضوعا لقصة حربية حماسية حرفت فيها الوقائع الأصلية أيما تحريف، ولكنها تستبقي مكان الموقعة، وبعض أشخاص التاريخ. وقد رأينا أن نورد فيما يلي خلاصة هذه القصة أو الأنشودة الشهيرة: " غزا شارلمان إسبانيا، ولبث يحارب فيها سبعة أعوام، حتى افتتح ثغورها ومدنها، ما عدا سرقسطة، وهي معقل الملك العربي مارسيل. وكان يعسكر بجيشه بجوار قرطبة، حين جاءته رسل مارسيل يعرض عليه الطاعة، بشرط أن يجلو الفرنج عن إسبانيا، فعقد شارلمان مجلسا من البارونات ومنهم رولان ابن أخيه. وكان رولان يرى أن تستمر الحرب، ولكن فريقاً آخر من السادة برآسة جانلون كونت مايانس، كان يرى الصلح والمهادنة، فغلب رأي هذا الفريق، لأن الفرنج سئموا الحرب والقتال، وأرسل جانلون إلى الملك مارسيل ليعقد معه شروط الهدنة. فأغراه مارسيل واستماله بالتحف والذخائر، واتفق معه على الغدر برولان وفريقه. ثم عاد إلى شارلمان وزعم أن مارسيل قبل شروط الفرنج، وبذا قرر شارلمان الإنسحاب. وتولى رولان قيادة المؤخرة. وكان معه الأمراء الإثنا عشر، وزهرة الفروسية الفرنجية. ولما وصل الجيش إلى قمة الممرات الجبلية رأى أوليفر أحد الأمراء، جيشاً من العرب، يبلغ أربعمائة ألف مقاتل.

فتضرع إلى رولان أن ينفخ في بوقه ليدعو شارلمان إلى نجدته، فأبى رولان، وانقض الجيش المهاجم على مؤخرة الفرنج، ونشبت بينهما عدة معارك هائلة. واستمر رولان يأبى طلب النجدة حتى مزق جيشه ولم يبق منه سوى ستين رجلا، وعندئذ نفخ في بوقه يدعو شارلمان: ثم قتل بقية أصحابه، ولم يبق سوى رولان وأوليفر واثنين آخرين. ولما شعر العرب أن شارلمان سيرتد بجيشه لقتالهم، قرروا الانسحاب. وكان زملاء رولان الثلاثة قد قتلوا، وأثخن رولان نفسه جراحا حتى أشرف على الموت. ولكنه استطاع أن ينفخ في بوقه مرة أخرى قبل أن يموت، وأن يسمع صرخة شارلمان الحربية، وسمع شارلمان صوت البوق على بعد مراحل عديدة. فعاد مسرعا وطارد جيش العدو وسحقه. ودفن الفرنج قتلاهم، وعوقب جانلون الخائن أروع عقاب. وتوفيت ألده، خطيبة رولان حينما علمت بموته ". هذه هي خلاصة القصة التي ترددها أنشودة رولان الشهيرة. وهي أبعد ما يكون عن وقائع التاريخ الحق. بيد أنها تتخذ مادتها من بعض هذه الوقائع، ومن الذكريات والروايات الشفوية المتناقلة، والأناشيد الحربية المعاصرة. وهي نورمانية الأصل، ظهرت لأول مرة في القرن الحادي عشر، أعني بعد الموقعة بنحو ثلاثة قرون، ودونت أولا في بعض القصص اللاتينية، ثم دونت بالنظم في ملحمة طويلة تبلغ أربعة آلاف بيت بعنوان " أنشودة رولان " Chanson de Roland ولبثت تعتبر مدى عصور من أعظم الآثار الأدبية، ومن روائع القريض الحربي. وكانت حوادث هذه الموقعة الشهيرة مستقى خصبا لكثير من الكتاب والشعراء، وكانت بالأخص مستقى لقصص الفروسية والملاحم الحماسية المغرقة، التي تملأ فراغا كبيرا في الأدب الفرنجي في العصور الوسطى (¬1). ومما يلفت النظر في حوادث الموقعة أن شارلمان، لم يحاول بعد أن أفاق من الصدمة الأولى، أن يعجل بالانتقام لنكبة جيشه ومقتل فرسانه، وأن يعود فيطارد تلك العصابات التي تحدته واجترأت عليه سواء من المسلمين أو البشكنس. ¬_______ (¬1) راجع حوادث هذه الموقعة الشهيرة في أخبار مجموعة ص 112 و113، وابن الأثير ج 6 ص 5 و21، وابن خلدون ج 4 ص 124، وراجع أيضا Bouquet ; Vol.V.R.M. Pidal: La Chanson de Roland.Cap. VI.p. 171 - 215;p. 14,26,42. & 208 و Reinaud: ibid: p. 95,96 و Hodgkin: Charles the Great p. 141-152.

وتعليل ذلك هو أن شارلمان شغل قبل كل شىء بخطورة الأنباء التي وصلته عن تحرك السكسونين، وهم ألد أعداء الفرنج وأخطرهم، فارتد أدراجه مسرعا ليخوض معهم حرباً جديدة استطالت زهاء سبع سنين، حتى تمت هزيمة زعيمهم فتكنت (أو فيدوكنت) نهائيا، وأرغم على التنصير في سنة 785 م (¬1). ولم يبق بيد شارلمان، بعد استنقاذ المسلمين للرهائن، سوى ثعلبة بن عبيد قائد عبد الرحمن، وقد لبث فترة أخرى معتقلا بفرنسا، حتى تمت المفاوضة بشأنه، وأطلق سراحه لقاء فدية كبيرة. وهكذا اختتمت محاولة شارلمان غزو اسبانيا المسلمة والتدخل في شئونها، بنكبته والقضاء على زهرة جنده، وقد أسبلت هذه النكبة مدى حين سحابة على مجده الحربي. بيد أنها لم تكن كما سنرى آخر محاولة من نوعها لعاهل الفرنج، فإن السياسة الفرنجية لبثت بالرغم من هذه الصدمة المؤلمة، ترقب سير الحوادث في الأندلس لتجد فيها ثغرة تتخذها وسيلة لتحقيق غاياتها. * * * ونستطيع بعد أن استعرضنا أدوار هذه الموقعة الشهيرة التي تركت في عصرها أعظم صدى في الروايات الفرنجية (اللاتينية) والكنسية المعاصرة واللاحقة، وبعد أن سجلنا ممهداتها وحوادثها تفصيلا. أن نعود فنلقى نظرة مقارنة على موقف الروايات العربية واللاتينية إزاء الموقعة، وكيف تعاملها كل منها. وأول ما يلفت النظر هو حسبما قدمنا، إيجاز الروايات العربية، في الوقت الذي تميل فيه الروايات اللاتينية إلى الإفاضة الواضحة. وقد كان خليقا بالرواية العربية أن تبسط القول في حوادث موقعة لها من الخطورة البالغة ما لموقعة " باب الشزري " خصوصاً وقد كان التفوق فيها للجانب الإسلامي. ولكن الرواية العربية لم تنظر إلى الموقعة إلا من حيث ارتباطها بحوادث الأندلس، ومن جهة أخرى فإنها لم تكن على علم تام بما يدور في الناحية الأخرى من جبال البرنيه، في مملكة الفرنج الشاسعة، ولم تقف على آثار الصدى الهائل الذي أحدثه تمزيق جيش شارلمان داخل مملكة الفرنج، وفي سائر الأمم المتصلة بها، ولاسيما القبائل السكسونية ألد أعداء الفرنج يومئذ. ¬_______ (¬1) R.M. Pidal: ibid, p. 199

وثمة فرق واضح آخر بين الروايتين العربية واللاتينية، هو أن الأولى تنوه بأن شارلمان قاد حملته إلى اسبانيا استجابة لدعوة الخوارج المسلمين ليعمل معهم ضد إمارة قرطبة، وأن الثانية تنوه بأن حملة شارلمان إنما كانت موجهة إلى إخضاع البشكنس. ومع ذلك فإن الرواية العربية على إيجازها تقدم إلينا ممهدات الموقعة وعناصرها الأساسية بمنتهي الدقة، بل إن العلامة المؤرخ الأستاذ بيدال، وهو آخر من تناول حوادث هذه الموقعة من النقدة المحدثين بإفاضة، وبأسلوبه النقدي الرائع، يقرر لنا أن الرواية العربية هنا، هي أرقى بكثير من الرواية اللاتينية، وأنها فيما يتعلق بغزوة شارلمان لإسبانيا، أبعد من أن تنحدر إلى الغموض والتناقض، وأنها بالعكس تقدم إلينا بعض أنباء في منتهى الأهمية والجدارة. ويدفع الأستاذ بيدال ما يرمي به بعض الباحثين مثل باسيه وغيره، الرواية العربية من أخطاء وسابقات تاريخية، ويؤكد بالعكس أنه لا تناقض بين النصوص العربية واللاتينية، وكل ما هنالك أن كلا منهما يركز اهتمامه في نقط معينة، وكلتاهما تتفق مع الأخرى في الحوادث الرئيسية (¬1). ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid, p. 177,178

الفصل الخامس ولاية عبد الرحمن الداخل

الفصل الخامس ولاية عبد الرحمن الداخل - 2 - عبد الرحمن وحوادث الشمال. ظهور الصقلبي في شرقي الأندلس. استئنافه للدعوة العباسية. تحالفه مع ابن يقظان ثم خلافه معه. مسير عبد الرحمن إلى قتال الصقلبي. التجاؤه إلى بلنسية. مصرعه وانهيار دعوته. ثورات محلية مختلفة. حوادث الشمال. مصرع ابن يقظان. مسير عبد الرحمن إلى سرقسطة وحصارها. خضوع الحسين الأنصاري. عبد الرحمن يغزو نافار وشرطانية. قتله لعيشون ابن سليمان. عود الحسين إلى الثورة. إرسال عبد الرحمن حملة لقتاله. حصار سرقسطة وثبات الحسين. مسير عبد الرحمن إلى قتاله. هزيمته ومصرعه. تفاهم عبد الرحمن مع شارلمان وسعيه إلى مصاهرته. ائتمار الوافدين من الأموية بعبد الرحمن. صرامته في إخماد هذه المؤامرات. حديث ينسب إليه عنها. فرار محمد بن يوسف الفهري وثورته في طليطلة. مسير عبد الرحمن لقتاله. موقعة قسطلونة. هزيمة محمد وفراره. استئنافه للثورة في قورية. هزيمته ووفاته. أخوه أبو القاسم. خروجه ثم خضوعه. انتهاء الثورة. خاتمة الكفاح الرائع. بينما كانت هذه الحوادث الخطيرة تجري في الشمال، كان عبد الرحمن الأموي في الجنوب يكافح الثورة في مختلف الأنحاء. وكانت ثورة البربر قد شغلته واستنفدت معظم قواه أعواماً متوالية. بيد أنه ما كاد يفرغ من سحقها حتى ظهر في شرقي الأندلس خطر جديد قوامه الدعوة العباسية. ذلك أن عبد الرحمن بن حبيب الفهري أحد زعماء الفهرية، وهو المعروف بالصقلبي نظرا لطوله وشقرته وزرقة عينيه، عبر البحر من إفريقية إلى الأندلس في قوة كبيرة، ونزل بساحل تدمير (مرسية) في شرق الأندلس، ودعا للخليفة العباسي (سنة 161 هـ). ويجب أن نذكر أن عبد الرحمن بن حبيب هذا هو غير سميه عبد الرحمن بن حبيب المتغلب على إفريقية الذي فصلنا أخباره من قبل، فقد قتل هذا المتغلب على إفريقية منذ سنة 140هـ، بعد أن خرج على طاعة بني العباس (¬1). ولا نعرف علاقة الصقلبي ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 111.

بيوسف بن عبد الرحمن الفهري، وربما كان من أبناء عمومته (¬1). بيد أنه كان من زعماء الفهرية وزعماء الثورة على بني أمية. وكانت حركة الصقلبي في تدمير، كحركة العلاء بن مغيث من قبل في باجة، ولكنها كانت أشد خطراً، لأن الصقلبي سعى إلى التفاهم مع زعيم الثورة في الشمال سليمان بن يقظان وتحالف معه (¬2). والظاهر أن هذا التحالف كان بعد عبور الفرنج إلى إسبانيا وموقعة باب شيزروا. ولكن ابن يقظان لم يف بوعده في إمداده لقتال عبد الرحمن الأموي، فغضب منه وسار لقتاله، فهزمه ابن يقظان في ظاهر برشلونة. فعاد إلى تدمير ولبث مدى أشهر ينظم قواته وأهبته، ولكن عبد الرحمن لم ينتظر حتى يهاجمه، بل سار بنفسه، وهاجمه بشدة، وأحرق سفنه الراسية بالساحل، حتى لا يجد سبيلا إلى الفرار، فارتد الصقلبي بفلوله إلى جبال بلنسية واستعصم بها، وهنا لجأ عبد الرحمن إلى سلاح الاغتيال مرة أخرى، فدس على الصقلبي بعض أصدقائه فاغتاله وحمل رأسه إليه، وانهارت بذلك دعوته وثورته (سنة 162 و163 هـ: 778 - 779 م). ووقعت بعد ذلك عدة ثورات محلية عني عبد الرحمن بقمعها قبل أن يسير إلى الشمال، فقد ثار دحية الغساني ببعض حصون إلبيرة (غرناطة)، وكان دحية من أصدقاء عبد الرحمن ومن قادته، ولكنه نكث بعهده ولحق بالفاطمي، فلما هلك الفاطمي، فر إلى إلبيرة وأعلن بها الثورة، فأرسل عبد الرحمن إليه جيشا ضيق عليه الحصار حتى أخذ وقتل. وثار إبراهيم بن شجرة بحصن مورور، ¬_______ (¬1) يقول دوزي إنه كان صهرا ليوسف الفهري متزوجا بإحدى بناته (ج 1 ص 242) ولكنه لم يبين مصدرا لقوله، ولم نجد في المراجع العربية ما يؤيده. (¬2) يقدم إلينا دوزي ثورة ابن يقظان وحلفائه وعلاقة الصقلبي به في صورة أخرى، فيقول لنا، إن هذا التحالف كان يضم ابن يقظان والحسين بن يحيى والصقلبي ومحمد بن يوسف الفهري، وانهم اتفقوا جميعا على استدعاء الفرنج إلى اسبانيا، وساروا جميعا إلى لقاء شارلمان في بادربورن، واتفق على أن يقوم ابن يقظان بمعاونة شارلمان في غزوته بينما يقوم الصقلبي بحشد البربر في إفريقية ثم يعبر بهم إلى تدمير ليشغل عبد الرحمن بحركته (دوزي ج 1 ص 240 - 241). ولكنا لا نوافق دوزي على هذا التصوير أولا لأن المصادر العربية تشير إلى مثل هذا التحالف الرباعي، وتتفق جميعا في اعتبار حركة الصقلبي حركة مستقلة لا علاقة لها بغزوة الفرنج، ومن جهة أخرى فإنه لا يوجد في الروايات اللاتينية المتعلقة بغزوة شارلمان لإسبانيا ما يشير إلى هذا التحالف، وثانيا لأن محمد بن يوسف الفهري أحد أركان هذا التحالف لم يفر من سجنه كما سنرى إلا بعد ذلك ببضعة أعوام. راجع: ابن الأبار في الحلة السيراء ص 57، والبيان المغرب ج 2 ص 58، وابن الأثير ج 6 ص 26.

فبعث إليه عبد الرحمن مولاه بدراً، فهاجمه وقتله. وثار في طليطلة القائد السلمي، وكان من خاصة عبد الرحمن، ثم فر من قرطبة خشية بطشه به لأمور نقمها منه، والتفت حوله العناصر الخارجة في تلك الأنحاء، فسير إليه عبد الرحمن جيشا قويا بقيادة حبيب بن عبد الملك، فحاصره حيناً ثم قتل. وثار في الجزيرة الخضراء واليها الرماحس بن عبد العزيز الكناني، فسار إليه عبد الرحمن بنفسه، وداهمه قبل أن يستكمل أهبته، ففر الرماحس وعبر البحر إلى المشرق (سنة 163 - 164) (¬1). وفي العام التالي تأهب عبد الرحمن لقمع الثورة في الشمال. وكان الخلاف قد وقع بين زعيمى الثورة بعد تفاهمهما على أثر نكبة الجيش الفرنجي في موقعة باب الشزري، وتربص الحسين بن يحيى الأنصاري بزميله سليمان بن يقظان، ودس عليه ذات يوم من قتله بالمسجد الجامع، وانفرد بالأمر في سرقسطة وما حولها (¬2). فسار عبد الرحمن إلى سرقسطة في جيش ضخم وضيق الحصار عليها (سنة 165 هـ - 781 م). ووفد عليه عندئذ عيشون بن سليمان، وكان قد فر عقب مقتل أبيه إلى أربونة، وانضم إليه بمن معه في مقاتلة الحسين، فلما اشتد الحصار بالحسين طلب الصلح، وقدم ابنه سعيداً رهينة، فأجابه عبد الرحمن إلى ملتمسه، وأقره واليا على سرقسطة. ثم تحول عن سرقسطة إلى الشمال الشرقي، واخترق بلاد البشكنس (نافار) ليعاقب أهلها على عيثهم وعدوانهم، وغزا عاصمتها بنبلونة، وأثخن فيها وخرب قلاعها، وغزا قلهرّة وبقيرة (فكيرا)، واجتاح ولاية شرطانية (¬3)، وأرغم أميرها على تقديم الطاعة وأداء الجزية (¬4). ثم عاد إلى قرطبة ظافراً بعد أن وطد هيبة الحكومة المركزية في الشمال نوعاً، وألقى على النصارى درسا يذكرهم بأن الإسلام قد استرد منعته وسلطانه في اسبانيا. وكان سعيد بن الحسين قد فر من معسكر الأمير أثناء الطريق، ولما حل عبد الرحمن بقرطبة توجس شرا من عيشون بن سليمان، وكان قد عاد في ركابه، فأمر به ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 112، وابن الأثير ج 6 ص 20، والبيان المغرب ج 2 ص 58. (¬2) يقول لنا العذري نقلا عن الرازي أن قتل الحسين لسليمان كان بتحريض من حكومة قرطبة، وذلك على أن يولى سرقسطة (في كتابه ترصيع الأخبار الذي سبقت الإشارة إليه ص 26). (¬3) شرطانية بالإفرنجية Cerdagne وبالإسبانية Cerdana، وهي ولاية كبيرة في شمال شرق إسبانيا. (¬4) أخبار مجموعة ص 114، وابن الأثير ج 6 ص 22.

فقتل. ولما رأى الحسين بن يحيى أن عبد الرحمن قد ارتد عنه، وعاد إليه ولده سالما، نكث بعهده وعاد إلى الثورة، وعاث فسادا في سرقسطة وأعمالها، فاعتزم عبد الرحمن أن يعود إلى قتاله، وأن ينكل به وبأنصاره في تلك المرة. فبعث إلى الشمال جيشاً كثيفاً بقيادة غالب بن تمام بن علقمة، فخرج الحسين إلى لقائه، ووقعت بينهما معارك شديدة هزم فيها الحسين، وأسر ولده يحيى وعدة من صحبه، فأرسلوا إلى قرطبة حيث أمر عبد الرحمن بإعدامهم، وامتنع الحسين بالمدينة واستمر غالب في حصاره. وفي العام التالي (سنة 167هـ - 783 م) سار عبد الرحمن بنفسه إلى سرقسطة وحاصرها بشدة، وضربها بالمجانيق ضرباً عنيفاً حتى هدم أسوارها، واقتحمها عنوة، وقبض على الحسين وجماعة من صحبه، وقتلهم جميعاً، وشرد كثيراً من أهلها، وفر سعيد ولد الحسين، وعين عبد الرحمن قائده ثعلبة بن عبيد واليا لسرقسطة، وكان قد افتداه من أسر الفرنج حسبما تقدم. وركدت بذلك ريح الثورة في الشمال مدى حين (¬1). وشغل عاهل الفرنج شارلمان مدى حين عن شئون إسبانيا، لأن القبائل السكسونية عادت فنكثت طاعته، وعاد لقتاله خصمه القوى فيدوكنت، واستمرت الحرب بينهما زهاء سبعة أعوام وانتهت بهزيمة السكسونيين، وخضوع زعيمهم وإرغامه على التنصير (سنة 785 م). بيد أن عبد الرحمن رأى أن يتفاهم مع زعيم الفرنجة، وأن يؤثر صداقته ومداراته على خصومته، فبعث إليه يطلب عقد الصداقة معه، ويكاشفه برغبته في مصاهرته، فأجابه شارلمان إلى السلم ولم تتم المصاهرة (¬2). وفي بعض الروايات أن شارلمان هو الذي عرض على عبد الرحمن أن يزوجه ابنته فاعتذر عبد الرحمن باعتلال صحته (¬3). واستمر السلام معقودا بين الزعيمين حتى وفاة عبد الرحمن. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 6 ص 22، والبيان المغرب ج 2 ص 59. (¬2) المقري عن ابن حيان (ج 1 ص 155). ولا تقدم الرواية لنا تفصيلا عن مشروع المصاهرة هذا، ولكن الظاهر أن عبد الرحمن طلب الاقتران بإحدى بنات شارلمان، والمرجح أنها " هروترود " كبرى بناته، وكانت وحدها تصلح للزواج في ذلك الحين. ويرى رينو أن المقصود بهذه الإشارة إنما هو عبد الرحمن الثاني أو عبد الرحمن الأوسط حفيد عبد الرحمن الداخل، فقد كانت علائقه بملك الفرنج (شارل الأصلع) على ما يرام، وكان هذا الاتصال بين الأمراء الفرنج والمسلمين ذائعا ( Reinaud: ibid , p. 98) (¬3) راجع: Scott: Moorish Empire, V.I.p. 40

ولما عاد عبد الرحمن إلى قرطبة نمى إليه خبر مؤامرة خطيرة دبرت لسحقه، بزعامة ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية، وهذيل ولد الصميل بن حاتم. ولم تكن هذه أول مؤامرة من نوعها، فقد دبرت قبل ذلك ببضعة أعوام سنة 163هـ مؤامرة أخرى، وعلى رأسها أيضا اثنان من أقطاب بني أمية، الذين وفدوا على الأندلس حينما تألق طالع عبد الرحمن، هما عبد السلام بن يزيد بن هشام المعروف باليزيدي، وهو ابن عم عبد الرحمن، وعبيد الله بن أبان بن معاوية وهو ابن أخيه، وذلك بمعاونة أبى عثمان كبير الدولة. وكان عبد الرحمن مذ تم له الأمر، يسعى إلى استقدام فل بني أمية من المنفي، ويدعوهم إليه ليكونوا له عوناً وعصبة، ويظلهم برعايته، ويغدق عليهم من نعمه، ويختارهم لمختلف المناصب. ولكن روحاً سيئاً من الحقد والحسد، كان يحفز أولئك الأقارب لمناوأة ذلك الذي هيأت له الأقدار أن يفوز دونهم، بتراث بني أمية في الأندلس. فائتمروا به غير مرة، وشجعهم على ذلك بعض الخوارج الناقمين والمنافسين الطامعين، ولكن عبد الرحمن كان يكتشف الخطر قبل وقوعه، ويسحقه بكل ما أوتي من شدة وصرامة، فلم يحجم حينما وقف على المؤامرة الأولى، عن قتل ابن عمه عبد السلام اليزيدي وعبيد الله ابن أخيه أبان، وعفا عن أبى عثمان لمكانته وسابق صنيعه. ولم يحجم حينما وقف على المؤامرة الثانية، عن قتل المغيرة ابن أخيه الوليد، وزميله هذيل بن الصميل ومن معهما، ونفي أخاه الوليد وأسرته إلى المغرب. وقد نقل إلينا مؤرخ أندلسي عن بعض موالي عبد الرحمن، أنه دخل عليه أثناء قتله المغيرة ابن أخيه، وهو مطرق شديد الغم فرفع رأسه وقال: " ما عجبي إلا من هؤلاء القوم. سعينا فيما يضجعهم في مهاد الأمن والنعمة وخاطرنا بحياتنا، حتى إذا بلغنا منه إلى مطلوبنا ويسر الله تعالى أسبابه، أقبلو علينا بالسيوف. ولما آويناهم وشاركناهم فيما أفردنا الله تعالى به، حتى أمنوا وردت عليهم أخلاف النعم، هزوا أعطافهم، وشمخوا بآنافهم، وسموا إلى العظمى، فنازعونا فيما منحه الله تعالى، فخذلهم الله بكفرهم النعم، إذ أطلعنا على عوراتهم، فعاجلناهم قبل أن يعاجلونا، وأدى ذلك إلى أن ساء ظننا في البرىء منهم، وساء أيضاً ظنه فينا، وصار يتوقع من تغيرنا عليه ما نتوقع نحن منه " (¬1). ¬_______ (¬1) الحجاري في كتابه " المسهب "؛ ونقله المقري في نفح الطيب (ج 2 ص 72 و73).

وفي ذلك الحين فر أبو الأسود محمد بن يوسف الفهري من سجنه، ورفع لواء الثورة في طليطلة. وكان محمد سجيناً في قرطبة منذ مقتل أبيه، ثم فراره وأسره ثانية في حوادث طليطلة سنة 142 هـ كما قدمنا. وتظاهر محمد عندئذ بالعمى، وأتقن حيلته حتى جازت على جميع الموكلين بسجنه، وأشفق عبد الرحمن عليه فأبقاه ولم يقتله كأخيه، وأنفق محمد في أسره أعواماً طويلة حتى أهمل شأنه، ولم يعد يكترث أحد به، وعرف بالأعمى. ثم سنحت له فرصة الفرار على يد بعض مواليه المتصلين به، ففر من سجنه الواقع على النهر الكبير، وجاز النهر سباحة، ولحق بطليطلة سنة 168 هـ وأعلن الثورة. والتفت حوله جموع كبيرة من الفهرية والقيسية، ومن إليهم من عناصر الخروج والثورة، وسار في قواته صوب جيان، فخرج عبد الرحمن إلى قتاله، ووقعت بينهما معارك عديدة، كان النصر فيها لعبد الرحمن. ولكن أبا الأسود لبث حيناً محتفظاً بمراكزه وقواته. ثم نشبت بينهما على مقربة من قسطلونة في الوادي الأحمر، بمكان يعرف بمخاضة الفتح، معركة شديدة حاسمة، ولجأ عبد الرحمن إلى الخديعة، فاتفق مع بعض قادة أبي الأسود على التقاعد والغدر، فهزم أبو الأسود هزيمة شديدة، وقتل من جنده عدة آلاف، وغرق عدد كبير في النهر، وطارده عبد الرحمن حتى قلعة رباح، ومزق جيشه كل ممزق (ربيع الأول سنة 168هـ - 784 م) (¬1). ولكن محمداً لم يخضع ولم يهن عزمه، فارتد إلى جهة الغرب ونزل بقورية، وعاد يحشد قواته لاستئناف القتال، وقوى أمره وبسط سلطانه على تلك الأنحاء، فسار عبد الرحمن لقتاله ثانية، وهاجم قورية ومزق شمل قواته (سنة 169 هـ - 785 م)، ففر في نفر من صحبه إلى بعض قرى طليطلة، وهنالك توفي لأشهر قلائل (سنة 170 هـ). فقام مكانه أخوه أبو القاسم بن يوسف، واقترن بزوجته، وعاد ينظم الثورة في طليطلة. فسار عبد الرحمن لقتاله قبل أن يستفحل أمره، ولم ير أبو القاسم بدا من الخضوع والتماس الصلح والعفو، فأجابه الأمير إلى ملتمسه، وصحبه معه إلى قرطبة، ورد إليه بعض أموال أسرته (¬2)، وطويت بذلك آخر مرحلة في ثورة ¬_______ (¬1) يضع الرازي تاريخ هذه الموقعة في أول ربيع الأول سنة 168 (ابن الأبار في الحلة السيراء ص 57) ويتبعه في ذلك ابن الأثير فيضع تاريخها سنة 168هـ. ولكن صاحب البيان المغرب يجعل تاريخها في سنة 169هـ (ج 2 ص 59). (¬2) ابن الأبار ص 56 و57؛ والبيان المغرب ج 2 ص 52 و59 و60، ويروي ابن الأثير أن عبد الرحمن لم يبق على أبي القاسم بل قتله (ج 6 ص 26).

الفهرية، بل كانت آخر ثورة قام بقمعها عبد الرحمن، ولم يعش بعدها سوى عدة أشهر. وهكذا أنفق عبد الرحمن جميع حكمه - ثلاثة وثلاثين عاما - في كفاح مستمر. وكانت مهمة عظيمة دونها خطوب فادحة. أن يطمح فتى شريد، يعمل القتل الذريع في أسرته وعصبته، وحيد ليس له أنصار ولا صحب، إلى افتتاح قطر عظيم زاخر بالقادة والجند، وأن يخضع ذلك القطر في حروب لا يخمد أوارها، وسيول من الدماء لا تنقطع، وأن يقيم ملكاً على بركان يضطرم من الثورة والمؤامرة والخصومة: تلك هي قصة عبد الرحمن الأموي، وهي قصة عجيبة ليست من حوادث التاريخ العادية، ولايقدم إلينا التاريخ كثيرا من أمثالها. ولكن عبد الرحمن كان رجل الموقف، وكانت حوادث الجزيرة (إسبانيا) وظروفها، وتمزق شملها، وتطلعها إلى زعامة قوية توحد كلمتها وقواها، وتسير بها نحو السلام والأمن، تفسح مجال الطموح والعمل لذهن جرىء مغامر كذهن عبد الرحمن. وكان عبد الرحمن يجمع إلى فيض جرأته، كثيراً من الذكاء والدهاء والعزم، ولم يكن عليه أن يخاطر بأكثر من تلك الحياة التي كادت تزهق غير مرة، وكان يحملها في كفه أمام مطارديه خلال القفر الشاسع. ولكن الغنم كان عظيما: كان ملكا بأسره، وكان بعث أسرة هَوَت ومجد عريض دثر. وسنعرض في الفصل القادم طرفا من خلال تلك الشخصية الباهرة، التي تتبوأ مكانها بين أسطع شخصيات التاريخ الإسلامي.

الفصل السادس خلال عبد الرحمن ومآثره

الفصل السادس خلال عبد الرحمن ومآثره (1) وفاة عبد الرحمن الداخل. شخصيته. أساليبه. إقدامه وجرأته وقسوته. بطشه بآله وأصدقائه. نزعته الميكافيللية. تعليقات دوزي على سياسته. خلاله الباهرة. وصفه بصقر قريش. (2) نوع رياسته. قطعه الدعاء لبني العباس. إحجامه عن التلقب بالخلافة. أقوال ابن خلدون في ذلك. نظام الحكومة في عهده. حجابه وأعوانه. استرابته بالعرب بعد الثقة فيهم. اصطناعه الموالي والبربر. سياسته نحو النصارى. مقدرته الإدارية. عنايته بالجيش والأسطول. تفكيره في غزو الشام. منشآته بقرطبة. الرصافة. السور الكبير. المسجد الجامع. (3) كرمه وتواضعه. نقش خاتمه. خلاله الأدبية. نثره وشعره. (4) عناصر المجتمع الأندلسي. العرب والبربر والمولدون. النصارى المعاهدون واليهود. - 1 - توفي عبد الرحمن الأموي في الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة 172 هـ (2 أكتوبر سنة 787 م) (¬1) وهو في نحو الثامنة والخمسين من عمره، بعد أن حكم الأندلس ثلاثة وثلاثين عاماً ملؤها الخطوب والفتن. فخلفه ولده هشام بعهد منه لأيام قلائل من وفاته. وانتظم بذلك سلك الدولة الأموية بالأندلس بعد أن تصرم بالمشرق، واستؤنفت حياة تلك الدولة الزاهرة، التي بلغ الإسلام على يدها ذروة الفتح والظفر، والتي ذهبت سراعاً كالحلم في عنفوان قوتها. ¬_______ (¬1) يختلف المؤرخون في تاريخ وفاة عبد الرحمن. ويستفاد من أقوال صاحب أخبار مجموعة أنها وقعت في أوائل سنة 172هـ (ص 116). ويوافقه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد على ذلك، فيقول إنها وقعت في 12 جمادى الأولى سنة 172 هـ (العقد الفريد ج 3 ص 201). ولكن ابن حيان مؤرخ الأندلس يضعها في 24 ربيع الآخر سنة 171هـ (المقري ج 2 ص 72). وهذه أيضا رواية ابن الأبار (الحلة ص 37). على أننا نرجح الرواية الأولى لقدمها، وهي أيضا رواية ابن عذارى حيث يضع وفاة عبد الرحمن في 24 ربيع الآخر سنة 172هـ (البيان المغرب ج 2 ص 60). ويضعها كل من ابن خلدون (ج 4 ص 124)، والمراكشي (المعجب ص 9) في سنة 172هـ دون تعيين الشهر. ويضعها ابن الأثير في ربيع الآخر سنة 171، ولكنه يرجح وقوعها سنة 172هـ (ج 6 ص 37).

كان سقوط الدولة الأموية بالمشرق مأساة من أروع مآسي التاريخ الإسلامي، وكانت تلك الشخصية التي قامت على كاهلها دعائم الدولة الجديدة، من أعظم شخصيات الحرب والسياسة. كان عبد الرحمن الأموي يتمتع بعبقرية ممتازة وخلال نادرة. وكان قرين جده العظيم معاوية بن أبي سفيان، ينشئ مثله دولة، ولكن في ظروف أسوأ من ظروفه، ويهزم الخطوب والحوادث، ويسحق خصومه في كل ميدان، ويوثر مثل السياسة العملية على كل اعتبار، ويذهب توا إلى الغاية بأي الوسائل. وكانت المحنة المروعة التي نزلت بأسرته، والظروف العصيبة التي يواجهها، والخصومات والأحقاد المستمرة التي تحيط به، تحمل خلاله القوية إلى ذروة التطرف، وتدفعه إلى التذرع بأشد الوسائل. فنراه يقرن وافر العزم بفيض من الجرأة والمغامرة واحتقار الخطر، ويقرن وافر الدهاء بنزوع إلى الخيانة والغدر والفتك، ويقرن وافر الحزم والصرامة بنزوع إلى القمع الذريع، ويذهب في الانتقام إلى حدود مروعة من القسوة. ومع ذلك فقد كان عبد الرحمن وفياً يحفظ العهد والصنيعة لمن أخلص له، وإن لم يحجم لأقل ريب أو بادرة عن الفتك بأعز أصدقائه وأقرب الناس إليه. وقد رأينا هذه الخلال واضحة بارزة، في كثير مما تقدم من حوادث حياته ونضاله، فرأيناه مرارا يلجأ إلى الغدر والاغتيال للتخلص من خصومه، ورأيناه في مواطن كثيرة يزهق دون تردد، كل من وقع في يده من أولئك الخصوم أو من ولدهم وصحبهم الأبرياء. وذهب عبد الرحمن في صرامته وقسوته إلى البطش بكثير من أصدقائه، الذين آزروه يوم مقدمه، شريدا لا عصبة له، وقاتلوا معه وقادوه إلى الظفر والحكم، وكان قد أولاهم في المبدأ ثقته وجعلهم عماد دولته. ومن هؤلاء بدر مولاه الذي جاب معه القفر وخاض الغمار، وكان مثالا للشجاعة والدهاء وبعد النظر، فإنه قدر في البداية خلاله وكفايته وولاه القيادة واختصه بأسمى المناصب والمهام، ولكنه تغير عليه في أواخر عهده، لما أبداه من التذمر وعدم الرضى، ولما وجهه إليه من عتاب خشن تجاوز فيه حد اللياقة، فنكبه وجرده من مناصبه وأمواله، وشرده عن قرطبة إلى قاصية الثغر، ولم يستمع إلى تضرعه حتى مات في فقر وضعة (¬1). ومنهم أبو عثمان رأس أنصاره، ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 69 و71، حيث يورد طرفا من الرسائل التي تبادلها عبد الرحمن وبدر، والتي انتهت بنكبة بدر. وراجع الإحاطة لابن الخطيب (1956) ج 1 ص 453.

وأول من تلقاه وآواه يوم مقدمه، فإنه جعله كبير دولته، فلما توطد أمره جرده من نفوذه، ولما وقعت المؤامرة التي دبرها بعض الوافدين من بني أمية، واتهم أبو عثمان بالاشتراك في تدبيرها استراب به، ولم ينقذه من بطشه إلا عظم صنيعه لديه. ولما ثار ابن أخت أبي عثمان في بعض حصون إلبيرة، لم يتردد عبد الرحمن في قتله حين ظفر به. وكذا تغير عبد الرحمن على عبد الله بن خالد، صهر أبي عثمان وزميله في مؤازرة عبد الرحمن ونصرته، وكان من وزرائه، ثم اعتزل المنصب، وتوارى لما رأى من غدر عبد الرحمن بزعيم اليمنية أبي الصباح، وكان أبو الصباح هو الذي جمع كلمة اليمنية في إشبيلية حول عبد الرحمن وقاتل معه بصحبه، ثم انحرف عنه لأمور نقمها منه، فاستدرجه عبد الرحمن إلى قرطبة وفتك به في نفس مجلسه بالقصر، ناكثا لعهوده كما قدمنا (¬1). بل لم يحجم عبد الرحمن عن الفتك بذويه وخاصة أسرته، حينما نمى إليه أنهم يأتمرون به، فقتل ابني أخيه عبيد الله بن أبان والمغيرة بن الوليد، وابن عمه عبد السلام اليزيدي حسبما فصلنا. والخلاصة أن عبد الرحمن كان يلجأ في تحقيق غاياته إلى أروع الأساليب والوسائل، وكان طاغية مسرفاً في البطش والسفك، مكيافيلليا (¬2) بكل معاني الكلمة. ولكن تلك الخلال المثيرة التي كان يحفزها ويذكيها الخطر الداهم، كانت عنوان قوته ووسيلة ظفره. يقول دوزي: " لقد دفع عبد الرحمن ثمن ظفره غاليا، ذلك الطاغية الغادر الصارم المنتقم، الذي لا تأخذه رأفة. ولم يبق زعيم عربي أو بربري، يجرؤ على مواجهته صراحة، ولكن الجميع كانوا يلعنونه خفية. ولم يك ثمة رجل يرغب في خدمته ". ثم يقول: " كان هم عبد الرحمن الدائم أن يذل العرب والبربر إلى الطاعة، وأن يرغمهم على التعود على النظام والسلام، وقد لجأ في تحقيق هذه الغاية إلى جميع الوسائل، التي لجأ إليها ملوك القرن الخامس عشر لسحق الإقطاع. بيد أنه كان مصيرا محزنا ذلك الذي دفع القدر إليه اسبانيا، وكانت مهمة محزنة تلك التي كان على خلفاء عبد الرحمن أن يضطلعوا بها. ذلك أن الطريق الذي رسمه لهم مؤسس الأسرة، كان طريق الطغيان يؤيده السيف. ولكن من الحق أن نقول إن ملكاً لا يستطيع أن يحكم العرب والبربر ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 67 و71. (¬2) نسبة إلى مكيافيللي صاحب المذهب السياسي المشهور، وخلاصته أن للأمير أن يتذرع في تحقيق الغاية بأى الوسائل، ومنها الغدر والخيانة والسفك وكل ما إليها.

بغير هذه الوسيلة، وإذا كان العنف والطغيان ثمة في ناحية، ففي الناحية الأخرى يوجد الاضطراب والفوضى " (¬1). على أن عبد الرحمن كان إلى جانب هذه الصفات المثيرة، يتمتع بكثير من الخلال الباهرة، وقد أجمل ابن حيان مؤرخ الأندلس خلاله في تلك العبارات القوية، قال: " كان عبد الرحمن راجح الحلم، فاسح العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئاً من العجز، سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولايسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، تم لاينفرد في إبرامها برأيه، شجاعاً مقداماً، بعيد الغور، شديد الحذر قليل الطمأنينة، بليغاً، مفوهاً، شاعراً، محسناً، سمحاً، سخياً، طلق اللسان " (¬2). وهذا التصوير الرائع الذي يقدمه لنا ابن حيان عن خلال تلك الشخصية الممتازة، إنما هو صورة بارزة من صور العظمة والبطولة، توضحها في جملتها، وفي تفاصيلها حياة عبد الرحمن في جميع أدوارها. ويشبهه ابن حيان أيضا بأبى جعفر المنصور في قوة الشكيمة، ومضاء العزم، وفي القسوة والصرامة والاجتراء على الكبائر (¬3). وإذا كانت هذه الصفات والخلال القوية المثيرة معا، لا تحمل على الحب، فإنها تحمل على الإعجاب بلا ريب. بل إن المتأمل ليشعر بعطف خاص نحو هذه الشخصية الفريدة، ويرجع ذلك بلا ريب إلى تلك الحياة المؤثرة، التي خاض عبد الرحمن غمارها، وتلك المحن الأليمة التي نزلت بأسرته، وتلك الجهود الفادحة التي بذلها لاسترداد حقه وحق أسرته في الحياة والرياسة. وكانت هذه الحياة المؤثرة وما انتهت إليه من النتائج الباهرة، تحمل ألد خصوم عبد الرحمن على احترامه والإعجاب به، حتى لقد سماه أبو جعفر المنصور " صقر قريش " في حديث طريف تنقله إلينا الرواية، وهو أن المنصور قال يوما لبعض أصحابه، " من صقر قريش من الملوك؟ " قالوا: أمير المؤمنين الذي راض الملك وسكن الزلازل وحسم الأدواء. قال ما صنعتم شيئا. قالوا فمعاوية، قال ولا هذا. قالوا ¬_______ (¬1) Dozy: Hist.V.I.p. 245, 248 (¬2) نقله نفح الطيب ج 2 ص 67. (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 156.

فعبد الملك بن مروان، قال لا. قالوا فمن يا أمير المؤمنين؟ قال: صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية، الذي تخلص بكيده عن سنن الأسنة وظباة السيوف، يعبر القفر، ويركب البحر، حتى دخل بلدا أعجميا منفردا بنفسه، فمصر الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا عظيما بعد انقطاعه، بحسن تدبيره وشدة شكيمته. إن معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان وذلل له صعبه، وعبد الملك ببيعة أبرم عقدها، وأمر المؤمنين بطلب عزته واجتماع شيعته، عبد الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس، وافتتح الثغور وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين (¬1). هذا وأما عن شخصه، فقد وُصف عبد الرحمن، بأنه كان مديد القامة، نحيف القوام، أعور، أخشم (¬2) له ضفيرتان، أصهب (¬3)، خفيف العارضين، له خال في وجهه (¬4). - 2 - كانت الأندلس حتى ولاية يوسف بن عبد الرحمن الفهري، ولاية من ولايات الخلافة الأموية. فلما انهار سلطان بني أمية، انفرد يوسف بالأمر، وغدت الأندلس في عهده إمارة مستقلة. وتلقى عبد الرحمن الأموي تراث الإمارة كما خلفه يوسف، ولم ينشئ رغم كونه سليل بني أمية، لنفسه شيئا جديدا من رسوم الملك. وتلقبه الرواية الاسلامية أحياناً بالأمير، وأحيانا بالإمام (¬5)، ويلقب أيضا بصاحب الأندلس (¬6). ويعرف بعبد الرحمن الداخل لأنه أول من دخل الأندلس من أمراء بني أمية وحكمها، ويعرف أيضا بعبد الرحمن الأول، لأنه أول أمراء ثلاثة من بني أمية بهذا الاسم حكموا الأندلس، هم عبد الرحمن الداخل، ¬_______ (¬1) راجع أخبار مجموعة ص 118 و119؛ والبيان المغرب ج 2 ص 61 و62، وبين الروايتين اختلاف يسير في الألفاظ. (¬2) هو الذي فقد حاسة الشم. (¬3) من الصهبة والصهوبة وهي احمرار الشعر. (¬4) نفح الطيب ج 1 ص 156؛ وابن الأثير ج 6 ص 37. (¬5) راجع أخبار مجموعة ص 100 - 104 حتى نهاية الحديث عن عبد الرحمن، وابن خلدون ج 4 ص 122، والبيان المغرب ج 2 ص 51 وما بعدها، وص 60، حيث ينعت عبد الرحمن بالإمام، وكذلك نفح الطيب ج 2 ص 74، والروض المعطار (القاهرة 1937) ص 186. (¬6) ابن الأثير ج 6 ص 37، والبيان المغرب ج 2 ص 50.

وحفيده عبد الرحمن الأوسط (ابن الحكم)، ثم عبد الرحمن الناصر. وكانت الدعوة العباسية قد انتهت إلى الأندلس حين مقدم عبد الرحمن، وذاعت في منابرها، ودعى في الخطبة لبني العباس في كثير من النواحي، ثم دعى لهم في قرطبة ذاتها، ودعى عبد الرحمن الداخل نفسه لأبى جعفر المنصور مدى أشهر، وكان ذلك رغم غرابته وتناقضه، عملا من أعمال السياسة. ولكن جماعة من بني أمية الذين وفدوا على الأندلس، وعلى رأسهم عبد الملك المرواني، اعترضوا على هذا التصرف، ونوهوا بما أثم به بنو العباس في حق بني أمية، وما زالوا بعبد الرحمن حتى قرر قطع ذكر بني العباس من الخطبة (139هـ)، فقطعت من سائر منابر الأندلس (¬1). ولكن عبد الرحمن لم يحاول أن يتخذ سمة الخلافة قط، رغم كونه سليل أقيالها. ويرجع ذلك إلى اعتبارات دينية وسياسية، يجملها ابن خلدون في قوله، إن بني أمية بالأندلس " تلقبوا كسلفهم مع ما علموه من أنفسهم من القصور عن ذلك، بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة، والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية، وأنهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم عن مهالك بني العباس " (¬2). ويقول لنا في موضع آخر إن عبد الرحمن لم يتخذ سمة الخلافة تأدبا منه في حق الخلافة بمقر الإسلام ومنتدى العرب (¬3). ويقول المسعودي إن الخلافة لم يكن يستحقها عند بني أمية إلا من كان مالكا للحرمين، ولذلك سموا بالخلائف، حتى بعد أن تسموا بالخلافة ولم يخاطبوا بالخلفاء (¬4). وعلى أي حال فإن بواعث السياسة العملية، هي التي حملت عبد الرحمن على سلوك هذا المسلك، والحرص على عدم التورط في رسوم لم يحن الوقت لاتخاذها، والدخول بذلك مع الخلافة العباسية القوية في منافسة لا تؤمن عواقبها. وأما عن نظام الحكومة، فقد اتبع عبد الرحمن الداخل سنة أسلافه بالمشرق في تبسيط الرسوم والنظم، وأنشأ منصب الحجابة، ولكنه لم ينشىء مناصب الوزارة، بل استعاض عنها بأعوان وأشياخ يعاونونه في القيام بمهام الحكم، وليست لهم سمة الوزارة، وإنما هم أقرب إلى الخاصة وأهل الشورى. واختار أعوانه في ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 78، وابن الأبار في الحلة السيراء (ليدن) ص 33. (¬2) المقدمة ص 190. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 122. (¬4) المسعودي في مروج الذهب (بولاق) ج 1 ص 78.

البداية من أصدقائه، الذين استقبلوه يوم مقدمه، وآزروه وقاتلوا معه، فولى حجابته تمام بن علقمة، ثم ولاها من بعده ليوسف بن بخت الفارسي مولى عبد الملك ابن مروان، ثم عبد الكريم بن مهران الغساني، ثم عبد الرحمن بن مغيث ولد مغيث فاتح قرطبة، وولاها في آخر أيامه لمنصور الخصي، فلم يزل في حجابته حتى توفي. وعين لمشورته أبا عثمان عبيد الله بن عثمان كبير أنصاره، وصهره عبد الله بن خالد، فكانا مدى حين دعامة حكومته. وكان من أعوان حكومته أيضا جدار بن عمرو، وأبو عبدة حسان بن مالك زعيم إشبيلية، وشهُيد بن عيسى ابن شهيد، وعبد السلام بن بسيل الرومي، وهما من موالي بني أمية، وثعلبة ابن عبيد الجذامي الذي ولاه سرقسطة فيما بعد، وعاصم بن مسلم الثقفي وهو من خاصة أنصاره يوم المسارّة. وولى قيادة عسكره مولاه بدرا، وتمام بن علقمة، وعبد الملك المرواني، وثعلبة بن عبيد، وغيرهم من خاصة عصبته، وقد كان عبد الرحمن يتولى بنفسه قيادة الجيش، في معظم الوقائع والحروب التي نشبت بينه وبين خصومه كما رأينا. وولى عبد الرحمن على الكور والثغور جماعة مختارة من أصدقائه، وذوى رحمه الوافدين عليه حسبما فصلنا في مواضعه. وعلى الجملة فقد كانت حكومة عبد الرحمن الداخل تقوم في البداية بالأخص على العصبية والموالاة، وكانت عربية في بنائها وروحها، ولكن الخصومة المستعرة التي شهرها زعماء القبائل والبطون المختلفة على عبد الرحمن، والثورات المستمرة التي عملوا على إضرامها من حوله، ونكثهم المتكرر بعهودهم، حمله على الاسترابة بالعرب والحذر منهم، فمال عنهم إلى اصطناع الموالي والبربر، ولاسيما بربر العُدوَة (المغرب) وحشد حوله من الموالي والبربر والرقيق آلافاً مؤلفة، لتكون له وقت الحاجة عونا يركن إليه ويثق به. وكان ذلك قاعدة للسياسة التي سار عليها خلفاء عبد الرحمن الداخل من بعده، والتي بلغت ذروتها في عهد عبد الرحمن الناصر، كما نفصل في موضعه (¬1). وأما عن سياسة عبد الرحمن نحو رعاياه النصارى (المستعربين)، ونحو نصارى الشمال، فقد كانت سياسة اعتدال ومهادنة. وكان من الواضح أنه نظراً لاشتغاله المستمر بأمر الثورات الداخلية، لم يفكر في غزو أرض النصارى، وأنه ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 1 ص 156، وج 2 ص 67.

كان يرحب بعقد السلم والمهادنة معهم. وهذا الأمان الذي يقال إن عبد الرحمن أصدره لجيرانه نصارى قشتالة يؤيد هذه السياسة وهذا نصه: " بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب أمان الملك العظيم عبد الرحمن، للبطارقة والرهبان والأعيان والنصارى والأندلسيين أهل قشتالة، ومن تبعهم من سائر البلدان. كتاب أمان وسلام، وشهد على نفسه أن عهده لا ينسخ ما أقاموا على تأدية عشرة آلاف أوقية من الذهب وعشرة آلاف رطل من الفضة، وعشرة آلاف رأس من خيار الخيل، ومثلها من البغال، مع ألف درع وألف بيضة ومثلها من الرماح، في كل عام إلى خمس سنين، كتب بمدينة قرطبة ثلاث صفر عام اثنين وأربعين ومائة (759 م) " (¬1). وكان عبد الرحمن الداخل يتمتع بمواهب إدارية باهرة، فاستطاع خلال الاضطراب الشامل أن يوطد دعائم الحكم والإدارة، وأن يقمع كثيراً من ضروب الفساد والبغي، وأن يؤيد هيبة القانون والنظام. ولما توطد سلطانه وخبا ضرام الثورة نوعاً، استطاعت الأندلس أن تتمتع في ظل حكومته بأمن وطمأنينه ورخاء لم تعرفها منذ بعيد، ولو لم يُشغل عبد الرحمن طوال عهده بقمع الثورة والفتن الداخلية، لاستطاع كأسلافه الفاتحين الأوائل، أن يبعث الأندلس خلقا جديدا، وأن يجعل منها حديقة يانعة. على أنه ذلل الصعب ومهد الطريق لعقبه، واستطاع أن يضع دعائم تلك المملكة، التي غدت على يد بنيه أعجوبة العصور الوسطى. وينوه ابن حيان مؤرخ الأندلس بمقدرة الداخل وكفاياته الإدارية فيقول إنه " دون الدواوين، ورفع الأواوين، وفرض الأعطية، وعقد الألوية، وجند الأجناد، ورفع العماد، وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، وأخذ للسلطان عدته " (¬2). وعنى عبد الرحمن بالجيش عناية خاصة، فحشد المتطوعة والمرتزقة من كل صوب، وبلغت قواته مائة ألف مقاتل (¬3)، هذا عدا حرسه الخاص الذي أنشأه ¬_______ (¬1) أورد ابن الخطيب في كتاب الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) نص هذا الكتاب ونقله عنه الغزيري في فهرسه. راجع Casiri: Bibliotheca Arabico - Hispana Escurialenses.Vol.II.p. 104. بيد أننا نرتاب على الأقل في صحة الأرقام التي وردت به لضخامتها بالنسبة لموارد النصارى في هذا العصر. (¬2) نقله نفح الطيب ج 1 ص 155. (¬3) نفح الطيب ج 2 ص 74.

من الموالي والبربر والرقيق حسبما قدمنا ويبلغ زهاء أربعين ألفا (¬1). كذلك عنى عبد الرحمن في أواخر عهده بأمر القوات البحرية، فأنشأ عدة قواعد لبناء السفن في بعض الثغور النهرية والبحرية، مثل طركونة وطرطوشة وقرطاجنة وإشبيلية وغيرها (¬2). ويقال إن عبد الرحمن الداخل لما توطد ملكه، وكثرت قواته وعدته، فكر في استرداد ملك بني أمية بالشام، والرحيل إلى المشرق ببعض قواته، واستخلاف ولده سليمان على الأندلس، وأيده في ذلك خاصة أسرته ومواليه. وكان ذلك في سنة 163هـ. ولكن اضطرام الثورة في سرقسطة حال بينه وبين ذلك العزم، وتوفي قبل أن تسنح فرصة لتنفيذه (¬3). وقد تكون هذه أمنية جالت بذهن عبد الرحمن، ولكنا لا نجد في ظروف حياته التي انقضت كلها في إخماد الفتن والثورات المحلية، ما يسمح باعتبار مثل هذه الأمنية مشروعاً جدياً تتخذ العدة لتنفيذه. واستطاع الداخل أيضاً أن يعني بالحاضرة الأموية الجديدة أعني قرطبة، فحصنها وزينها بالمنشآت الفخمة والرياض اليانعة. وكان أول ما أنشأ بها في عهده منية الرُّصافة وقصرها المنيف. وكان قصر الإمارة بناء قديماً ساذجاً يرجع إلى عهد القوط، فرأى عبد الرحمن أن ينشئ ضاحية ملوكية جديدة، تليق بحاضرة ملكه، وتعيد ذكرى بهاء بني أمية بالمشرق، فأنشأ في شمال غربي قرطبة قصراً فخماً تحيط به حدائق زاهرة، وجلب إليها مختلف الغروس والبذور والنوى من الشأم وإفريقية، وسمى تلك الضاحية الجديدة بالرُّصافة تخليداً لذكرى الرُّصافة التي أنشأها جده هشام بالشأم، واتخذها مقاماً ومنتزهاً ومركزاً للإمارة، وكانت حدائق الرصافة أماً لحدائق الأندلس، ومنها انتشرت بالأندلس غروس الشام وإفريقية (¬4). وفي سنة 150هـ بدأ عبد الرحمن بإنشاء سور قرطبة الكبير، واستمر العمل فيه مدى أعوام (¬5). وأنشأ عبد الرحمن في قرطبة وفي باقي مدن الأندلس مساجد محلية عديدة، وبدأ في أواخر أيامه (سنة 170 هـ - 786 م) بإنشاء المسجد ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 67. (¬2) Reinaud: ibid , p. 120 (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 156، وج 2 ص 76. (¬4) نفح الطيب ج 1 ص 217. (¬5) ابن خلدون ج 4 ص 123.

الأموي الجامع بقرطبة، وكان موضعه كنيسة قوطية قديمة، وجلب إليه الأعمدة الفخمة والرخام المنقوش بالذهب واللازورد. ولكنه توفي قبل إتمامه، فأتمه ولده هشام، وزاد فيه من بعده ملوك بني أمية، حتى غدا أعظم مساجد الأندلس، وبلغ ما أنفقه عليه الداخل وحده زهاء مائة ألف دينار (¬1). وأنشأ عبد الرحمن أيضا في قرطبة داراً للسكة، تضرب فيها النقود على نحو ما كانت تضرب في دمشق أيام بني أمية وزناً ونقشاً. - 3 - وكان عبد الرحمن الأموي جواداً، جم البساطة والتواضع، يؤثر لبس البياض ويعتم به، يصلي بالناس أيام الجمع والأعياد، ويحضر الجنائز ويصلى عليها، ويعود المرضى، ويزور الناس ويخاطبهم، ولم ينحرف عن هذه الديمقراطية إلا في أواخر عهده، حينما نصحه بعض خاصته بالترفع، استبقاء لهيبة الملك، والحذر من بوادر العامة وشر المتآمرين (¬2). وقد كان في نقش خاتمه " عبد الرحمن بقضاء الله راض " و" وبالله يثق عبد الرحمن وبه يعتصم " ما ينم عن ذلك التواضع الجم (¬3)، حيث لم يتخذ لقب المظفر أو الناصر أو المنصور وما إليها. بقي أن نتحدث عن ناحية أخرى من خلال عبد الرحمن البديعة، هي الناحية الأدبية. كان عبد الرحمن شاعراً جيد النظم، ناثراً فصيح البيان، قوى الترسل، عالماً بالشريعة، وكان يعتبر من أعظم بني مروان مكانة في البلاغة والأدب (¬4). وقد انتهت إلينا بعض رسائله وفيها تبدو قوة بيانه وفيض بلاغته. ومن ذلك رسالة موجزة وجهها إلى سليمان بن يقظان حين خروجه عليه: " أما بعد، فدعني من معارض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق، لتمدن يداً إلى الطاعة، والاعتصام بحبل الجماعة، أو لألقين بناتها على رصف المعصية، نكالا بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد ". ومنها رسائله إلى بدر مولاه، يزجره عن تمرده وانحرافه وقد كتب إليه حين ألحف في طلب العفو والمنة: " لتعلم أنك لم تزل بمقتك حتى ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 155، والبيان المغرب ج 2 ص 60. (¬2) نفح الطيب ج 2 ص 67. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 50، ونفح الطيب ج 2 ص 76. (¬4) البيان المغرب ج 2 ص 60 و62؛ ونفح الطيب ج 2 ص 69؛ والمراكشي في المعجب ص 10.

ثقلت على العين طلعتك، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر ... ". ومن أقواله لأصحابه يوم المسارّة يشحذ هممهم للقتال: " هذا اليوم هو أس ما يبنى عليه، إما ذل الدهر وإما عز الدهر، فاصبروا ساعة فيما لا تشتهون، تربحوا بها بقية أعماركم فيما تشتهون " (¬1). وانتهى إلينا من نظم عبد الرحمن ما يدل على قوة شاعريته ورقة خياله. فمن ذلك قوله حين بلغه أن بعض أصدقائه يمن عليه، ويزعم أنه لولاه لما صار الملك إليه: سعدي وحزمي والمهند والقنا ... ومقادير بلغت وحال حائل إن الملوك مع الزمان كواكب ... نجم يطالعنا ونجم آفل والحزم كل الحزم أن لا يغفلوا ... أيروم تدبير البرية غافل ويقول قوم سعده لا عقله ... خير السعادة ما حماها العاقل وأشاد بعضهم أمامه بموقف الغمر بن يزيد بن عبد الملك في مجلس عبد الله ابن علي جلاد بني أمية، ونعيه عليه إثمه في حقهم وسفكه لدمائهم، وفقده لحياته ثمناً لجرأته، فأنشد عبد الرحمن: شتان من قام ذا امتعاص (¬2) ... فشال ما قال واضمحلا ومن غدا مصلتا لعزم (¬3) ... مجرداً للعداة نصلا فجاب قفراً وشق بحراً ... ولم يكن في الأنام كلاّ فبز ملكاً وشاد عزاً ... ومنبراً للخطاب فصلا وجند الجند حين أودى ... ومصر المصر حين أجلى ثم دعا أهله جميعاً ... حيث انتأوا أن هلم أهلا (¬4) ومن قوله في التشوق إلى ربوع الشام، وهو رقيق مؤثر: أيها الركب الميمم أرضي ... أقر من بعضي السلام لبعضي إن جسمي كما علمت بأرض ... وفؤادي ومالكيه بأرض ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 68 - 70، حيث يورد عدة من رسائل عبد الرحمن وأقواله. (¬2) يريد الغمر بن يزيد بن عبد الملك. (¬3) يريد نفسه أى عبد الرحمن الداخل. (¬4) هكذا يوردها المقري (نفح الطيب ج 2 ص 68)؛ ولكن صاحب البيان المغرب يوردها بصورة أخرى ج 2 ص 61).

قدر البين بيننا فافترقنا ... وطوى البين عن جفوني غمضى قد قضى الله بالفراق علينا ... فعسى باجتماعنا سوف يقضى ورأى بروض الرصافة وهي الضاحية الجديدة التي أنشاها، نخلة منفردة، فأثار منظرها في نفسه ذكرى وشجناً وأنشد (¬1): تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بنيي وعن أهلي نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي سقتك غوادي المزن من صوبها ... الذي يسح ويستمرىء السماكين بالويل (¬2) - 4 - هذا ويجب أن نستعرض هنا، وقبل اختتام الكلام على عصر عبد الرحمن الداخل، عناصر المجتمع الأندلسي، الذي كان خلال هذه الأحداث والخطوب التي توالت عليه منذ أيام الفتح، قد استقر، وأخذت جذوره في التوطد والرسوخ، وأخذت عناصره المختلفة، يؤدى كل منها دوره في غمرة الحوادث، مستهديا بعواطفه وأمانيه ومثله الخاصة. وقد سبق أن أشرنا بإيجاز إلى أن المجتمع الإسلامي الذي قام في شبه الجزيرة عقب الفتح، كان يتألف من عناصر رئيسية ثلاثة، هي العرب، والبربر، والمولدون. كما أشرنا إلى عناصر الشقاق والتفرق التي كانت تعمل في صفوف هذا المجتمع الإسلامي الجديد. كانت البطون العربية التي اشتركت في الفتح، واستقرت في شبه الجزيرة تضطرم منذ البداية بروحها القبلي المتأصل، ولم تستطع قط أن تتحرر من هذا ¬_______ (¬1) وينسب هذا الشعر أيضا لعبد الملك بن بشر بن عبد الملك بن مروان، وكان من الداخلين إلى الأندلس (راجع الحلة السيراء ص 34). (¬2) يورد ابن الأبار في هذا الموطن رواية يفهم منها أن هذه النخلة هي أول نخلة غرست بالأندلس، ومنها تولد جميع النخيل بالأندلس فيما بعد، وإذا فيكون عبد الرحمن الداخل هو أول من نقل غراس النخيل بالأندلس فيما نقل من غراس الشام إلى الرصافة (الحلة السيراء ص 35). ولكن يحق لنا أن نلاحظ أن العرب فتحوا الأندلس قبل ذلك بنحو ثمانين عاما، ومن قبلها فتحوا إفريقية؛ ومن المعقول أن يكون النخل قد نقل إليها فيما نقلوا من غراس بلادهم؛ وقد نقلوه قبل ذلك إلى مصر منذ الفتح. وإذا كان النخيل قد غرس بإفريقية عقب افتتاحها، أفلا يكون من المرجح أنه قد نقل منها إلى الأندلس عقب افتتاحها أيضا؟ وقد كان أول ما عنى به العرب في الأندلس تنظيم الزراعة وغرس الحدائق.

الروح النكد، الذي أشاع فيما بينها عوامل الشقاق والتنابذ، وأثار فيما بينها غير مرة ضرام الحرب الأهلية. وقد رأينا كيف عانت الأندلس في أواخر عهد الولاة من هذه الحرب الأهلية، التي اضطرمت بين المضرية واليمنية وبين البلديين والشاميين، وكيف كادت تودي بسلامة الأندلس ومنعتها. ثم رأينا كيف قضى عبد الرحمن الداخل معظم عهده في مكافحة الثورات المتعاقبة التي شهرها في وجهه زعماء القبائل والبطون في سبيل الاحتفاظ بسلطانهم المحلي. وهكذا كانت القبائل العربية في الأندلس منقسمة على نفسها، وإن كانت الرياسة قد بقيت فيها على يد الدولة الأموية الجديدة التي قامت في شبه الجزيرة. بيد أن العرب لم يكونوا بين كتلة الأمة الأندلسية أغلبية، بل كانوا بالعكس أقلية تتمثل بالأخص في الأرستقراطية العربية التي استأثرت بمعظم مغانم الفتح، واستولت حينا على أزمة الحكم، واحتلت في شبه الجزيرة معظم البقاع الخصبة. وقد ذكر لنا ابن غالب في " فرحة الأنفس "، كثيراً من البطون العربية التي استقرت بالأندلس، وبعض من كان ينتمي إليها من الأسر الأندلسية النابهة، وذكر لنا من منازلها، بلنسية وأوريولة وإشبيلية وغرناطة ووادي آش (¬1). وكانت الأرستقراطية العربية تستقر بالأخص في القواعد والمدن الكبيرة، ولا سيما في قرطبة، وتترك العمل في ضياعها الشاسعة للموالي والبربر، وكان أمراء بني أمية منذ عهد عبد الرحمن الداخل يعملون على مقارعة هذه الأرستقراطية القوية وإخضاعها، حتى جاء عبد الرحمن الناصر، فقضى على سلطانها السياسي والاجتماعي، ورفع إلى مكانها الموالي والصقالبة، ثم جاء المنصور بن أبي عامر، فعمل على تمزيقها وتشتيتها، وخلق أرستقراطية جديدة من البربر تقوم مكانها، ومن ذلك الحين تغيض الأصول العربية في شبه الجزيرة تباعا، وتضمحل مكانتها وأهميتها. ويرجع انكماش العنصر العربي في الأمة الأندلسية، أولا إلى كونه يمثل الطبقة الممتازة وهي تكون الأقلية دائما، وثانيا إلى أن الهجرة العربية إلى شبه الجزيرة لم تكن هجرة غزيرة، وقد توقفت تقرييا منذ القرن الثالث الهجري، ولم يكن ما ينسب للأمراء والكبراء من كثرة النسل، لامتلاء قصورهم بالجواري، مما يعوض هذا النقص العنصري. وإلى جانب الأقلية العربية الأرستقراطية، يجب أن نذكر طائفة الموالي التي ¬_______ (¬1) نقله المقري في نفح الطيب ج 1 ص 136 و137.

كانت تنتمى اليها أولا وتشد بأزرها، ثم انقلبت عليها فيما بعد حينما تمكنت واشتد نفوذها. وقد نمت هذه الطائفة بمر الأيام. وظهر منها كثير من القادة والزعماء النابهين، الذين شغلوا أعظم المناصب في الدولة وفي الجيش، مثل بني شُهيد، وبني مغيث وبني عَبْدَه، وبني جهور، وبني بسيل، وهم الذين شغلوا مناصب القيادة والحجابة أجيالا. والى جانب هؤلاء، يجب أن نذكر طائفة الصقالبة الأجانب التي ظهرت أهميتها منذ أيام عبد الرحمن الداخل، وبلغت ذروة تضخمها ونفوذها أيام عبد الرحمن الناصر. وقد كان بنو أمية يؤثرون اصطناع هؤلاء الموالي والإفادة من عونهم وتأييدهم. وأما العنصر الثاني الذي كانت تتكون منه الأمة الأندلسية فهو عنصر البربر. وقد قام البربر حسبما رأينا بأكبر قسط في فتح الأندلس، وفي الغزوات التي اضطلعت بها الجيوش الاسلامية فيما وراء البرنيه، وكانوا في معظم الأحيان أغلبية في تلك الجيوش، وإن كانت القيادة قد لبثت على الأغلب في أيدي القادة والضباط العرب. وكانت هجرة القبائل البربرية إلى شبه الجزيرة أسرع وأشد كثافة من هجرة العرب، أولا لقرب منازلهم في العدوة من شبه الجزيرة، وثانيا لشعورهم بما كان لهم من فضل في أعمال الفتح، وثالثا لما كان يحفزهم من آمال في البحث وراء طالعهم في هذا القطر الجديد، الذي كانت وديانه الخضراء تجذبهم من بواديهم المقفرة. وقد استمرت هجرة البربر على هذا المنوال أجيالا، بينما كانت هجرة العرب من منازلهم البعيدة في شبه الجزيرة العربية وفي الشام بطيئة محدودة أضف إلى ذلك ما عمد إليه أمراء بني أمية، منذ عهد عبد الرحمن الداخل من اصطناع البربر إلى جانب الموالي والصقالبة، والاستعانة بهم في تدعيم سلطانهم، لاسترابتهم بالقبائل العربية. وقد بلغت هذه السياسة كما سنرى فيما بعد ذروتها في عهد المنصور بن أبي عامر، حيث انثالت القبائل البربرية على شبه الجزيرة، واحتل زعماؤها معظم المناصب الكبيرة، وأضحى سواد الجيش مؤلفا منها. وقد كانت معظم البطون البربرية المهاجرة تنتمي بالأخص إلى زناتة ومصمودة ومكناسة ونفزة والبرانس، واشتهرت من هذه البطون بالأخص، مدغرة ومديونة ومكناسة وهوارة. ومنها خرج فيما بعد أمراء كثير من القواعد والثغور، وقامت من بينها ممالك من دول الطوائف. وقد كان البربر أكثرية في الشمال الغربي، وفي وسط الأندلس في منطقة جبال المعدن (أو جبال البرانس)، وفي أراضي السهلة

ووادي الحجارة، ومنطقة شرقي إشبيلية والفرنتيرة، وهي مناطق تمتاز على الأغلب بهضابها الوعرة، وهو ما كان يشجع البربر في أحيان كثيرة على الثورة ومقاومة الحكومة المركزية للمحافظة على استقلالهم المحلي (¬1). والعنصر الثالث الذي كانت تتكون منه الأمة الأندلسية هو عنصر المولدين، وهم القوط والإسبان الذين أسلموا منذ الفتح، ودخلوا حظيرة المجتمع الإسلامي إلى جانب زملائهم العرب والبربر، مؤثرين أن يتمتعوا في ظل الإسلام بمزايا المساواة والثقة، والتحرر من القيود والأعباء التي تلاحق الذميين. ويعرف أولئك المولدون في الإسبانية بالخوارج أو المرتدين Renegados، أي الذين ارتدوا عن دينهم القديم، وهو النصرانية، ويسمون أحيانا بالمسالمة أو بالأسالمة أو أسالمة أهل الذمة، متى كان إسلامهم حديثا. وكان المولدون يكونون بين السكان كتلة كبيرة ربما كانت الأغلبية، وقد كان إسلامهم سريعاً، ولم يأت جيل أو اثنان حتى استطاعوا الاندماج في المجتمع الإسلامي، وأضحى من الصعب تمييزهم من المسلمين الأصليين، وغدوا بمضي الزمن عنصرا من أهم عناصر السكان إن لم يكن أهمها جميعاً، سواء من حيث الكثرة أو المستوى الاجتماعي والحضاري. وإلى جانب هذه العناصر الأساسية الثلاثة، التي كانت تتكون منها الأمة الأندلسية، كان ثمة عنصران آخران هما المستعربون أو النصارى المعاهدون Mozarabes وهم النصارى الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم القديم، ولبثوا يعيشون في المدن والأراضي المفتوحة تحت الحكم الإسلامي، وقد كانت منهم ثمة أقليات كبيرة في بعض المدن مثل طليطلة وقرطبة، واليهود، وقد رأينا كيف ساعدوا الفاتحين المسلمين وقت الفتح، وتعاونوا معهم في حفظ المدن المفتوحة وإدارتها، وقد كانت منهم أقليات في معظم المدن الأندلسية، تتمتع بحماية الحكومات الإسلامية ورعايتها. وقد ازدهرت هذه الأقليات اليهودية فيما بعد، وظهرت منها شخصيات بارزة تولت مناصب كبيرة في الدولة، وغلب نفوذها في بعض المناطق، كما حدث في مملكة غرناطة البربرية، وظهرت كذلك في ميدان العلوم والآداب، ونبغ منها علماء نابهون مثل ابن ميمون وغيره. تلك هي العناصر المختلفة التي كانت تتألف منها الأمة الأندلسية. وسوف نعود من آن لآخر إلى التحدث عن هذه العناصر في مختلف المواطن والمناسبات. ¬_______ (¬1) يحدثنا ابن حزم تفصيلا عن منازل البربر في الأندلس. راجع جمهرة أنساب العرب (القاهرة) ص 463 - 467.

الفصل السابع المملكة النصرانية الشمالية

الفصل السابع المملكة النصرانية الشمالية منذ قيامها إلى ولاية ألفونسو الثاني بعث المملكة النصرانية في الشمال. اجتماع فلول النصارى في الهضاب الشمالية. الدوق بتروس وبلاجيوس. نشوء المملكة النصرانية. صمت إيزيدرو الباجي عن ذكرها. أقوال الرواية الإسلامية. امارة جليقية والصخرة. رأى لابن خلدون في شأنها. إغفال الفاتحين لأمرها. حملات المسلمين عليها. ارتدادهم عن تلك الهضاب. اجتماع النصارى حول بلاجيوس. حملة ابن أبي نسعة على جليقية. إغارة النصارى على الأراضي الإسلامية. غزو عقبة بن الحجاج لجليقية. نمو المملكة النصرانية. وفاة بلاجيوس. ولده فافيلا. إمارة كانتابريا. تحالفها مع جليقية. اتحادهما تحت ولاية ألفونسو الأول. ألفونسو الأول أو الكاثوليكي. اجتياحه للأراضي الإسلامية. استيلاؤه على أسترقة. أخوه فرويلا أمير كانتابريا. استيلاء ألفونسو على مدينة لك. حملة يوسف الفهري لإنقاذ أربونة. القتال بينه وبين البشكنس. عبور ألفونسو لنهر دويرة. وفاة فرويلا. وفاة ألفونسو. فرويلا الأول. استيلاؤه على شلمنقة وشقوبية وسمورة وقشتالة. اختلاف الرواية الإسلامية في تاريخ هذه الغزوة. خطر المملكة النصرانية. عبد الرحمن الأموي يرسل حملة إلى جليقية. غزو ألبة والقلاع. ما تقوله الرواية النصرانية عن موقعة بونتومو. ثورات النصارى على فرويلا. غزوه لنافار. بطشه وسفكه. إنشاؤه لمدينة أوبييدو. وفاته. انقسام المملكة. ولاية أورليوس للولايات الشرقية. ولاية سيلو للولايات الغربية. وفاة أورليوس. ولاية سيلو على المملكة كلها. الصلح بينه وبين المسلمين. وفاة سيلو. اضطراب المملكة. قيام مورجات ولد ألفونسو الأول. فرار ألفونسو ابن فرويلا إلى ألبة. تحالف مورجات مع المسلمين. أقوال الرواية الاسلامية. وفاة مورجات. ولاية برمند الأول لجليقية. تحالفه مع ألفونسو. تخلي برمند وولاية ألفونسو على المملكة كلها. أسطورة القديس يعقوب وقيام مدينة شنت ياقب. عزلة المملكة الشمالية. خواص مجتمعها. نقف الآن قليلا في تتبع أخبار دولة الإسلام في الأندلس، لنأتي على أخبار دولة متواضعة أخرى، قامت في اسبانيا إلى جانب الدولة الإسلامية في نوع من الخفاء والصمت، ولم يشعر المسلمون بمولدها ولا نموها في أعوامها الأول، ولم يقدروا أهميتها حين شعروا وجودها، ولم يعنوا بأمرها إلا حينما نمت وانتظمت إلى قوة تستطيع العدوان والمقاومة: تلك هي المملكة الإسبانية النصرانية التي يجب أن تأخذ منذ الآن مكانها في تاريخ شبه الجزيرة، إلى جانب دولة الإسلام فيها. ولم يكن قيام هذه المملكة الناشئة، سوى طور جديد في حياة تلك المملكة

القوطية التي سحقها العرب عند فتح الأندلس (92 هـ - 711 م)، والتي قامت بعد ذلك تستأنف حياتها ضئيلة متواضعة، في قاصية اسبانيا الشمالية الغربية وفيما وراء الصخر، ثم لبثت تنمو بطيئة ولكن ثابتة، حتى رسخت دعائمها في هاتيك الهضاب، وبدأت بعد ذلك معركة الحياة والموت، مع تلك المملكة الإسلامية التي قامت في الجنوب، على أنقاض مملكة القوط القديمة، وهي معركة تشغل منذ الآن حيزاً كبيراً في تاريخ الإسلام في اسبانيا. وقد نشأت المملكة الإسبانية النصرانية في ظروف كالأساطير، ونشأت في نفس الوقت الذي افتتح فيه العرب اسبانيا، وسحقوا دولة القوط القديمة. ففي موقعة شَريش التي مزق فيها جيش القوط وقتل آخر ملوكهم ردريك (لذريق) (92 هـ)، فرت شراذم قليلة من الجيش المنهزم إلى الشمال، واختفت فيما وراء تلك الجبال الشمالية، التي وقف عندها تيار الفتح الإسلامي، واجتمعت بالأخص في هضاب كانتابريا (نافار وبسكونية) في الشرق، وفي هضاب أشتوريش (¬1) في الغرب، واجتمع فل النصارى في الهضاب الشرقية تحت لواء زعيم يدعى الدوق بتروس، واجتمع فلّهم في الهضاب الغربية في جليقية تحت لواء زعيم يدعى بلاجيوس أو بلايو. وكان بتروس ينتمي إلى أحد الأصول الملكية، وكان من قادة الجيش في عهد وتيزا ملك القوط، ثم في عهد خلفه ومغتصب ملكه ردريك. أما بلاجيوس أو بلايو فيحيط الغموض بأصله ونشأته، ولكن يبدو مما تنسبه إليه الرواية من ألوان الوطنية والبسالة والبطولة، أنه كان رفيع المنبت والنشأة، وتقول بعض الروايات إنه ولد الزعيم فافيلا (¬2) الذي قتل الملك وتيزا في هضاب جليقية، وإنه كان لذلك من خاصة الملك ردريك وقادته. وهذا ما يردده سيمونيت إذ يقول في أصل بلاجيوس ما يأتي؛ " وكان الحزب المتمسك بدينه ووطنه، المنكر لخيانة أولاد وتيزا، قد اختار له رئيساً رفيع المواهب هو الدون بلايو بن فافيلا، من سلالة القوط الملكية. ويقول البعض إنه ولد من يدعى فريمندو، وحفيد للملك ردريك، وقد حارب إلى جانب ردريك. ثم رأى فيه الأحبار والأكابر الذين التفوا حوله، أنه جدير بالعمل على إحياء مملكة ¬_______ (¬1) في الجغرافية الحديثة " أستورية " Asturias (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 179، حيث يقول " وملكوا عليهم (أى الجلالقة) بلاي ابن فافلة ".

القوط " (¬1). وتعرف الرواية الإسلامية بلايو وتحدثنا عنه وتسميه (بلاي)، وتصفه أحياناً بأنه أمير أو ملك، وتنعته غالباً بأنه " علج من علوج النصارى " (¬2) وتتبع أخباره مع المسلمين: ولكنها لا تلقي ضياء كثيراً على أصله أو أحوال مملكته الصغيرة. ذلك لأن المسلمين لم ينتبهوا قط إلى ما وراء الهضاب الوعرة، التي امتنع بها هذا الزعيم وفله، والتي نشأت فيها جذور المملكة النصرانية الشمالية، التي غدت غير بعيد خطرا على دولة الإسلام في اسبانيا. ومن الغريب أن راوية نصرانياً كبيراً معاصراً هو إيزيدور الباجي، وهو حبر عاصر الفتح الإسلامي، وكتب روايته منذ منتصف القرن السابع، ووصل في كتابتها حتى سنة 754 م (¬3)، لم يذكر لنا في روايته شيئاً عن قيام تلك المملكة النصرانية الصغيرة في الشمال، ولا عن زعيمها أو ملكها بلايو، ولا عن غزوات المسلمين لها، مع أن إيزيدور يتتبع أخبار الغزوات الإسلامية كلها، منذ الفتح حتى منتصف القرن الثامن، سواء في اسبانيا أو في مملكة الفرنج، ويقدم إلينا عنها كثيراً من التفاصيل والملاحظات الهامة. وقد يرجع ذلك إلى أن إيزيدور وهو يقيم في الجنوب في مدينة باجة، كان يجهل قصة هذه المملكة النصرانية الناشئة، ولكن ما نراه من عنايته بتدوين أخبار الغزوات الإسلامية في فرنسا، وأخبار مملكة أكوتين، يحملنا على الاعتقاد بأنه لم يكن يجهل أخبار مملكة جليقية النصرانية، وهي أقرب إليه من فرنسا، وأن أسباباً أخرى لعلها ترجع إلى انتماء أميرها بلايو إلى حزب ردريك الذي كان يبغضه المؤرخ، هي التي حملته على إغفال أخبارها (¬4). وعلى أى حال فإن الرواية الإسلامية، تذكر لنا كيف نشأت المملكة النصرانية ¬_______ (¬1) F.J.Simonet cit. Saavedra ; Historia de los Mozarabes de Espana,.Vol.I.p. 148. ويقول المؤرخ المستشرق كاردون إن بلاجيوس ينتمي إلى أصل ملكي، وانه الأمير الوحيد الذي نجا من فتك العرب (راجع Cardonne: ibid , I.p. 105.) ، بيد أن كاردون لا يقول لنا من أين استقى هذه الرواية. (¬2) راجع أخبار مجموعة ص 28، ونفح الطيب ج 1 ص 110. (¬3) وقد كتبت باللاتينية بعنوان Isidorus Pacensis Chronicon. ونشرت ضمن المجموعة التاريخية الكنسية الإسبانية الكبيرة المسماة Espana Sagrada تصنيف الأب P.Enrique.Florez الجزء الثامن. ونشر دوزي منها مقتطفات في كتابه: Recherches: V.I.p. 4-14. مع تعليقات. (¬4) راجع: Aschbach: ibid, I.p. 142

الإسبانية في الهضاب الشمالية، بعد أن سحقت في موقعة شريش، فقد لجأت شراذم قليلة من القوط عقب الفتح إلى الجبال الشمالية، وامتنعت في مفاوز جبال أشتوريش (أستورية)، وقامت إمارتان نصرانيتان صغيرتان في كانتابريا وجلِّيقية. وكانت إمارة كانتابريا التي أسسها الدوق بتروس، لوقوعها في الطرف الغربي من جبال البرنيه في سهول نافار وبسكونية، عرضة لاقتحام الفاتحين لها حين سيرهم إلى فرنسا وحين عودهم منها. ولكن إمارة جلِّيقية Galicia، كانت تقع في أعماق جبال أشتوريش الوعرة، بعيداً عن غزوات الفاتحين، وسميت جليقية لأنها قامت على حدود الولاية الرومانية القديمة التي كانت تسمى بهذا الإسم. ففي هذه الهضاب النائية المنيعة اجتمع بلايو وصحبه، وعددهم لا يتجاوز بضع مئات حسبما تقول الرواية، ولجأوا إلى مغار عظيم في آكام كوفادنجا، تحيط به وديان سحيقة خطرة، ويعرف في الرواية الإسلامية باسم (الصخرة) (¬1). ويقول لنا ابن خلدون في الفصل الذي يخصصه (لملوك الجلالقة)، إن هذه الإمارة الصغيرة التي كانت مهد المملكة النصرانية، لا تمت بصلة إلى القوط، وإن ملوك الجلالقة ليسوا من القوط، لأن أمة القوط كانت قد بادت ودثرت لعهد الفتح الإسلامي (¬2). بيد أنه يصعب علينا أن نقبل هذا الرأي على إطلاقه، فمن المحقق أن فلول النصارى التي لجأت إلى الشمال كانت مزيجاً من القوط والإسبان المحليين، ولكن الظاهر مما انتهى إلينا من أقوال الروايتين المسلمة والنصرانية، أن الزعماء ولاسيما بلاجيوس كانوا من القوط، وأن ملوك الجلالقة يمتون إلى القوط بأكبر الصلات. ولم يعن المسلمون لأول عهد الفتح بأمر هذه الشراذم الممزقة عناية كافية. وكان فاتحا الأندلس موسى وطارق، قد قاد كل منهما حملة إلى جليقية لسحق البقية الباقية من فلِّ القوط، ولكنهما لم يتمكنا من تحقيق غايتهما لاستدعائهما إلى دمشق كما أسلفنا. وكان إغفال أمر هذه الفلول الباقية بعد ذلك من أعظم أخطاء الفاتحين. بيد أنه لما كثرت ثورات النصارى في الشمال، وبالأخص في بسكونية (أو بلاد البشكنس)، اهتم ولاة الأندلس بقمعها وتأمين الولايات الشمالية، ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 57. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 179، وهو يعارض هنا رأي ابن حيان في أن المملكة النصرانية يرجع أصلها إلى القوط.

وسير الحرُّ بن عبد الرحمن الثقفي والي الأندلس في سنة 98 هـ (718 م) جيشاً الى الشمال لإخضاع النصارى، فاجتاح المسلمون بلاد البشكنس وهضاب أشتوريش، وأوفدوا حليفهم الأسقف أوباس وهو أخو الملك وتيزا إلى بلايو ليقنعه بالتسليم وعبث المقاومة، فأبى بلايو ولجأ إلى كهوفه المنيعة في صخرة كوفادنجا، ونفذ المسلمون إلى أعماق الجبال وحاولوا عبثا أن يستولوا على مراكز العدو، وحالت بينهم وبينه الوديان السحيقة والآكام الرفيعة، وحوصر بلايو وأصحابه في " الصخرة " مدى حين، وقطعت عنهم المؤن، وتساقطوا تباعا من الجوع، حتى لم يبق منهم على قول الرواية سوى ثلاثين رجلا وعشر نساء (¬1). وتزعم بعض الروايات النصرانية أن بلايو كر على المسلمين، وأنهم هزموا هزيمة شديدة وفقدوا ألوفا كثيرة، ووقع أوباس في أيدي مواطنيه فعاقبوه على خيانته بالموت (¬2). وقد أتيح لنا أن نزور هذه المنطقة الوعرة - منطقة كوفادنجا - وأن نشهد الصخرة المنيعة، التي تقول الرواية إن بلايو وأصحابه امتنعوا في مغارها، والتي تئوى في جانب منها إلى اليوم رفات بلايو. والحق أننا شهدنا من الوادي الذي تشرف عليه الصخرة، والذي يقال إن المسلمين رابطوا فيه لمحاصرة النصارى، أروع منظر يمكن تصوره من الصخور الوعرة، والآكام الرفيعة المدببة، وأدركنا كيف عجز المسلمون عن اقتحام مثل هذا المعقل المنيع. ولما رأى المسلمون وعورة الهضاب وقسوة الطبيعة، ارتدوا عن جلّيقية محتقرين شأن هذه الشرذمة الممزقة الجائعة. فقويت لذلك نفس بلايو وأصحابه، وانضم إليهم كثير من النصارى في كانتابريا وسهول جليقية، واختاروه ملكا عليهم لما رأوا من بسالته وبراعته وقوة عزمه، وألفى بلايو الفرصة سانحة لتوطيد سلطانه وتوسيع أملاكه، فأخذ يغير على الأراضي الإسلامية الشمالية، وبدا لحكومة الأندلس خطر هذه العصابات الجبلية التي أخذت تنتظم إلى قوة يخشى بأسها. ولكن اضطراب الشئون الداخلية حال مدى حين دون مطاردتها وغزوها. وفي سنة 112 هـ (730 م) في عهد أمير الأندلس الهيثم بن عبيد، بعث حاكم ولاية البرنيه وهو يومئذ الزعيم المسلم الذي تعرفه الرواية النصرانية باسم ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 28؛ وكذلك Dozy: Hist , II.p. 129 (¬2) Cardonne: ibid , I.p. 109, Aschbach: ibid;I.p. 145

منوسة أو مونس - جيشا إلى جبال أشتوريش لغزو جليقية وسحق أميرها بلايو. ولكن بلايو استطاع أن يصمد للمسلمين كرة أخرى، وأن يهزمهم هزيمة شنيعة. ولما رأى بلايو منعة معقله وقوة عصبته، اخترق بسكونية وهاجم قوات المسلمين في الوقت الذي كانت تتأهب فيه للسير إليه، ومزق بعض وحداتها، ثم ارتد إلى هضابه فاستعصم بها. ولما اضطربت شئون الأندلس بعد مقتل أميرها عبد الرحمن الغافقي وارتداد جيشه في بلاط الشهداء (114هـ - 732 م)، وشغل الولاة برد جيوش الفرنج، عن الأراضي الإسلامية في سبتمانيا، كثرت غارات العصابات الجليقية على الأراضي الإسلامية في شمال نهر دويرة (دورو) وفي منطقة أسترقة، وعانى المسلمون في تلك الأنحاء كثيرا من عيث النصارى. ولما تولى عقبة بن الحجاج حكومة الأندلس في سنة 116هـ (734 م)، ورأى خطر العصابات الجليقية وشدة عيثها في الأراضي الإسلامية، سار إلى جليقية وغزاها مرة أخرى في سنة 735 أو 736 م (118هـ) واستولى على بعض مواقعها، ولكن النصارى امتنعوا كعادتهم في الجبال ولم يبلغ عقبة منهم أمراً. ولما اضطرمت الأندلس بالفتن ونشبت الحرب الأهلية، بين مختلف الزعماء والقبائل، ازداد النصارى جرأة وتحرشاً بالمسلمين وعيثاً في أراضيهم، ولم تستطع حكومة قرطبة أن تسعفهم بالعون والمدد لاشتغالها بالشئون الداخلية. وكانت سلطة الحكومة المركزية ضعيفة في تلك الأنحاء النائية، وكان سكانها ومعظمهم من البربر، يكثرون من الخروج والثورة سخطاً على العرب، واستئثارهم بالحكم والسيادة. وكان النصارى من رعايا حكومة قرطبة، يدسون الدسائس ويرتكبون شتى الخيانات، ويشجعون بذلك بلايو وعصبته على الإغارة والعيث في أراضي المسلمين، وكانت الإمارة النصرانية الناشئة تنمو خلال ذلك ويشتد ساعدها، ويهرع النصارى إلى لواء بلايو من مختلف الأنحاء. ويقول العلامة ألتاميرا: " كان كفاح بلايو وزملائه الأشراف، يرجع إلى الرغبة في استرداد جزء من الأراضي المفقودة، ومن جهة أخرى فإن احترام الفاتحين لدين المغلوبين وعاداتهم، لم يجعل في البداية للمعركة لونا دينيا أو عنصريا، بل كان مدارها من جانب الأشراف ورجال الدين، استرداد الأملاك وشيء من هيبة الملك " (¬1). ¬_______ (¬1) R.Altamira: Historia de Espana, Vol.I.p. 224

واستمر بلايو في حكم إمارة جليقية زهاء تسعة عشر عاماً، وتوفي سنة 737 م. ولكن بعض الروايات النصرانية تضع تاريخ وفاته بعد ذلك، فتقول إنه لبث حتى ولاية عبد الرحمن بن يوسف الفهري للأندلس (127 - 137 هـ) (745 - 755 م)، وأن الموقعة التي نشبت بين منوسة وبلايو كانت بين سنتى 746 و751 (¬1)، وهي رواية ظاهرة الضعف، لأن منوسة قتل في سنة 114 هـ (732 م) كما قدمنا، والرواية الإسلامية واضحة دقيقة في ترتيب الوقائع والتواريخ في هذا الموطن. وخلف بلايو ولده فافيلا، ولكنه توفي بعد حكم لم يطل أمده سوى عامين (سنة 739 م). وكان الدوق بتروس أمير كانتابريا قد توفي في ذلك الحين أيضاً، وخلفه ولده ألفونسو دوق كانتابريا، ونمت هذه الإمارة النصرانية الصغيرة أيضا واشتد ساعدها، وقويت أواصر التحالف بينها وبين جلّيقية بتزوج أميرها ألفونسو من ابنة بلايو واسمها أرموزندة أو هرمزندة. فلما توفي فافيلا ولد بلايو، اختار الجلالقة ألفونسو دوق كانتابريا ملكاً عليهم، واتحدت الإمارتان، وقامت منهما مملكة نصرانية واحدة، هي مملكة ليون النصرانية أومملكة جلّيقية في الرواية الإسلامية، وتمتد من بلاد البشكنس شرقاً إلى شاطىء المحيط غرباً، ومن خليج بسكونية شمالا إلى نهر دويرة جنوباً، وتشمل مناطق شاسعة من القفر والهضاب الوعرة، وتحتجب وراء الجبال بعيدة عن سلطان المسلمين وغزواتهم (¬2). ويعتبر ألفونسو دوق كانتابريا، أو ألفونسو الأول الملقب بالكاثوليكي مؤسس المملكة النصرانية الشمالية، وأصل ذلك الثبت الحافل من ملوك قشتالة (¬3)، الذين لبثوا قرونا يدفعون حدودهم إلى الجنوب تباعاً في قلب المملكة الإسلامية، ثم انتهوا بالقضاء عليها والاستيلاء على غرناطة آخر معاقلها (1492 م). وحكم ألفونسو في ظروف حسنة، فقد كانت الحرب الأهلية تمزق الأندلس، وكان أمر الولايات الشمالية فوضى، والضعف يسود المسلمين في تلك الأنحاء، وكان ثمة منطقة عظيمة من القفر والخراب تفصل بين جليقية وبين الأراضي الإسلامية، فاجتاحها ألفونسو بجموعه، وقتل من بها من المسلمين القلائل، ودفع النصارى ¬_______ (¬1) Aschbach: ibid , I.p. 148-149 (¬2) Aschbach: ibid , I.p. 152 و Dozy: Hist, V.II.p. 130. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 179.

إلى الشمال. ولما حل القحط بالأندلس (سنة 133هـ - 750 م) واشتد عصفه بالولايات الشمالية الغربية، جلا كثير من المسلمين عن تلك الأنحاء، واشتد ساعد النصارى فيها، ورفعوا لواء الثورة، وفتكوا بالمسلمين، ونادوا بألفونسو ملكا عليهم (¬1)، وانتهز ألفونسو الفرصة فغزا أسْتُرقة واستولى عليها من يد المسلمين، واستولى على كثير من البلاد والضياع المجاورة، وضمها لأملاكه (136هـ - 753 م). وهكذا نمت تلك المملكة النصرانية التي نشأت في ظروف كالأساطير واتسعت حدودها، واشتد بأسها بسرعة مدهشة، ولم يأت منتصف القرن الثامن حتى بدأت تناهض الإسلام في الأندلس وتغالبه، وتغير على معاقله وأراضيه. وعهد ألفونسو بإمارة كانتابريا وهي القسم الشرقي من مملكته، إلى أخيه فرويلا (أو فرويلة)، فكان يغير أيضا على الأراضي الإسلامية المجاورة، ويعيث فيها قتلاً ونهباً وسبياً، ثم يعود مسرعاً إلى الجبال خشية أن يلحق به المسلمون. بيد أن المسلمين كانوا في شغل شاغل من الفتنة والحروب الداخلية، وكان يوسف بن عبد الرحمن الفهري أمير الأندلس يعني يومئذ بقمع الثورة في الشمال، فانتهز ألفونسو تلك الفرصة وغزا مدينة لُك (لوجو) الحصينة وهي أقصى معاقل المسلمين في الشمال الغربي وافتتحها سنة (137هـ - 754 م)، وكان يوسف قد انتهى من إخماد الثورة في الشمال، وأراد إنجاد المدينة المحصورة، فجاءته الأنباء بمقدم عبد الرحمن الأموي، فهرول إلى الجنوب وترك لُك لمصيرها. وكان أيضا قد أرسل قبل أن يغادر الشمال قوة من جنده بقيادة الحصين بن الدجن وسليمان بن شهاب لإنجاد ثغر أربونة، الذي كان يحاصره الفرنج يومئذ، ففاجأها النصارى قبل أن تعبر البرنيه، ونشبت بين الفريقين معركة مزق فيها المسلمون وقتل قائدهم سليمان بن شهاب، وارتد فلهم إلى الجنوب (سنة 756 م) (¬2). والظاهر أن الذي هاجم المسلمين في تلك الموقعة هو فرويلا وحلفاؤه أو رعاياه البشكنس. وعبر ألفونسو نهر دويرة (دورو) غير مرة، وعاث في أراضي المسلمين مراراً، وكان يقتل كل من وقع في يده من المسلمين، ويسوق النصارى معه إلى الشمال. ولبث مع أخيه فرويلا كلٌّ يعمل من جانبه على توسيع المملكة ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 61 و62. (¬2) راجع ابن الأبار في الحلة السيراء ص 58؛ وكذلك Aschbach: I.ibid ; I.p. 155 والهوامش.

النصرانية، حتى توفي فرويلا سنة 764 م (146هـ)، وتولى أخوه ألفونسو من بعده حكم المملكة كلها، ولكنه لم يعش طويلا، وتوفي في العام التالي (765 م) (¬1) فخلفه ابنه فرويلا الأول. وكان عبد الرحمن الأموي يكرس كل جهوده وقواه لقمع الثورة الخطيرة التي نظمها العلاء بن مغيث باسم الدعوة العباسية، فرأى فرويلا الفرصة سانحة لغزو الأراضي الإسلامية (¬2) فعبر نهر دويرة في جيش ضخم وغزا لُك وبُرتقال وشَلَمنقة وشَقُوبية وآبلة وكورة وقشتالة (¬3)، واستولى عليها من المسلمين، وعاث في تلك المنطقة سفكاً وتخريباً وضمها إلى أملاكه، فصارت جزءا من مملكة جلّيقية، حتى استعادها المسلمون بعد ذلك بنحو قرنين في عهد الحاجب المنصور. وتختلف الرواية الإسلامية في تعيين تاريخ هذه الغزوة فيضعها ابن الأثير قبل ذلك بأعوام في حوادث سنة 140هـ (758 م) ويقول إن الذي قام بها هو تدويلية (تدفيليا) ابن أذفنش (ألفونسو)، ولكن ألفونسو توفي بعد ذلك كما رأينا (¬4)، ويضعها ابن خلدون بعد سنة 142 هـ وهي التي يعينها تاريخا لوفاة ألفونسو، في عهد فرويلا، وقد تولى فرويلا الملك بعد وفاة أبيه حسبما تقول الرواية النصرانية في سنة 765 م (147هـ) (¬5). وعلى أى حال فقد كانت هذه الغزوة أعظم فتح قام به النصارى يومئذ في الأراضي الإسلامية، بعد افتتاح الفرنج لسبتمانيا واستيلائهم على أربونة أمنع مواقع ولاية " الثغر " قبل ذلك بأعوام قلائل. وهنا ظهر خطر المملكة النصرانية واضحاً جلياً. ولم يكن عبد الرحمن الأموي بغافل عن ذلك الخطر، وكان رغم اشتغاله المتواصل بقمع الثورة والفتن الداخلية، يتحين الفرص لدرئه، ففي سنة 148 هـ (766 م) أرسل بعض قواده إلى ¬_______ (¬1) يضع ابن خلدون (ج 4 ص 180) وفاة ألفونسو (أدفونش) في سنة 142هـ (760م). (¬2) ينسب أشباخ هذه الغزوة لفرويلا الكبير (ج 1 ص 156) معتمدا على رواية ردريك الطليطلي، ولكن الرواية الاسلامية وهي أقدم من ذلك، تجمع على أنها وقعت بعد ذلك في عهد فرويلا ابن ألفونسو. (¬3) تراجع الأسماء الفرنجية لهذه الأماكن في جدول الأعلام التاريخية والجغرافية الملحق بنهاية الكتاب. (¬4) ابن الأثير ج 5 ص 186. (¬5) ابن خلدون ج 4 ص 122 و180؛ وكذلك المقري عن ابن حيان في نفح الطيب ج 1 ص 155.

الشمال على رأس قوة كبيرة، فسارت حتى حدود جليقية، واشتبكت مع النصارى والعصاة في عدة مواقع، وعادت مثقلة بالغنائم والأسرى (¬1). وفي سنة 150هـ (767 م) بعث عبد الرحمن جيشاً بقيادة مولاه بدر إلى ألبة والقلاع (¬2)، وهي المنطقة الواقعة بين بلاد البشكنس وجبال كانتابريا، على ضفاف نهر إيبرو في الطرف الشرقي من مملكة جليقية، فغزاها وتوغل فيها وأرغمها على أداء الجزية، وقبض على كثير من العصاة في تلك الأنحاء (¬3). وتقص الرواية النصرانية علينا بعد ذلك نبأ موقعة كبيرة وقعت بين المسلمين والنصارى في بونتومو من أعمال جليقية، وتقول لنا إن عبد الرحمن أرسل في سنة 773 م (157هـ) جيشاً كبيراً إلى الشمال بقيادة حاجبه عامر، أو تمام بن علقمة على يظهر، فلقيه النصارى بقيادة فرويلا في بونتومو، ونشبت بين الفريقين موقعة هائلة، هزم فيها المسلمون وقتل منهم عدد عظيم تقدره الرواية بأربعة وخمسين ألفاً وأسر قائدهم (¬4). ولم تشر الرواية المسلمة إلى أن موقعة بهذه الخطورة نشبت بين المسلمين والنصارى، ولاسيما في هذا التاريخ، الذي كان عبد الرحمن مشتبكا فيه مع الدعى الفاطمي في معارك تقتضى كل جهوده وموارده، والرواية النصرانية تبدي كعادتها في هذا الموطن مبالغة تسبغ عليها كبير ريب. وكان فرويلا طاغية شديد البطش، ولم يكن حكمه موفقاً، فقد اضطرمت في جليقية الغربية نار ثورة كبيرة أيدها المسلمون فيما يظهر، وأخمدها فرويلا بعد جهد، ولكنه فقد كثيراً من أرضه التي افتتحها في تلك الأنحاء، وعادت إلى ¬_______ (¬1) Conde: ibid , I.p. 207 (¬2) تطلق الرواية الإسلامية اسم "ألبة والقلاع" على ولايتي قشتالة القديمة Castille وآلفا Alava معربة عن اللاتينية القديمة Alava et Castella Vetula. وكانت "ألبة والقلاع" تشمل في العصور الوسطى، جميع المنطقة الواقعة بين نهر دويرة جنوبا والبحر شمالا، وبين نافار (بلاد البشكنس) وأراجون (الثغر الأعلى) شرقا ومملكة ليون غربا؛ وألبة هي في الواقع إحدى ولايات بلاد البشكنس، وتمتد غربا حتى "برغش" وشمالا حتى خليج بسكونية، وجنوبا حتى نهر إيبرو. وأما "القلاع" أو قشتالة Castella أو Castille فقد كانت تشمل باقي المنطقة من برغش شمالا إلى ما بعد نهر دويرة (الدورو) وجبال واد الرملة Guadarrama جنوبا، وحتى موقع مدينة مدريد عاصمة إسبانيا الحديثة. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 56؛ ونفح الطيب ج 1 ص 156. (¬4) Aschbach: ibid ; I, p. 159 والهوامش.

خريطة: المملكة الإسبانية النصرانية.

المسلمين، ونشبت ضده في نافار في الشرق ثورة أخرى، فأخمدها بشدة، واجتاح نافار وأخضعها، وكان من أسراه في تلك المعارك فتاة حسناء من أسرة كريمة تدعى مونيا فأحبها وتزوجها، ورزق منها بولده ألفونسو، الذي تولى العرش فيما بعد، وكان مسرفاً في الانتقام والسفك، قتل كثيرا من أفراد أسرته وقتل أخاه بيده، وكان الشعب يبغضه ويلتف حول " أورليوس " ابن عم فرويلا. وأنشأ فرويلا مدينة أوبييدو التي غدت فيما بعد حاضرة جليقية، ولكنه لم يتخذها قاعدة للحكم، ولبث في مدينة كانجاس حاضرتها الأولى، حتى هلك قتيلا في ثورة جديدة نشبت سنة 775 م (¬1). ولما توفي فُرُويلا كان ولده من مونيا ألفونسو طفلا، فافترقت كلمة الشعب، وانحازت منه أغلبية كبيرة إلى أورليوس أو أورالي (¬2) ولد فرويلا أخى ألفونسو الأول واختارته للملك، ولكنه لم يحكم إلا في الولايات الشرقية في نافار وبسكونية، حيث كان يحكم أبوه من قبل، وانحازت جليقية الغربية إلى سيلو أو شيلون (¬3) زوج أروزندا إبنة ألفونسو الأول، وانقسمت المملكة بذلك إلى إمارتين. ولكنهما تهادنتا ولم تقع بينهما حرب ولا منافسة. وفي سنة 778 م غزا شارلمان بلاد البشكنس في طريقه إلى سرقسطة حسبما قدمنا، فاضطر أورليوس أن يسعى إلى محالفة المسلمين. ولم تقع في ذلك الحين فيما يظهر حروب بين المسلمين ومملكة جليقية، لاشتغال كل منهما بشئونه الخاصة. وتوفي أورليوس سنة 781 م، فاختار البشكنس مكانه سيلو لأن ألفونسو ولد فرويلا كان لا يزال طفلا، واتحدت المملكة مرة أخرى. ولبث سيلو ملكاً على جليقية المتحدة ثلاثة أعوام أخرى، وفي عهده عقد الصلح بين المسلمين والنصارى. ولكن نشبت بعض ثورات محلية في جليقية نجح في إخمادها، وتوفي بعدئذ بقليل سنة 784 م (¬4). وتوفي سيلو دون عقب، ولكنه أوصى بالملك لألفونسو ولد فرويلا الطفل ¬_______ (¬1) يضع ابن خلدون وفاة فرويلا في سنة 158 (775 م) متفقا بذلك مع الرواية النصرانية (ج 4 ص 180). (¬2) هكذا تسميه الرواية العربية وهي تعتبره ملكا لجليقية كلها (راجع ابن الأثير ج 6 ص 12). (¬3) وهو اسمه في الرواية العربية. ويعتبره ابن خلدون خطأ ولد فرويلا الكبير (ج 4 ص 180). (¬4) يضع ابن خلدون وفاة سيلو أو شيلون سنة 168هـ (784 م) متفقا أيضامع الرواية النصرانية (ج 4 ص 180). وكذا ابن الأثير (ج 6 ص 22).

وبالوصاية عليه لزوجه أروزندا. ولكن الأشراف لم يرضوا عن حكم طفل وامرأة، وانضم إليهم فريق من الشعب، ولم تلبث جلّيقية أن اضطرمت بثورة قوية على رأسها زعيم يدعى مورجات - وفي الرواية العربية مورقاط - وهو ولد غير شرعي لألفونسو الأول من جارية عربية، فاستولى على جليقية الغربية، وانضم إليه كثير من الأشراف والزعماء الذين اشتركوا في محاربة فرويلا خشية أن يستقر الملك لابنه فيبطش بهم فيما بعد، ففر ألفونسو إلى ألبة حيث عصبة أمه وعشيرتها، وقد كانت بسكونية حسبما تقدم. ورأى مورجات أن يوطد مركزه وسلطانه بالتحالف مع المسلمين، وتحالف حزب ألفونسو مع الفرنج أعداء المسلمين، واتخذ مورجات قاعدة حكمه في مدينة برافيا في قاصية جليقية. وكان رجال الدين ومن إليهم من النصارى والمتعصبين يبغضونه ويثيرون الشعب عليه، لأنه بالغ في التودد إلى المسلمين والتقرب إليهم، ولأنه يمت إليهم بصلة الدم بواسطة أمه العربية. ولكنه استطاع مع ذلك أن يحكم مملكته الصغيرة حتى وفاته في سنة 789 م (¬1). وتشير الرواية العربية إلى طرف من هذه الحوادث، وتقول لنا إن مورقاط (مورجات) وثب على أذفنش (ألفونسو) فقتله، ولكن ألفونسو لم يقتل كما قدمنا. وسنرى أنه يتولى الملك ويخوض مع المسلمين في الأعوام التالية كثيراً من الوقائع. وتقول الرواية العربية أيضاً، إن المسلمين انتهزوا فرصة الاضطراب الذي وقع في جليقية، من جراء هذه الحوادث، فسار إليها وإلى طليطلة وغزاها وأثخن فيها (¬2)، وهذا ما لا تشير إليه الرواية النصرانية. والظاهر أن المسلمين أغاروا على ألبة والقلاع، لأنهم كانوا على وئام وتحالف مع مورقاط أمير جليقية. ووقعت هذه الغزوة حسبما تشير الرواية العربية حوالي سنة 169هـ (786 م) أعني في أواخر عهد عبد الرحمن الداخل. وكان طبيعياً بعد أن توفي مورجات عميد الثورة ومغتصب الملك، أن يعود العرش إلى صاحبه الشرعي، أعني ألفونسو ولد فرويلا. ولكن الأشراف لبثوا ¬_______ (¬1) Aschbach: ibid , I.p. 165-166 (¬2) راجع ابن الأثير ج 6 ص 22؛ وابن خلدون ج 4 ص 180، ويسمى مورقاط هنا بسمول قاط وهو تحريف أو خطأ مطبعي على ما يظهر.

في توجسهم من نقمة ألفونسو، واختاروا للملك برمند (أو برمودو)، وهو ولد لفرويلا وأخ لأروليوس، الذي تولى إمارة البشكنس من قبل. وكان قد هجر الحياة الدنيا إلى عزلة الدير، فتولى الملك على غضاضة منه، ولكنه لم يحكم على ما يظهر إلا في غربي جليقية، حيثما كان يسود نفوذ مورجات، ولبث ألفونسو أميرا على الأنحاء الشرقية. وفي ذلك الحين كان أمير الأندلس هشام بن عبد الرحمن يتأهب لغزو الشمال، فخشى برمند خطر الإنقسام على مستقبل المملكة، وعقد الصلح مع ألفونسو وولاه قيادة الجيش، ولم تمض ثلاثة أعوام حتى ضاق ذرعا بمهام الملك فتنازل عن العرش مختاراً لألفونسو، وارتد إلى حياة الدير والعزلة، وتولى ألفونسو الملك في أواخر سنة 791 م (175هـ) (¬1) باسم ألفونسو الثاني. وبذلك عادت المملكة النصرانية إلى اتحادها مرة أخرى. وفي أواخر عهد ألفونسو الثاني، الملقب " بالعفيف " el Casto، وقع حدث ديني كان له فيما بعد أثر عميق في توجيه مصاير المملكة النصرانية، هو اكتشاف قبر القديس ياقب، وهو القديس يعقوب أو يعقوب الحواري. وتذكر الأسطورة أنه لما قتل بأمر هيرود الثاني ملك بيت المقدس، حمل تلاميذه جثته في مركب جاز به البحر المتوسط إلى المحيط، ثم حملتهم الرياح شمالا حتى انتهوا إلى موضع في قاصية جليقية، ودفنوا جثمان القديس في سفح تلال هنالك. ومضت العصور، وغاض القبر ولم يعلم مكانه، حتى كانت سنة 835 م، حيث زعم القس تيودمير أسقف إيريا أنه اكتشف القبر، هداه إليه ضوء نجم، وحمل النبأ في الحال إلى الملك، فأمر أن يبني فوق هذه البقعة كنيسة، وذاعت الأسطورة في جميع الأنحاء، وصدقها المؤمنون دون تردد، وهرعوا يحجون إلى البقعة المقدسة، وقامت حول المزار المزعوم مدينة نمت بسرعة، وغدت مدينة شنت ياقب Santiago de Compostela المقدسة، وأنشئت فيما بعد فوق القبر مكان الكنيسة الساذجة كنيسة جامعة (كتدرائية)، غدت من أعظم كنائس اسبانيا ضخامة وروعة وفخامة. وكان لقيام هذه المدينة المقدسة أثر كبير في إذكاء الحماسة الدينية والعاطفية القومية في إسبانيا، وغدا القديس ياقب ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 6 ص 40، وهو يتفق هنا مع الرواية النصرانية في الوقائع والتواريخ وراجع أيضا Aschbach: I.p. 188-192

" حامي " اسبانيا كلها، وغدا قبره من أشهر المزارات النصرانية في أوربا. وينوه الأستاذ ألتاميرا بأهمية هذا الحدث الديني، وأثره في حضارة هذه المنطقة من اسبانيا، فيقول: " وقد بعث هذا الاكتشاف في النصارى أيما سرور، وانتظمت وفود عظيمة، جاءت لتحج إلى القبر، لا من الأراضي الإسبانية وحدها، ولكن من الخارج أيضاً، وهكذا بدأ تيار من الزيارات والمؤثرات الأوربية في جليقية، وكان لها أعظم تأثير في العادات والآداب " (¬1). وقد أتيح لنا أن نزور مدينة شنت ياقب، وهي من أعجب وأجمل المدن الإسبانية، ذات طابع خاص بها، وهي أشد المدن الإسبانية احتفاظا بهذا الطابع الخاص. وطابعها القدم المشبع بالجلال والوقار، وهي تبدو بشوارعها المعقودة، وميادينها التي تغص بالصروح التاريخية، مدينة قديمة عريقة حقا. وأروع ما تقع عليه العين كنيستها العظمى، التي تقوم في وسطها وتبدو بواجهاتها الفخمة وصرحها الشامخ، وبرجها العظيم، أثراً من أعظم الآثار الدينية. وقد نشأت هذه المملكة النصرانية الشمالية، مستقلة في ظروفها وفي خواصها، ولبثت آمادا طويلة بعيدة عن الإتصال بالأمم النصرانية الأخرى، ولم تنشأ بينها وبين جيرانها المسلمين علائق سياسية أو اجتماعية قوية تؤثر في نظمها وخواصها، فاستمرت تحتجب بوعر الجبال وعباب المحيط، تسود فيها روح المملكة القوطية القديمة ونظمها، واستمر الجلالقة دهرا ينتسبون إلى القوط، ويسمون أنفسهم قوطا، وتسير حكوماتهم على سنن السياسة القوطية ونظمها، فالعرش مطلق يقبض على زمام السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا يستطيع الأشراف الحد من سلطانه إلا بالثورة، أو باستعمال حقهم في الانتخاب، واستمرت خواص المجتمع القديم كما كانت أيام القوط: أقلية غنية قوية تستأثر بنعم الثروة والجاه، وأكثرية فقيرة مستعبدة ترزخ تحت جور العرش، واستغلال الأشراف والسادة، بيد أن هذه الأكثرية استطاعت أن تشق طريقها إلى الحرية، حينما اشتدت معركة الحياة والموت بين الإسلام والنصرانية في اسبانيا، واضطرت المملكة أن تلجأ إلى الأكثرية للذود عن حدودها وحياتها، وانقلب الرقيق القديم جنداً يثور ضد ¬_______ (¬1) R.Altamira: Hist.de Espana; Vol.I.p. 239 وتعرف الرواية الإسلامية هذه الأسطورة وتشير إليها. راجع الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 115.

سادته، ويرغمهم على احترامه ومصانعته. هكذا نشأت المملكة النصرانية الشمالية، ونمت واتسعت حدودها فيما بين الجبال والقفر، حتى أصبحت تمتد من بلاد البشكنس شرقاً إلى المحيط غرباً، ومن المحيط شمالاً إلى ما بعد ضفاف نهر دويرة جنوباً، وتشمل عدة مناطق وقواعد، كانت قبل ذلك بفترة يسيرة في قبضة الإسلام. وهنا نقف في تتبع أخبار المملكة النصرانية عند هذا الحد، لنستأنفه في مواطنه فيما سيأتي.

الفصل الثامن هشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام

الفصل الثامن هشام بن عبد الرحمن والحكم بن هشام (1) ولاية العهد. هشام يخلف أباه عبد الرحمن. خلاله. خروج أخويه سليمان وعبد الله. خضوع عبد الله. مطاردة سليمان وعبوره إلى المغرب. الثورة في الشمال. إخمادها. عدوان النصارى. غزو جليقية وهزيمة النصارى. غزو المسلمين الثغر الفرنجي. موقف حكام الشمال وانحرافهم إلى الفرنج. الاستيلاء على جرندة ومحاصرة أربونة. موقعة فيل دني بين المسلمين والفرنج. غزو جليقية ثانية. هزيمة الجلالقة. وفاة هشام. حزمه وتقواه. منشآته بقرطبة. شغفه بالجهاد. إعزازه للغة العربية. نفوذ الفقهاء في عهده. انتشار مذهب مالك بالأندلس. (2) الحكم بن هشام وخلاله. محاربته لنفوذ الفقهاء وسخطهم عليه. غزوة ألبة والقلاع. الثورة في سرقسطة. عود سليمان وعبد الله عمى الحكم إلى الثورة. استنصار عبد الله بشارلمان. غزو الفرنج للثغر الأعلى ثم انسحابهم. هدوء الثورة في الشمال. الحرب بين الحكم وعمه سليمان. هزيمة سليمان وإعدامه. خضوع عبد الله. سياسة الفرنج نحو اسبانيا المسلمة. تحرشهم بالمملكة الإسلامية. موقف الخلافة العباسية من هذه السياسة. اتحاد الغاية بينها وبين الفرنج. إنتهاز الفرنج لاضطراب الحوادث الداخلية. غزوهم للثغر الأعلى ومحاصرتهم لبرشلونة. دفاع المسلمين الباسل عنها. سقوطها في أيدى الفرنج. إنشاء الفرنج للثغر القوطي. ائتمار الفقهاء والأعيان بالحكم. اكتشاف المؤامرة وسحقها. الثورة في ماردة. الثورة في طليطلة تعيين عمروس ابن يوسف حاكما لها. واقعة الحفرة. حصار الفرنج لطرطوشة. تحرك نصارى الشمال. عيثهم في أراضي المسلمين. مسير الحكم لمحاربتهم. غزو المسلمين لقطلونية. عقد الهدنة بين الحكم وشارلمان. بواعث هذا الصلح. الثورات المحلية. القحط في الأندلس. غزو المسلمين لجليقية. سخط أهل قرطبة على الحكم. تحريض الفقهاء. تحرك العامة وزحفهم على القصر. واقعة الربض. إخماد الثورة وتمزيق الثوار. معاقبة أهل الربض ونفيهم. مسير الأندلسيين إلى الإسكندرية وافتتاحهم لإقريطش. بلاغ الحكم عن الثورة وشعره فيها. تحوطاته بعد إخمادها. مرض الحكم ووفاته. وصيته لولده عبد الرحمن. أخلاق الحكم وصفاته. توطيده لهيبة الملك. إصطفاؤه للصقالبة. أبهته وفخامته. شعره. رجال دولته. الحاجب عبد الكريم. قومس أهل الذمة. ازدهار العلوم والآداب. عباس بن فرناس ويحيى الغزال. - 1 - خلف عبد الرحمن الداخل ولدُه هشام بعهد منه، ولم يكن أكبر ولده، بل كان أكبرهم سليمان والي طليطلة، ولم يك يومئذ ثمة نظام خاص لولاية العهد، بل كانت ولاية العهد كما هو مأثور، حقا مفوضا للأمير أو الإمام، يجريه وفقا

للمصلحة العامة (¬1)، ولم يكن انحصاره في ولد الأمير أو أسرته، سوى تقليد من تقاليد السياسة والعصبية، سارت عليه الدولة الأموية، فوضعت بذلك في الدول الإسلامية أسس الأسر الملوكية، والعروش المتوارثة. وكان من الطبيعي بعد أن ظفر عبد الرحمن الأموي، بإحياء تراث أسرته المندثر في المشرق، أن يصل ما انقطع، وأن تقوم من هذا الفرع الأموي، أسرة ملوكية جديدة تتعاقب في العرش، وتعيد بالأندلس مجد الدولة الأموية الذاهب. وهكذا اختار عبد الرحمن لولاية العهد من بين بنيه الأحد عشر، ولده هشاماً، وآثره بهذا الاختيار لما توسمه فيه من المزايا والمواهب الخاصة. وكان مولده بقرطبة في سنة 139 هـ - 756 م (¬2). وكانت أمه - وهي " أم ولد " (¬3) بارعة في الحسن تدعى"حلل" (¬4) - أحب نساء عبد الرحمن إليه، وأكثرهم نفوذا لديه، وكان هشام حينما توفي أبوه مقيما بماردة مقر ولايته، فأخذ البيعة له أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي، ولكن على غضاضة منه، لأنه مثل أخيه سليمان، كان يرى نفسه أحق بولاية العهد من أخيه الأصغر. ودخل هشام قرطبة لأيام قلائل من وفاة أبيه، وبويع في مستهل جمادى الأولى سنة 172هـ (788 م)، وكان حينما ولى العرش في الثالثة والثلاثين من عمره، بيد أنه كان عاقلا حازما وافر الشجاعة والعزم، كثير العدل والتقوى، جم التواضع والرفق. وتشيد الرواية الإسلامية بجميل خلاله، وتنوه بالأخص بورعه، وتواضعه، وحبه للخير، فيقول لنا ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد إنه " كان أحسن الناس وجهاً، وأشرفهم نفسا، الكامل المروءة، الحاكم بالكتاب والسنة، الذي أخذ الزكاة على حلها، ووضعها في حقها، لم يعرف عنه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه ". وقيل بلغ من تواضعه أن كان يطوف شوارع قرطبة مختلطاً بالرعية يسمع المظالم بنفسه، ويعود المرضى، ويشهد الجنائز، وربما كان يخرج في الليالي المظلمة الممطرة، فيلقى بصرر المال في المساجد لمن وجد فيها بغية تعميرها بالمصلين، ¬_______ (¬1) يعقد ابن خلدون في مقدمته، فصلا عن ولاية العهد في الأمة الإسلامية، (ص 175 وما بعدها). (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 62؛ وابن الأبار في الحلة السيراء ص 37. (¬3) هي الجارية إذا رزقت من سيدها بولد، وعندئذ لا يجوز بيعها ولا هبتها. (¬4) وفي رواية " حوراء ". وفي رواية أخرى " جمال ".

ويسعى إلى غوث البائس والمسكين بمختلف الوسائل (¬1). وكان يذهب مذهب عمر بن عبد العزيز، في تحري الحق والعدالة، فكان يبعث إلى الكور بقوم من ثقاته، للتحري عن مسلك العمال وسيرهم بين الرعية، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أسقطه واشتد في عقابه (¬2). وكانت ولاية هشام نذير فوره جديدة من الثورات المحلية. ذلك أن سليمان أكبر أخوته لم يقر إمارته، ودعا لنفسه في طليطلة وما جاورها، وكذلك أخوه عبد الله البلنسي لم يخلد إلى الرضى، بالرغم مما بذله هشام لاسترضائه، ولم يلبث أن لحق بأخيه سليمان في طليطلة، وتحالفا على العصيان والثورة، وسار سليمان خفية إلى قرطبة ليحاول إضرام الثورة ضد أخيه، فلم يظفر بشىء، وطارده الجند، ففر إلى ماردة وحاول أن يعتصم بها، ولكن رده عاملها. وكان هشام قد بعث جيشا لحصار طليطلة وإخضاعها، ففر سليمان إلى جبال بلنسية، ولجأ إلى بعض ثغور تدمير. ولما رأى عبد الله البلنسي ما حل بأخيه من الفشل والهزيمة، خشي عاقبة الخروج، وارتد إلى قرطبة يلتمس الصفح من أخيه، فعفا عنه هشام وأكرم مثواه، وبعث جيشا بقيادة ولده معاوية لمطاردة سليمان وصحبه، فتوغل في أنحاء تدمير (مرسية) واضطر سليمان إلى طلب الأمان والعفو، فأجابه هشام إلى طلبه، على أن يعبر بأهله وولده إلى المغرب، وأعطاه ستين ألف دينار صلحا على تركة أبيه. وسار معه أخوه عبد الله، وأقاما بعدوة المغرب، وانتهت بذلك ثورة الأخوين (سنة 174 هـ - 790 م) (¬3). واعتقد ثوار الشمال في نفس الوقت أن الفرصة قد سنحت بوفاة عبد الرحمن لإضرام نار الثورة كرة أخرى، فخرج بطرطوشة سعيد بن الحسين الأنصاري، وكان قد التجأ إليها منذ مصرع أبيه، والتف حوله اليمنية، وأخرج عاملها من قبل هشام، يوسف العبسي، فعارضه موسى بن فرقوق في المضرية ودعا لهشام (¬4)، ¬_______ (¬1) راجع في التنويه بخلال هشام وصفاته، أخبار مجموعة ص 120 و121؛ وابن الأثير ج 6 ص 37؛ والعقد الفريد (مصر سنة 1928) ج 3 ص 202؛ والمعجب لعبد الواحد المراكشي ص 10. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 67، وأخبار مجموعة ص 127. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 64 و65. (¬4) ابن خلدون ج 4 ص 124.

وخرج أيضا مطروح بن سليمان بن يقظان بثغر برشلونة، والتفت حوله جموع كبيرة، واستولى على سرقسطة ووشقة، وقوى أمره، وبسط سلطانه على الولاية كلها، فسير إليه هشام جيشا كبيرا بقيادة عبيد الله بن عثمان، فسار إلى طرطوشة وانتزعها من يد الثوار، وحاصر سرقسطة وفيها مطروح وصحبه، وضيق عليها الخناق حتى ضاق أهلها ذرعا بالحصار، وفي ذات يوم اغتال مطروحا بعض أصحابه واحتزوا رأسه، وقدموها إلى ابن عثمان، فبعث بها إلى هشام، ودخل سرقسطة ظافراً (سنة 175 هـ) (¬1)، وقضى بذلك على الثورة في تلك الأنحاء. وكان نصارى الشمال، منذ اشتد ساعدهم، يكثرون من الإغارة على البلاد الإسلامية والعيث فيها، ويشتد هذا العيث والعدوان كلما اضطرمت الأندلس بالفتن الداخلية، وشغلت حكومة قرطبة عن حماية الأطراف النائية. وكان الفرنج جرياً على سياستهم المأثورة، يشجعون النصارى من البشكنس والجلالقة على مواصلة التحرش بالمملكة الإسلامية، وكان هشام كأبيه يقدر خطورة هذه الدسائس الفرنجية، وتحدوه من جهة أخرى نزعة قوية إلى الجهاد والغزو، فما كاد ينتهي من القضاء على الثورة الداخلية، حتى سير إلى الشمال جيشاً قويا من أربعين ألف مقاتل بقيادة عبيد الله بن عثمان، فاخترق ألبة والقلاع (قشتالة القديمة)، واجتاح جليقية، وهزم الجلالقة بقيادة ملكهم برمودو (أو برمند) وحلفاءهم البشكنس، ومزق جموعهم (سنة 175هـ - 791 م)، وعاد إلى قرطبة مثقلا بالغنائم والسبي. ولم يمض قليل على ذلك حتى سارت إلى جليقية حملة أخرى بقيادة يوسف بن بخت، وهزم برمودو مرة أخرى، وقتلت جموع كبيرة من النصارى، وعلى أثر ذلك تنازل برمودو عن العرش لألفونسو الثاني ولد فرويلا، وأمير جليقية الشرقية، ولجأ إلى عزلة الدير. وفي العام التالي أعني في سنة 176هـ (792 م) تأهب هشام لمحاربة الفرنج، واستئناف عهد الجهاد والغزو، فسير إلى الشمال جيشاً كثيفاً. بقيادة حاجبه عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث (¬2). فعبر البرنيه من ناحية قطلونية، واستولى ¬_______ (¬1) العذري في كتاب " ترصيع الأخبار " (ص 26 و29). (¬2) وهو حفيد مغيث الرومي فاتح قرطبة.

أثناء سيره على مدينة جيرونة (جرندة) الحصينة في قاصية شمال شرقي إسبانيا، وكان الفرنج قد استولوا عليها منذ سنة 785 م من يد مطروح بن سليمان. وكان حكام هذه الأنحاء التي لبثت تضطرم بالثورة على حكومة قرطبة، منذ غزوة شارلمان الأولى لإسبانيا، قد استقلوا بما في أيديهم من المدن، وجنحوا إلى محالفة الفرنج جيرانهم من الشمال، والتماس حمايتهم. ومن ذلك أن أبا ثور صاحب مدينة وشقة، الذي سبق ذكره في حوادث باب الشزري، بعث رسله إلى تولوشة عاصمة أكوتين يطلب التحالف من ملكها الدوق لويس ابن شارلمان (790 م) (¬1). واستولى الحاجب عبد الملك بعد ذلك على عدد آخر من المعاقل والحصون، ثم نفذ إلى سبتمانيا، وزحف على أربونة قاعدة الثغر الإسلامي القديم. وتقول الرواية الإسلامية إن المسلمين افتتحوا خلال تلك الغزوة أربونة (¬2)، ولكن الروايات الفرنجية المعاصرة لا تذكر شيئاً عن ذلك الفتح، وتذكر أن المسلمين ارتدوا عن أربونة لمناعتها إلى قرقشونة. وكان شارلمان (أو كارل الأكبر) ملك الفرنج يشتغل يومئذ بمحاربة خصومه السكسونيين بعيدا عن فرنسا، فتأهب ولده لويس أمير أكوتين لصد العرب، وأوفد لمحاربتهم جيشا بقيادة جيوم كونت دى تولوز، فالتقى الفريقان في مكان يسمى " فيل دني " على ضفاف نهر أوربينا بين أربونة وقرقشونة، ونشبت بينهما موقعة غير حاسمة، ارتد المسلمون على أثرها إلى الجنوب مثقلين بالغنائم والسبي، وقدرت أخماس السبي وحدها بخمسة وأربعين ألفاً من الذهب، وأرغم الأسرى النصارى على حمل أو جر أحمال من الأحجار والتراب من سور أربونة حتى قرطبة، وأمر هشام أن يُبنى منها جناح جديد للمسجد الجامع تخليداً لتلك الغزوة الشهيرة. وكانت منطقة رندة، المعروفة بإقليم " تاكرنّا "، أو " تاكرني " (¬3)، وفيها يحتشد البربر، مهد الفتن والقلاقل المتوالية. ففي سنة 178 هـ (794 م) أثار البربر هنالك ضرام الفتنة مرة أخرى، وخلعوا الطاعة وعاثوا في تلك الأنحاء، فسير إليهم هشام حملة بقيادة عبد القادر بن أبان بن عبد الله، فأخمد الثورة دون رأفة، وأباد جموع البربر، وخرب بلادهم وضياعهم، وفرقهم في الأنحاء ¬_______ (¬1) راجع R.M. Pidal: ibid, p. 203 (¬2) ابن الأثير ج 6 ص 45؛ والبيان المغرب ج 2 ص 64، ونفح الطيب ج 1 ص 158. (¬3) راجع معجم البلدان لياقوت ج 2 ص 353.

والقبائل تمزيقا لعصبتهم، وبقيت هذه المنطقة عدة أعوام قفرا خرابا. وفي ربيع سنة 179 هـ (795 م) سير هشام إلى جليقية حملة أخرى بقيادة عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، أخى الحاجب، فاخترق المسلمون مفاوز جليقية حتى أستُرقة، ففر السكان النصارى إلى رؤوس الجبال، وتأهب ألفونسو ملك جليقية للقاء المسلمين، على رأس جيش من الجلالقة وحلفائهم البشكنس، ونشب القتال بين الفريقين في قاصية جليقية، في المكان المعروف بالصخرة، وانتصر الجلالقة في البداية في بعض الوقائع المحلية، وقتل جماعة من المسلمين في كمين دبر لهم، ولكن النصارى هزموا في النهاية، وعاث المسلمون في جليقية، وأصابوا كثيراً من الغنائم، ثم ارتدوا إلى الجنوب بعد أن مزقت قوى الجلالقة وسكنوا إلى حين، وساد الأمن في الولايات الشمالية (¬1). وكانت هذه آخر غزوة سيرها هشام، إذ توفي عقب ذلك بقليل في الثالث من صفر سنة 180 هـ (18 إبريل سنة 796 م) في نحو الأربعين من عمره، بعد أن حكم نحو ثمانية أعوام. وكان أبيض، أشهل، مشرباً بالحمرة، وبعينيه حول، وكنيته أبو الوليد ويلقب بالرضا (¬2). وفي عهده ساد الأمن والاستقرار ربوع الأندلس بالرغم مما وقع خلاله من الثورات المحلية. وكان هشام إلى جانب رفقه وتواضعه، حازماً، صارماً في الحق، حريصا على توطيد النظام والعدالة، فلم يتردد في القبض على ابنه الأكبر عبد الملك وزجه إلى السجن لما ثبت لديه من ائتماره به، فبقى في سجنه أعواماً طويلة حتى توفي بعد وفاة أبيه (¬3). وكان فوق شغفه بالجهاد والغزو، محباً للإصلاح والإنشاء، فعنى بإتمام مسجد قرطبة الجامع الذي بدأ بإنشائه أبوه وتوفي قبل إتمامه، وأنشأ عدة مساجد أخرى، وزين قرطبة بكثير من الأبنية والحدائق الفخمة، وجدد قنطرة قرطبة الشهيرة التي بناها السمح بن مالك على النهر الكبير، وأنفق في تجديدها أموالا عظيمة، وكان ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 66، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 72. ويقول ابن الأثير إن الذي قاد هذه الحملة هو عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث (ج 6 ص 48). وراجع ابن خلدون ج 4 ص 125. (¬2) ابن الأثير ج 6 ص 46، وابن الأبار ص 37، والبيان المغرب ج 2 ص 62. (¬3) ابن الأثير ج 6 ص 41.

يشرف على إصلاحها بنفسه (¬1)، وعلى الجملة فقد كان عهده زاهراً، وافر الأمن والرخاء. وكان هشام شديد الورع والتقوى، وكان شغفه بالجهاد وإعلاء كلمة الدين من أخص مظاهر تقواه، وكان ينفق الأموال الطائلة في افتداء أسرى المسلمين، حتى لم يبق في عهده منهم في قبضة العدو أحد، ويرتب في ديوانه أرزاقا لأسر الجند المتوفين في الجهاد (¬2). وفي عصره اتخذت السياسة الأموية إجراء يشهد ببعد نظرها، إذ جعلت العربية لغة التدريس في معاهد النصارى واليهود. وكان لذلك الإجراء بالرغم من بساطته، أثر عميق في التقريب بين أصحاب المذاهب المختلفة، وفي بث روح التفاهم والوئام بينها، ولاسيما بين المسلمين والنصارى، وكان من أثره أيضاً أن كثر اعتناق النصارى للإسلام بعد أن وقفوا على أصوله وتفاصيله، وقربت مسافة الخلاف بينهم وبين الفاتحين، ولم يكن ذلك بعيداً في الواقع عن غاية السياسة الأموية (¬3). وكان هشام يؤثر مجالس العلم والأدب ولاسيما الحديث والفقه على غيرها. وفي عصره ذاع مذهب مالك (¬4). وكان الإمام مالك، وهو معاصر لهشام، يعجب بسيرته وخلاله، ويشيد بعدله وتقواه، وكانت تجمع بين الرجلين على بعد المزار عاطفة مشتركة هي بغض بني العباس، وكان قد رحل إلى المشرق عدة من فقهاء الأندلس، منذ أيام عبد الرحمن الداخل، وفي مقدمتهم زياد بن عبد الرحمن، وعيسى بن دينار، وسعيد بن أبي هند، ويحيى بن يحيى الليثي، فدرسوا على مالك بالمدينة، واستقوا من علمه واجتهاده، ونقلوا عنه كتابه " الموطأ "، وذاع مذهب مالك على يدهم في الأندلس في عصر هشام. وكان هشام كثير الإجلال لمالك ومذهبه، فزاد ذلك في ذيوعه وتوطده، وغدا مذهب أهل الأندلس الغالب، وكانوا قبل ذلك يعملون بمذهب الأوزاعي إمام ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 68، وابن الأثير ج 6 ص 49. وما تزال هذه القنطرة العربية قائمة حتى اليوم على نهر الوادي الكبير خلف الجامع الأموي، محتفظة بعقودها القديمة، بالرغم مما توالى عليها من ضروب الإصلاح والتجديد. (¬2) أخبار مجموعة ص 120. (¬3) راجع Scott: ibid, I.p. 433.. (¬4) الإمام مالك بن أنس، أبو عبد الله، أحد أصحاب المذاهب الأربعة الشهيرة (95 - 179هـ) وترجمته في ابن خلكان ج 1 ص 555 - 57.

أهل الشأم (¬1). وفي عصر هشام قوى نفوذ الفقهاء ورجال الدين، وتربعوا في أهم المناصب، وكثر تدخلهم في شئون الدولة، خلافا لما كان عليه عبد الرحمن الداخل من إقصائهم والتحرز من تدخلهم ونفوذهم، وكان لذلك أثر غير محمود ترتبت عليه فيما بعد نتائج سياسية واجتماعية خطيرة. - 2 - وخلف هشاماً ولدُه الحكم بعهد منه، وبويع عقب وفاة أبيه بأيام قلائل في الثامن من صفر سنة 180 هـ (أبريل 796 م)، وهو في السادسة والعشرين من عمره، وكان مولده بقرطبة سنة 154 هـ (771 م)، وأمه أم ولد تدعى زخرف، وكان طاغية، حازماً، شجاعاً، شديد الوطأة على خصومه والخارجين عليه، وكانت تحدوه مع ذلك نزعة إلى الإنصاف والعدالة (¬2). وهو أول من أظهر فخامة الملك بالأندلس، وأسرف في تأييد هيبته، وجدد عهد أجداده بالمشرق ببذخه وروعته، واستكثر من المماليك والبطانة. وكان ميالا إلى اللهو، مولعاً بالصيد، يؤثر مجالس الندماء والشعراء، على مجالس الفقهاء والعلماء. وآنس الفقهاء تصدع مركزهم الذي سما في عهد أبيه هشام، وكانت سياسة الحكم ترمي إلى الحد من نفوذهم، وإبعادهم عن التدخل في شئون الدولة، وكانوا بالعكس يرمون إلى انتزاع السلطة السياسية ليحكموا الأمة من وراء العرش بواسطة جمهورية دينية، فجاءت سياسة الحكم ضربة قاضية على أمانيهم، وثارث نفوسهم سخطاً على الأمير الفتى، وأخذوا يلوحون بسبه والتعريض به من فوق المنابر، ويوغرون عليه صدور العامة بالدس والوقيعة، ويسبغون على دعايتهم ثوب الوعظ والإرشاد، والحض على التمسك بأحكام الدين. وكان الحكم بإسرافه في مجالى اللهو والبذخ، يسبغ على أقوالهم قوة، وكانت دعايتهم قوية بالأخص بين البربر والمولدين (أو مسلمي الإسبان)، إذ كان هؤلاء يبغضون العرب لكبريائهم واستئثارهم بالمناصب والنفوذ، وكانوا دائماً على أهبة الخروج والعصيان كلما سنحت الفرصة. وكان لتحريض الفقهاء وسعايتهم كما سنرى آثار بعيدة المدى (¬3). ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 120؛ والاستقصاء ج 1 ص 61، ونفح الطيب ج 2 ص 158؛ وراجع أيضاً Dozy: Hist.,I.p. 286 & 287 (¬2) أخبار مجموعة ص 125. (¬3) راجع المعجب ص 11؛ ونفح الطيب ج 1 ص 159، وكذلك Dozy: Hist,I.p. 288 وألتاليرا Hiat.de Espana, Vol.I.p. 227

وفي بداية عهد الحكم، في صيف سنة 180 هـ (796 م) سار الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث غازياً بالصائفة إلى ألبة والقلاع، (قشتالة القديمة) واستولى على قلعة قلهُرّة الواقعة على نهر إيبرو، وأثخن في بلاد البشكنس (نافار)، وعاد مثقلا بالغنائم والسبي. ولكن سرعان ما اضطر الحكم إلى ترك الجهاد والغزو، ليعني بمقاومة بوادر الخروج والثورة التي أخذت تتفتح حوله من كل صوب. وكان الثغر الأعلى (أراجون) موطن الخطر في تلك المرة، وكانت تؤازره وتذكيه عوامل خارجية في منتهي الخطورة. ذلك أن الحكم ما كاد يجلس على عرش أبيه، حتى عول عماه سليمان وعبد الله على التحرك مرة أخرى. وكانا يقيمان في عدوة المغرب منذ أيام أخيهما هشام، يرقبان الفرص. واتصل عبد الله بابن الأغلب صاحب إفريقية وخاطبه في مشروعهما، ولكنه لم يلق على ما يظهر منه تأييداً، فاتجه الأخوان وجهة أخرى. وكانت مدائن الثغر الأعلى (¬1) وفي مقدمتها سرقسطة ما زالت، منذ أيام عبد الرحمن الداخل تفيض بعوامل الفتنة، ففي سنة 181 هـ (797 م) ثار بالثغر الأعلى بهلول بن مروان المعروف بأبى الحجاج ودخل سرقسطة، وثار حاكم مدينة وشقة في نفس الوقت. فعبر سليمان وعبد الله سراً إلى الأندلس، وسار عبد الله إلى الثغر الأعلى يؤلب البلاد، ويحشد الأنصار لمقاتلة الحكم، ثم عبر جبال البرنيه إلى بلاد الفرنج، وسعى إلى مقابلة شارلمان (كارل الأكبر) في مدينة إيكسلا شابيل حيث كان يعقد بلاطه يومئذ، والتمس إليه العون والمؤازرة، فأكرم ملك الفرنج وفادته، واستجاب إلى دعوته، وألفى الفرصة سانحة للتدخل في شئون الأندلس، وتحقيق مطامعه القديمة. وسير شارلمان جيشاً مع ولده لويس أمير أكوتين، فعبر البرنيه واستولى على مدينة جيرونة (جيرندة)، ثم توغل في ولاية الثغر الأعلى، بممالأة بعض الزعماء الخوارج، وقيل إن الأخوين عبد الملك وعبد الكريم ابنى عبد الواحد ¬_______ (¬1) قال ياقوت في معجمه الجغرافي " الثغر "، كل موضع قريب من أرض العدو يسمى ثغرا، كأنه مأخوذ عن الثغرة " وهي الفرجة في الحائط ". وكان رباط الثغر أيام فتح الأندلس يشمل أربونة وما حولها، باعتبارها أقصى ولاية في اسبانيا المسلمة، مما يلى أرض الفرنج، فلما سقطت أربونة في يد النصارى ارتد " ثغر " الأندلس إلى ما رواء جبال البرنيه؛ فأصبح " الثغر " يطلق على ولاية سرقسطة وما جاورها حتى برشلونة والبحر شرقا، وهذا هو " الثغر الأعلى "، ويشمل عدا سرقسطة لاردة، وتطيلة، ووشقة، وطرطوشة، وطركونة وغيرها؛ ويقابل "أراجون"، من ولايات اسبانيا الحديثة. وسميت طليطلة وأعمالها " بالثغر الأوسط " لمجاورتها لمملكة ليون النصرانية (جليقية).

ابن مغيث انضما يومئذ إلى عبد الله في ثورته، وأنهما سارا إلى سرقسطة، ولكن أبا صفوان حاكمها من قبل الحكم، استطاع أن يهزم الخوارج، وأن يأسر زعيمهم عبد الكريم، وأن الأخوين عادا بعد ذلك إلى الطاعة واستأمنا في أوائل سنة 186هـ فأمنهما الحكم، ووفدا على قرطبة وقدما خضوعهما وإخلاصهما (¬1). وقد نجد ما يؤيد هذه الرواية في أنه لم يرد للأخوين ذكر خلال هذه الأعوام الخمسة، مع أنهما كانا دائماً في الطليعة في قيادة مختلف الحملات والغزوات. وعلى أي حال فقد بادر الحكم بالسير إلى الشمال لرد هذا الخطر الجديد. والظاهر أن الفرنج لم يلقوا الحوادث ممهدة في ذلك الجزء المضطرم من الأندلس، وخشوا من جهة أخرى من نكث حلفائهم المسلمين، وتكرار مأساة باب الشزري، فارتدوا إلى الشمال بعد أن حاصروا مدينة وشقة حيناً (797 م)، تاركين الأمور لمصيرها، ولما رأى الزعماء الخوارج عبث المقاومة، عادوا إلى الطاعة، واسترد الحكم سلطانه على سرقسطة ووشقة ولاردة وغيرها. ¬_______ (¬1) وردت هذه الرواية منسوبة إلى الرازي مؤرخ الأندلس، في أوراق مخطوطة عن تاريخ الأندلس من سنة 180 إلى سنة 232هـ عثر بها صديقي العلامة المرحوم " ليفي بروفنسال " عميد كلية الجزائر والأستاذ بجامعة باريس سابقا. وقد تفضل بإطلاعي عليها ونقلت عنها. ولم نكن نعرف وقتئذ بالتحقيق من هو مؤلف هذا المخطوط؛ ولكن تبين فيما بعد من مقارنة الروايات التي يوردها عن مؤرخي الأندلس السابقين مثل الرازي وابن القوطية وابن الفرضي، ثم ابن حزم وأحمد ابن خالد، كما تبين منه مما تتسم به كتاباته وتعليقاته من الرزانة والدقة، أن هذه الأوراق المخطوطة، إنما هي قطعة من مؤلف مؤرخ الأندلس الكبير ابن حيان، وهو المسمى " المقتبس في تاريخ رجال الأندلس ". وتحتوي هذه القطعة على كثير من المعلومات والتفاصيل الحسنة عن حوادث العصر الذي نتحدث عنه وعن شخصياته. وقد حصلت بعد ذلك بأعوام من مكتبة القرويين بفاس، على نسخة مصورة من قطعة كبيرة مخطوطة من تاريخ ابن حيان المشار إليه تبين أنها تتمة للجزء المتقدم، إذ تبدأ حوادثها من سنة 233هـ وتننتهي في سنة 267هـ, وهي عبارة عن جزء كبير يقع في مائة وتسعين صفحة كبيرة. وهي قديمة بالية متآكلة الحوافي. وقد انتفعت بها منذ الطبعة الثالثة من الكتاب انتفاعا عظيما حسبما يرى القارىء بعد هذا. ثم ظهرت أخيرا قطعة كبيرة من " المقتبس " تتعلق بعصر الناصر وتحفظ بالمكتبة الملكية بالرباط، وقد أشرنا إليها وإلى محتوياتها في مقدمة الكتاب. وقد انتفعنا بها في هذه الطبعة الجديدة أعظم انتفاع حسبما يرى القارىء بعد. وقد نشرت من قبل قطعة أخرى من تاريخ ابن حيان بعناية المستشرق الإسباني أنتونيا، وهي تتعلق بالأخص بحوادث عصر الفتنة الكبرى (250 - 300هـ). وتوجد قطعة صغيرة مخطوطة أخرى من تاريخ ابن حيان بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد، وهي تتعلق بأحوال الخلافة وحوادث الأندلس في سنى 362 - 365هـ أيام الحكم المستنصر.

وفي ذلك الحين كان سليمان بن عبد الرحمن قد استطاع أن يحشد أنصاره ولاسيما من البربر، وهرع إليه أخوه عبد الله البلنسي بعد فشله في الشمال، وسار الخوارج إلى قرطبة يحاولون الإغارة عليها، فالتقوا بجند الحكم على مقربة منها في مكان يسمى " فنجيط " وذلك في شوال سنة 182 هـ، فهزم سليمان. ثم التقى الجمعان ثانية بالقرب من إستجَّة في صفر سنة 183، فهزم سليمان مرة أخرى بعد قتال عنيف، وفر في أصحابه متجها إلى ماردة، فبعث الحكم الجند في أثره، فطاردته حتى قبض عليه. وجىء به إلى الحكم، فأمر بإعدامه، وأعدم معه عدة من زعماء الفتنة، وأرسلت رؤوسهم إلى قرطبة حيث طيف بها (سنة 184 هـ - 800 م). وفر أخوه عبد الله إلى بلنسية فاختفى بها، ولكنه لم ير في النهاية مناصا من طلب العفو، فعفا عنه الحكم وأصدر له أماناً خاصاً، وذلك على أن يبقى في بلنسية وتجري عليه أرزاقه، وبعث عبد الله إلى الحكم بابنه عبيد الله فأكرمه الحكم وزوجه إحدى أخواته، وركن عبد الله إلى السكينة طوال عهد الحكم (¬1). وهكذا انتهت المرحلة الأولى من الحوادث التي اقترنت بثورة سليمان وأخيه عبد الله، ولم يجن الفرنج فيها كبير غنم، ولكن ذلك لم يثن شارلمان عاهل الفرنج عن عزمه ومشاريعه. ذلك أن سياسة التدخل في شئون إسبانيا المسلمة، كانت أصلا من أصول السياسة الفرنجية، وكان الفرنج ينظرون بعين التوجس، إلى قيام هذه الإمارة الإسلامية الجديدة فيما وراء البرنيه، وإلى توطدها ونموها، ويخشون بالأخص أن يضطرم الإسلام بفورة جديدة من الجهاد والغزو، فينساب تيار الفتح الإسلامي إلى غاليس كرة أخرى، وقد حاول شارلمان ضربته الأولى في عهد عبد الرحمن الداخل فباء بالهزيمة والفشل، ونكب في مفاوز رونسفال (باب الشزري). ولما عبر المسلمون جبال البرنيه في عهد هشام وغزوا سبتمانيا، تجددت مخاوف الفرنج وتجددت مشاريعهم لتأمين حدودهم الجنوبية، وكانوا يلتمسون الفرصة كلما اضطرمت الأندلس بالثورة. وهنا يجدر بنا أن نتساءل، هل كان لسياسة الخلافة العباسية أثر في صوغ هذه السياسة الفرنجية نحو الأندلس أو الإيحاء بها؟ لقد رأينا كيف كانت الخلافة العباسية تحاول بث دعوتها في الأندلس على يد بعض الزعماء الخوارج، وكيف كانت هذه الدعوة تحدث أثرها في إضرام نار ¬_______ (¬1) مخطوط ابن حيان المشار إليه لوحة 90.

الفتنة. على أن الخلافة العباسية، كانت من جهة أخرى تتصل بالمملكة الفرنجية بصلات سياسية. وترجع الرواية الفرنجية هذه الصلة إلى عهد المنصور، وتقول لنا إن ببين ملك الفرنج أرسل إلى المنصور سفارة رد عليها المنصور بمثلها، وتضيف الرواية الفرنجية إلى ذلك أنه كانت ثمة بعدئذ مكاتبات وسفارات بين الرشيد وبين شارلمان ولد ببين، ومع أن الرواية الإسلامية لا تذكر شيئا عن هذه العلائق بين ملك الفرنج والخليفة العباسي، فإن في تفاصيل الرواية الفرنجية، وفي طبيعة الحوادث التي كان يجوزها الشرق والغرب يومئذ، ما يحملنا على الاعتقاد في صحتها (¬1). وهذه العلائق ذاتها تلقي ضوءاً على موقف السياسة العباسية، من حوادث الأندلس في ذلك الحين. فقد كانت الخلافة العباسية ترى في قيام إمارة قرطبة الأموية في الغرب منافسا لها في سيادة العالم الإسلامي، ولم يكن يسوءها أن تتعثر هذه الإمارة الفتية في معترك من الصعاب والفتن، وأن تشغل بمقارعة أعدائها في الداخل والخارج. وإذاً فقد كانت الخلافة العباسية تشاطر السياسة الفرنجية نفس الغاية التي ترمي إليها بالنسبة لإمارة قرطبة، وهي العمل على إضعافها وتحطيمها إن أمكن، ولما كانت الدولة العباسية لا تستطيع أن تعمل لتحقيق هذه الغاية بطريق مباشر، فقد كان في وسعها على الأقل أن تعمل لتأييدها بطريق الدعوة والتحريض. ولم يكن بعيداً أن يجد الخليفة العباسي، وهو يبسط حكمه على ملايين من النصارى، وفي أرضه يقع القبر المقدس، وسيلة للتفاهم مع إمبراطور الفرنج وحامي النصرانية، وأن يجد عاهل الفرنج ما يشجعه على إذكاء تحرشه بإمارة قرطبة، في رفق الخليفة برعاياه النصارى، هذا فضلا عن أن السياسة الفرنجية تعمل بذلك على تحقيق غايتها الأصلية من مناوأة الإسلام في اسبانيا وإضعاف سيادته ونفوذه، وحماية حدود مملكة الفرنج الجنوبية. وإذاً فمن المحتمل أن يكون لهذه السفارات والمراسلات السياسية، التي تقول الرواية الفرنجية بوقوعها بين الرشيد وشارلمان، صلة بهذه المرحلة من تدخل الفرنج في شئون اسبانيا المسلمة، واعتدائهم المتكرر على أراضيها. وقد وقع الغزو الفرنجي لشمال اسبانيا في عهد الحكم بين سنتي 181 و185هـ، أعني في أواسط عهد الرشيد ¬_______ (¬1) تناولت موضوع العلائق بين الرشيد وشارلمان في فصل خاص في كتابي " مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام " (الطبعة الرابعة ص 218 - 224).

(170 - 193هـ). والواقع أن في اتحاد المصلحة والغاية بين الخليفة العباسي وعاهل الفرنج، ما يسبغ على هذا الفرض تأييداً. ولما كانت السياسة الفرنجية ترمي قبل كل شىء إلى تأمين غاليس (جنوب فرنسا) من خطر الغزو الإسلامي، فقد رأت أن تنشىء في قاصية اسبانيا الشمالية الشرقية مما يلي جبال البرنيه، ولاية فرنجية جديدة تكون سدا بين الغزاة وبين مملكة الفرنج، وأنشئت هذه الولاية التي سميت " بالثغر القوطي " أو الثغر الإسباني في البداية، من مدن جيرونة (جيرندة) وأوزونة وسولسونة، وما حولها مما اقتطعه الفرنج من أراضي اسبانيا المسلمة، التي كانت تابعة لرباط الثغر الإسلامي القديم. ولما عاد الاضطراب إلى الثغر الأعلى، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثورات الداخلية المتوالية، ألفى الفرنج الفرصة سانحة لدفع غزواتهم نحو الجنوب، وكان شارلمان يطمح بالأخص إلى افتتاح ثغر برشلونة المنيع ليكون معقلا لحماية أملاكه الجنوبية، وحلقة اتصال بحري سهل بينها وبين فرنسا. وعمد شارلمان قبل البدء في تنفيذ مشروعه إلى عقد محالفة بينه وبين أمير جليقية ألفونسو الثاني (سنة 798 م)، لكي يكتسب ولاء البشكنس ومعاونتهم. وفي سنة 801 م (185 هـ) سير شارلمان إلى اسبانيا جيشاً ضخماً لافتتاح برشلونة بقيادة ولده لويس أمير أكوتين، وانقسم هذا الجيش إلى قسمين، سار أحدهما بقيادة حاكم جيرونة لمحاصرة برشلونة، وسار الآخر بقيادة جيوم كونت دي تولوز ليرابط جنوب غربي برشلونة بين لاردة وطركونة، ليحول دون وصول أى مدد إلى المدينة المحصورة. وكان الحكم يشغل يومئذ بمطاردة الخوارج عليه وفي مقدمتهم عمه عبد الله، وكان والي برشلونة، سعدون الرعيني، في مأزق حرج، يتطلع عبثاً إلى قدوم المدد، وهو في ثغره القاصي بعيداً عن كل عون ومساعدة، ولم يكن له ما يؤمل من معاونة زملائه ولاة الثغر الأعلى، ومعظمهم يضمر الخروج على حكومة قرطبة، ويرى في اضطراب الأمور ملاذاً. ومع ذلك فقد صمدت برشلونة، وصمم واليها الشجاع على المقاومة، ولبثت حيناً تعاني أمر ضروب الحرمان والجوع، دون أن يأتيها المدد المنشود. ثم تفاقم الأمر وجاء جيش جديد من الفرنج بقيادة لويس ليشدد الحصار على المدينة، فرأى سعدون الرعيني أن يحاول التماس المدد بنفسه من قرطبة، وغادر برشلونة تحت جنح الظلام،

وحاول أن يخترق خطوط العدو، ولكنه ضبط وأسر، ولم تستطع برشلونة ثباتاً بعد أن هلك ألوف من أهلها، وفتحت ثغرات عديدة في أسوارها، فاضطرت إلى التسليم بعد أن ذاقت ويلات الحصار سبعة أشهر. واتخذ الفرنج من برشلونة مكان جيرندة، قاعدة للثغر القوطي الذي نما فيما بعد، وكان الفرنج يعينون حكامه من الكونتات الذين ينتمون إلى أصل قوطي أو فرنجي. ولم يلبث أولئك الحكام، حينما شعروا بقوتهم وبعدهم عن سلطان مملكة الفرنج، أن أعلنوا استقلالهم، وغدا الثغر الفرنجي إمارة نصرانية هي إمارة قطلونية، التي اندمجت فيما بعد في مملكة أراجون القوية، وخسر الإسلام بفقد برشلونة أمنع ثغوره في قاصية اسبانيا، وارتدت حدود الأندلس إلى الثغر الأعلى، بعد أن كانت تجاوز جبال البرنيه (¬1). وفي سنة 189 هـ (805 م) اكتشف الحكم مؤامرة خطيرة دبرت لخلعه، وكان من ورائها رهط الفقهاء الذين قضى الحكم على نفوذهم، مثل يحيى بن يحيى الليثي، وعيسى بن دينار، وطالوت الفقيه، وغيرهم من زعماء المالكية. وقد رأينا كيف سخط الفقهاء على الحكم لتصدع نفوذهم القديم، وأثاروا عليه وعلى خلاله دعاية قوية، واتهموه من فوق المنابر بالقسوة والخروج على أحكام الدين، وكيف كان الحكم، بمرحه وبذخه، وشغفه باللهو والشراب، يسبغ على دعايتهم قوة. وكان ثمة فريق آخر من أعيان قرطبة ينقم على الحكم صرامته وطغيانه. وكان هؤلاء وهؤلاء يتربصون بالحكم ويلتمسون الفرصة للإيقاع به، وكان في موقف الشعب القرطبي، ما يشجعهم على تدبير مشاريعهم، إذ كان الشعب متأثراً بدعاية الفقهاء في حق الحكم، وبما كان يبديه الحكم من ترفع عن الشعب، فكان أهل قرطبة يبغضون الحكم وبلاطه. وهكذا ائتمر الفقهاء والأعيان بالحكم واتفقوا على خلعه، وكان في مقدمة المتآمرين مالك بن يزيد بن يحيى التجيبي، وموسى بن سالم الخولاني، وأبو كعب بن عبد البر وأخوه عيسى، ويحيى ابن مضر القيسي الفقيه وغيرهم، وكان بينهم بعض المروانية من أقارب الحكم، ومنهم محمد بن القاسم المرواني الذي اختاره المتآمرون لرياستهم، ووعدوه بأن ¬_______ (¬1) تضع الرواية الإسلامية تاريخ سقوط برشلونة في سنة 185 هـ (801 م) متفقة بذلك مع الرواية الفرنجية، وقد وردت عنه نبذة حسنة في مخطوط ابن حيان الذي أشرنا إليه (ص 90). وراجع ابن الأثير ج 6 ص 55؛ وكذلك Scott: ibid , V.I.p. 448-452; و Altamira: Hist.de Espana: Vol.I.p. 241

يكون خلف الحكم في الإمارة (¬1)، ولكنه خشى العاقبة وبادر بإبلاغ الحكم، واكتشفت المؤامراة قبل نضجها، وقبض الحكم على عدد كبير من المتآمرين. واستطاع بعضهم الفرار، مثل يحيى بن يحيى، وعيسى بن دينار. وأعدم الحكم منهم اثنين وسبعين رجلا، وأبدى في إعدامهم قسوة ظاهرة، إذ صلبهم على شاطىء النهر تجاه مشارف القصر، وكان من بين القتلى عماه مسلمة المشهور بكليب، وأمية، ابنا عبد الرحمن بن معاوية، قتلهما لارتيابه في سلوكهما، فأثار هذا الإجراء الدموي في قرطبة أيما ارتياع، وأسبغ على خلال الحكم ريباً، وأذكى الحفيظة على الأمير في نفوس الخاصة والعامة معاً. وشعر الحكم بخطورة هذا الأثر، فحصن قرطبة ورمم أسوارها، واحتفر الخنادق حولها، وفرض على الشعب حكم إرهاب يزيد في حفيظته. ولم تمض أشهر على ذلك حتى اضطرمت في قرطبة فورة من السخط، وثار العامة في الرَّبض (الضاحية) بزعامة رجل منهم يقال له ديبل، وكان الحكم غائباً يشرف على محاصرة الثوار في ماردة، فعاد مسرعاً إلى قرطبة، وقبض على زعيم الفتنة وعدة كبيرة من أنصاره، وصلبوا جميعاً ومثل بهم، وسحق الهياج دون رأفة، وهدأت العاصمة إلى حين (¬2). وفي العام التالي، سنة 190 هـ (806 م)، نشبت الثورة في ماردة بقيادة زعيمها أصبغ بن عبد الله بن وانسوس، فسار الحكم إلى قتاله، ولكنه ارتد عنه حينما وقف على نبأ الهياج في قرطبة. وترددت الحملات والبعوث بعد ذلك إلى ماردة لإخماد الثورة، واستمر زعيمها أصبغ على مقاومته بضعة أعوام، وكان ذا وجاهة وبأس، يلتف حوله مواطنوه البربر وهم كثرة في ماردة وما حولها، ولكنه اضطر أخيراً إزاء حزم الحكم وصرامته إلى طلب الأمان والصلح، فأجابه الحكم إلى طلبه، وعادت ماردة إلى الطاعة (¬3). وكانت طليطلة حاضرة القوط القديمة، وقاعدة "الثغر الأوسط" (¬4) ما تزال ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب ج 2 ص 73؛ وابن الأثير ج 6 ص 66؛ ولكن ابن القوطية يذكر أن المتآمرين بايعوا شخصاً آخر من أبناء عمومة الحكم. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 73؛ وابن الأثير ج 6 ص 86، ومخطوط ابن حيان المشار إليه ص 98. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 74، ومخطوط ابن حيان المشار إليه ص 99. (¬4) تسمى طليطلة وأعمالها في الجغرافية الأندلسية " بالثغر الأوسط " حسبما تقدم.

منذ الفتح تفيض بعوامل الهياج والثورة، وكان بين أهلها كثرة من المولدين أو النصارى الذين دخلوا في الإسلام، والمستعربين أو النصارى المعاهدين. وقد سبق أن عنينا بالتعريف بهذين العنصرين، اللذين اضلعا بأدوار خطيرة في تاريخ اسبانيا المسلمة، وأوضحنا أن العرب والبربر، وهما العنصران اللذان تعاونا في فتح اسبانيا، لم يكونا أغلبية بين الشعب الأندلسي الذي تكون بعد الفتح بمضي الزمن، وكان العرب بالأخص أقلية في معظم المدن الكبيرة، لكن هذه الأقلية العربية كانت تستأثر بالحكم، وخصوصاً في الأقاليم الوسطى والجنوبية القريبة من قرطبة مركز الإمارة والسيادة. وكان البربر من جانبهم أغلبية في بعض المناطق الغربية والشمالية، وكانوا حيثما غلبت كثرتهم وسلطتهم، يتحدون في معظم الأحيان مع المولدين، وأحياناً مع النصارى المعاهدين أنفسهم، على مناوأة حكومة قرطبة. أما "المولدون" فكان معظمهم حسبما أسلفنا من الإسبان والقوط الذين اعتنقوا الإسلام منذ الفتح تباعاً، واندمجوا في المجتمع الإسلامي، وقد كانوا كثرة في بعض المدن القوطية العريقة مثل طليطلة وبعض مدن الثغر الأعلى، وقد برزت منهم بعض الأسر القوية ذات السلطان والبأس، مثل بني قسىّ زعماء الثغر الأعلى وبنو حفصون زعماء ريُّه، ويصفهم المستشرق سيمونيت بأنهم كانوا بعد اندماجهم في المجتمع الإسلامي أشد تعصباً ضد النصارى من المسلمين الخلص أنفسهم (¬1). وأما النصارى المعاهدون أو المستعربون كما يسمون بالإسبانية Mozarabes، فهم حسبما أشرنا من قبل النصارى الإسبان الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم، وبقوا في المدن الأندلسية المفتوحة تحت الحكم الإسلامي. وبالرغم مما كانت تسبغه الحكومة الإسلامية عليهم من أسباب الرعاية، وما كان لهم في كثير من الأحيان من الحظوة والتمتع بثقة الأمراء، وتولي كثير من الوظائف الهامة، فقد كانوا على العموم عنصراً قليل الولاء للحكومة الإسلامية، وكانوا في المدن البعيدة في كثير من الأحيان، يحالفون الثوار من المسلمين والبربر والمولدين، ويمالئونهم، ويعملون على عقد الصلات بينهم وبين الملوك النصارى، سعياً إلى مناوأة حكومة قرطبة وخلق الصعاب في وجهها. وسنرى أى دور خطير يلعبه أولئك النصارى المعاهدون في قرطبة في عهد عبد الرحمن بن الحكم، لإثارة الفتن والاضطراب في المملكة الإسلامية. ¬_______ (¬1) Simonet: Hist.de los Mozarabes, Vol.I.p. 362

هذا، وفضلا عما كان للمولدين والنصارى المعاهدين من كثرة ظاهرة في مدينة طليطلة، فإن أهل طليطلة على وجه العموم، لم ينسوا سالف عزهم ومجدهم أيام أن كانت مدينتهم دار ملك القوط، وكانوا يعتزون بكثرتهم وثروتهم وحصانة مدينتهم (¬1)، وتحدوهم روح من التمرد والخروج المستمر على حكومة قرطبة. وقد رأينا كيف كانت طليطلة مركز الثورة، وملاذ الزعماء الخوارج منذ عهد عبد الرحمن الداخل. وفي عهد الحكم عادت طليطلة إلى سابق سيرتها، وثار فيها في سنة 181هـ (797 م) عبيدة بن حميد، فوجه الحكم قائده عمروس ابن يوسف لمحاربته، وكان يقود الجيش في طلبيرة، فالتقى بالثوار في عدة مواقع، ولما رأى ثبات الثوار لجأ إلى سلاح الغيلة، واستمال بعض وجهاء المدينة بالمنح والوعود، ودفعهم إلى اغتيال عبيدة بن حميد، وبذا أخمدت الثورة إلى حين، وأذعنت المدينة الثائرة لسلطان الحكم. ولكن هذا الهدوء المؤقت لم يطل أمده، ولم تمض بضعة أعوام حتى عادت طليطلة إلى الثورة، ولم ير الحكم وسيلة لإخضاعها سوى تعيين عمروس بن يوسف حاكماً لها. وكان عمروس " مولداً " من أهل وشقة، ذا وجاهة وبأس، وكان قد ظهر في الثغر الأعلى، وأظهر طاعة الحكم ودعا له، خلافاً لكثير من زعماء الثغر الخوارج، فسر الحكم بمسلكه ودعاه إلى خدمته، واختاره للقيادة، ثم اختاره لولاية طليطلة ليعالج المدينة الثائرة، ويعمل على إخضاعها، ولوحظ في هذا الاختيار أن عمروس مولد، وأن معظم أهل طليطلة من المولدين. وكتب الحكم إلى أهل طليطلة يقول: "إني قد اخترت لكم فلاناً وهو منكم لتطمئن قلوبكم إليه، وأعفيتكم ممن تكرهون من عمالنا وموالينا، ولتعرفوا جميل رأينا فيكم". ودخل عمروس طليطلة، فأنس به أهلها، وتظاهر أمامهم ببغض بني أمية والموافقة على خلع طاعتهم، واستمالهم برفقه ولينه، ثم أنشأ بموافقهم في ظاهر طليطلة قلعة حصينة بحجة إيواء الجند والموظفين فيها بعيداً عن أهل المدينة وحرصاً على راحتهم، وبعث إلى الحكم يستقدم إليه الجند سراً، فسير الحكم جيشاً بقيادة ولده عبد الرحمن لمقاتلة نصارى الشمال في الظاهر، ثم عرج هذا الجيش حين العودة على طليطلة، وخرج عمروس لملاقاة الأمير ¬_______ (¬1) إن إلقاء نظرة على موقع طليطلة فوق المنحدر الصخري الوعر المشرف على منحنى نهر التاجه، والنهر محيط بها من كل نواحيها تقريباً، وبقية الأسوار الهائلة التي كانت تحيط بها، كل ذلك يدل على ما كانت عليه هذه المدينة التالدة من الحصانة في تلك العصور.

وتحيته، ومعه وجوه المدينة، فأكرمهم عبد الرحمن ولاطفهم. وهنا دبرت المؤامرة التي هلك فيها وجوه طليطلة وأعيانها، وفي بعض الروايات أن الذي دبرها وأوعز بتنفيذها هو الحكم، في خطاب أرسله سراً إلى عمروس مع ولده عبد الرحمن، وفي البعض الآخر أن الذي دبر الكمين هو عمروس. وعلى أى حال فقد نفذت المؤامرة بأن أقام عمروس في القلعة الجديدة، وليمة حافلة دعا إليها ألوفاً من الكبراء والأعيان، ورتب الدخول من باب والخروج من باب آخر، منعاً للزحام، وجعل الخدم يقتادون المدعوين إلى غرف الطعام عشرة عشرة، وكلما دخل منهم فوج أخذوا إلى ناحية معينة، وضربت أعناقهم، وألقيت جثثهم إلى حفرة عظيمة، حفرت خصيصاً في مؤخرة القصر، وأصوات الطبول والمزامير تحول دون سماع استغاثتهم، ولم يفطن أحد إلى الحقيقة المروعة إلا بعد أن تعالى النهار، ولم يبد للداخلين أثر في الخروج، ولم يسمع لهم ضجيج، فعندئذ فطن البعض إلى الكمين، وتصايح القادمون ونكصوا على أعقابهم، وهلك في تلك المذبحة التي تعرف بواقعة " الحفرة " عدد كبير من وجوه طليطلة وأعيانها, يقدره البعض ببضع مئين والبعض الآخر ببضعة آلاف، وكانت ضربة شديدة للمدينة الثائرة جردتها من زعامتها، وأضعفت من شأنها، وقضت مدى حين على روح الثورة فيها، وكانت وقعة الحفرة في سنة 191 هـ (807 م) (¬1). وفي ذلك الحين غزا الفرنج بقيادة لويس ولد شارلمان (¬2)، ولاية الثغر الأعلى مرة أخرى، وحاصروا مدينة طرطوشة (سنة 192 هـ)، فبعث الحكم جيشاً إلى الشمال بقيادة ولده عبد الرحمن، فارتد الفرنج إلى أراضيهم، ثم عادوا إلى حصار طرطوشة في العام التالي بقيادة لويس أيضاً، وعاد المسلمون إلى قتالهم بقيادة عبد الرحمن، ومعه في تلك المرة عمروس عامل الثغر الأوسط، ¬_______ (¬1) راجع ابن الأثير ج 6 ص 65، وابن خلدون ج 4 ص 126 و127، والبيان المغرب ج 2 ص 71 و72، وفيه أن من هلك في مذبحة الحفرة، بلغ زهاء سبعمائة فقط. وجاء في مخطوط ابن حيان السابق ذكره، رواية عيسى بن أحمد الرازي، أن الذي دبر الكمين هو الأمير عبد الرحمن بن الحكم، وأنه هو الذي أولم الوليمة، وأنه هلك في المذبحة زهاء خمسة آلاف (ص 93). وراجع أيضاً Dozy: Hist..I.p. 291-294. (¬2) وتسميه الرواية العربية خطأ برذريق أو لذريق بن قارله (ابن الأثير ج 6 ص 66 والبيان المغرب ج 2 ص 74).

وعبدون عامل الثغر الأعلى، في قواتهما، ونشبت بين المسلمين والفرنج عدة وقائع انتهت بهزيمة الفرنج وإنقاذ طرطوشة، وذلك في سنة 193هـ (809 م). وعمد نصارى الشمال كعادتهم إلى انتهاز كل فرصة سانحة للإغارة على أراضي المسلمين، وشجعهم انشغال حكومة قرطبة بقمع الثورات المختلفة، وكان ملك جليقية يومئذ ألفونسو الثاني، الملقب بالعفيف، أميراً شديد التعصب لدينه ووطنه، وكانت حملاته المتوالية إلى أراضي المسلمين يطبعها لون ديني عميق، وعبر ألفونسو نهر دويرة (دورو) إلى أراضي المسلمين غير مرة، وعاث فيها قتلا ونهباً وسبياً، وكانت حملاته تتجه بالأخص إلى أطراف الثغر الأدنى، والي المنطقة الواقعة بين نهري دويرة والتَّاجُه، لبعدها عن حكومة قرطبة، وضعف وسائل الدفاع فيها، وتوغل ألفونسو في حملاته حتى قُلُمْرية (قلنبرية) وأشبونة، وعانى المسلمون في تلك الأنحاء كثيراً من جراء غزوات النصارى، وترامت إلى الحكم آلامهم واستغاثتهم، ورفع إليه شاعره عباس بن ناصح الجزيري قصيدة يصف فيها آلام أهل الثغر ومصائبهم. ففي صيف سنة 194هـ (810 م) (¬1)، سار الحكم غازياً بنفسه إلى أراضي ألبة والقلاع، وتوغل فيها مما يلي وادي الحجارة غرباً، وأثخن في تلك الأنحاء، وهزم النصارى في عدة وقائع، وقتل وسبى منهم جموعا كثيرة، واطمأنت نفوس المسلمين في الثغر بزجر النصارى وردهم إلى داخل أراضيهم. وسير الحكم في العام التالي جيشاً إلى الثغر الأعلى بقيادة عمه عبد الله البلنسي، فغزا قطلونية، وهاجم مدينة برشلونة، وهزم الفرنج، ولكنه لم يحرز فتوحا ثابتة. وشعر الفرنج، كما شعر المسلمون بعقم هذه الحملات المخربة، وآثر الفريقان التفاهم والمهادنة، ويقول لنا ابن حيان إنه كان ثمة باعث آخر على التعجيل بعقد السلم بين العاهلين، هو استفحال أمر إدريس بن إدريس بن عبد الله الحسنى بأرض العدوة (المغرب)، وتقاطر الوفود من إفريقية والأندلس إلى بيعته، وتوجس الحكم من مصاير هذه الحركة الجديدة بالمغرب (¬2). وهكذا عقد ¬_______ (¬1) هذه رواية صاحب البيان المغرب (ج 2 ص 75) ويضع ابن الأثير تاريخ هذه الغزوة في سنة 196هـ. (¬2) مخطوط ابن حيان المشار إليه ص 100. ويسمى ابن حيان هنا ملك الفرنج باسمه الصحيح " قارله بن ببين ". وراجع الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ج 1 ص 71 و72.

السلم بين شارلمان والحكم، واستمر معقوداً حتى وفاة شارلمان بعد ذلك بأعوام قلائل في سنة 814 م. ووقعت في تلك الأثناء عدة ثورات محلية، فثار حزم بن وهب في باجة، وامتد سلطانه حتى أشبونة، فسير إليه الحكم ولده هشاماً، فقاتل الثوار حتى أذعنوا لطلب الأمان. وعادت طليطلة إلى الثورة في سنة 197هـ لأعوام قلائل من واقعة الحفرة، فرأى الحكم أن يسير إليها بنفسه، فسار في قواته من طريق منحرفة كأنه يقصد الشمال، ثم تحول إليها فجأة، ولم تكن الثورة يومئذ، في مثل عنفها القديم، فلم يجد الحكم مشقة في دخول المدينة الثائرة وإخضاعها (سنة 199هـ). وثارت بعد ذلك ماردة بقيادة زعيمها مروان بن يونس الجليقي، فبعث الحكم إليها ولده عبد الرحمن في الجند فأخضعها. وفي سنة 197هـ (812 م) عصف بالولايات الشمالية قحط شديد، وعانى المسلمون في تلك الأنحاء كثيراً من ضروب الحرمان والبؤس، ومات منهم خلق كثير، وعبر البحر إلى العدوة الكثير منهم، فبادر الحكم إلى إغاثتهم ومعاونة المنكوبين منهم، وتخفيف الويل عنهم، وفرق الصدقات الواسعة والأموال الكثيرة في الضعفاء والمساكين، وأبناء السبيل، وفي ذلك يمتدحه شاعره عباس بن ناصح الجزيري بقوله: نكد الزمان فآمنت أيامه ... من أن يكون بعصره عسر طلع الزمان بأزمة فجلت له ... تلك الكريهة جوده الغمر وكانت آخر غزوة قام بها الحكم في الشمال في سنة 200هـ (815 م) إذ سير الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى جلِّيقية في جيش ضخم، وكان الجلالقة وحلفاؤهم البشكنس ما يزالون على عدوانهم وعيثهم بالأراضي الإسلامية المجاورة، فتوغل المسلمون في أراضي جليقية، وأثخنوا فيها، ونشبت بينهم وبين النصارى موقعة شديدة على ضفاف نهر أرون استمرت عدة أيام، وانتهت بهزيمة النصارى، وقتل منهم عدد كبير، ووقع في الأسر جماعة من أمرائهم وأكابرهم، وارتد النصارى إلى الداخل، واعتصموا بالوهاد والربى، وعاد الحاجب إلى قرطبة ظافراً (¬1). ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 159؛ والبيان المغرب ج 2 ص 77.

وفي أواخر عهد الحكم اضطرمت بقرطبة ثورة خطيرة كادت أن تزعزع عرشه، وكان الشعب القرطبي ينقم على الأمير طغيانه وصرامته وكبرياءه، وكان بين أهل قرطبة كثير من " المولدين " الذين يبغضون السلطة الحاكمة، لشعورهم بنقص في مركزهم الإجتماعي وفي حقوقهم العامة، وكان الفقهاء من جهة أخرى، وفي مقدمتهم جماعة من المحرضين البارعين مثل طالوت المعافري وغيره، يعملون على إذكاء سخط العامة على الحكم وبلاطه، بما يرمون به الحكم من جنوح إلى المعاصي، واقتراف للإثم، وانهماك في اللهو والشراب، فكانت بين الأمير وبين أهل قرطبة وحشة تشتد على ممر الأيام، وزاد في سخط العامة ما فرضه الحكم على المواد الغذائية، من عشور مرهقة، وكان العامة يجاهرون بذم الأمير والخوض في سيرته، ويجتمعون في المساجد ليلا لتجريحه والطعن عليه، ووصلت بهم الجرأة إلى أن كانوا يتعرضون له في الطريق، وينعتونه علنا " بالمخمور ". وحدث ذات يوم أن خرج الأمير إلى الصيد، وشق سوق "الربض" فتعرضوا له بالقول، وصفقوا عليه بالأكف، فأمر بالقبض على عشرة من زعمائهم وصلبهم. ويقول لنا ابن القوطية، إن أولئك الذين قبض عليهم وصلبوا كانوا من زعماء مؤامرة دبرت ضد الحكم، وكان منهم بعض أعلام القوم، مثل يحيى بن نصر اليحصبي، وموسى بن سالم الخولاني وولده (¬1). وهنا ازداد الهياج، وبدت أعراض الثورة، وتحفز العامة للوثوب، وأكثروا من التعرض لجند الأمير وحرسه والاعتداء عليهم، وشعر الحكم بخطورة الموقف، فحصن القصر واتخذ أهبته. وفي ذات يوم اضطرمت نار الثورة فجأة، وذلك على أثر مشادة وقعت بين أحد مماليك الحكم وبين صيقل عهد إليه بصقل سيفه، فتباطأ الصيقل، فقتله المملوك، فثار العامة في الحال، وهرعوا إلى السلاح، وكان أشدهم تحفزاً وهياجاً أهل "الربض" الجنوبي في الضفة الأخرى من النهر، وهي ضاحية قرطبة الجنوبية المسماة (شَقُندة)، وكانت كثرتهم من الأوغاد والسفلة، وكان ذلك في اليوم الثالث عشر من رمضان سنة 202 هـ (25 مارس 818 م) (¬2)، وزحفت ¬_______ (¬1) ابن القوطية في " افتتاح الأندلس " ص 50 و51. (¬2) تختلف الرواية الإسلامية في تاريخ هذه الموقعة اختلافاً بينا، فتضع معظم الروايات الأندلسية تاريخها في سنة 202هـ؛ ويعين ابن الأبار اليوم والشهر الذي وقعت فيه فيقول إنها وقعت =

جموع الثوار إلى القصر من كل ناحية، وتأهب الحكم في حرسه وغلمانه لردها، وبعث ابن عمه عبيد الله البلنسي صاحب الصوائف، والحاجب عبد الكريم، في قوة من الفرسان والمشاة، فاستقبلت الجموع الزاحفة، وردتها إلى الوراء بعد أن نفذت إلى فناء القصر، ثم شقت طريقها إلى النهر واقتحمته إلى الضاحية الثائرة، وأضرمت النار في عدة من أنحائها، ونجحت هذه الوسيلة في تفرقة ْشمل الثوار، إذ ما كادت ألسنة اللهب تبدو، حتى هرع الكثير منهم إلى دورهم يحاولون إطفاء النار وإنقاذ الأهل والولد. وهنا احتاط الجند بالثوار من كل ناحية وأمعنوا فيهم قتلا حتى أفنوا منهم خلقاً كثيراً، وطاردوهم في كل مكان، ونهبت دورهم، وأسر منهم عدد كبير، وفر من استطاع، ومنهم بعض الفقهاء والمحرضين مثل طالوت وغيره، والتجأ البعض إلى طليطلة، واستمر القتل والنهب ثلاثة أيام حتى مزقوا كل ممزق، وصلب الحكم تجاه قصره على شاطىء النهر ثلاثمائة رجل من الثوار، صفوفاً منكسة، إرهاباً لأهل قرطبة. ثم كف الجند عنهم، ونودي بالأمان وهدأت الفتنة، وأمر الحكم بديار الثوار فهدمت عن آخرها، ولا سيما "الرَّبَض"، القبلي الذي كان مهد الفتنة، وقام على الهدم ربيع القومس عامل أهل الذمة وقائد الغلمان الخاصة، فمسح أحياء الثوار مسحاً، وغدت ْألوف كثيرة منهم دون مأوى، وأمر الحكم بخروجهم من قرطبة في الحال، وأن ¬_______ = في يوم الأربعاء 13 رمضان سنة 202 (الحلة السيراء ص 39)؛ ويوافقه ابن عذارى في تاريخها في نفس العام (ج 2 ص 87)؛ وتؤيد هذا التاريخ عدة روايات وردت في مخطوط ابن حيان الذي بين أيدينا، ومنها رواية الرازي (ص 103 و104). ولكن ابن الأثير يضع تاريخ واقعة الربض في سنة 198هـ، وإن كان يشير أيضاً إلى ما قيل من وقوعها في سنة 202هـ (ج 6 ص 101 و102)؛ ويأخذ المشارقة بهذه الرواية؛ فنرى المقريزي مثلا يضع مقدم الأندلسيين الذين نزحوا على أثر الواقعة إلى الإسكندرية في سنة 199هـ، ويشير إلى اشتراكهم في الحرب الأهلية التي كانت تضطرم يومئذ بها في سنتي 200 و201هـ (راجع خطط المقريزي - مصر - ج 1 ص 278 - 280) وذلك مما قد يعزز رواية ابن الأثير في حدوث الواقعة سنة 198هـ؛ ويميل دوزي أيضاً إلى الأخذ بهذه الرواية (ج 1 ص 296 - 297)، ويستشهد بما يرويه المقريزي من الوقائع المادية. على أننا نميل من جانبنا إلى الأخذ بالرواية الأندلسية لقدمها واتفاقها، وكونها أقرب إلى ميدان الحوادث وأقرب إلى التحقيق. وأما رواية المقريزي، فقد يحمل ما ورد فيها إلى اضطراب في ذكر الحوادث، خصوصاً وأن الحرب الأهلية المصرية التي يشير إلى اشتراك الأندلسيين فيها قد استمرت من سنة 199 إلى سنة 205هـ، مما يمكن معه أن نوفق بين أقواله وبين حدوث واقعة الربض في سنة 202هـ (وراجع النجوم الزاهرة ج 2 ص 169 و178).

لا أمان لمن لديه تخلف منهم. وبدأ رحيلهم في العشرين من رمضان (202هـ) فتفرقوا في الثغور والكور، ولجأت جموع منهم إلى طليطلة لمخالفة أهلها على الحكم يومئذ، وعبر البحر كثير منهم إلى عدوة المغرب، واتجهت جماعة كبيرة منهم قوامها زهاء خمسة عشر ألفاً إلى المشرق في عدة من السفن، ورست في مياه الإسكندرية، وكانت مصر تضطرم يومئذ بنار الحرب الأهلية التي نشبت بين السّرى بن الحكم وبين خصومه حول ولايتها، فنزل الأندلسيون إلى الثغر واستقروا فيه، واشتركوا في الحرب الأهلية، واستمرت الفتنة بمصر، والأندلسيون بالإسكندرية، حتى قدم عبد الله بن طاهر إلى مصر أميراً عليها من قبل الخليفة المأمون، فسار إلى الإسكندرية وحاصرها، واضطر الأندلسيون إلى الإذعان والصلح، وغادروا الإسكندرية في سفنهم، وساروا إلى جزيرة إقريطش (كريت)، بقيادة زعيمهم أبى حفص عمر بن عيسى البلوطي، وافتتحوها، ونزلوا بها (212هـ - 827 م)، وأسسوا بها دولة صغيرة زاهرة استمرت زهاء قرن وثلث، حتى استعاد البيزنطيون الجزيرة من المسلمين سنة 350 هـ (961 م). هكذا كانت ثورة " الربض " التي كادت أن تحمل الحكم وعرشه، وكانت ثورة شعبية بمعنى الكلمة، ولكنها كانت دون تنظيم ودون زعامة، وقد أدرك الحكم خطورتها، ولم تأخذه في إخمادها هوادة ولا رأفة، وأصدر عقب إخمادها كتاباً إلى الكور يشرح فيه الواقعة وظروفها. وقد رأينا أن ننقل نصه فيما يلى كوثيقة سياسية وديوانية هامة من وثائق العصر: " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن الله ذوالفضل والمنن، والطول والعدل، إذا أراد إتمام أمر وتهميه، لمن جعله أهله وكفيه، سدده وأعزه، وأنفذ قضاءه بفلحه، ولم يجعل لأحد من خلقه قوة على عناده ودفاعه، حتى يمضي فيه حكمه له وعليه كما شاء، وختم في أم الكتاب لا مبدل لكلماته عز وجل، وإنه لما كان يوم الأربعاء لثلاث عشرة من شهر رمضان، تداعى فسقة أهل قرطبة وسفلتهم، وأذنبتهم من الشرطانيين، ألد الفئة، المعلوجي شراً وبطراً، عن غير مكروه سيرة، ولا قبيح أثر، ولا نكر حادثة، كان منا فيهم، فأظهروا السلاح، وتلينوا للكفاح، وهتفوا بالخلعان، وتأنقوا بالخلاف، ومدوا عنقاً إلى ما لم يجعله الله له أهلا من التأمير على خلقه، والتسور في حكمه. فلما رأيت ذلك من

غدرهم وعدوانهم، أمرت بشد جدار المدينة، فشد بالرجال والأسلحة، ثم أنهضت الأجناد خيلا ورجالا، إلى من تداعى من الفسقة في أرباضها، فأقحموا الخيل في شوارعهم وأزقتهم، وأخذوا بفوهاتها عليهم، ثم صدقوهم الحملات، وكورهم بالسَّدَّات المتواليات، فما صبر العبدان أن كشفوا السوءات، ومنحوا أكتافهم المتواليات، وأمكن الله منهم ذوى البصائر المؤيدات، فأسلمهم الله بجريرتهم، وصدعهم ببغيهم، وأخذهم بنكثهم، فقتلوا تقتيلا، وعموا تدميراً، وعروا تشويهاً وتمثيلا، جزاء عاجلا على الذي نكثوه من بيعتنا، ودفعوه من طاعتنا، ولعذاب الآخرة أخزى وأشد تنكيلا. فلما قتلهم الله بجرمهم فيها، وأحسن العون عليهم لنا، أمسكت عن نهب الأموال، وسبي الذرية والعيال، وعن قتل من لا ذنب له من أهل البراءة والاعتزال، ازدلافاً إلى رضى الله ناصري عليهم ذى العزة والجلال، تهنأت صلحه وفلحه، واستورعت حمده وشكره، فاحمدوا الله ذا الآلاء والقمع، معشرة الأولياء والرعية، الذي أتاح لنا ولجميع المسلمين في قتلهم وإذلالهم، وقمعهم وإهلاكهم، مما أعظم به علينا المنة، وخصنا فيه بالكفاية، وتمم علينا وعليكم به النعمة، فقد كانوا أهل جرأة مقدم، وذعرة ضلالة، واستخفاف بالأئمة، وظهير إلى المشركين، وحطوط إليهم، وتحنن لدولتهم، فلله الحمد المكرور، والاعتراف المذخور، على قطع دابرهم، وحسم شرهم، أحببت إعلامك بالذي كان من صنع الله عليهم لولائك بنا، ومكانك منا، لمشاركتنا في نصرته، وتحمد الله ومن قبلك من شيعتنا ومعتقدي طاعتنا، على جميل صنعه فيه، وتشيعوا شكره عليه إن شاء الله " (¬1). ومن نظم الحكم في واقعة الربض قوله: رأيت صدوع الأرض بالسيف واقعاً ... وقدما لأمت الشعب مذ كنت يافعا فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة ... أبادرها مستنضى السيف دارعا ¬_______ (¬1) نقلنا هذه الوثيقة عن مخطوط ابن حيان المشار إليه (ص 103 و104). وتراجع حوادث واقعة الربض في ابن الأبار (الحلة السيراء ص 39 و40)، والبيان المغرب (ج 2 ص 77 و78)، والمعجب للمراكشي (ص 11)، وابن الأثير (ج 6 ص101 و102)، وابن القوطية ص 51 و52. ويورد ابن خلدون والمقري عن الواقعة روايات محرفة متداخلة في حوادث سابقة (راجع ابن خلدون ج 4 ص 126، ونفح الطيب ج 1 ص 156). ووردت في مخطوط ابن حيان عنها تفاصيل كثيرة منسوبة إلى الرازي وغيره (ص 103 - 110).

تنبيك أني لم أكن في قراعهم ... بوان وقد ما كنت بالسيف قارعا وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم ... فوافوا منايا قدرت ومصارعا فهذي بلادي إننى قد تركتها ... مهاداً ولم أترك عليها منازعا وإني إذ أجادر أجراعاً عن الردى ... فما كنت ذا جيد عن الموت جارعا خرج الحكم ظافراً من تلك الثورة الشعبية بعد أن سحقها سحقاً. ومع ذلك فقد لبث أهل قرطبة على تحديهم له، ولبثوا يتغامزون عليه، ويقدحون في سيرته. وقد وصف لنا كاتب قريب من العصر، موقف أهل قرطبة بعد الواقعة من الحكم في قوله: " فأكثروا الخوض، وأطالوا الهمهمة، وفزع رؤوسهم الى السمر في مساجدهم بالليل، مستخفين من السلطان، مدبرين عليه، وقد كان خائفاً من ثورتهم، متهمماً لدخلتهم، حذراً منهم، مستعداً لهم، مرتقباً لوثبتهم، مرتبطاً الخيل على باب قصره، نوباً بين غلمانه ... ". ثم إنه استكثر من العبيد والسلاح، وعززهم بالأحرار، يرابطون دائماً حول القصر، واستشعر الناس من ذلك الهيبة والخوف، وركنوا إلى السكينة، وفرض الحكم العشور على جميع الناس بقرطبة وبالكور، فزاد في نفورهم منه، وبغضهم له (¬1). وأثارت حوادث الربض، واستكانة الشعب، من جهة أخرى، قريض الشعراء الأحرار، من خصوم الحكم، والناقمين على عسفه وطغيانه، وصدرت في ذلك قصائد كثيرة تنعي مسلك أهل قرطبة واستكانتهم، ومن ذلك قول الشاعر غريب بن عبد الله من قصيدة طويلة: يا أهل قرطبة الذين تواكلوا ... جد الدفاع من التواكل أفضل جد الدفاع لو انكم دافعتم ... يوم الهياج لكم أعز وأجمل إن التواكل وهنة ومذلة ... والجد فيه الصنع والمتمهل صرتم أحاديث العباد وكنتم ... عوناً لهم في كل هم ينزل أمسى عبيدكم الذين ملكتم ... ملكوا عليكم والأمور تحول ومرض الحكم بعد ذلك واستطالت به العلة، فاستناب عنه في أواخر عهده عبد الرحمن أكبر أولاده لتدبير الأمور (¬2)، واختاره لولاية عهده، وأخذ له البيعة ¬_______ (¬1) مخطوط ابن حيان المشار إليه ص 105 و110. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 41.

بالفعل، واختار أخاه المغيرة ليخلفه من بعده، ولكن المغيرة تنازل فيما بعد عن حقه في ولاية العهد. وكان الحكم أول أمير من أمراء بني أمية بالأندلس أخذ البيعة في حياته لولي عهده، وذلك خشية وقوع الخلاف بعد موته. ثم توفي الحكم في السادس والعشرين من ذي الحجة سنة 206هـ (22 مايو سنة 822 م)، وقد بلغ الثانية والخمسين من عمره، ودفن مع آبائه في مقبرة القصر المعروفة بالروضة. وترك من الولد تسعة عشر من الذكور واثنين وثلاثين من الإناث. وقيل إن الحكم أبدى حين مرض موته أسفه وندمه، لما أوقعه بأهل الربض من بالغ النكال والشدة، وصرح بأنه كان خيراً لو لم يفعل ما فعله (¬1). ولما شعر الحكم بدنو أجله استدعى ولده عبد الرحمن، وألقى إليه وصيته، وفيها يقول: " إنى وطدت لك الدنيا، وذللت لك الأعداء، وأقمت أود الخلافة، وأمنت عليك الخلاف والمنازعة، فاجر على ما نهجت لك من الطريقة، واعلم أن أولى الأمور بك، وأوجبها عليك، حفظ أهلك، ثم عشيرتك، ثم الذين يلونهم من مواليك وشيعتك، فهم أنصارك وأهل دعوتك، ومشاركوك في حُلوِك ومرِّك، فبهم أنزل ثقتك، وإياهم واس من نعمتك، وعصابتهم استشعر دون المتوثبين إلى مراتبهم من عوام رعيتك، الذين لا يزالون ناقمين على الملوك أفعالهم، مستثقلين لأعبائهم، فاحسم عللهم ببسط العدل لكافتهم، واحسام أولى الفضل والسداد لأحكامهم وعمالاتهم، دون أن ترفع عنهم ثقل الهيبة، وإن رأيت فيمن يرتقي من صنائعك رجلا لم تنهض به سابقة، ويشف بخصلة، وتطمح نفسه وهمته، فأعنه واختبره، وقدمه واصطنعه، ولا يريبنك خمول أوله، فان أول كل شرف خارجيته، ولا تَدَعن مجازاة المحسن بإحسانه، ومعاقبة المسىء بإساءته، فإن عند التزامك لهذين، ووضعك لهما مواضعهما، يرغب فيك، ويرهب منك. وملاك أمرك كله بالمال، وحفظه، بأخذه من حله، وصرفه في حقه، فإنه روح الملك المدبر بجثمانه، فلا تجعل بينك وبينه أحداً، في الإشراف على اجتنائه وادخاره، والتثقيف لإنفاقه وعطائه. وختام وصيتي إياك بإحكامك في أحكامك، فاتق الله ما استطعت، وإلى الله أكلك، وإياه استحفظك، فقد هان على الموت إذ خلفني مثلك " (¬2). ¬_______ (¬1) ابن القوطية ص 55. (¬2) نقلنا نص هذه الوصية عن مخطوط ابن حيان. وقد وردت فيه برواية الرازي ومعاوية هشام الشبينسي في نصين مختلفين حاولنا أن ننسق بينهما.

وكان الحكم أميراً قوي النفس، وافر العزم، فطناً، حسن التدبير، واسع الحيلة، نافذ الرأي والحزم، صارماً يؤثر وسائل الطغيان المطلق، شديد الاستئثار بسلطانه، حريصاً على حمايته من كل تدخل أو نفوذ. وكان مثل جده عبد الرحمن الداخل يلتمس الغاية بأي الوسائل، ويذهب في صرامته وطغيانه إلى حد القسوة والقمع الذريع، ولم يكن يحجم مثله عن الالتجاء إلى وسائل لا تقرها المبادئ الأخلاقية القويمة. وكان شغوفاً بأبهة الملك، مسرفاً في مظاهر البذخ الطائل، كثير الترفع عن العامة، ولم يكن كأبيه وجده محبباً إلى الشعب، بل كان بالعكس مكروهاً من الكافة، وكان الفقهاء يبثون هذا البغض في نفوسهم بوسائلهم الخاصة، لما عمد إليه الحكم من سحق سلطانهم ونفوذهم. ومع ذلك فقد كان الحكم بالرغم من عسفه وطغيانه، أميراً مستنيراً، يؤثر العدل، ويحرص على إقامته، ويختار لقضائه أفضل الناس، وأكثرهم نزاهة وورعاً، وكان يسلط قضاته على نفسه، وعلى ولده وخاصته. وكان قاضيه محمد بن بشير من أعظم القضاة نزاهة واستقلالا في الرأي والحكم (¬1). وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن الحكم كان أول من أظهر فخامة الملك بالأندلس، والواقع أنه أول من أنشأ بالأندلس بلاطاً إسلامياً ملوكياً بكل معاني الكلمة، ورتب نظمه ورسومه، وأقام له بطانة ملوكية فخمة، فاستكثر من الموالي والحشم، وأنشأ الحرس الخاص، وفي عهده ظهر الصقالبة لأول مرة في البلاط بكثرة، وكان جده عبد الرحمن الداخل أول من وضع سياسة اصطفاء الموالي لاسترابته بالعرب كما قدمنا، وتوسع حفيده الحكم في تطبيق هذه السياسة، فاستكثر من الموالي والصقالبة، وعهد إليهم بمعظم شئون القصر والخاص. وكان هؤلاء الصقالبة (¬2) على الأغلب من الرقيق والخصيان، الذين يؤتى بهم بالأخص من بلاد الفرنج وحوض الدانوب وبلاد اللونبارد ومختلف ثغور البحر الأبيض النصرانية، وكان يؤتى بهم أطفالا من الجنسين ويربون تربية إسلامية، ثم يدربون على أعمال البطانة وشئون القصر، وقد سما شأنهم فيما بعد، وتولوا مناصب الرياسة والقيادة، ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 124؛ والبيان المغرب ج 2 ص 80؛ والمعجب ص 11. (¬2) يرى البعض أن كلمة صقالبة قد اشتقت في الأصل من كلمة Esclave الإفرنجية. ومعناها الرقيق أو الأسير. راجع Reinaud: ibid , p. 237

وبلغ عددهم في عهد الحكم زهاء خمسة آلاف (¬1). وكان للحكم فرقة من الحرس الخاص معظمهم من فيء أربونة ورثهم عن والده هشام، وقد أبلوا في الدفاع عنه يوم الربض أحسن البلاء، فأعتقهم جميعاً، وأغدق عليهم صلاته (¬2). وكان الحكم فارساً مجيداً، يعشق الفروسية والصيد، وكانت له ألفا فرس من الجياد الصافنات مرتبطة على شاطىء النهر تجاه القصر، يشرف عليها جماعة من العرفاء البارعين (¬3). وكانت له شرطة قوية منظمة، وله عيون يطالعونه بأحوال الناس. وعلى الجملة فقد كان الحكم أميراً عظيم السلطان والهيبة، يسطع بلاطه، كما تسطع خلاله، ويثير من حوله بهاء الملك وروعته، وقد شبهه بعضهم بأبى جعفر المنصور في قوة الملك، وتوطيد الدولة، وقمع الأعداء (¬4). وكان الحكم فوق ذلك خطيباً مفوهاً، وشاعراً مجيداً، نظم الشعر في مختلف المناسبات، من أحداث الحرب والسياسة، والفخر والغزل وغيرها. وقد أوردنا فيما تقدم شيئاً من نظمه في واقعة الربض، ومن قوله في الفخر: غناء صليل البيض أشهى إلى الأذن ... من اللحن في الأوتار واللهو والردن إذا اختلفت زرق الأسنة والقنا ... أرتك نجوماً يطلعن من الطعن بها يهتدي الساري وينكشف الدجى ... وتستشعر الدنيا لباساً من الأمن وإن تجد الأبطال حصناً ومعقلا ... فما لي غير السيف في الأرض من حصن قذفت بهم في فضا الأرض فانزوت ... له الأرض واستولى على السهل والحزن ومن قوله في الغزل: قضب من البان ماست فوق كثبان ... ولَّيْن عني وقد أزمعن هجراني ناشدتهن بحقي فاعتزمن على الـ ... ـعصيان لما خلا منهن عصياني ملكنني ملكاً ذلت عزائمه ... للحب ذل أثير موثق عاني من لي بمغتصبات الروح من بدني ... يغصبنني في الهوى عزِّي وسلطاني ¬_______ (¬1) المسالك والممالك لابن حوقل ص 75؛ ونفح الطيب ج 1 ص 159 و160؛ وابن الأثير ج 6 ص 128. (¬2) مخطوط ابن حيان المشار إليه (ص 106). (¬3) أخبار مجموعة ص 129، والبيان المغرب ج 2 ص 81. (¬4) ابن خلدون ج 4 ص 127؛ وابن الأثير ج 6 ص 128؛ ونفح الطيب ج 1 ص 159.

على أن هذه الخلال الباهرة التي كان يتمتع بها الحكم، لم تكن دون نواح قاتمة هي دائماً مما يغلب لدى الطغاة الأقوياء، وقد ذكر لنا ابن حزم أنه كان من المجاهرين بالمعاصي السفاكين للدماء. ويزيد ابن حزم على ذلك أن الحكم كان يخصي من اشتهر بالجمال من أبناء رعيته، ليدخلهم إلى قصره ويصيرهم من خدمه، ومن هؤلاء طرفة بن لقيط، وهو من أسرة نابهة تصرف أبناؤها في الولايات الرفيعة، ومنهم نصر صاحب منية نصر، وهو الذي غدا في عهد ولده عبد الرحمن من أعظم رجالات الدولة مكانة ونفوذاً (¬1). وكان الحكم مديد القامة، أسمر، نحيفاً، وكان يلقب بالحكم المنتصر، وبالحكم الربضي، نسبة إلى ما حدث منه في واقعة الربض. * * * وكانت حكومة الحكم تضم طائفة من الشخصيات البارزة في تاريخ الأندلس في ذلك العصر، فتولى حجابته (رياسة الوزارة) عبد الكريم بن عبد الواحد ابن مغيث قائد أبيه من قبل، وكان جندياً عظيماً، قاد عدة غزوات مظفرة إلى بلاد النصارى، وكان أيضاً كاتباً بليغاً وشاعراً مجيداً (¬2). وخلفه في الحجابة عبد العزيز بن أبي عبْدَة، وكان قائداً كبيراً وسياسياً بارعاً. وكان بين قواده ووزرائه أيضا، اسحاق بن المنذر، والعبّاس بن عبد الله. وفي عهد الحكم أنشئ بالدولة منصب خاص لإدارة شئون أهل الذمة (النصارى واليهود) ينعت صاحبه بالقومس (¬3)، وعين فيه ربيع بن تدلف القومس، قائد الغلمان الخاصة ومتولي قهرمة الأمير الحكم وشئونه الخاصة، وكان طاغية ظلوماً يبغضه الجميع، وقد أمر الحكم بقتله قبيل وفاته، فنفذ فيه الحكم ولي العهد عبد الرحمن، وتم إعدامه وسط الاغتباط العام. وذكر البعض أن هذا المنصب أنشئ في عهد ¬_______ (¬1) مخطوط ابن حيان السالف الذكر ص 128. وراجع رسالة ابن حزم المسماة " نقط العروس " المنشورة بعناية الدكتور شوقي ضيف في مجلة كلية الآداب (ديسمبر سنة 1951)، ص 73. وكذلك نفح الطيب ج 1 ص 160. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 72. (¬3) مخطوط ابن حيان. والقومس تعريب للكلمة اللاتينية Comes، وتعرب أحياناً بكلمة " قمط "، أعني " الكونت " Comte باللغة الحديثة.

عبد الرحمن الداخل (¬1). ولكن الظاهر أنه لم يرتب بصورة ثابتة وتحدد اختصاصاته إلا في عهد الحكم. وكان عصر الحكم، بالرغم مما غشيه من الاضطرابات والفتن، عصراً ازدهرت فيه الآداب والعلوم، وظهر فيه عدد جم من أكابر الكتاب والشعراء والعلماء. وكان في مقدمتهم شاعر الحكم الأثير لديه، وقطب الشعر في عصره، عباس بن ناصح الثقفي الجزيري، وكان فضلا عن براعته في الشعر والأدب، بارعاً في علوم اللغة، وفي الهندسة والفلسفة والفلك، وكانت له منزلة خاصة عند الحكم، وله في مديحه أشعار كثيرة. وقد ولاه الحكم قضاء الجزيره بلده ومسقط رأسه، ثم وليه من بعده ولده عبد الوهاب بن عباس، وكان مثله شإعراً نابهاً، وتوفي أواخر عهد الحكم (¬2). وكان من أعلام عصر الحكم أبو القاسم عباس بن فرناس، وهو فيلسوف وعلامة رياضي من نوع فذ، وقد ولد في مقاطعة تاكرنا من أصل بربري، وبرع منذ فتوته في الفلسفة والفلك والكيمياء الصناعية، وهو أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وبرع أيضاً في الموسيقى، وصنع آلة فلكية تعرف " بالميقاتة " لتعريف الوقت، وله مخترعات كثيرة أخرى. وروى بعضهم أنه حاول أن يخترع أداة للطيران، فصنع لنفسه جناحين بهيئة مخصوصة، وحاول الطيران من ناحية الرُّصافة، فحلق في الهواء، ثم وقع في مكان طيرانه على مسافة بعيدة، واشتهر أمره بذلك حتى قال فيه مؤمن بن سعيد الشاعر: يطم على العنقاء في طيرانها ... إذا ما كسى جثمانه ريش قشعم وذكر عبد الحميد بن بسيل الوزير، قال: " أبدع عباس بن فرناس طول أمده إبداعات لطيفة واختراعات عجيبه، وضرب بالعود، وصاغ الألحان الحسنة، وكان مع ذلك مجيداً للشعر، حسن التصرف في طريقته، كثير المحاسن جم الفوائد ". وأثار ابن فرناس باختراعاته المدهشة ريب الجهلاء، فكثر الطعن في عقيدته، واتهم بالزندقة، ولكن القضاء لم يجد سبيلا إلى إدانته، وعاش طويلا وعاصر من بعد الحكم، ولده عبد الرحمن، وتوفي في عهد حفيده الأمير محمد بن ¬_______ (¬1) ابن القوطية ص 38. ويقول إن أول من تولى " القماسة " هو ارطباس ابن وتيزا. (¬2) مخطوط ابن حيان ص 128 و129. وراجع تاريخ العلماء والرواة لابن الفرضي رقم 881 (طبع مصر ص 340).

عبد الرحمن (¬1) ونظم كثيراً من مختار الشعر في العهود الثلاثة. وسوف نعود إلى ذكره. ومن أعلام عصر الحكم أيضاً، يحيى الغزال الجياني، وهو أبو زكريا يحيى ابن الحكم البكري، نسبة إلى بكر بن وائل، وأصله من مدينة جيان، ولقب بالغزال لجماله وظرفه وتأنقه، وكان شاعراً جزلا مطبوعاً، وبرع بالأخص في الغزل، وله في النسائيات كثير من رقيق النظم، وكان فوق ذلك عالماً بالفلك والفلسفة، وله أرجوزة طويلة في أبواب العلوم لم تصل الينا، وكان كثير التعريض بالفقهاء والحملة عليهم، حتى سخطوا عليه، ورموه بالزندقة، لصراحته وحر تفكيره. وهو القائل فيهم: لست تلقى الفقيه إلا غنيّا ... ليت شعري من أين يستغنونا تقطع البر والبحار طلاب الـ ... ـرزق والقوم ها هنا قاعدونا إن للقوم مضرباً غاب عنا ... لم يصب قصد وجهه الراكبونا وله في ذكر النفس والروح قصيدة، أثارت حول عقيدته شبها وريباً، يقول فيها: يا ليت شعري أى شىء محصل ... يرى شخص من قد مات وهو دفين أهو هو أم خلق شبيه بما رأ ... ى فقل للقلوب النائمات عيون وكيف يرى والعين قد مات نورها ... وواقعه شبه الوقار سكون لئن كانت الأرواح من بعد بيتها ... بهن إلى ما خلفهن حنين وقال يمدح الحكم في قصيدة مطلعها: كأن الملوك الغُلَّب عندك خُضَّعاً ... خواضع طير يتقي الصقر لُبّد تقلب فيهم مفلة حكمية ... فتخفض أقواماً وقوماً تُسوِّد واشتهر الغزال فوق ذلك بأصالة الرأي، وحسن التدبير، واللباقة، والدهاء وقد رشحته هذه الصفات فيما بعد، في عصر عبد الرحمن بن الحكم للقيام ببعض المهام الدبلوماسية الخطيرة، وهو ما سوف نعود إليه في موضعه. ¬_______ (¬1) المخطوط السابق الذكر ص 131؛ 132.

الفصل السادس عبد الرحمن بن الحكم

الفصل السادس عبد الرحمن بن الحكم ولاية عبد الرحمن بن الحكم. الثورة في تدمير. شغب أهل الذمة. غزو ألبة والقلاع. وفاة الحاجب عبد الكريم. نكبة جديدة للفرنج. حوادث الثغر الأعلى. ثورة البربر في ماردة. مغامرات محمود بن عبد الجبار وأخته جميلة العذراء. ثورة هاشم الضراب في طليطلة. مسير الجند إليها ومصرع الضراب. محاصرة طليطلة وثبات الثوار. تعاقب الحملات إليها. حصارها للمرة الثانية وخضوعها. الصوائف. غزو عبد الرحمن لنافار. خروج والي تطيلة وتحالفه مع النصارى. بني قسي وأصلهم. مسير عبد الرحمن إلى الشمال. زحفه على نافار واقتحامه لبنبلونة. هزيمة الثوار والنصارى. وفاة ألفونسو الثاني. النورمانيون أو المجوس. بدء ظهورهم في المياه الإسبانية. غزوهم لثغر أشبونة. إقتحامهم للنهر حتى إشبيلية. غزوهم لها وعيثهم فيها. الحرب بين المسلمين والغزاة. هزيمة النورمانيين وانسحابهم. اهتمام حكومة قرطبة بأمر الأسطول. غزو جليقية. حوادث الثغر الأعلى. غزو ميورقة. الحملات البحرية الأندلسية إلى شواطىء فرنسا وكورسيكا وسردانية. الحرب بين المسلمين والبشكنس. مجتمع النصارى في قرطبة. كيف يصفه المستشرق سيمونيت. حملته على الحكومة الإسلامية. الغلاة المتعصبون. بغضهم للمسلمين وتحاملهم على الإسلام. مجاهرتهم بسب النبي. عقاب المعتدين. دسائس الأحبار وتفاقم الفتنة. أقوال العلامة ألتاميرا. مجتمع الأساقفة وحزم الحكومة. قصة الفتاة فلورا. وفاة عبد الرحمن. صفاته وخلاله. روعة البلاط الأموي في عهده. ترتيب الوزارة. وزراؤه وكتابه وقضاته. اصطفاؤه للموالي والصقالبة. الفتى نصر. نفوذ الفتيان والجواري. منشآته. الأمن والرخاء في عهده. أدبه وشعره. حمايته للعلوم والآداب. استقدامه لزرياب نابغة الموسيقى. شغفه بجمع الكتب. سفارة قيصر قسطنطينية إليه. بواعث هذه السفارة. سفارة عبد الرحمن إلى القيصر وكتابه إليه. يحيى الغزال في بلاط بيزنطية. سفارته إلى ملك النورمانيين. لما توفي الحكم، خلفه عبد الرحمن أكبر أولاده بعهد منه، وكان ينوب عنه في الحكم أثناء مرضه حسبما قدمنا، وبويع في اليوم التالي لوفاة أبيه، في السابع والعشرين من ذى الحجة سنة 206 (مايو 822 م)، وأخذ له البيعة بالقصر الحاجب عبد الكريم، وكان حينما ولي العرش في الحادية والثلاثين من عمره، إذ كان مولده بطليطلة في سنة 176هـ (792 م)، وأمه أم ولد تدعى " حلاوة "، وكان أحب أبناء الحكم إليه، وقد عني بتربيته وتثقيفه عناية خاصة. وشغف عبد الرحمن، منذ فتوته بالأدب والحكمة، ودرس الحديث والفقه، فكان ذهناً مستنيراً (¬1)، وكان فوق ذلك أميراً رفيع الخلال والكفاية، وافر الخبرة بشئون ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 135.

الحرب والإدارة، يحسن اختيار الرجال للمناصب، فكان يحشد حوله خيرة رجال الدولة من الوزراء والقادة والولاة والقضاة (¬1). وفي فاتحة ولايته، عاد عبد الله البلنسي، عم أبيه، إلى الثورة مرة أخرى، واحتل كورة تدمير مطالباً بإقطاعها (سنة 207هـ)، والتف حوله جمع كثير، وكان يزمع الزحف إلى قرطبة بالرغم من ضعفه وشيخوخته، ولكن المرض عاجله، وتوفي في العام التالي (سنة 208هـ)، فاحتل عبد الرحمن كورة تدمير، وتكفل بأهله وولده، وانتهت بذلك آخر مرحلة في فتنة طالما تكرر حدوثها منذ وفاة عبد الرحمن الداخل. ولكن تدمير لبثت مع ذلك تضطرم بنار ثورة داخلية من نوع جديد. ذلك أن فتنة نشبت فيها بين المضرية واليمنية، من جراء موت مضري قتله يماني، واستفحل الشر بينهما، وقتل كثير من الفريقين، فبعث عبد الرحمن إليهم حملة بقيادة يحيى بن عبد الله، وعينه والياً على تدمير، ولكنه لم يفلح في إخضاع الولاية الثائرة. واستمرت الفتنة على أشدها، وغلب على تدمير أبو الشماخ زعيم اليمنية، ولبث بضعة أعوام يتحدى سلطة قرطبة، والبعوث تتردد إليه في كل عام، دون أن تنال منه منالا، ولم تهدأ الفتنة إلا في سنة 213 هـ، حيث خضع أبو الشماخ وغيره من الزعماء، وطلبوا الأمان، وعادوا إلى الطاعة. وحدثت في قرطبة عقب جلوس عبد الرحمن بأيام قلائل، فتنة شعبية من نوع ما حدث أيام الربض. ذلك أن وفوداً من أهل الذمة وغيرهم قدمت من إلبيرة تطالب برفع المغارم التي فرضها عليهم ربيع الأسقف، وانضم إليهم كثير من أهل قرطبة النصارى، وساروا إلى القصر في ضجة كبيرة، فأرسل إليهم عبد الرحمن قوة من الفتيان لتهدئتهم فاعتدوا عليها، فبعث عندئذ الجند إليهم، ففتكوا بهم وقتل منهم خلق كثير، وفر الباقون في مختلف الأنحاء، وكان ذلك في المحرم سنة 207 هـ (¬2). وبدأ عبد الرحمن برنامجه في الغزو والجهاد مبكراً، فبعث في صيف سنة 208هـ (823 م) حملة إلى ألبة والقلاع بقيادة عبد الكريم بن عبد الواحد ابن مغيث، وكان ألفونسو الثاني ملك جليقية (أو ليون) قد أغار على ¬_______ (¬1) مخطوط ابن حيان ص 138. (¬2) مخطوط ابن حيان المشار إليه، وابن الأثير ج 6 ص 130.

مدينة سالم Medinaceli من أعمال الثغر الأعلى، وحذت حذوه بعض القبائل الجبلية من أهل بسكونية، فأغارت على أطراف الثغر وعاثت فيها، فاخترق الحاجب بسائط ألبة والقلاع، وهزم النصارى في عدة مواقع، وعاث في ألبة وخرب مدينة ليون وأحرق حصونها، واشترط على النصارى أن يدفعوا جزية كبيرة، وأن يطلقوا أسرى المسلمين، وأن يسلموا بعض زعمائهم كفالة بسكينتهم، وعاد الحاجب إلى قرطبة مثقلا بالغنائم والسبي. وكانت هذه آخر غزوة قام بها هذا الوزير النابه والقائد المظفر، الذي قاد معظم الغزوات الكبرى إلى أرض العدو، منذ عهد هشام بن عبد الرحمن، إذ توفي عقب عوده إلى قرطبة بقليل في المحرم سنة 209هـ (824 م) (¬1). وفي هذا العام (824 م) أصيب الفرنج بهزيمة ساحقة في أحواز بنبلونة، في سفح جبال البرنيه، عند باب شزروا، حيث نكب جيش شارلمان من قبل، ويبدو من أقوال الرواية الفرنجية أن المسلمين كان لهم دور كبير في إيقاع هذه الهزيمة. ذلك أن لويس ملك الفرنج أرسل قواته بقيادة الكونتين أزنار وإبلو لمهاجمة البشكنس وإخضاعهم، فاستغاث البشكنس بجيرانهم المسلمين، والظاهر أن الذي لبى نداء البشكنس هم بنو موسى أو بنو قسيّ أصحاب تطيلة، وأن هذه المعاونة كانت بموافقة حكومة قرطبة. وعلى أي حال فقد أحرز المسلمون والبشكنس على الفرنج نصراً ساحقاً. وأسر القائدان أزنار وإبلو، ثم أطلق سراح الأول وأرسل الثاني إلى قرطبة حيث اعتقل بعض الوقت. وقد أثار هذا الحادث ذكريات موقعة باب شزروا الكبرى التي نكب فيها الفرنج أيام الأمير عبد الرحمن الداخل، قبل ذلك بستة وأربعين عاماً (¬2). وتولى قيادة الصائفة بعد الحاجب عبد الكريم (¬3)، أمية بن معاوية بن هشام، ولكنه لم يسر إلى أرض العدو، بل سار إلى شنت برية، ثم إلى تدمير ليعمل على تهدئة الثورة. وكانت حوادث الشمال قد عادت تتطلب اهتمام قرطبة، وكان ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 1 ص 161؛ والبيان المغرب ج 2 ص 84. (¬2) راجع: R.M.Pidal: ibid, Vol.I.p. 195 وكذلك كوندي: Conde: ibid;Vol.I.p. 264 & 265 (¬3) كانت معظم الحملات والغزوات الإسلامية الكبرى، تنظم في الصيف باعتباره خير الفصول للقيام بمثل هذه الغزوات، ولهذا كانت تسمى بالصائفة والصوائف.

الفرنج في الثغر القوطي قد تحركوا، وأغاروا على أطراف الثغر الأعلى، بقيادة أميرهم برنهارت صاحب برشلونة، وهو ولد جيوم دوق تولوز، فسير عبد الرحمن إلى الشمال جيشاً كبيراً بقيادة عبيد الله بن عبد الله البلنسي، فاخترق الثغر الأعلى إلى أراضي الفرنج (212هـ - 827 م) واجتاح ولاية قطلونية، وهزم الفرنج في عدة مواقع، وسار حتى جرُندة (جيرونة)، ولكنه لم يحاول أن يحرز فتوحاً ثابتة، فارتد إلى الجنوب بَعد أن مزق شمل النصارى في تلك الأنحاء (¬1). وشغلت عبد الرحمن في الأعوام التالية عدة ثورات محلية خطيرة، وكانت الفتنة تضطرم في نفس مواطنها، القديمة، في طليطلة، وماردة، حيث كانت عناصر الخروج والثورة تحتشد وتعمل بعيدة عن العاصمة، ممتنعة بالوهاد والوعر، قريبة من النصارى، تتلقى منهم الوحي والعون في أحيان كثيرة. ففي ماردة ثار البربر بقيادة زعيمين من زعمائهم هما محمود بن عبد الجبار بن راحلة، وهو من بني طريف من مصمودة، وسليمان بن مرتين، وانضم إليهم النصارى المعاهدون. وألفى لويس ملك الفرنج فرصة جديدة للدس والتحريض على حكومة قرطبة، فبعث إلى الثوار يشجعهم ويعدهم بالمدد والعون (¬2). وكان محمود زعيماً قوياً ومغامراً جريئاً، فوثب بعامل ماردة وقتله، وعاث في تلك الأنحاء قتلاً ونهباً وتخريباً، وتوالت إليه بعوث عبد الرحمن، فكان في كل مرة يعتصم بالمدينة، فإذا غادره الجند عاد إلى عيثه وسفكه. وفي سنة 218هـ (833 م) سار إليه عبد الرحمن بنفسه، فغادر ماردة في صحبه ومعه زميله سليمان، وخرجت مع محمود أخته جميلة العذراء، وهي فارسة بارعة الحسن، اشتهرت يومئذ في جميع أنحاء الأندلس برائع جمالها، كما اشتهرت بالشجاعة والنجدة والفروسية، ولقاء الفرسان ومبارزتهم (¬3)، ونزل الثوار بحصن فرنكش على ضفة نهر وادي يانة. ثم غادر سليمان زميله، واستقل محمود بالعمل، وزحف في جموعه على بطليوس، ثم على أكشونبة (¬4) ثم سار إلى باجة، فقاتَلَه أهلها، ولكنه تغلب عليهم بمعاونة أخته جميلة، وبسط محمود سلطانه على ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 85؛ ومخطوط ابن حيان ص 180. (¬2) Scott: ibid , Vol.I.p. 482 (¬3) جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة) ص 466. (¬4) بطليوس بالإسبانية Badajoz، وأكشونبة Ocsonoba

باجة، وهو يقاتل خصومه من حوله، وبعوث الأمير تتردد إليه، حتى لحقه الإعياء واليأس، ففر مع أخته وصحبه إلى جليقية، واستجار بملكها ألفونسو الثاني، فرحب به وأكرم وفادته، وأنزله بأطراف مملكته. وبعد حين رأى الثائر أن يعود إلى الطاعة فكاتب عبد الرحمن، ووقف ألفونسو على هذه المحاولة، فخشي إن أفلت الثائر منه أن ينقلب حرباً عليه، فسار إليه وأحاطت به الجند من كل ناحية، ودافع محمود عن نفسه دفاع الأبطال، ولكنه قتل أخيراً، وأسر أهله وصحبه، وكانت أخته الحسناء جميلة بين الأسرى (225 هـ - 840 م). ووقعت جميلة في نصيب كبير من كبراء النصارى، فحملها على اعتناق النصرانية وتزوج منها، وكان من ولدها فيما بعد أسقف شنت ياقب (¬1). واضطرمت طليطلة بالثورة في نفس الوقت، ففي سنة 214هـ (829 م) ثار بها زعيم من العامة يدعى هاشم الضراب، وكان هاشم في طليطلة أيام واقعة الحفرة، تم أخذ بين الرهائن إلى قرطبة، فاشتغل بها حداداً مدى حين وعرف بالضراب، ثم غادرها إلى طليطلة، وهناك اجتمع إليه عدد كبير من الأوغاد والسفلة، فأخذ يغير بهم على الأنحاء المجاورة، حتى اشتد بأسه وطار صيته، وهرع إلى لوائه أهل الشر والبغي من كل صوب، وسار إلى البربر في شنت برية، فأغار عليهم وأوقع بهم، فبعث عبد الرحمن الجند لقتاله بقيادة محمد بن رستم، عامل الثغر الأدنى، فنشبت بينه وبين الثوار عدة وقائع غير حاسمة. وفي العام التالي بعث عبد الرحمن إلى عامله بالمدد، فزحف على الثوار والتقى بهم على مقربة من حصن سمسطا بمجاورة رورية، ونشبت بين الفريقين موقعة عنيفة هزم فيها الثوار، وقتل هاشم الضراب وكثير من أصحابه، وذلك في سنة 216هـ (831 م). ولكن طليطلة استمرت مع ذلك على اضطرامها، وكان على عبد الرحمن أن يخوض معارك أخرى لإخضاعها. ففي سنة 219هـ (834 م) أرسل إليها جيشاً بقيادة أخيه أمية بن الحكم، فحاصرها وانتسف ما حولها من الزروع، ولكن المدينة الثائرة لم تهن ولم تخضع، فرحل عنها، وأبقى بعض قواته بقيادة ¬_______ (¬1) وردت هذه التفاصيل الشائقة في مخطوط ابن حيان (ص 182 و183 و184). وراجع ابن القوطية ص 67.

ميسرة الفتى في قلعة رباح (¬1) الواقعة في جنوبها استعداداً لمحاصرتها، فخرج عندئذ أهل طليطلة لقتال ميسرة، فظهر عليهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، فارتدوا إلى داخل المدينة، وعادوا إلى الاعتصام بأسوارها المنيعة. وفي العام التالي (سنة 220 هـ) سار إليهم عبد الرحمن بنفسه، فثبتت في وجهه المدينة الثائرة، فترك الجند في قلعة رباح، وسار إلى الغرب في أحواز ماردة، ليطارد سليمان بن مرتين زعيم البربر، وكان بعد أن تخلف عن زميله محمود بن عبد الجبار، يتزعم الثورة في تلك الأنحاء، فحاصره عبد الرحمن، وحدث أن قتل الثائر في سقطة مميتة عن جواده، فانفضت جموعه وخبت ثورته. وسير عبد الرحمن في العام التالي حملة أخرى إلى طليطلة بقيادة أخيه الوليد بن الحكم، فضرب حولها الحصار الصارم، واستمر على حصارها حتى جهد أهلها، وضاقوا بالحصار ذرعاً، ثم هاجمها بعد ذلك واقتحم أسوارها، وخضعت المدينة الثائرة، بعد أعوام عديدة من فتن وثورات مستمرة، كان يغذيها خلالها روح التمرد المتأصل في شعبها، ودسائس البربر والنصارى من أهلها، وتحريض الفرنج والجلالقة، وكان خضوعها في رجب سنة 222هـ (837 م) (¬2). واستطاع عبد الرحمن بعد إخماد الثورة في مختلف النواحي، أن يستأنف أعمال الجهاد والغزو، فعكف في الأعوام التالية على تسيير الصوائف أو حملات الغزو الصيفية متعاقبة في كل عام إلى الشمال، تارة إلى أطراف الثغر الأعلى، حيث تشتبك مع الفرنج، وتثخن في أراضيهم، وتارة إلى ألبة والقلاع، حيث تغير على أراضي البشكنس، أو أطراف مملكة ليون (جليقية)، وتولى عبد الرحمن قيادة الصائفة بنفسه إلى جليقية في سنة 225هـ (840 م). وفي سنة 227هـ (842 م) سار عبد الرحمن إلى الشمال، وكان موسى بن موسى بن قسيّ والي تُطيلة (¬3) من أعمال الثغر الأعلى (أراجون)، قد خرج عن طاعته وتحالف مع غرسية (¬4) أمير نافار، وأوقع الإثنان بجند الأمير في الثغر، وعاثا في أنحائه. ¬_______ (¬1) ومقابلها بالإسبانية Calatrava (¬2) راجع ابن الأثير ج 6 ص 141 و150 و153 و161، والبيان المغرب ج 2 ص 85 و86 و87. (¬3) وهي بالإسبانية Tudela (¬4) وهي بالإسبانية Garcia

وتقول الرواية في سبب نقض موسى الطاعة، أن عبد الرحمن كان قد ولى عبد الله بن كليب على سرقسطة، وعامر بن كليب على تُطيلة، فأغار عبد الله على أموال ينقة بن ونقة أخى موسى لأمه، واعتدى عامر بن كليب على أملاك موسى وخيله، وانتهب أمواله، وخرب حدائقه، فعندئذ أعلن الخروج والعصيان، وكان ذلك في سنة 226هـ (¬1). فسار عبد الرحمن إلى بلاد البشكنس (نافار)، وتوغل فيها حتى بنبلونة، وعاث فيها نسفاً وتخريباً، وسبى من أهلها جموعاً كثيرة. ولا بد لنا هنا من التعريف بهذا الزعيم الثائر موسى بن موسى، إذ هو سوف يحتل منذ الآن فصاعداً، هو وأبناؤه, حيزاً كبيراً في تاريخ الثورة على حكومة قرطبة. فهو وفقاً لابن حيان، وابن حزم، موسى بن موسى بن فرتون ابن قسيّ (أو القسوي). وكان جده الأعلى، الكونت قسيّ Kasi من أشراف القوط، وكان وقت الفتح "قومس" Comes الثغر الأعلى، فلما غزا المسلمون أراضيه سار إلى الشام، واعتنق الإسلام على يدي الخليفة الوليد بن عبد الملك، وذلك لكي يحتفظ في ظل الغزاة الجدد، بأملاكه وسلطانه الإقطاعي، واعتبر بإسلامه على يدي الخليفة من مواليه، وانحاز بطريق هذا الولاء إلى جانب المضرية. وعدا أولاده وأحفاده من بعده زعماء المولدين في الثغر الأعلى. وكانوا من أنجاد الزعماء والفرسان، يمتازون بالجرأة والإقدام والشجاعة، ويعتزون دائماً بأصلهم القوطي النصراني، وكانت لهم دائماً علائق مصاهرة مع جيرانهم من الأمراء النصارى، من البشكنس وغيرهم، وكان إسلامهم في الواقع مظهراً سطحياً لاغتنام السلطان والنفوذ، وكانوا لا يشعرون بالولاء نحو حكومة قرطبة، يصانعونها متى وجبت المصانعة، احتفاظاً بمركزهم وسلطانهم في الثغر، ولكنهم لا يحجمون عن انتهاز أية فرصة للثورة عليها، ومحالفة أعدائها من النصارى. وسنرى فيما بعد أي دور خطير قامت به هذه الأسرة المتمردة الخطرة، في ثورة المولدين الكبرى على قرطبة (¬2). ¬_______ (¬1) نصوص عن الأندلس للعذري في الأوراق المنثورة من كتاب " ترصيع الأخبار " ص 29. (¬2) راجع المقتبس لابن حيان، الجزء المطبوع بعناية المستشرق أنتونيا ص 16 و17. وكذلك جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة) ص 467 و468، حيث يقدم لنا شجرة كاملة لنسبة بني قسي، منذ جدهم الأعلى حتى أواخر القرن الثالث الهجري.

وفي العام التالي سار عبد الرحمن إلى الشمال مرة أخرى، ومعه ولداه المطرِّف ومحمد، واستخلف ولده المنذر على قرطبة، وبدأ عبد الرحمن بمحاصرة تُطيلة حتى أخضعها، ثم زحف على بلاد البشكنس مرة أخرى، ولقيه غرسية وحليفه موسى بن موسى في جموع كبيرة، فهزم البشكنس وحلفاؤهم هزيمة شديدة، وقتل منهم عدد جم، وفر موسى وحليفه غرسيّة جريحين، وسار عبد الرحمن إلى بنبلونة فأثخن فيها وخربها، واضطر البشكنس إلى طلب الأمان والصلح، وعاد عبد الرحمن إلى قرطبة ظافراً بعد أن وطد هيبة الإسلام وحكومته في تلك الأنحاء (228 هـ - 842 م) (¬1). ولم يكن لهذه الغزوات في الواقع نتائج مستقرة، وكانت تقصد في الغالب إلى إيقاع الرعب في قلوب نصارى الشمال، وتخريب بلادهم، وإنهاك قواهم، حتى يلزموا السكينة، ويكفوا عن عدوانهم وعيثهم في أراضي المسلمين. وفي نفس هذا العام الذي سحقت فيه نافار وخربت (842 م)، توفي ألفونسو الثاني الملقب بالعفيف بعد أن حكم مملكة ليون (جليقية) إحدى وخمسين عاما، إذ تولى الملك في سنة 791 م، أيام الأمير هشام بن عبد الرحمن، وخلفه ولده راميرو الأول، أو رذمير كما تسميه الرواية العربية. وقد اقتصرنا فيما تقدم على أن نسرد من أخباره وأخبار مملكته، ما له صلة بسير الحوادث في اسبانيا المسلمة، أما أخبار مملكة ليون الداخلية، فسنفصلها عند الكلام على تاريخ المملكة النصرانية الشمالية. * * * وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم، عرفت الأندلس لأول مرة خطراً جديداً لم يسبق لها أن عرفته أو توقعت حدوثه: ذلك هو خطر الغزوات النورمانية البحرية. كانت سيادة البحار الشمالية منذ بداية العصور الوسطى في يد " الفيكنج " Vikings أو النورمانيين، وكان أولئك النورمانيون أمة بحرية عريقة، تمرست منذ غابر العصور في ركوب البحر ومقارعة أهواله، ووطنهم الأصلي هو اسكندناوة، وربما دانيماركه، وشواطىء ألمانيا الشمالية، ولذا عرفوا بالنورمانيين ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 س 88 و89؛ وابن الأثير ج 6 ص 167 و172 و180، ومخطوط ابن حيان ص 185.

أى أهل الشمال (¬1). واشتهر النورمانيون بجرأتهم في جوب البحار الشمالية، وبراعتهم في مغالبة قسوة الجليد وأهوال اللجة والطبيعة، ولم يأت القرن الثامن الميلادي حتى كانت حملاتهم البحرية الناهبة، تثخن في شواطىء الجزر البريطانية. وكان جدب الوطن، وشظف العيش، وروح المخاطرة، تدفع بهم دائماً إلى عرض البحار، وتجعلهم خطراً دائماً على الشواطىء والثغور المجاورة. وفي أوائل القرن التاسع وصلت حملاتهم الناهبة إلى شواطىء بلاد الفرنج (فرنسا)، ثم نفذت جموع منهم إلى شمال فرنسا. وغزوا مصب اللوار ومصب الجارون، وأنشأوا لهم عدة مراكز وقواعد في تلك الأنحاء. وهنا بدأ تطلع النورمانيين إلى اسبانيا. والأندلس بنوع خاص. وكانت نعماء الأندلس، وما اشتهرت به من الخصب والغنى، تثير جشع أولئك الغزاة المغامرين، ولم تكن الأندلس تحسب حساباً لذلك الخطر الداهم المستتر معاً، لأنها لم تعرف النورمانيين من قبل، ولا تعرف لهم بقربها أرضاً أو مستقراً. وتطلق الرواية الإسلامية على أولئك الغزاة المجهولين إسم "المجوس"، بيد أنها تعرفهم أيضاً "بالأردمانيين" أى النورمانيين، وقد ترجع هذه التسمية إلى أن النورمانيين كانوا في العهد الذي عرفهم فيه عرب الأندلس لأول مرة " مجوساً " أى وثنيين لم يعتنقوا النصرانية بعد. وكان ظهور النورمانيين في المياه الإسبانية، لأوّل مرة في سنة 843 م. ففي تلك السنة خرج أسطول نورماني من نهر الجارون وعاث في شواطىء مملكة جليقية، فبعث ملكها راميرو (رذمير) إليهم جيشاً ردهم وأحرق كثيراً من سفنهم، فانقلب النورمانيون عندئذ إلى مياه إسبانيا الغربية والجنوبية، يجوبونها في طلب السبي والغنيمة، واقتحموا شواطىء المملكة الإسلامية (الأندلس) في غزوتهم الأولى. وتضع الرواية الإسلامية هذه الغزوة في سنة 230 هـ، وتحدثنا عنها بإفاضة، فتقول لنا إن أسطولا مجوسياً (نورمانياً) قوامه زهاء ثمانين مركباً، رسا في مياه أشبونة (¬2) في أواخر سنة 229 هـ (يوليه أو أغسطس سنة 843 م)، فكتب عاملها وهب الله بن حزم إلى عبد الرحمن بن الحكم ينبئه بالخطر، فكتب عبد الرحمن ¬_______ (¬1) وهي بالإفرنجية Norsmen أو Normanen (¬2) لشبونة Lisboa عاصمة البرتغال الحديثة.

إلى عمال الثغور بالتحوط والأهبة. ولبث النورمانيون في مياه أشبونة ثلاثة عشر يوماً التحموا خلالها مع المسلمين في عدة وقائع، ثم ساروا بأسطولهم جنوباً إلى قادس، ثم شذونة، ثم اخترقوا النهر الكبير (الوادي الكبير) حتى إشبيلية. وكان ظهور هذه السفن الغازية، وأولئك الغزاة الشقر في قلب الأندلس، مفاجأة مروعة، ولم يكن للأندلس يومئذ أسطول قوي تدفع به شر الغزوات البحرية، ولم تتخذ في الثغور لردها أهبات خاصة. ونزل النورمانيون في ظاهر إشبيلية في أوائل المحرم سنة 230هـ (سبتمبر سنة 843 م) (¬1) وكانت يومئذ دون أسوار تحميها من العدوان المفاجىء، وكانت مفاجأة مروعة لأهلها، الذين لم يتخذوا أية أهبة خاصة للدفاع عن أنفسهم، وعبثاً حاول المسلمون رد الغزاة. واقتحم النورمانيون إشبيلية وأمعنوا في أهلها سفكاً ونهباً وسبياً، وعاثوا فيها مدى سبعة أيام أشنع عيث، تم غادروها وعسكروا في ظاهرها، في قرية طلياطة الواقعة غربي إشبيلية. وفي تلك الأثناء بعث الأمير عبد الرحمن قوات من الخيل على عجل لإنجاد إشبيلية بقيادة عبد الله بن كليب ومحمد بن رستم، وجعل على قوات قرطبة حاجبه عيسى بن شهيد، وهرع المسلمون من كل صوب للجهاد ورد الغزاة. وقاد القوات المتحدة نصر الخصي، وتلقى النورمانيون المدد في سفن جديدة قدمت إليهم، ونشبت بين الفريقين في البداية بضع معارك محلية، تفوق فيها الغزاة. وفي الخامس والعشرين من صفر سنة 230هـ، نشبت بينهما معركة حاسمة تجاه قرية طلياطة، وكان على رأس قوات المسلمين محمد بن رستم، فهزم النورمانيون بعد قتال عنيف، وقتل منهم نحو ألف وأسر نيف وأربعمائة، وأحرق من سفنهم ثلاثون، وكان قائدهم بين القتلى، وارتد النورمانيون إلى سفنهم، وتحصنوا بها، وقتل المسلمون أسراهم أمام أعينهم، وصلبوا على جذوع النخل، ثم أقلعت سفن الغزاة مرتدة إلى الجنوب، والمسلمون من ورائهم يطاردونهم، ويفتدون أسرى المسلمين منهم بمختلف السلع، وانتقم النورمانيون لأنفسهم أثناء ارتدادهم بالإغارة على لبلة وباجة، ثم انتهوا ثانية إلى ثغر أشبونة حيث غادروا مياه الأندلس مع باقي سفنهم، بعد أن لبثوا بضعة أسابيع يبثون فيها الرعب والروع. ¬_______ (¬1) يضع ماريانا غزوة النورمانيين الأولى لإشبيلية في سنة 847 م (راجع تاريخه العام - الترجمة الفرنسية - ج 2 ص 84).

واستطالت غزوة النورمانيين، منذ نزولهم بأرض إشبيلية، إلى أن تمت هزيمتهم وإقلاعهم، إثنين وأربعين يوماً، عانى فيها المسلمون محناً وشدائد كثيرة، ارتجت لها ربوع الأندلس كلها. فلما انقشعت الغمة، بادر الأمير عبد الرحمن فبعث بالكتب إلى سائر الآفاق معلنة هذا النصر على العدو المغير، وبعث بها بالأخص إلى أمراء العدوة، ومعها طائفة من رؤوس أكابر النورمانيين القتلى. وأغدق الأمير ثناءه وصلاته على نصر الخصي فتاه الأثير لديه، وكان قائد قواته العام في تلك المعركة الكبرى (¬1). وكان لهذه المفاجأة المروعة أثرها في حمل حكومة الأندلس على الاهتمام بأمر الأسطول والتحصينات البحرية، فابتنى عبد الرحمن حول إشبيلية سوراً ضخماً، وأنشأ بها داراً عظيمة للصناعة، واهتم بصنع السفن الحربية الكبيرة، وحشد لها المقاتلة من شواطىء الأندلس، فكانت نواة الأسطول الأندلسي الكبير الذي بلغ في عهد عبد الرحمن الناصر زهاء مائتي سفينة. وعلى أي حال فقد أدرك النورمانيون أن الأندلس لم تكن فريسة هينة. وتحدثنا الرواية الإسلامية بأنهم عقب هزيمتهم في هذه الغزوة الأولى سعوا إلى الصلح مع أمير الأندلس، وبعثوا رسلهم في طلب السلم والمهادنة، وأن الأمير الأندلسي عبد الرحمن بعث كاتبه يحيى الغزال إلى ملكهم ليرد السفارة، وهي رواية سنعود إلى تفصيلها (¬2). ولم يمض قليل على رد الغزاة النورمانيين، حتى بادر عبد الرحمن إلى استئناف الغزو، فسير بالصائفة إلى الشمال جيشاً بقيادة ولده هشام. ومعه الوزير عيسى ابن شهيد، فاخترق قشتالة القديمة، وسار صوب نافار وغزا بنبلونة، ووافاه هناك موسى بن موسى والي تطيلة، فقدم طاعته، ومنح الأمان، وأقر على ولايته. وفي العام التالي سير عبد الرحمن بالصائفة قواته مرة أخرى إلى الشمال، ¬_______ (¬1) راجع في تفاصيل هذه الغزوة، البيان المغرب ج 2 ص 89 و90، والعذري في الأوراق المنثورة من " ترصيع الأخبار " ص 98 - 100، وفي النويري: نهاية الأرب (القسم الخاص بتاريخ الأندلس) وقد نقل دوزي روايته؛ Recherches: II: p. 337-338 وكذلك في الملحق Appendice 37؛ وفي ابن القوطية (ص 63 - 67)؛ وابن الأثير ج 7 ص 7، وابن خلدون ج 4 ص 129. وفي مخطوط ابن حيان عنها تفاصيل كثيرة نقلت عن محمد بن أحمد الرازي وأخيه عيسى ومعاوية بن هشام الشبينسي. (¬2) راجع رواية النويري المشار إليها في دوزي: Recherches: App. 37

بقيادة ولده محمد، فاخترق بسائط جليقية، وحاصر عاصمتها ليون، ولجأ النصارى إلى الجبال، ثم ارتد عنها بعد أن عاث فيها قتلا وتخريباً (سنة 231هـ - 845 م). وعصف بالأندلس في العام التالي قحط شديد، وهلكت الزروع والماشية، وقاست البلاد من ويلاته مدى أشهر. ْوفي سنة 233 هـ (847 م) ظهر بالثغر الفرنجي، في شمال شرقي إسبانيا، زعيم يدعى جيين دي تولوز، وهو فيما يرجح من تسميه الرواية العربية، غليالم بن برباط بن غليالم، وكان قد أعلن الخروج والثورة على ملك الفرنج شارل الأصلع، ووفد في العام السابق على بلاط قرطبة، يلتمس التأييد والعون، فاستقبله عبد الرحمن بترحاب، وأمده بعونه، فعاد إلى الثغر وعاث فيه بقواته، وحاصر برشلونة وخرب حصونها، وهاجم جرندة، وكتب عبد الرحمن إلى عامله على طرطوشة عبد الله بن يحيى، وعامله على سرقسطة عبد الله بن كليب، في إمداده وتأييده في ثورته ضد ملك الفرنج (¬1). بيد أنه يبدو من أقوال الرواية الفرنجية أنه وقعت على إثر ذلك مفاوضات بين عبد الرحمن وشارل الأصلع، انتهت بعقد الهدنة والسلم بينهما. وفي نفس هذا العام نقض موسى بن موسى بن قسي (القسوي) العهد، وعاد إلى الثورة، وعاث في أحواز تطيلة وطرسونة وبرجة من أعمال الثغر الأعلى، وظاهره أخوه لأمه فرتون إنيجز (ابن ونقة) أمير بنبلونة، فبعث إليه عبد الرحمن جند الصائفة بقيادة عباس بن الوليد المعروف بالطبلي، فطاردته حتى أرهق وأعلن عوده إلى الطاعة، وقدم ولده إسماعيل رهينة كفالة بولائه، فقبل عبد الرحمن طاعته، وأقره على ولايته تطيلة، ودخل معه في هذا الصلح أخوه فرتون إنيجز (¬2). وفي سنة 234 هـ (848 م) بعث عبد الرحمن قوة بحرية كبيرة إلى جزيرتي ميورقة ومنورقة وهما أكبر الجزائر الشرقية (جزائر البليار) لغزوهما، ومعاقبة ¬_______ (¬1) وردت هذه الرواية في قطعة مخطوطة أخرى من تاريخ ابن حيان، عثرت بها في مكتبة القرويين بفاس، وحصلت منها على نسخة مصورة حسبما أشرت إلى ذلك من قبل. وهي التي تبدأ حوادثها منذ سنة 233هـ، وتنتهي بحوادث سنة 267هـ، وسوف نقتبس منها منذ الآن فصاعدا في مختلف المواطن التي نتناول حوادثها. (لوحة 189 ب من المخطوطة المذكورة). (¬2) لوحة 189 ب و190 أمن المخطوط المذكور، وهو يسمى هنا أمير بنبلونة بابن رنقة وهو تحريف، والصواب ابن ونقة Inequiz

أهلهما لتعرضهم لسفن المسلمين المجاهدين والإضرار بهم، فأخضعهما المسلمون وأثخنوا فيهما، وأصابوا كثيراً من السبي، وبعث أهلهما إلى الأمير يطلبون الأمان ودفع الجزية، ويتعهدون بالولاء والطاعة، فأجابهم إلى ما طلبوا. وكانت مياه اسبانيا الشرقية قد غدت منذ عهد هشام مركزاً للحملات البحرية المتجهة نحو الشمال والشرق، وكان قوام هذه الحملات في الغالب جماعات من البحارة والمجاهدين، الذين يجوبون هذه المياه طلباً للغنيمة والسبي، ويثخنون في الثغور والجزر النصرانية القريبة. ففي سنة 806 م (191 هـ) في عهد الحكم، غزت إحدى هذه الجماعات البحرية الأندلسية المغامرة جزيرة كورسيكا (قورسقة)، فبعث ببين ابن شارلمان ملك إيطاليا أسطولا لقتالهم، فهزموه واستولوا على كثير من الغنائم والسبي. ولم يمض عامان على ذلك، حتى عاد البحارة المسلمون إلى غزو شواطىء كورسيكا وسردانية، ثم توالت غزواتهم لها بعد ذلك. وفي سنة 836 م (221 هـ) خرج أسطول أندلسي من ثغر طرّكونة والجزائر الشرقية، وسار إلى مياه فرنسا الجنوبية، وهاجم المسلمون ثغر مرسيليا وما حوله من الأراضي وأثخنوا فيها. وكان على عرش فرنسا يومئذ لويس ابن شارلمان، وكان ملكاً ضعيفاً عاجزاً، فلما توفي سنة 840 م، اضطربت أحوال المملكة، وضعفت حماية الثغور، فانتهز البحارة المجاهدون هذه الفرصة، وغزوا ولاية بروفانس عند مصب نهر الرون، وهاجموا مدينة آرل وخربوها، ثم توالت غزواتهم في تلك المياه بعد ذلك، وكان من أثرها أن قامت مستعمرات عربية كثيرة في بروفانس وفي أنحاء أخرى في جنوب فرنسا وشمال إيطاليا، وسوف نعود إلى حديث هذه المستعمرات العربية النائية في قلب أوربا. وفي سنة 237 هـ (851 م)، اضطرمت الحرب في الشمال بين المسلمين والغسقونيين أو الجاشقيين كما تسميهم الرواية الإسلامية وهم فرع من البشكنس، وكان هؤلاء قد أغاروا على الأراضي الإسلامية المجاورة، في قاصية الثغر الأعلى، فتصدى لردهم موسى بن موسى والي تطيلة، وكان يومئذ على ولائه لحكومة قرطبة، ووقعت الحرب بين المسلمين والبشكنس، في جنوبي بنبلونة على مقربة من بقيرة، فهزم المسلمون أولا، وأثخن قائدهم موسى جراحاً، ولكنه أستأنف المعركة في اليوم التالي، وكر على العدو بشدة، فهزم البشكنس شر

هزيمة، وقتل منهم عدد جم، وتسمى هذه الموقعة في الرواية الإسلامية بموقعة البيضاء، وهي محلة صغيرة مجاورة لبقيرة (¬1). * * * وفي أواخر عهد عبد الرحمن، هبت على نصارى قرطبة ريح شديدة من التعصب، ولاحت في الأفق بوادر فتنة دينية واجتماعية خطيرة. ولم يك في نظم الحكم الإسلامي، ما يقصد إلى إيذاء النصارى المستظلين بلوائه، ولم تشذ حكومة قرطبة عن سياسة التسامح الإسلامي المأثور، ولم تحاول تدخلا في شئون النصارى الدينية أو تعرضاً لعقائدهم أو شعائرهم، بل كان النصارى في قرطبة وغيرها، أحراراً في عقائدهم وشعائرهم، والاحتكام إلى شرائعهم وقضاتهم، وكثيراً ما تبوأوا مناصب الثقة والمسئولية في الجيش وفي الإدارة، وكثيراً ما حاربوا مع إخوانهم المسلمين جنباً إلى جنب، وكانت أغلبية كثيرة منهم تشتغل بالتجارة في الثغور والمدن، ويشتغل عامتهم في ضياع المسلمين دون إكراه ولا عنت، وكانت منهم مجتمعات زاهرة رغدة في قرطبة وغيرها، بل كثيراً ما بهرتهم الفصاحة العربية فانطلقت بها ألسنتهم ووضعوا بها كتبهم، وكثيراً ما تخلقوا بأخلاق المسلمين وعاداتهم، ونهجوا نهجهم في الحياة الخاصة. بيد أنه كان ثمة فريق آخر من النصارى المتعصبين الذين يرون في سادتهم المسلمين أجانب غاصبين، معتدين على دينهم وأوطانهم، وكان أولئك الغلاة يبغضون إخوانهم من النصارى المعتدلين، ويرمونهم بالمروق والخيانة، وكان رجال الدين، وهم في الأصل مبعث التعصب ودعامته، يبذرون بذور الشقاق، ويضرمون نار الفتنة، ويوغرون قلوب الغلاة والمتطرفين، باسم الدين، وكانوا يبغضون المسلمين أشد البغض ويسخرون من دينهم ونبيهم، ويجاهرون بهذا التحامل والبغض للنبي العربي وتعاليمه، ويعتمدون في معرفتهم للإسلام ونبيه، على طائفة من الخرافات والأباطيل التي يتناقلها القسس في كل عصر ومكان. يقول دوزي: " ولم يك ثمة أيسر عليهم، وقد كانوا يعيشون بين المسلمين من الوقوف على الحقيقة، ولكنهم كانوا يرفضون أن يستقوا من المصادر التي كانت لديهم، وكان يسرهم أن يعتقدوا وأن يعيدوا كل الخرافات السخيفة التي أذيعت عن نبي مكة " (¬2). ¬_______ (¬1) ابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 193 أ. وبقيرة هي بالإسبانية Viguera. (¬2) Dozy: Hist, I.p. 317 et suiv. ويخصص دوزي لهذا البحث حيزاً كبيراً، وتحمله نزعة من التعصب في إيراد الوقائع ووصفها، وهو يعتمد هنا بالأخص على مصادر كنسية معاصرة.

ويقدم إلينا المستشرق سيمونيت، وهو عمدة العلماء الإسبان في الكتابة عن تاريخ (النصارى المعاهدين) Los Mozarabes التفاصيل الآتية، عما يصفه بأنه " البطولة التي تذرعت بها النصرانية في قرطبة في مقاومة فورات الإلحاد الإسلامي ". ويرى سيمونيت أن قرطبة كانت من المعسكرات الرئيسية للحرب المدمرة التي شهرها الإسلام على النصرانية. وبالرغم عن أنه يعترف بأن الإسلام لبث مدى قرن يحتفظ بقدر من التسامح نحو المستعربين، وقت أن كان في حاجة إلى خدماتهم ومعاونتهم، فإنه يقول إن الإسلام لما شعر بقوته، لم يبد تسامحاً إزاء انتعاش الروح النصراني، الذي بدا يسيطر على فريق كبير من الشعب النصراني. ثم يتحدث سيمونيت بعد ذلك عن "المظالم وصنوف الاضطهاد التي كان النصارى يقاسونها، ليس فقط من عامة أهل قرطبة بل من حكومة قرطبة ذاتها ". ثم يقول: " وقد كانت هذه السياسة منافية للعهود والقوانين التي منحت للوطنيين (الإسبان) أيام الفتح. وقد كان الطغيان الإسلامي شديد الوطأة على ضمائر النصارى الوطنيين وأملاكهم وكرامتهم معاً ". وينعى سيمونيت على أمراء قرطبة، أنهم احتفظوا بحقوق وامتيازات ضد النصارى لإخضاعهم، وأنهم كانوا مثل القوط يدعون لأنفسهم حق تعيين الأساقفة وعزلهم، وحق عقد المجالس الدينية التي يمثلهم فيها بعض المسلمين أو النصارى المرتدين، ويسندون وظائف الأساقفة في أحيان كثيرة إلى رجال من طراز منحط، يملقون الأمراء ويخدمونهم. ولم يك استبداد الأمراء أقل وطأة على أملاك المستعربين وثرواتهم، إذ كانوا حرصاً على سلامتهم يؤدون للخزانة مزايا عظيمة، في شكل جزية وضرائب تنبو عن طاقتهم. وقد كان تسامح المسلمين لايغتنم في الظروف العادية إلا بالعرق والدم. ثم جاءت الأيام التي كان يقاسي فيها النصارى كل شىء، ليحتفظوا بحرية دينهم، وينتزع كل يوم منهم مغارم أكبر، هذا فضلا عن الضرائب العادية، وقد كانت فادحة في ذاتها تفرض عليهم بمختلف الحجج والأعذار. وقد وصلت هذه المغارم إلى ذروتها في عصر عبد الرحمن الثاني الأمير الباذخ، ومحمد الأول الأمير القاسي، الذي حصل من نصارى قرطبة بواسطة الكونت سواندا على مبلغ مائة ألف " سويلدو ".

ويتحدث سيمونيت بعد ذلك عن تعصب المسلمين، ويقول إن تعصب العرب ضد الأجانب وامتهانهم لهم، وصل إلى الذروة في النصف الأول من القرن التاسع، وكذا وصل إلى الذروة تزمت البربر الوحشي، وتزمت الإسبان المسلمين (المولدين) الذين اتخذوا الارتداد عن دينهم سبيلا إلى بلوغ الرخاء، وكانوا لكي يمحوا ذكرى أصولهم المسيحية، أشد تعصباً ضد النصارى من المسلمين أنفسهم. كان هؤلاء وهؤلاء يمعنون في إهانة النصارى واضطهادهم بشتى المظاهر، ولاسيما رجال الدين والقساوسة، وكانت موجة هذا الاضطهاد تشتد كلما جاءت الأخبار بانتصار نصارى الشمال، أو قيام المولدين في طليطلة أو غيرها. هكذا يتحدث سيمونيت عن "تعصب" المسلمين ضد رعاياهم وإخوانهم النصارى المعاهدين. ومع ذلك فإن سيمونيت يعترف بأن كثيراً من نصارى قرطبة، كانوا يخدمون في الجيش الإسلامي جنداً أو ضباطاً، وأن كثيراً منهم وصل إلى وظائف هامة في البلاط والقصر الملكي، وفي قصور أكابر المسلمين. ويصف سيمونيت تأثير المجتمع الإسلامي، وعظمته ولغته وتقاليده، في نفوس النصارى في قوله: " هذا، وقد كان يأسر الشباب النصراني مظهر العظمة المادية والحضارية، التي تفوقت بها قرطبة المسلمة على قرطبة النصرانية، وما كانت تقترن به هذه العظمة من المظاهر الأدبية والفنية، التي بثها عبد الرحمن بحبه للشعر والفلسفة والموسيقى. وكان من مظاهر تأثر الشباب النصراني أنهم كانوا يكتبون ويتكلمون العربية، محتقرين دراسة اللغة والآداب اللاتينية، وهو أمر كان شديد الخطر على وطنيتهم ودينهم. وفي النصف الأول من القرن التاسع، لم تكن اللغة والآداب العربية فقط، بل وكذلك الأفكار والتقاليد الإسلامية، قد انتشرت بين المستعربين الإسبان. وهذا ما تشير إليه وثيقة هامة كتبها نصراني قرطبي معاصر هو ألبرو القرطبي Alvaro Cordubense في سنة 854 م عنوانها Indicalo Luminoso، وفيها يصف بقوة وبلاغة، الذعر الذي أصاب " الأشراف الكرماء البواسل الذين كانوا يحتفظون بالعاطفة المسيحية والوطنية الإسبانية "، وكيف أن شباناً من

النصارى يمتلئون حياة وقوة وفصاحة، يتقنون اللغة العربية، ويبحثون بشغف عن الكتب العربية ويدرسونها بعناية، ويمتدحونها بحماسة، هذا في حين أنهم يجهلون جمال الآداب الكنسية، ثم يبدي ألمه من أن النصارى يجهلون شريعتهم ولغتهم اللاتينية، وينسون لغتهم القومية (¬1). وهذه التفاصيل التي يقدمها إلينا العلامة سيمونيت عن أحوال المجتمع النصراني في قرطبة، هي تفاصيل مفيدة قيمة، ولكنها تنم عن كثير من التحامل، وتصور وجهة نظر الكنيسة بأسلوب مغرق متزمت. وهي تغضي عن تلك الحقيقة الهامة، وهي أن النصارى المستعربين وهم من رعايا الحكومة الإسلامية، ويتمتعون تقريباً بكامل حقوق إخوانهم المسلمين، يدينون لهذه الحكومة بالطاعة، واحترام القانون والنظام. ولئن كانت ثمة بعض قيود لحقوقهم، فإن سن هذه القيود لا يرجع إلى عدم التسامح، ولكنه يرجع إلى روح العصر ذاته. بيد أن العوامل الدينية لم تكن وحدها مبعث هذا التحامل، الذي يضطرم به نصارى قرطبة نحو الحكومة الإسلامية، بل كان للعوامل الاجتماعية أيضاً أثرها في إذكائه. ذلك أن القسس والمتعصبين كان يحفظهم ويثيرهم، ما يحيط بالحكم الإسلامي من مظاهر الإعزاز والسؤدد، وما تبديه الهيئة الحاكمة من مظاهر الأبهة والفخامة، وما ينعم به المجتمع الإسلامي، من حياة رغدة رفيعة. وكان يذكي هذا الحقد في نفوسهم ما يعانونه من خشونة عامة قرطبة وتعريضهم وتحاملهم. وهكذا بلغ تعصب النصارى أقصاه في عهد عبد الرحمن، وبدا منذراً بشر العواقب. وكان في وسع أولئك المتعصبين في المدن البعيدة عن قرطبة مثل طليطلة وغيرها، أن يرفعوا علم الثورة، وأن يقاتلوا حكامهم وجهاً لوجه، ولكن الثورة في قرطبة كانت أمراً عسيراً. فحاولوا عندئذ أن يبثوا بذور الفتنة الطائفية والفوضى الدينية والاجتماعية، وأن يحاولوا الاستشهاد بطريق الاشتباك والتحدي. وعمد القسس والمتعصبون إلى تحقيق غايتهم بوسيلة بسيطة خطيرة معاً، وهي المجاهرة بسب النبي العربي ودينه، وهي جريمة شنعاء تعرض مرتكبيها لعقوبة الموت، وأخذ بعض الغلاة من القسس والمتعصبين الهائمين ينزلقون عامدين إلى ¬_______ (¬1) راجع هذا الفصل في مؤلف سيمونيت الضخم: Historia de los Mozarabes de Espana.Vol.I.p. 258-272

هذا المنحدر الخطر، ويوجهون السب المثير إلى النبي العربي في الطرقات جهراً، فإذا أخذوا أمام القضاة كرروا سبابهم بمنتهى الإصرار والجرأة. وحاول القضاة في البداية استعمال الرفق واللين، وإقناع أولئك العابثين بالعدول عن أقوالهم، ولكنهم ألفوا أنفسهم أمام سلسلة مدبرة من الجرائم المماثلة، فلم يترددوا عندئذ في الحكم على القاذفين بالموت، وهكذا أزهق بتلك الطريقة عدة من القسس والمتعصبين في فترة وجيزة من صيف سنة 851 م (237هـ)، وكان الأحبار يكرمون رفات القتلى، ويسبغون عليهم صفة الشهداء، ويزيدون بذلك في اضطرام الفتنة. وكان في مقدمة المنظمين لهذه الحركة قس من قرطبة يدعى "أولوخيو"، كان يعمل على تحريض أولئك "الشهداء" المزعومين، ودفعهم إلى براثن الموت. ويصف لنا العلامة المتزن ألتاميرا، تلك المؤامرة المنظمة فيما يأتي: " اتبع الأمراء المسلمون سياسة التسامح الديني منذ الفتح. وكان أشراف العرب يحترمون النصارى، ولكنهم لم يستطيعوا منع الدهماء في أوقات الحماسة المغرقة، من إهانة القسس حينما يسيرون في الشوارع فرادى أو في مواكبهم. وكانت هذه الحوادث وأمثالها تثير سخط النصارى، وأدى ذلك بمضي الزمن إلى حقد الورعين ولاسيما القساوسة. وحاول النصارى عن طريق آخر، أن يحدثوا فورات تحطم النير الإسلامي. فطلبوا الاستشهاد بالطعن في محمد أمام الناس والسلطات، وأعدموا لأن القانون يعاقب بالموت على ذلك. ولم يقتصر الاندفاع في ذلك الطريق على المدنيين، بل اندفع فيه كذلك قساوسة عقلاء مسالمون، وكان من هؤلاء أولوخيو وألبارو، ولم يجد هؤلاء طريقة أفضل للاحتجاج على الإسلام من الطعن فيه، وتقديم حياتهم قرباناً للدين الكاثوليكي " (¬1). وأدرك عبد الرحمن دقة الموقف وخطورته، ورأى أن يعالجه بالحزم والتفاهم معاً، فاستدعى مجلساً من الأساقفة، عقد في قرطبة برآسة ريكافرد مطران إشبيلية، ومثل الأمير فيه أحد كتابه النصارى، وهو جومث بن أنطونيان بن خوليان عامل أهل الذمة (¬2)، وشرح للأساقفة ¬_______ (¬1) R.Altamira: Hist.de Espana , Vol.I.p. 230 (¬2) ويسميه ابن القوطية قومس بن انتنيان بن يليانة وقد اعتنق الإسلام فيما بعد (ص 83). وكذلك يذكره الخشني في كتاب قضاة قرطبة ويسميه أيضاً قومس بن انتنيان. راجع كتاب قضاة قرطبة (القاهرة) ص 111.

ما يمكن أن يترتب على أعمال المتطرفين وسبهم للنبي من العواقب الخطيرة بالنسبة للنصارى. ولم يعترض المجلس على مبدأ الاستشهاد في ذاته، ولكنه أصدر قراره باستهجان مسلك أولئك المتطرفين، وتحذير النصارى المخلصين من حذو مسلكهم، ووجوب اعتقال كل مخالف (¬1). ولكن قرار الأساقفة لم يكف لتسكين فورة التعصب المزبد، وتمادى المتطرفون أنصار أولوخيو في غيهم، وزج إلى السجن منهم كثيرون، ومنهم أولوخيو نفسه، وكان بين المعتقلين بضع فتيات مسلمات بمولدهن من آباء مسلمين وأمهات نصارى، ولكن أضلهن الأمهات والقسس، ودفعن إلى التنصر وسب النبي، وكان منهن فتاة رائعة الحسن تدعى فلورا، عرفها أولوخيو وهام بها حباً. وقصة هذه الفتاة حسبما يرويها سيمونيت، توضح لنا طريقة التحدي والاستثارة التي اتبعها المتطرفون لإحداث الشغب. فقد كانت فلورا ابنة مسلم من زوجه النصرانية، وتوفي أبوها وهي ما تزال طفلة، فربتها أمها على مبادىء المسيحية. وكانت بالرغم من جمالها تبدي تحفظاً ونسكاً، وتزور الكنائس خفية لخوفها من أخيها الأكبر، وهو مسلم شديد التعصب. ثم فرت من دار أهلها، وتتبعها أخوها في كل مكان، فعادت إلى منزلها، وأعلنت لأخيها تمسكها بدين النصرانية، ولم ينجع في ردها الضرب والوعيد. فأخذها أخوها إلى القاضي، وأبلغه بأن أخته القاصر قد ضلت واعتنقت الدين المسيحي، وأنها تسب النبي ودينه، واعترفت فلورا بأنها نصرانية منذ طفولتها، ومتمسكة بدينها. ومع أن هذا الاعتراف بالردة يستحق عقوبة الموت، فإن القاضي اكتفى بتقرير ضربها ضرباً مبرحاً، أملا في أن تعود إلى صوابها. فاحتملت الفتاة العقوبة بجلد، وحملت إلى دارها منهوكة القوى، وصبرت أياماً حتى برئت من مرضها، ثم فرت من الدار ذات ليلة، وسارت هائمة على وجهها، حتى لجأت إلى دار نصراني في بلدة " مرتش " القريبة، والظاهر أن القس أولوخيو رآها هنالك، وأعجب بجمالها وحشمتها وورعها، وشعر نحوها بحب سماوي عميق. ثم عادت فلورا بعد حين إلى قرطبة مواجهة كل خطر، معتزمة الاستشهاد، ولجأت إلى كنيسة سان إثيسكولو، وكانت قد لجأت إليها أيضاً فتاة نصرانية ¬_______ (¬1) Dozy: ibid , Vol.I.p. 340

أخرى تدعى ماريا، وكانت إبنة رجل نصراني من لبلة، وأم مسلمة تنصرت. وربيت ماريا في الدير تربية دينية خالصة، كما ربى أخوها الأكبر فيه. ولما توفي أخوها وجدت عليه وجداً شديداً، وسارت إلى قرطبة تبغى الاستشهاد، ولجأت إلى نفس الكنيسة التي لجأت إليها فلورا. واعتزمت الفتاتان أمرهما وذهبتا إلى دار القضاء، وقالت فلورا للقاضي إنها إبنة مسلم، ولكنها اعتنقت النصرانية وأخلصت لها، وأن المسيح هو الإله الحق، وأن النبي محمد، هو نبى زائف ... الخ (¬1). وكذلك قالت ماريا إنها تؤكد من كل قلبها أن يسوع هو الرب الحقيقي، وأن الإسلام دين الشيطان. فأمر القاضي بإيداعهما السجن. وكان فيه بطريق الصدفة أولوخيو مقضياً بحبسه أيضاً، فعكف على وعظ الفتاتين، وحثهما على الاستشهاد في سبيل المسيح. وحاول القاضي نصح الفتاتين، ولكنهما أصرتا على موقفهما وعلى مطاعنهما. وأخيراً أصدر القاضي حكمه بإعدامهما، وذلك في 24 نوفمبر سنة 851، وأخذتا إلى ساحة الإعدام، وهنالك أبدت كلتاهما إشارة الصليب، ثم أعدمتا بقطع الرأس، وألقيت جثتاهما إلى النهر، واستطاع النصارى العثور على جثة ماريا وحدها، فأخذوها مع رأسي الفتاتين. ونظمت فلورا فيما بعد في سلك القديسين (¬2). هكذا يروي سيمونيت قصة فلورا وزميلتها، ومهما كان في أسلوبه من رواء القصة المشجية، فإن في وقائعها ما يلقي ضوءاً على خيوط المؤامرة التي دبرها نصارى قرطبة، وفي مقدمتهم القسس، لإثارة الفتنة الطائفية والإخلال بالنظام والأمن، وهي محاولة لا يمكن لأية حكومة منظمة أن تغضي عنها. واستمرت هذه الفتنة المضطرمة مدى حين، وتذرعت حكومة قرطبة في إخمادها بالحزم والشدة، وزهق من المتعصبين عدة أخر، ومن بينهم أولوخيو الذي نظمه النصارى فيما بعد في ثبت " القديسين ". وهكذا شغل عبد الرحمن في أواخر عهده بتلك الفتنة الدينية الخطيرة، ولكن المتعصبين لم يحققوا منها ما أملوا، وكانت بالعكس مثار السخط والإنكار من جانب النصارى المعتدلين، الذين يقدرون تسامح الحكومة الإسلامية ورفقها ورعايتها. * * * ¬_______ (¬1) لم نر مجالا لإيراد بقية المطاعن التي أوردها سيمونيت على لسان فلورا وهي مطاعن مقذعة. (¬2) Simonet: Hist.de los Mozarabes, Vol.I.p. 413-422

وتوفي عبد الرحمن بن الحكم في الثالث من ربيع الثاني سنة 238هـ (23 سبتمبر 852 م) في الثانية والستين من عمره، بعد أن حكم إحدى وثلاثين عاماً وبضعة أشهر. وكان أسمر طويلا، وسيم المحيا، أشم، أقنى، أعين، أسود العينين، بهي الطلعة، بهيج الزي، كبير اللحية. نقش خاتمه: " عبد الرحمن بقضاء الله راض " (¬1)، ويكنى أبا المطرِّف، ويعرف بعبد الرحمن الأوسط أو الثاني، والأول هو جده عبد الرحمن الداخل، والثالث هو عبد الرحمن الناصر. وكان مثل أبيه الحكم، أميراً وافر البأس والعزم، رفيع الخلال، يسمو بمكانته ويحتجب عن العامة، ويعشق مظاهر البذخ والفخامة. وفي عهده وصل البلاط الأموي إلى درجة لم تسبق من البهاء والروعة، وبدت الأرستقراطية العربية في أبدع مظاهرها، وسطعت الفروسية الأندلسية، وتجلت خلالها الباهرة التي غدت فيما بعد مثلا يحتذى في مجتمعات العصور الوسطى، وعنها اقتبست فروسة النصرانية فيما تلا من العصور. ورتبت رسوم المملكة أبدع ترتيب، ورفع من شأن الوظائف العامة، وأحيطت بسياج من الهيبة والمسئولية، وجعل " أحكام السوق " منصباً مستقلا عن ولاية المدينة، واتبعت رسوم الخلفاء في الزينة والشكل وترتيب الخدمة (¬2)، ووضعت خطة الوزارة المنظمة. وتنوه الرواية الإسلامية بمقدرة عبد الرحمن، وحسن اختياره لرجالات حكومته. فيقول لنا الرازي: " وانتقى الرجال للأعمال، واستوزر الأكفاء، من أهل الاكتفاء، وقدوة الأبطال ذوي الغناء، فظهر في أيامه جلة الوزراء وكبار الفقهاء ". وكان من وزرائه عدة من أعظم وألمع رجالات العصر، مثل الحاجب عبد الكريم، والقائد عيسى بن شُهيد، ويوسف بن بخت، وهاشم بن عبد العزيز، وعبد الرحمن بن رستم، وحسن بن عبد الغافر بن أبي عبده، ومحمد بن السليم، ومحمد بن عبد السلام بن بسيل، وعبد الواحد بن يزيد الإسكندرانى، وغيرهم. وكان الوزراء يختلفون إلى القصر بطريقة منظمة للبحث والمداولة وإبرام الشئون في جناح خاص، سمي " بيت الوزارء "، وانتهت ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 7 ص 22؛ وابن حيان عن الرازي، المخطوطة الأولى ص 111؛ والثانية لوحة 194 ب. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 61؛ والبيان المغرب ج 2 ص93.

أرزاق الوزراء يومئذ إلى ثلاثمائة وخمسين ديناراً في الشهر (¬1). وتفيض الرواية في مناقب هذه الجمهرة من الوزارء والقادة، الذين اجتمعوا في بلاط عبد الرحمن بن الحكم، وتصفهم بأنهم "عصابة من سراة الوزراء، أولى الحلوم والنهي، لم يجتمع مثلها عند أحد من الخلفاء قبلهم ولابعدهم ". ويتقدم هذا الثبت الحافل رجلان، كان لهما في تنظيم حكومة عبد الرحمن وسياسته أعظم الأثر، أولهما الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث حاجب أبيه الحكم من قبل، وهو الذي يصفه الرازي بأنه " أكمل من حمل هذا الاسم، وأجمعهم لكل جملة حسنة ". وكان عبد الكريم، فضلا عن براعته الإدارية، مثل جده مغيث فاتح قرطبة، من أعظم قادة هذا العصر، وقد قاد حسبما تقدم في مواضعه، عدة من الحملات الغازية المظفرة. ولما توفي في سنة 209 هـ (824 م) خلفه في الحجابة سفيان بن عبد ربه وهو من البربر، ولم تكن له نباهة سابقة، ثم عيسى بن شُهيد، وهو ثانى الرجلان. وكان عيسى من أعيان موالي بني أمية، وكان أيضاً من وزراء الحكم، أوصى به ولده عبد الرحمن، فلما ولى الأمر قدمه على خاصته، ثم ولاه خطة الخيل، ثم خلع عليه رتبة الوزارة، وعهد إليه بالنظر في المظالم، وتنفيذ الأحكام على طبقات أهل المملكة. ثم ولاه الحجابة بعد سفيان. واشتهر عيسى بالحلم والوقار وحصافة الرأي، والمعرفة والجزالة، وقاد كثيراً من الصوائف المظفرة. بيد أنه استهدف لخصومة الفتى نصر الخصي المسيطر على شئون القصر، والأثير لدى الأمير بمظاهرته لحظيته طروب، فلبث يدس له ويعمل على إقصائه من الحجابة، حتى تم له ذلك، حينما مرض عبد الرحمن وطال احتجابه. وعين مكانه للحجابة عبد الرحمن بن رستم. فلما أبل الأمير من مرضه أنكر ما وقع، وأنحى باللائمة على نصر، وأعاد عيسى بن شهيد إلى الحجابة، فلم يزل على حجابته حتى توفي عبد الرحمن. قال ابن القوطية: " لم يختلف أحد من شيوخ الأندلس في أنه ما خدم ملوك بني أمية فيها أحد أكرم من عيسى بن شهيد غاية، ولا أكرم اصطناعاً، ولا أدعى لذمته. ولقد كان الحاجب قبله عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث بهذه الصفة، على زيادة خصاله وأدواته على عيسى، ¬_______ (¬1) ابن القوطية ص 61، و62، وكذلك مخطوط ابن حيان ص 144. ومخطوط القرويين لوحة 196 أ.

إلا في باب كرم الصنيعة واستتمامها، فلم يك تفصله درجة " (¬1). وتولى الكتابة للأمير عبد الرحمن عدة من الكتاب المبرزين، في مقدمتهم الحاجب عبد الكريم، وقد كان أيضاً كاتباً بليغاً وشاعراً جزلاً، وعبد الله بن محمد ابن أمية بن أبي حوثرة، ومحمد بن أبي سليمان الزجالي وهو من برابرة نفزة، وكان كاتباً بارعاً، واشتهر بقوته في الحفظ حتى أنه سمي " بالأصمعي "، واشتهر أبناؤه من بعده في ميدان الكتابة. وكان ممن كتبوا للأمير عبد الرحمن أيضاً الأسقف جومث (قومس) بن أنطونيان عامل أهل الذمة، وكان أديباً بارعاً، وكاتباً مقتدراً، وكان عبد الرحمن يعهد إليه بالمهام الخطيرة، وخدم من بعده ولده الأمير محمد (¬2). واجتمعت في عهد الأمير عبد الرحمن أيضا جمهرة من جلة الفقهاء والقضاة، رحل معظمهم إلى المشرق في طلب العلم وانتقاء الرواية، ومن هؤلاء محمد بن يوسف بن مطروح، ومحمد بن حارث، وعبد الأعلى بن وهب، وبقي بن مخلد، ومحمد بن وضاح، ويحيى بن إبراهيم بن مدين، وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى. وقد اشتهر بعض هؤلاء من قبل في عهد أبيه الحكم. وكان يتقدم هذه الجمهرة من الفقهاء في المكانة والنفوذ، عبد الأعلى بن وهب، ويحيى ابن يحيى، وعبد الملك بن حبيب. وكان يحيى بن يحيى عميد الفقهاء وشيخ قرطبة الأول، وأصله من برابرة مصمودة، ودرس في المشرق على مالك، والليث بن سعد وابن وهب وغيرهم، وتولى الفتيا بعد عيسى بن دينار، ولبث حتى وفاته في سنة 234هـ يتبوأ أسمى مكانة. وكان ممن اهتموا بالتحريض على ثورة الربض وفر عقب إخماد الثورة إلى طليطلة، ثم استأمن الحكم فأمنه وعاد إلى قرطبة. وخلفه في علمه ومكانته عبد الملك بن حبيب، وغدا أثير الأمير، لا يقدم عليه أحداً، ولا يعدل بمشورته أحد. وكان عبد الملك فوق براعته في الفقه والحديث، متقدماً في علوم اللغة، والعلوم القديمة، بارعاً في الأدب، وكتب كتباً في إعراب القرآن وشرح الحديث وفي الأنساب وغيرها (¬3). ¬_______ (¬1) تاريخ ابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 196 أوب و197 أو 198 أ. (¬2) راجع قضاة قرطبة للخشني ص 111. (¬3) تاريخ ابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 201 ب و 202 أ.

ويخصص ابن حيان لذكر قضاة عبد الرحمن، وأخبارهم، ونوادرهم والتعريف بهم، نبذاً طويلة رأينا أن نكتفي بالإشارة إليها (¬1). وحذا عبد الرحمن حذو أبيه أيضاً، في اصطفاء الموالي والصقالبة، وابتاع أنصبة أخوته من مماليك أبيه " العجم "، وكانوا خمسة آلاف مملوك، ثلاثة آلاف فارس يرابطون إزاء باب القصر، فوق الرصيف، وألفا رجل على أبواب القصر وكانوا يسمون " الخرص " لعجمتهم (¬2). وسما نفوذ الفتيان يومئذ في البلاط، وكان زعيمهم الفتى نصر المتصرف في شئون القصر الخاص، وكان يتمتع بأعظم نفوذ في القصر والدولة، بمؤازرة طروب جارية عبد الرحمن. وكان نصر هذا ويكنى أبو الفتوح، من الفتيان المختارين الذين اشتهروا بالجمال والظرف، وأمر الحكم بخصيهم، وأصله من أبناء الأحرار الذين حشدوا للخدمة داخل القصر، وكان أبوه من أسالمة أهل الذمة (المولدين) من أهل قرمونة (¬3). ولما ولي عبد الرحمن، قدمه على سائر خاصته، وغدا مدبر أمر داره، ومشاركاً لأكابر وزرائه في تصريف الشئون. وتضاعف نفوذه ومكانته بمحالفته لجارية عبد الرحمن الأثيرة طروب، صاحبة النفوذ القوي. وكان من أشهر أعمال نصر قيادته لجيوش الأندلس التي حشدت لمقاتلة النورمانيين في أراضي إشبيلية، وانتصاره عليهم. واستمر نجم نصر في صعود، ونفوذه في تمكن، حتى غدا أعظم رجال الدولة، وأمضاهم أمراً؛ وكان مرهوب الجانب، يخشاه الأكابر والخاصة. توفي فجأة في أواخر سنة 233هـ (848 م)، " أرقى ما كان في غلوائه، وأطمع ما هو بالاحتواء على أمر سلطانه، أرهب ما كان الناس له، وأخوفهم لعدوانه، إذ نال من أثرة مولاه الأمير عبد الرحمن واصطفائه، فوق ما ناله خادم خاص، مع أمير رشيد ". فتنفس الناس الصعداء، وسروا لوفاته، والتخلص من طغيانه (¬4). ¬_______ (¬1) مخطوط القرويين اللوحات 202 أحتى 211 أ. (¬2) مخطوط ابن حيان ص 145. (¬3) ابن حزم في رسالة نقط العروس ص 73. ويقول ابن حزم إن نصراً هذا هو الذي تنسب إليه " منية نصر " وهي ضاحية جميلة كانت تقع على النهر، على مسافة قصيرة من شرقي قرطبة. (¬4) تاريخ ابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 191 ب.

واستكثر عبد الرحمن أيضاً من اقتناء الجواري الحسان، وكان كلفاً شديد الشغف بهن، وكان يعني باختيارهن من أطيب العناصر والأصول، واجتمعت لديه منهن نخبة بارعة في الحسن والخلال، مثل طروب أم ولده عبد الله، ومؤمرة أم ولده المنذر، وشفاء أم ولده المطرِّف، وفخر ومتعة وغيرهن، وأنجب عبد الرحمن من الولد عدداً ضخماً بلغ وفقاً لابن حزم مائة، خمسين من الذكور، ومثلهم من الإناث، وذكر الرازي أن عدد أولاده من الذكور أربعون، وسماهم واحداً واحداً، وأن عدد بناته ثلاثة وأربعون، ذكر أسماءهن جميعاً (¬1). وبلغ الجواري كالفتيان من النفوذ مبلغاً عظيماً. واشتهرت من بينهن طروب حظية عبد الرحمن الأثيرة لديه، وقد اشتد نفوذها في أواخر أيامه، وظاهرت نصراً الفتى، فكانت لهما الكلمة النافذة في معظم الشئون، وكان عبد الرحمن يشغف بها أعظم شغف، وهو القائل فيها: إذا ما بدت لى شمس النها ... ر طالعة ذكرتني طروبا وعنى عبد الرحمن بالمنشآت العامة أعظم عناية، فزاد في مسجد قرطبة الجامع بهوين جديدين من جانب القبلة، وقام على عمارته الفتى نصر. وما زال هذا الجامع الشهير قائماً إلى اليوم بسائر عقوده الإسلامية، وأروقته ومحاريبه. ولكنه حول منذ القرن السادس عشر إلى كنيسة قرطبة العظمى (كتدرائية)، وبالرغم من أن الهياكل قد أقيمت في سائر عقوده الجانبية، وأقيم في وسطه مصلى عظيم على شكل صليب، فإنه ما زال يحمل بالإسبانية اسمه الإسلامي القديم " المسجد الجامع " Mezqnita Aljama La، وقد أزيلت قبابه ومعظم زخارفه الإسلامية، لتحل مكانها الزخارف النصرانية. ولكن محاريبه الفخمة، مازالت تحتفظ بنقوشها الإسلامية، وآياتها القرآنية. ويقع جامع قرطبة في طرف المدينة الجنوبي وسط شبكة من الدروب الأندلسية القديمة، على مقربة من القنطرة الرومانية العربية القائمة على نهر الوادي الكبير. ويبلغ طوله 185 متراً وعرضه 135 متراً. وله عدة أبواب كبيرة فخمة، مازالت تحتفظ بكثير من نقوشها الإسلامية. ويعرف بابه الرئيسي المقابل لصحنه ¬_______ (¬1) راجع جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة)، ص 90، وابن حيان (مخطوط القرويين) لوحة 194 ب و195 أ.

" بباب النخيل " Puerta de las Palmas، ويقع صحنه في ناحيته الشمالية ويعرف بفناء النارنج Patio de los Naranjos، وهو صحن مستطيل شاسع يزدان بعدد من أشجار البرتقال (أو النارنج)، وهو الآن صحن الكنيسة. وقد هدمت منارة الجامع، وهي التي أقامها عبد الرحمن الناصر بجوار الصحن، وأقيم مكانها برج الأجراس الحالي (¬1). وأنشأ عبد الرحمن أيضاً مسجد إشبيلية الجامع، كما ابتنى سورها الكبير عقب غزو النورمانيين لها، ووضع نظاماً جديداً للسِّكة وجعلها أندلسية مستقلة، بقيم وأوزان جديدة. وكان أهل الأندلس يتعاملون من قبل بما يحمل إليهم من نقد المشرق، أو بنقود تسك على نظامه، في دار السكة التي أنشأها عبد الرحمن الداخل. وأنشأ أجنحة ومشارف عديدة للقصر، وجلب إليه الماء العذب من قنن الجبال، وأنشأ على النهر الأعظم مما يلي سور القصر والمدينة رصيفاً عظيماً (¬2). كما أنشأ بقرطبة عدة من الحدائق الغناء. وحذت جواريه حذوه، فأنشأن في قرطبة عدة مساجد سميت بأسمائهن. ويشير سيمونيت إلى عظمة قرطبة في عصر عبد الرحمن ويقول " إن عبد الرحمن كان يعشق البذخ الطائل، وفي عهده حفلت قرطبة بطائفة من المساجد والقصور والقناطر والمنشآت المختلفة. وقد وصف قرطبة وعظمتها في عهده نصراني معاصر شهير وهو سان أولوخيو، إذ يقول إن عبد الرحمن أسبغ على عاصمة مملكته لوناً خارقاً من العظمة، ورفع من ذكرها، وأفاض عليها حلل المجد، وأغدق عليها الثروات، وملأها بجميع مظاهر المتعة الدنيوية إلى حدود لا تصدق " (¬3). وكانت أيام عبد الرحمن أيام سكينة وأمن ورخاء، وفيها ازدهرت الزراعة والصناعة والتجارة، وورد على الأندلس كثير من الأمتعة والسلع الفاخرة، وزخرت الأسواق بالبضائع. وزاد الدخل زيادة عظيمة، وبلغت الجباية وحدها ¬_______ (¬1) راجع وصفاً مسهباً لجامع قرطبة وتاريخه وخواصه الأثرية في كتابي: " الآثار الأندلسية الباقية في اسبانيا والبرتغال " (الطبعة الثانية) ص 20 - 34. (¬2) كان القصر الأموي القديم يقع على ضفة النهر على مقربة من الجامع، ويحتل موقعه اليوم القصر الأسقفي والسجن المحلي، والحدائق المجاورة التي ما زالت إلى اليوم، تسمى حدائق القصر Huertas del Alcazar، والمرجح أنها تقوم مكان حدائق القصر القديمة. (¬3) Simonet: ibid , Vol.I.p. 366

زهاء ألف ألف دينار في السنة، واستطاع الأمير أن ينفق بسخاء على تسيير الحملات الغازية، وإقامة المنشآت المختلفة (¬1). وكان عبد الرحمن بن الحكم أديباً حسن التثقيف، وكاتباً بليغاً مشرق البيان، عالما بالشريعة والحكمة (الفلسفة)، مجيداً للنظم، نصيراً للعلوم والآداب، يحتشد حوله جمهرة من أكابر العلماء والأدباء والشعراء، مثل العلامة الرياضي والفلكي عباس بن فرناس، ويحيى الغزال، وشاعره الخاص عبد الله بن الشمر بن نمير، وكان صديقه مذ كان ولياً للعهد، وكان بارعاً في الأدب والشعر والمنطق والتنجيم، وكان يكشف لعبد الرحمن نجمه وطالعه (¬2)، وعباس بن ناصح الجزيري شاعر أبيه الحكم، وعبيد الله بن قرلمان بن بدر مولى الداخل، وكان من جلسائه وخاصته وكان أديباً بارعاً، وشاعراً مجيداً. وغيرهم. ومن نظمه قوله: ولقد تعارض أوجه لأوامر ... فيقودها التوفيق نحو صوابها والشيخ أن يحو النهي بتجارب ... فشباب رأي القوم عند شبابها وقوله وقد خرج غازياً إلى جلّيقية: فكم قد تخطيت من سبسب ... ولاقيت بعد دروب دروبا ألاقي بوجهي سموم الهجـ ... ـير إذ كاد منه الحصى أن يذوبا تدارك بي الله دين الهدى ... فأحييته وأمتُّ الصليبا وسرت إلى الشرك في جحفل ... ملأت الحزون بها والسهوبا ومن قوله في الغزل: قتلتني بهواكا ... وما أحب سواكا من لي بسحر جفون ... تديره عيناكا وحمرة في بياض ... تكسي به وجنتاكا أعطف علي قليلا ... واحيني برضاكا فقد قنعت وحسبي ... أن أرى من رآكا ¬_______ (¬1) راجع ابن القوطية ص 67، وابن الأبار ص 61، والبيان المغرب ج 2 ص 93 و94، وأخبار مجموعة ص 136، ونفح الطيب ج 1 ص 162 و163؛ وابن الأثير ج 7 ص 22؛ وفي مخطوط ابن حيان عما تقدم نبذ وتفاصيل حسنة (ص 138 و142 و144). (¬2) مخطوط ابن حيان ص 156 و157.

واشتهر عبد الرحمن بحنوه الجم على قرابته وذوي رحمه بدرجة لم يجاره فيها أحد من أهل بيته، فكان يوليهم وافر عطفه، ويجري عليهم الصلات السخية. وفي أيامه وفد من المشرق على الأندلس عدد من قرابته المروانية (بنى أمية)، فاستقبلهم جميعا أجمل استقبال، وأنزلهم أكرم منزل، وأجرى عليهم الأرزاق والإقطاعات الواسعة. وكان عبد الرحمن يعشق الفلك والتنجيم، ويشغف بدراسته، وكان العلامة الرياضي ابن فرناس، وعبيد الله بن الشمر، وعبد الواحد بن إسحاق الضبي من أساتذته في ذلك الفن، وكان يقربهم ويجري عليهم الأرزاق الواسعة، وله معهم قصص ونوادر كثيرة. وكان أيضا يعشق الغناء والموسيقى، ويجمع حوله عدداً من أكابر الفنانين يجري عليهم الأرزاق الواسعة. ووفد عليه من المشرق أبو الحسن علي بن نافع الملقب بزرياب نابغة الغناء والموسيقى، وكان زرياب من تلاميذ الفنان الشهير إسحاق الموصلي مغني الرشيد، فلما ظهر نبوغه وشعر أبو إسحاق بخطورة منافسته، تحيل في صرفه وإبعاده، فغادر بغداد إلى المغرب، وكتب إلى الحكم أمير الأندلس يستأذنه في الوفود عليه. فأذن له واستدعاه، ولكن زرياب ما كاد يصل إلى المغرب حتى علم بوفاة الحكم، وكاد ينثني عن عزمه في العبور إلى الأندلس، لولا أن جاءه كتاب عبد الرحمن بدعوته والترحيب به فسار إلى قرطبة واستقبله عبد الرحمن بمنتهى الإكرام والحفاوة، وأجرى عليه الأرزاق الواسعة، وجعله من خاصة بطانته. وبهر زرياب أهل الأندلس ببراعته في الغناء والموسيقى، وطار صيته في كل مكان، وأضحى قطب الفن الذي لا يجارى، وأخذ عنه أهل الأندلس فنونه وإبداعه، وتشبهوا به في مظاهر زيه وإناقته وطرائق معيشته. وتوفي في ربيع الأول سنة 238 هـ (أغسطس 852 م) قبيل وفاة عبد الرحمن بأسابيع قلائل. وكان لزرياب وفنه أعظم الأثر في تكوين الفن الأندلسي في ظل الدولة الأموية، ثم في ظل دول الطوائف (¬1). وشغف عبد الرحمن أيضاً بجمع الكتب، وأوفد شاعره عباس بن ناصح إلى المشرق للبحث عن الكتب القيمة واستنساخها، فجمع له منها طائفة كبيرة، ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 109 وما بعدها، وابن خلدون في المقدمة ص 257.

وكان أول من عنى بجمعها من أمراء الأندلس، وكانت جهوده في هذا السبيل نواة لإنشاء مكتبة قرطبة العظيمة. * * * وفي عهد عبد الرحمن سما شأن حكومة قرطبة الإسلامية، وأخذت تتبوأ مكانتها من الهيبة والنفوذ، بين مختلف القصور والحكومات النصرانية، وتغدو مركز التوجيه للدبلوماسية الإسلامية في الغرب. والظاهر أن الدولة البيزنطية، خصيمة الدولة العباسية في المشرق، كانت تعتقد أنها تستطيع أن تصل بتفاهمها مع حكومة قرطبة الإسلامية، إلى بعض النتائج العملية في مقاومة خصيمتهما المشتركة. ففي سنة 840 م (225 هـ) وفد على قرطبة سفير من قبل قيصر قسطنطينية الإمبراطور تيوفيلوس (توفلس)، يدعى قرطيوس، ومعه كتاب وهدية فخمة، فاستقبله عبد الرحمن بحفاوة، وكان القيصر يتوجه في كتابه إلى أمير الأندلس، باسم الصداقة القديمة التي كانت قائمة بين الأوائل من خلفاء بني أمية وقياصرة بيزنطية، ويشكو مر الشكوى من فعال الخليفة المأمون وأخيه المعتصم وعيثهما في أراضيه، ويشير إليهما في كتابه بابن مراجل وابن ماردة (¬1) تحقيراً وازدراء، كما يشكو إليه من استيلاء أبى حفص البلوطي وعصبته الأندلسية على جزيرة إقريطش (كريت) وهي من أملاكه، ويطلب إليه عقد أواصر المودة والصداقة بينهما، ويرغبه في ملك أجداده بالمشرق، ويستنهض همته لاسترداده، ويتنبأ له بقرب انهيار الدولة العباسية، وزوال سلطانها، ويعده بنصرته في ذلك المشروع. وقد رد عبد الرحمن على سفارة تيوفيلوس بمثلها، وأوفد كاتبه وصديقه الشاعر يحيى الغزال إلى قسطنطينية ومعه يحيى بن حبيب المعروف بالمنيقلة بكتاب وهدية إلى الإمبراطور. وقد سبق أن أشرنا إلى الغزال وإلى شخصيته الممتازة وإلى بارع خلاله وظرفه، وكان الغزال قد جاوز الستين يومئذ ولكنه كان مايزال يحتفظ بكثير من إناقته وروائه. وسار الغزال وصاحبه يحيى ومعهما السفير البيزنطي إلى المشرق عن طريق تدمير (مرسية)، فوصلوا إلى قسطنطينية بعد رحلة بحرية شاقة، عاينوا فيها الأهوال من اضطراب البحر وروعة الموج. واستقبل الإمبراطور السفير الأندلسي بحفاوة، وقدم الغزال إليه كتاب ¬_______ (¬1) مراجل هي أم المأمون، وماردة هي أم المعتصم، وكلتاهما جارية وأم ولد.

عبد الرحمن وهديته. ويرد عبد الرحمن في كتابه على ما جاء في كتاب الإمبراطور تفصيلا، ويشير مثله إلى المأمون والمعتصم بابن مراجل وابن ماردة، وإليك ما يرد به عبد الرحمن على ما يدعوه إليه الإمبراطور من وجوب العمل لاسترداد ملك أجداده بالمشرق، وهي أهم فقرات الخطاب: " وأما ما ذكرت من أمر الخبيث ابن ماردة، وحضضت عليه من الخروج إلى ما قبله، وذكرته من تقارب انقطاع دولته ودولة أهله، وزوال سلطانهم، وما حضر من وقت رجوع دولتنا، وأزف من حين ارتجاع سلطاننا، فإننا نرجو في ذلك عادة الله عندنا، ونستنجز موعوده إيانا، ونمتري حسن بلائه لدينا، بما جمع لنا من طاعة من قبلنا، من أهل شامنا وأندلسنا وأجنادنا وكورنا وثغورنا، وما لم نزل نسمع ونعترف أن النقمة تنزل بهم، والدائرة تحل عليهم من أهل المغرب بنا وعلى أيدينا، فيقطع الله دابرهم، ويستأصل شأفتهم إن شاء الله تعالى " (¬1). وأدى الغزال سفارته خير أداء، وعمل على إحكام الصلة والمودة بين الإمبراطور وبين مليكه، وسحر البلاط البيزنطي بكياسته وظرفه، وبديع صفاته، وقدمه الإمبراطور إلى زوجه الإمبراطورة تيودورا وإلى ولده الأمير ميخائيل الذي تولى العرش فيما بعد، وكان يومئذ فتى يافعاً، فأنست به الإمبراطورة وسحرته برائع جمالها، وسحره الأمير الفتى بظرفه وبارع خلاله. وقال فيه قصيدته التي مطلعها: وأغيد لين الأطراف رخص ... كحيل الطرف ذو عنق طويل ترى ماء الشباب بوجنتيه ... يلوح كرونق السيف الصقيل من أبناء الغطارف قيصري ... العمومة حين ينسب والخؤول وعاد الغزال إلى قرطبة بعد رحلة دامت عدة أشهر، وقد بهرته مظاهر الحضارة البيزنطية وروعة البلاط البيزنطي. ¬_______ (¬1) ورد هذا الخطاب بنصه كاملا كما وردت تفاصيل هذه السفارة في مخطوط ابن حيان ص 161 و162 و163؛ ونشر الأستاذ ليفي بروفنسال قصة هذه السفارة بالفرنسية، ومعها نص الخطاب بالعربية في فصل خاص، في المجلد الثاني عشر من مجموعة Byzantion التي تصدر في بروكسل بعنوان: Echange d"Ambassades entre Cordoue et Byzance au IXe. Siècle كما نشرها أيضاً في رسالة خاصة. وراجع أيضاً نفح الطيب ج 1 ص 162، حيث يشير إلى هذه السفارة إشارة موجزة.

هذا وقد أوفد الغزال بعد ذلك بقليل في سفارة أخرى أغرب وأعجب، وذلك أنه على أثر غزو النورمانيين (المجوس) لولايات الأندلس الجنوبية الغربية واقتحامهم إشبيلية، وردهم عنها، ثم هزيمتهم ومطاردتهم، بعث ملكهم رسله إلى عبد الرحمن بن الحكم في طلب المهادنة والصلح، فأجابه عبد الرحمن إلى طلبه، وبعث الغزال مع الرسل إلى ملكهم ليرد السفارة، ويعلنه بقبول الصلح. وتقدم إلينا الرواية الإسلامية عن هذه السفارة تفاصيل شائقة. وهي رواية أديب أندلسي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، هو أبو الخطاب عمر ابن الحسن بن دحية البلنسي، أوردها في كتابه "المطرب من أشعار أهل المغرب" في حديثه عن الغزال. وهو يذكر لنا أن عبد الرحمن أوفد مع الغزال، يحيى بن حبيب لمرافقته في تلك السفارة، وأنهما خرجا معاً إلى البحر المحيط عن طريق شلب (¬1) في مركب خاص أعد لهما، وسارت مع مركب الرسل النورمانيين. ويصف لنا ما لقيه السفيران المسلمان من أهوال البحر وروعته، وكيف أنهما جازا تلك الشدائد سالمين ووصلا إلى بلاد المجوس. ثم يصف لنا بلاد المجوس بأنها " جزيرة عظيمة في البحر المحيط "، وعلى مقربة منها " جزائر كثيرة منها صغار وكبار، أهلها كلهم من المجوس، وما يليهم من البر أيضا لهم مسيرة أيام، وهم مجوس، وهم اليوم على دين النصرانية ". ويبدو من وصف طريق الرحلة، وأوصاف تلك الجزر، أن القطر الذي قصده الغزال ورفيقه، هو الدانماركة، ويؤيد ذلك أن الدانماركة كانت في ذلك الوقت مستقر ملك النورمان (المجوس)، وكان ملكهم عندئذ يشمل الدانماركة وما حولها من الجزائر، وقسماً من إسكندناوة وألمانيا الشمالية. وكان يجلس على عرش النورمان في ذلك الوقت (نحو سنة 844 أو 845 م) ملك يسمى " هوريك ". وكان النورمان يومئذ أحداثاً في النصرانية، حسبما تقول الرواية الإسلامية. ولقي السفير المسلم من ملك النورمان كل ترحاب وعطف، وأفرد لإقامته وزملائه منزلاً حسناً. وقدم إليه الغزال كتاب الأمير عبد الرحمن وهديته من الثياب والآنية، فوقعت لديه أحسن موقع. ولقي الغزال في البلاط النورماني كله، كثيراً من ¬_______ (¬1) شلب Silves هي بلدة أندلسية قديمة تقع في جنوب غربي البرتغال على مقربة من المحيط الأطلنطي.

الإعجاب والعطف، واستقبلته " نود " ملكة النورمان، فراعه حسنها، وشملته بعطفها، ورآها بعد ذلك مراراً، ونظم في حسنها شعراً رقيقاً، يورده لنا ابن دحية، وفيه يخاطبها بقوله: يا نود يا رود الشباب التي ... تُطلع من أزرارها الكوكبا وعاد الغزال إلى الأندلس بعد رحلة دامت عشرين شهراً، وكان عوده عن طريق شنت ياقب. ويقول لنا ابن دحية إنه كان يحمل من ملك النورمان كتاباً إلى صاحبها، وهو ملك جليقية وليون. والظاهر أنه كان كتاب توصية وجواز، لكي يستطيع السفير المسلم وزملاؤه اختراق المملكة النصرانية الشمالية، في طريقهم إلى الأندلس. وقد اخترق الغزال بالفعل مملكة ليون، وسار إلى طليطلة، ومنها إلى قرطبة. والمرجح أن وصوله إلى قرطبة، كان سنة 232هـ (أواخر سنة 846 م). وعاش الغزال بعد ذلك زهاء عشرين عاماً أخرى، وتوفي في سنة 250هـ. وقد بلغ الرابعة والتسعين من عمره، إذ كان مولده في سنة 156 هـ (¬1)، وأدرك خمسة من أمراء بني أمية بالأندلس أولهم عبد الرحمن الداخل، وآخرهم محمد ابن عبد الرحمن. وكان مدى نصف قرن يتبوأ الزعامة في الشعر والأدب والحكمة، ويتبوأ في بلاط قرطبة أسمى مقام من النفوذ والثقة والتقدير (¬2). ¬_______ (¬1) راجع جذوة المقتبس للحميدي (مصر) رقم 887. (¬2) راجع رواية ابن دحية كاملة في كتابه " المطرب من أشعار أهل المغرب " المنشور بعناية وزارة المعارف سنة 1954 (ص 138 - 149). ونقلها دوزي في كتابه: Recherches, Vol.I.App, XXXIV، وأشار إليها المقري في الفصل الذي أورده عن الغزال وأخباره (نفح الطيب ج 1 ص 441 وما بعدها). وقد كان البحث يتجه من قبل إلى أن رواية ابن دحية عن هذه السفارة قد تكون تكراراً أو تحريفاً للرواية الخاصة بسفارة الغزال إلى قسطنطينية، ولكن يتضح من مراجعة رواية ابن دحية كاملة في كتابه المنشور، ودراسة المعالم الجغرافية التي أوردها عن طريق سفر الغزال وطريق عودته عن طريق شنت ياقب ومملكة جليقية - وعن موقع مملكة النورمان، يتضح من ذلك كله أنه لا توجد الآن ذرة من الريب في صحة القول بأن السفارة كانت فعلا إلى " بلاد المجوس " أو النورمان، أو بعبارة أخرى إلى الدانماركة.

الكتاب الثانى الدولة الأموية فى الأندلس القسم الثانى عصر الإمارة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعهد الفتنة الكبرى

الكتابُ الثاني الدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْ القسم الثاني عَصْرُ الإمَارَة من محمد بن عبد الرحمن إلى عبد الله بن محمد وعَهْد الفتنة الكبْرى 238 - 300 هـ: 852 - 912 م

الفصل الأول ولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم

الفصل الأوّل ولاية محمد بن عبد الرحمن بن الحكم وطوالع الثورة الأولى محمد بن عبد الرحمن. ظروف توليته والتمهيد لها. الثورة في طليطلة. مسير محمد إلى طليطلة. استعانة الثوار بملكي ليون ونافار. موقعة وادي سليط. تحريضات النصارى المتعصبين. غزوة ألبة والقلاع. عود إلى محاربة طليطلة وإخضاعها. غزوة النورمانيين. عيثهم في جنوبي الجزيرة. ارتدادهم من طريق الشمال. غزو المسلمين لنافار وألبة والقلاع. موسى بن موسى وسيادته في الثغر الأعلى. الحرب بينه وبين أردونيو. مصرع موسى. ولده لب ومحالفته للنصارى. أخوته الثلاثة. غزو المسلمين لألبة والقلاع. هزيمة المسلمين. عود إلى غزو ألبة. هزيمة النصارى. الثورة في ماردة وإخمادها. احتماء بني قسي بملك النصارى. الثورة في قواعد الثغر الأعلى. استيلاء بني قسي على تطيلة وسرقسطة. مسير محمد الثغر الأعلى. استيلاؤه على تطيلة. غزوه لنافار. زحف المنذر إلى سرقسطة. غزوه لنافار ثانية. عوده إلى غزو الثغر الأعلى. افتتاح المنذر لحصن روطة. استيلاؤه على لاردة. خضوع سرقسطة. الخلاف بين بني قسي. خروج محمد بن لب في سرقسطة وتحالفه مع النصارى. سير المنذر إلى سرقسطة واستيلاؤه عليها. الهدنة بين المسلمين والنصارى. عود ابن مروان إلى الثورة في ماردة. سير محمد لقتاله. تحالف ابن مروان مع ملك ليون. هزيمة جيش الأندلس وأسر قائده. عيث ابن مروان بنواحي الغرب. التجاؤه إلى ملك ليون. زحف المنذر على بطليوس وإحراقها. الثورة في شنت برية وبنو ذو النون. ظهور ابن حفصون في جبل ببشتر. بواعث الفتنة في كورة ريه. غزو ابن حفصون لكورة ريه. محاربة ابن حفصون وأسره. فراره واستئنافه الثورة. سير المنذر لقتاله. محاصرة الحامة. وفاة محمد بن عبد الرحمن وعود المنذر إلى قرطبة. خلال محمد. عنايته بالجيش والأسطول والمنشئات الدفاعية. نظام البلاط في عهده. حجابه ووزراؤه. أعماله الإنشائية. المسجد الجامع ومنية الرصافة. شخصه وخلاله. أدبه وبلاغته. عطفه على العلماء والأدباء. حمايته لبقي بن مخلد. نفوذ الفقهاء في عهده. تسامحه نحو النصارى. ترك عبد الرحمن بن عبد الحكم، مملكة زاهرة موطدة الأركان، تنعم بالاستقرار والهدوء. ولكن هذا الاستقرار الظاهر، كان يحجب كثيراً من التيارات الخفية، ْالتي تهدد أمن المملكة وسلامتها. ذلك أن الهزات العنيفة التي توالت على الأندلس في عهد عبد الرحمن، تركت آثارها العميقة في هذا الصرح الباذخ. وكانت الثورات المحلية المتعاقبة، وغزوات النورمانيين، ودسائس النصارى المتعصبين، كلها تنذر بأن الاستقرار المؤقت الذي تنعم به المملكة، لم يكن سوى

هدنة خادعة، حققتها سياسة قوية حازمة. وكانت عناصر الإضطراب والغدر تجثم هنالك في صدور المنافقين والطامعين، وتنذر حكومة قرطبة وعرش بني أمية بأعظم الأخطار. تولي محمد بن عبد الرحمن الملك عقب وفاة أبيه، في الرابع من ربيع الآخر سنة 238هـ (24 سبتمبر سنة 852 م)، ودخل القصر وأبوه مسجى على سريره، فاقتعد لفوره سرير الملك، وأخذ له البيعة الحاجب عيسى بن شُهيد. وكان يومئذ قد جاوز الثلاثين بقليل. وكان مولده في شهر ذى القعدة سنة 207هـ (إبريل سنة 823 م). وأمه أم ولد تدعى بهير (¬1). وكانت ظروف ولايته ممهدة من قبل، وكان والده عبد الرحمن قد استخلفه بقصر الإمارة، حينما اعتزم أن ينيبه عنه في سنة 226هـ، وهو يومئذ فتى في العشرين من عمره، ثم ولاه ثغر سرقسطة، فضبطه وأحسن إدارته، وصحب والده إلى بنبلونة في غزوته المظفرة سنة 228هـ، وقاد ميمنة الجيش، وأثنى عليه والده في كتاب الفتح، فاشتهر اسمه بين الناس، ثم ندبه أبوه بعد ذلك لمقابلة رسل ملك الفرنج قارله (كارل) بن ببين القادمين إليه. وأخيراً كلفه بالركوب إلى البلاط بصفة منتظمة، ليرفع إليه الكتب الواردة بعد تلخيصها بمعرفته، وقد تم هذا الإجراء بتوصية الحاجب عيسى بن شهيد ونصحه، وذلك لتمكين أمر محمد ومكانته، وتوهين ما كان يحاوله نصر الخصي الأثير لدى الأمير، وحليف حظيته طروب المتغلبة عليه، من ترشيح ولدها عبد الله لولاية العهد، وتمكين أمره. ولم يكن ذلك دون اختيار وتثبت. ذلك أن عبد الرحمن، كان حسبما يحدثنا عيسى الرازي " قد كشف عن مذاهب ولده، ولداً ولداً، وعجم أخلاقهم اختباراً، فوجد محمداً راجحاً لهم بخلاله ". فاختاره ليخلفه من بعده، وأوعز إلى وزرائه وأكابر دولته، بأنه صاحب ولاية عهده، والمفوض إليه الأمر من بعده، وكلفهم جميعاً، ومعهم القاضي وأهل الشورى، بالركوب إليه وغشيان مجلسه أيام الجمع في المسجد الجامع، وأبدى على الجملة بما لا يدع مجالا لأى شك، بإيثاره على جميع ولده، وتفرده دونهم بخلافته في ملكه. ْوفضلا عن ذلك كله، فقد كانت لمحمد عيون من الصقالبة بالقصر يطالعونه ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 96.

بالأخبار في وقتها. فما توفي والده، وافاه في مساء نفس اليوم رسول من قبل حبيب الخصي، يستدعيه إلى القصر بسرعة، فبادر إلى القصر متنكراً وقد أخفي سلاحه تحت ثيابه، خوفاً من دسائس أخيه ومنافسه عبد الله، لتمكن نفوذ أمه داخل القصر. وكان الصقالبة قد كتموا موت الأمير، وأغلقوا أبواب القصر، وثارت بينهم مناقشات عنيفة حول ولاية العرش، وانتهى الأمر بتفضيل محمد وتقرير استدعائه. وخرج محمد من غرفة أبيه المسجي إلى مجلس البيعة، واستدعى إخوته التسعة والأربعين، وعمومته، وأهل بيته، وعظماء المملكة. وأخذت له البيعة دون خلاف (يوم الجمعة الرابع من ربيع الأول 238 هـ)، ثم أخذت له بيعة الكافة في المسجد الجامع أياماً متوالية (¬1). أوردنا هذه التفاصيل لنقف على نوع الإجراءات التي كانت تتخذ لتقرير ولاية العهد، في إمارة قرطبة الأموية، ثم لنقف على الدور الذي أخذ يضطلع به الفتيان الصقالبة منذ الآن فصاعداً في مسألة خلافة العرش، وهو دور كان له أثره الحاسم في كثير من المواطن. وكان محمداً أميراً ذكياً فطناً بالأمور (¬2)، تولى والأفق الذي ظلل عصر أبيه العظيم مازال يحتفظ بلمعانه، وملوك اسبانيا النصرانية يحسبون حسابه، ويشعرون بأنه خلف كفء لأبيه، وملوك العدوة القريبين من الأندلس يخطبون وده، وملك الفرنج يسعى إلى عقد السلم معه. وأقر محمد حاجب أبيه عيسى بن شهيد، ومعظم الوزراء الذين كانوا يتولون خدمة أبيه على خططهم ومراتبهم؛ وصنع نظاماً جديداً للوزارة، تتميز فيه الخطط الرفيعة على غيرها، ويمتاز فيه الوزراء بنوع من التعظيم والتجلة، وقدم الوزراء من أهل الشام على غيرهم من الأندلسيين والبربر، وأعلاهم في الجلوس على أرائكهم ببيت الوزارة. وكان بنفسه يشرف على أعمال الوزارة والكتاب، ويدقق في أعمالهم وتصرفاتهم وحساباتهم (¬3). ولما توفي عيسى بن شهيد، خلفه في الحجابة عيسى بن الحسن بن أبي عبدَة، وكان بالرغم من رثاثة هيئته وزيراً قوياً، ¬_______ (¬1) ابن حيان عن أحمد بن محمد الرازي، وعيسى بن أحمد الرازي، ومعاوية بن هشام الشبينسي؛ مخطوط القرويين اللوحات 215 إلى 220 ب. (¬2) ابن الأثير ج 7 ص 141. (¬3) ابن حيان عن أحمد الرازي؛ مخطوط القرويين لوحة 223.

وافر الفطنة والذكاء، صائب الرأي والتقدير. وكان هاشم بن عبد العزيز من بين وزراء الأمير محمد، أشدهم خصومة ومنافسة للحاجب ابن أبي عبدة، وكان في نفس الوقت أحب وزراء الأمير إليه، وأكثرهم حظوة لديه، فلم يلبث أن غلب نفوذه على سائر الوزراء. ويقول لنا ابن عبد البر إن هذه الحظوة التي استأثر بها الوزير هاشم لدى الأمير محمد، كان لها أثر سيىء في تصرفات الأمير، وأنه أي هاشم قد أفسد عليه أمره، " فشرّهه، وصلفه، وحمله على غير المنهج من محمود طرقه، وعدل عن اختيار ثقات العمال، من الشيوخ والكهول أولي النهي والأصول، إلى الأحداث من أولي الشر والخيانة ودناءة الأصول. فلم يلبث الأمر أن فسد بذلك إلى أبعد حال .. فنجمت الفتنة بأكثر البلاد، وكثر في الأرض الفساد في المملكة " (¬1). وفي أقوال ابن عبد البر عن هذا التحول في سياسة الأمير محمد وفي أساليب حكمه مبالغة، ينقضها ما أورده صاحب البيان المغرب وغيره عن صفاته (¬2). وعلى أى حال فسوف نرى أى دور خطير يلعبه الوزير هاشم بن عبد العزيز، الذي تولى الحجابة فيما بعد، في ميدان الحرب والسياسة في عهد الأمير محمد. وقد شاء القدر أن يكون عهد محمد بداية عصر من أخطر عصور التاريخ الأندلسي، وأشدهم خطراً على ملك بني أمية، وعلى دولة الإسلام في الأندلس. ذلك أنه ما كاد يتبوأ العرش، حتى بدأت طلائع تلك الثورة الجارفة، التي قدر له أن يضطلع بكفاحها طوال حكمه، الذي امتد خمسة وثلاثين عاماً، والذي يصفه ابن حيان بقوله: " والمشوب آخره بالتنكيد، المنصرم عن فرقة الجماعة، ونجوم النفاق بكل جهة ". ففي منتصف ربيع الثاني سنة 238 هـ، يعنى لأيام قلائل فقط من وفاة عبد الرحمن، وولايه محمد، تحرك أهل طليطلة التي ما فتئت تفيض بعوامل الثورة. وكان بها عندئذ سعيد بن الأمير محمد، والعامل عليها حارث بن بزيع. وكان جماعة من المارقين وأهل الشر، قد اجتمعوا في الهضبة القريبة من المدينة المسماة " جبل الأخوين " بزعامة مسوقة بن مطرّف، وهو أحد الزعماء الخوارج الذين فروا من قرطبة، فلما وقفوا على وفاة الأمير عبد الرحمن، كاتبوا أهل طليطلة وحرضوهم على الوثوب بسعيد ومن معه. فاضطرمت الثورة داخل المدينة، ¬_______ (¬1) نقله ابن حيان، مخطوط القرويين اللوحة 222 أ. (¬2) راجع البيان المغرب ج 2 ص 111.

وساعدهم ابن مطرف بحشوده من الخارج، وانتهى الأمر بهزيمة جند الأمير، واستطاع سعيد أن يغادر المدينة، ولكن الثوار أسروا عاملها حارثاً، ورفضوا إطلاق سراحه حتى أطلقت حكومة قرطبة رهائنهم المعتقلة هناك (¬1). وفي صيف العام التالي (سنة 239 هـ - 853 م) بعث الأمير محمد أخاه الحكم في جند الصائفة إلى قلعة رباح، وكانت قد أقفرت وخربت وغادرها معظم أهلها، عقب مهاجمة أهل طليطلة الخوارج لها، وقتلهم كثيراً من أهلها، فاحتلتها جند الأمير، وقامت بإصلاح أسوارها، واستدعى أهلها الفارون وأمنوا؛ وفعل الحكم مثل ذلك بحصن شندلة، الواقع على النهر المسمى بهذا الإسم Jandula، وهو من أفرع الوادي الكبير؛ وجالت جند الأمير في تلك المنطقة تطهيراً من الثوار، وخرجت منها حملة سارت جنوباً، فلقيتها عصابات الخوارج من أهل طليطلة في فحص أندوجر، ووقعت بين الفريقين معركة عنيفة هزم فيها جند الأمير، وردوا بخسارة فادحة (شوال سنة 239 هـ). وعلى أثر ذلك خشي أهل مدينة جيّان القريبة على أنفسهم من عيث الخوارج، فغادرها كثير منهم إلى الجبال، وابتنى الأمير محمد لهذا السبب حصن " أندة " على مقربة جيان، وضم إليه العرب المقيمين على الطاعة، وسمى المكان لذلك " أندة العرب " (¬2). وعندئذ شعر محمد بما يهدد العاصمة من الأخطار، وأراد أن يلقي على ثوار طليطلة، درساً عميق الأثر، فسار إليها في المحرم سنة 240هـ (يونيه 854 م) على رأس قوة كبيرة. وكانت أول حملة يقودها بنفسه بعد تبوئه الملك. وكان عماد الثورة في طليطلة جمع كبير من المولدين والنصارى، الذين تحركهم روايات المتعصبين، عن الاضطهاد الذي يلقاه إخوانهم في قرطبة، وكانوا يتطلعون دائماً إلى عون ملك النصارى، فلما استشعروا عزم محمد على قتالهم، بادروا بالاستعانة بأردونيو (أردن) ملك ليون، وكذلك بملك نافار، وأمدهم أردونيو بقوة على رأسها الكونت غاتون (¬3). وكان تدخل النصارى على هذا النحو لتأييد الثورة ضد حكومة قرطبة، عاملا في إذكاء حماسة المسلمين، فهرعت جموع كبيرة إلى جيش الأمير، ومنهم كثير من الفرسان الأشراف وذوي الحسب، وسار محمد صوب ¬_______ (¬1) ابن حيان عن الرازي في مخطوط القرويين لوحة 259 أ. (¬2) مخطوط القرويين لوحة 259 ب. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 130، والبيان المغرب ج 2 ص 97. ويقول صاحب البيان إن الكونت غاتون هو أخ لملك ليون.

طليطلة في بعض قواته، وترك بقية جيشه الكثيف مستتراً بالتلال التي تظلل وادي سليط، وهو الوادي الذي يخترقه النهر المسمى بهذا الإسم Guazalete، وهو أحد أفرع التاجُه الجنوبية، فلما رأى أهل طليطلة قلة الجيش المحاصر، خرجوا لقتاله ومعهم حلفاؤهم النصارى وهم على ثقة من الظفر، فارتد محمد بجنوده نحو وادي سليط متظاهراً بالهزيمة، وعندئذ برزت قوات الأندلس من مكامنها، وأطبقت على الثوار وحلفائهم النصارى، وكانت موقعة هائلة مزقت فيها جموع الطليطليين والإسبان في ساعات قلائل من الصباح إلى الضحى، وقتل منهم مقتلة عظيمة تقدرها الرواية الإسلامية بأحد عشر ألفاً، وقيل بل عشرين ألفاً، وأسر منهم كذلك عدد جم، بينهم كثير من القساوسة وقد أعدموا على الفور، ورصت رؤوس القتلى، وأذن فوقها لصلاة الظهر. وكان نصراً عظيماً. وفي هذه الموقعة يقول شاعر العصر عباس بن فرناس: ومؤتلف الأصوات مختلف الزحف ... لهوم الفلا عبل القبائل ملتف إذا أومضت فيه الصوارم خلتها ... بروقاً تراءى في الغمام وتستخفى كأن ذرى الأعلام في ميلانها ... قراقير في يم عجزن عن القذف بكى جبلا وادي سليط فأعولا ... على النفر العبدان والعصبة الغلف يقول ابن يوليس لموسى وقد ونى ... أرى الموت قدامي وتحتي ومن خلفي قتلنا لهم ألفاً وألفاً ومثلها ... وألفاً وألفاً بعد ألف إلى ألف سوى من طواه النهر في مستلجِّه ... فأغرق فيه أو تهدهد من جرف لقد نعمت فيه غزاة نسورنا ... وسمعت الدقات قصفاً على قصف (¬1) على أن الفتنة في طليطلة لم تهدأ ولم تخمد، فقد استمر تحريض النصارى المتعصبين فيها على أشده، وأضحت المدينة الثائرة موئلا لطائفة من القسس المتعصبين مثل أولوخيو وصحبه، يبثون دعايتهم المضطرمة في طليطلة وما جاورها من الأنحاء، ويصورون مصير النصارى في ظل الحكم الإسلامي بأشنع الصور، ويدعون إلى التحرر من الاضطهاد الديني والاجتماعي، وكان صدى هذه ¬_______ (¬1) ينقل لنا ابن حيان عن موسى الرازي تفاصيل هذه الموقعة - مخطوط القرويين لوحة 260 أوب و261 أ. وراجع البيان المغرب ج 2 ص 97 و114. وكذلك: Dozy.Histoire, V.I.p. 355

الدعوة يتردد قوياً في العاصمة الأندلسية، ويبث القسس تحريضهم ودعايتهم المسمومة، مثلما كانوا يفعلون أيام عبد الرحمن بن الحكم (¬1). وكان محمد يرقب هذه الفتنة حذراً من عواقبها، وعواقب تمرد المدينة الثائرة، ومن ثم فقد لبث متأهباً لمقارعتها، وشحن قلعة رباح وطلبيرة على مقربة منها بالجند والعدد. وسير الأمير محمد كذلك الصوائف والحملات الغازية إلى الثغر الأعلى. ففي سنة 239 هـ (853 م) سير جيشاً بقيادة موسى بن موسى بن قسيّ والي تطيلة إلى ألبة والقلاع. وكان موسى أيام الأمير عبد الرحمن، من زعماء الثورة في الشمال، وتحالف مع النصارى حسبما تقدم، وقاتله عبد الرحمن حتى تمكن من إخضاعه. ولكنه عاد في أواخر عهده إلى سابق مكانته من زعامة الثغر الأعلى، واستطاع أن يوطد استقلاله في تطيلة وما جاورها، مع التظاهر في نفس الوقت بالولاء لحكومة قرطبة، اتقاء لخصومتها. فسار إلى ألبة والقلاع وعاث فيها، وهزم النصارى في عدة مواقع، وافتتح بعض الحصون، ثم عاد بعد ذلك فاتجه صوب ثغر برشلونة، وانتزع بعض حصونه من أيدي النصارى، وتضع بعض الروايات تاريخ هذه الغزوة في سنة 242 هـ (856 م). بيد أنه يبدو من أقوال الرازي أنها وقعت قبل سنة 241 هـ (¬2). وفي صيف سنة 241هـ (855 م) سار محمد بنفسه إلى ألبة والقلاع، وقد كتب إلى موسى بن موسى وأهل الثغور بالاحتشاد والسير في حملته، فعاث في بسائط ألبة والقلاع، وافتتح كثيراً من حصون النصارى. وفي العام التالي بعث موسى بن موسى إلى أحواز برشلونة، فغزاها وخرب برشلونة وافتتح بعض حصونها، وأسر بعض أمرائها (¬3). بيد أن اهتمام الأمير لبث في الوقت نفسه بالأخص موجهاً إلى طليطلة، فبعث ولده المنذر إلى المدينة الثائرة في قوة كبيرة فحاصرتها وعاثت في أحوازها (242هـ)، ولم يجرأ الثوار هذه المرة على مغادرة مدينتهم. ولكنهم خرجوا في العام التالي إلى طلبيرة لمقاتلة الحامية الأندلسية بها، فخرج إليهم قائدها مسعود بن عبد الله، ¬_______ (¬1) يفيض دوزي في شرح أدوار هذه الفتنة الدينية وأعمال دعاتها: Dozy: Hist;V.I.p. 356-362 (¬2) مخطوط القرويين لوحة 261 ب. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 98.

وأوقع بهم وقتل منهم عدة مئات أرسلت رؤوسهم إلى قرطبة. وسارت جند الصائفة في الوقت نفسه إلى طليطلة، فنازلتها وعاثت في أحوازها، وانتسفت زروعها وأقواتها. ورأى الأمير محمد أن يتابع معاقبة أهل طليطلة. فخرج إليهم بنفسه في صيف سنة 244 هـ (858 م)، وحاصر المدينة الثائرة، وتأهب أهلها لقتاله بالرغم مما أصابهم من نقص في القوى، وشح في الأقوات، واعتمدوا على حصانة مدينتهم. ولجأ محمد إلى الحيلة فهدم مهندسوه قواعد القنطرة الكبيرة مع تركها قائمة ثم انسحب بجنوده، وهنا خرج أهل طليطلة لقتاله، فلما احتشدوا على القنطرة سقطت بهم في نهر التاجه وغرق منهم عدد جم (¬1). ولم يترك محمد هذه المرة وسيلة رائعة إلا استعملها لسحق المدينة الثائرة، فخرب حصونها ومعالمها، وأوقع بأهلها قتلاً وتشريداً، حتى اضطروا إلى طلب الأمان والصلح، وأذعنوا للخضوع والطاعة، وهم يعتزمون النكث في قرارة أنفسهم متى سنحت الفرص (245 هـ - 859 م). وهكذا لبثت طليطلة عصراً تضني حكومة قرطبة بتمردها وثوراتها المتوالية؛ وكانت حاضرة القوط القديمة تشعر دائماً بقوتها ومنعتها الطبيعية، وكانت فوق ذلك مثوى التيارات النصرانية الخطرة حسبما بينا، تنساب إليها من نصارى الشمال، ومن النصارى المعاهدين بقرطبة، ومن أهلها أنفسهم. والواقع أن طليطلة كانت بوعورة موقعها علي المنحدر الصخري الممتد نحو نهر التاجه، وإحاطة النهر بهذا المنحدر الوعر، ثم بحصونها القوية، وأسوارها العالية الضخمة، من أمنع مدن العصور الوسطى. وما تزال إلى اليوم حين نتأملها ونتجول فيها، تذكرنا بموقعها الصعب، وطرقها الصخرية الوعرة، وبقية أسوارها وحصونها المنيعة، بما كان لها من سابق الحصانة والقوة فيما خلا من العصور. وهكذا أخمدت ثورة المولدين والنصارى المعاهدين في طليطلة إلى حين؛ وتأهب محمد في الوقت نفسه لقمع شغب النصاري المتعصبين في قرطبة وغيرها، ¬_______ (¬1) يقدم إلينا ابن حيان عن هدم القنطرة قصة أخرى، فيقول إن جنود محمد حاولوا هدم القنطرة تحت أنظار أهل المدينة، وأنهم سخروا من هذه المحاولة، وأيقنوا بعقمها. ثم خرجوا للقتال، واحتشد الكثير منهم فوق القنطرة، فانهارت تحت أقدامهم وهوت بمن فوقها إلى النهر، وهدمت صخورها عليهم من كل ناحية (مخطوط القرويين لوحة 262 أ).

وإخماد نزعتهم الثورية الخطيرة. وحوكم القس أولوخيو الذي أشرنا من قبل إلى دعايته وتحريضه أيام عبد الرحمن، وكان ما يزال معقد الدسائس الدينية، وقضى بإعدامه كما قضى بإعدام صاحبته ومعاونته الفتاة ليوكريسيا (مارس سنة 859 م). ورأى النصارى فتنتهم تنهار وركنوا إلى السكينة، وخبت جذوة تعصبهم، التي لبثت أعواماً طويلة تضطرم في قرطبة، ولم يبق من حماستهم سوى الذكرى (¬1). ولم يكد ينتهي الأمير محمد من إخضاع طليطلة، حتى دهم الأندلس خطر النورمانيين مرة أخرى. ففي نفس هذا العام (245 هـ - 859 م) انحدر النورمانيون (وهم الأردمانيون أو المجوس كما تسميهم الرواية الإسلامية) في سفنهم نحو شواطىء جليقية، وعاثوا في شاطىء اسبانيا الغربي. وتقدر الرواية الإسلامية أسطول النورمان في هذه المرة باثنين وستين مركباً؛ وطاردتهم السفن الأندلسية، وكانت دائماً على قدم الأهبة تجوس خلال المياه الغربية بصفة مستمرة استعداداً لرد أولئك الغزاة الخطرين، مذ فاجأوا الأندلس بغاراتهم المخربة أيام عبد الرحمن. ووصلت بعض سفن النورمانيين جنوباً حتى تجاه مدينة باجة، وهنالك استطاعت السفن الأندلسية أن تقضي على طلائع الغزاة، وأن تنتزع سفينتين من سفنهم المحملة بالغنائم والسبي، بيد أنهم انقضوا على الشواطىء الجنوبية، ووصلوا إلى مصب نهر الوادي الكبير، ثم انحدروا جنوباً حتى مياه الجزيرة الخضراء. وفي تلك الأثناء كانت القوات الأندلسية قد سارت إلى الغرب بقيادة الحاجب عيسى بن أبي الحسن بن أبي عبدة، وهرع الناس إلى جيش الأمير من كل صوب، وتقدم الأسطول بقيادة أميرى البحر حشحاش وابن شكوح، وقد عبىء أحسن تعبئة، وجهز بالأنفاط وفرق الرماة الكثيفة، ورد الغزاة أولا عن إشبيلية بعد عدة معارك برية وبحرية. ثم نشبت بين الفريقين بعد ذلك معركة بحرية شديدة تجاه شاطىء شذونة، وغنم المسلمون في البداية مركبين آخرين، ولكن السفن النورمانية تكاثرت على جناح الأسطول الذي يقوده حشحاش، وغلبت عليه، وقتل أمير البحر المسلم فوق سفينته، تم انحدر النورمانيون صوب الجزيرة الخضراء واقتحموها، وأحرقوا مسجدها الجامع، وعاثوا فيها سفكاً ونهباً، وسارت ¬_______ (¬1) Dozy: Hist, V.I.p. 361-362

بعض سفنهم إلى شواطىء العدوة (عدوة المغرب) وعاثت فيها، ثم نزلوا بشاطىء الأندلس الجنوبي، وسارت سفنهم قبالتهم على ساحل تدمير حتى أوريولة، فدخلوها، وعاثوا في تلك الأنحاء نهباً وسبياً، واشتبكوا مع القوات الأندلسية في عدة معارك برية وبحرية عنيفة، حطمت فيها بعض سفنهم، وقتل كثير من المسلمين، واستمر عيث النورمانيين على هذا النحو أشهراً حتى خبت فورتهم، وفقدوا كثيراً من سفنهم. فارتدوا نحو الشمال على طول شواطىء اسبانيا الشرقية، ونفذت منهم قوة خلال نهر إبره إلى نافار، واقتحموا عاصمتها بنبلونة وأسروا ملكها غرسية، ولم يطلقوه إلا لقاء فدية كبيرة، وأغارت قوات أخرى منهم على الجزائر الشرقية وشواطىء بروفانس حيث عبروا مصب الرون، وخربوا آرل ونيمة وفالانس. وهكذا لم تكن الغزوة النورمانية في هذه المرة مفاجأة مثلما كانت الغزوة الأولى، ولم يكن عيث الغزاة على نفس النطاق الواسع. وهذا ما يسجله لنا ابن حيان في ختام حديثه عنها، إذ يقول: " فلم يكن لهم في هذه الكرّة الإنبساط في البحر، والإضرار بأهل السواحل ما جرت به عادتهم، ولم يجدوا في السواحل مطمعاً لشدة ضبطها، ولاقوا مع ذلك من البحر هولا عطبت له من مراكبهم أربعة عشر مركباً بناحية البحيرة من الجزيرة، فنكبوا عن حائط الأندلس، واعتلوا إلى جهة الفرنجة، فلم يلقوا ظفراً، وأسرعوا الانصراف إلى بلدتهم بالخيبة، فلم تكن لهم بعد بالأندلس إلى اليوم عودة " (¬1). وفي العام التالي أعني سنة 246 هـ (860 م) بعث محمد حملة إلى الولايات الشمالية بقيادة حاكم طرطوشة. ويقول لنا ابن حيان إن الأمير محمد هو الذي غزا بالصائفة بنفسه في تلك السنة. وكان غرسية ملك نافار، قد تحالف عقب انطلاقه من أسر النورمان مع أردونيو ملك ليون، وأغارت قواتهما المتحالفة على الأراضي الإسلامية. وعلى أى حال فقد زحفت القوات الأندلسية على نافار، ولم تكن قد ¬_______ (¬1) تختلف الرواية الإسلامية في تاريخ هذه الغزوة النورمانية الثانية لشواطىء الأندلس، فيضعه الرازي في سنة 245 هـ (859 م). ويتابعه في ذلك ابن الأثير وابن عذارى. ويضعها هشام ابن معاوية الشبينسي في سنة 247 هـ (861 م)، وقد أخذنا بالرواية الأولى لأنها أرجح وأكثر اتفاقاً مع سير الحوادث. راجع في تفاصيل الغزوة، ابن حيان في مخطوط القرويين (لوحة 263 أوب و264 أ، والعذري في " الأوراق المنثورة من ترصيع الأخبار " ص 118 و119، وابن الأثير ج 7 ص 28، والبيان المغرب ج 2 ص 99.

أفاقت بعد من ضربة النورمانيين، وغزت بنبلونة وخربت حصونها. ولم تقو جموع غرسية على رد المسلمين، واستمر المسلمون بضعة أسابيع يخربون بسائط نافار وينتسفون قراها وحصونها، وكان من بين الأسرى فرتون ولد غرسية، فأخذ إلى قرطبة حيث اعتقل زهاء عشرين عاماً (¬1). وفي صيف سنة 247 هـ (861 م) سارت حملة أندلسية أخرى إلى ألبة والقلاع. وكان موسى بن موسى قد طلب إلى محمد أن يكون طريق الحملات الغازية عن غير منطقته، نظراً لما يتجشمه في مقارعة النصارى من جهد، وما يصيب أراضيه من الدمار، فأجابه الأمير إلى طلبه، وسارت الحملة من طريق آخر، وعاثت في أراضي النصارى. وكان موسى بن موسى بن قسيّ يومئذ، قد بسط نفوذه على بسائط قواعد الثغر الأعلى، وأصبح سيداً لتطيلة ووشقة وسرقسطة وأحوازها. وكان هذا الزعيم القوي الذي يرجع حسبما أسلفنا إلى أصل نصراني، وله مصاهرة وقرابة مع الأمراء النصارى، ينتهز كل فرصة لتدعيم استقلاله، وكان يتشح بلقب الإمارة، ولم يكن يدين لحكومة قرطبة إلا بنوع من الولاء الإسمي. وكانت علائقه مع أردونيو ملك ليون جاره من الغرب، تتردد بين الخصومة والتحالف وفقاً للظروف. وكان أردونيو ينظر إلى اتساع ولايته من ناحية الغرب بعين القلق، وموسى من جانبه يحرص على تحصين قواعده وحدوده؛ ففي سنة 248 هـ (862 م) سار موسى في قواته إلى الغرب لتحصين قواعده الغربية ومعه صهره غرسية أمير نافار، وحاول أردونيو من جانبه أن يحبط هذه الحركة، فهاجم بعض الحصون التابعة لموسى وفي مقدمتها حصن " البلدة " الواقع على نهر إبره على مقربة من قلهرّة، ونشبت بين الفريقين معركة جرح فيها موسى جراحاً خطيرة، وهزمت قواته وقتل منها عدد كيير من المسلمين والنصارى، وقتل صهره غرسية، وهدم أردونيو حصن البلدة وغيره من الحصون التي تحمي أراضي ابن قسي، ولم يمض سوى قليل حتى توفي موسى نفسه متأثراً بجراحه، وكانت وفاته نذيراً بتطور الحوادث في الثغر الأعلى. وذلك أن موسى بن موسى كان بالرغم من استقلاله عن حكومة قرطبة، ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب ج 2 ص 99 و100، ومخطوط القرويين اللوحة 263 أ.

يقف بقواعده وقواته في الشمال الشرقي، سداً منيعاً في وجه النصارى. فلما توفي أعلن ولده لب خضوعه لأردونيو ملك ليون، وتحالف معه ضد المسلمين، وزحف على وادي الحجارة يبغي الاستيلاء عليها، فرده عنها حاكمها ابن سالم. وأصابته خلال المعركة جراح توفي منها وهو في طريق العودة إلى تطيلة، وحل أخوته الثلاثة إسماعيل ومطرِّف وفرُتون مكان أبيهم في حكم القواعد الشمالية. وهنا رأت حكومة قرطبة أن تضاعف أهباتها لرد النصارى عن الولايات الشمالية. ففي صيف سنة 248 هـ (863 م) سار عبد الرحمن ابن الأمير محمد على رأس حملة كبيرة إلى ألبة والقلاع، ومعه القائد عبد الملك بن العباس القرشي، فجاس خلالها وخرب بسائطها. واشتبك النصارى بقيادة ملكهم أردونيو مع المسلمين في معركة عنيفة، وهزموا على أثرها هزيمة شديدة، وقتل عدة من قوادهم (¬1). ولم يمض عامان حتى سير محمد ولده عبد الرحمن مرة أخرى، إلى غزو ألبة والقلاع (251هـ - 865 م). ويقول لنا ابن حيان إن الذي كان على رأس هذه الغزوة هو المنذر بن عبد الرحمن، وكانت قيادة الجيش للحاجب عيسى بن الحسن بن أبى عبدة. وعلى أى حال فقد سار المسلمون بحذاء نهر إبره، واستولوا على معظم حصون أكابر النبلاء والسادة في تلك المنطقة. وحاول أردونيو كعادته أن يعترض سبيل المسلمين عند العودة، وقد كمن لهم في موضع يسمى "بفج المركور" على مقربة من نهر إبره، أفرغ جهده في تحصينه، فنشبت بينه وبين المسلمين على ضفاف النهر معركة شديدة، كانت الدائرة فيها على النصارى، فقتل وأسر منهم عدد كيير وغرق الكثير منهم في النهر، ومزقوا كل ممزق (¬2). وفي العام التالي سارت حملة أخرى إلى الشمال بقيادة الحكم بن محمد، فعاث في أرض النصارى، واستولى على بعض الحصون. وكانت هذه الغزوات المتوالية قد هدت من قوى النصارى، ومزقت شملهم وخربت بلادهم، فركنوا إلى السكينة، وتوفي ملكهم أردونيو في الوقت نفسه (866 م) فخلفه ولده ألفونسو الثالث الذي لقب فيما بعد بألفونسو الكبير. - 2 - كان حرياً، بعد أن هدأت ثائرة النصارى في الشمال، أن تتمتع حكومة قرطبة ¬_______ (¬1) ابن حيان في مخطوط القرويين لوحة 265 أ. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 102. ومخطوط القرويين لوحة 265 ب.

بفترة من السلام والدعة. ولكن الخطر كان يجثم في ناحية أخرى. ذلك أن عوامل الانتقاض والثورة كانت تجتمع من جديد في شمال غربي الأندلس، في المناطق الجبلية التي ألفت الثورة واتخذتها شعاراً لها. ولم تكن حكومة قرطبة بغافلة عن هذه النذر. وكانت ماردة وبها عدد من زعماء المولدين المتمردين، في مقدمة القواعد التي يشك في ولائها وطاعتها. ففي سنة 254 هـ (868 م) خرج الأمير محمد على رأس جنده من قرطبة، متظاهراً بالسير إلى طليطلة، ولكنه عرج في منتصف الطريق فجأة على طريق ماردة، ودهمها قبل أن تستعد للقائه، فتحصن بها أهلها. ثم اقتحمها محمد، ووقع بين الفريقين قتال عنيف انتهى بسحق الثوار وإذعان المدينة، وطلب الزعماء الثائرون الأمان وفي مقدمتهم عبد الرحمن بن مروان الجليقي، وابن شاكر، ومكحول، وغيرهم، وهم من أكابر الفرسان والسادة، فنقلهم الأمير بأموالهم وأهلهم إلى قرطبة، وولى على ماردة سعيداً بن عباس القرشي، وهدم حصونها وأسوارها (¬1). وكانت الحوادث تتطور في الثغر الأعلى في نفس الوقت تطوراً خطيراً. وكان الأمير محمد قد استطاع عقب وفاة موسى بن موسى أن يسترد سلطانه في تلك الأنحاء، وأن ينتزع القواعد الشمالية من أبنائه، ويعين لها حكاماً من قبله. وكان بنو موسى أو بنو قسي، نسبة إلى جدهم الأعلى الكونت قسي القوطي، يرجعون كما أسلفنا إلى أصل نصراني، وكانت هذه الأسرة المتمردة الشديدة المراس، كباقي الأسر القوية المولدة، تبغض حكومة قرطبة، وتميل إلى مناوأتها والتحالف ضدها مع النصارى، وكان بنو قسي أصهاراً لملك نافار النصراني، حيث كان غرسية زوجاً لابنة موسى المسماة " أوْرِية " Oria، فلما توفي موسى وانتزعت حكومة قرطبة قواعده من يد بنيه، لجأ هؤلاء حيناً إلى حماية ملك ليون، حتى تسنح لهم فرصة العمل ومعاودة الجهاد. على أن حكومة قرطبة لم تلق في حكامها الذين اختارتهم للقواعد الشمالية ما كانت تؤمل من ولاء وإخلاص. ففي سنة 255 هـ (869 م) ثار سليمان بن عبدوس في مدينة سُرية وهي من أعمال سرقسطة، فسار إليه الحكم بن الأمير محمد، وحاصر سرية وهدم أسوارها بالمجانيق، وأرغم الثائر على الخضوع والطاعة، وبعث به إلى قرطبة. وفي العام التالي (256هـ) ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 7 ص 62، والبيان المغرب ج 2 ص 103، ومخطوط القرويين لوحة 268 أ.

ثار عمروس بن عمر بن عمروس أحد زعماء الثغر، وغدر بموسى بن غلند عامل وشقة وانتزعها منه. وعمروس هذا هو حفيد عمروس بن يوسف بطل واقعة الحفرة بطليطلة، وقد كان بنو عمروس مثل بني قسي مولدين من أصل نصراني، لا يشعرون بأي ولاء حقيقي لحكومة قرطبة. فسير عامل الثغر عبد الوهاب بن أحمد بن مغيث الجند لمقاتلة الثائر، فلما انتهت إلى وشقة فر عنها عمروس، وأسر بها حفيده لب بن زكريا بن عمروس، وقتل وعلق رأسه على سور المدينة. وفي سنة 257 هـ (871 م) أرسل محمد حملة جديدة إلى الثغر الأعلى بقيادة عبد الغافر بن عبد العزيز، فطارد فلول عمروس، وقبض على ولده زكريا وأبنائه وجماعة من أهله، وقتلهم على باب مدينة سرقسطة، وقفل إلى قرطبة ورؤوسهم مرفوعة بين يديه (¬1)، ولاح أن الثورة قد أخمدت في الشمال ولكن الواقع أن الثورة عادت لتضطرم في الشمال بأقصى شدتها. ذلك أن القوات الأندلسية ما كادت تعود إلى قرطبة حتى ظهر بنو قسي في الميدان مرة أخرى، وزحف مطرف وأخوه إسماعيل ابنا موسى بن موسى على تطيلة، فانتزعاها من حاكمها عبد الوهاب بن مغيث، كما انتزعا سرقسطة من ولده محمد ابن عبد الوهاب؛ وملك مطرف تطيلة في صفرسنة 258 هـ (871 م)، وملك اسماعيل سرقسطة في ربيع الأول من نفس العام. وهنا عول محمد على أن يخرج إلى الثوار بنفسه. فسار في العام التالي على رأس جيشه (259 هـ - 872 م) وعرج في طريقه على طليطلة، حيث عقد لأهلها الأمان وأخذ الرهائن. ثم سار إلى الثغر الأعلى، وزحف تواً على تطيلة واستولى عليها. وقبض فيها على مطرف ابن موسى وأبنائه. وفي رواية أخرى أن مطرفاً كان قد ملك وشقة إلى جانب تطيلة واستقر بها، وأن عمروساً صاحب وشقه السابق استطاع أن يؤلب أهلها على مطرف، وانتهى بأن انتزعها منه، وقبض عليه وعلى ولده وزوجته وهي بنت غرسية ملك نافار وتزوجها. فلما قدم الأمير في جيشه سارع عمروس بإعلان طاعته، والتمس الأمان، فأجابه الأمير إلى ما طلب، وأقره على ولاية وشقة وأعمالها، وتسلم منه مطرِّفاً وأولاده (¬2). واتجه الأمير بعد ذلك إلى نافار فخرب ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 103، ومخطوط القرويين لوحة 269 أ. (¬2) هذه هي رواية عيسى بن أحمد الرازي، نقلها إلينا ابن حيان في مخطوط القرويين لوحة 270 ب.

بسائطها، ثم عاد إلى قرطبة وأمر بقتل الثائر مطرف وبنيه الثلاثة: ورفعت رؤوسهم على باب القصر. وفي العام التالي (260 هـ) سير محمد إلى الشمال مع ولده المنذر جيشاً بقيادة هاشم بن عبد العزيز. فزحف المنذر إلى سرقسطة وعاث في نواحيها، وانتسف أشجارها وزروعها، وجعلها قاعاً صفصفاً، ولكنه لم يستطع انتزاعها من يد المتغلب عليها اسماعيل بن موسى. وكان أخوه فُرتون قد حل في تطيلة مكان أخيه مطرف، وتحالف الثائران مع ألفونسو الثالث ملك ليون، فسار المنذر إلى وشقة، ثم إلى بنبلونة عاصمة نافار، وعاث في تلك الأنحاء، ولكن جهوده لم تسفر عن أية نتائج مستقرة (¬1). وشغلت حوادث الشمال وثورة بني موسى حكومة قرطبة أعواماً طويلة. ففي سنة 264 هـ (878 م) سار المنذر مرة أخرى إلى الثغر الأعلى، وعاث في بسائط سرقسطة وتطيلة، ولكنه لم يظفر بالاستيلاء عليهما. ثم زحف على بنبلونة، فخرب بسائطها، وأتلف زرعها، وقتل كثيراً من أهلها. وفي العام التالي (265 هـ)، عاد المنذر إلى غزو الثغر الأعلى، وحاصر مدينة سرقسطة وسائر بلاد بني قسيّ، وعاث فيها إتلافاً وتخريباً. ومع ذلك فقد لبث الشمال بعيداً عن سلطان قرطبة بضعة أعوام أخرى. وكانت جنبات الأندلس الأخرى تضطرم في الوقت نفسه بسلسلة من الثورات المدمرة حسبما نفصل بعد، ولكن حكومة قرطبة كانت تعلق على قواعد الثغر الأعلى أهمية خاصة، لوقوعها على حدود الممالك النصرانية. ففي سنة 268 هـ (882 م) سير الأمير محمد ولده المنذر إلى الشمال على رأس جيش ضخم، ومعه القائد هاشم بن عبد العزيز. وكان المنذر قائداً مجرباً ذا شجاعة وبأس، وكان يعتزم هذه المرة أن يسحق الثورة وزعماءها في الشمال. فزحف تواً على سرقسطة، ولما لم ينجح في اقتحامها، تحول إلى الحصون الواقعة حولها فخربها واستولى عليها، وافتتح حصن روطة أمنع حصونها وأسر به عبد الواحد الروطي " أشجع أهل عصره " (¬2) ثم استولى على لاردة وما حولها من الأنحاء، وانضم إليه محمد بن لب بن موسى، وكان ساخطاً على عميه لاستئثارهما دونه بالسلطان. ولما رأى إسماعيل بن موسى صاحب سرقسطة ¬_______ (¬1) مخطوط القرويين لوحة 272 أ. (¬2) ابن الأثير ج 7 ص 122، والبيان المغرب ج 2 ص 107. وفي رواية أخرى أن هاشم بن عبد العزيز اشترى حصن روطة من صاحبه عبد الواحد ولم يفتتحه (العذري في كتاب " ترصيع الأخبار " ص 35).

عبث المقاومة، أعلن خضوعه وطاعته للأمير وقدم رهائنه. وزحف المنذر بعد ذلك على ألبة واخترقها إلى قشتالة (القلاع)، وتأهب النصارى للقائه بقيادة ملكهم ألفونسو الثالث. ولكن جرت مفاوضة بين الفريقين انتهت بعقد الهدنة، وعاد المنذر إلى قرطبة ظافراً. وما كاد المنذر يرتد إلى قرطبة، حتى نشب الخلاف بن إسماعيل بن موسى وابن أخيه محمد بن لب، وكان إسماعيل يحقد عليه لتحالفه مع المنذر. وانتهى القتال بينهما إلى انتصار محمد بن لب، واستيلائه على سرقسطة، وأسره لعمه إسماعيل. وحكم محمد سرقسطة باسم الأمير محمد. ولكن الأمير أراد أن ينتزع ولايتها منه، فسخط عليه وأعلن خروجه عن طاعته، وتحالف مع ألفونسو الثالث ملك ليون. فبادر الأمير محمد بإرسال قواته مرة أخرى بقيادة ولده المنذر وهاشم بن عبد العزيز، إلى الثغر الأعلى (270هـ - 883 م). فسار المنذر إلى سرقسطة واستولى عليها بعد قتال عنيف، وأخرج منها محمد بن لب. وفي رواية أخرى أن محمداً بن لب سلم سرقسطة صلحاً وفقاً لاتفاق تم بينه وبين المنذر نظير قدر كبير من المال (¬1). وكان من ضباط جيش الأمير في تلك الغزوة عمر بن حفصون الزعيم الخارج الذي سيجىء ذكره فيما بعد. ثم اخترق المنذر ألبة لمقاتلة النصارى حلفاء الثائر. ولكن المفاوضات انتهت بعقد الهدنة بين الفريقين. وأرسل ألفونسو الثالث سفيراً إلى قرطبة هو القس دولثديو ليضع قواعد الصلح مع أمير الأندلس، فنجح السفير في مهمته وعاد إلى أوبييدو عاصمة ليون، ومعه رفات القس أولوخيو وصاحبته ليوكريسيا، وهما اللذان أعدما بقرطبة قبل ذلك بنحو عشرين عاماً، ونظمهما النصارى في سلك القديسين. ولنترك الآن حوادث الثغر الأعلى لحظة لنستعرض ما حدث خلال هذه الأعوام المليئة بالفتنة في أنحاء الأندلس الأخرى. ففي ماردة وبطليوس عادت الثورة إلى الاضطرام. وذلك أن عبد الرحمن بن مروان الملقب بالجليقي - لانتمائه ¬_______ (¬1) نقل إلينا هذه الرواية العذري في كتابه " ترصيع الأخبار " وفيها أن محمداً بن لب تقاضى نظير تسليمه سرقسطة خمسة عشر ألف دينار. وكان ذلك في سنة 261 هـ (الأوراق المنثورة من الكتاب المذكور ص 35). هذا وقد أورد لنا العذري تفاصيل كثيرة عن موسى بن موسى بن قسي وأولاده وأحفاده، وثوراتهم، وما خاضوه من الوقائع المختلفة في الثغر الأعلى زهاء نصف قرن (الأوراق المذكورة ص 29 - 40).

إلى أسرة من المولدين أصلها من ولاية جليقية في شمال البرتغال - استطاع أن يفر من قرطبة مع نفر من صحبه. وكان بنو الجليقي قد استقروا بماردة منذ أمد طويل، وتولى أبوه مروان بن يونس الجليقي حكم ماردة أيام الأمير عبد الرحمن، ولما اضطرمت الثورة بماردة قتله أهلها (سنة 213 هـ). وكان ولده عبد الرحمن طموحاً لا يشعر بالولاء نحو حكومة قرطبة، فانتظم في سلك الخوارج، واشترك في الثورة ضد الأمير محمد. فلما أخمدت الثورة وتم إخضاع ماردة في سنة 254 هـ (868 م) قبض الأمير على عبد الرحمن الجليقي ونقله مع باقي الزعماء الثائرين إلى قرطبة حسبما تقدم. وكان فرار الجليقي من قرطبة في أوائل سنة 261 هـ (875 م) على أثر مشادة وقعت بينه وبين القائد هاشم بن عبد العزيز كبير الوزراء أهانه خلالها وصفعه؛ فغادر قرطبة خفية مع جمع من أنصاره، واستولى على قلعة ألانية (أو قلعة الحنش) (¬1) في جنوبي ماردة وتحصن بها، واستولى زميله في الخروج والعصيان مكحول ابن عمر على قلعة جلّمانية (¬2) القريبة منها. واجتمع إليهما جمع غفير من المارقين والمتمردين، واشتد عيثهما في سائر الأنحاء المجاورة. وعندئذ سار الأمير لقتال الثائرين في قوة كبيرة. فلما علما بمقدمه استغاثا بزميلهما القديم سعدون بن عامر المعروف بالسرنباقي، وهو أيضاً من زعماء الثوار المولدين، وكان يعيش في كنف ألفونسو الثالث ملك ليون في مدينة برتقال جنوبي جليقية، فسار إليهما في قوة من صحبه، وانضم إلى قوات ابن مكحول. فضرب الأمير الحصار حول القلاع الثائرة، وقطع عنها الماء، واشتد في ذلك، وجنده ترهق المحصورين كلما طلبوا الحصول على الماء والمؤن خارج الأسوار. فلما ضاقوا بالحصار ذرعاً، اضطر عبد الرحمن الجليقي أن يستجير بعبد الله ولد الأمير، وأن يوسطه في الشفاعة والإذعان إلى طلب الأمان. وكان عبد الله لين العريكة محباً للسلم، فتوسط لدى والده الأمير، وألح حتى أسعفه بما طلب، ووافق على منح الأمان للثائر، على أن ينزل له عن قلعة الحنش، وينصرف وقومه إلى بطليوس، وكانت يومئذ خالية مجردة من الحصون فينزلون بها، ويقومون بتعميرها. فقدم ابن مروان رهائنه وهم ولده محمد وثلاثون من أكابر قومه، وسار إلى بطليوس وصحبه، ونزلها وأخذ في تعميرها ¬_______ (¬1) هي بالإسبانية Alange. (¬2) هي بالإسبانية Jurumena، وهي تقع على مقربة من غربي بطليوس.

وماكاد الأمير يرتد أدراجه إلى قرطبة، حتى حشد ابن مروان أنصاره من كل ناحية ومعظمهم من أهل الشر والمولدين الناقمين، وأخذ في تحصين بطليوس، وإعدادها للدفاع والمقاومة، وبعث جواسيسه إلى قرطبة، يتعرفون أخبار الأمير ويترصدون حركاته، ويبعثون بها إليه تباعاً. ثم عقد حلفاً مع ألفونسو الثالث ملك ليون. وكان يدعو أنصاره إلى مذهب ديني جديد هو خليط من تعاليم الإسلام والنصرانية. واستمر على هذا النحو زهاء عام آخر، وهو يغير على الأنحاء المجاورة ويرهق أهلها، ويستلب أموالهم ومتاعهم. فلما اشتد عيثه، وضج المسلمون في تلك الأنحاء من شره وعدوانه، وجاهر هو من جانبه بالعصيان وخلع الطاعة، اعتزم الأمير محمد أن يعاقبه ويقمع شره بطريقة حاسمة، فجهز إليه حملة كبيرة برياسة ولده المنذر، وجعل قيادتها لوزيره الأثير هاشم بن عبد العزيز. وسارت هذه الحملة صوب بطليوس في شهر شعبان سنة 262 هـ (876 م)، فلما علم ابن مروان بمقدم جند الأمير، وشعر بصعوبة الدفاع عن بطليوس لاتساعها، غادرها مع قواته، وانضم إليه كثير من المولدين من الأنحاء المجاورة ممن خشوا بطش قوات الأمير بهم، ونزل بحصن كركى أو كركو القريب وامتنع به، وبعث إلى سعدون السرنباقي في طلب النجدة. وسار المنذر وهاشم إلى بطليوس، فألفياها خالية، فسارا في أثره، واحتل هاشم حصن منت سلود (منت شلوط) الواقع جنوبي بطليوس خوفاً من أن يحتله الثوار، وضرب المنذر الحصار حول حصن كركى. وفي تلك الأثناء قدم سعدون السرنباقي في صحبه، ومعه قوة كبيرة من النصارى أمده بها ملك ليون، واشتبك في طريقه بمدينة قُلُمرية بحاميتها، وهم قوم من البربر من بني دانس من مصمودة، وفتك بهم، وكانوا على الطاعة، فبعثوا إلى هاشم بن عبد العزيز يستغيثون به. ووقف هاشم من طلائعه على مقدم سعدون وقواته، وما فعله بأهل قلمرية، فخرج إلى لقائه متحمساً تواقاً إلى الانتقام، وكان سعدون قائداً مجرباً وافر الجرأة، وكانت لديه فرق مختارة من الفرسان والرماة، فرتب معظم قواته وراء التلال، وتقدم للقاء قوات هاشم، واعتقد هاشم أنه يستطيع سحق الثوار بأيسر أمر، والتقى الفريقان في مخاضة النهر جنوبي بطليوس، وفاجأت خيل سعدون قوات الأندلس وأرهقتها، وكثر فيها القتل، وتقدم هاشم بن عبد العزيز إلى المعمعة،

بعيداً عن مركز قيادته، فأصابته جراح، وأحاطت به فرسان العدو، وكادت تجهز عليه، لولا أن عرفه بعضهم، فقبض عليه، وحمله معه سعدون أسيراً إلى حصن منت سلود، وكانت قوات الأمير قد غادرته. وكانت هزيمة قوات الأندلس، وأسر قائدهم على هذا النحو، في الثاني عشر من شهر شوال سنة 262 هـ (يونيه سنة 876 م). ولما علم المنذر بن محمد بما وقع لجنده من الهزيمة وأسر هاشم، وكان مقيماً على حصار الجليقي، شدد في الحصار أياماً أخر، ثم انصرف قافلا ببقية الجند إلى قرطبة. وسار الجليقي وسعدون ومعهما أسيرهما القائد هاشم غرباً، وهما يعيثان فساداً في الأرض. وحصل الجليقي أولا على هاشم، وكان يؤمل أن يتخذه أداة للمساومة مع الأمير، ولكن سعدون استرده منه فيما بعد، خوفاً من غضب سيده وحاميه ملك ليون، وتوجه به سعدون بالفعل إلى ألفونسو الثالث، فتسلمه وحصل في يده، واستمر أسيراً لديه بمدينة أوبييدو زهاء عامين، حتى تم الإفراج عنه لقاء فدية كبيرة بلغت مائة وخمسين ألف دينار (¬1). واستمر ابن مروان أعواماً وهو يسيطر على منطقة بطليوس، ويعيث في أنحائها فساداً، ويخرج منها للإغارة على ناحية الغرب حتى أشبونة، وجنوباً حتى باجة وأطراف أكشونبة، ثم أن بعض أصحابه اختلفوا معه، وغادروه إلى بلدهم ماردة بعد أن حصلوا على أمان من الأمير. ولما شعر بقلة جمعه، وخشى مطاردة الأمير وانتقامه، عول على أن يحذو حذو صاحبه سعدون في الالتجاء إلى ملك جليقية، فقبل الملك النصراني ملتمسه، وأنزله مع صحبه في حصن بطرسة بوادي دويره على مقربة من ليون، ولبث في كنفه أعواماً. ثم دب الخلاف بينهما بسبب غارة قام بها ملك جليقية في منطقة بطليوس ومعه ابن مروان، وفيها بالغ الملك النصراني في قتل المسلمين، ومعظمهم من أصحاب ابن مروان ورعاياه السابقين (سنة 266هـ - 879 م). فغادره ابن مروان مغضباً، وعاد إلى منطقة بطليوس، ليستأنف غاراته وعيثه في أراضي النواحي المجاورة. وفي سنة 271 هـ (885 م) سير إليه الأمير محمد ولده المنذر في قوة كبيرة، فزحف على بطليوس، ففر منها ¬_______ (¬1) لخصنا ما تقدم من رواية عيسى بن أحمد الرازي المسهبة التي نقلها إلينا ابن حيان؛ وقد وردت في مخطوط القرويين في اللوحات 267 أوب و273 أوب و274 أوب و276 ب و277 أحتى 280 أ. وراجع البيان المغرب ج 2 ص 104 و105.

ابن مروان وتحصن بجبل " أشيروغيره " (¬1) فأحرق المنذر بطليوس ودمر حصونها. وفي العام التالي سارت حملة أخرى بقيادة الوزير هاشم إلى " أشيروغيره " لقتال ابن مروان، فحاصره حينا ثم ارتد عنه دون إخضاعه. ولما أعيا الأمير أمره، انتهى أخيراً إلى قبول شروطه في الاستقلال بحكم بطليوس وما جاورها، والإعفاء من المغارم والفروض (¬2). ووقعت في ذلك الحين ثورات محلية أخرى، فخرج في شنت برية (¬3) مظفر ابن موسى بن ذى النون وزحف على طليطلة، فلقيه جندها فهزمهم، وقوى أمره في تلك الجهة، وأضاف إلى شنتبرية ما حولها من البلاد والحصون. ويرجع ظهور بني ذى النون، وهم سادة مملكة طليطلة أيام الطوائف، إلى ذلك العهد. وخلاصة ما تقدمه إلينا الرواية في ذلك، هو أن جدهم ذا النون (أو زنون) بن سليمان الهواري، كان زعيماً لشنت برية من أعمال قونقة، ومر به الأمير محمد في بعض غزواته إلى الثغر، وقد مرض له خصي من أكابر فتيانه، فتركه عند ذى النون حتى يحدث الله فيه أمره. فاعتنى به ذوالنون حتى برئ من علته، وصحبه بنفسه إلى الأمير بقرطبة، فكافأه الأمير بأن أقره على ناحيته. واستقام ذو النون على الطاعة حتى توفي، وخلفه ولده موسى، فنبذ الطاعة، وانتظم في سلك الخوارج؛ ولما توفي سار ولده مظفر على خطته، وأضحى بنو ذو النون من زعماء الفتنة في الثغر الأوسط (¬4). وخرج أسد بن الحرث بجهة رندة (¬5) وأخذ ضرام الفتنة ينساب إلى كل ناحية، ونشط النصارى في الشمال، يتربصون لإذكاء الفتنة، وانتهاز الفرصة السانحة للإغارة على الأراضي الإسلامية. وانبعثت من هذا الضرام شرارة في الجبال الجنوبية، قدر لها أن تستفحل بسرعة، وأن تغدو أخطر ما يهدد سلام الأندلس وعرش بني أمية. ففي جبل بُبَشتر (¬6)، فيما بين رندة ومالقه، ظهر عمر بن حفصون أعظم ثوار الأندلس، ¬_______ (¬1) واسمه بالإسبانية Esparragosa. وهو يقع بين نهر وادي يانة وجبال المعدن. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 105 و106 و108. وراجع Dozy: Hist ; V.II.p. 8-11 (¬3) وهي بالإسبانية Santaver وهي تقع جنوب شرقي وادي الحجارة. وهي غير شنتمرية الشرق. (¬4) مخطوط القرويين لوحة 272 ب. (¬5) ابن خلدون ج 4 ص 131. (¬6) وبالإسبانية Bobastro.

وأشدهم مراساً، وأخطرهم جانباً. وكانت سلسلة الجبال الواقعة بين رندة ومالقة مأوى الأشقياء والعصاة. وكان عمر سليل أسرة من المولدين ترجع إلى أصل نصراني قوطي. وقد سجلت لنا الرواية الأندلسية نسبته، فجده عند الفتح هو ألفونسو القس، وجده الرابع جعفر هو أول من اعتنق الإسلام من أسرته (¬1). ونشأ بيتهم في تاكرنَّا من أعمال رندة. وكان والده حفصون ذا مال ووجاهة. ونشأ ولده عمر فاسداً سيىء السيرة، عنيفاً يعتدي على النفس والمال، ولم يلبث أن هجر أسرته وأطلق العنان لأهوائه وغيه، والتف حوله جماعة من أهل الفساد والبغي، فألف منهم عصابة معتدية ناهبة، ونزل بمكان منيع بجبل بُبَشتر الواقع شمال شرقي جبال رندة، وكان ذلك في سنة 267 هـ (880 م). وقد وصف لنا ابن حيان مؤرخ الأندلس ابن حفصون عند ذكر الخوارج في تلك العبارة الجامعة: " إمامهم وقدوتهم عمر بن حفصون، أعلاهم ذكراً في الباطل، وأضخمهم بصيرة في الخلاف، وأشدهم سلطاناً، وأعظمهم كيداً، وأبعدهم قوة " (¬2). ويشرح لنا الرازي البواعث الأولى لهذه الفتنة التي اضطرمت في كورة ريُّه والجزيرة، فيقول لنا إن السبب في تحريكها يرجع إلى عنف يحيى بن عبد الله ابن يحيى عامل الأمير محمد في كورة ريه، في مطالبته لأهلها ببقايا عشور تأخرت عليهم، واشتطاطه في ذلك وإرهاقهم، فامتنعوا عليه واعتصموا بجبالهم، وتأهبوا للدفاع عن أنفسهم, فحشد يحيى بن عبد الله قواته لقتالهم، واستدعى أخاه أحمد ابن عبد الله عامل كورة الجزيرة بقواته لمعاونته في حربهم، ونشبت بين قوات الأمير وبين الخوارج معارك عنيفة قتل فيها كثير من الفريقين، وكان ذلك في سنة 265 هـ (878 م). وفي العام التالي سار بالصائفة إلى كورة ريه عبد الله ابن الأمير محمد، وعلى قيادة الجيش الحاجب هاشم بن عبد العزيز، وكان قد أطلق سراحه من الأسر، وعاد إلى سابق مكانته لدى الأمير محمد، واستأنف القيادة لأول مرة، فاشتد في مطاردة الخوارج، ومزق جموعهم، وأنشأ عدة ¬_______ (¬1) قال ابن خلدون عن ابن حيان إنه عمر ابن حفصون بن عمر بن جعفر بن دميان بن فرغلوش ابن أدفونش القس (ج 4 ص 134). وزاد عليها صاحب البيان المغرب اسما آخر (ج 2 ص 108). (¬2) ابن حيان في المقتبس، وهو السفر الثالث المطبوع بعناية المستشرق الأب ملشيور أنتونيا (باريس 1937) ص 9.

من الحصون لمدافعتهم، ولكن الفتنة لم تقمع، وظلت سحب الخروج والعصيان قائمة، وعمت الفوضى كورة ريه بأسرها. في هذا الأفق المضطرم ظهر ابن حفصون؛ وكانت حوادث ريه مقدمة هذه الفتنة الهائلة التي تزعمها في جنوبي الأندلس، والتي يصفها الرازي بأنها " طمت على جميع فتن الأندلس، بعمومها وامتداد أيامها، ودفع أهل الشرور منهم نحوها " (¬1). وأخذ ابن حفصون ينتهز كل فرصة للإغارة على أطراف إقليم ريه ويوسعها تخريباً وسبياً ونهباً، ثم يعتصم بأوكاره في جبل ببشتر، فلما اشتد عيثه وعدوانه، سار إليه عامل ريه، عامر بن عامر في بعض قواته، فهزمه ابن حفصون وقوي بذلك أمره، وهرع إلى لوائه كثير من أهل الشر والعصاة. وعزل الأمير عامل ريه المهزوم، وبعث إليها بعامل جديد هو عبد العزيز بن عباس، فسار إلى قتال ابن حفصون للمرة الثانية، فامتنع الثائر بقلاعه، ووقعت الهدنة بين الفريقين (¬2). وعندئذ سير محمد وزيره هاشم بن عبد العزيز إلى كورة ريه في قوة كبيرة، فشدد الحصار على ابن حفصون، وجد في أثر العصاة والخوارج، وأسر الكثير منهم، وما زال حتى أرغم ابن حفصون على التسليم مع سائر عصابته، وحملهم جميعاً إلى قرطبة. فعفا محمد عن الثائر وضمه إلى جيشه، لما آنسه من براعته وقوة مراسه. ولما سار المنذر إلى الثغر الأعلى سنة 270 هـ (883 م) لقتال محمد بن لب، كان ابن حفصون من ضباط جيشه. بيد أنه لم يكن راضيا كل الرضى عن منصبه، وكانت نفسه الوثابة تنزع دائما إلى الخروج والعمل الحر، فلم يلبث أن فر من جيش الأمير مع نفر من صحبه، ولم يلبث أن عاد إلى معاقله في ببشتر، واستأنف ثورته، ومن حوله جمع كبير من الخوارج والبغاة (884 م). ولبث ابن حفصون مدى عامين يعيث في هذه المنطقة فساداً، ويبث من حوله الذعر والروع. وفي صيف سنة 273 هـ (886 م)، خرج المنذر إلى كورة ريه لقتال ابن حفصون، وبدأ الزحف على مدينة الحامّة في شمال شرقي مالقة، وفيها الثائر ابن حمدون حليف ابن حفصون، فسارع ابن حفصون إلى إنجاد حليفه، واجتمع الثائران بمدينة الحامة لمقاتلة جند الأمير، فحاصر المنذر الحامة مدى ¬_______ (¬1) ابن حيان عن عيسى بن أحمد الرازي. مخطوط القرويين لوحة 283 أوب. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 107.

شهرين، ولما أشرفت مؤن المدينة المحصورة على النفاد، خرج ابن حفصون وحليفه في جندهما، واشتبكا مع جند الأمير في معركة عنيفة، هزم فيها الثوار وجرح ابن حفصون، وارتد مع أصحابه ثانية إلى الحامة واستعصم بها. وبينما المنذر مقيم على حصار الحامة، إذ جاءته الأنباء من قرطبة بوفاة أبيه الأمير محمد. وكانت وفاته في 29 صفر سنة 273 هـ (أوائل أغسطس سنة 886 م) فارتد لفوره إلى قرطبة، تاركاً الحامّة لمصيرها، وتنفس ابن حفصون الصعداء، وانتهز الفرصة السانحة للإغارة على معظم الحصون الواقعة في تلك المنطقة، ولم يمض سوى قليل حتى استطاع أن يبسط سلطانه على ريُّه ورندة وإستجّة وغيرها. - 3 - كان الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم من خيرة أمراء بني أمية وأوفرهم ذكاء وفطنة (¬1). وقال الرازي: " ولمحمد في سلطانه الآثار الجميلة، والآيات الجزيلة، والفتوح العظيمة، والعناية بمصالح المسلمين، والتهمم بثغورهم، والضبط لأطرافهم، والتوجيه لمصالحهم " (¬2)، وكان يرجو محمد أن يجري على سنن أبيه من الإصلاح والإنشاء، ولكن الحوادث سارت على غير ما يشتهي، وسرت الفتنة إلى سائر أنحاء الأندلس، واضطر أن ينفق حكمه الطويل في غزوات متعاقبة وكفاح مستمر. وكان عليه أن يصون عرش بني أمية، وأن يحمي سلطان الدولة الإسلامية في الأندلس من الانهيار. وكانت مهمة شاقة، ولكنه أبدى في الاضطلاع بها جلداً وبراعة، فكانت الصوائف لغزو أرض النصارى، والحملات التأديبية لقمع الثوار، تتوالى دون كلل، وذلك بالرغم مما كانت تنتهي إليه في معظم الأحيان من النتائج السلبية. وكان الأمير محمد يعشق الجهاد والكفاح، ويقود الجيش بنفسه كلما سنحت الفرص. وكان ولده المنذر ساعده الأيمن في تلك المهمة الخطيرة. واهتم محمد بأمر الجيش والأسطول، وكان اهتمامه بتقوية الجيش ضرورة، أملتها الظروف العصيبة التي كانت تجوزها المملكة يومئذ. وتلقى الأرقام التي يقدمها إلينا ابن حيان نقلا عن معاوية بن هشام، عن عدد الفرسان الذين يحشدون في مختلف الكور والمدن لغزوات الصوائف، ضوءاً على مدى قوة الجيش الأندلسي ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 7 ص 141. (¬2) مخطوط القرويين لوحة 222 أ.

يومئذ، وقد كانت هذه الأرقام، تفرض على النواحي، ويؤخذون بها غير منتقصين لها، إلا لعذر قاهر أو لجدب بين. ومن ذلك كورة إلبيرة (غرناطة) ألفان وتسعمائة، وجيان ألفان ومئتان، وقبرة ألف وثمانمائة، وباغة تسعمائة، وتاكرنا ميتان وتسعة وستون، والجزيرة مايتان وتسعون، وإستجة ألف ومايتان، وقرمونة مائة وخمسة وثمانون، وشذونة ستة آلاف وسبعمائة وتسعون، وريُّه ألفان وستمائة وسبعة، وشريش ثلاثمائة واثنان وأربعون، وفحص البلوط اربعمائة، ومورور ألف وأربعمائة وثلاثة، وتدمير مايتان ... أما قرطبة العاصمة فكانت تترك لاجتهادها وهمتها، ويحشد أبناؤها بطريق التطوع خلافاً لأهل النواحي الأخرى. وكانت هذه الفرق تسمى بفرق الفرسان المستنفرين ويجرى "استنفارهم" أوقات الصوائف، أو كلما بدرت من العدو حركة اعتداء على أهل الثغور. فاذا ذكرنا أن هذه الأرقام تتعلق بنواحي الأندلس فقط، وإذا ذكرنا بعد ذلك حشود المشاة المستنفرة والمتطوعة، استطعنا أن نقدر ضخامة الجيوش التي كانت الدولة الأندلسية تستطيع تعبئتها يومئذ (¬1). وأما الأسطول فقد عمل محمد، على إنشائه، لحماية الشواطىء الغربية ولغزو مملكة جليقية من ناحية البحر. وفي سنة 866 م (252 هـ) سارت السفن الأندلسية بالفعل إلى شواطىء جليقية بقيادة أمير البحر عبد الحميد بن مغيث، ووصلت إلى مصب نهر منهو. ولكنه لم يوفق إلى تحقيق بغيته، إذ عصفت الرياح بالسفن فتفرقت وغرق معظمها في المياه الغربية (¬2). وعنى محمد كذلك بتحصين أطراف الثغور، وأقام عدة من المحلات والقلاع الدفاعية، المنيعة فابتنى حصن شنت إشتيبن لحماية مدينة سالم، وابتنى حصن طلمنكة وحصن مجريط بمنطقة وادي الحجارة، للدفاع عن طليطلة، وكان شديد الإستخبار عن الثغور، والبحث في مصالحها. وبالرغم مما كان يقتضيه الجهاد المتواصل من النفقات الضخمة، فقد كان الأمير محمد يبذل وسعه لتخفيف الضرائب عن كاهل شعبه، وقد رفع عن أهل قرطبة ضريبة " الحشود "، واكتفى بدعوتهم إلى التطوع والجهاد في سبيل الله، ¬_______ (¬1) مخطوط القرويين لوحة 254 ب. وراجع البيان المغرب ج 2 ص 111. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 106، و Aschbach: Geschichte der Omajaden in Spanien ; B.I.s. 203.

فأقبلوا على تعضيده وتأييده (¬1). وأما عن العشور فقد أبدى محمد تشدداً في اقتضائها وقد نصح له وزيره عبد الرحمن بن غانم صاحب المدينة، بأن يسقط العشور متى عدمت الغلات، لأن العشور إنما تفرض على الغلات إذا وهبها الله، فإذا لم يزرع بذر ولم يستغل زرع وجب إسقاطها، فلم يستمع إليه محمد في البداية وعزله، وعين مكانه حمدون بن بسيل، وكان فظاً ظلوماً، فاشتط في تحصيل العشور، حتى ضج الناس بالدعاء عليه، ووصل صريخهم إلى الأمير، وتوالت في نفس الوقت أعوام الجدب والقحط، فاضطر الأمير أن يسقط عن الناس جملا من العشور، حتى يتنفس مخنقهم، ويستطيعوا مواجهة أعباء الحياة، ومواصلة نشاطهم العمراني، وأعلن الناس عندئذ بشكره ومدحه الشعراء (¬2). وكان الأمير محمد بارعاً في الشئون المالية، دقيقاً في مراجعة الدخل والخرج، وقد ساعده ذلك على ضبط شئون الخزانة العامة (¬3). وفي عهده أصيبت الأندلس بالقحط مرتين، الأولى بين سنتي 251 و255 هـ، والثانية في سنة 260 هـ، وكان قحطاً شديداً استمر بضعة أعوام، وكثر بسببه الغلاء والموت. ولكن الأندلس استطاعت أن تصمد للمحنة، وأن تتغلب عليها. وفي عهده سار بلاط قرطبة على سنن الاعتدال، ومجانبة البذخ الذي ساد في أيام أبيه عبد الرحمن، وضعف نفوذ الجواري والصقالبة في القصر، ومع ذلك فقد استمر النظام الإداري الذي كان قائماً في عهد عبد الرحمن بتفاصيله تحت إشراف الأمير وتولي زمام الأمور نفس الرجال الذين تولوها من قبل، واجتمعت السلطات في أيدي أسرتي بني شُهيد وبني أبي عَبْدة، أعظم الأسر القرطبية يومئذ، وتولى الحجابة لمحمد في البداية عيسى بن شهيد حاجب أبيه من قبل. وقد أشرنا من قبل إلى هذا الوزير النابه غير مرة. ثم خلفه في الحجابة عيسى بن الحسن ابن أبي عبدة، فكان من أرجح الوزراء عقلا وإصابة، وكان طوال خدمته هدفا لمنافسة هاشم بن عبد العزيز ودسائسه، وقد خلفه هاشم بالفعل في الحجابة، ولبث يضطلع بها أعواماً طويلة حتى وفاة الأمير محمد، وكان هاشم بن عبد العزيز ينتمي إلى أسرة من المولدين، وكان من أعظم رجالات الحرب والسياسة في ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 111 و112، وأخبار مجموعة ص 141 و142. (¬2) ابن حيان - مخطوط القرويين لوحة 230 أو255. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 110.

عصره، وقد تولى القيادة الفعلية لكثير من الغزوات والحملات حسبما فصلنا، وكان من قبل من وزراء الأمير عبد الرحمن، فلما صار الأمر إلى ولده محمد، غدا من بين وزرائه أكثرهم حظوة لديه، وغدا من خاصة جلسائه وندمائه، وكان هاشم فوق ذلك أديباً متمكناً وكاتباً بليغاً، وشاعراً مطبوعاً، يقرب الأدباء والشعراء، بيد أنه كان حاد الطبع قليل التحفظ، لا يحسن اصطناع الرجال، حتى أنه لما نكب في غزوة الجليقي وحمل أسيراً إلى ملك ليون (سنة 262هـ) لم يجد كثيراً من المدافعين عنه في محنته، وسخط عليه الأمير محمد، وأنحى عليه باللوم، وكان يقول " هذا أمر جناه علينا فألحق بنا غضاضة، واستزاد برأيه فضيع وصاتنا، ولم يحكم تدبير ما صيرنا في يده من أمرنا ". ولم يدافع عن هاشم، ويستدر عطف الأمير عليه سوى صديقه الوليد بن غانم صاحب المدينة أعني حاكم قرطبة، وقد أقنع الأمير بأن يولي وزيره المنكوب عطفه، وأن يستخدم ولده مكانه، حتى يتم إطلاق سراحه. وقد لبث هاشم بن عبد العزيز أسيراً في أوبييدو عاصمة ليون زهاء عامين، حتى تم افتداؤه وإطلاق سراحه لقاء فدية ضخمة حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل (¬1). وكان من وزراء الأمير محمد، أمية بن عيسى بن شهيد، وكان من أجل وزرائه وآثرهم لديه، وأخصهم بخدمته، والوليد بن غانم المتقدم الذكر، وكانا يتعاقبان في منصب ولاية المدينة، وهو من أهم مناصب الدولة يومئذ، لما يتطلبه من الحزم وقوة الشكيمة، والنزاهة في نفس الوقت. ومنهم تمام بن عامر الثقفي الشاعر الأديب، وكان مؤرخاً راوية كتب أرجوزة طويلة في فتح الأندلس، وقد اشتهر ببراعته في لعبة الشطرنج، وكانت من أسباب حظوته لدى الأمير، وتمكن منزلته لديه، وقد ذاعت في أيامه ذيوعاً عظيماً. ومنهم كذلك سليمان ابن وانسوس، وهو من أشرف البيوتات البربرية، وكان جده رئيساً مطاعاً بماردة، وقد ثار فيها أيام الحكم بن هشام، وكان أديباً وافر الوجاهة، وقد تولى خطة السوق وهو اسم ولاية الحسبة يومئذ. وكان من الوزراء الكتاب عبد الملك بن عبد الله بن أمية، وكان كاتباً بليغاً (¬2). ¬_______ (¬1) ابن حيان في مخطوط القرويين لوحة 228 أوب و230 أو235 ب. (¬2) مخطوط القرويين لوحة 230 ب و232 أو233 ب و235 أ.

وكانت تربط الأمير محمد بأمراء المغرب المعاصرين ولا سيما بنو رستم أمراء تاهرت، وبنو مدرار أمراء سجلماسة وغيرهما، علائق مودة وصداقة متينة العرى. فكانوا يستمدون منه العون والنصح في شئونهم، وكان هو من جانبه شديد الاهتمام بأخبارهم وأحوالهم، وتتردد إليهم رسله وكتبه في البحث عن أخبار بنى العباس بدار مملكتهم، وأخبار ولاتهم وعمالهم بالشام وإفريقية. وكان شارل الأصلع ملك فرنسا (إفرنجة) يقدر خلاله ويتودد إليه، وربما تبادلا المراسلة والهدايا (¬1)؛ والظاهر أن ملك فرنسا كان يؤثر سياسة السلم مع حكومة قرطبة خشية أن يتكرر غزو المسلمين لسبتمانيا. وكانت تربطه في الوقت نفسه علائق مودة ببني قسي سادة الثغر الأعلى، الذين ظهروا بمغامراتهم فيما وراء جبال البرنيه. وعلى الرغم من أن وقت الأمير محمد لم يتسع كثيراً للأعمال الإنشائية، لما زخر به من الفتن والغزوات المتوالية، فقد قام منها بطائفة حسنة. وكان في مقدمتها منشآته بالمسجد الجامع، فقد عنى أولا بإتمام الزيادة التي بدأها أبوه عبد الرحمن في وسطه وأقام فيها المقصورة، وكان أول من اتخذها هنالك من الخلفاء، وأصلح جناحه القديم الذي أنشأه عبد الرحمن الداخل، وجدده وأعاده إلى رونقه القديم. ولما تمت هذه الزيادات والإصلاحات ركب الأمير إلى الجامع وزاره في موكب فخم، وأشادت بعمله الشعراء. وأصلح محمد جامع إستجّة وجامع شذونة، ومساجد عديدة أخرى في مختلف الأنحاء، وأنشأ زيادات كثيرة بالقصر وملحقاته امتازت بالجمال والإناقة. وعنى بتجديد منية الرُّصافة التي أنشأها جده الأعلى عبد الرحمن الداخل، وجدد حدائقها ومتنزهاتها، وزودها بالأشجار والغراس النادرة، وجعلها منتدى نزهه وأسماره. وفي ذلك يقول عباس بن فرناس من قصيدة: كان قصور الأرض بعد تمامه ... بنواً لذري أخفى شخوصاً من الدر وتنتشر الأبصار منها إلى مدى التنزه بالأطيار والوحش والزهر فأعجب من أفنانها الغرر التي ... يقيل بهن البرد في وعوة الحر هم بأخفى سرها غير كاتم صداها فأخفى السر بها من الجهر كأن الذي يخفي الحديث بنجوها ... على أخفض الأصوات يشدو على وتر ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 111. ويسمى ملك فرنسا هنا خطأ بفردلند.

وأنشأ محمد له كذلك منية خاصة في مكان ضيعته المسماة " كنتش " الواقعة جنوب غربي قرطبة، عرفت " بمنية كنتش " وعنى بتجميلها، وجعلها كذلك موطنا لنزهه ومسراته. وهي التي يقول فيها ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد: ألما على قصر الخليفة فانظرا ... إلى منية شيدت لأزهرا هي الزهرة البيضاء في الأرض ألبست لها الزهرة الحمراء في الجو مغفرا (¬1) وكان الأمير محمد ربع القوام، أبيض مشرباً بحمرة، أوقص (¬2)، يخضب بالحناء. وكان كثير الأناة والحلم، عطوفاً في أخوته وآل بيته، وقد عنى منذ ولايته بشئون الأكابر من أخوته، فأعدّ لهم الدور الفخمة خارج القصر، ووهبهم الضياع المغلة، وأجرى عليهم الأرزاق الواسعة، واستعمل من يصلح منهم للأعمال البعيدة. وكان فوق رجاحة عقله، أديباً، يشغف بالبيان، بليغاً في كتبه، محسناً في توقيعه. بيد أنه لم يكن شاعراً مثل أبيه وجده. وكان مكرماً لأعلام الناس، وذوي العلم والحجى منهم، يرفع مجالسهم، ويكثر من رعايتهم، ويستشعر مع ذلك الحذر من منافستهم وتحاسدهم، ويأبى الإصغاء لسعاياتهم. وكان يجمع حوله صفوة من الشعراء والعلماء (¬3) مثل عباس بن فرناس، ومؤمن ابن سعيد، وابن عبد ربه، وهم من أقطاب الشعر في عصره، ومن العلماء عبد الله ابن حبيب أعظم علماء الأندلس في عصره، وقد توفي في صدر ولايته، وبقىّ بن مخلد وعيسى بن دينار، ومحمد بن عمر بن لبابة، ومحمد بن عبد السلام الخشني، وغيرهم. وقد اشتهر في عصره بالأخص الفقيه الورع العلامة بقيّ بن مخلد، وكان فقيهاً حر الذهن، واسع الأفق، نشأ في قرطبة، ورحل إلى إفريقية والمشرق، ودرس دراسة مستفيضة. ولما عاد إلى الأندلس، حقد عليه فريق من فقهائها، لغزارة علمه، وتفوقه عليهم، ولاسيما في أساليب الحديث والرواية، وحاولوا اتهامه بالزندقة، والإيقاع به لدى الأمير، فاستجار بقى بالحاجب هاشم بن عبد العزيز، وكتب إلى الأمير يناشده الله في دمه، ليرى رأيه فيه بعد سماع حجته، فأسعفه هاشم وشرح للأمير قضيته، وعقد له الأمير مجلساً لمناجزته خصومه فتناظروا بين يديه، ودحض بقىّ تهم خصومه بقوة، وألزمهم الحجة، واستبان ¬_______ (¬1) مخطوط القرويين في اللوحات 243 - 247. وراجع أيضا البيان المغرب ج 2 ص 100. (¬2) أعني قصير العنق. (¬3) أخبار مجموعة ص 145.

الأمير فضله وتفوقه، وأسبغ عليه حمايته ورعايته، وأعلى منزلته. ولبث بقى عمدة العلماء والفقهاء والمحدثين بالأندلس حتى توفي في سنة 276 هـ، في عهد الأمير عبد الله بن محمد (¬1). وكان للفقهاء في عصر الأمير محمد نفوذ كبير في بلاط قرطبة، وفي صوغ سياستها نحو النصارى. وكان محمد ينحو نحو أبيه عبد الرحمن في سياسة التسامح نحو النصارى، وكان من أثر ذلك أن أقر الأسقف جومث قومس أهل الذمة على ولايته كما كان في عهد أبيه، وذلك بالرغم من اعتراض الفقهاء وسخطهم؛ وبالرغم مما كان ينقل إليه من نعى المشارقة على بني أمية استخدام النصارى في بلاطهم وتوليتهم أسمى المناصب (¬2). وترك محمد من الولد ثلاثة وثلاثين من البنين وإحدى وعشرين من البنات (¬3). ¬_______ (¬1) مخطوط القرويين اللوحة 243 ب، و253 ب. وراجع ترجمة بقي بن مخلد في ابن الفرضي، تاريخ العلماء والرواة بالأندلس، رقم 283؛ وكذلك البيان المغرب ج 2 ص 112 و113. (¬2) أشار ابن القوطية إلى ذلك في رواية أوردها عن حديث جرى بين القائد ابن أبي عبدة وبين محمد بن الكوثر أحد كتاب الأندلس، وصف فيه ابن الكوثر " أنه من عجائب الزمان أن يكون صاحب قلم بني أمية الأعلى وكاتبها العظيم قومس نصراني ". وكتب إليه " أن من أعجب العجب أن يبلغ خلايف بني العباس بالمشرق أن بني أمية اضطروا في كتابتهم العظمى وقلمهم الأعلى أن يولوا قومساً النصراني ابن انتنيان ابن يليانه النصرانية " (واسمه بالإسبانية جومث بن أنتونيو ابن خوليان) - راجع افتتاح الأندلس ص 82 و83. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 96.

الفصل الثانى ولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن

الفصل الثاني ولاية المنذر بن محمد بن عبد الرحمن وبداية ثورة المولدين ولاية المنذر. تأهبه لقمع الفتنة. الحاجب هاشم بن عبد العزيز. طغيانه وتوجس المنذر منه. سجنه ومصرعه. حملة إلى طليطلة والثغر الأعلى. اشتداد أمر بن حفصون وأطماعه. قضية المولدين وأثرها في ازدياد سلطانه. خروج المنذر لمحاربته. استيلاؤه على أرشدونة وباغة. محاصرته لابن حفصون في ببشتر. إذعان الثائر ثم نكثه. عود المنذر لمحاصرته. مرض المنذر ووفاته. رواية عن اغتيال المنذر. رفع الحصار عن ببشتر. صفات المنذر وخلاله. وصل المنذر بن محمد بجيشه إلى قرطبة لأيام قلائل من وفاة أبيه، عائداً من مقاتلة ابن حفصون. وفي الحال أعلنت بيعته في الثامن من ربيع الأول سنة 273 هـ (أغسطس سنة 886 م). وكان في الرابعة والأربعين من عمره. وكان مولده في قرطبة سنة 229 هـ (844 م)، وكان منذ فتوته أثيراً عند أبيه بين أبنائه الثلاثة والثلاثين، مستأثراً بثقته وولايته عهده. يختاره لجلائل الأمور، ويندبه لقيادة الجيش كلما جد الخطب. وقد أبلى المنذر حسبما رأينا بلاء حسناً، في مقاتلة الثوار والخوارج؛ وحينما تولى العرش، كانت الفتنة قد تفاقمت، وعمت الثورة معظم الأنحاء؛ وكان المنذر رجل الموقف فتأهب لإتمام المهمة التي بدأها، من العمل على سحق الثورة، وتأييد النظام والأمن، وحماية العرش والدولة، من كيد الخوارج والطامعين. وعهد المنذر بحجابته إلى القائد هاشم بن عبد العزيز حاجب أبيه وقائده، وكان هذا الوزير القوى، في أواخر عهد الأمير محمد، قد استأثر بالسلطة، وأصبح أقوى رجل في الدولة. وكان المنذر يخشاه ويتوجس من نفوذه وسلطانه؛ وكان خصوم هاشم يكثرون من السعاية في حقه وإحفاظ المنذر عليه، وتحذيره من أطماعه. فلما توفي الأمير محمد، رأى المنذر أن يستمر هاشم في حجابته براً منه بذكرى أبيه، وأملا في تحسن الأمور؛ ولكن الظاهر أن الحاجب استمر في طغيانه، ولم يكترث للقوى المتألبة عليه، وأذكت مساعي خصومه في نفس المنذر

توجسه القديم منه، وسخطه عليه، فلم يمض سوى قليل حتى اعتزم المنذر أمره، وأمر بالقبض على هاشم وأولاده وصحبه، ثم دس عليه في سجنه من قتله، وهدم داره، واستصفى أمواله، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة 273 هـ، أعني لشهرين فقط من ولايته. وكانت ضربة جريئة تنبىء عن قسوته وصرامته. واستمر أولاد الحاجب القتيل في السجن، حتى أطلقوا بعد وفاة المنذر أيام أخيه الأمير عبد الله، وردت إليهم أموالهم (¬1). وفي تلك المحنة يقول هاشم بن عبد العزيز من شعر نظمه في سجنه: سأرضى بحكم الله فيما ينوبني ... وما من قضاء الله للمرء مهرب فمن يك أمسى شامتاً بي فإنه ... سينهل في كأسي وشيكاً ويشرب وندب المنذر لحجابته مكان الحاجب المقتول، عبد الرحمن بن أمية بن شهيد وقد لبث بنو شهيد حسبما رأينا عصراً يستأثرون بمناصب الحجابة والكتابة. وسير المنذر بعد ذلك بقليل حملة إلى طليطلة. وكانت قد عادت إلى الثورة، واجتمع إلى أهلها كثير من البربر المنفيين من مدينة ترجيله أو ترجاله (¬2)، الواقعة جنوبي غربي طلبيرة، فهزم الثوار وقتل منهم ألوف (¬3). وفي نفس هذا العام أيضاً، غزا محمد بن لب زعيم الثغر الأعلى السابق، ألبة والقلاع، وقاتل النصارى وهزمهم، وكان قد نزل عن سرقسطة حسبما تقدم وعاد إلى سابق ولائه (¬4). على أن أعظم ما كان يشغل المنذر، هو القضاء على ابن حفصون عماد الثورة ومثير ضرامها في الجنوب. وكان ابن حفصون مذ بلغته وفاة الأمير محمد ورحل عنه المنذر، قد اشتد بأسه وقويت نفسه، وأخذ يعمل لإخضاع القواعد والحصون الجنوبية كلها، فبسط سلطانه على كورة ريه بأسرها، وامتد سلطانه إلى أرشدونة ومالقة وجيان وإستجة وغيرها. واجتمع إليه المغامرون والخوارج من سائر أقطار الأندلس، وأخذ يطمح إلى الاستيلاء على الأندلس كلها، وأظهر الدعوة لبني العباس، وكاتب ابن الأغلب أمير إفريقية (تونس) في ذلك، ولكن ابن الأغلب ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 118 و119. (¬2) وهي بالإسبانية Trujillo. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 119. (¬4) البيان المغرب ج 2 ص 118.

لم يستجب إلى دعوته (¬1). ولم يكن ابن حفصون ثائراً عادياً يعتمد فقط على أساليب العنف، ولكنه كان صاحب دعوة سياسية يدعو الكافة إلى اعتناقها. وقد كان ابن حفصون حسبما قدمنا مولّداً، يمثل في ثورته، كل ما يجيش به المولدون نحو العرب الفاتحين ونحو حكومة قرطبة من الحفيظة والبغض. وقد أشرنا من قبل في حديثنا عن عناصر الأمة الأندلسية، إلى أولئك المولدين - وهم الإسبان الذين أسلموا منذ الفتح - وبينا كيف كانوا يؤلفون عنصراً من أهم عناصرها، من حيث الكثرة والمستوى الإجتماعي، وقد كانوا بالرغم من اندماجهم في المجتمع الإسلامي يحتفظون دائماً، بنزعة إستقلالية واضحة، ويبغضون العرب والبربر معاً، وقد ظهرت هذه النزعة الاستقلالية بالأخص في الثغر الأعلى، حيث لبث بنو موسى، وبنو عمروس، وبنو الطويل، وهم جميعاً من الأسر المولدة القوية، عصراً يتحدون السلطة المركزية ويقاومونها. وكانت ثورة ابن حفصون زعيم المولدين في الجنوب، هي المرحلة الثانية لتلك النزعة الثورية التي رفع المولدون لواءها ضد حكومة قرطبة. وهكذا كان ابن حفصون يدعو المولدين ومن إليهم من عشاق الخروج والفوضى، إلى تأييد قضية الإستقلال والحرية، ويذكرهم بما ينالهم من عسف السلطان، وانتزاعه لأموالهم، وتكليفهم فوق طاقتهم، وكيف أذلتهم العرب واستعبدتهم، وقضت على حرياتهم واستقلالهم؛ وأنه إنما ينهض ليأخذ بثأرهم، ويرفع عنهم نير الطغيان والعبودية. وناهيك بما كانت تبثه هذه الدعوة المثيرة، في نفوس سكان هذه المناطق الجبلبة من الحماسة والتعلق بقضية الحرية، وهي لا تعني في نظرهم سوى التفاني في مقاتلة حكومة قرطبة. وهكذا كانت الجموع الغفيرة تحتشد حول ابن حفصون ودعوته، ويشتد نفوذه ويمتد سلطانه بسرعة؛ وبالرغم من أن حكومته كانت تقوم على الخروج والثورة، وكان معظم صحبه من أهل البغي والشر، فقد كان الأمن يسود المناطق التي يسيطر عليها؛ وكان صارماً في أحكامه وعقوباته، شديداً على كل مخالف ومستهتر، وكان فوق ذلك كله متودداً لأصحابه، متواضعاً يكرم الشجعان ويثيبهم، فكانت هذه العوامل كلها مما يقوي نفوذه ويوطد سلطانه (¬2). ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس (القسم المطبوع) ص 93. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 117 و118.

وبلغ ابن حفصون في زحفه إلى المنطقة الوسطى أحواز جيان، وما يليها من الغرب، واستولى على باغة " بريجو " (¬1) وأسر حاكمها، واستولى على قبرة، الواقعتين في جنوبي غربي جيان، وعلى حصن أشرس الواقع في شمال كورة ريه. وسير المنذر بعض قواته إلى تلك الأنحاء، فاستردت حصن أشرس وبعض القرى المجاور لقبرة. وفي ربيع العام التالي (274 هـ - 887 م) خرج المنذر بنفسه في قواته معتزماً أن يسحق الثائر، وأن يقضي على الثورة في الجنوب، وزحف تواً على كورة ريه، وحاصر أرشدونة الواقعة في جنوب غربي لوشة حتى سلمت، وقبض على عيشون حاكمها من قبل الثائر وعلى صحبه؛ وافتتح حصون جبل باغة (بريجو) وأسر بها بني مطروح حلفاء الثائر، وهم حرب وعون وطالوت، وبعث بهم جميعاً إلى قرطبة حيث قتلوا صلباً، وصلب مع عيشون خنزير وكلب، إمعاناً في التمثيل به. وكان ابن حفصون أثناء ذلك ممتنعاً بقلاعه في ببشتر، فطوقه المنذر بقواته وشدد في حصاره، وقطع كل علائقه مع الخارج. فلما ضاق الثائر ذرعاً بالحصار وشعر بنفاد أقواته، لجأ إلى الخديعة وعرض التسليم والخضوع، وطلب الصلح والأمان، على أن يسير بأهله وولده إلى قرطبة، فأجابه الأمير إلى طلبه، وعقد له الأمان، وأمده بالثياب والدواب والمؤن؛ وطلب الثائر من الأمير مائة بغل لتحمل أهله ومتاعه فزوده بها، وبعث بها ابن حفصون إلى قلاعه، ورفع المنذر الحصار عن ببشتر، وقفل راجعاً بجيشه إلى قرطبة. ولكن ابن حفصون فر من الجيش تحت جنح الظلام، وعاد إلى ببشتر وامتنع بها، بعد أن قويت نفسه بما حصل من الأمداد. فاستشاط المنذر حنقاً لتلك الخيانة المثيرة، وارتد راجعاً بجنده إلى ببشتر، وضرب حولها الحصار مرة أخرى، معتزماً ألا يبرحها حتى يقبض على الثائر حياً أو ميتاً، واستمر الحصار ثلاثة وأربعين يوماً. ومرض المنذر أثناء ذلك، واستقدم أخاه عبد الله من قرطبة لينوب عنه في متابعة الحصار، ولم يأت منتصف صفر سنة 275 هـ (يونيه 888 م) حتى قضى المنذر نحبه في أسوار ببشتر، بعد حكم لم يطل سوى عامين، وفي بعض الروايات أن المنذر توفي قتيلا بتدبير أخيه عبد الله، وأن عبد الله رغبة منه في التخلص من أخيه واعتلاء العرش مكانه، حرض طبيبه (حجامه) على قتله، ففصده الطبيب بمبضع مسموم ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Priego.

أثناء حصاره لببشتر، فتوفي من أثر السم. ويؤيد هذه الرواية من مؤرخي الأندلس، ابن القوطية وابن حزم، ويرى ابن حزم بنوع خاص أنها رواية معقولة يؤيدها خلق عبد الله وسياسته الدموية. ذلك أنه قتل فيما بعد اثنين من أبنائه، وهما محمد والد الناصر والمطرِّف، ثم قتل أخوين له وهما هشام والقاسم، فليس غريباً أن يكون هو مدبر جريمة يرتفع بها إلى العرش (¬1). وعلى أثر وفاة المنذر، رفع الحصار عن بُبَشتر للمرة الثانية، وقفل الجيش راجعاً إلى قرطبة، وأنقذ ابن حفصون من خطر محقق، وعاد ينظم شئونه، ويوطد سلطانه في الأنحاء الجنوبية. وكان المنذر أميراً وافر العزم والحزم، ذا شجاعة وبأس، وكان خلال الفتنة التي ثار ضرامها في أيام أبيه، معقد آمال الحكومة والجيش، وكان زعماء الفتنة يهابونه ويخشون جانبه، لما عرف من حدته وصرامته، وكان موته تحت أسوار ببشتر ضربة مؤلمة لحكومة قرطبة. ولو امتد به الأجل قليلا لاستطاع أن يقضي على ابن حفصون وأضرابه من زعماء الفتنة، ولأمنت الأندلس شر تفاقمها بعد ذلك. وكان المنذر فوق ذلك يعشق مجالس الشعر والأدب، ينشده الشعراء قصائدهم ويجزل لهم العطاء. وكان من شعراء دولته ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد والعكى وغيرهما (¬2). وكان المنذر أسمر طويلا، جعد الشعر، كث اللحية، بوجهه أثر جدري (¬3)، ¬_______ (¬1) ابن القوطية في افتتاح الأندلس ص 102، وابن حزم نقلا عن ابن حيان في رسالة " نقط العروس " ص 78 و79. وينقل صاحب البيان المغرب أقوال ابن حزم ج 2 ص 106 و161. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 123؛ وابن الأثير ج 3 ص 140، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 90. (¬3) ابن الأثير ج 7 ص 145؛ والبيان المغرب ج 2 ص 116.

الفصل الثالث ولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

الفصل الثالث ولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن 1 - ثورة المولدين والعرب عبد الله يلي العرش في ظروف صعبة. استفحال الثورة وامتدادها إلى زعماء العرب والبربر. ابن حفصون يحاول التفاهم مع الأمير. نكثه ومسير عبد الله إلى قتاله. الثورة في جيان. عيث ابن حفصون واشتداد غاراته. مسير عبد الله إلى قتاله. موقعة بلاي. هزيمة ابن حفصون وفراره. أهمية موقعة بلاي وأثرها الحاسم. أقوال الشعر فيها. ثورة القبائل العربية بعد المولدين. الثورة في كورة ريه واستفحالها. سوار بن حمدون القيسي. استيلاؤه على إلبيرة وغرناطة. مصرعه. قيام سعيد بن جودى مكانه. الحرب بين العرب والمولدين. تفاهم سعيد مع الأمير. مصرعه وشاعريته. محمد بن أضحى. تفاقم الثورة بين القبائل العربية. الثورة في جيان وتدمير. امتداد الفتنة إلى إشبيلية. بنو عبدة وبنو حجاج وبنو خلدون. رياسة بني عبدة. ثورة كريب بن خلدون وعيثه في أحواز إشبيلية. ثورة بني حجاج. مصرع أمية والى إشبيلية. الإضطراب والفوضى. مسير المطرف بن عبد الله إلى إشبيلية وهزيمته للثوار. حكم إبراهيم بن حجاج وكريب بن خلدون المدينة. مصرع كريب وانفراد إبراهيم بالحكم. خروجه على الأمير وعوده إلى الطاعة. دولة بني حجاج في إشبيلية وقرمونة. وفاة إبراهيم وخلاله. خلف المنذر على العرش، أخوه عبد الله بن محمد، وبويع في نفس اليوم الذي توفي فيه أخوه، في محلة الجيش تحت أسوار بُبشتر، في منتصف صفر سنة 275 هـ (يونيه 888 م). وكان مولده بقرطبة في نفس العام الذي ولد فيه أخوه المنذر، أعني في سنة 229 هـ (844) وأمه أم ولد تدعى بهار، وكان حينما تولى الملك في السادسة والأربعين من عمره. وعلى أثر البيعة ارتد عبد الله مع جيشه عائداً إلى قرطبة، ومعه جثمان أخيه المنذر، فدفن بمقبرة القصر، واستتم عبد الله البيعة دون أن يعارضه أحد من أخوته العديدين. وبدأ عبد الله حكمه الطويل المضني في ظروف قاتمة، والخلاف يمزق أوصال المملكة، وعرش بني أمية يهتز تحت ضربات الخوارج والمتغلبين. ويصف لنا ابن الأثير عهد الأمير عبد الله في هذه العبارة الجامعة: " وفي أيامه امتلأت الأندلس

بالفتن، وصار في كل جهة متغلب، ولم تزل كذلك طول ولايته " (¬1). والحقيقة أن الثورة كانت قد استفحلت، واندلع لهيبها في كل ناحية، ولم تبق قاصرة على المناطق الجبلية، بل تجاوزتها إلى القواعد والمدن الكبيرة، مثل إشبيلية وبطليوس وجيان ولورقة ومرسية وغيرها؛ ولم تبق كذلك قاصرة على زعماء المولدين الذين تحدوهم نحو حكومة قرطبة عاطفة بغض طبيعي، ولكنها امتدت الى زعماء القبائل العربية أنفسهم، إذ رأوا الفرصة سانحة لاستقلالهم، وتدعيم سلطانهم؛ وظهر البربر في الوقت نفسه في الميدان، فاستعصم كثير من زعمائهم بالحصون النائية، ونشبت المعارك العنصرية القديمة بين العرب والمولدين حيثما التقت حشودهم، كما حدث في كورة ريُّه وإشبيلية؛ ونشبت مثل هذه الخصومات بين العرب والبربر، وفيما بين العرب أنفسهم، واستقل زعماء العرب بإلبيرة وجيان ومنتيشة ولورقة ومدينة سالم، واستقل زعماء المولدين بالثغر الأعلى وبطليوس وباجة وجيان ومرسية، وغدت إشبيلية مسرحاً للتنافس الدموي بين العرب والبربر، وبسط ابن حفصون سلطانه على معظم الأنحاء الجنوبية الغربية فيما بين البحر ووادي شَنيل؛ وهكذ عمت الثورة معظم جنبات الأندلس، ولم يبق لحكومة قرطبة سلطان حقيقي إلا في منطقة العاصمة وأحوازها. - 1 - كان عبد الله يواجه هذه الخطوب كلها. وكان يرى إخماد الفتنة مسألة حياة أو موت بالنسبة لسلطان العرش، وكانت هذه مهمته الشاقة التي كرس لها كل جهوده. وكان يرى أن الثورة في الجنوب هي أخطر ما يواجه العرش، وأن ابن حفصون قد غدا قوة يخشى بأسها، وأنه يجب أن تكرس الجهود لتحطيم ثورته وسحق قواه. وكان ابن حفصون يشعر من جانبه، بأنه يواجه قوة العرش كلها، ومن ثم فقد حاول عقب ارتقاء الأمير عبد الله أن يحصل على هدنة يستطيع خلالها أن ينظم شئونه ويوطد سلطانه؛ فبعث إلى قرطبة ابنه حفصاً مع جماعة من أصحابه ليعقدوا السلم باسمه مع عبد الله، على أن يستقر في منطقة ببشتر في طاعة الأمير، فاستجاب عبد الله إلى طلبه، ورد ابنه وصحبه رداً جميلا وأجزل لهم الصلات، وبعث معهم عبد الوهاب بن عبد الرؤوف والياً من قبله على كورة ريُّه ليكون مع ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 7 ص 145.

ابن حفصون شريكاً في حكمها، ولكن لم تمض بضعة أشهر، حتى نكث ابن حفصون العهد وطرد عامل الأمير، وأغار على البلاد المجاورة، واستولى على أرشدونة، وعاث فساداً في تلك المنطقة، فسار إليه الأمير عبد الله في سنة 276 هـ (889 م) واجتاح منطقة ببشتر وخربها، ولكنه لم ينل من الثائر مأرباً؛ ولما ارتد إلى قرطبة خرج ابن حفصون في أثره، وتوغل حتى إستجة واستولى عليها، فبعث إليه عبد الله الجند فردته عنها. ولبثت الثورة على اضطرامها في الجنوب. وخرج خير بن شاكر في جيّان، وطرد منها عامل الأمير واستولى عليها، فسارت إليه جند الأندلس بقيادة أحمد ابن محمد بن أبي عبدة، وحاصرته وقتلت كثيراً من أصحابه، وخربت معظم دور جيان، ثم عادت دون إخضاعه. وهنا بعث ابن حفصون جماعة من أصحابه إلى جيان بحجة معاونة ابن شاكر، ولكنهم فتكوا به وحملوا رأسه إلى ابن حفصون، فبعث بها إلى الأمير عبد الله سعياً إلى مصانعته ومطاولته (¬1). ولكن الأمير لم يخدع بسعيه. وسار ابن حفصون إلى جيان فعاث فيها وانتهب أموالها، وأذل أهلها، وساد الذعر والفوضى في تلك الأنحاء. ودفع ابن حفصون غاراته شمالا حتى أحواز قرطبة، وبلغ من جرأته أن حاول إحراق مخيم الأمير في ضاحية شَقُندة على مقربة من العاصمة. فعندئذ عول الأمير عبد الله على أن يخرج لقتاله مرة أخرى، فحشد ما استطاع من قواته، واتجه نحو الجنوب إلى ناحية قبرة Cabra حيث حشد الثائر قواته في معقل بلاي أو " بَلِيّ " (بولي) (¬2)، وكان حصن بلاي من أمنع حصون قبرة الواقعة على مقربة من جنوب شرقي قرطبة. وقد افتن ابن حفصون في تقويته وتحصينه، وجعله مركزاً للسيطرة على كورة قبرة كلها، والإغارة على المدن والحصون القريبة من قرطبة، وتهديد أطراف العاصمة ذاتها. وكانت قوات الثوار تبلغ زهاء ثلاثين ألفاً، ولا تعدو قوات الأندلس ثمانية عشر ألفاً، بل أربعة عشر ألفاً على قول ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس ص 92 و93. (¬2) هي بالإسبانية Poley أو Polei، وما يزال موقعها قائما معروفاً إلى اليوم تحتله قرية أجيلار Aguilar الحديثة الواقعة جنوبي قرطبة.

ابن حيان (¬1). ووقع اللقاء بين الفريقين على ضفاف نهير الفوشكة أحد فروع نهر الوادي الكبير (¬2) على قيد مسافة قصيرة من بلاي، في الثاني من صفر سنة 278 هـ (16 مايو سنة 891 م). وقاد جند الأندلس القائد عبيد الله بن محمد ابن أبي عبدة. وتولى ابن حفصون قيادة جنده بنفسه. ونجح فرسان الأندلس في هزيمة الجناح الأيمن للثوار وتمزيقه، فدب الذعر إلى باقي القوات الثائرة، وركنت إلى الفرار، وهرعت الخيل في آثارهم فقتلت كثيراً منهم، وفر ابن حفصون في بعض قواته إلى حصن بلاي معولا على الامتناع به، ولكن هجره معظم جنده، مؤثرين الفرار على حصار غير مأمون العاقبة؛ فلما رأى ابن حفصون عبث المقاومة ارتد في نفر من صحبه إلى شعب الجبال الجنوبية، بعد أن فقد معظم قواته، وقتل من الثوار أثناء الموقعة وخلال المطاردة ألوف عدة، واحتل عبد الله حصن بلاي وقتل من جنده زهاء ألف، واستولت جند الأمير على محتوياته. وكانت موقعة بلاي موقعة فاصلة في معنى من المعاني، وفيها أصيب ابن حفصون بضربة أليمة لم يصب بمثلها من قبل. ولم ير الأمير مطاردة الثائر جنوباً، ولكنه آثر أن يزحف غرباً إلى إستجة التي كانت تدين بطاعته، فحاصرها أياماً حتى سلمت والتمس أهلها العفو والأمان (¬3). وسار الأمير بعد ذلك في أثر ابن حفصون إلى ببشتر قاعدته الرئيسية، وكان الثائر قد التجأ إليها عقب الهزيمة، واجتمع إليه كثير من أنصاره من أهل الجزيرة. وعاث الأمير في تلك المنطقة، ولم يخرج ابن حفصون إلى لقائه، ولكنه حينما ارتد جيش الأندلس أدراجه، حاول مطاردته، واشتبك مع مؤخرته في معركة هزم فيها ورد على أعقابه (ربيع الأول سنة 278 هـ). وعلى أثر هذه الغزوة الموفقة، ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس ص 104. ويقول ابن عبد ربه وهو معاصر للمعركة، وربما شهدها بنفسه مع الأمير، إن قوات الأندلس كانت ثمانية عشر ألف منهم أربعة عشر ألفاً من أهل قرطبة وأربعة آلاف من حشم الأمير ومواليه (راجع العقد الفريد، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر ج 4 ص 498). (¬2) ويسمى بالإسبانية Las Carchenas ( لاس كارشيناس). (¬3) يورد لنا ابن حيان رواية ضافية وتفاصيل كثيرة عن موقعة بلاي (المقتبس ص 94 - 105). وراجع البيان المغرب ج 2 ص 126 و127، وابن خلدون ج 4 ص 135. ويضع دوزي تاريخ الموقعة في 15 إبريل سنة 891 م. ولكن إبريل يوافق شهر المحرم سنة 278 هـ. وقد حدثت الموقعة في بداية صفر. راجع: Dozy: Hist ; V.II.p. 68-73.

اختار الأمير عبد الله قائده البطل عبيد الله بن محمد بن أبي عبدة للوزارة، إثابة له وتكريماً، وعرفاناً لما أسداه إلى العرش وإلى الدولة ببراعته وبطولته (¬1). وقد أشاد الشعراء بذكر موقعة بلاي وإستجة، وما أحرزه الأمير فيها من النصر الباهر، فمن ذلك قصيدة طويلة لابن عبد ربه يقول فيها: نجا مستكناً تحت جنح من الدجى ... وليس يودي شكرنا أنعم الجنح يودون أن الصبح ليل عليهم ... ونحن نود الليل لو أنه صبح أقادح نار كان طعم وقودها ... بعينك فانظر ما أضاء لك القدح محا السيف ما زخرفت أول وهلة ... ودونك فانظر بعد ذلك ما يمح فكم شارب منكم صحى بعد سكرة ... وما كان لولا السيف من سكره يصح كأن " بلايا " والخنازير حولها ... مقطعة الأوصال أنيابها كلح ديار الذين كذبوا رسل ربهم ... فلاقوا عذاباً كان موعده الصبح فيا وقعة أنست وقيعة راهط ... ويا عزمة من دونها البطن والنطح ويا ليلة أبقت لنا العز دهرنا ... وذلا على الأعداء صل به الترح بدولة عبد الله ذى العز والتقى .. . يخبر في أدنى مقاماته المدح (¬2) ولابن عبد ربه قصيدة أخرى يهنىء فيها الأمير بفتح بلاي هذا مطلعها: الحق أبلج واضح المنهاج ... والبدر يشرق في الظلام الدّاج والسيف يعدل ميل كل مخالف ... عميت بصيرته عن المنهاج ومنها: لما حفلن إلى " بلاي " عشية ... أقوت معاهدها من الأعلاج فكأنما جاشت خلال ديارهم ... أسد العرين خلت بسرب نعاج ونحى ابن حفصون ومن يكن الردى ... والسيف طالبه فليس بناج في ليلة أسرت به فكأنما ... خيلت لديه ليلة المعراج هذي الفتوحات التي أذكت لنا ... في ظلمة الآفاق نور سراج ¬_______ (¬1) راجع المقتبس ص 100. (¬2) راجع هذه القصيدة بأكملها في المقتبس ص 97 - 99.

خريطة: موقعة بلاي ومنطقة ثورة ابن حفصون.

- 2 - وهنا نقف قليلا في تتبع ثورة المولدين وزعيمهم ابن حفصون، لنعطف على أخبار الثورات التي قام بها الزعماء العرب في الوقت نفسه، في مختلف القواعد والثغور. كانت المناطق الجنوبية في الوقت الذي تجيش فيه بثورة المولدين في الغرب، تجيش في الشرق بثورة أخرى عمادها القبائل العربية. وكانت سياسة اصطفاء الموالي التي جرى عليها بنو أمية في الأندلس منذ بداية أمرهم، قد أخذت تحدث أثرها في نفوس القبائل العربية، وأضحت هذه القبائل ترى في سياسة حكومة قرطبة نوعاً من الطغيان والمهانة. ولما ثار ضرام الفتنة على يد المولدين في الثغر الأعلى وفي المناطق الجنوبية، ألفت القبائل العربية الفرصة سانحة للقيام بدورها، والانتصاف لعصبيتها وكرامتها. وكانت كورة إلبيرة مركز نشاطهم في الجنوب؛ ففي سنة 275 هـ (889 م) ثار في ناحية البراجلة من كورة إلبيرة يحيى بن صقالة القيسي، وكان ذا وجاهة ومال، والتفت حوله البيوتات العربية، واشتد في مطاردة المولدين والنصارى (¬1)، فثاروا به ولم يلبث أن قتل في بعض المواقع التي نشبت بينه وبينهم؛ فتصدر لزعامة العرب عندئذ سوّار بن حمدون القيسى، وكان سوار زعيماً مجرباً. وافر الشجاعة والبأس، فهرعت العرب إلى لوائه، وأغار على حصون المولدين والنصارى في تلك المنطقة، فانتزع معظمها، وامتدت رياسته حتى قلعة رباح، وجعل مركزه في حصن منت شقند (¬2) على مقربة من إلبيرة ثم زحف على إلبيرة وفيها جعد بن عبد الغافر واليها من قبل الأمير، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة، فهزم جعد وأسر، وقتل كثير من أصحابه (276 هـ)، وتعرف هذه الموقعة بواقعة المدينة (¬3). ثم أطلق سوار جعداً فتحالف مع ابن حفصون على قتاله. وقوى أمر سوار واشتد ساعده وكثر أنصاره، فسار إلى غرناطة واستولى عليها واتخذها قاعدة له، ونشبت بينه وبين المولدين وزعيمهم ابن حفصون عدة معارك، هزم فيها ابن حفصون وقتل بعض قواده. وكان سوار ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس ص 55. (¬2) ويسميها ابن حيان منت شاقر (المقتبس ص 55). (¬3) المقتبس ص 55 و57.

فوق فروسيته شاعراً جزلاً فصيحاً يأسر الجموع بذلاقته. ولكن رياسته لم تطل سوى نحو عام، إذ قتل في كمين دبره له خصمه القديم جعد والي إلبيرة، وحفص بن المرة قائد ابن حفصون. فقد خرج سوار ذات يوم من غرناطة إلى بعض غاراته في نفر قليل من أصحابه، وكان حفص قد رتب قواته في أماكن مستورة على مقربة من المدينة، فانقضت على سوار وفتكت به وبأصحابه ومثل بجثته. فخلفه في رياسة العرب سعيد بن سليمان بن جودى السعدى زعيم قبيلة هوازن، وكان مثل صديقه سوار بطلاً شجاعاً وفارساً مجرباً، وشاعراً أديباً، وخطيباً مفوهاً، قد تفقه مع فروسيته في فنون العلم والأدب (¬1)، فالتفت حوله القبائل، واشتدت وطأته على المولدين وزعيمهم ابن حفصون وهزمه مراراً، وأسره ابن حفصون في بعض الوقائع ثم أطلقه لقاء فدية كبيرة. ولما رأى الأمير عبد الله غلبة العرب على كورة إلبيرة، أقر سعيداً على ولايتها فحكمها باسم الأمير، واستمرت زعامته بضعة أعوام حتى قتل غيلة في دار عشيقته اليهودية، وذلك في أواخر سنة 284 هـ (897 م)، ويقال إنه قتل بتدبير الأمير عبد الله، وكان من أهم أسباب قتله أبيات من الشعر قالها في ذم بني أمية جاء فيها: يا بني مروان جدوا في الهرب ... نجم الثائر من وادي القصب يا بني مروان خلوا ملكنا ... إنما الملك لأبناء العرب ولسعيد بن جودى شعر كثير، وقد أورد لنا ابن الأبار بعض قصائده، وهي تنم عن مقدرته وقوة شاعريته (¬2). ولما قتل سعيد بن جودى، قام بأمر العرب من بعده في كورة إلبيرة، محمد ابن أضحى الهمذاني صاحب حصن الحامّة (الحمة)، وأقره الأمير عبد الله على رياسته، ونشبت بينه وبين ابن حفصون وقائع عديدة كانت سجالاً بينهما؛ ولبث سعيد على رياسته لتلك المنطقة، حتى قضى عليها الناصر في بداية عهده، واستولى على الحامة وغيرها من النواحي الثائرة في تلك المنطقة (¬3). ¬_______ (¬1) المقتبس ص 60 و61. (¬2) راجع في أخبار سوار بن حمدون وسعيد بن جودى، ابن الأبار في " الحلة السيراء " (ليدن) ص 80 - 87؛ والبيان المغرب ج 2 ص 138 و139 و141، والمقتبس ص 29 و30. (¬3) الحلة السيراء ص 85، والبيان المغرب ج 2 ص 139.

واتسع نطاق الثورة بين القبائل والبطون العربية والمولدين، فخرج في مدينة ابن السليم (شذونة) (¬1) منذر بن ابراهيم، واستقل برياستها إلى أن قتله بعض أتباعه؛ وخرج آخرون من الزعماء في كورة جيان، وكان أشدهم مراساً عبيد الله ابن أمية بن الشالية، وهو من زعماء المولدين. وقد خرج في منطقة جبل شمنتان وما يليها، وامتد سلطانه حتى حصن قسطلونة (¬2)، وقوى أمره وأنشأ له بلاطاً وجيشاً، وحالف ابن حفصون وصاهره بأن زوج ابنته من جعفر ولد ابن حفصون. واستمر ابن الشالية ممتنعاً بمعاقله، طوال أيام الأمير عبد الله، ولم تنته ثورته إلا في أوائل عهد الناصر حيث عاد إلى الطاعة، وعينه الناصر والياً لمنطقة شمنتان. وثار سعيد بن مستنه في باغة، وقوى أمره، فسار إليه الأمير عبد الله في سنة 279 هـ (892 م) عقب موقعة بلاي، وغزا حصن كركبوليه، الواقع بين قرطبة وجيان، وهو معقله وأمنع حصونه، واشتد في حصاره حتى اضطر إلى التسليم، وهدم الأمير جميع حصونه (¬3). وثار بغربي الأندلس اثنان من زعماء المولدين أيضاً هما بكر بن يحيى بن بكر، ثار بشنتمرية الغرب وحصنها واستقل بها، وبسط سلطانه على ما حولها، وتشبه بالأمراء، فأنشأ له بلاطاً وحكومة، وكان جواداً يأوى أبناء السبيل ويحفظ الطرق، وفي أواخر عهد الأمير عبد الله عاد إلى الطاعة. وعبد الملك بن أبي الجواد، وقد ثار في باجة وميرتلة وكان كلاهما من أتباع عبد الرحمن الجليقي وأنصاره. وثار في لَبْلة عثمان بن عمرون وأخرج منها عامل الأمير، وامتدت الفتنة إلى المنطقة كلها. وغلب إسحاق بن إبراهيم العقيلي المعروف بابن عطاف على حصن منتيشة من أعمال جيان وامتنع به، مستظلا مع ذلك بطاعة الأمير. وفي شرقي الأندلس خرج ديسم بن إسحاق في كورة تدمير وغلب على مدينتي مرسية ولورقة، واستفحل أمره، وكان أديباً يصل الأدباء والشعراء. وسير إليه الأمير عبد الله في سنة 283 هـ (896 م) حملة بقيادة عمه هشام بن عبد الرحمن بن الحكم، فاخترقت ولاية تدمير وعاثت فيها وهاجمت مرسية وأرغمتها على دفع الخراج، ونشبت بينهم وبين قوات ديسم في ظاهر لورَقة، ¬_______ (¬1) Medina Sidonia. وهذه تسمية ابن الأثير (ج 4 ص 215). (¬2) جبل شمنتان هو بالإسبانية Somontin، وهو يقع شمالي جيان بين مدينة لينارس الحديثة ونهر الوادي الكبير؛ وحصن قسطلونة هو بالإسبانية Castalona. (¬3) المقتبس ص 106.

معركة هزم فيها الثوار، بيد أنها لم تكن معركة حاسمة (¬1). وقامت ثورات محلية أخرى في بعض القواعد والحصون، بيد أنها كانت على الأغلب ثورات قليلة الخطورة، محدودة الأثر، وكانت حكومة قرطبة تراها في المحل الثاني، ولم تكن ثورة القبائل العربية تصطبغ بتلك المرارة التي كانت تطبع ثورات المولدين والبربر. ولبث كثير من أولئك الزعماء الخوارج على رياستهم واستقلالهم حتى بداية عصر الناصر (¬2). - 3 - وكانت إشبيلية، أعظم القواعد الأندلسية بعد قرطبة، في أثناء ذلك، مسرحاً لفتنة دموية استطال أمدها. وكان سكان إشبيلية مزيجاً من العرب والمولدين والنصارى، وكانت منزل عدد كبير من البيوتات العربية العريقة التي تمتاز بالثراء والعصبية. وبالرغم مما كان يسود بين هذه العناصر في معظم الأحيان من عوامل الجفاء والشقاق، فقد استطاعت إشبيلية أن تحافظ على سكينتها وولائها مدى حين. فلما أخذت القبائل العربية في ولاية الأمير عبد الله تجيش بعوامل الخروج والثورة، هبت ريح الاضطراب على إشبيلية وسرت إليها عوامل الفتنة، وظهر الزعماء المتطلعون إلى الرياسة على مسرح الحوادث. وكان بنو أبي عبدة، وبنو حجاج، وبنو خلدون، يومئذ أعظم البيوتات العربية في إشبيلية. فأما بنو أبي عبدة فكان منهم كثير من رجال الدولة والقادة، وكان زعيمهم يومئذ أمية بن عبد الغافر بن أبى عبدة، وكان من وجوه القوم المقربين لدى حكومة قرطبة. وأما بنو حجاج فإنهم يرجعون بنسبتهم إلى لخم، ويتصلون في الوقت نفسه من ناحية الأمومة بملوك القوط، وذلك عن طريق سارة القوطية حفيدة وتيزا ملك القوط (¬3)، وكان زعيم بيتهم يومئذ عبد الله بن حجاج وأخوه إبراهيم. وأما بنو خلدون فإنهم ينتسبون إلى العرب اليمانية في حضرموت، وإليهم ينتسب المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون، وكان زعيم بيتهم يومئذ كريب بن عثمان بن خلدون وأخوه خالد (¬4). ¬_______ (¬1) المقتبس ص 118. (¬2) راجع في تفاصيل هذه الثورات، المقتبس ص 9 - 11 و16، وكذلك البيان المغرب ج 2 ص 139 - 141. (¬3) راجع " دولة الاسلام في الأندلس " ص 60 و61. (¬4) راجع كتاب العبر ج 7 ص 380 و381، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 96.

وكان هنالك إلى جانب هذه الأسر العربية الصميمة، عدد من الأسر المولدة القوية الغنية. وكان التنافس بين العرب والمولدين في النفوذ والرياسة، من أهم أسباب الاضطراب في المجتمع الأندلسي يومئذ. وكانت الرياسة في إشبيلية قديمة في بيت أبي عبدة، حيث كان جدهم أبو عبدة واليها من قبل عبد الرحمن الداخل، وكان حفيده أمية بن عبد الغافر واليها في الوقت الذي نتحدث عنه، وكان الأمير عبد الله قد أرسل إلى جانب أمية ولده محمداً، ليكون عضداً أدبياً له في حكم المدينة. وفي سنة 276 هـ (889 م) كان بنو خلدون أول من رفع لواء الثورة في إشبيلية، وخرج زعيمهم كريب بن عثمان ابن خلدون في أنصاره وحلفائه من المولدين والبربر، الذين رأوا أن يعملوا على إذكاء المعركة بين الأسر العربية، وتحالف مع ابن مروان الجليقي الثائر ببطليوس. وعاث كريب وأصحابه في أحواز إشبيلية وقطعوا السبل، ولكنه لم ينل من المدينة مأرباً. ثم ثار المولدون ضد العرب اليمانية لمقتل واحد من كبرائهم، وتحرك بنو حجاج في نفس الوقت. وخشى أمية العاقبة فدس على زعيمهم عبد الله ابن حجاج من قتله، فحل في الحال مكانه أخوه إبراهيم، وحمى وطيس الفتنة، واشتد بنو حجاج وأنصارهم من العرب في قتال أمية، وقتل أمية في النهاية مدافعاً عن نفسه. فأرسل الأمير عبد الله إلى إشبيلية حاكماً جديداً من قبله، هو عمه هشام ابن عبد الرحمن، ولكنه لم ينجح في تهدئة المدينة الثائرة، وقتل الثوار ولده، وسادت الفوضى، واضطرب حبل الأمن في إشبيلية وما جاورها؛ فعندئذ أرسل عبد الله ولده المطرِّف، ومعه الوزير عبد الملك بن عبد الله بن أمية على رأس حملة قوية إلى إشبيلية (282 هـ - 895 م). فلما أشرف المطرف على إشبيلية وثب بالقائد عبد الملك فقتله، وندب للقيادة مكانه أحمد بن هاشم بن عبد العزيز، وأرسل إلى والده الأمير عبد الله محضراً يبرر فيه تصرفه، ونشبت الموقعة بين المطرف وبين الثوار خارج المدينة، فهزمهم وردهم إلى سور المدينة، وقتل منهم عدد كبير، وأسر إبراهيم بن حجاج وخالد بن خلدون وغيرهما من زعماء الفتنة، ولم يطلق سراحهم حتى أذعنت المدينة الثائرة لمطالبه، وسلمت الخراج المطلوب، وقدم زعماء الفتنة رهائن من الولد والأهل، واتُفق على أن يشترك

في حكم المدينة إبراهيم بن حجاج وكريب بن خلدون باسم الأمير وفي طاعته (¬1). وكان كريب طاغية شديد الوطأة فنفر منه الشعب. أما إبراهيم فكان رفيقاً دمث الخلق فكثر أنصاره، ورجحت كفته، واستطاع في الوقت نفسه أن يحصل من الأمير عبد الله سراً على عهد بولاية المدينة. ثم اعتزم أمره ودبر مقتل كريب ابن خلدون وأخيه خالد، وانفرد بحكم إشبيلية (282 هـ) (¬2)، وأقره عبد الله على ولاية إشبيلية وقرمونة. وسطع نجم بني الحجاج وقوى أمرهم، وطالب إبراهيم الأمير بالإفراج عن ولده عبد الرحمن، المعتقل رهينة في قرطبة، فلما تباطأ الأمير في إجابته خلع الطاعة وتحالف مع ابن حفصون (¬3)، وسار معه في قواته لمقاتلة قوات الأندلس (289 هـ) حسبما نفصل بعد. وقدر الأمير عبد الله خطورة هذا التحالف وتوجس من عواقبه، وعاد فأجاب رغبة إبراهيم، وأفرج عن ولده عبد الرحمن ورده إليه مكرماً (289 هـ)، فجنح إبرهيم إلى الطاعة مرة أخرى، وارتضى أداء الجزية للأمير، ونبذ حلف ابن حفصون، وقنع الأمير من جانبه بهذا المظهر من الخضوع والطاعة، واستقرت الأمور في إشبيلية (¬4). وأبدى إبراهيم بن حجاج في إدارة ولايته همة وبراعة، واتخذ سمة الملوك وأنشأ له بلاطاً، وحرساً خاصاً قوامه خمسمائة فارس غير المشاة، وحصن مدينة قرمونة، وجعل بها مرابط خيله (¬5)، وفرض الضرائب وأصلح نظم الحكم والقضاء، وعمل على توثيق أواصر المودة بينه وبين حكومة قرطبة. وكان يبعث بالأموال والهدايا إلى الأمير عبد الله، ويمده بجنده في بعض غزواته. وكان إبراهيم فوق ذلك رضى الخلق، محبوباً من الشعب، جواداً يقصده الشعراء وينشدونه مدائحهم ¬_______ (¬1) يقول ابن خلدون إن كريباً انفرد أولا بحكم إشبيلية، وسعى ابن حجاج إلى انتزاعها منه، فتحالف مع ابن حفصون، ثم جنح إلى مصانعة كريب فأشركه معه في حكم المدينة (كتاب العبر ج 7 ص 381). وراجع المقتبس ص 111. (¬2) أو في أوائل سنة 286 هـ، على رواية ابن حيان (المقتبس ص 84). (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 129. (¬4) المقتبس ص 131. (¬5) وما تزال مدينة قرمونة تحتفظ حتى اليوم ببعض الأبواب والأطلال الأندلسية القديمة التي تدل على حصانتها أيام المسلمين، وما زالت بالأخص تحتفظ بباب " إشبيلية " الشهير كاملا بعقده العظيم وشرفته العربية الرائعة.

فيجزل صلاتهم؛ وكان ممن مدحه شاعر العصر أبو عمر بن عبد ربه صاحب العقد الفريد، ومما قاله في مديحه: ألا أن إبراهيم لجة ساحل ... من الجود أرست فوق لجة ساحل فإشبيلية الزهراء تزهو بوجهه ... وقرمونة الغراء ذات الفضائل إذا ما تحلت تلك من نور وجهه ... غدت هذه للناس في زي عاطل واستمر إبراهيم بن حجاج في حكم إشبيلية وقرمونة، حتى توفي سنة 298 هـ (910 م) (¬1) في سن الثالثة والستين، فخلفه في حكم إشبيلية ولده عبد الرحمن، وفي حكم قرمونة ولده محمد حتى انتهت دولتهم في بداية عهد الناصر (¬2). ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 97. ويضع ابن عذارى وفاته في سنة 288 هـ (البيان المغرب ج 2 ص 132) والرواية الأولى أرجح. وراجع أخبار ابن حجاج في المقتبس ص 11 - 14. (¬2) راجع في تفاصيل ثورة بني حجاج، ابن خلدون في كتاب العبر ج 4 ص 135 وج 7 ص 380، 381؛ والبيان المغرب ج 2 ص 128 - 135؛ وابن الأبار في الحلة السيراء ص 96 و97.

الفصل الرابع ولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن

الفصل الرابع ولاية عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن 2 - ذروة الفتنة الكبرى عود إلى ثورة المولدين. ابن حفصون يعود إلى الميدان. عود الصوائف إلى غزوه. إستيلاؤه عل إستجة. مسير أبان بن عبد الله لقتاله. المعارك في الجزيرة الخضراء. تحالف ابن حفصون ومحمد ابن لب. ابن حفصون يعلن اعتناقه النصرانية. تفرق أنصاره. التحالف بين ابن حجاج وابن حفصون. الحرب بين جند الأندلس وابن حفصون. هزيمة الثوار وانتهاء حلفه مع ابن حجاج. توالي الحملات والصوائف لقتال ابن حفصون. استقلال ابن مروان ببطليوس. ثورة ابن تاكيت في الثغر الأدنى. محاصرة جند قرطبة لماردة. الخلاف بين ابن مروان وابن تاكيت. وفاة ابن مروان واستمرار بنيه في حكم بطليوس. بنو ذو النون في طليطلة. استيلاء بني قسي عليها وحكمهم لها. سقوطها في يد ابن الطربيشة. بنو ذو النون في شرقي طليطلة. استيلاء ابن يحيى الأنقر على سرقسطة. بنو قسي في تطيلة وطرسونة. غزوات لب في ليون ونافار. وفاة لب وولاية أخيه عبد الله. ظهور محمد بن عبد الله الطويل في الثغر الأعلى. القتال بينه وبين بني قسي. أفول نجم بني قسي. غزوات الطويل في أراضي النصارى. مصرعه وذهاب دولته. الأمير عبد الله ومقارعته للثورة. انتهاز ملك ليون لمشاغل حكومة قرطبة. استيلاؤه على سمورة. ظهور ابن القط في أحواز طليطلة. زعمه بأن هو المهدي. القتال بينه وبين ملك ليون. مصرع ابن القط وتفرق شمله. تفاهم ملك ليون مع الثوار. افتتاح الجزائر الشرقية. وفاة الأمير عبد الله. خلاله وصفاته. صرامته وعدله وتقشفه. حجابه وقواده. اصطفاؤه للموالي. أولاده. مأساة ولديه محمد والمطرف. اغتيال المطرف لأخيه محمد. حكم عبد الله بإعدام المطرف. بطشه بأخوته. أقوال ابن حزم في صرامته وسفكه للدماء. صفة الأمير عبد الله وخلاله. أدبه وشاعريته. اصطفاؤه للعلماء والشعراء. شعراء العصر وأدباؤه وفقهاؤه. لم تشغل ثورة القبائل العربية في إشبيلية وباجة وإلبيرة وتدمير وغيرها، حكومة قرطبة عن متابعة الجهاد لإخماد ثورة المولدين. وقد كانت ثورة المولدين في الواقع أخطر وأشد رسوخاً، وأبعد أثراً. وقد استطاع زعيم ثورة المولدين في الجنوب عمر بن حفصون، أن يستغرق معظم جهود حكومة قرطبة منذ أواخر عهد الأمير محمد، ولكن هزيمة الزعيم الثائر في موقعة بلاي (بولي) سنة 278 هـ (891 م) وما ترتب عليها من تضعضع قواته، فلت من عزيمته ووضعت حداً مؤقتاً لطغيانه. بيد أن حكومة قرطبة لم تركن إلى هذه الهدنة المؤقتة، فقد كانت تعرف

ابن حفصون وتعرف مبلغ خطره، ومقدرته على العدوان والبغي، وكان ابن حفصون من جانبه، يعمل جاهداً لتنظيم قواه واستكمال أهبته، لاستئناف صراعه المرير مرة أخرى. ومن ثم فإنه لم يمض عامان على موقعة بلاي، حتى عادت الصوائف تتردد ْلغزو ابن حفصون ومطاردته. ففي سنة 281 هـ (894 م) سار المطرف بن الأمير عبد الله في جند الأندلس إلى كورة ريه، وحاصر ابن حفصون في ببشتر معقله، وعاث في بسائطه. وآثر ابن حفصون في البداية أن يستعصم بمعقله، ثم خرج إلى لقاء المطرف فهزم، وقتل في هذه الموقعة حفص بن المرة أشجع قواد ابن حفصون وأشدهم مراساً (¬1). فلما عادت جند الأمير إلى قرطبة، عاد ابن حفصون يدبر خطط العدوان، ثم جمع جموعه وزحف على إستجة، واستولى عليها للمرة الثانية، وذلك في سنة 284 هـ (897 م) (¬2). وإستجة تقع جنوب غربي العاصمة على مسافة غير بعيدة عنها، فبادر الأمير عبد الله باستقدام الجند من النواحي، وفي العام التالي (285 هـ) سير ولده أبان لقتال ابن حفصون ومعه القائد أحمد بن أبى عبدة. واخترقت الحملة الجزيرة الخضراء، وعكفت على مهاجمة الحصون الخارجية حتى وصلت إلى طريف، ثم ارتدت إلى ببشتر ثم إلى أرشدونة ثم إلى إلبيرة وحصن شلوبانية؛ ونشبت بينها وبين قوات ابن حفصون عدة معارك محلية، ثم عادت إلى قرطبة عن طريق وادي آش (¬3). ولكن هذه المعارك لم تسفر عن أية نتيجة حاسمة، واقتنعت حكومة قرطبة بأنه لا بد من مضاعفة الأهبة لكي تستطيع أن تضع حداً لعدوان الزعيم الثائر. وفي سنة 285 هـ (898 م) عقد ابن حفصون ومحمد بن لب زعيم بني قسي حلفاً متبادلا، وأرسل محمد ولده لباً في بعض قواته إلى ابن حفصون ليوثق هذا التحالف؛ ولكن لباً لم يلبث أن تلقى نبأ موت أبيه أمام أسوار طليطلة، فغادر ابن حفصون دون أن يبرم أمراً، وهكذا فشل هذا التحالف قبل نضجه (¬4)، وفي سنة 286 هـ (899 م) أعلن عمر بن حفصون اعتناقه للنصرانية هو وسائر ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 142. وراجع Dozy: Hist.V,II, p. 84. (¬2) المقتبس ص 108. (¬3) المقتبس ص 122. (¬4) المقتبس ص 127.

أفراد أسرته، واتخذ له إسماً نصرانياً هو صمويل، وكان أبوه قد فعل ذلك منذ أعوام، ولم يخلص عمر بن حفصون للإسلام قط، وكان يسرُّ النصرانية دائماً، ولم يمنعه من إعلانها سوى خوفه من تفرق أنصاره، وقد تحقق ماكان يخشاه إذ هجره كثير من أنصاره، وتبرأوا من فعلته، وخرج عليه بعض قواده المسلمين، وامتنعوا بحصونهم، وبعثوا بطاعتهم إلى الأمير، واشتد السخط عليه في شائر جنبات الأندلس، ورأى المسلمون في قتاله نوعاً من الجهاد (¬1). وحاول ابن حفصون من جانبه، أن يقوي مركزه بعقد محالفات جديدة، ففاوض ألفونسو الثالث ملك ليون وبني قسيّ، كما فاوض بعض أمراء المغرب، ولكن العون الحقيقي جاء من ناحية أخرى. ذلك أن إبراهيم بن حجاج سيد إشبيلية وقرمونة، لما ساءت العلائق بينه وبين الأمير عبد الله بسبب رفضه إطلاق سراح ولده، قطع الجزية، وأعلن استقلاله، وتحالف مع ابن حفصون (288 هـ - 900 م)، وغدا الإثنان قوة يحسب حسابها (¬2). وتوجست حكومة قرطبة شراً من هذا التحالف، فبعث الأمير إلى ابن حفصون يعرض عليه شروطاً مغرية للصلح، فقبل الثائر هذا العرض، وبعث إلى قرطبة أربع رهائن من أصحابه، منهم خازنه وحليفه سعيد بن مستنة الثائر من قبل في باغة Priego (¬3) . بيد أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى حدث خلاف في تنفيذ الشروط بين الفريقين، وعاد ابن حفصون فأعلن الخلاف وتأهب للحرب، وعاونه حليفه ابن حجاج بقوة من الفرسان، وسارت جند الأندلس بقيادة أحمد ابن أبي عبدة، وخرج ابن حفصون من إستجة التي اتخذها قاعدة لملاقاته. واشتبك الفريقان في "إستبة" الواقعة جنوبي إستجة، على مقربة من نهر شنيل، فهزم جند الأندلس في البداية، وقتل منهم بضع مئات، ولكنهم عادوا فكروا على قوات ابن حفصون بعنف، وأوقعوا بها هزيمة شديدة (289 هـ - 902 م)، وعلى أثر ذلك أمر الأمير عبد الله بقتل رهائن ابن حفصون، ما عدا ابن مستنة، إذ افتدى حياته بالخضوع والطاعة. وخشي إبراهيم بن حجاج على ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب ج 2 ص 143، والمقتبس ص 128. وراجع دوزي: Hist; V.II.p. 84&85. وكان ابن حفصون أيضاً يتكلم " الأعجمية "، وهي الإسبانية القديمة أو الرومانش. (¬2) المقتبس ص 129. (¬3) الييان المغرب ج 2 ص 144، ودوزي: Hist.,V.II.p. 86.

ولده، ففاوض الأمير في الصلح، فأجابه إلى طلبه، وأطلق سراح ولده عبد الرحمن وعاد إلى سابق ولائه (¬1). وتوالت حملات الأمير بعد ذلك على ابن حفصون. ففي سنة 291 هـ (904 م) سار أبان بن الأمير عبد الله، ومعه القائد أحمد بن أبي عبدة إلى ريُّه، فعاث في تلك الناحية وهزم ابن حفصون في عدة مواقع. وفي العام التالي (905 م) خرجت الصائفة لقتال ابن حفصون فاستولت على بعض حصونه، وأوقعت بقواته هزيمة شديدة في وادي بلون على مقربة من جيان، وقتل كثير من جنده (¬2). وفي سنة 295 هـ (908 م) سارت جند الأندلس إلى ببشتر معقل الثائر، وعاثت في تلك المنطقة. وفي سنة 297 هـ (910 م) سارت حملة قوية بقيادة أحمد بن أبي عبدة إلى كورة ريه، واشتبكت مع قوات ابن حفصون في عدة معارك شديدة، ثم سارت شمالا إلى حصون إلبيرة وجيان وحاصرت منتلون حيناً، وحاول ابن حفصون من جانبه أن يهاجم حصن جيان، فردته جند الأندلس وطاردته. وفي العام التالي غزت جند الأندلس منطقة ببشتر مرة أخرى. ورد ابن حفصون بأن أغار وحليفه ابن مستنة، الذي خلع الطاعة مرة أخرى، على بسائط قبرة وبعض قرى قرطبة، فلقيته جند الأندلس وهزمته. وسارت في العام التالي (سنة 299 هـ) حملة أخرى إلى ببشتر فعاثت في بسائطها (¬3)، وهكذا استمرت حملات الأندلس متوالية متلاحقة على ابن حفصون زهاء ثلاثين عاماً. وبالرغم من أن حكومة قرطبة استطاعت أن تعمل باستمرار على مناهضته وإحباط خططه وإنهاك قواه، فإنها لم تفلح في القضاء عليه، وإخماد الحركة الثورية المضطرمة، التي استطاع أن يحمل لواءها بقوة وجلد وعزم لا مثيل لها. - 2 - وقد أشرنا من قبل، إلى خروج عبد الرحمن بن مروان الجليقي بمدينة بطليوس منذ أيام الأمير محمد، وكيف أن حكومة قرطبة فشلت في إخضاعه، وانتهى الأمر باستقلاله ببطليوس وما جاورها. ولما تولى الأمير عبد الله، لم ير مناصاً من ¬_______ (¬1) راجع دوزي: Hist,V.II.p. 86-88 (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 154. (¬3) راجع البيان المغرب ج 2 ص 148 - 153.

إقراره على استقلاله بتلك القاعدة المنيعة؛ وهكذا لبث ابن مروان سيد بطليوس بلا منازع. فحصنها وجملها؛ وبسط حكمه على الأنحاء المجاورة، وكان من حلفائه في تلك المنطقة حسبما قدمنا يحيى بن يحيى بن بكر الثائر بمدينة شنتمرية الغرب (¬1) بولاية أكشونبة، وعبد الملك بن أبي الجواد الثائر بمدينة باجة Beja. وكان يحيى زعيماً مقداماً، فحصن شنتمرية، وأقام بها حكومة منظمة، وضبط الأمور وقمع أهل الشر (¬2). وفي سنة 276 هـ (889 م) نكث ابن مروان بعهده، وعاون كريب بن خلدون الثائر باشبيلية، على مهاجمة المدينة ونهب أحوازها. ولم يمض قليل على ذلك حتى ثار البربر في الثغر الأدنى (¬3) بزعامة محمد بن تاكيت المصمودي وزحف على ماردة في شرقي بطليوس، واستولى عليها، فسارت إليه الجند من قرطبة، فتقدم لإنجاده ابن مروان، ولبث الحصار مدة ارتحلت بعدها جند الأمير خائبة. وكان بماردة جموع من العرب والبربر من قبائل كتامة ومصمودة، فسعى ابن تاكيت في إخراج العرب وكتامة منها، واستقل بها مع شيعته. ولم يلبث أن ثار الخلاف بينه وبين جاره ابن مروان، ونشبت بينهما الحرب، فهزمه ابن مروان وظهر عليه. ثم توفي عبد الرحمن بن مروان بعد قليل، فخلفه في حكم بطليوس ابنه مروان، واشتد في مطاردة البربر، ولكن ولايته لم تدم سوى شهرين، فخلفه على بطليوس حفيد لابن مروان يدعى عبد الله، واستمر بنو مروان سادة بطليوس حتى انتزعها منهم عبد الرحمن الناصر سنة 317 هـ (929 م)، وقضى على دولتهم (¬4). وكانت طليطلة قاعدة الثغر الأوسط، قد سقطت في يد بني ذى النون أيام المنذر. وكان بنو ذى النون من أكابر زعماء البربر في تلك المنطقة، وينتمون إلى قبيلة هوارة، وكان زعيمهم موسى بن ذى النون قد ظهر في عهد الأمير محمد، ¬_______ (¬1) Santa Maria de Algarve، وهذا بخلاف شنتمرية الشرق أو شنتمرية ابن رزين التي اشتهرت أيام الطوانف وتعرف في الإسبانية باسم Albarracin. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 141. (¬3) هو في جغرافية الأندلس عبارة عن المنطقة الغربية الواقعة، بين نهر دويرة ونهر التاجه ومن مدنها قورية وقلمرية وشنترين وغيرها، وأما الثغر الأعلى فهو عبارة عن سرقسطة وأعمالها من المدن الشمالية المتاخمة لحدود نافار وليون وقطلونية. ويشمل الثغر الأوسط طليطلة وأعمالها. (¬4) البيان المغرب ج 2 ص 140، وابن خلدون ج 4 ص 133 و134.

واستقل بشنت برية حسبما ذكرنا من قبل. ثم زحف على طليطلة في قوة كبيرة من البربر، واستطاع بممالأة بعض زعمائها أن يستولي عليها، وذلك في سنة 274 هـ (888 م). وحكم بنو ذى النون طليطلة بضعة أعوام، ثم غلبهم عليها محمد بن لب بن موسى كبير بني قسي وزعيم الثغر الأعلى، وكان بنو قسي قد فقدوا زعامتهم يومئذ في الثغر الأعلى بخروج سرقسطة من أيديهم ووقوعها في يد أبي يحيى التجيبي حسبما نذكر بعد، فتحولوا إلى الثغر الأوسط واستولوا على طليطلة سنة 283 هـ (897 م). وبعث محمد بن لب ولده لبّا إلى أحواز جيان، فهاجم حصن قسطلونة واستولى عليه. والظاهر أن كانت ثمة لتلك الحملة علاقة بمشروع التحالف بين بني قسي وابن حفصون حسبما قدمنا، ولكن محمداً بن لب لم يلبث أن قتل بعد ذلك بعامين تحت أسوار سرقسطة، وهو يحاول انتزاعها من التجيبيين (¬1)، ولم يستطع ولده لب أن يستمر في حكم طليطلة فأبعد عنها حيناً. ولكن أهل طليطلة عادوا فدعوه إلى حكمها، فبعث إليهم أخاه المطرف فتولى حكمها. ثم خرج عليه محمد بن إسماعيل بن موسى من أبناء عمومته، فحكمها حتى مصرعه في سنة 293 هـ (906 م) قتيلا بيد أهلها. وعندئذ تولى حكم طليطلة زعيم من البربر المحليين هو ابن الطربيشة، وهو حليف ابن ذى النون، واستمر في حكمها حتى انتزعها منه عبد الرحمن الناصر في أوائل حكمه. واستمر بنو ذى النون أبناء موسى وهم الفتح ويحيى ومطرف بعد وفاة أبيهم، في حكم المناطق الواقعة في شرقي طليطلة، مثل إقليش ووبذة ثم قلعة رباح (¬2) وغيرها، إلى نهاية عهد الأمير عبد الله وأوائل عهد الناصر. وكان مطرِّف أشهرهم وأنجبهم، وقد استمر معتصماً بوبذة حتى استنزله الناصر منها، ثم ولاه عليها واستقام بها شأنه، وحضر مع الناصر واقعة الخندق (¬3). وكان لبني ذى النون هؤلاء فيما بعد شأن، وكانت لهم أيام الطوائف في طليطلة دولة سطعت مدى حين. أما لُبُّ بن محمد فاستقر في تطيلة، وكان النزاع يضطرم في الثغر الأعلى منذ أعوام طويلة بين التجيبيين وبني قسي. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 143. (¬2) وهي بالإسبانية على التوالي: Uclés, Huete, Calatrava. (¬3) ابن حيان في المقتبس ص 19.

وتذكر لنا الرواية في أصل نباهة بني تجيب، أنه لما ثار بنو قسي في الثغر الأعلى، واحتلوا قواعده، نُوه للأمير محمد بن عبد الرحمن، بأولاد عبد العزيز ابن عبد الرحمن بن عبد الله بن المهاجر التجيبي، فاستدعاهم، وبنى لهم قلعة أيوب على مقربة من سرقسطة، وعين لضبطها عبد الرحمن بن عبد العزيز التجيبي، وبنى لهم قلاعا حصينة في شميط ودَرَوْقه، وفُرتش، ونصبهم لمحاربة بني قسي، وعقد لهم على قومهم، وأجرى عليهم أرزاق الغزو. ولما انتزع الأمير المنذر سرقسطة من محمد بن لب بن موسى في سنة 270 هـ، توالى عليها عمال الأمير؛ وكان عليها في بداية عهد الأمير عبد الله واليها أحمد ابن البراء، فتظاهر محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز (وهو المعروف بأبي يحيى وبالأنقر) بمهاجمة والده عبد الرحمن والخروج عليه، والتجأ إلى سرقسطة تحت كنف ابن البراء وحمايته، وفي ذات يوم وثب بحاميه ابن البراء وقتله غيلة، واستولى على سرقسطة، وكان ذلك في رمضان سنة 276 هـ (889 م) وفقاً لرواية العذري، أو في سنة 282 هـ (895 م) وفقاً لرواية ابن حيان. وكان وثوب أبي يحيى الأنقر بابن البراء على هذا النحو، فيما يبدو بتفاهم مع الأمير عبد الله، إذ كان يشك في ولاء حاكمه. ومن ثم فقد أقره الأمير عبد الله على حكم سرقسطة وأعمالها (¬1). وحاول محمد بن لُبّ أن ينتزع سرقسطة من أبي يحيى، فهاجمها وحاصرها غير مرة، حتى قتل تحت أسوارها سنة 285 هـ (898 م) حسبما أسلفنا. قال ابن حيان: " وهوى نجم القسويين (بني قسي) بعد مهلك محمد واعتورهم الإدبار، وغشيتهم دولة الجماعة، وجمع الثغر كله لأبى يحيى " (¬2). ولبث أبو يحيى على استقلاله بسرقسطة، حتى وفاته في عهد الناصر سنة 312 هـ (924 م). ولما توفي محمد بن لُبّ، خلفه ولده لب في تطيلة وما جاورها. والظاهر أنه آثر يومئذ مهادنة الأمير والانضواء تحت لوائه، وأقره عبد الله على حكم تطيلة وطرسونة وما جاورها. وشغل لُب في الأعوام التالية بغزو أراضي النصارى ¬_______ (¬1) " نصوص عن الأندلس ". من كتاب ترصيع الأخبار وتنويع الآثار للعذري ص 41. وابن حيان في المقتبس ص 85 و86. (¬2) المقتبس ص 87.

المجاورة، فغزا في سنة 290 هـ (903 م) أرض ليون واستولى على بعض حصونها، وهزم ألفونسو الثالث في معركة نشبت بينهما، ثم غزا ناحية بليارش Pallars، واستولى على حصون إيلاس وموله وقشتيل، وقتل بها كثيراً من النصارى. وفي العام التالي خرج لب لمحاصرة سرقسطة، وخرب ما حولها من القرى ولكنه لم ينل منها مأرباً. وفي سنة 294 هـ (906 م)، غزا لب نافار وزحف على طريق بنبلونة، فحشد سانشو (شانجه) ملك نافار كل قواته، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، هزم فيها لب وقتل كثير من جنده. وكان لب زعيماً مقداماً وافر الجرأة والشجاعة، وتوفي شاباً في الثانية والثلاثين من عمره، فكانت وفاته ضربة شديدة لسلطان بني قسيّ. وخلفه في تُطيلة أخوه عبد الله بن محمد بن لب (¬1)، وسار على أثره من الانضواء تحت لواء الأمير، ومتابعة الإغارة على أرض النصارى. وهنا ظهر على مسرح الحوادث في الثغر الأعلى زعيم جديد هو محمد بن عبد الملك بن شبريط المعروف بالطويل، وسمي بذلك لطوله الفائق. وكان بنو شبريط أو بنو شبراط من أكبر أسر المولدين بالثغر. وكان منزلهم بوشقة وبربشتر (¬2) وكان عميدهم شبريط قد ظهر في أواخر المائة الثانية في عصر الحكم بن هشام، وتغلب حيناً على وشقة. ولكن بني قسي غلبوا على تلك الأنحاء دهراً، وحجبوا بني شبريط وغيرهم من أعيان المولدين عن الظهور. فلما اضمحل شأن بني قسي، عاد بنو شبريط إلى الظهور، واستطاع الطويل أن يستقر في وشقة تراث أسرته، وذلك منذ بداية عهد الأمير عبد الله، ثم حاول أن يتوسع بالإغارة على بعض أملاك جيرانه بني قسي، فاستولى على لاردة، ولكنه اضطر إلى إعادتها إلى محمد بن لب باشارة الأمير عبد الله، ثم وقع الخلاف بينه وبين لب بن محمد على بعض الحصون المجاورة، ونشب بينهما قتال هزم فيه الطويل. ومضت بعد ذلك عدة أعوام، شغل فيها الطويل على ما يظهر بمحاربة جيرانه النصارى في منطقة البرنيه، في أحواز نافار وجاقة، وسوبرابي وبليارش وغيرها. ولما توفي لب بن محمد، رأى الطويل الفرصة سانحة لتنفيذ خطته ومشاريعه، فزحف على أراضي بني قسي مرة أخرى، واستولى على لاردة وبربشتر وحصن منتشون (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 143 و145؛ وراجع دوزي Hist.; V.II.,p.93. (¬2) ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ص 464. (¬3) راجع ابن حيان في المقتبس ص 87، والبيان المغرب ج 2 ص 148 و149.

(295 هـ - 907 م) وركد أمر بني قسي في الثغر من ذلك الحين. بيد أنهم استمروا في بعض القواعد والحصون حتى قضى الناصر على دولتهم في سنة 312 هـ (924 م). أما الطويل فقد قوى أمره واشتد بأسه، وكان قد تزوج من دونيا سانشا الحسناء ابنة الكونت أسنار أحد سادة أراجون، وحفيدة غرسية إنيجيز ملك نافار. وتعرف الروايات النصرانية، من جراء هذه المصاهرة، محمداً الطويل معرفة حسنة، وتذكره بإفاضة وتسميه " الملك الطويل " (¬1). وعكف الطويل بعد ذلك على الإغارة على الأراضي النصرانية المجاورة، فخرج في سنة 296 هـ (908 م) إلى منطقة بليارش، وعاث فيها وقتل كثيراً من النصارى، واستولى على حصن روطة وهدمه، ثم استولى على حصن منت بطروش. وفي العام التالي خرج الطويل إلى منطقة بليارش مرة أخرى، وعاد مثقلا بالغنائم والسبي (¬2). ولما رأى عبد الله بن لب قوة الطويل واشتداد بأسه، آثر مهادنته، وفي أواخر سنة 298 هـ (911 م) تحالف الإثنان على غزو نافار والزحف إلى عاصمتها بنبلونة، وسار كل منهما في طريق مستقل، وأغار الطويل على بعض الحصون، وهدم الكنائس، ولكنه ارتد حينما علم بأن سانشو ملك نافار يسير لقتاله. وغزا عبد الله في طريقه حصوناً أخرى، وقتل وسبى كثيراً من النصارى. وفي العام التالي (912 م) غزا الطويل أراضي برشلونة ونشبت بينه وبين صاحبها الكونت سنير Sunier معركة هزم فيها الكونت وقتل كثير من أصحابه (¬3)، ولكن الطويل لم يلبث أن قتل في العام التالي (301 هـ - 913 م). والظاهر أنه قتل خلال غزوة أخرى قام بها في قطلونية (¬4)، فخلفه أولاده في حكم أراضيه (¬5). ¬_______ (¬1) نشر العلامة المستشرق ف. كوديرا بحثاً ضمنه سيرة الطويل حسبما تعرضها المصادر اللاتينية والعربية، وذكر فيه تفاصيل شائقة. راجع البحث المذكور في مجلة أكاديمية التاريخ بمدريد: (1900) T.XXXVI (B.R.A.H.) P.316-24 Mohamed Atauil, rey moro de Huesca (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 149 و150. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 152 و153 و154. (¬4) يذكر لنا ابن عذارى تاريخ وفاة الطويل في حوادث سنة 301 هـ. ولكنه لا يقول لنا أين قتل ومن الذي قتله (ج 2 ص 170). (¬5) يذكر لنا الأستاذ كوديرا في بحثه السالف الذكر أسماء أبناء الطويل وهم أربعة من الذكور هم عبد الملك، وعمروس، وفورتونيو، وموسى، وابنة تسمى دونيا بلاسكيتا.

- 3 - وكان عهد الأمير عبد الله يدنو عندئذ من نهايته، ولم تشهد الأندلس منذ عهد عبد الرحمن الداخل فترة كهذه، عمت فيها الفتنة وسرى ضرامها إلى كل ولاية وقاعدة، ولم ينكمش سلطان الدولة الأموية بالأندلس قدر انكماشه في تلك الفترة. وكان على الأمير عبد الله أن يكافح دون هوادة لإنقاذ الدولة والعرش من خطر الانهيار، فقضى حكمه الذي استطال خمسة وعشرين عاماً في سلسلة لا نهاية لها من الفتن والغزوات والمعارك المستمرة، مزقت خلالها أوصال المملكة، واهتزت أسس الدولة إلى الأعماق، ونضبت قواها ومواردها. وبالرغم من أن الأمير عبد الله لم يوفق إلى القضاء على الثورة في سائر النواحي، فإنه استطاع أن يقضي على الخطر الداهم، وأن يمزق شمل الثوار، وأن يستميل نفراً من أخطر زعمائهم، وأن يبسط سلطان العرش من الناحية الإسمية على الأقل، على بعض القواعد الهامة مثل إشبيلية وسرقسطة. وكان لهذه النتائج الأولى أثرها فيما بعد في عهد خلفه عبد الرحمن الناصر، في التمهيد للقضاء على عناصر الثورة، وتوطيد سلطان الدولة والعرش. ويحاول الوزير المؤرخ ابن الخطيب أن يلقي ضوءاً على أسباب ذيوع الثورة في الأندلس في هذا العصر في قوله: " والسبب في كثرة الثوار بالأندلس يومئذ ثلاثة وجوه: الأول، منعة البلاد وحصانة المعاقل، وبأس أهلها بمقاربتهم عدو الدين، فهم شوكة وحدٌّ بخلاف سواهم. والثاني، علو الهمم، وشموخ الأنوف، وقلة الاحتمال لثقل الطاعة، إذ كان من يحصل بالأندلس من العرب والبرابرة، أشرافاً يأنف بعضهم من الإذعان لبعض. والثالث، الاستناد عند الضيقة والاضطرار إلى الجبل الأشم، والمعقل الأعظم من مَلِك النصارى، الحريص على ضرب المسلمين بعضهم ببعض. فكان الأمراء من بني أمية يرون أن اللجاج في أمورهم، يؤدي إلى الأضلولة، وفيها فساد الأموال، وتعذر الجباية، وتعريض الجيوش إلى الانتكاب، وأولياء الدولة إلى القتل. ولا يقوم السرور بغلبة الثائر، بما يوازنه من ترحة هذه الأمور " (¬1). ولم تترك مقارعة الثورة لعبد الله فرصة للقيام بغزوات في أراضي النصارى. ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام (طبع بيروت) ص 36.

وشغلت البعوث والصوائف كلها أعواماً متوالية، بمحاربة الخوارج والثوار في مختلف الأنحاء. ولم يقم النصارى من جانبهم بغزوات ذات شأن في الأراضي الإسلامية. وشغل ألفونسو الثالث ملك ليون (جليقية) الذي خلف أباه أردونيو على العرش في سنة 866 م بتنظيم مملكته وتوطيد حدودها، منتهزاً فرصة الاضطراب الذي ساد المملكة الإسلامية. وكان من أعظم أعماله استيلاؤه على مدينة سمُّورة وهي من أمنع مدن الحدود الشمالية الغربية، وذلك في سنة 280 هـ (893 م) (¬1). وحصن ألفونسو سمورة وأسكنها النصارى، واتخذها قاعدة للإغارة على الأراضي الإسلامية المجاورة ومعظم سكانها من البربر (¬2). ولما اشتدت الفتنة وعمت سائر النواحي، ظهر في أحواز طليطلة وطلبيرة، أحمد بن معاوية المعروف بابن القط، وهو من ولد هشام بن عبد الرحمن، ودعا لنفسه بين البربر في تلك الأنحاء، وزعم أنه المهدي، وكان عالماً ومشعوذاً وافر الذكاء والعزم، فالتفت حوله جموع غفيرة من البربر، وأعلن الجهاد وقصد إلى سمورة لافتتاحها، وكتب إلى ألفونسو رسالة عنيفة يدعوه فيها إلى الإسلام وينذره بالويل إذا أبى. وكان ألفونسو يومئذ في قواته على مقربة من سمورة، فسار إلى لقاء المهدي وقواته، ودارت الموقعة في مخائض نهر دويرة أمام سمورة، فهزم النصارى أولا وارتدوا، وحاصر المهدي سمورة. ولكن حدث عندئذ أن انسحب زعماء البربر في قواتهم خشية من تفوقه عليهم وغدره بهم. وصمد ابن القط فيمن بقى معه، ثم نشبت بينه وبين النصارى موقعة ثانية قاتل فيها ببسالة حتى قتل ومزقت قواته، واحتز رأسه وسمر فوق أحد أبواب سمورة. وكان ذلك في شهر رجب سنة 288 هـ (يوليه سنة 901 م) وبذا انهارت حركته ووطد ألفونسو سيادته في تلك الأنحاء (¬3). وكان ألفونسو الثالث يعمل على انتهاز كل فرصة لإذكاء الفتنة والاضطراب في المملكة الإسلامية، وكان يقصده الثوار وفي مقدمتهم عميدهم ابن حفصون، للتحالف معه ضد حكومة قرطبة؛ واستدعاه أهل طليطلة في أواخر عهد الأمير ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 127. (¬2) المقتبس ص 109. (¬3) راجع تفاصيل حركة ابن القط وموقعة سمورة، في المقتبس ص 133 - 139، وكذلك في ابن الأبار، الحلة السيراء ص 91 - 92؛ والبيان المغرب ج 2 ص 144، ودوزي: Hist.; V.II.p. 132-134.

عبد الله ودفعوا إليه الجزية، واستولى في عودته على بعض الحصون. وكانت هذه أول غزوة للنصارى على ضفاف نهر التاجُه، بيد أنها كانت غزوة عابرة ولم تخلف أثراً ثابتاً. وأما الثغر الأعلى فقد كان بنو قسيّ، وفي مقدمتهم لب بن محمد بن لب، يحاربون ألفونسو ويحاربهم من وقت إلى آخر. وكان من الحوادث البارزة في عهد الأمير عبد الله افتتاح الجزائر الشرقية (جزائر البليار). وقد رأينا فيما تقدم كيف أرسل عبد الرحمن بن الحكم في سنة 234 هـ (848 م) حملة بحرية إلى ميورقة لغزوها، ومعاقبة أهلها على تعرضهم لسفن المسلمين وكيف تعهد أهلها بالجزية والولاء. وفي أواخر عهد الأمير عبد الله في سنة 190 هـ (903 م) سار عصام الخولاني إلى ميورقة في قوة بحرية من المجاهدين، فحاصرها تباعاً، وكان عصام قد حملته الرياح قبل ذلك وهو في طريقه إلى الحج إلى ميورقة فعرفها، واختبر أحوال هذه الجزائر الغنية، وأدرك سهولة فتحها وعرض مشروعه على الأمير عبد الله، فأقره وأمده بالسفن والقطائع. ولما وفق إلى فتحها أقره الأمير على ولايتها. ومن ذلك الحين تدخل الجزائر الشرقية في حظيرة المملكة الإسلامية (¬1). وكان أيضاً من الحوادث البارزة في هذا العهد الحافل بالخطوب والمحن، المجاعة الشديدة التي وقعت في سنة 285 هـ (898 م) والتي قاست الأندلس منها الشدائد والأهوال. - 4 - وتوفي الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن في مستهل ربيع الأول سنة 300 هـ (أكتوبر سنة 912 م) في الثانية والسبعين من عمره، بعد أن حكم خمسة وعشرين عاماً ملؤها الاضطراب والفتن. وكان أميراً ورعاً جم التقشف والتواضع، جواداً محباً للخير، كثير البر بالفقراء وذوي الحاجات، يفرز لهم سهماً من مال الجبايات (¬2)، عالماً أديباً فصيحاً رفيع البيان، ينظم الجيد من الشعر. وكان بالرغم مما شغله، طوال حكمه من الفتن والخطوب، شديد العناية بشئون الحكم وتوطيد أركانه، وتعرف أحوال الشعب ورغباته، وكان من أشد الناس حرصا على ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 164. (¬2) المقتبس ص 33 و34.

إقامة العدل، وقمع الظلم والبغي، وسحق الظلمة. وكان يجلس للفقراء يوماً في كل أسبوع بباب أنشأه عند ركن القصر خصيصاً لذلك وسماه باب العدل، ليقضي في مظالم الناس بنفسه، وليستمع إلى كل ذي حاجة ومظلمة، وأنشا باباً حديدياً يتمكن الناس بواسطته من تقديم شكاويهم وظلاماتهم حتى لا يحرم بذلك ضعيف من مخاطبته (¬1). وكان لصرامته وشدة وطأته على الطغاة وأهل السلطان، أثر كبير في شيوع العدل في عهده، والحد من بغي ذوي الجور والظلم، كما كان لبالغ تقواه وتواضعه، واحتشامه وتقشفه في حياته الخاصة، وفي مظاهره وحياته الملوكية، أثر كبير في تقويم الأخلاق ودعم الفضيلة، والاقتصاد في اللهو والملاذ، في عصر كثرت فيه الخطوب والمحن. وتولى الحجابة في بداية عهد عبد الله، عبد الرحمن بن أمية بن شهيد حاجب أخيه المنذر، ثم تولاها من بعده سعيد بن محمد بن السليم حيناً، ثم عزله عبد الله في أواخر عهده، ولم يول أحداً من بعده لحجابته، واقتصر في تدبير شئون الدولة على الوزراء والكتاب، وبالأخص على بدر الخصي الصقلبي وكان يؤثره ويوليه ثقته (¬2). وكان من حسن الطالع أن استطاع الأمير عبد الله، أن يعتمد في مواجهة الفتنة الغامرة التي أحاقت بعرشه وملك أسرته، على عون نفر من أكابر رجال الحرب والسياسة، الذين أبدوا في معالجة الخطوب مقدرة فائقة. وكان في مقدمة أولئك الرجال بنو عَبْدة وهم من صميم موالي بني أمية. وقد تولى عدة منهم الوزارة والقيادة للأمير عبد الله، ومنهم عبيد الله محمد بن أبي عبدة، الظافر في موقعة بلاي، وأحمد بن محمد بن عيسى بن أبي عبدة، وسلمة بن علي بن أبي عبدة، وقد اضطلع كلاهما بقيادة كثير من الصوائف. وينسب أعظم الفضل إلى هؤلاء القادة في مقارعة الفتنة، وإنقاذ العرش والدولة (¬3). وتولي القيادة والوزارة منهم أيضاً عبد الرحمن بن حمدون بن أبي عبدة، وعبد الله بن محمد بن أبي عبدة ولد القائد الشهير (¬4). وكان من وزراء الأمير عبد الله أيضاً، عبد الملك بن عبد الله ¬_______ (¬1) راجع المقتبس ص 34، والبيان المغرب ج 2 ص 158. وقد استعملت هذه الوسيلة في كثير من العصور لإيقاف الأمير على مظالم رعاياه بطريقة مباشرة. (¬2) ابن حيان في المقتبس ص 4. (¬3) المقتبس ص 29. (¬4) راجع البيان المغرب ج 2 ص 156، و157، وأخبار مجموعة ص 151. وكذلك المقتبس ص 6.

ابن أمية، وقد قتله ولده المطرف أثناء حملة إشبيلية حسبما أسلفنا. والزعيم البربري سليمان بن وانسوس وزير أبيه من قبل، وكان من أقدر وزرائه وأعقلهم، عزله عن الوزارة ثم اضطر لإعادته للإستعانة بخبرته ونصحه (¬1). وكان الأمير عبد الله، إلى جانب هؤلاء الوزراء والقادة، الذين يمثلون العصبية العربية أو البربرية، يعتمد على ولاء الموالي والفتيان، ويقدم الموالي الشاميين على البلديين، أسوة بما رتبه أبوه الأمير محمد، وكان من زعماء الفتيان في بلاطه ريّان صاحب الطراز، وبدر الوصيف وزميله أفلح. وسنرى فيما بعد كيف نما نفوذ أولئك الفتيان في بلاط قرطبة، واستفحل في عهد الناصر حتى غلب على كل نفوذ آخر (¬2). ورزق الأمير عبد الله من الولد إثنا عشر إبناً وثلاثة عشر بنتاً (¬3). ووقعت داخل الأسرة الملكية في عهده عدة حوادث محزنة أسبغت على اسمه وخلاله سحباً قاتمة. من ذلك مصرع ولديه محمد والمطرّف. وكان محمد أكبر أبنائه وولى عهده، وكان أخوه الأصغر مطرف يحقد عليه، ويرى أنه أحق بولاية العهد لما كان والده يحبوه به من ثقته، ويعهد إليه به من جلائل الأمور والغزوات، فما زال يدس في حق أخيه ويغري أباه عليه ويتهمه بممالأة الثوار، والاتصال بابن حفصون، حتى توجس منه أبوه الأمير شراً، وأمر باعتقاله في جناح من القصر. ولما تواترت الأدلة بعد ذلك على براءته، واعتزم عبد الله إطلاق سراحه، بادر مطرف إليه في معتقله، وأثخنه طعاناً حتى أجهز عليه. وهنا تختلف الرواية فيقال إن الأمير عبد الله حزن أشد الحزن لمصرع ولده الأكبر، وهم بقتل أخيه وقاتله مطرف، لولا أن ثناه عن ذلك رجال دولته، ويقال من جهة أخرى إن مطرِّفاً لم يرتكب جريمته إلا بوحي أبيه وموافقته (¬4). وكان مصرع محمد في شوال سنة 277 هـ ¬_______ (¬1) راجع ابن الأبار في الحلة السيراء ص 66 و67. (¬2) راجع الحلة السيراء ص 65، والبيان المغرب ج 2 ص 153. (¬3) يذكر لنا صاحب البيان المغرب أسماء أبناء الأمير عبد الله وبناته (ج 2 ص 156). (¬4) راجع ابن خلدون ج 4 ص 137، والبيان المغرب ج 2 ص 156 و157 و160 و161. ويقول صاحب البيان إن محمداً خرج بالفعل على أبيه، وفر إلى ابن حفصون، ثم عفا عنه أبوه وعاد إليه، حى انتهت وشاية أخيه باعتقاله (ص 154 و155). وذكر ابن الأثير أن الأمير عبد الله قتل ولده محمداً في حد من الحدود (ج 8 ص 24).

(891 م) وهو في السابعة والعشرين من عمره، فتولى أبوه عبد الله كفالة ولده الرضيع عبد الرحمن، وكان قد مضى على مولده ثلاثة أسابيع فقط، وأسكنه معه في قصره، ولما بلغ أشده وظهرت نجابته، عنى بتعليمه وتربيته، وقربه إليه وأولاه ثقته ثم جعله كاتب سره (¬1). وقد شاء القدر أن يخلف الطفل اليتيم فيما بعد جده على العرش، وأن يغدو أعظم خلفاء الأندلس. ولم تذهب جريمة المطرف دون عقاب. ذلك أنه لم تمض بضعة أعوام حتى ساءت العلائق بين مطرف وبين أبيه، ولما سار المطرف على رأس الصائفة إلى إشبيلية في سنة 282 هـ (895 م)، ومعه الوزير عبد الملك بن أمية، وثب المطرف بالوزير لعداوة بينهما وقتله، وأثمر سعي خصوم المطرف هذه المرة، وصُور لأبيه كما صور أخوه من قبل، في صورة الخارج عليه المتربص به، فقضى بإعدامه، وقطع رأسه وبذا كفر عن دم أخيه ودم الوزير (¬2). واستراب عبد الله أيضاً بإخوته، وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما قيل من أن أخاه المنذر توفي قتيلا، وأنه هو الذي أوحى إلى طبيبه بتدبير قتله. وبطش عبد الله بأخوين آخرين له هما هشام والقاسم ابنا محمد بن عبد الرحمن. فأما هشام فاتهم بالتآمر على أخيه، فقبض عليه وقضى بإعدامه (284 هـ). وأما القاسم فقبض عليه وزج إلى السجن، ثم دس عليه عبد الله من قتله بالسم. واعتقل كذلك عدة من أمراء بني أمية وأكابر رجال الدولة، وقتل بعضهم. وقد أسبغت هذه الوقائع الدموية سحابة قاتمة على خلال الأمير عبد الله وسيرته، ولم ينجح في محوها ورعه وزهده وحبه للخير. وقد نعى عليه الفيلسوف ابن حزم هذا الإسراف في البطش في أقوال استشهد بها ابن حيان وغيره من مؤرخي الأندلس، وجاء فيها أن الأمير عبد الله " كان قتالا تهون عليه الدماء، مع الذي كان يظهره من عفته، فإنه احتال على أخيه المنذر على إيثاره إياه، وأوطأ عليه حجامه بأن سم له المبضع الذي فصده به وهو نازل بعسكره على ابن حفصون، فكانت فيه منيته وتطوق دمه. ثم قتل ولديه معاً بالسيف واحداً بعد آخر، محمداً والد الخليفة الناصر لدين الله، ¬_______ (¬1) المقتبس ص 40. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 137.

وأخاه عدوه المطرف؛ ثم قتل أخوين له معاً أيضاً، قتل هشاماً بالسيف، والقاسم أخاه بالسم، إلى من قتله غيرهم " (¬1). وتجمل الرواية خلال الأمير عبد الله وصفاته في العبارات الآتية: " وكانوا يعدونه من أصلح خلفاء بني أمية بالأندلس، وأمثلهم طريقة، وأتمهم معرفة، وأمتنهم ديانة، لكنه كان منغص الحال بدوام الفتنة، وتضييق نطاق الخطة، ونقصان مقدار التزكية، حتى كان يتخلله الرياء تحت قناع تقواه، والبخل يطوقه طبيعة ليست له تحط من قدره " (¬2) ويزيد ابن حيان على ذلك قوله: " وغمصوا دينه بما كان من هون الدماء عليه، وإسراعه إلى سفكها، حتى من ولديه وإخوته ومن خلفهما من صحابته ورعيته، أخذاً لأكثرهم بالظنة، مقوياً في إيثامهم بالشبهة " (¬3). وكان للأمير عبد الله بالرغم من هذا الجانب المظلم، خلال مشرقة، منها أدبه وفصاحته وشاعريته. وتنوه الرواية بهذه الموهبة فيقول لنا صاحب أخبار مجموعة، إن الأمير عبد الله كانت له توقيعات بليغة، وأشعار بديعة في الغزل والزهد، لا يكاد أن يقع مثلها أو تنسب إلى من تقدْمه نظيرها (¬4). ويقول ابن حيان " كان متصرفاً في فنون، متحققاً منها بلسان العرب، بصيراً بلغاتها وأيامها، حافظاً للغريب من الأخبار، آخذاً من الشعر بحظ وافر " (¬5). ويقول صاحب البيان المغرب إنه كان شاعراً مطبوعاً له أشعار حسان (¬6)، ومن شعره في الغزل قوله: يا مهجة المشتاق ما أوجعك ... ويا أسير الحب ما أخشعك ويا رسول العين من لحظها ... بالرد والتبليغ ما أسرعك تذهب بالسر فتأتي به ... في مجلس يخفى على من معك ¬_______ (¬1) راجع نقط العروس لابن حزم ص 87 و79، والمقتبس ص 41، وكذلك ص 122، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 69، والبيان المغرب ج 2 ص 160 و161. (¬2) ابن حيان، نقلا عن عيسى بن أحمد الرازي، في المقتبس ص 33، والبيان المغرب ج 2 ص 160. (¬3) المقتبس ص 39. (¬4) أخبار مجموعة ص 152. (¬5) المقتبس ص 34. (¬6) البيان المغرب ج 2 ص 159.

كم حاجة أنجزت إبرازها ... تبارك الرحمن ما أطوعك وقوله: ويحى على شادن كحيل ... في مثله يخلع العذار كأنما وجنتاه ورد ... خالصة النور والبهار قضيب بان إذا تثنى ... يدير طرفاً به أحوار فصفو ودى عليه وقف ... ما اطّرد لليل والنهار ومن قوله في الزهد: يا من يراوغه الأجل ... حتى م يلهيك الأمل حتى م لا تخشى الردى ... وكأنه بك قد نزل أغفلت عن طلب النجاة ... ولا نجاة لمن غفل هيهات يشغلك المنى ... ولا يدوم لك الشغل فكأن يومك لم يكن ... وكأن نعيك قد نزل وكان يؤثر مجالس العلماء والشعراء، ويعظمهم ويقربهم ويستدعيهم، ويرتاح لمديحهم. قال ابن حيان: " وكان مجلس الأمير عبد الله قبل الخلافة وبعدها، أعمر مجالس للفضائل، وأنزهها من الرذائل، وأجمعها لطبقات أهل الآداب والتعالم ". وكان في مقدمة أصدقائه وجلاسه زعيم شعراء العصر، أبو عمر أحمد ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد؛ وكان شاعر الدولة الأموية، ومادح أمرائها منذ الأمير محمد حتى الناصر؛ وموسى بن محمد بن حُدير المعروف بالزهد؛ وسعيد بن عمرو العكي؛ وعبيد الله بن يحيى بن إدريس الخالدي، وسعيد ابن عبد ربه ابن أخي صاحب العقد؛ وكلهم من أكابر الشعراء والكتاب. وكان من أخص وزرائه في تلك المجالس العلمية، الوزيران العالمان الأديبان عبد الملك بن جَهور، وعبد الملك بن شُهيد. وكان من عادته أن يلجأ إلى العلماء وأهل الرأي في المشورة، ويستعين بآرائهم وأحكامهم فيما يواجه من أحداث وخطوب، وكان بقيّ بن مخلد فقيه العصر وأعظم علمائه أكثرهم حظوة لديه، وكان يبجله ويزوره في داره، ويقتبس منه، ويستمع لنصحه (¬1). ¬_______ (¬1) المقتبس ص 34 و38 و41 و42.

ولم يتسع عهد الأمير عبد الله الفياض بالثورات والفتن للأعمال الإنشائية، بيد أنه يمكن أن نذكر من منشآته القليلة " الساباط " الموصل بين القصر والمسجد الجامع، وهو عبارة عن ممر مسقوف مبني فوق عقد كبير يفضي من القصر إلى الجامع، ويتصل به على مقربة من المحراب. وكان الأمير عبد الله بن محمد، أبيض، أصهب، مشرباً بحمرة، أزرق العينين، أقنى الأنف، يخضب بالسواد، إلى الطول أميل (¬1). ووصفه ابن حيان بقوله: " كان جميل الطلعة، ضخماً، مهيباً، نبيلاً " (¬2). ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 8 ص 34، والبيان المغرب ج 2 ص 155. (¬2) المقتبس ص 36.

الفصل الخامس المملكة الإسبانية النصرانية

الفصل الخامس المملكة الإسبانية النصرانية خلال القرن التاسع الميلادي ألفونسو الثاني ملك جليقية. النضال بين الأندلس وبين المملكة النصرانية. موقعة الصخرة. غزو ألفونسو للأراضي الإسلامية. غزو الحكم لجليقية. غزو المسلمين لألبة والقلاع. راميرو الأول. الحرب الأهلية في جليقية. غزو محمد بن عبد الرحمن لجليقية. وفاة راميرو وولاية ولده أردونيو. تحالف أردونيو مع الثوار المسلمين. غزو الأمير محمد لألبة والقلاع. التحالف بين موسى بن موسى وملك نافار. الحرب بين أردونيو وبني قسي. هزيمة موسى ومصرعه. تحالف لب بن موسى مع أردونيو. غزو أردونيو لأراضي المسلمين. غزوة المنذر بن محمد لنافار. غزوات أخرى لألبة والقلاع. وفاة أردونيو وولاية ولده ألفونسو الثالث. الحرب الأهلية في جليقية. اتساع المملكة النصرانية في عهد ألفونسو الثالث. توغله في أراضي المسلمين. عقد السلم بينه وبين محمد بن عبد الرحمن. أحوال المملكة النصرانية. نفوذ الكنيسة في توجيه العرش الإسباني. معارك بين المسلمين والنصارى. الثورة ضد ألفونسو. نزوله عن العرش. وفاته وخلاله. مملكة نافار. أصلها ونشأتها. مدافعة البشكنس عن استقلالهم. تحالف نافار مع بني قسي. المصاهرة بين الأسرتين. التنافر بين نافار وليون. سانشو ملك نافار. الحرب بين سانشو وبني قسي. - 1 - تحدثنا فيما تقدم عن نشأة المملكة الإسبانية النصرانية عقب افتتاح المسلمين لاسبانيا، كيف نمت هذه المملكة الوليدة المحتجبة فيما وراء الجبال الشمالية، بخطوات بطيئة ولكن ثابتة، وكيف شغل عنها ولاة الأندلس فلم ينهضوا لسحقها، انتقاصاً لشأنها وخطرها، حتى غدت في أواخر القرن الثامن عاملا يحسب حسابه، وبدأت حكومة قرطبة تنظر إلى هذه القوة الجديدة التي توالت غزواتها للأراضي ْالإسلامية بعين الاهتمام والتوجس، وتخصص لمقارعتها شطراً كبيراً من جهودها ومواردها. وقد انتهينا في أخبار هذه الحقبة من تاريخ المملكة الإسبانية النصرانية، إلى عصر ألفونسو الثاني الملقب بالعفيف، الذي تولى الملك سنة 791 م (175 هـ).

وكان ألفونسو الثاني ملكاً حازماً مقداماً، فضبط المملكة ونهض بها نهضة شاملة، وحصن ثغورها وقواعدها، وعمل على تحسين شئونها الاجتماعية، وجعل عاصمتها مدينة "أوبييدو" Oviedo. وكانت مملكة جليقية أو مملكة أشتوريش (أستورياس) كما كانت تسمى يومئذ، تمتد من ولاية بسكونية شرقاً إلى المحيط غرباً، ومن خليج بسكونية شمالاً حتى نهر دويرة جنوباً، ولكنها لم تكن عندئذ كما كانت أيام ألفونسو الكاثوليكي تشمل ولاية نافار أو بلاد البشكنس، التي استطاعت أن تستقل بنفسها، وقامت بها غير بعيد مملكة نصرانية مستقلة أخرى. واستطال حكم ألفونسو الثاني زهاء نصف قرن. عاصر فيه ثلاثة من أمراء الأندلس، هم هشام بن عبد الرحمن، وولده الحكم، وحفيده عبد الرحمن، وتوالت فيه مراحل النضال بين الأندلس والمملكة النصرانية، فنشبت الحرب بينهما مراراً عدة، وتبادلا الغزو كلٌّ لأراضي الآخر مراراً؛ وكانت أهم الأحداث البارزة في حلقات هذا النضال، هزيمة الجلالقة والبشكنس بقيادة ألفونسو الثاني على يد المسلمين في موقعة الصخرة في قاصية جليقية في سنة 795 م (179 هـ). وفي سنة 810 م (193 هـ) في عهد الحكم بن هشام عبر ألفونسو الثاني بقواته نهر دويرة، وغزا الأراضي الإسلامية، وتوغل في سيره حتى قُلُمرية وأشبونة، وعاث في تلك الأنحاء أيما عيث، ورد الحكم على ذلك بنفسه في صيف العام التالي غازياً إلى جليقية، وتوغل في منطقة وادي الحجارة، وأثخن في تلك الأنحاء عقاباً للنصارى وزجراً لهم على عدوانهم. وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم سارت الجيوش الأندلسية، بقيادة الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث في سنة 823 م (208 هـ)، غازية إلى ألبة والقلاع، على أثر غزو ألفونسو الثاني للثغر الأعلى، وإغارته على مدينة سالم، وهزم المسلمون النصارى في عدة مواقع، وعاثوا في أراضي جليقية، وخربوا مدينة ليون، وأملوا على النصارى صلحاً شديداً قاسياً (¬1). ولما توفي ألفونسو الثاني في سنة 842 م، خلفه على العرش ولده راميرو الأول أو رذمير كما تسميه الرواية الإسلامية. على أنه لم يخلفه دون نضال. ذلك أن ¬_______ (¬1) راجع في تفاصيل الحروب والغزوات المتقدمة " دولة الإسلام في الأندلس " الفصل السابع من القسم الأول من الكتاب الثاني ص 208 وما بعدها، وكذلك المراجع.

راميرو حينما توفي أبوه كان في ولاية بردوليا الشرقية، التي عرفت فيما بعد بقشتالة (كاستيليا) Castilla نظراً لكثرة قلاعها، يرقب حركات المسلمين. وكان عبد الرحمن بن الحكم يقوم عندئذ بغزوته الكبرى في الثغر الأعلى، ويثخن في بلاد البشكنس، وكان ألفونسو يخشى أن يتدفق هذا السيل المخرب إلى أحواز جليقية، ولكن عبد الرحمن ارتد إلى قرطبة بعد أن غزا بنبلونة، وخربها، وسحق البشكنس وحلفاءهم ثوار الثغر الأعلى. وتوفي ألفونسو بعد ذلك بقليل؛ فوثب في أوبييدو زعيم من الأشراف يدعى الكونت ريوتيانوس واستولى على العرش؛ وعلم راميرو بذلك وهو في بردوليا فهرع إلى جليقية، وجمع جيشاً في مدينة " لك " وسار الى أشتوريش ليقاتل المغتصب. ولقيه ريوتيانوس في قواته على ضفاف نهر نارسياس، وما كادت المعركة تضطرم بين الفريقين، حتى هجر ريوتيانوس معظم جنده، وهزم هزيمة شديدة، وقبض عليه، وسملت عيناه، واعتقل بقية حياته في أحد الأديار؛ واسترد راميرو عرشه، وأطاعته سائر جليقية وأشتوريش. ولكن علاقة العرش بالأشراف لبثت على توترها، ولم تمض أعوام قلائل حتى دبر الأشراف ثورة جديدة ضد راميرو (845 م). ثم تلتها في سنة 848 م ثورة أخرى، واستطاع راميرو في كل مرة أن يخمد الثورة، وقبض على معظم الزعماء والخوارج وأعدم الكثير منهم. ومما تجدر ملاحظته بهذه المناسبة أن حكومة قرطبة كانت في معاملتها للزعماء الخوارج عليها، تبدو أكثر اعتدالاً وتسامحاً. فقد كانت تعفو أحياناً عن الثوار، وكانت تؤثر اصطناع القادرين والأكفاء منهم، وكانت في عقابهم أقل قسوة ونكالاً. وقد يرجع ذلك إلى ظروف الأحوال في الأندلس، فقد كانت الثورات شعبية أو قبلية على الأغلب. أما في جليقية فكان زعماء الثورة من الأشراف والزعماء الإقطاعيين الأقوياء، وكان خطرهم على العرش أشد وأدعى إلى التوجس والحذر (¬1). وشغلت المملكة النصرانية في بداية عهد راميرو، كما شغلت المملكة الإسلامية، برد خطر النورمانيين الذين فاجأوا الأندلس بغارتهم المخربة في سنة 842 م حسبما ¬_______ (¬1) Aschbach: Geschichte der Omajaden In Spanien, B.I.s. 253.

أسلفنا. وشغلت حكومة قرطبة بالأخص حيناً بتحصين أطراف المملكة، وإصلاح ما تخرب من أعمالها. وما كاد أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم ينتهي من ذلك، حتى نشط إلى استئناف غزو المملكة النصرانية ورد غارات النصارى، فسير ولده محمداً في سنة 847 م إلى جليقية فاخترق بسائطها، وحاصر مدينة ليون، وعاث في تلك المنطقة. وتقول بعض الروايات النصرانية، إن المسلمين التقوا براميرو على مقربة من مدينة سالم، وهزموه هزيمة شديدة، واستولوا على عدد من الحصون، وعلى كثير من الغنائم والأسرى. وفي رواية أخرى أن راميرو التقى بالمسلمين على مقربة من كلافينجو بجوار قلهرّة، وأنه هزمهم بالرغم من قلة جنده، وتنسب هذا النصر إلى خرافة خلاصتها أن راميرو رأى القديس ياقب في نومه ليلة المعركة ووعده بالنصر (¬1). على أن الروايات الإسلامية لا تذكر شيئاً من هذه الموقعة وهذا النصر المزعوم. وأنفق راميرو بقية عهده القصير في العمل على تنظيم شئون مملكته وتوطيد الأمن فيها، وأنشأ عدداً من الكنائس والأديار، ثم توفي في ديسمبر سنة 850 م بعد حكم دام نحو ثمانية أعوام، تاركاً عرش أشتوريش وبردوليا لولده أردونيو. - 2 - وتولى أردونيو عرش المملكة النصرانية عقب وفاة أبيه بقليل، وبدأ أعماله بتحصين المدن المتاخمة لحدود المسلمين، مثل تودة وليون وأسترقة، وأصلح باقي القلاع والحصون تأهباً للدفاع، وأخمد الثورة في ولاية بسكونية، وفرض عليها سلطانه. ولما ظهرت أعراض ثورة المولدين في الأندلس في بداية عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن، وقامت طليطلة بثورتها على حكومة قرطبة، أرسل أردونيو مدداً إلى الثوار، ولكن جيش الأندلس هزم الثوار وحلفاءهم النصارى في موقعة وادي سليط شر هزيمة (854 م). وفي العام التالي غزا الأمير محمد ألبة والقلاع وعاث فيها، ولكن الأندلس شغلت بعد ذلك بظهور النورمانيين وغزوهم لثغور الأندلس وبسائطها القريبة، فوقف سير الصوائف إلى الشمال بضعة أعوام. ولكن أردونيو كان يواجه عندئذ خطر قوة جديدة، أخذت تنمو وتشتد في الولايات الشمالية. ذلك أن موسى بن موسى بن قسيّ، استطاع أن يبسط سلطانه ¬_______ (¬1) Aschbach: ibid , B.I.s. 259.

على الثغر الأعلى؛ وأن ينشىء فيه إمارة مستقلة قوية، واقترن غرسية أمير نافار بابنة موسى وتحالف معه، ليستعين به على مقاومة المسلمين، ومقاومة جيرانه النصارى من الغرب. وفي أوائل عهد الأمير محمد، عبر موسى جبال البرنيه بقواته، وغزا جنوبي فرنسا، واضطر ملكها شارل الأصلع إلى مهادنته ومسالمته، وأغدق عليه الهدايا والتحف. ولما رأى أردونيو نهوض قوة موسى وخطرها عليه، اضطر أن يسعى إلى محالفته، ولكنه ما لبث أن تركه مغضباً إذ كان موسى يؤازر البشكنس الثائرين عليه بتحريض صهره أمير نافار، ولم ير أردونيو في النهاية بداً من مخاصمة موسى ومحاربته، وهاجم أردونيو بعض الحصون الغربية التابعة لموسى، فسار موسى لقتاله ومعه صهره غرسية ملك نافار في قواته، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة هزم فيها موسى وجرح وقتل صهره غرسية. ثم توفي موسى متأثراً بجراحه (862 م). وكانت ضربة شديدة أصابت سلطان بني قسيّ في الشمال. ولما شعر لب بن موسى عقب وفاة أبيه بقوة المملكة النصرانية، وخطرها، على سلطان أسرته، سعى إلى مهادنة أردونيو ومحالفته على قتال المسلمين، وردهم عن الولايات الشمالية. وانتهز أردونيو فرصة اشتغال حكومة قرطبة بأمر النواحي الثائرة، فعبر نهر دويرة بقواته، وغزا مدينة قورية وأسر واليها، ثم غزا شلمنقة، وهزم المسلمين، وعاث في تلك الأنحاء (¬1). فسير محمد جيشاً إلى الشمال بقيادة ولده المنذر، فاخترق ألبة والقلاع، وهزم النصارى في كل موطن، ووصل إلى بنبلونة، وعاث في نواحيها. وتوالت حملات الأندلس بعد ذلك على ألبة والقلاع، ونشبت بين المسلمين وأردونيو معارك متعاقبة، هزم فيها النصارى جميعاً حسبما فصلنا ذلك في موضعه (¬2). وأراد محمد أن يقضي نهائياً على مملكة جليقية فسير السفن إلى المياه الغربية لغزوها من البحر، ووصل الأسطول الأندلسي بالفعل إلى مصب نهر منهو، ولكن العواصف ثارت وحطمت السفن، وفشل المشروع في المهد (866 م). ولزم أردونيو عقب هزائمه المتوالية السكينة بقية عهده، ثم توفي في شهر مايو ¬_______ (¬1) Cronica General (Ed.Pidal) Vol.II.p. 366. (¬2) راجع تفاصيل هذه المعارك في أخبار أمير الأندلس محمد بن عبد الرحمن (ص 294 - 299 وص 311).

سنة 866 م، واختار قبيل وفاته ولده البكر ألفونسو لولاية عهده، فخلفه على العرش باسم ألفونسو الثالث ولما يبلغ الرابعة عشر من عمره. - 3 - وما كاد الملك الفتى يجلس على العرش، حتى ثار عليه الكونت فرويلا حاكم ولاية جليقية وولد الملك برمند، مطالباً بالعرش، وسار في قواته إلى أوبييدو، ففر ألفونسو إلى ولاية ألبة، واستولى فرويلا على القصر، وأعلن نفسه ملكاً. ولكن الأشراف القوط الذين يرون في العرش رمزهم وملاذهم، لم يرقهم هذا الاغتصاب، فثاروا على فرويلا وقاتلوه حتى قتل، وعاد ألفونسو إلى أوبييدو ظافراً واسترد عرشه. ولم يمض قليل على ذلك حتى دبر أخوة ألفونسو، وهم فرويلا ونونيو وبرمند وأدفاريوس مؤامرة لعزله وانتزاع العرش منه، ولكن المؤامرة افتضحت قبل نضجها، وقبض ألفونسو على أخوته وعاقبهم بسمل أعينهم واعتقالهم، ولم ينج من بطشه سوى برمند إذ فر إلى أسترقة واستولى عليها، واستطاع بمؤازرة المسلمين أن يستقل بحكمها بضعة أعوام (¬1). وكان حكم ألفونسو الثالث الذي استطال أربعة وأربعين عاماً، فاتحة عهد جديد من القوة والنهوض بالنسبة للمملكة النصرانية، وكان ألفونسو أميراً وافر العزم والكفاية، فاستطاع خلال حكمه الطويل بالحروب والزواج أن يدفع حدود مملكته حتى جبال البرنيه شرقاً؛ وعبر نهر دويرة إلى أراضي المسلمين مراراً، ووصل في غزواته إلى ضفاف التاجُه، وغزا عدة من المدن الإسلامية المتاخمة مثل ماردة وقلمرية وبازو وقورية وشلمنقة؛ ومع أنه لم يستطع أن يضم هذا البسيط إلى مملكته، فانه استطاع أن يشدد الضغط على الأندلس من هذه الناحية، وأن يرد تيار الغزوات الإسلامية. وفي سنة 878 م حاول المسلمين غزو ليون وأسترقة، ْفبادر ألفونسو إلى لقائهم، وهزمهم في موقعتين على مقربة من سمورة، وأرغم أخاه برمند على الفرار من أسترقه، والالتجاء إلى المسلمين. وفي سنة 881 م غزا ألفونسو أراضي المسلمين وعبر دويرة والتاجه، ووصل في زحفه حتى أحواز ماردة ووادي أنة، وهو مدى لم يبلغه أحد من أسلافه. وتقول الرواية النصرانية ¬_______ (¬1) Cronica General: ibid.Vol.II.p. 367- Aschbach: ibid.B.I.s. 301.

أنه التقى بالمسلمين عند سفح جبل أريفر من جبال سيرّا مورينا (جبل الشارّات) وهزمهم وقتل منهم عدة آلاف وهي موقعة لم تشر إليها الروايات الإسلامية (¬1). وكانت ريح الثورة تهب يومئذ على معظم جنبات الأندلس، وتشغل حكومة قرطبة بمقارعة بني قسي في الثغر الأعلى. وتحالف محمد بن لب زعيم الأسرة الثائرة مع ألفونسو الثالث، ليستعين به على قتال المسلمين، ولكن المسلمين نجحوا في انتزاع سرقسطة معقل ابن لب، وزحفوا على ألبة لمقاتلة النصارى، وعندئذ آثر ألفونسو أن يعقد السلم مع المسلمين، وعقدت بالفعل بينه وبين الأمير محمد بن عبد الرحمن حسبما فصلنا من قبل، معاهدة صلح استمرت ردحاً طويلاً. ذلك أن ملك النصارى رأى بالرغم مما كان يشغل حكومة قرطبة من ثورات متعاقبة، أن يقنع بتأمين حدوده وأراضيه من خطر الغزو الإسلامي، وأن يتفرغ لشئون مملكته الداخلية، وكانت هذه الشئون تستغرق جل اهتمامه، وكانت الأزمات والقلاقل السياسية والاجتماعية تتعاقب، لأسباب وبواعث تتعلق بنظم المجتمع النصراني وظروفه. وقد وقعت في عهد ألفونسو عدة ثورات محلية ترجع بالأخص إلى المبالغة في فرض الضرائب على الضياع، وثار أصحاب الضياع لهذا الجور غير مرة في أنحاء مختلفة، وطالبوا بالحد من تغريمهم على هذا النحو لصالح الكنيسة ورجال الدين، ولكن هذه الثورات الإقطاعية أخمدت تباعا، وصودرت معظم الضياع لصالح الكنيسة، واستمر العرش في الإغداق على الأديار ورجال الدين. ومما تجدر ملاحظته أن الملوكية الإسبانية، كانت تدين منذ نشأتها بمنتهي الولاء والطاعة للكنيسة والكرسي الرسولي. وكانت البابوية تتمتع في توجيهها بأعظم نفوذ. وكان العرش الإسباني يشعر دائماً بأنه يستمد سلطانه من الكنيسة، ويرجع إلى البابوية في كل أمر يمس شئون السلطة الروحية. ومن ذلك أن ألفونسو الثالث كتب إلى البابا يوحنا الثامن يستأذنه في عقد المؤتمر الكهنوتي وتعيين الأساقفة، فأذن له، وطلب إليه أن يبعث بفرقة من الفرسان للمعاونة في محاربة المسلمين في صقلية وجنوب إيطاليا. وعقد المؤتمر الكهنوتي بالفعل في أوبييدو سنة 871 م ونظمت فيه شئون الكنيسة الإسبانية. وكان ألفونسو الثالث ملكاً تقياً ورعاً، وكانت ¬_______ (¬1) Aschbach: ibid , B.I.s. 303.

الكنيسة ورجال الدين يحظون منه بأوفر قسط من الرعاية والإغداق، وكان هذا الجود المغرق يحمله على الإسراف في فرض الضرائب على الطوائف المدنية، وبذا يبث إليها بذور السخط والانتقاض (¬1). وفي أواخر عهد ألفونسو نشبت الحرب بينه وبين بني قسي سادة الثغر الأعلى، وأغار زعيمهم محمد بن لب غير مرة على أراضي المملكة النصرانية ونافار. وكذلك نشبت الحرب بين ألفونسو وبين ابن القط المعروف بالمهدي الذي تزعم البربر في منطقة سمورة حسبما فصلنا ذلك في موضعه. ولكن هذه المعارك التي وقعت يومئذ بين المسلمين والنصارى لم تتسم بالطابع الرسمي، وكان يضطلع بها الزعماء الخوارج على حكومة قرطبة، ومن ثم فقد استمر التهادن بين حكومة قرطبة وبين المملكة النصرانية طوال عهد الأمير محمد، فإبنه الأمير المنذر، ثم أخيه الأمير عبد الله. وبالرغم من أن ألفونسو لم يكن يترك فرصة لإذكاء الفتنة في المملكة الإسلامية وتعضيد الخوارج عليها، فإنه التزم عهده المعقود معها، ولم يقم بغزوات ذات شأن في الأراضي الخاضعة لها. ودبرت عدة مؤامرات لخلع ألفونسو وانتزاع العرش منه. وكان المتآمرون من خاصة أسرته. وحاول المتآمرون لأول مرة تمكين أولاده وزوجه خمينا من الحكم، ولكن ألفونسو استطاع أن يقف على المؤامرة وأن يقضي عليها. وقبض على ولده غرسية واعتقله في قلعة أوبييدو. ولكن هذا الفشل لم يفت في عضد المتآمرين، فدبروا مؤامرة جديدة برياسة الملكة خمينا، وهي امرأة ذات أطماع تهيم بالسلطان، واشترك في تدبيرها الكونت نونيو صاحب برغش وأولاد الملك الثلاثة وهم: أردونيو وفرويلا وجند سالفوس، وانضم إليهم قسم من الجيش وفريق كبير من الشعب، وسيطروا على كثير من المعاقل. وخشى ألفونسو عاقبة الحرب الأهلية فقبل شروط الثوار، ونزل عن العرش لولده الأكبر غرسية، وعين أردونيو حاكماً لجليقية، وفرويلا حاكما لأشتوريش، ووقع ذلك في سنة 910 م، وبذا اختتم ألفونسو عهده الذي استطال أربعة وأربعين عاماً. ولم يمض قليل على ذلك حتى توفي في شهر اكتوبر من نفس العام وقد جاوز الثامنة والخمسين من عمره (¬2). ¬_______ (¬1) Aschbach: ibid, B.I.s. 345 & 352 (¬2) Cronica General: ibid, Vol. II. p. 382

وتشيد الرواية بخلال ألفونسو الثالث، وتصفه بالحزم والشجاعة، وتقول لنا إنه كان خصماً عنيداً للمسلمين شديد الوطأة في محاربتهم، ولكنه حينما عقد السلم مع حكومة قرطبة احترم عهده والتزم الوفاء به. وكان ألفونسو في الوقت نفسه نصيراً للآداب والعلوم يجزل صلاته لأهل العلم، وكان من سعة أفقه أن عهد بتربية ولده أردونيو إلى بعض العلماء المسلمين (¬1)، وكان حسبما أسلفنا تقياً ورعاً يخص الكنيسة بأوفر رعايته وعطائه، وقد أنشأ كثيراً من الكنائس والأديار، وابتنى كنيسة شنت ياقب الشهيرة. وقد رأينا كيف حمله إسرافه في الإغداق على الكنيسة ورجال الدين، على المبالغة في فرض الضرائب على الضياع، فكان ذلك من عوامل الإنتقاض والثورة على سياسته، وبذل ألفونسو جهوداً كبيرة في تحصين مدن الحدود، وفي مقدمتها برغش وسمورة وسيمانقة (شنت منكش)، وزودها بالسكان والجند، لكي تغدو سداً منيعاً ضد غزوات المسلمين. ومنذ وفاة ألفونسو تسمى المملكة الإسبانية النصرانية مملكة ليون، بعد أن كانت تسمى مملكة أشتوريش وجلِّيقية؛ وقد نقل ابنه وخلفه غرسية قاعدة المملكة من أوبييدو إلى مدينة ليون لتوسط موقعها بين جلِّيقية وأشتوريش؛ وتسبغ الرواية النصرانية على ألفونسو الثالث لقب (ألفونسو الكبير) El magno، لما امتازت به المملكة النصرانية في عهده من القوة والنهوض والاتساع، وماتمتعت به خلال عهده الطويل من السلم والرخاء. - 4 - إلى جانب مملكة أشتوريش أو مملكة ليون الإسبانية الشمالية، كانت تقوم في غربي البرنيه في بلاد البشكنس الجبلية، إمارة أو مملكة نصرانية أخرى هي مملكة نافار (نبرّة). ويحيط الغموض بأصل هذه المملكة الصغيرة ونشأتها. وكل ما نعرفه من ذلك هو أن قبائل البشكنس، كانت حتى أواخر القرن الثامن الميلادي تخضع لبعض السادة الإقطاعيين التابعين لمملكة الفرنج، وربما حكمها دوقات كانتابريا أو أمراء أشتوريش. وكانت قاعدتهم مدينة بنبلونة الحصينة، التي حكمها المسلمون ردحاً من الزمن، ثم فقدوها في أواخر القرن الثامن أيام غزوات الفرنج لاسبانيا الشمالية. وكانت بلاد البشكنس أو نافار منذ الفتح ميداناً للغزوات ¬_______ (¬1) Aschbach: ibid , B.I.s. 352

الإسلامية والفرنجية. وقد حاول أمراء جليقية غزوها غير مرة، وضمها إلى المملكة النصرانية. ولكن قبائل البشكنس كانت تتفانى دائما في الذود عن استقلالها. ولما شغلت المملكة النصرانية بمنازعاتها الداخلية، لبثت نافار مدى حين مقصد الصوائف الإسلامية، واجتاحها المسلمون مراراً. وفي نهاية القرن الثامن الميلادي في نحو سنة 799 م، ظهر في نافار زعيم من السادة يدعى أزوار وجعل نفسه أميراً مستقلاً. ولما توفي سنة 836 م خلفه أخوه سانشو. ولكن أميراً آخر من الزعماء البشكنس هو غرسية إنيجيز بن إنيجو أريستا تغلب عليه وانتزع منه الإمارة. وتعرف الرواية الإسلامية إنيجو أريستا هذا وتسميه " ونقه بن شانجه ملك البشاكسة " (¬1). وهنا تبدو نافار لأول مرة في صورة المملكة المستقلة، ويبدأ ثبت ملوكها المتعاقبين. ومما يجدر ذكره أن مملكة نافار الناشئة، رأت أن ترتبط برباط التحالف والمصاهرة مع إمارة إسلامية مجاورة هي إمارة بني قسي سادة الثغر الأعلى، وهم حسبما قدمنا يرجعون إلى أصل نصراني أو قوطي. وقد تزوج إنيجو أريستا رأس الأسرة النافارية بأرملة موسى بن فرتون ابن قسي، وتزوج موسى بن موسى من إبنة غرسية إنيجيز، وتزوج غرسية وإخوته من بنات لب بن موسى بن فرتون، وتزوج بعض إخوة موسى وأبنائه من بنات أمراء نافار (¬2). وهكذا كانت وشائج التحالف والمصاهرة تربط بين الأسرتين المسلمة والنصرانية، وتوثقت هذه الوشائج واستطالت دهراً. وكذلك رأى غرسية إنيجيز أن يتحالف مع عمر بن حفصون زعيم الفتنة في الأندلس. وكانت علائق نافار بجارتها المملكة النصرانية الكبيرة أو مملكة ليون يشوبها الكدر. ذلك أن مملكة نافار الصغيرة كانت دائماً تخشى مطامع ليون وغدرها، وقد حارب غرسية إنيجيز أردونيو ملك ليون، إلى جانب صهره موسى بن موسى، في موقعة البلدة وقتل سنة 862 م حسبما أسلفنا. وخلف غرسية ولده فرتون الذي لبث أسيراً في قرطبة ردحاً طويلاً. ثم خلفه ولده سانشو غرسية. وفي رواية أن سانشو هذا لم يكن ولداً لفرتون أو لغرسية ¬_______ (¬1) راجع جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 468. (¬2) جمهرة أنساب العرب ص 468.

ولم يكن من أمراء البيت المالك، ولكنه متغلب من نوع آخر انتزع الملك لنفسه. وعلى أي حال فقد استقر سانشو غرسية ملكاً على نافار. وهو أول من تلقب من أمراء نافار بألقاب الملك، وبه تبدأ مملكة نافار الحقيقية. وقد حكم سانشو حتى سنة 926 م، وخاض مع المسلمين أيام الأمير عبد الله عدة حروب ووقائع، وشغل حيناً بقتال بني قسي الذين تصرمت علائقهم مع مملكة نافار، وهاجم لب ابن محمد بن لب زعيم بني قسي نافار غير مرة، ونشبت بينه وبين سانشو على مقربة من بنبلونة وقائع متوالية انتهت بهزيمة لب ومقتله في سنة 907 م، فخلفه أخوه عبد الله في رياسة تطيلة وما جاورها، واستمر في محاربة نافار وهزم سانشو في سنة 911 م، وتقول الرواية الإسلامية إن شانجه بن غرسية البشكنسي صاحب بنبلونه أعني سانشو غرسية، غزا مدينة تطيلة في سنة 303 هـ (914 م)، فقتل كثيراً من المسلمين، وأسر أميرها عبد الله بن محمد بن لب بن موسى القسوي. فدخلها أخوه مطرِّف بن محمد في اليوم التالي، وقام مكان أخيه. وقد كان عبد الله وأخوه مطرف من أبطال الثغر الأعلى، وكانت لهما غزوات عديدة مظفرة في أراضي النصارى (¬1). وشغل سانشو أيضا بقتال الطويل وغيره من زعماء الثغر الأعلى حسبما فصلنا ذلك في موضعه. وسنعرض في فصل قادم إلى حروبه مع عبد الرحمن الناصر. ¬_______ (¬1) المقتبس لابن حيان - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية بالرباط لوحة 61 أ، وهو الذي أشرنا في مقدمة الكتاب إلى اكتشافه بين محفوظات الخزانة الملكية.

دولة الإسلام في الأندلس الخلافة الأمَوِيّة والدّوْلة العَامِريّة تأليف محمد عبد الله عنان العصر الأوّل - القسم الثاني الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الرابعة 1417 هـ - 1997 م رقم الإيداع: 8988/ 90 الترقيم الدولى: 4 - 082 - 505 - 977 مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر 68 شارع العباسية. القاهرة. ت: 4897851

الكتاب الثانى الدولة الأموية فى الأندلس القسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس

الكتاب الثاني الدّوْلة الأموَّية في الأندَلسْ القسم الثالث عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأموية بالأندلس 300: 350 هـ - 912: 961 م

الفصل الأول ولاية عبد الرحمن الناصر

الفصل الأول ولاية عبد الرحمن الناصر وقيام الخلافة الأندلسية ولاية عبد الرحمن حفيد الأمير عبد الله. نشأته وحداثته. أخذ البيعة له. حزمه في معالجة الثورة. غزو قلعة رباح وإخضاعها. خروج عبد الرحمن لغزو الثوار. غزوة المنتلون. غزوه لمعاقل ابن حفصون في ريه وإلبيرة. سحق الثورة في إشبيلية. عوده لغزو كورة ريه. محاصرته لقرمونة وإخضاعها. مولد ولي العهد الحكم. القحط بالأندلس. أقوال ابن حيان. إخضاع أوريولة ولبلة. ابن حفصون يطلب الصلح ويجاب إليه. عهد الناصر له. وفاة عمر بن حفصون. مبالغة النقد الغربي في تصوير شخصيته. أبناؤه يخلفونه في معاقله. مطاردتهم وإخضاع ببشتر آخر معاقلهم. استخراج جثة الثائر وصلبها. إعدام ابنته أرخنتا. كتاب الناصر عن فتح ببشتر. محاصرة طليطلة وإخضاعها. إخضاع بطليوس ونهاية بني الجليقي. إخضاع بني ذى النون. تمزيق الثوار في شرقي الأندلس. إسبانيا النصرانية وتربصها بالأندلس. عيث النصارى في أراضي المسلمين. غزو أردونيو ليابرة وماردة وبطليوس. غزو المسلمين لأراضي ليون. موقعة شنت إشتيبن وهزيمة المسلمين. عود المسلمين إلى غزو ليون. موقعة مطرانية وهزيمة النصارى. مسير عبد الرحمن إلى ليون. استيلاؤه على أوسمة وشنت إشتيبن. توغله في أراضي نافار. موقعة جونكيرا وهزيمة النصارى. إستيلاء النصارى على بقيرة وفتكهم بالمسلمين. مسير عبد الرحمن إلى الثغر الأعلى. غزوه لنافار واستيلاؤه على بنبلونة. هزيمة النصارى. وفاة أردونيو وولاية ولده راميرو. راميرو يشجع ثوار طليطلة. محاصرة الناصر لطليطلة. محاولة راميرو إنجادها. سقوطها في يد الناصر. غزو الناصر لقشتالة. مسيره إلى أوسمة. التماس طوطة للصلح. غزو ألبة والقلاع. غزوة بحرية إسلامية للثغر الفرنجي. الصلح بين الناصر وراميرو. تحالف بني هاشم أصحاب الثغر الأعلى مع النصارى. مسير عبد الرحمن إلى مقاتلة الثوار. محاصرته لسرقسطة. خروج أمية بن إسحاق والتجاؤه للنصارى. سقوط سرقسطة وخضوع محمد بن هاشم. عهد الناصر له بالأمان. غزو عبد الرحمن لنافار وخضوع ملكتها طوطه. تأهب عبد الرحمن لمحاربة راميرو. نفوذ الصقالبة في القصر والجيش. مسير عبد الرحمن إلى ليون. تحالف ليون ونافار. زحف عبد الرحمن على سمورة. موقعة الخندق وهزيمة المسلمين. أقوال الروايات العربية. رواية المسعودي. رواية ابن حيان. كتاب الناصر عن الغزوة. رواية ابن الخطيب. الروايات النصرانية. رواية ألفونسو الحكيم. الروايات الأخرى. آثار الموقعة. عود المسلمين لغزو ليون. وفاة راميرو وجلوس أردونيو. الصلح بين الأندلس وليون. بعض الحوادث الداخلية. حريق قرطبة. المحل والقحط. الدعوة الفاطمية واجتياحها للمغرب. جزع حكومة قرطبة. استيلاء عبد الرحمن على سبتة. خضوع المغرب الأقصى لعبد الرحمن. خطر الفاطميين على الأندلس. السفن الفاطمية تغزو ألمرية. غزوات عبد الرحمن لشواطىء المغرب. أثر الدعوة الفاطمية في بعث فكرة الخلافة الأندلسية. عبد الرحمن يتخذ سمة الخلافة. الوثيقة الخاصة بذلك. ابن مسرة. حركته وحقيقة أمرها. أقوال ابن حيان عنها. مطاردة منتحليها. كتاب الناصر في شأنها.

- 1 - مضي زهاء قرن منذ استقر ملك بني أمية بالأندلس، وتوطدت أسس الدولة الجديدة، وأخذت تزهو وتزدهر في عهد عبد الرحمن بن الحكم. ولكن عوامل الإنتقاض والتفكك، سرت فجأة إلى هذا الصرح القوي، ولبثت الأندلس مدى النصف الأخير من القرن الثالث الهجري (أواخر القرن التاسع الميلادي) تضطرم بسلسلة لا نهاية لها من الثورات والفتن، حتى لاح مدى لحظة أن ملك بني أمية أضحى على وشك الانهيار. توفي الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أمير الأندلس في مستهل ربيع الأول سنة 300 هـ (15 أكتوبر سنة 912 م) بعد حكم طويل عاصف، مزقت فيه أوصال المملكة ونضبت مواردها، فخلفه في نفس اليوم على العرش حفيده عبد الرحمن ابن ابنه محمد، غير متجاوز الثالثة والعشرين من عمره، وذلك بالرغم من وجود أعمامه وأعمام أبيه. وكان الأمير عبد الله قد اختار محمداً أكبر أولاده لولاية عهده، فوجد عليه أخوه المطرِّف وقتله حسبما تقدم. وولد عبد الرحمن قبيل مقتل أبيه بأسابيع قلائل في 22 رمضان سنة 277 هـ (ديسمبر سنة 890 م) وأمه جارية إسبانية نصرانية تدعى ماريا أو مزنة حسبما تسميها الرواية العربية، فنشأ الطفل اليتيم في كفالة جده مرموقاً بعين العطف والرعاية، وأسكنه جده معه بالقصر دون ولده. وما كاد يبلغ أشده حتى ظهرت نجابته، وأبدى بالرغم من حداثته تفوقاً في العلوم والمعارف إلى درجة تسمو على سنه، ودرس القرآن والسنة وهو طفل لم يجاوز العاشرة، وبرع في النحو والشعر والتاريخ، ومهر بالأخص في فنون الحرب والفروسية، وأقبل عليه جده الأمير يخصه بحبه وثقته، ويرشحه لمختلف المهام، ويندبه للجلوس مكانه في بعض الأيام والأعياد لتسليم الجند عليه؛ وهكذا تعلقت آمال أهل الدولة بهذا الفتى النابه، وأضحى ترشيحه لولاية العهد أمراً واضحاً مقضياً، بل يقال إن جده قد رشحه بالفعل لولاية عهده وذلك بأن برىء بخاتمه إليه، حينما اشتد عليه المرض إشارة منه باستخلافه (¬1) ¬_______ (¬1) وردت هذه التفاصيل الأخيرة في أوراق مخطوطة عن بداية عهد الناصر، نشرت بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال بعنوان: Una Cronica Anonima de Abd Al - Rahman III, Al - Nasir (Madrid 1950) p. 29-30

وما كاد الأمير عبد الله يسلم أنفاسه الأخيرة حتى بويع حفيده عبد الرحمن بالملك. وجلس عبد الرحمن للبيعة، يوم الخميس غرة شهر ربيع الأول في قاعة " المجلس الكامل " بقصر قرطبة، فكان أول من بايعه أعمامه، وأعمام أبيه، وتلاهم أخوة جده، وقد مثلوا أمامه وعليهم الأردية والظهائر البيض عنوان الحزن على الأمير الراحل، وتكلم بلسانهم عمه أحمد بن عبد الله فقال: " والله لقد اختارك الله على علم للخاص منا والعام، ولقد كنت أنتظر هذا من نعمة الله علينا، فأسأل الله إيزاع الشكر، وتمام النعمة، وإلهام الحمد ". وتتابع للبيعة بعد ذلك وجوه الدولة والموالي، ثم أهل قرطبة من الفقهاء والأعيان، ورؤساء البيوتات، واستمرت بيعة الخاصة على هذا النحو حتى الظهر؛ وعندئذ نهض الأمير الجديد فصلى على جثمان جده، ثم واراه في مدفنه بالروضة، ومعه الوزراء ورجال الدولة. وجلس لتلقي البيعة في المسجد الجامع صاحب المدينة الوزير موسى بن محمد بن حُدير، والقاضي أحمد بن زياد اللخمي، وصاحب الشرطة العليا ابن وليد الكلبي، وصاحب الشرطة الصغرى، أحمد بن محمد بن حدير، وصاحب أحكام السوق محمد بن محمد بن أبي زيد، فاستمرت بضعة أيام. وكذلك أنفذت الكتب بأخذ البيعة إلى العمال في سائر الكور، وأخرج الأمناء إلى البلاد لأخذها، وتتابعت الردود بإنجازها من جميع النواحي (¬1). وساد البشر يوم البيعة في القصر والمدينة، وتوسم الجميع في الأمير الفتى آيات العظمة واليمن، وعلقوا على ولايته أكبر الآمال. وفي ذلك يقول معلمه شاعر العصر ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، يوم أن تولى عبد الرحمن الملك في مستهل ربيع الأول سنة 300 هـ: بدا الهلال جديداً ... والملك غض جديد يا نعمة الله زيدي ... ما كان فيك مزيد إن كان للصوم فطر ... فأنت للدهر عيد إمام عدل عليه ... تاجان: بأس وجود يوم الخميس تبدى ... لنا الهلال السعيد فكل يوم خميس ... يكون للناس عيد وكانت الأندلس عندئذ أشد ما تكون حاجة إلى السكينة بعد أن هزتها الثورة ¬_______ (¬1) الأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر ص 31.

إلى الأعماق، وتجاذبتها الأعاصير من كل صوب، وكان الأمير الفتى يرى أن خطة التردد والرفق التي اتبعها أجداده نحو الزعماء الخوارج كانت سياسة خطرة، ولم تكن ناجعة، وأنه لابد لاستتباب الأمن واستقرار السكينة، من سحق الثورة وزعمائها بأى الوسائل. ومن ثم فإنه لم تمض على جلوسه أسابيع قلائل حتى بعث حملته الأولى إلى المناطق الثائرة بقيادة الوزير عباس بن عبد العزيز القرشي، فقصدت إلى منطقة قلعة رباح وكان قد ثار بها الفتح بن موسى بن ذى النون من زعماء البربر، ومعه حليفه الرياحي المعروف بأرذبلش، فوقعت بين جند الأمير وبين العصاة معارك شديدة، هزم فيها الفتح بن موسى، وارتد مغلولا إلى معاقله، وقتل أرذبلش، وبعثت رأسه إلى قرطبة، فرفعت فوق باب السدة، وطهرت قلعة رباح وأحوازها من الثورة، وذلك في شهر ربيع الآخر (¬1). وسارت حملة أخرى نحو الغرب، واستردت مدينة إستجة من أيدي العصاة أتباع ابن حفصون (جمادى الأولى)، وهدمت أسوارها وقنطرتها الواقعة على نهر شنيل، حتى تعزل وتغدو بذلك عاجزة عن التمرد والخروج. وفي شعبان سنة 300 هـ (مارس سنة 913 م) خرج عبد الرحمن للغزو وتولى القيادة بنفسه، فأثار ظهور الأمير الفتى في الصفوف حماسة الجند وأكبروا شجاعته وإقدامه. وسار عبد الرحمن أولا إلى الجنوب الشرقي، ومعه جند كورة إلبيرة وزعماؤها، وكان ابن حفصون قد نزعهم حصونهم ومعاقلهم، فالتجأوا إلى الأمير، وألقوا بطاعتهم إليه، واتجه صوب كورة جيان في وسط الأندلس، حيث كانت الثورة على أشدها، وحيث كان ابن حفصون أخطر الزعماء الخوارج يبسط سلطانه على طائفة من الحصون القوية؛ فاستولى على حصن مَرتُش الواقع في طريق جيان، وسير في نفس الوقت بعض قواته إلى مالقة لإنجادها، وكان يهددها الزعيم الثائر، فاحتلتها وأمنها. وقصد عبد الرحمن بعد استيلائه على مرتش، إلى حصن مونت ليون (حصن المنتلون) القريب منها، وكان يمتنع به زعيم من المولدين هو سعيد بن هذيل، فضربه بشدة، وهاجمه حتى اقتحمه، وأذعن الزعيم الثائر إلى التسليم والطاعة ومنح الأمان (رمضان سنة 300 هـ). وتعتبر هذه الغزوة أول غزوات عبد الرحمن، وتسمى عادة بغزوة المنتلون. ¬_______ (¬1) الأورق المخطوطة السالفة الذكر ص 33.

واتجه عبد الرحمن بعد ذلك إلى حصن شمنتان، الواقع على مقربة من بياسة، وبه عبد الله بن الشالية، فاستسلم الثائر دون مقاومة، وطلب الأمان، ونزل عن جميع حصونه ومعاقله. واستولى عبد الرحمن بعد ذلك على حصن منتيشة من يد صاحبه ابن عطاف. وافتتح سائر الحصون التي كانت بيد ابن حفصون من كورة جيان، وطهرها من آثار الخروج والعصيان. وقدم إليه سائر الزعماء الخوارج طاعتهم، فتقبلها وعفا عنهم. وسار عبد الرحمن بعد ذلك جنوبا إلى كورة ريُّه، فاحتل منها سائر الحصون التي تدين بالطاعة لابن حفصون، واقتحم أمنع هذه الحصون، وهو حصن شبليس بعد قتال عنيف، وقتل من كان به من أصحاب الثائر، وفر أمامه جعفر ابن حفصون ليلا ولحق بأبيه، ثم استولى عبد الرحمن على حصن إشتيبن على مقربة من إلبيرة. واتجه بعد ذلك إلى وادي آش فاحتل حصونها، ثم توغل في شعب جبل الثلج (سيرَّا نفادا) وافتتح ما هنالك من المعاقل والحصون. وحاول ابن حفصون أن يزحف على غرناطة، فخرج إليه أهل إلبيرة ومعهم مدد من جيش عبد الرحمن فردوه على عقبه. وما زال عبد الرحمن يجول في تلك الأنحاء يخضع حصونها وينتسف أراضيها، حتى قضى على كل عناصر الثورة والخروج فيها، وبلغ ما استولى عليه في تلك الغزوة من الحصون زهاء سبعين حصناً من أمهات المعاقل الثائرة، ثم ارتد عائداً إلى قرطبة فوصلها في يوم عيد الأضحى بعد أن قضى في غزوته زهاء ثلاثة أشهر (¬1). على أن هذه الجولة الأولى لم تكن إلا بداية الصراع المرير، الذي كان على عبد الرحمن أن يضطلع به. ذلك أنه لم تمض بضعة أشهر أخرى حتى عادت عناصر الثورة تجتمع، وتتحفز، وعاد ابن حفصون ينظم خططه وقواته. وكانت إشبيلية في مقدمة القواعد التي رفعت لواء الثورة، وقام بها منذ أيام الأمير عبد الله، بنو حجاج حسبما تقدم، وأنشأوا بها إمارة مستقلة. وقد كانوا بالرغم من انحدارهم من أصل عربي ينتمون إلى المولدين من ناحية الأم، ويشاطرونهم شعور الحفيظة ضد حكومة قرطبة. وكان عبد الرحمن يتوق إلى تحطيم سلطان أولئك المولدين ومن يمالئهم، وقد أبدوا دائماً أنهم لا يدينون بالولاء للحكومة الإسلامية التي ¬_______ (¬1) وردت تفاصيل هذه الغزوة في الأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر ص 35 - 38.

لم تدخر وسعاً في الرفق بهم ومعاملتهم دون تمييز أو إجحاف أو تحامل. وكان زعيم إشبيلية إبراهيم بن حجاج قد توفي، وخلفه في حكمها ولده عبد الرحمن، وخلفه في حكم قرمونة ولده محمد. ولما توفي عبد الرحمن في المحرم سنة 301 هـ، تطلع أخوه محمد إلى أن يحكم إشبيلية من بعده، ولكن أهل إشبيلية اجتمعوا حول زعيم قوى آخر هو أحمد بن مسلمة وهو أيضاً من بني حجاج وقدموه لحكمها، وسبق محمداً إلى الاستيلاء عليها. فسار محمد إلى قرطبة، وقدم طاعته إلى عبد الرحمن، فتقلبها وأوفد معه الجند بقيادة الحاجب بدر، فحاصر إشبيلية ثم استولى عليها في جمادى الأولى سنة 301 هـ وهدم أسوارها، وندب لها عبد الرحمن والياً من قبله، وانتهت بذلك ثورة العرب والمولدين في إشبيلية. وفي شوال سنة 301 هـ (مايو سنة 914 م) خرج عبد الرحمن في غزوته الثانية، وقصد إلى كورة ريه والجزيرة. وكان ابن حفصون زعيم ثورة المولدين قد عاد فبسط حكمه على تلك الأنحاء، وعادت الثورة تضطرم فيها. وبدأ عبد الرحمن بحصار قلعة " طرُّش " في شرقي مالقة، ثم سار إلى حصون ريه ومعاقلها يفتتحها تباعاً؛ وهنا قدم ابن حفصون على رأس قواته والتقى بعبد الرحمن أمام قلعة طرُّش، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة قتل فيها كثير من جند ابن حفصون وحلفائه النصارى، وارتد الثائر بفلوله صوب الغرب، واستطاع أسطول عبد الرحمن أن يضبط عدة سفن محملة بالمؤن كانت قادمة من عدوة المغرب لإمداد ابن حفصون وأن يحرقها. وزحف عبد الرحمن على منطقة الجزيرة الخضراء، واقتحم حصن لورة الواقع بجوار الجزيرة، ثم دخل الجزيرة الخضراء في أوائل شهر ذي القعدة سنة 301 (يونيه 914 م). وسار عبد الرحمن بعد ذلك إلى شذونة ثم إلى قرمونة، وكان حاكمها حبيب بن سوادة قد ثار بها، فحاصرها حتى سلم الثائر واستأمن، فمنح الأمان، وانتقل بأهله إلى قرطبة. بيد أنه نكث بعهده فيما بعد. ودخلت في طاعته سائر المعاقل والحصون التي مر بها؛ ثم عاد إلى قرطبة في شهر ذي الحجة بعد أن أصاب جبهة الثورة في تلك المرة بضربة شديدة وإن لم تكن قاضية. ومع أن عبد الرحمن كان يتوق إلى سحق الثورة بكل الوسائل، فإنه لم يلجأ إلى قسوة لا مبرر لها، بل آثر منذ البداية أن يتبع سياسة الرفق والتسامح نحو الزعماء والثوار الذين قدموا خضوعهم

وطاعتهم، فسمح للكثير منهم بالانتقال إلى قرطبة مع الأهل والولد، وأجرى عليهم الأرزاق والأعطية، وأبدى بالأخص نحو النصارى الذين أذعنوا إلى الطاعة منتهي الكرم والتسامح (¬1). وفي سنة 302 هـ (915 م)، وقع حادث سعيد في البلاط القرطبي، هو مولد ولي العهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر. وقد اختلف في تاريخ مولده، فيقول الرازي إنه وقع يوم الجمعة غرة رجب من هذه السنة. ويقول محمد ابن مسعود إنه وقع في يوم الجمعة 24 من جمادى الأولى، وأمه مرجان الرومية، أم الولد الأثيرة، وقد سر عبد الرحمن بولادته أيما سرور، ونوه بها، وأوسع الإنعام، وتقدمت طبقات الناس إليه بالتهنئة. وأنشد الشعراء تهانيهم، فمن ذلك قول الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه: هلال نماه البدر واختاره الفجر ... تلقت به شمس وأنجمه زهر على وجهه سيما المكارم والعلى ... فضاءت به الآمال وابتهج الشعر سلالة أفراس وبيت خلايف ... أكفهم بحر ونايلهم غمر بدا لصلاة الظهر نجم مكارم ... تحف به العليا ويكنفه الفخر ثماه إلى العليا خير خليفة ... تتيه به الدنيا ويزهى به العصر (¬2) وفي أواخر سنة 302 هـ (915 م) حل بالأندلس قحط شديد، فعزت الأقوات وارتفعت الأسعار، وأمر عبد الرحمن وزيره أحمد بن محمد بن زياد بالبروز بالناس للاستسقاء، فبرز بهم يوم الإثنين 13 شوال (أول مايو) فنزل فيه رذاذ مملح وندى مبلل لم يكن له كبير أثر (¬3)، وعمت المحنة سائر القواعد والثغور، واستمرت خلال العام التالي (سنة 303 هـ)، وبلغت الشدة بالناس مبلغاً عظيماً، وانتشر الوباء مع القحط، وكثر الموت، وهلك كثير من الرؤساء والوجهاء، وكانت محنة قاسية شديدة الوطأة. ولم يدخر عبد الرحمن خلال تلك الآونة العصيبة، وسعاً في بذل المعونة والغوث لشعبه بتوزيع المؤن والصدقات الوفيرة. وحذا حذوه كثير من الكبراء وأهل الدولة، فكان ¬_______ (¬1) ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية بالرباط) لوحة 32 أ، و Dozy: Hist.; Vol.II.p. 103 (¬2) ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة 53. (¬3) ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة 53.

لمجهودهم أثر كبير في التلطيف من آثار المحنة. وكان لهذا الظرف أثره في تهدئة الثورة، وألفت في عضد الثوار، ولكن عبد الرحمن لبث مع ذلك متيقظاً يرقب حركاتهم بحذر وأهبة. ويحدثنا ابن حيان عن هذه المحنة في حوادث سنة 303 هـ، ويقدم إلينا عنها الصورة التالية: " فيها كانت المجاعة بالأندلس التي شبهت بمجاعة سنة ستين، فاشتد الغلاء، وبلغت الحاجة والفاقة بالناس مبلغاً لم يكن لهم عهد بمثلها، وبلغ قفيز القمح بكل سوق قرطبة ثلاثة دنانير، ووقع الوباء في الناس، فكثر الموتان في أهل الفاقة والحاجة، حتى عجز عن دفنهم، وكثرت صدقات الناصر لدين الله في هذه الأزمة على المساكين وأهل الفاقة، وعلى المتعففين عن المسئلة، وصدقات أهل الحسبة من رجاله الموتسين فيه، فنفع الله بهم كثيراً من خلقه. وكان حاجبه بدر بن أحمد، مدبر دولته، أفشاهم صدقة، وأعظمهم مواساة، فنعش الله به أمة. وعدا أصر هذه المجاعة وضيق الأحوال، السلطان عن تجريد صايفة وإعداد جيش، لما بالناس من الجهد. فأخذ الناصر لدين الله في شأنه بالوثيقة، وعول على ضبط أطراف وتحصين بيضته، والإرصاد لأهل الخلاف والخلعان خلال معاقلهم، ومجال مساربهم، إذ كانوا مع استيلاء المجاعة عليهم، لا يفترون عن العدوان، على من مر بهم من رفاق المسلمين، وطالبي المعيشة، وجالبي الميرة، فلم يجدوا منفذاً إلى ما طمعوا فيه من إشاعة، ونفع الله بذلك. وعاث الموتان في هذه الأزمة، فأودى بخلق من وجوه أهل قرطبة وعلمايهم وخيارهم " (¬1). وما كادت تنقشع هذه الغمة حتى عاد عبد الرحمن إلى استئناف الغزو، فسير قائده أحمد بن محمد بن أبي عبدة غازياً إلى أرض النصارى. وسوف نتتبع غزوات عبد الرحمن لاسبانيا النصرانية مجتمعة فيما بعد. وسير وزيره إسحق بن محمد القرشي إلى كورتي تدمير وبلنسبة، فطارد فيهما أهل الخلاف، وافتتح حصن أوريولة المنيع، قاعدة تدمير التالد من يد الثوار، ثم أخضع الثوار في مدينة الحامة. وغزا الحاجب بدر مدينة لبلة، وكان صاحبها الثائر عثمان بن نصر ممتنعاً بها. ¬_______ (¬1) السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة 55 أ.

فبعث إليه الحاجب يلاطفه ويبذل الأمان له ولأصحابه، ويعده بكل ما يحب، ولكن الثائر رفض كل عرض، وأصر على العصيان، فطوق بدر المدينة، وبرز له كثير من أهل الطاعة فأمنهم، وأبقاهم لديه، وجد في مهاجمة عثمان وأصحابه إلى أن اقتحم عليه المدينة يوم 20 رمضان سنة 303 هـ (فبراير 916 م)، وقبض على عثمان وصحبه وأرسلهم في الأصفاد إلى قرطبة، وأمن أهل المدينة، ونظر في مصالحهم. وقد نظم ابن عبد ربه في فتح مدينة لبلة وفي مديح الناصر والحاجب بدر قصيدة يقول فيها: خليفة الله وابن عم رسـ ... ـول الله والمصطفي على رسله منتك نعمى نمت سوابغها ... كما استتم الهلال في كمله وجه ربيع أتاك باكره ... يرفل في حليه وفي حلله وأقبل العيد لاهياً جذلا ... يختال في لهوه وفي جذله نصر من الله تضمنه ينهـ ... ـض في ريثه وفي عجله يجري بشأو الأمام منصلتا ... يسبق حضر الجياد في مهله قد وقف النكث والخلاف بها ... وقوف صب يبكي على طله (¬1) وفي هذا العام، سنة 303 هـ، وقع حادث داخلي هام، هو جنوح عمر بن حفصون، أكبر ثوار الأندلس إلى الصلح والطاعة، فبعث إلى الناصر يخطب وده، ويلتمس الصلح، مستشفعاً بما كان منه في إيواء الأمير محمد والد عبد الرحمن وحمايته، حينما فر من أبيه الأمير عبد الله. وقام بالوساطة في ذلك يحيى بن إسحق طبيب عبد الرحمن، وكان صديقاً لعمر بن حفصون، فبذل في سبيل ذلك جهده، وعاونه الحاجب بدر لدى الناصر، فاستجاب الناصر لعقد الصلح مع عمر، مع الحذر من غدره ومكره، واتصل يحيى في ذلك مع جعفر بن مقسم أسقف ببشتر، وعبد الله بن أصبغ بن نبيل، وودنا ابن عطاف، وهم أكابر رجال ابن حفصون وخاصته، وكانوا يميلون إلى عقد الصلح والدخول في كنف الطاعة. وسار يحيى نفسه لمقابلة ابن حفصون، ووضع معه شروط الصلح، وعاد إلى قرطبة، وأقر الناصر تلك الشروط، ¬_______ (¬1) ابن حيان في السفر الخامس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحة 61 ب و62 أ.

وعقد لابن حفصون على ذلك كتابه المشهور، الذي خط في أسفله بيده الأسطر الآتية: " يا لله الذي لا إله إلا هو الطالب الغالب، وجميع إيمان البيعة لازمتي من العهود المشددة، والأيمان المؤكدة، والمواثيق المغلظة، لا نقضت شيئاً مما جمعه هذا الكتاب تبديله، ولا نقصان شيىء منه، ولارضيت ذلك في سر ولا جهر، وأن كل ما فيه من الشروط والعهود والمواثيق لازمتي، والله شهيد علينا، وخططنا هذه الأحرف بيدنا، وأشهدنا الله عز وجل على أنفسنا، وكفانا بالله شهيداً، ما وفى عمر بن حفصون بما نص في هذا العهد وصحح فيه إن شاء الله، والله المستعان ". ويقول لنا الرازي الذي يورد لنا نص هذه الوثيقة، إن الحصون التي دخلت في أمان عمر بن حفصون بمقتضى هذا الصلح، وسميت في كتاب العهد، مائة واثنين وستين حصناً. واغتبط عمر بن حفصون بعقد هذا العهد مع الناصر أيما غبطة، وبذل جهده في المحافظة على شروطه وأوضاعه، وسر الناصر من جانبه بما أبداه ابن حفصون في ذلك من دقة وإخلاص وقدم ابن حفصون بهذه المناسبة إلى الناصر هدية فخمة، فتقبلها الناصر، وحسن موقعها لديه، وكافأ ابن حفصون عنها بأضعافها؛ وعظم سرور ابن حفصون بها، واستحكمت طاعته طول حياته. وكان هذا من أعظم العوامل في تهدئة اضطرام الثورة، وجنوحها إلى التبدد وإلانهيار (¬1). وكان حبيب بن سوادة الثائر بقرمونة قد نكث بعهده، وعاد إلى قرمونة، وأظهر الامتناع بها، فسير إليه عبد الرحمن الحاجب بدراً في حملة قوية، فحاصر بدر قرمونة وضربها بالمجانيق بشدة، ثم دخلها عنوة، وقبض على حبيب وولده وأرسلهما في الأصفاد إلى قرطبة (ربيع الأول 305 هـ) (¬2). وفي شهر ربيع الأول من العام التالي، في سنة 306 هـ (سبتمبر 918 م) (¬3) ¬_______ (¬1) ابن حيان في السفر الخامس من المقتبس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 56 ب و57 أوب. (¬2) الأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر ص 55 و56. (¬3) وفي رواية الرازي التي نقلها إلينا ابن حيان، أن وفاة ابن حفصون كانت في شهر شعبان سنة 305 هـ - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 65 أ.

وقع حادث كان له أكبر الأثر في تفكك عرى الثورة وانحلالها. ذلك هو وفاة عمر بن حفصون زعيم الثورة الكبرى، ومثير ضرامها في غربي الأندلس، توفي بعد مرض طويل، في الثانية والسبعين من عمره. وكان ابن حفصون في الواقع أخطر ثائر عرفته الأندلس منذ الفتح، وكانت ثورته تمثل أخطر العناصر التي لا تدين بالولاء لحكومة قرطبة، وفي مقدمتها طائفة المولدين الذين ينتمي إليهم، وهم سلالة القوط والنصارى الإسبان الذين أسلموا منذ الفتح، وغدوا جزءاً من الأمة الأندلسية. وكان أولئك المولدون بالرغم مما تسبغه عليهم حكومة قرطبة الإسلامية من ضروب الرعاية والتسامح، يضمرون لها الخصومة والكيد، وينتهزون كل فرصة للخروج عليها. وكانوا يلقون العون دائما من زملائهم النصارى المعاهدين رعايا الحكومة الاسلامية. وقد رأينا كيف دبر ابن حفصون حركته ونظم ثورته في المناطق الجنوبية الغربية، فيما بين رندة ومالقة، وقد كانت فضلا عن وعورتها ومناعتها الطبيعية، تضم كثرة من المولدين والنصارى، وكان من هؤلاء معظم أنصاره وجنده. ولم ير ابن حفصون نفسه وهو يرجع إلى أصل نصراني، بأساً من أن ينبذ الإسلام ويرتد إلى النصرانية لكي يذكي حماسة أنصاره. وهكذا كانت وفاة هذا الثائر الخطر ضربة شديدة للثورة، وتنفست حكومة قرطبة لوفاته الصعداء، بعد أن شغلها زهاء ثلاثين عاماً. قال الرازي: " وكان أول قيامه بالفتنة، وصدعه عصى الجماعة، وامتناعه بقلعة ببشتر منبر المعصية، من ثلاثين سنة، ركب فيها من العيث في الخلق، والفساد في الأرض بغير الحق، ما لم يركبه مارق بالأندلس، منذ دانت للمسلمين، فعد مهلكه فاتحة الإقبال، وطالعة السعد، واجتثاث الفتنة " (¬1). وقد بالغت التواريخ النصرانية في تصوير ثورة عمر بن حفصون الطويلة المدى، واعتبارها ثورة قومية تهدف إلى غاية وطنية سامية، وهي تحرير وطنه - إسبانيا - من نير المتغلبين عليه، وأنه كان في مناوأته لحكومة قرطبة الإسلامية يجيش بهذه النزعة، ويهدف إلى هذه الغاية. وعمل النقد الحديث على إبراز هذه الصورة، وعلى اعتبار ابن حفصون بطلاً قومياً، جديرًا بالتقدير والاحترام. ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 65 ب.

وهذا ما نقرأه في تعليقات بعض أكابر النقدة المحدثين أمثال دوزي وسيمونيت، وذلك بالرغم من كونهم لم ينسوا أن يذكروا في نفس الوقت أن ابن حفصون قد نشأ سفاحاً وقاطعاً للطرق، لا تحدوه أية نزعة وطنية أو غاية مثلى. بيد أن سيمونيت، وهو مؤرخ النصارى المستعربين، يحاول أن يبرر حسن تقديره وتصويره لحركة ابن حفصون، بأن قيامه اتخذ فيما بعد " شكلا أكثر نبلا، وتحوله من زعيم عصابة إلى زعيم حزب وأمة " (¬1). ويصفه دوزي بأنه " البطل الإسباني الذي لبث أكثر من ثلاثين عاماً يتحدى المتغلبين على وطنه، والذي استطاع مراراً أن يجعل الأمويين يرتجفون فوق عرشهم " وأنه " كان بطلا خارقاً لم تنجب إسبانيا مثله منذ أيام الرومان " (¬2). أما نحن فنرى في مثل هذه الآراء مبالغة وإغراقاً، وأنها ليست إلا ثمرة نزعة من التعصب الديني والجنسى، الذي يطبع النقد الغربي، في كثير من المواطن، وأن ابن حفصون بالرغم من صلابته وقوة عزمه، وبراعة خططه، لم يكن سوى قاطع طريق، وثائر من طراز قوي عنيف. أجل إن ابن حفصون، كان يدعو منذ اشتد ساعده، إلى ما يسميه قضية الاستقلال والحرية، وتحرير مواطنيه من نير المسلمين، بيد أنه لم يكن في هذا الزعم سوى مخادع سياسي، يسعى إلى كسب الصحب والأنصار لتقوية مركزه، ودعم سلطانه، ولم يكن يصدر في مغامراته وحروبه أو في أعماله خلال ثورته الطويلة، عن أية نزعة نبيلة، أو تصرف تطبعه الشهامة، والعزة القومية، بل كانت أعماله وتصرفاته كلها، بغى صراح، وإجرام في إجرام.، وامتهان لكل المبادئ الأخلاقية، وكل مقتضيات الشرف والمروءة والشهامة. ومن كان هذا شأنه، فإنه من التعسف أن تُسبغ عليه صفات البطولة، وثوب التحرير والوطنية. وترك ابن حفصون أربعة بنين، هم سليمان وعبد الرحمن وجعفر وحفص، وإبنة هي "أرخنتا"؛ وكان له ولد آخر هو أيوب اتهمه أبوه عندما اعتل ذات مرة، بمحاولة الفتك به وقتله (¬3). فقام سليمان في أبَده، وقام جعفر مكان أبيه في ببشتر بعهد منه، وكان أبوه قد قلده عهده في حياته، وأخذ له البيعة في ¬_______ (¬1) راجع: J.Simonet: Histoira de los Mozarabes de Espana (Madrid 1897) p. 516 (¬2) Dozy: Histoire ; V.II.p. 106 (¬3) أعمال الأعلام لابن الخطيب ص 32؛ ونقط العروس لابن حزم ص 79.

أواخر أيامه، فأظهر جعفر يوم موت أبيه لجميع نصارى ببشتر أنه يعتقد دينهم، ويدين بالنصرانية معهم، وزعم أن أباه كان يعتقد ذلك ولا يظهره، وجمع إلى نفسه ثقاته منهم، مع القسيسين والرهبان دون سائر الناس، فتولوا تجهيز والده معه، ودفنه على سنة النصارى، بعد أن أمر بسد باب القصبة، وحجاب باقي الناس من نصارى وغيرهم، ولاطف جعفر إخوته، ووعدهم بالجميل حتى سلموا له، قال الرازي: " وكان جعفر في ذاته متهوراً سخيفاً، جباناً ضعيف السيما، ذميماً، جسوراً حقوداً، منافساً لمن يعمل عنده، كنوداً لمن استرسل إليه، موالفاً للسفال، مستصحباً للأرذال، لم تسم همته إلى مروءة، ولا انطوت نيته على جميل، ولا عرف قدر ما مهده له والده مع السلطان من فراش الصلح، وبسط من ظلال الأمن، بالتسجيل له على أعماله، وإمضاء ذلك بعده لعقبه، بل غمط النعمة عليه، ورفض الساعين فيه لأبيه، وعقد شهادات جماعة من السفلة والطغام، على ابن مقسم الأسقف وابن نبيل وابن عطاف حاجبيه، فإنهم سعوا في الغدر بوالده عند السلطان، وأرادوا إراحة سلطانه عن ولده بعده " (¬1). بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى سير عبد الرحمن قواته إلى أبدة فاقتحمتها وأسر سليمان، وأخذ إلى قرطبة حيث عفا عنه عبد الرحمن وضمه إلى جيشه؛ وكذا استسلم عبد الرحمن بن حفصون، وكان ممتنعاً بحصن طُرُّش، وكان أخوه جعفر صاحب ببشتر، قد ضايقه، وحاول أن ينتزع منه طرش، فالتجأ عندئذ إلى الأمير، وأذعن للطاعة، على أن يسلم حصنه ويمنح الأمان لنفسه وأهله، فأجابه الأمير إلى ما طلب، وتسلم منه الحصن، واستقدمه إلى قرطبة وأجرى عليه الصلات، وكان أديباً شاعراً. واستبد جعفر بحكم ببشتر وما حولها، وآثر عبد الرحمن أن يهادنه مدى حين، وأن يقره على أعماله. وفي سنة 308 هـ (920 م) قتل جعفر في ببشتر ضحية مؤامرة قيل إنها من تدبير أخيه سليمان، وقيل من جهة أخرى إنه رأى أن يعود إلى الإسلام اكتساباً لمودة السكان والجند المسلمين، فاغتاله نفر من جنده النصارى (¬2). فقام أخوه سليمان مكانه في ببشتر، وأقره عبد الرحمن ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 65 ب. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 135، والبيان المغرب ج 2 ص 189، وراجع: Dozy: Hist.,Vol.II.p. 108

على ولايته، ولكنه نكث عهد الطاعة، فسار عبد الرحمن لقتاله وحاصره مدى حين، وكان أصحاب سليمان بحصن طُرُّش، قد نبذوا الطاعة مثله، فسار عبد الرحمن إلى طرش، ونازلهم، ثم ترك قوة استمرت في حصارهم، حتى أذعنوا إلى الطاعة، وسلموا الحصن بالأمان، وأمر عبد الرحمن بتخريبه وتسويته بالأرض. ثم سار عبد الرحمن لحصار سليمان مرة أخرى في سنة 311 هـ (923 م)، وخرب سائر المناطق التي يسيطر عليها الثائر، وأخضع معظم حصونها، واعتصم سليمان بجبل بُبَشتر، فنازله عبد الرحمن، واشتد في محاصرته، حتى ضاق الثائر وصحبه بالحصار ذرعاً، وخرج عليه معظم أنصاره، ونكل بالكثير منهم. ونازل عبد الرحمن بالأخص حصن الشط، وكان من أمنع الحصون الثائرة، حتى تغلب ْعليه وعلى ما حوله من الحصون. وأخيراً عرض عليه سليمان أن يعود إلى الطاعة، وأن يسلم بعض حصونه، فاستجاب عبد الرحمن إلى رغبته، وتسلم حصن الشط، وحصن منت ميور وغيرهما من الحصون كفالة بحسن الطاعة، وانصرف عائداً إلى قرطبة، وهو يتحين الفرصة الملائمة للقضاء على الثائر بصورة نهائية. وفي سنة 313 هـ، صُلب على الرصيف بباب قرطبة، رجل من أصحاب ابن حفصون هو الرامي النصراني المعروف بأبى نصر، وكان من أحذق الرماة في عصره، وطار صيته أيام عمر بالحذق في الرماية وإصابة الأغراض البعيدة، قلما تخطئ رميته، وقد أودى بحياة كثير من المسلمين من الجند وغيرهم، وساد الذعر منه، وانتهى الأمر بأسره، وإحضاره إلى الحضرة، فجىء به إلى باب السُّدَّة وأمر عبد الرحمن بصلبه وشكه بالسهام، فرفع فوق جذع في مشهد حافل من الناس، وتعاورته الرماة بالسهام حتى مزق بدنه، وترك داميا فوق جذعه؛ ثم أخذت جثته بعد أيام وأحرقت (¬1). وفي أواخر سنة 314 هـ، سير عبد الرحمن وزيره عبد الحميد بن بسيل إلى ببشتر، وخرج سليمان في قواته إلى لقائه فهزم وقتل، واحتز رأسه وقطعت أشلاؤه، وأرسلت إلى قرطبة فرفعت على باب السدة (يونيه سنة 927 م). وقام أخوه حفص مكانه في ببشتر، واستمر على المقاومة حيناً. وفي ربيع الأول سنة 315 هـ، سار عبد الرحمن بنفسه إلى ببشتر ومعه ولي عهده الحكم، ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية، لوحة 84 ب.

وكان يومئذ صبياً في الثانية عشرة من عمره، ونزل على مدينة ببشتر ذاتها، وبها حفص، وشدد عليها الحصار، وابتنى إزاءها حصناً للتضييق عليها، وفرق قواته لمنازلة بقية الحصون الثائرة، ثم ترك قوة لمتابعة الحصار. واستمر الحصار بضعة أشهر، حتى اضطر حفص أن يذعن أخيراً إلى التسليم؛ فسلم المدينة بالأمان إلى القائد سعيد بن المنذر، وذلك في أواخر شهر ذي القعدة سنة 315 هـ (يناير سنة 928 م) وأخذ حفص بن عمر وأهله وأصحابه، أسرى إلى قرطبة، فعفا عبد الرحمن عنهم، وأحسن مثواهم، وضم حفصاً إلى جيشه. وفي العام التالي سنة 316 هـ، سار عبد الرحمن إلى ببشتر لتنظيم شئونها، فخرج من قرطبة في منتصف شهر المحرم منها (مارس سنة 928 م) ورافقه ولده الحكم، ووزيره أحمد بن محمد بن حُدير، واستخلف على المدينة أحمد ابن عيسى بن أبي عبدة. وقصد إلى ببشتر بطريق أشونة، فوصلها في العشرين من المحرم، ودخلها وجال في أرجائها، وألفاها منقطعة النظير من حيث الحصانة والمنعة. فعين لها والياً من قبله، وعمد إلى تطهيرها من آثار ابن حفصون، فصلى في مسجدها الجامع، وأمر أن تقام به الصلاة. وكان ابن حفصون في أواخر أيامه، قد أثار حول موقفه من تذبذبه حول إظهار الإسلام، وجنوحه إلى النصرانية، ريباً حول حقيقة الدين الذي كان يعتنقه. فأمر الناصر بنبش قبره، وإخراج جثته وفحصها. فتبين من هيئتها، وكونه ملقى على الظهر، مشبوك الذراعين على الصدر، ومستقبلا المشرق، أنه دفن على دين النصرانية، وعاين ذلك الناس من العسكر وغيرهم، وشهد بذلك الفقهاء المرافقون، واتفق الجميع على أنه هلك على دين النصرانية. فأمر عبد الرحمن بحمل الجثة، إلى قرطبة، حيث علقت في أعلى الجذوع على باب السًّدة يكتنفها أشلاء ولديه المصلوبين قبله، وهما حكم وسليمان. واستمرت أشلاؤهم معلقة على جذوعها عبرة للناظرين حتى سنة 331 هـ، حيث حملها مد النهر الطامي في تلك السنة ولأحمد بن محمد الرازي في صلب أوصال ابن حفصون قصيدة يقول فيها: تبدي لمرأي العين مجسماً ... وقام من الأجداث خلقاً متمماً فما كان إلا مثل من نام نومة ... فأنبه عنها حين أغفي وهوّما

ثوى في الثرى حتى إذا صار رمة ... أعيد إليه جسمه فتلأما رقى فوق جذع بالهواء معلق ... يحاول منه بالنجوم تحوُّما تبارك من أبداه للخلق سامغاً ... وبوّأ منه النفس قعر جهنما (¬1) وأمر عبد الرحمن، فعمرت سائر مساجد ببشتر المهجورة، وهدمت سائر الكنائس والأديار، التي ابتناها الثائر في تلك المنطقة، واستولى عبد الرحمن على سائر معاقلها وحصونها، وطهرها من آثار الثورة الأخيرة (¬2). ثم أمر بعد ذلك بالقبض على " أرخنتا " ابنة عمر بن حفصون وإعدامها، لارتدادها عن الإسلام، وتمسكها باعتناق النصرانية، فأعدمت في سنة 931 م، أو في سنة 937 وفقاً لرواية أخرى، ونظمتها الروايات والأساطير النصرانية في سلك القديسين والشهداء (¬3). هذا، وقد أصدر الناصر عقب فتح ببشتر واستئمان حفص، كتاباً طويلا ينوه فيه بهدى الإسلام وفضله، وما خصه الله به من خلافته وأمانة عباده، ويشير إلى خروج المارقين، وميل نفوسهم المريضة إلى الشرك، وكيف أنه أصدر أمانة لأهل ببشتر، ثم يقول في خطابه ما يأتى: " وعهدنا إلى الوزير أحمد بن محمد حدير، بالتقدم إليهم لحضور خروجهم، ومباشرة نزولهم، وإكمال الأمان لهم، وقبض الأيدي عنهم، فنهض إلى ذلك وقصد له، فلما صار بمدينة طلجير، المبتناة على مدينة ببشتر، هبت بالطاغين عنها، فتساربوا خارجين، وتهافتوا ذاهبين، وتعرفوا الذي سبا إلى جوانب شتى، فقصد كل واحد إلى منزعه، وأم مكان طماعيته، ولحق بمداين الطاعة، فصاروا في غمار الرعية، وتمكث خلفهم عميدهم حفص بن عمر طاير الفواد، ¬_______ (¬1) ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 89 أوب و91 أ. هذا ولم نجد ذكراً لحكم من أبناء عمر بن حفصون إلا في هذه المناسبة، وفي رواية ابن حيان، وفي الأوراق المخطوطة (ص 77). (¬2) تراجع تفاصيل المعارك الأخيرة بين عبد الرحمن وأبناء ابن حفصون، وخاتمة هذه المعارك في الأوراق المخطوطة الخاصة بعصر الناصر ص 62 و65 و69 و73 و74 و75 و76 و77 و78. وكذلك في البيان المغرب ج 2 ص 191 و193 و194 و204 و208 و209. وابن خلدون ج 4 ص 135. (¬3) Dozy: Hist., Vol.II.p.109. و R.M. Pidal: Origines del Espanol, p. 420

خافق القلب، لم تطب نفسه على الخروج خواراً، ولا سكن منه الأمان نفاراً، يخشى كل يد أن تضبط عليه، وكل شجرة أن تتعلق به، قد خامره من الرعب ما كاد أن يربى على العطب، فطمأن الوزير أحمد محمد بن حدير من جزعه، وسكن من جأشه، ووفاه من آمالنا المبسوطة ليناً وثق به واطمأن إليه، فخرج آخر الخارجين، ولحق بالآمنين، فأصبحت مدينته بقعة الضلالة، ومنبر الخلاف، ومعدن الغواية، بما أحاط بها من أسوارها وأبنيتها وقصابها، وبداخلها من جناتها ومصانعها، مغوية من قطينها، خاوية على عروشها، كأن لم يغن بها ساكن، ولا استوطنها قافل ". ثم يقول إنه أمر بعد ذلك بتخريب ببشتر، وحط أسوارها، وإنزال جدرانها، وهدم كل قايم فيها من قصرها ودورها ومخازنها، وإعادتها جبلا أجرد، على ما كانت عليه لأول خلقها. " ثم استقدمنا حفصاً اللائذ بالتوبة إلى ما تفضلنا عليه من التأمين والتمكين، وعدنا عليه من العفو والتطمين، وأخذنا فيه بالفضل المبين، الذي جعلنا الله أهله، وغلب على مذهبنا إيثاره، وجمعنا له من ذلك ما اغتبط به، وسكن إليه، وقرر نفسه عليه، فاعلم ذلك، وقف عليه، واستشعر حمد الله، ومر بقراءة كتابنا هذا إليك على المسلمين قبلك في جامع موضعك، ليحمدوا الله عز وجهه، على عظيم ما اصطنعه إليهم، ووهبه لهم، وليحدثوا من شكره تعالى على ما درأ عنهم، والتقرب بنوافل الحمد إليه، ما يستدام له رضاه عز وجهه، ويستجلب به المزيد من نعمه، إن شاء الله وهو المستعان، وكتب يوم الخميس لخمس من ذي الحجة سنة خمس عشرة وثلث ماية ". ويقول لنا الرازي، إن الناصر لما خرج إلى ببشتر، وأمر بهدمها، أمر بالإبقاء على القصور والقصاب، التي أبقاها لعماله وحشمه الذين ندبهم للقيام بها، فدكت أسوارها، وحطت أعلامها، وأنه أي الناصر أصدر كتاباً بحوادث ببشتر، والأمر بهدمها، وهدم مسجدها الذي أقامه ابن حفصون، لأنه كان ستاراً لفسقه المسلمين، والأمر بإحراق منبره " الذي دعى فيه للخنزير الضال، ومن خلفه من نسله الخبيث، وأعلن عليه بدعوة الشيعة " (¬1). ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية لوحات 94 95 و96.

ولم يغفل عبد الرحمن في الوقت الذي كانت فيه ثورة ابن حفصون وأبنائه في جنوب الأندلس، تشغل معظم عنايته، عن مطاردة الثورة في الأنحاء الأخرى. وكانت طليطلة من أمنع معاقل الثورة، فسير عبد الرحمن جنده لحصارها، وفيها لُبّ بن الطربيشة وهو من زعماء المولدين، واستمر الحصار زهاء عامين حتى نضبت موارد المدينة، وخبت عزائم أهلها واضطرت في النهاية إلى التسليم والإذعان. وسار لبّ مع الأمير بقواته إلى الغزو في أرض النصارى (سنة 308 هـ). وكانت بطليوس وأحوازها منذ أكثر من أربعين عاماً، معقلا من معاقل ثورة المولدين. وكان بنو مروان الجليقي ما يزالون يسيطرون على تلك المنطقة، وكانوا من أخطر الخوارج وأشدهم مراساً، يمالئون الأمراء النصارى ويحالفونهم على حكومة قرطبة. ففي سنة 311 هـ (923 م)، هلك عبد الله بن محمد بن مروان الجليقي صاحب بطليوس قتيلا بيد بعض المخالفين من أصحابه، فقام مكانه ولده عبد الرحمن، واستبد بمدينة بطليوس وما حولها، واستمر بضعة أعوام على خروجه وتحديه لحكومة قرطبة. وفي ربيع الأول سنة 317 هـ (إبريل 929 م) خرج الناصر من قرطبة متجهاً نحو الغرب، ومعه ولداه الحكم والمنذر وعدة من الوزارء، واستخلف على القصر ولده عبد العزيز. وبعث الناصر ينذر المتخلفين عن الطاعة، بوجوب الدخول في طاعته، والتخلي عن العصيان، وفي مقدمتهم. صاحب بطليوس عبد الرحمن بن عبد الله الجليقي. ووصل الناصر بجيشه إلى بطليوس في أواخر ربيع الآخر من هذه السنة وحاصر بطليوس، وقاتل المتصدين للمقاومة حتى هزموا واقتحم أرباضهم، وأحرقت ديارهم، فامتنعوا داخل المدينة؛ فعهد الناصر بقتالهم إلى القائد أحمد بن إسحق القرشي في قوة كثيفة، فشدد في حصار المدينة، واقتحم ما حولها من الحصون، ثم ضربها بالمجانيق بشدة، وقطع عنها كل مورد، واشتد بأهلها الضيق، واضطر الجليقي إلى الإذعان وطلب الأمان، فأجابه الناصر إليه، وأسكنه هو وأهله وأكابر رجاله بحضرة قرطبة، وعين لبطليوس والياً جديداً هو عثمان بن عبد الله، وكان خضوع بطليوس في سنة 318 هـ (930 م). ولما غادر الناصر بطليوس سار إلى مدينة باجة، أقصى قواعد الغرب،

وفيها الثائر عبد الرحمن بن سعيد بن مالك، فنزل عليها، وأنذر صاحبها بالدخول في الطاعة، فلم يقبل النصح، فطوقها وحاصرها بشدة، حتى أجهد أهلها الجوع والعطش، وتساقطوا من الإعياء، وعندئذ اضطر صاحبها إلى الإذعان، فمنحهم عبد الرحمن الأمان، وأمن صاحبها وآله، وخرجوا إليه تائبين مستسلمين، فبعثهم إلى قرطبة. وكان افتتاح باجة في منتصف جمادى الآخر سنة 317 هـ. ونظر الناصر في مصالح المدينة، ثم عين لها والياً من قبله، هو عبد الله بن عمرو ابن مسلمة، وزوده بحامية كافية. وتحول عبد الرحمن بعد ذلك إلى مدينة أكشونبه على مقربة من ساحل المحيط الجنوبي، وبها الثائر خلف بن بكر، فبادر إلى الطاعة معتذراً، وأقره الناصر على ولايته، على أن يلتزم بأداء الجباية وبحسن السيرة. وقضى الناصر في هذه الغزوة زهاء ثلاثة أشهر، طهر خلالها أنحاء ولاية الغرب من آثار الخروج والثورة، ثم قفل إلى قرطبة فوصل إلى القصر في منتصف رجب (¬1). وكان الناصر قد سار بنفسه إلى تدمير وبلنسية، وذلك في سنة 312 هـ (924 م) أثناء مسيره إلى غزوة بنبلونة الكبرى، حسبما نفصل بعد. فطارد الخوارج والعصاة في شرقي الأندلس، واستولى على معاقلهم ومزق شملهم. وفي سنة 314 هـ (926 م) سير الناصر وزيره القائد عبد الحميد ابن بسيل إلى الثغر الأعلى لمقاتلة بني ذى النون، وكانوا قد عادوا إلى الخلاف والعصيان، وأكثروا من الفساد والعدوان على من جاورهم من المسلمين وأهل الذمة، فقصد إلى معقلهم شنت بَرِيَّة واقتحمها، وقتل كبيرهم محمد بن محمد ابن ذى النون، وعدة أخر من رجالهم، وافتتح مدينة سُرية من مدنهم، وولى عليها عاملا للسلطان. وخضعت شنت برية وما والاها للطاعة، ودرت جبايتها من ذلك الحين (¬2). وفي سنة 317 هـ، افتتحت مدينة شاطبة، واستنزل عنها صاحبها عامر بن أبي جوشن الثائر بها، بعد أن ترددت الحملات عليه، مدى خمسة أعوام، وكان خضوعه على يد صاحب الشرطة العليا درِّى بن ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحات 100 و101 و109، والأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر ص 81. (¬2) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 85 أ.

عبد الرحمن، واشترط عامر عند استسلامه أن يمنح الإقامة مدة في حصن " شنت مريّة " من حصونه، حتى ينظم شئونه ويسير في أهله إلى قرطبة، فأجيب إلى طلبه (¬1). وهكذا أخمدت الثورة في سائر النواحي، بعد أن لبثت زهاء نصف قرن تستنفد قوى الأندلس ومواردها، وتفت في عضدها، وتقعدها عن الكفاح ضد عدوها الحقيقي المتربص بها، ونعني اسبانيا النصرانية. - 2 - كانت إسبانيا النصرانية في خلال تلك الفترة التي اضطرمت فيها الأندلس بالفتن، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثورة في النواحي، تسير قدماً في سبيل القوة والتوطد، وتعمل جاهدة لانتهاز كل فرصة للكيد للأندلس، وممالأة ثوارها والعيث في أراضيها. وكانت تنقسم عندئذ إلى إمارتين أو مملكتين متحالفتين، هما مملكة ليون (أو مملكة جليقية)، ومملكة نافار (نبره أو بلاد البشكنس). وكانت ليون وهي الواقعة في الشمال الغربي بين المحيط ونهر دويرة، أكبر المملكتين وأوفرهما قوة ومنعة، وكانت بذلك تتولى قيادة إسبانيا النصرانية، في ميدان الكفاح الخالد بينها وبين إسبانيا المسلمة. وكانت قواعد الأندلس الشمالية التي تتاخم مملكة ليون، مثل أسترقة وسمورة وشلمنقة وشقوبية وميراندة، قد خلت منذ أواخر القرن الثامن من معظم سكانها المسلمين، واستوحش العرب والبربر، لقلتهم في تلك الأنحاء، وكثر اعتداء النصارى عليهم، وتوالي القحط في تلك الربوع، فهاجروا إلى الجنوب، وجاء ملك ليون ألفونسو الثالث (أواخر القرن التاسع)، فعاث في تلك المنطقة، وفتك بمن فيها من المسلمين، ثم ارتد إلى جباله. ولبثت هذه المنطقة قفراً خالية تقريباً، يتبادلها المسلمون والنصارى من وقت إلى آخر، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثورة فلم تستطع رد الاعتداء، وانتهز ألفونسو الثالث تلك الفرصة، فدفع حدود مملكته جنوباً حتى نهر دويرة. واختط هنالك عدة قلاع منيعة، كان يتخذها النصارى قواعد للإغارة على الحدود الإسلامية، واجتياح المسلمين العزل بالنار والسيف، وقتل النساء والأطفال والشيوخ، ونهب الأموال والمتاع. وجرى ولده غرسية على هذه السياسة الدموية الغاشمة. وكانت إسبانيا النصرانية تنظر من خلال هضابها القفرة، ومواردها ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 101 ب.

الضئيلة، وفقرها المدقع، إلى وديان الأندلس النضرة، وإلى نعمائها الوافرة، وحضارتها الزاهرة، بعين المقت والحسد، وتعمل جاهدة لبث الدمار والويل إلى هاتيك الربوع السعيدة. وكان على حكومة قرطبة أن تعمل على حماية الأندلس وحماية تراثها وحضارتها، من هذا العدوان الخرب الذي أخذ يشتد يوماً عن يوم. وكان عبد الرحمن حينما ولي الملك، يؤثر الإغضاء حيناً عن محاربة النصارى، لكي يكرس جهوده وقواه لقمع الثورة، وتطهير الأندلس من عناصر الفتنة، ولكن النصارى رأوا بالعكس أن يعملوا على انتهاز الفرصة، وإذكاء نار الفتنة والفوضى في الأندلس. فما كاد عبد الرحمن يلي الملك، حتى بادر أردونيو الثاني (أرذون) ملك ليون بالإغارة على الأراضي الإسلامية، واتجه أولا نحو منطقة الغرب لنأيها وضعف وسائل الدفاع عنها، وقصد إلى مدينة يابُرة، الواقعة غربي بطليوس. ويقول لنا الرازي إن أردونيو نزل على يابرة في يوم 13 من المحرم سنة 301 هـ (أغسطس 913 م) وأنه كان في جيش يقدر بثلاثين ألفاً من الخيل والرجل والرماة، وكان على يابرة يومئذ عاملها مروان بن عبد الملك، فبذل جهده لمدافعة الغزاة؛ وطوق أردونيو المدينة من سائر نواحيها، وهاجمتها قواته من كل صوب، ودافع المسلمون عن مدينتهم من فوق الأسوار، حتى أرغموا بفعل السهام على النزول عنها وتسلق النصارى الأسوار، ودخلوا المدينة، واضطرمت بينهم وبين المسلمين داخلها معارك شديدة، وفنى المسلمون شيئاً فشيئاً حتى قتلوا جميعاً، ولم تنج منهم سوى شرذمة قليلة، فرت تحت جنح الظلام إلى مدينة باجة. وسبى النصارى سائر النساء والذرية، وقتل مروان بن عبد الملك عامل المدينة مدافعاً عنها، وبلغ السبي أكثر من أربعة آلاف من النساء والولدان. وترك أردونيو المدينة خراباً يباباً، وعاد في قواته إلى جليقية. وبث هذا الحادث الروع والفزع في سائر قواعد الغرب، فأخذ أهلها في إصلاح أسوارهم، وقام أهل بطليوس بالأخص في ذلك بمجهود ضخم، ودعموا أسوارهم، وزادوا في عرضها وارتفاعها، بقيادة عاملهم عبد الله بن محمد الجليقي (¬1). وفي سنة 303 هـ (915 م)، سار أردونيو في قواته مرة أخرى إلى منطقة الغرب، في جيش تقدره الرواية الإسلامية بستين ألفاً، ¬_______ (¬1) ابن حيان عن الرازي - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 51 أوب.

فعبر نهر التاجُه، واشترك في إرشاده إثنان من الأدلاء المسلمين، من بربر مصمودة من البرانس، ولكنهما كانا يضمران عكس ما طلب إليهما؛ واتجه أردونيو جنوباً صوب حصن مدلين، وقاده الدليلان المسلمان من طريق صعبة وعرة، فلم يخرج منها إلا وقد نهك جيشه، فأمر بالدليلين فأعدما، وسار حتى وصل إلى الحصن، فاستولى عليه دون مقاومة وأصاب فيه بعض الغنائم، ثم سار إلى قلعة الحنش (ألانية)، الواقعة جنوبي ماردة، وكان يسكنها يومئذ برانس كتامة، وكانوا في عدد وافر وعلى أتم استعداد للمقاومة، وكان المقدم عليهم يسمى بابن راشد؛ فهاجم النصارى الحصن، ودافع المسلمون عن أنفسهم أشد دفاع، ولكنهم هزموا في النهاية وقتل معظمهم، وقتل ابن راشد فيمن قتل، ودخل النصارى الحصن فقتلوا كل من وجدوه، وسبوا النساء والذرية، وهدموا الحصن. ثم سار أردونيو في اليوم التالي إلى ماردة، ولكنه وقف أمامها ذاهلا من حصانتها، واعتزم الكف عن قتالها، وبعث إليه قائد المدينة محمد بن تاجيت رسولا يستلطفه، وأهدوا إليه فرساً رائعاً من عتاق الخيل بسرجه وعدته، فقبله وأعجب به، وتركهم ورحل عنهم. ولكنه عاث حين قفوله في تلك المنطقة، وقتل وسبى كثيراً من سكانها، واستولى على بعض قلاعها؛ ثم قصد إلى مدينة بطليوس، فارتاع أهلها واسترضوه بالمال والحلي، وعبر النصارى نهر دويرة قافلين إلى ديارهم مثقلين بالغنائم والسبي دون أن يعترض سبيلهم معترض (¬1). وبقيت يابرة خراباً نحو عام، حتى بعث عبد الله بن محمد الجليقي، صاحب بطليوس حليفه مسعود بن سعدون المعروف بالسرنباقي، ومن معه من قومه الشاردين عن الجماعة إلى مدينة يابرة، فنزلها مسعود بأهله وولده وصحبه ومن معهم، وكان منهم كثير ممن لجأ من قبل من أهل يابرة إلى باجة وأكشونبه؛ وابتنى لهم الجليقي أسوار المدينة، وأمدهم بالأطعمة والدواب والكسى؛ وعلى أثر ذلك قصد الناس إلى يابرة فاستوطنوها، وعمرت بسكانها مرة أخرى (¬2). ¬_______ (¬1) ابن حيان في السفر الخامس من المقتبس - مخطوط الخزانة الملكية، لوحة 60 أوب وابن خلدون ج 4 ص 141. (¬2) المقتبس - السفر الخامس، لوحة 53 و54.

وكانت هذه المنطقة التي غزاها النصارى وهي منطقة ماردة، من المناطق الثائرة. ولكن عبد الرحمن كان أبعد نظراً من أن يغضى عن عدوان يقع في صميم الأراضي الإسلامية. هذا إلى أنه رأى أن يأسر قلوب الثوار، بإنجادهم والانتقام لهم، وأن يرد عدوان النصارى بمثله. ففي فاتحة سنة 304 هـ (916 م) سير عبد الرحمن وزيره وقائده أحمد بن محمد بن أبي عبدة في جيش قوي، غازياً إلى أراضي مملكة ليون، فالتقى بالنصارى وهزمهم في عدة وقائع محلية، وعاث في أراضيهم وسبى وغنم غنائم كثيرة (¬1). وفي العام التالي أراد أردونيو الثاني الانتقام لهزائمه، فعاث في منطقة طلبيرة (¬2)، وأحرق مدنها وانتسف ضياعها، فضج المسلمون لهذا البلاء، وتضرعوا إلى مليكهم أن ينقذهم من هذا العدوان الصارخ. فسير عبد الرحمن قائده أحمد بن أبي عبدة ثانية إلى أرض النصارى في جيش ضخم من المدونين، والمتطوعة، وانضم إليه حين دخوله إلى الثغر (الحدود) خلق كثير، واخترق المسلمون أراضي قشتالة، وزحفوا إلى قلعة شنت إشتيبن الواقعة على نهر التاجُه، وكانت تسمى أيضاً قلعة قاشترو مورش (¬3)، وهي من أمنع قلاع النصارى على الحدود، وضربوا حولها الحصار الصارم، ثم نازلوها بشدة، وكادت تسقط في أيديهم، لولا أن هرع إلى إنجادها أردونيو في جموع ضخمة من النصارى؛ وكان الجيش الإسلامي بالرغم من تفوقه في الكثرة مختل النظام، مفكك العرى، يتألف سواده من البربر والمرتزقة الذين لا يعتمد على ولائهم وشجاعتهم، وكانوا يحرصون على غنائمهم أكثر من حرصهم على مقاتلة العدو، فلما انقض أردونيو بقواته على المسلمين، تسللت منهم وحدات كثيرة، وارتدت أمام المهاجمين، ودب الهرج إلى صفوف المسلمين. ولكن قائدهم الشجاع أحمد بن أبي عبدة فضل الموت على الارتداد، فصمد في مكانه في نفر من أشجع ضباطه وجنده، فقتلوا جميعاً، وهلك معهم عدة من أكابر الفقهاء والمجاهدين. وكانت هزيمة مروعة. وكان ذلك في الرابع عشر من ربيع الأول سنة 305 هـ (4 سبتمبر سنة 917 م). وتقول ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 176. (¬2) وهي بالإسبانية Talavera، وهي تقع على نهر التاجه غربي طليطلة. (¬3) San Esteban أو Castro Moros

الرواية الإسلامية إن فلول الجيش الإسلامي، استطاعت أن ترتد بعتادها ومتاعها سالمة إلى الأراضي الإسلامية (¬1). ولكن الرواية الإسبانية تقول بالعكس إن هزيمة المسلمين كانت ساحقة، وبلغ من روعتها أن غصت سائر التلال والسهول والغابات الممتدة جنوباً من دويرة إلى أنتيسة (¬2)، بقتلاهم وأشلائهم (¬3). وكان لذلك الخطب وقع عميق في بلاط قرطبة. وكان عبد الرحمن يعتزم المبادرة إلى غزو ليون بنفسه، لولا أن شغلته عندئذ حوادث إفريقية، على أنه اضطر غير بعيد أن ينهض لرد اعتداء النصارى. ذلك أنه لم تمض بضعة أشهر حتى عاد أردونيو الثاني وحليفه سانشو (شانْجُه) ملك نافار، إلى غزو الأراضي الإسلامية في منطقة الثغر الأعلى، وذلك في ربيع سنة 918 م. وكانت موقعة شنت إشتيبن قد ضاعفت من جرأة النصارى واستهتارهم، فعاثوا في أحواز ناجرة وتطيلة. واستولى سانشو على بلدة بلتيرة (¬4) وأحرق مسجدها الجامع ونكل بأهلها. يقول ابن حيان: " وانقلب الكفرة لعنهم الله إلى بلادهم أعزة، فكان هذا مما أحفظ الناصر لدين الله وحرّكه لمجاهدة أعداء الله، ورغبه في الانتقام منهم بمن الله تعالى " (¬5). وكان عبد الرحمن في الواقع يتوق إلى الانتقام لهزيمته الفادحة في شنت اشتيبن ومقتل قائده الشهم، ولم ينس أن أردونيو سمر رأسه في جدران شنت إشتيبن، فحشد جيشاً ضخماً لمقاتلة النصارى بإمرة حاجبه بدر بن أحمد، وبعث الأوامر والكتب إلى أهل الثغور بالنهوض لتأييده، ومعاونته على معاقبة النصارى ورد عدوانهم والإيقاع بهم. وخرج بدر في جيشه الضخم من قرطبة في المحرم سنة 306 هـ (أوائل يوليه سنة 918 م)، وهرع إليه أهل الثغور (الأطراف) من كل ناحية، ظمئين إلى الجهاد والانتقام. وكذلك احتشد النصارى من سائر الأنحاء لرد الغزاة. ونفذ المسلمون كالسيل ¬_______ (¬1) هذا قول ابن حيان في السفر الخامس من المقتبس - مخطوط الخزانة الملكية، لوحة 64 أ، وكذلك البيان المغرب ج 2 ص 178. (¬2) هي بالإسبانية Atienza (¬3) Dozy: Hist , Vol.II.p. 117 (¬4) ناجرة هي بالإسبانية Najera، وبلتيرة هي Valterra، وكلتاهما تقع في أحواز تطيلة. (¬5) السفر الخامس من المقتبس - لوحة 66 ب.

إلى حدود ليون، فاعتصم النصارى بالجبال لما رأوا من كثرة العدو وأهبته، ولكن المسلمين هاجموهم في مواقعهم، ونشبت بين الفريقين موقعتين دمويتين على مقربة من مكان يسمى " مطونية ". فهزم النصارى هزيمة ساحقة، وأمعن المسلمين فيهم قتلا وأسراً، ولم تنج منهم سوى فلول يسيرة، وكان ذلك في الثالث والخامس من ربيع الأول سنة 306 هـ (13 و15 أغسطس سنة 918 م) (¬1). على أن هذه الهزيمة الساحقة لم تفت في عضد النصارى، فلم يمض سوى قليل حتى عادوا إلى الاحتشاد والإغارة على الأراضي الإسلامية، واستمر القتال سجالا بين المسلمين والنصارى مدى أشهر، وكثر العيث والسبي في مناطق الحدود. فاعتزم عبد الرحمن أن يسير إلى مقاتلة النصارى بنفسه، فخرج من قرطبة في الثالث عشر من المحرم سنة 308 هـ (أوائل يونيه 920 م) في جيش ضخم، وانضم إليه أثناء سيره كثير من أهل الثغور. واخترق أراضي الثغر الأوسط من طليطلة شمالا، حتى مدينة الفرج أو وادي الحجارة ومدينة سالم، فوصل إليها في الرابع والعشرين من المحرم. وفي ذلك اليوم ولى خطة الوزارة لسعيد بن منذر القرشي، وعينه والياً لوادي الحجارة، واتجه إلى طريق ألبة والقلاع (قشتالة) ثم عبر نهر دويرة وزحف على مدينة أوسمة (وخشمة) وأحرقها، وفر منها النصارى ولاذوا بالجبال. ثم سار إلى قلعة شنت إشتيبن (قاشترو مورش)، وهي التي كانت مسرحاً لهزيمة المسلمين المروعة، ففرت حاميتها النصرانية، واستولى عليها وخربها، وغنم ما فيها. وخرب في تلك المنطقة كثيراً من المعاقل والأبراج والكنائس والديارات. ثم سار إلى مدينة قلونية وهي مدينة قديمة لم تبق منها اليوم سوى أطلال دارسة، وكان أهلها قد فروا إلى الجبال، فاجتاح تلك المنطقة كلها، وانتسف أراضيها وخرب قلاعها، وهدم قلونية وخرب دورها وكنائسها، ولم يعترض سبيله أحد من النصارى. وكان أردونيو ملك ليون وسانشو (شانجه) ملك نافار قد حشدا حشودهما، واجتمعت لهما قوات كثيرة. ولكنهما بقيا في الشمال انتظاراً لمقدم المسلمين، وعرج عبد الرحمن بعد ذلك على مدينة تطيلة إستجابة لصريخ أهلها، حيث أزعجها النصارى ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 179 و180.

باعتدائهم المتكرر، وبعث بعض قواته بقيادة محمد بن لب بن قسي صاحب تطيلة لاحتلال قلعة قلقرة (¬1) التي كان سانشو يتخذها قاعدة للإغارة عليها، فألفوها خالية، وزحف عبد الرحمن في الوقت نفسه على حصن قلهرّة وكان به سانشو في قواته، ففر عند اقترابه، واحتله المسلمون وغنموا كل ما فيه ثم دمروه، وانتسفوا الأراضي المحيطة به، ولجأ سانشو إلى حصن أرنيط (أورنيدو) الواقع جنوب غربي قلهرة. والظاهر أن النصارى اعتزموا ألا يعترضوا سبيل المسلمين في تلك المنطقة كلها، وفقاً لخطة وضعوها لاستدراج المسلمين. فلما عبر عبد الرحمن بقواته نهر إيبرو (إبرة) فاجأه سانشو في قواته، وهاجم مقدمة المسلمين، ولكن عبد الرحمن كان يقظاً متأهباً، فتعاون الفرسان والرماة المسلمون على النصارى، وأثخنوا فيهم، فارتدوا إلى شعب الجبال واعتصموا بها. ولجأ سانشو إلى حليفه أردونيو ملك ليون، وجمع الملكان قواتهما من سائر النواحي وتربصا للقاء المسلمين في مواقع منيعة، وعلم عبد الرحمن باجتماع القوات النصرانية على هذا النحو، فأمر بإحكام التعبئة، ومضاعفة الاستعداد، فلما نفذ الجيش الإسلامي إلى شعب الجبال، انحدر النصارى لمهاجمته واشتبكوا بمؤخرته وأحدثوا بها اضطراباً وخسائر، فشعر عبد الرحمن بخطر المأزق، وبادر بالخروج من الشعب الضيقة إلى السهل المنبسط. وهنالك عسكر بجيشه في مكان يسمى " خونكيرا " Junquera على مقربة من غربي بنبلونة، واستعد للقاء النصارى. وهنا طمع النصارى في محاربة المسلمين فانحدروا إلى السهل بعد أن كانوا في حمى الجبال، ولكنهم دفعوا ثمن جرأتهم هزيمة فادحة، وأمعن المسلمون فيهم قتلا وأسراً، ولم ينقذهم من الفناء الشامل سوى دخول الليل، وقتل وأسر كثير من أكابر فرسانهم وزعمائهم، ومن بينهم أسقفان هما دولثديو أسقف شلمنقة وأرمخيو أسقف توى، وقد كانا يحاربان كجنديين، ولجأ نحو ألف من النصارى، أو أزيد من خمسمائة على قول آخر، إلى قلعة مويش القريبة، فاقتحمها المسلمون، واستخرج النصارى الذين بها، ومنهم عدد من القوامس ووجوه الفرسان، فأمر عبد الرحمن بإعدامهم جميعاً، ومزق النصارى كل ممزق، وانهارت كل مقاومة، ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Carcar وهي تقع على مقربة من شمالي قلهرة.

وقضى عبد الرحمن أربعة أيام يجمع الأسلاب والنعم، ويهدم الديار ويقطع الأشجار، وأصاب المسلمون كثيراً من الأسلاب والغنائم. وحدثت هذه الوقيعة الساحقة على النصارى، في اليوم السادس من شهر ربيع الأول سنة 308 هـ (26 يوليه 920 م). وهدم عبد الرحمن حصون العدو، وأصلح حصون المسلمين، وفي مقدمتها حصن بقيرة Viguera المشرف على حدود نافار، وزودها بالعتاد والمؤن. وفي اليوم السابع والعشرين من ربيع الأول، قفل عبد الرحمن عائداً إلى قرطبة، وتوقف في طريقه يوماً بمدينة أنتيسة على مقربة من مدينة سالم، وفرق الأموال والكسى في أهل الثغر، وأذن لهم بالعودة إلى ديارهم، ووصل إلى قصر قرطبة في يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر سنة 308 هـ (أواخر سبتمبر سنة 920 م) بعد أن قطع في غزوته هذه ثلاثة أشهر، وكانت غزوته الأولى في مقاتلة النصارى، وكان ممن شهدها معه سليمان بن عمر بن حفصون المستأمن إليه، فأبلى فيها بلاء حسناً، وبها ارتفع شأوه، وتوطدت سمعته (¬1). وكان عبد الرحمن يرجو أن يكون هذا الدرس بعيد الأثر في ردع النصارى ووقف عدوانهم. ولكنه أخطأ الظن. ذلك أنه لم يمض سوى عامين حتى أغار أردونيو على ناجرة واستولى عليها، وسار حليفه سانشو إلى بقيرة، وكان يتولى الدفاع عنها عبد الله بن محمد بن لب، ومعه نفر من زعماء بني لب وبني ذى النون وغيرهم من الوجوه الأكابر، فحاصرها سانشو واستولى عليها، وأسر من فيها من الزعماء وحملهم إلى بنبلونه ثم قتلهم، ولم ينج منهم سوى مطرف بن موسى ابن ذى النون حيث استطاع الفرار من سجنه. فضجت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها لتلك الفعلة البشعة، ووجهت سهام اللوم إلى عبد الرحمن لقصوره أو تقصيره، في حماية الثغور وحماية الزعماء والقادة، ولم يك ثمة مناص من العمل على تهدئة الخواطر، والانتقام لذلك الاجتراء. وسير عبد الرحمن مولاه ووزيره ¬_______ (¬1) ابن حيان في السفر الخامس من المقتبس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 71 ب - 74 أوب، والأوراق المخطوطة الخاصة بعصر الناصر ص 63 و64، والبيان المغرب ج 2 ص 187 - 189، وكذلك Dozy: Hist., V.II.p. 114 & 143, Cronica General ; ibid.Vol. II.p. 386.

عبد الحميد بن بسيل إلى الثغر الأعلى في جيش قوي، ريثما يتم هو أهبته (ربيع سنة 311 هـ - 923 م)، فقصد إلى تطيلة وجاز منها إلى أراضي نبرّة (نافار)، وعاث فيها، وقاتل سانشو وهزمه في عدة وقائع. ولم تمض بضعة أشهر أخرى، حتى أتم عبد الرحمن أهبته، ولم يصبر على انتظار الربيع وهو موعد الصوائف، بل غادر قرطبة في السادس عشر من المحرم سنة 312 هـ (17 إبريل سنة 924 م) في قوى جرارة، وهو يعتزم التنكيل بالنصارى، والانتقام الذريع لجناية بقيرة، وترك في القصر إبنه الأكبر وولى عهده الحكم، وهو صبى في نحو العاشرة من عمره، وإلى جانبه الوزير أحمد بن محمد بن حدير، وسلك الناصر إلى الثغر طريق المشرق، مخترقاً كورة تدمير، فكورة بلنسية، ونازل في طريقه مدينة لورَقة، وكان يمتنع بها زعيمها الثائر عبد الرحمن بن وضاح، فأخضعه بالأمان، وبعثه مع أهله إلى قرطبة. ثم تقدم منها إلى مدينة مرسية، فاستنزل بها يعقوب بن أبي خالد التوزري وزملاءه العصاة، وأخضع بعض حصون أخرى في قطاع بلنسية، ثم سار إلى طرطوشة ونظر في شئونها، وتقدم بعد ذلك صوب سرقسطة، وهنالك انضم إليه التجيبيون وحلفاؤهم. ولما وصل إلى تطيلة هرع إليه زعماء الثغر بقواتهم، وهم في جموع وافرة وتعبية محكمة، ودخل أراضي نافار في أوائل ربيع الآخر (يوليه). فساد الذعر بين النصارى، وترك العدو معظم قلاعه وحصونه دون دفاع، وكان أول ما استولى عليه المسلمون حصن قلهرّة وكان سانشو قد أخلاه، فأمر عبد الرحمن بهدمه وإحراق ما فيه، ثم استولى عبد الرحمن على حصن قلقرة، ومحلة بيطرالته (بيرالتا) (¬1) الواقعة شمال شرقي قلهرة وما حولها من الحصون، وقتل وسبى كل من وجد بها من النصارى؛ ثم سار إلى حصن بالجش القريب منها وأحرقه، وخرب ما حوله من الضياع والزروع، واستولى بعد ذلك على حصن قرقشتال (كاركاستيلو) في وادي أراجون شرقي بيرالته، وشمال شرقي تطيلة، وهدم سائر القلاع في تلك المنطقة أو أحرقها. ثم نفذ عبد الرحمن إلى قلب نافار وزحف على عاصمتها بنبلونة، وحاول ملكها سانشو غير مرة أن يعترض طريقه في شعب الجبال، فكان يرد في كل مرة بخسارة فادحة. ودخل ¬_______ (¬1) يبدو أن بيطرالته هو المكان الذي يسميه ابن حيان " قنطرة ألبة ".

عبد الرحمن بنبلونة، وقد فر سكانها رعباً، فدمرها وأحرق قصورها وكنائسها، وجد سانشو في جمع قواته ووافته الأمداد من قشتالة، وحاول لقاء المسلمين في مفاوز نافار الوعرة مرتين، الأولى على مقربة من شنت إشتيبن، والثانية على مقربة من قلهرّة، ولكن عبد الرحمن كان على حذر، وكان يعرف تلك المفاجآت الخطرة، فهزم النصارى في كلتا الموقعتين ومزقوا شر ممزق، وانهارت كل مقاومة، وبذلك تم إخضاع نافار وسحق قواتها (ربيع الثاني 312 هـ - أغسطس 924 م). ثم سار عبد الرحمن جنوباً إلى حصن مسرة، وهو أول حصون المسلمين على حدود نبرّة، فعهد إلى من فيه بادخار الأطعمة، وفرق فيهم الأموال. ورحل بعد ذلك إلى مدينة تطيلة، فوصلها في اليوم السابع والعشرين من ربيع الثاني، ثم قفل منها راجعاً إلى الحضرة، وتوقف خلال الطريق بمدينة شنت برية مقر بني ذى النون، وكان زعيمهم يحيى بن موسى بن ذى النون قد خلع الطاعة، والتزم العصيان مستقلا بسلطانه، فلما أشرف الناصر على معقله، خرج إليه نادماً مستغفراً منضوياً في ظل طاعته، فتقبل الناصر توبته، ودخل الناصر قصر قرطبة في يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة 312 هـ، وقد أنفق في غزوته أربعة أشهر، وهي تعرف في الرواية الإسلامية " بغزوة بنبلونة " (¬1). ولم يمض سوى قليل حتى توفي أردونيو الثاني ملك ليون (سنة 925 م)، فخلفه في الملك أخوه "فرويلا"، فلم يحكم سوى عام ثم توفي؛ فتنازع العرش سانشو وألفونسو ولدا أردونيو، وشغلت ليون بحرب أهلية استمرت بضعة أعوام، وانتهى طورها الأول بوفاة سانشو. ثم نشبت ثانية بين ألفونسو وأخيه راميرو، وانتهت بفوز راميرو، وجلوسه على عرش ليون باسم راميرو الثاني، وذلك سنة 932 م. ولم يتدخل عبد الرحمن في تلك الحرب الأهلية، فترك النصارى يمزق. بعضهم بعضاً، وانتهز الفرصة ليتم سحق الثورة، وتوطيد السكينة داخل مملكته، حسبما ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحة 80 - 83 والبيان المغرب ج 2 ص 195 - 201؛ وكذلك Dozy: Hist, V.II.p. 144-145

فصلنا في موضعه، وليقضي على دعوة الفاطميين في المغرب الأقصى. وكان راميرو الثاني أو رذمير كما تسميه الرواية الإسلامية، ملكاً مقداماً شديد البأس. فما كاد يلي العرش حتى نشط إلى استئناف الصراع القديم ضد المسلمين، وكان يرى أن العمل على إذكاء عوامل الفتنة في المملكة الإسلامية هو خير السبل إلى تبديد قوى المسلمين؛ وكانت مدينة طليطلة قد عادت تضطرم بعوامل الفتنة والثورة، وشجع راميرو بدسائسه ووعوده، زعماءها على التمادي في غيهم، فأرسل إليهم عبد الرحمن وفداً من العلماء يخطب ودهم ويحثهم على الخضوع والطاعة، فرفضوا نصحه بكبرياء وصلف، معتمدين على مؤازرة ملك ليون. فبادر الناصر (¬1) بالسير إلى طليطلة في قوات ضخمة، وذلك في ربيع الثاني سنة 318 هـ (مايو سنة 930 م) وضرب حولها الحصار وانتسف ما حولها من المروج، ثم غادرها بعد بضعة أسابيع، وترك لحصارها بعض قواته، ثم عاد فسار إليها بعد ذلك بعامين في صيف سنة 320 هـ (يونيه سنة 932 م) معتزماً في هذه المرة أن ينزل بها الضربة القاضية. وهنا حاول راميرو أن يسعى إلى إنقاذ المدينة المحصورة، استجابة لنداء أهلها، فسار لإنجادها في بعض قواته، واستولى في طريقه على حصن مجريط (¬2). ولكن القوات الإسلامية استطاعت أن ترده قبل أن يصل إلى طليطلة، فاضطر أن يترك المدينة الثائرة لمصيرها، وفقد الثوار بذلك كل أمل في المقاومة، وأضنتهم مصائب الحصار، فاضطروا في النهاية إلى الإذعان والتسليم، ودخل الناصر طليطلة ظافراً (رجب سنة 320 هـ)، وشهد مبلغ منعتها وكثافة أسوارها، وأمر بهدم حصونها، وفقدت الثورة في الأندلس بسقوط طليطلة أمنع معاقلها. وفي العام التالي، سنة 321 هـ (933 م)، سار ملك ليون إلى مدينة أوسمة (وخشمة) التي كان يهددها المسلمون، فردهم عنها واحتلها، وكانت أوسمة، وهي تقع شرقي شنت إشتيبن على مقربة من دويرة، وعلى خط الحصون الفاصل بين الأراضي الإسلامية وقشتالة القديمة، من القواعد الدفاعية الهامة، ومن ثم فقد اعتزم الناصر أن يسير لاستردادها بنفسه، فخرج بالصائفة ¬_______ (¬1) كان عبد الرحمن قد اتخذ سمة الخلافة وتلقب بالناصر لدين الله منذ سنة 317 هـ حسبما نبين بعد. (¬2) هو حصن ومحلة منيعة أنشأها الأمير محمد بن عبد الرحمن سنة 246 هـ (860 م) على ضفة نهر منثنارس ضمن منطقة الحصون الدفاعية بين الأندلس ومملكة ليون. وقد استمرت تؤدي دورها الدفاعي حتى سقطت أخيراً في يد القشتاليين سنة 476 هـ (1083 م)، وعلى موقعها أقيمت مدينة مدريد الحديثة.

من قرطبة في منتصف جمادى الأولى سنة 322 هـ (مايو 934 م)، في جيش كثيف حسن الأهبة، وكانت قواته في هذه المرة ترفع أعلام العقاب المصورة، التي كان أول من استعملها، وكان معه ولده الأكبر وولي عهده الحكم، واستخلف في القصر ولده عبيد الله. وقصد الناصر إلى دار الحرب (أراضي النصارى) من طريق مدينة الفرج أو وادي الحجارة، وذلك لكي يضع حداً لما أبداه محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة، من أعراض الخلاف، والتوقف عن اللحاق به حسبما أوعز إليه، فتحول نحو أراضيه مما يلي غرب الثغر الأعلى، واحتل حصن ماومده من حصونه، بعد أن بادر أهله بالطاعة، ثم تقدم إلى حصن روطة اليهود على مقربة من سرقسطة، وكان به أخوه يحيى بن هاشم، وافتتحه قسراً. ثم سار إلى سرقسطة، وطوقها ببعض قواته، وبعث قوات أخرى إلى تطيلة وطرسونة. ولكنه رأى بعد ذلك أن يتحول بقواته إلى غزو أراضي النصارى، وكان أقربها إليه أراضي نبرّة (نافار). وهنا وفدت عليه رسل تيودا (طوطة) إبنة شنير ملكة نافار، التي قامت بالأمر بعد وفاة زوجها سانشو ملك نافار وصية على ولدها غرسية، ترجو عقد الصداقة، والسلم. فرحب الناصر بطلبها، ووفدت عليه في وجوه مملكتها وقواميسها وأساقفتها، وهو بمحلة قلهرّة، فاستقبلها الناصر ومن حوله جيوشه الكثيفة، العظيمة الأهبة، وأكرم منزلتها، وتعهدت لديه بالطاعة، والابتعاد عن محالفة أى ملك أو أمير نصراني، وكف الأذى عن المسلمين، ومعاونة قواد الثغر الأعلى في محاربة كل من خرج على الطاعة، وأخيراً أن تخلي سبيل وجوه بني ذى النون الذين في اعتقالها. وسجل الناصر ذلك وأشهد عليه، وأقر الناصر من جانبه ولدها غرسية، ملكاً على بنبلونة وأعمالها (بلاد البشكنس)، وانصرفت مع رجالها مزودة بالهدايا والكسى الفاخرة، وفي وفود طوطة على الناصر يقول الشاعر إسماعيل بن بدر: وقيدت زعيمتهم إليه ... كبلقيس تحف به الجنود تلفت لا ترى إلا شهاباً ... به يرمى وتختطف العديد فبادرت السجود لنور وجه ... له رحب التواضع والسجود فأوسعها بفضل العفو أمناً ... وقد كادت بمهجتها تجود

فدام يسوسنا ما دام شـ ... ـبه له في الأرض طالعه السعود وسار الناصر بعد ذلك إلى أراضي ألبة والقلاع، وتوغل فيها، ففر النصارى من السهول، واعتصموا بالجبال، وكان أول ما استولى عليه من حصون العدو، حصن المنار، وهو من أعظم حصون ألبة، فدمره المسلمون، ودمروا حدائقه، ولم تبق منها قائمة. وتردد المسلمون بعد ذلك في مخلتف الأنحاء، وهم يدمرون في طريقهم كل شىء، حتى وصلوا إلى حصن أنة, فهدموه، وأتلفوا حدائقه ومصانعه، وكان ضمن أبنيته كنيسة فخمة، وضمن سكانه ثلاثمائة راهب. واجتاح الناصر سائر بقاع ألبة. ثم نزل على قلونية في شهر رمضان؛ وكان الناصر يود أن يلتقي براميرو ملك ليون في موقعة ما، ولكنه حاول عبثاً أن يحمله على مغادرة قلاعه، والاشتباك مع المسلمين في معركة فاصلة، وكان راميرو يرى ما ينزله المسلمون تباعاً بأراضي مملكته من صنوف التدمير والتخريب، وهو عاجز عن أن يقوم بأية حركة لوقف هذا السيل المخرب. وأخيراً اجتمع النصارى، ومعهم ملكهم راميرو في قلعة مزورته الواقعة فوق ربوة وافرة الحصانة، على مقربة من قلونية، واستعدوا للقاء المسلمين؛ فعبأ المسلمون صفوفهم، واشتبكوا مع النصارى في معركة حامية، قتل فيها عدد من أكابر الفرسان النصارى، واستشهد عدد من المسلمين، وحاول المسلمون بعد ذلك استدراج النصارى إلى السهل. فلما عبروا وادي أوسمة حاول النصارى الهجوم، فردهم المسلمون وقتلوا منهم جملة؛ ثم رحل المسلمون بعد ذلك إلى حصن غرماج ( Gormaz) على مقربة من ليون. ورأى الناصر أن التقدم بعد ذلك في السهول القفرة يعرض جيشه لمتاعب شديدة، فارتد بقواته شرقاً، وهو يعيث في أراضي قشتالة. ثم زحف على مدينة برغش عاصمة قشتالة وخربها، وقتل على مقربتها عدداً كبيراً من أحبار الأديار المجاورة (سنة 934 م) ثم قفل راجعاً بجيشه إلى قرطبة، وقد قطع في غزوته هذه زهاء أربعة أشهر. وذكر الناصر في كتاب الفتح الصادر عن هذه الغزوة، الجهات والمدن التي غزاها من بلاد ألبة والقلاع، فكان منها مدينة أوسمة، وحصن القصر، وحصن أنة والدير المنسوب إليه، ومدينة برغش وقصبتها المنيعة وبسيطها، وحصن بلنسية وبسيطه، وحصن اشكفيرش وبسيطه والأديار المتصلة به، ومدينة لزمة

العظيمة الشأن وبسيطها، ونظم الشعراء قصائدهم في تهنئة الناصر بما أصابه في هذه الغزوة من الظفر (¬1). وتقص علينا الرواية الاسلامية خبر غزوة بحرية قام بها أسطول الناصر في تلك السنة (323 هـ). وخلاصة ذلك أن أسطولا بقيادة أمير البحر عبد الملك ابن سعيد بن أبي حمامة، قوامه أربعون مركباً منها عشرون من الجرافات التي تحمل النفط والآلات البحرية، وعشرون تحمل الرجال المقاتلة، وعدة ركابه من الجند ألف رجل ومن البحريين ألفين، خرج من ثغر ألمرية في شهر رجب (مايو 935 م) فسار أولا إلى جزيرة ميورقة الاسلامية، ثم خرج منها متجهاً نحو شاطىء الثغر الفرنجي، وقصد أولا إلى مدينة بالش وهاجمها، ووقعت بينه وبين أهلها معركة عنيفة هزم فيها الفرنج، وقتل منهم ثلاثمائة رجل؛ ثم سار الأسطول إلى مدينة إينش، وأحدق بها المسلمون براً وبحراً وأحرقوا المراكب في مرساها وقتلوا من أهلها نحو أربعمائة رجل؛ وبعث ابن حمامة من سفنه خمسة عشر سارت شمالا إلى بلدة مسِّنيط ثم سار خلفها ببقية الأسطول، وغزا الأسطول قرى كثيرة على الشاطىء، وحقق غنائم كثيرة، وخرج الافرنج لقتاله، فهزموا وقتل قائدهم. ثم تقدم الأسطول بعد ذلك من مدينة يرشلونة، عاصمة الثغر الفرنجي، فاجتمع الفرنج لمقاومته بقيادة زعيمهم بليط، فهزموا وقتل قائدهم، وأغلقت المدينة أبوابها ودافع أهلها من فوق الأسوار، فتحول الأسطول إلى الساحل الجنوبي، ودارت بينه وبين الفرنج المجتمعين على الشاطىء معركة شديدة هزم فيها الفرنج. ثم قفل الأسطول الإسلامي بعد ذلك عائداً إلى ثغر طرطوشة الإسلامي، مثقلا بالسبي والغنائم، وهنالك تلقى قائده أبا حمامة كتاب الناصر، بالنهوض إلى سبتة وطنجة لمحاربة من انتقض هنالك من أهلها فصدع القائد بالأمر، وسار بسفنه نحو الجنوب، ولبث متردداً بين مراسي العدوة حى شتاء العام التالي، ثم عاد إلى مراسيه في ألمرية في صفر سنة 324 هـ (¬2). ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية، لوحات 131 - 135 ابن خلدون ج 4 ص 142؛ وكذلك: Dozy: Hist. Vol.II.p. 148. (¬2) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 144 ب و145 أ.

وفي هذه السنة أيضا (323 هـ)، عقد السلم بين الناصر لدين الله وراميرو ملك ليون. وكان راميرو، على أثر الغزوة المخربة التي قام بها المسلمون في أراضيه، قد بعث رسله إلى الناصر في التماس الصلح، فبعث إليه الناصر وزيره يحيى بن يحيى بن إسحاق سفيراً، فاجتمع في ليون مع راميرو، وعقد معه شروط الصلح. ووقع الناصر هذه المعاهدة في منتصف ربيع الثاني من هذه السنة (مارس 935 م)، في يوم مشهود. وكان الناصر يرمي بعقد هذا الصلح إلى إبعاد ملك ليون من التفاهم مع محمد بن هاشم صاحب سرقسطة ومعاونته. بيد أن هذا الصلح لم يدم طويلا، لما كان يجيش به راميرو من رغبة ملحة في النكث والتفاهم مع الخارجين على حكومة قرطبة (¬1). ذلك أن بذور الثورة كانت تختمر في الثغر الأعلى، وكان النصارى إلى جانب ذلك يتحينون الفرصة للنهوض والانتقام. وكانت طوطة ملكة نبرّة الوصية على ولدها غرسية، قد لزمت السكينة حيناً وفقاً لمعاهدة السلم التي عقدتها مع الناصر، ثم تحرك البشكنس بعد ذلك وأغاروا على بعض الحصون الإسلامية (937 م). وظهرت في الوقت نفسه في الولايات الشمالية أعراض فتنة خطيرة. ذلك أن بني هاشم التجيبيين سادة سرقسطة، لم يكونوا دائماً على وفاق مع حكومة قرطبة، وكانت تحدوهم أطماع كثيرة. وكانوا يخشون عواقب السياسة التي يتبعها الناصر في إخضاع الولاة المحليين، وسحق سلطان الأسر القديمة، وكان وجودهم في الشمال بين الممالك النصرانية يفسح لهم مجال التآمر والخروج. وكان أبو يحيى محمد بن عبد الرحمن التجيبي، حينما توفي في سنة 312 هـ، قد خلفه ولده هاشم بمصادقة الناصر، وحكم سرقسطة، وضبط الثغر، واشترك في الغزو مع الناصر، وتوفي في سنة 318 هـ. فطلب ولده محمد بن هاشم التجيبي إلى الناصر أن يقره على ولاية سرقسطة، فلم يجبه إلى ذلك، فسار محمد إلى قرطبة مؤكداً لولائه، فصدر الأمر بتوليته في رجب سنة 319 هـ، والتزم بأن يورد قسماً من الجباية. ولما سار الناصر في سنة 322 هـ إلى الغزو بعث إلى أهل الثغور لموافاته، فقدم إليه التجيبيون، في رجالهم، وتخلف محمد بن هاشم عنهم، وسار الناصر لقتاله، ولكنه تحول ¬_______ (¬1) ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 143 أ.

عنه إلى قتال النصارى حسبما تقدم (¬1). ومن ثم فإنه لما اضطرمت نار الحرب بين ملك ليون وبين الناصر، رأى التجيبيون الفرصة سانحة لتنفيذ مشاريعهم، وكان راميرو ملك ليون بالرغم من ارتباطه بعهد السلم مع الناصر، يرقب الفرصة للنكث واستئناف الحرب ضد المسلمين، فلما استجاش به محمد بن هاشم، رأى الفرصة سانحة، فنكث عن السلم وعقد الحلف المنشود مع محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة، وقريبه مطرِّف بن منذر التجيبي صاحب قلعة أيوب (¬2)، وتعهد محمد لراميرو أن يعترف بطاعته، نظير معاونته إياه في الخروج على عبد الرحمن الناصر ومحاربته، بل يقال إن هذا الحلف كان قد عقد قبل ذلك سراً، وإن آثاره ظهرت منذ سنة 324 هـ (934 م)، حينما كان الناصر يغزو أراضي ليون، ولم يتقدم بنو هشام لمعاونته، بل بالعكس جاهر محمد بالخروج عليه وخلع طاعته، ثم اعترف بسيادة ليون على سرقسطة وأحوازها، ولما أبى بعض قواد الحصون مجاراته في خيانته، سار إليهم راميرو وأخضعهم، وسلم قلاعهم إلى الزعيم الثائر، ثم عقد محمد وراميرو محالفة مع طوطة ملكة نافار، وغزا البشكنس الأراضي الإسلامية حسبما قدمنا، وبذا تحالف الشمال كله ضد عبد الرحمن. وتقدم إلينا الرواية الإسلامية، خبر معركة، نشبت في ذلك الوقت في الثغر الأعلى بين المسلمين والنصارى. وذلك أن الفرنج في برشلونة وحلفاءهم في الثغر، حاولوا انتهاز الفرصة، وغزوا الأراضي الإسلامية، فخرج إليهم أحمد بن محمد بن إلياس قائد القوات السلطانية المرابطة في الثغر على مقربة من سرقسطة، ونشبت بين المسلمين والنصارى معركة شديدة على ضفاف نهر إبرُه، فهزم النصارى هزيمة شديدة وقتل وغرق منهم عدد جم. وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه الموقعة في آخر شوال سنة 324 هـ (سبتمبر 936 م) (¬3). وبعث الناصر في نفس الوقت جيشاً كثيفاً إلى الثغر الأعلى بقيادة الوزير عبد الحميد بن بسيل، ليقوم بالتضييق على سرقسطة وبني هاشم، وليدعم ¬_______ (¬1) العذري في كتاب ترصيع الأخبار ص 43 و44. (¬2) Calatayud وهي تقع جنوب غربي سرقسطة في منتصف الطريق بينها وبين مدينة سالم. (¬3) المقتبس - السفر الخامس - لوحة 148 ب و149 أ.

القوى السلطانية المرابطة على مقربة منها، وذلك ريثما يستطيع السير بنفسه إلى الشمال. ثم أتبعه بجيش آخر، بعثه إلى الثغر أيضاً بقيادة الوزير سعيد بن المنذر القرشي، ليقوم بالمعاونة في التضييق على سرقسطة. وفي نفس هذا العام (324 هـ) حاول نصارى ليون مرة أخرى الاستيلاء على قلعة مجريط أهم قلاع الثغر الأدنى، فهاجمتها قوة كبيرة، ولكن الحامية الإسلامية بقيادة أبي عمر بن أبي عمر استطاعت أن تصد هذا الهجوم، وأن تنقذ القلعة (¬1). وكان عبد الرحمن أثناء ذلك يتأهب إلى الغزوة المرتقبة إلى الشمال. ففي منتصف شهر رجب سنة 325 هـ (مايو سنة 937 م)، خرج من قرطبة إلى مقاتلة أعدائه في جيش ضخم، وكان بروزه يوماً مشهوداً، تبدت فيه روعة أهباته، وفي ذلك يقول الفقيه أحمد بن محمد بن عبد ربه: يوم من العز مجموع له الناس ... يختال في عقوتيه الجود والباس وعلم عبد الرحمن أثناء سيره، أن النصارى في الوقت الذي يحتشدون فيه بأطراف الثغر الأعلى، لمناصرة حليفهم الخارج محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة، يحاولون في نفس الوقت أن يزحفوا صوب طليطلة لإثارة الثورة فيها. فسار بجيشه إلى طليطلة كيما يؤمن أهلها، ويرهب النصارى، ونزل عليها، فلما علم النصارى بمقدمه ارتدوا مذعورين إلى الشمال. وفي خلال ذلك وافاه كتاب من أحمد بن محمد بن إلياس قائد الثغر بظفره بالعصاة في مدينة وشقة، وكتاب آخر بإخماد ثورة أهل طلبيرة غربي طليطلة. وسار عبد الرحمن بعد ذلك إلى الثغر الأعلى من طريق وادي الحجارة، وأبقى قوة من جيشه في منطقة طليطلة بقيادة مولاه درِّى، للسهر على النظام في تلك المنطقة؛ ورأى أن يبدأ بقلعة أيوب، وكان قد امتنع بها مطرِّف بن منذر التجيبي المعروف بأبي شويرب، وكان راميرو قد بعث لإنجاده فرقة من فرسان ألبة والقلاع. فحاصر عبد الرحمن القلعة، وبعث يدعوه إلى الطاعة، ويؤكد له الأمان بخطه، فرفض مطرف أن يستجيب إلى هذه الدعوة، فهاجم عبد الرحمن القلعة، وبرز إليه مطرف وحلفاؤه، ونشبت بين الطرفين معركة ¬_______ (¬1) المقتبس - السفر الخامس - لوحة 149 ب.

شديدة، هزم على أثرها مطرف، وقتل، ولجأ أخوه حكم بن منذر في فلوله ومن معه من فرسان ألبة إلى القصبة، وامتنعوا بها، فاستمر الهجوم عليهم، وكثر القتل في المدافعين، حتى اضطر حكم أن يطلب الأمان لنفسه ولحلفائه النصارى، ليعودوا إلى بلادهم، ويلحق هو وأهله بالحضرة، فقبل الناصر ونزل حكم ومن معه من القصبة، وأعفى عن النصارى المستأمنين وقتل الباقون. ووقع فتح قلعة أيوب على هذا النحو في التاسع عشر من شهر رمضان من هذه السنة. وكان فتح قلعة أيوب أول صدع خطير في ثورة بني تجيب، وكان بها، فضلا عن مناعتها الطبيعية، عدة كبيرة من فرسان سرقسطة الأكابر، وخمسمائة من الفرسان النصارى لم ينج منهم سوى الخمسين الذين أمنوا، وقد أفاضت الشعراء في تهنئة الناصر بهذا الفتح، ومن ذلك قصيدة لابن عبد ربه هذا مطلعها: يا ابن الخلايف والصيد الصناديد ... ألقت إليك الرعايا بالمقاليد ورأى الناصر، قبل أن يسير إلى سرقسطة، أن يقوم بجولة في أرض النصارى. فاتجه إلى أراضي ألبة والقلاع، فافتتح عدة كبيرة من حصونها تبلغ السبعة والثلاثين حصناً. واعتزم بعد ذلك أن يعاقب البشكنس على عدوانهم، فسار إلى بسيط بنبلونة، وخرب معاهدها وحصونها، ومزق جموع البشكنس وسحق كل مقاومة، وبعث فرقاً من جيشه إلى مختلف الأنحاء المجاورة فعاثت فيها وأصاب المسلمون غنائم كثيرة. وساد الرعب على البشكنس؛ وهرعت إليه طوطة، ملكة نبرّة تقدم إليه خضوعها وتوبتها، فقبل الناصر اعتذارها وأقر ولدها غرسية ملكاً على نبرّة في طاعته وتحت حمايته؛ وكان ذلك في أواخر رمضان وأوائل شوال من سنة 325 هـ (أغسطس 937 م) (¬1). وسار الناصر بعد ذلك إلى تطيلة، ثم سار منها إلى سرقسطة، فنزل عليها في الثاني عشر من شهر شوال، وابتنى حولها المنازل والدور بمحلته، وعهد بحصارها إلى أحمد بن إسحاق القرشي قائد الفرسان، وهو من قرابته، وعينه حاكماً للثغر. ولكنه تهاون في الحصار وتوانى لمرض في قلبه، ولأطماع كانت تجيش بها نفسه، فأنبه عبد الرحمن وعزله، فاتفق مع أخيه أمية على التآمر ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحات 153 و155 و156 أ.

والخروج، فوقف عبد الرحمن على أمرهما واكتفى بنفيهما من الأندلس. فسار أمية إلى مدينة شنترين (¬1) في ناحية الغرب، واستولى عليها ورفع بها علم الثورة، وتحالف مع ملك ليون. فأمر الناصر القائد أحمد بن محمد بن إلياس، وكان مقيماً في بطليوس ليرصد حركات أمية بن إسحاق، أن يغزو أرض العدو، فسار إلى أراضي ليون واشتبك مع الجلالقه في معركة، هزم فيها الجلالقة، وقتل منهم عدد جم، ولا سيما من أهل سمورة (جمادى الأولى سنة 326 هـ)، ثم أمر الناصر بعد ذلك القائد عبد الحميد بن بسيل، أن ينضم في قواته إلى أحمد ابن محمد بن إلياس، وأن يسيرا معاً إلى غزو ليون, فصدعا بالأمر، ووصلا بقواتهما إلى أرض النصارى وعاثا في جنباتها، وفي نفس الوقت تحركت بعض السفن من نهر الوادي الكبير وسارت نحو الغرب لغزو أهل شنترين الذين يناصرون أمية بن إسحاق. وانتهى الأمر بأن قام أحد الزعماء المحليين الذين يدينون بطاعة الأمير، واستطاع أن ينتزع شنترين من أمية، فالتجأ أمية إلى راميرو. أما أخوه أحمد فحاول أن يتصل بعمال الفاطميين في عدوة المغرب، وأن يأتمر معهم على حكومة قرطبة، فسعى عبد الرحمن إلى القبض عليه ثم أمر بإعدامه (¬2)، ولكن سنرى أن مغامرات بني إسحاق لم تنته عند هذا الحد. واستمر حصار سرقسطة مدى أشهر، والناصر يشدد عليها الخناق شيئاً فشيئاً. وأخيراً اضطر محمد بن هاشم أن يبعث رسله في طلب الأمان والصلح، على أن يقره الناصر على حاله، فأبدى الناصر قبوله وتسامحه، وطلب أن يخرج إليه إخوة محمد ووجوه أهل سرقسطة لعقد الصلح. فخرج إليه وجوه سرقسطة، ومن بينهم إخوة محمد، يحيى وعبد الرحمن وهذيل. وعدة من ذوي الشوكة. وهنا ثابت للناصر فكرة في انتهاز الفرصة، والقبض على تلك الصفوة المختارة من أهل سرقسطة، ليسدد إلى المدينة الثائرة ضربة مميتة، فأمر بالقبض عليهم جميعاً واعتقالهم داخل سرادقه، فلما علم محمد بن هاشم بما تم سُقط في يده، وشعر بوقوع هذه الضربة التي حرمته من كبار معاونيه، ولكنه استمر صامداً ممتنعاً، ورسل الناصر تتردد إليه بالإعذار والإنذار دون جدوى. وأخيراً بعث ¬_______ (¬1) وهي بالإفرنجية Santarem. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 140؛ وابن الأثير ج 8 ص 115.

إليه الناصر بوزيره ومولاه محمد بن عبد الملك بن أبي عبدة، فاطمأن الثائر إليه، وأذعن إلى التوبة والإنابة وطلب الأمان والصلح، وكان ذلك خلال عيد الأضحى سنة 325 هـ. فاستجاب الناصر إلى طلب محمد بن هاشم، وعقد له الأمان بأوثق عقد، وشهد الملأ من أهل العسكر وأهل الثغور، وشهدت نسخته في الناس عامة، وذلك في شهر المحرم سنة 326 هـ (نوفمبر 937 م). وكان مضمونه " أن يمنح الأمان لمحمد بن هاشم وإخوته وجميع أهله وأصحابه من مدينة سرقسطة، وجميع من يتصل بهم من أهلها، للمدة التي يرضاها الناصر، وأن يملكه سرقسطة تمليكاً يدخل فيها من يشاء، وإلى العدد الذي رضاه من رجاله، ويكون أهل مدينة سرقسطة ومن يبقيه محمد بن هاشم منهم من أهله وأتباعه آمنين بأمان الله، محفوظين بعهد الملة. مستمسكين بمثل أمان محمد بن هاشم، غير معتقبين في أنفسهم، ولا مأخوذين بذنب سلف، وأن يخرج محمد بن هاشم من سرقسطة بنفسه، ومن أحب إخراجه معه من خواص أهله وولده، إلى مدينة تطيلة أو غيرها من مدن الثغر، وحصوله مسجلا على الموضع الذي يتخيره، ويبقى بسرقسطة من أحب منهم، ويختلف عليهم. وعلى المُولّى بسرقسطة بعده، إحسان صحبتهم، وعليه أن يباعد منزله عنهم، لا يقربه شىء من دور محمد ابن هاشم، أو ينزل القصر القديم بعد خروج محمد بن هاشم عنه بجميع ماله فيه. وعلى أن يسجل الناصر لدين الله، لأخيه يحيى بن هاشم على ما كان بيده من مدينة لاردة وأحوازها. فإن انقضت المدة التي يضربها الناصر لمحمد، توجه إلى الحضرة، وأقام فيها ثلاثين يوماً أو نحوها، مظهراً لصدق طاعته، ماحياً لكل ما انتثر في أقطار الأرض من معصيته، وهو في توجهه إليه آمن في طريقه، ومدة مقامه ومنصرفه، غير مقطوع ولا معترض دون الانصراف، إذ انقضت المدة التي وضعت له. وله على السلطان إذا وفى بما عقد عليه من الشخوص إلى باب سُدَّته أن يكتب له عهداً على مدينة سرقسطة، ويصرفه إليها عاملا وقايداً، ويعزل عنها عامله وقايده. بعد أن يناله من كرامته، ويظهر عليه من آثار نعمته، ما يعود معه إلى أحسن الأحوال التي كان عليها قبل هفوته ". وقد اشترط عهد الأمان أيضاً أن يقدم محمد بن هاشم إلى الناصر رهائن من

ولده وإخوته وصحبه وكاتبه، وأن يكون جماعتهم لدى الناصر بحال حفظ وتكرمة، وأمان في المسير والمقام، يديلهم ستة أشهر، باكفايهم ونظرائهم من إخوتهم خاصة، إلى أن يظهر لأمير المؤمنين براءة محمد بن هاشم من ممالأة المشركين، وتصحيحه طاعة أمير المؤمنين، وعلى أن يقطع محمد بن هاشم من المشركين في ظاهره وباطنه، من حدِّ بلد برشلونة إلى شرطانية إلى بنبلونة إلى ألبة والقلاع وإلى جليقية، ولا يكاتبهم ولا يداخلهم، ولا يصالحهم على طرف من أطراف الثغر إلا عن إذن أمير المؤمنين، وأن يورد جباية بلده لمحلها، بعد أن يسقط عنه جباية عام، وألا يتقبل حراً نازعاً، ولا عبداً آبقاً لأمير المؤمنين، ولا لأحد من رعيته، وأن يوثق من ظفر به من هذه الطبقة ويصرفه إلى مكانه، وألا يتعقب أحداً ممن سجل له عليه، أو يسجل بعد، ممن حاربه مع أمير المؤمنين وفارقه إليه أيام الطاعة، وأن يجدد البيعة لأمير المؤمنين ويلتزم شروطها، وأن يغزو مع أمير المؤمنين، ويعادي من عاداه ويحارب كل من حاربه، ويسالم من سالمه من أهل الملوك وغيرهم، ويقطع نصيبه من كل من أخرج يده عن طاعته، وإن كان ابنه أو أخاه، يلتزم كل ما ألزمه أمير المؤمنين من ظاهر القول وباطن الإرادة، لا ينقص تناول البغية، ولا يحرف عن التصحيح بالعلة، فقد التزم أمير المؤمنين في عقده، مثل ما سأله محمد في ذلك وأوجبه على نفسه مع دركه لهذه المنن، إن صدق الطاعة، أن يوليه مدينة سرقسطة، وما وقع في سجله معها ولاية مستمرة، ولا يعزله طول أيامه عنها، ثم لا يؤاخذه بذنب، ولا يعدد عليه اقتراف خطأ ولا عمد، ولا تقبل فيه مقالة كاشح ولا طعن حاسد، ويصير ذلك له وصية فيمن بعده، يلزمهم الوقوف عندها على سبيل الخلفاء في خالدات عهودهم إن شاء الله، ووقعت الأيمان في هذا الأمان من الناصر لدين الله مستوفاة مغلظة، أخذ على محمد بن هاشم أشد منها، فحلف في مقطع الحق بمسجد سرقسطة الجامع خمسين يميناً منسوقة بمحضر قاضي الجماعة بقرطبة والفقهاء وأعلام العسكر، والملأ من أهل بيت محمد بن هاشم، ووجوه أهل الثغر، على التزام ما عقد على نفسه منه واعتداده إياه ديانته ". ثم أشهد الناصر لدين الله على نفسه فيه جميع أهل عسكره، فكان أول من شهد عليه أولاده الحاضرون، ثم أعمامهم ثم الوزراء وأصحاب الخطط، ثم الفقهاء، ثم

وجوه أهل سرقسطة ومن حضر من أهل الثغر (¬1). سقطت سرقسطة وسائر الحصون المجاورة لها في يد الناصر، وكذلك سقط في يده حصن روطة أمنع حصونها في الغرب، وبذا انهارت ثورة التجيبيين في الشمال، وكانت من أخطر الثورات التي واجهها الناصر، لأنها كانت مركزاً لتجمع القوى المعادية لخلافة قرطبة، من الخوارج والأمراء النصارى. أما عفو الناصر عن محمد بن هاشم، ومنحه الأمان له، واستصناعه بالرغم من فداحة جرمه، فرجع إلى ما كان يتمتع به محمد من مقدرة إدارية فائقة، ولما كان لبني هاشم في الشمال من مركز قوى مؤثل، ولما كان لهم من العصبة والأنصار. وقد رأينا الناصر في غير موطن، يعفو عن الثوار العتاة، ويحسن إليهم، وينظمهم في جيشه. وقد كانت هذه سياسة مستنيرة من الخليفة القادر، للاستفادة من هذه العناصر المنحرفة القوية معاً، متى استقرت توبتها، وحسن ولاؤها. ودخل الناصر بجيشه مدينة سرقسطة وفقا للسلم المعقود في يوم الخميس 14 من المحرم سنة 326 هـ (22 نوفمبر 937 م)، وشهد منعتها وحصانة أسوارها، فأمر بهدم الأسوار حتى لا تعود منعتها فتشجع الخوارج على الثورة، وشحنها برجاله، ونظر في مصالحها، فساد بها الهدوء والأمن، وبعث الناصر أثناء مقامه بسرقسطة، قوة من جيشه بقيادة نجدة بن حسين الصقلبي لتقوم ببعض الغزوات في أرض العدو، وأمر محمد بن هاشم أن يرافقه في أصحابه امتحاناً لوفائه، فصدع بالأمر. وسار المسلمون بالرغم من اشتداد البرد وانهمار الثلوج صوب ناحية شنت إشتيبن، وتفرقوا إلى ثلاث فرق، أخذت كل فرقة منها بشن الغارات في قطاع معين، ثم اجتمعت عند حصن شنت إشتيبن، وهنا حاول النصارى اعتراض المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها النصارى. وتوغل المسلمون بعد ذلك في أراضي ألبة، وانتسفوا الزروع ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن حيان حوادث فتح سرقسطة، وعقد الأمان الذي أصدره الناصر لمحمد ابن هاشم نقلا عن عيسى بن أحمد الرازي. وقد أورد لنا أيضاً أسماء الشهود الذين وقعوا هذا الأمان من الأمراء والوزراء وأصحاب الخطط والموالي والفقهاء وغيرهم، وشغل ذلك أكثر من صفحة. المقتبس في السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية لوحات 156 ب إلى 159 أ.

وخربوا الكنائس والديارات، ثم عادوا مثقلين بالغنائم إلى سرقسطة. وكان الناصر قد استتم خلال ذلك النظر في شئون الثغر، وحفظ أطرافه، وتزويده بالحماة والمقاتلة، وكل ما يضمن سلامته، ثم خرج بجيشه من سرقسطة قافلا إلى الحضرة في الرابع عشر من صفر، فوصل إلى قصر الخلافة في الثامن عشر من ربيع الأول سنة 326 هـ (أواخر يناير 937 م)، وذلك بعد أن قضى في غزوته زهاء ثمانية أشهر (¬1). ووفد محمد بن هاشم التجيبي بعد ذلك على قرطبة، فأكرم الناصر وفادته، وأقام في كنفه مدة في رغد وإيثار، وهو يحضر مجالس الخليفة، ثم غادر قرطبة في رجب بعد أن ولاه الناصر سرقسطة، وعقد له عليها وعلى الجهات التابعة لها، وولاه القيادة في نفس الوقت، وبذا رد إلى سابق مناصبه ومكانته. * * * وهكذا استطاع عبد الرحمن أن يمزق شمل هذا التحالف الخطر، وأن يخضع الشمال الشرقي من شبه الجزيرة كله لسلطانه وصولته؛ ولم يبق عليه إلا أن يحطم خصمه القوي العنيد راميرو الثاني ملك ليون، وهو محور النضال الحقيقي. فلم يمض سوى عامين حتى تأهب للقيام بأعظم غزواته ضد مملكة ليون، فحشد جيشاً ضخماً يبلغ زهاء مائة ألف، وعهد بقيادته إلى نجدة بن حسين الصقلبي. وكان الأجانب والصقالبة قد تبوأوا يومئذ ذروة القوة والنفوذ في بلاط قرطبة، وسيطروا على معظم المناصب الكبيرة في القصر والجيش. وكان لهذه السياسة التي أسرف الناصر في اتباعها، أسوأ الأثر في نفوس الزعماء العرب، وفي انحلال قوى الجيش المعنوية. وفي صيف سنة 939 م (327 هـ) سار الناصر إلى ليون على رأس جيشه الضخم، وعبر نهر التاجُه من عند طليطلة، ثم عبر نهر دويرة متجهاً نحو قلعة شنت منكش، أو شنت مانك (سيمانقة) دون أن يفطن إلى ما يفت في عضد هذه القوة العظيمة من العوامل الخفية؛ وكان راميرو الثائر يرابط على مقربة منها في حشود عظيمة، متأهباً لقتال المسلمين بكل ما وسع، وزوده حليفه الخائن أمية بن إسحاق بنصائح ومعلومات ثمينة، ¬_______ (¬1) المقتبس في السفر الخامس - لوحة 163 أوب.

وانضمت إليه طوطة ملكة نافار ناكثة لعهدها، وبذا اتحدت قوى اسبانيا النصرانية لمقاتلة المسلمين مرة أخرى. وهنا تختلف الرواية العربية والفرنجية اختلافاً بيناً في شأن الموقعة التي نشبت بين المسلمين والنصارى، وبينما تقدم إلينا الرواية الفرنجية كثيراً من التفاصيل الواضحة المغرقة أحياناً، إذا بالرواية العربية يغلب عليها الإيجاز والغموض والتحفظ؛ وبالرغم من أن الرواية الأندلسية تشير إليها في غير موضع وتصفها " بغزاة القدرة " تنويهاً بأهميتها، وما كان يعلق عليها من رغبة في سحق المملكة النصرانية، وتسميها بموقعة " الخندق " وهو نفس الإسم الذي تقدمه الرواية الفرنجية، فإنها لا تقدم إلينا أى تفصيل شاف عن مكانها وظروفها (¬1). وسوف نستعرض أقوال الرواية الإسلامية أولا، ثم نتلوها بأقوال الرواية النصرانية، حتى نستطيع بالتمحيص والمقارنة، أن نخرج بفكرة واضحة عن حقائق هذه الموقعة التي تعتبر من كوارث التاريخ الأندلسي. ويقدم إلينا المسعودي عن الموقعة رواية يطبعها لون القصة. فيقول لنا إن عبد الرحمن اقتحم بجيشه حدود ليون وزحف على مدينة سمّورة عاصمتها، وكانت في غاية المناعة، يحيط بها سبعة أسوار شاهقة البنيان، قد أحكمتها الملوك السابقة، وبين الأسوار خنادق متسعة تفيض بالماء، فافتتح المسلمون منها سورين، واحتمى النصارى بداخل المدينة، ثم لحق المسلمين الإعياء من امتناع المكان وحصانته، فكر عليهم النصارى بشدة وحماسة، فساد الاختلال بين المسلمين وهزموا هزيمة شديدة، وقتل منهم زهاء أربعين ألفاً وقيل خمسين ألفاً، وكان ذلك في شوال سنة 327 هـ (يوليه 939 م). وسميت الموقعة بموقعة الخندق لنشوبها على خنادق سمورة (¬2). على أن الرواية الأندلسية أكثر وضوحاً ودقة، في شرح تفاصيل هذه ¬_______ (¬1) أخبار مجموعة ص 136؛ ويشير ابن خلدون إلى الموقعة إشارات عابرة (ج 4 ص 137 و140). وكذا ابن الأبار في الحلة السيراء ص 150. ولم يذكرها ابن عذارى في البيان المغرب. (¬2) مروج الذهب (بولاق) ج 1 ص 78؛ ونقلها المقري في نفح الطيب ج 1 ص 165 وابن الأثير ج 8 ص 115.

الكارثة. ولدينا من ذلك روايتان، تمتاز كلتاهما بنوع من الوضوح في تحديد مكان الموقعة وظروفها، هما رواية مؤرخ الأندلس الكبير ابن حيان، ورواية الوزير ابن الخطيب. أما رواية ابن حيان، وهي التي ينقلها في المقتبس عن عيسى بن أحمد الرازي، فخلاصتها، هو أن الناصر لما عزم على غزو أهل جلِّيقية (مملكة ليون)، جد في الاستعداد والحشد، وبعث كتبه إلى الثغور، واستكثر من الآلات والسلاح، وخرج في حشوده إلى الغزو في يوم الجمعة 22 شعبان سنة 327 هـ الموافق لأول شهر يونيه العجمي (سنة 939 م). وكان الناصر قد سير قبل خروجه الوزير القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة في بعض قواته إلى جهة الغرب احتياطاً على أهله، وحماية لهم أثناء قيامه بالغزو. ووصل الناصر في قواته إلى طليطلة في يوم 23 رمضان، ثم خرج منها الى أرض العدو (قشتالة) في الخامس من شوال، فعاث فيها أياماً، وألفى النصارى قد أخلوا معظم بلاد هذه المنطقة، وكانت غاصة بالنعم والأقوات، فاستولى المسلمون عليها، ثم تقدموا إلى حصن أشكر، وخربوه وانتسفوا ما حوله. ثم ساروا إلى حصن أطلة، فحصن برتيل، وذلك في يوم 13 شوال. وكان محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة قد تقدم في قواته، في الوقت نفسه، فعبر نهر شنت مانكش (سيمانقا)، فارتد العدو بقواته وراء النهر, ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها النصارى أولا، ولكنهم عادوا فاجتمعوا وتكاثروا على المسلمين، وسقط محمد بن هاشم عن فرسه خلال القتال فأسر، وهزم المسلمون على باب شنت مانكش هزيمة شديدة، وقتل منهم كثيرون وارتدوا في تراجعهم إلى خندق عميق، وهو الذي تنسب إليه الموقعة، فتردى فيه منهم خلق كثير، فتقدم الناصر مضطراً بقواته، وترك محلته، فملكها العدو في الحال، واحتل الناصر أعلى النهر بقواته، وقد عجز النصارى عن اتباعه، فلبث هناك يومه، وقد ساد الخلل في الجيش، وأيقن الناصر بتمحيص الله للمسلمين، ثم رحل قافلا حتى وصل إلى مدينة وادي الحجارة، ثم سار منها إلى قرطبة. هذا ملخص ما نقله ابن حيان عن عيسى بن أحمد عن موقعة الخندق، ويزيد ابن حيان على ذلك، أن هذه الوقيعة التي اشتهر حديثها بالأندلس قد نالت

السلطان (الخليفة) والمسلمين فيها محنة عظيمة، وقتل وأسر فيها خلق كثير. واستولى العدو على محلة السلطان وسرادقه وآلاته السلطانية، وفيها مصحفه الخاص ودرعه الأثير لديه. وشملت الهزيمة سائر الكافة، فلم ينج من نجا منها إلا على متون الدواب. وأصاب القتل والأسر بالأخص أهل البلاد والمطوعة. أما الجند فقد نجا معظمهم، وفشا القتل فيمن سواهم من المستنفرين والحشودة. ويقول لنا ابن حيان، إنه كان بين ضحايا المعركة جده أبو سعد مروان بن حيان بن محمد بن حيان. ومن الحقائق المؤلمة التي ينقلها إلينا ابن حيان، أنه قد بدا في هذا اليوم، من قوم من وجوه الجند " النفاق لأضغان احتملوها على السلطان فقبعوا للصفوف، وسارعوا في الهرب، وجروا على المسلمين الهزيمة وأوبقوهم. وكان أسبقهم إلى ذلك وأكشفهم لما في نفسه الخاين " ابن فرتون بن محمد الطويل " وقد بعث الناصر خلفه برسول استطاع القبض عليه، فثقف وحمل إلى قرطبة، وهنالك صلب على باب السُّدة يوم وصول الناصر من غزاته، وألحق به نفر من أشكاله ممن عملوا عمله، ولحقهم وزره. ويصف لنا عيسى بن أحمد، طريق العودة الذي سلكه الناصر بجيشه عقب الموقعة، فيقول إن الناصر، قصد أولا إلى مدينة الفرج (وادي الحجارة)، ثم غادرها في يوم الخميس الحادي عشر من ذى العقدة، وسار إلى جربيرة، ومنها إلى شبطران، ومنها إلى محارس، ومنها إلى مدينة طليطلة، فلبث بها أربعة أيام، ورحل منها يوم الخميس إلى فج سراج، ومنها إلى ملقون، ثم احتل بالبركة، ومنها إلى منزل رند، ثم إلى قنالش على وادي أربيشر، ومنها إلى طير برتيطة، ومنها إلى قليانة، فأرملاط، ومنها إلى منية نصر على باب قرطبة بعدوة النهر بالربض. وهنالك قضى الليل. تم سار إلى قصر قرطبة في الغد، وقد نفذ أمره بصلب فرتون بن محمد الطويل، على باب السُّدة الأكبر من أبواب القصر. هذا، وقد نقل إلينا ابن حيان نص الكتاب الذي صدر باسم الناصر عن الموقعة، وهو من إنشاء الوزير الكاتب عيسى بن فطيس. وهو كتاب طويل، يحاول فيه كاتبه أن يصف أدوار الموقعة، وروعة القتال الذي نشب بين المسلمين والنصارى؛ ويستخلص منه أن المعركة بدأت في صالح المسلمين، وأنهم استطاعوا في البداية أن يردوا النصارى، وأن يفضوا جموعهم، حتى سقط محمد بن هاشم التجيبي

قائد الطليعة عن فرسه، وأسره النصارى، فعندئذ ارتد المسلمون إلى خطوطهم، وذلك بعد أن قتلوا عدداً كبيراً من أعلام النصارى، وقوامسهم وفرسانهم. ثم استؤنف القتال في اليوم الثالث، وقد تضخمت حشود النصارى بما ورد إليهم من الأمداد " من أقصى بنبلونة وألبة والقلاع، وأهل قشتيلة إلى مشركي قلمرية، وكل صنف من أصناف العجم معهم "، واضطرمت المعركة بين الفريقين، وانتهت هذه المعركة الثانية بهزيمة النصارى وقتل عدد من أعلامهم، وارتد المسلمون إلى خطوطهم ظافرين. وفي اليوم التالي بادر النصارى بالهجوم، فلقيهم المسلمون بعنف وشدة، واحتدم القتال، وسقط " عظيم من عظماء النصارى " فاستداروا حوله، وقد لحقتهم الهزيمة، وهنا يقول الكتاب " وبلغ أمير المؤمنين أقصى أمله من إذلال جميع المشركين، والاحتلال بساحتهم، وانحياز طاغيتهم في أعلى شاهق، يرجو النجاة بنفسه، فأمر بالرحيل، وقد ضاعف النظر، والعدو في ضبط ساقة جيشه، لما توقع خروج الكفرة في أثره، وأصبح منتقلا، فما أقدم أعداء الله أن ينظروا من الجيش إلا من بعد على رأس جبل ". وسار الناصر، حسبما ينبأنا الكتاب، بعد ذلك صوب نهر دويرة، في اتجاه حصن شنت منكش، وهو يهدم الحصون، وينتسف الزروع في طريقه، وكان الناصر، يزمع السير شرقاً بحذاء دويرة، حتى حصن شنت إشتيبن، ولكنه عدل عن ذلك، وأزمع السير إلى حصن أنتيشة. وهنا يحدثنا الكتاب عن المرحلة الحاسمة من الموقعة، ذلك أن الناصر، أشرف في سيره على " خنادق ومهاو تتقاذفه، وأجراف منقطعة قد عرفها المشركون، وقدموا إليها، وألقوا إلى ساقة الجيش فرسانهم، فدارت عليهم الحرب، وصرع فيها من جلة فرسانهم، ومتقدمي رجالهم جملة، لو أصيبت بحيث يتراءى الجمعان لكانت سبب هزيمتهم، ولكنهم وثقوا بالوعد، وانتظروا تقدم الحماة، وترادف الأثقال، فحامى أمير المؤمنين برجاله وخاصته عن المسلمين. ساعات من النهار، حتى تقدم أكثرهم، وجازت الخندق لقتالهم، إلا من ضعفت دابته، أو ضعفت تعبئته عن استنفارها، فلما رأوا الخلل تصايحوا من قنن الجبال، وانحطوا من أعاليها انحطاط الأوعال، فأصابوا من الأمتعة والدواب المثقلة، ما لو أصابوا مثله في مجال حرب أو سهل

من الأرض، لما أنكر مثله مثله، عند مقارعة الرجال، وتصرف الأحوال، وحامى صاحب العسكر عن كل من أجاز الخندق، وخلص من مضايقه، حتى أسهلوا، وأصبح لأمير المؤمنين جيوشه، وانتظمت جموعه، وسلم الله رجاله، فلم يصب منهم أحد. وفي ذلك دليل للسامع عن الموقعة أنها لم تدر بغلبة، ولا ظفر المشركون، اظفروا به فيها عن مساواة أو كثرة، ولكن ضيق المسالك، ووعر الطريق، وسوء فهم الدليل، خلى لما جلبه إلى أقدار الله تعالى التي لا تصرف، ومحنه التي لم يزل يمتحن بها أولياءه ليعظهم، ويبتلي عبيده ليرهبهم، وأمير المؤمنين شاكر لله تعالى عظيم نعمه، وواقف على تصرف محنته، مستسهل ما اختص به في حب طاعته، ضارع إلى الله تعالى في التقبل لقوله وفعله ". وقد أرخ هذا الكتاب في اليوم الثامن من ذى القعدة سنة 327 هـ، أعني عقب الموقعة بأربعة أسابيع، وحينما وصل الناصر في ارتداده إلى وادي الحجارة، وذلك ليكون إيضاحاً للناس ومعذرة من الخليفة، عما أصابه من هزيمة. على أن هذه العبارات الرفيقة التي صيغ فيها الخطاب، وهذه التأكيدات الجريئة، بأن أمير المؤمنين، عقب جواز الخندق، قد انتظمت جيوشه، وسلم الله رجاله، ولم يصب منهم أحد، لا يمكن أن تنفي شيئاً من الحقائق المؤلمة، التي تشهد كلها بفداحة النكبة التي نزلت بجيش الناصر على خندق شنت منكش، والتي يفصل لنا ابن حيان بعض نتائجها وآثارها فيما تقدم. ونقل إلينا ابن حيان كذلك رواية موجزة عن الموقعة عن عريب بن مسعود جاء فيها: " غزا الناصر لدين الله سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بالصوائف إلى مدينة شنت مانكش بلد ألبة، وبارز الكفرة، فوقعت حرب عظيمة انهزم المسلمون عنها، واستمسك الناصر لدين الله في رجال الحقيقة بعد أن هلك في [الموقعة] عالم من المسلمين، وقتل منهم كثير، وأسر كثير، وكان ممن أسر محمد بن هاشم التجيبي صاحب سرقسطة. وذلك في شهر رمضان منها ". وكان القائد الباسل محمد بن هاشم التجيبي، قد لبث في أسر راميرو (رذمير) ملك ليون، مدة استطالت أكثر من عامين، والناصر يسعى إلى افتكاكه، ويضاعف له الفدية، حتى أفرج عنه أخيراً، وحضر إلى قرطبة في

شهر صفر سنة 330 هـ، بعد عامين وثلاثة أشهر من أسره (¬1). وأما رواية ابن الخطيب، فهي بالرغم من إيجازها أقرب الروايات الإسلامية إلى الدقة والحقائق التاريخية؛ فهو يحدد تاريخ الموقعة، ومكانها بدقة، ويصفها " بالوقيعة الشهيرة التي ابتلى الله بها عبد الرحمن ومحصه، والتي أوقعه بها عدو الله رذمير ابن أردون ". فأما تاريخ الموقعة فهو يوم الجمعة 11 شوال سنة 327 هـ (أول أغسطس سنة 939 م)، وقد وقعت على باب شانت منكش (¬2)، بعد قتال استمر أياماً، تراوحت فيه المغالبة بين الفريقين بأشد ما يكون وأصعبه. ثم كانت للعدو الكرة، فانكشف المسلمون انكشافاً لم يسمع بمثله، وألجأ العدو المسلمين إلى التراجع إلى خندق عميق، هو الذي تنسب إليه الموقعة (فهي تسمى موقعة الخندق (¬3). فتساقط فيه المسلمون حتى ساووا بين ضفتيه، وانكشف الناصر، واستولى العدو على محلاته، وما فيها من عدة ومتاع، وضاع فيها مصحفه ودرعه (¬4). ولدينا من الرواية النصرانية أولا رواية ألفونسو الحكيم في تاريخه العام، وهي رواية موجزة مغرقة معاً، وخلاصتها أن عبد الرحمن ملك قرطبة وابن يحيى ملك سرقسطة، قدما في جيش ضخم إلى أرض الملك راميرو، ووصلا في جيشهما حتى بلدة سيت مانكاس. فلما علم بذلك الملك راميرو خرج لقتالهم وقاتلهم حتى هزم المسلمون، وقتل منهم ثمانون ألفاً، وكان هذا اليوم يوم القديس يوستي والقديس باستور. ويقول لوقا التوجي إنه كان يوم الإثنين. وأسر ابن يحيى. وهرع المسلمون الآخرون إلى حصن يسمى " الخندق " Alfondiga وتركوا كثيراًمن قتلاهم في الميدان. وحاصرهم الملك راميرو في هذا الحصن، وفر منه ¬_______ (¬1) نقلنا رواية ابن حيان عن موقعة الخندق والكتاب الذي صدر عن الناصر عقب وقوعها من السفر الخامس من المقتبس (مخطوط الخزانة الملكية) لوحات 167 إلى 172 أ. هذا وقد نشرنا نص كتاب الناصر كاملا في نهاية الكتاب. (¬2) شنت مانكش هي بالإسبانية Simancas ( سيمانقة). وهي تقع على مقربة من نهر دويرة شرقي مدينة سمورة وجنوب غربي بلد الوليد. وما تزال هذه القلعة قائمة حتى اليوم بصورتها النصرانية المجددة. وهي اليوم مقر دار المحفوظات الإسبانية. (¬3) وتعرف الموقعة بالإسبانية Alhandega محرفة عن كلمة " الخندق ". (¬4) أعمال الأعلام ص 36 و37.

عبد الرحمن ناجياً بنفسه في نفر من صحبه، وعاد الملك راميرو في جيشه ومعهم غنائم كثيرة من الذهب والفضة والأحجار النفيسة وأشياء كثيرة أخرى، وأخذ معه ابن يحيى أسيراً (¬1). بيد أن هنالك روايات نصرانية أخرى أكثر دقة ووضوحاً. وخلاصة هذه الروايات هو أن عبد الرحمن سار بجيشه في اتجاه سيمانقة الواقعة على مقربة من نهر دويرة شرق مدينة سمورة، فلقيه راميرو وحليفته طوطة في قواتهما، ونشبت بين الفريقين موقعة في 5 أغسطس سنة 939 م، فأبدى رؤساء العشائر العربية في القتال فتوراً وتراجعوا أمام النصارى. ولكن حدث ما لم يتوقعه المسلمون، ذلك أن النصارى طاردوهم وألحوا في قتالهم، فارتد المسلمون أمامهم نحو الجنوب الغربي، حتى محلة صغيرة في جنوبي مدينة شلمنقة تسمى ألانديجا (الخندق)، ثم وقفوا وكروا على النصارى بفتور وتخاذل، وهجم النصارى عليهم بجرأة وشدة، فهزم المسلمون هزيمة شديدة، وأمعن النصارى فيهم قتلا وأسراً. فساد الخلل في الجيش الإسلامي، ومزقت منه فرق برمتها، وقتل قائده نجدة الصقلبي، وأسر محمد بن هاشم حاكم سرقسطة ومزق جيشه، وكان يحارب إلى جانب عبد الرحمن في هذه الغزوة، وحمل مصفداً إلى ليون. وأثخن عبد الرحمن نفسه جراحاً، ولم ينج من الموت والأسر إلا بأعجوبة، فولى شطر قرطبة في نفر من الفرسان (¬2). ولم يحاول راميرو أن يستغل نصره بمطاردة المسلمين. ويقال إن الذي منعه من مطاردتهم هو أمية بن اسحاق إذ حذره من الكمين ورغبه فيما خلفوه من الأسلاب والغنائم الضخمة. ولولا ذلك لفني الجيش الإسلامي بأسره (¬3). وكان لانتصار راميرو وقع عظيم في أوربا وفي العالم الإسلامي، بيد أن الموقعة على روعتها لم تكن بعيدة الأثر في قوة الأندلس ومنعتها، ولم يدخر عبد الرحمن منذ عوده إلى قرطبة جهداً في تنظيم الجيش وإصلاحه، وتطهيره من العوامل الخطيرة التي أدت إلى هذه الكارثة. ويحاول ابن الخطيب أن يوضح لنا أسباب هذه الكارثة في قوله: " وجرت الهزيمة على المسلمين طائفة من جند الناصر ¬_______ (¬1) Cronica General, ibid, Vol.II.p. 369 (¬2) Dozy: Hist.; Vol.II.p. 155-156 وكذلك: Aschbach: Geschichte der Omajaden in Spanien.B.II.p. 50. حيث يورد الروايات النصرانية. (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 165، وابن الأثير ج 8 ص 115.

لدين الله حسدته ما هيأ الله من الصنع، ولم تناصحه في الحرب حق النصح، فجالت ثانية للأعنة، واختل مصاف القتال ". ثم يقول لنا إن الناصر، قرر أن يبطش بأولئك الخونة المتهاونين، فأمر قبيل وصوله إلى قرطبة، أن تقام المصالب على ضفة نهرها، وما كاد يصل إلى قرطبة، حتى قبض على نحو ثلاثمائة من الفرسان، فصلبهم وأمر بالنداء عليهم: " هذا جزاء من غش الإسلام، وكاد أهله، وأخل بمصاف الجهاد " (¬1). بيد أن موقعة الخندق كانت خاتمة أعمال الناصر الحربية فلم يغز من بعدها بنفسه. وفي ذلك يقول ابن حيان: " إنه قد اشتدت على الناصر نكبته في غزوته هذه، فاتهم سعده، واعتكر بكره، حتى خاف على نفسه، فأشير عليه بعكس همه. فالتفت إلى البنيان يعالج به همه وأساه، فأنشأ مدينة الزهراء، وأقصر من ذلك الوقت عن الغزو بنفسه، ووكل إلى حزمة قواده وشجعانهم، يجردهم بالصوائف كل عام ". ومن جهة أخرى فقد رأى عبد الرحمن أن يتبع نحو أمراء الثغر الأعلى سياسة جديدة. وذلك أنه، وفقاً لقول ابن حيان قد " اقتصر في تقليد شئون الثغر الأعلى الممانعة للدروب على أكابر ساكنيها ورّاثها عن الأجداد والآباء صلابة البأس، آل تجيب، وآل ذى النون، وآل زروال، وآل غزوان، وآل الطويل، وآل رزين، وأسبابهم المؤمرين قديماً بثغورهم، الذابين عن حريمهم، فضم بلادهم بينهم حصصاً، وجدد لهم ولأعقابهم بعدهم على أقسامهم منها كل عام، ثم لا يغبنهم بالصلات إذا وفدوا وطلبوا، وبالهدايا إن بعدوا "، وقد ترتب على ذلك أن كان هؤلاء الزعماء يقومون بدفاع النصارى، وكان الناصر يزودهم كل عام بالعدد والسلاح، والمستنفرة والمطوعة إلى الثغر تعضيداً لجهودهم (¬2). واستأمن أمية بن إسحاق بعد ذلك عبد الرحمن، فلم ير بأساً من تأمينه والعفو عنه. وكانت سياسة عبد الرحمن ترمي دائماً إلى اصصناع خصومه الأقوياء بالعفو والإغضاء. وسعى عبد الرحمن حسبما تقدم إلى افتداء محمد بن هاشم، فأفرج عنه النصارى بعد أن لبث في سجون ليون زهاء ثلاثة أعوام، وغمره الناصر بعطفه ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 37. (¬2) ابن حيان في السفر الخامس لوحة 168 ب.

فأسبغ عليه لقب الوزارة، وجعله قائداً للثغر، وعاد إلى سرقسطة، وكان يزور قرطبة من آن لآخر، واستمر والياً لسرقسطة حتى توفي في سنة 338 هـ. فعين الناصر ولده يحيى مكانه في الولاية والقيادة. وشغل النصارى مدى حين بعد موقعة الخندق بطائفة جديدة من الحروب الأهلية، واستطاع عبد الرحمن خلال ذلك أن يعني بإصلاح شئون المملكة وتقويتها. وجنح راميرو ملك ليون إلى السلم مرة أخرى، وبعث إلى الناصر يطلب عقد الصلح فأجابه الناصر عن كتابه بالقبول، وبعث إليه سفيراً ليعقد معه شروط السلم. ولكنه كان كالعادة سلماً قصير الأمد. وعقد الناصر من جهة أخرى السلم مع صاحب برشلونة الإفرنجي شنير بن منفريد، وبعث إليه كاتبه حسداي بن إسحاق الإسرائيلي، لينظم معه عقد السلم وفقاً للشروط التي ارتضاها الناصر، وخلاصتها أن يتخلى شنير عن إمداد جميع النصارى الذين ليسوا في سلم الناصر، وأن يلتزم طاعته، وأن يحل المصاهرة التي بينه وبين غرسية بن شانجه صاحب بنبلونة (نبرّة)، وكان شنير قد زوجه ابنته فألغى زواجها، وفقاً لرغبة الناصر. وأصدر الناصر أوامره إلى قادة الأسطول وعمال السواحل بتحامي أعماله ومسالمة أهل بلاده. ودعا حسداي أمراء الثغر الفرنجي إلى طاعة الناصر، فأجابه منهم، إلى جانب شنير، إنجه صاحب جيرنده، وبعث إلى قرطبة سفارة يطلب تأمين تجار أراضيه الذين يجوبون ربوع الأندلس، فأجيب إلى طلبه، وصدرت الأوامر إلى جميع عمال الجزائر الشرقية والمراسي الساحلية، بتأمين سائر رعايا إنجه على أنفسهم وأموالهم (¬1). ولم يحترم ملك ليون عهد السلم طويلا، وعادت بعوثه تعيث في الأراضي الإسلامية. ومن ثم فإن غزوات المسلمين لإسبانيا النصرانية لم تنقطع في الأعوام التالية. ففي سنة 329 هـ (941 م) غزا المسلمون أراضي ليون وعاثوا فيها؛ وفي سنة 335 هـ (946 م) عنى الناصر بتجديد مدينة سالم (¬2) وهي أقصى مدن الأندلس الشمالية الغربية على حدود ليون، وحصنها وشحنها بالرجال والعدد، ¬_______ (¬1) المقتبس - السفر الخامس - لوحات 173 - 175. (¬2) هي بالإسبانية Medinaceli وترجع تسميتها بذلك الإسم إلى أنها كانت منزل بني سالم، وهم بطن من بطون قبيلة مصمودة البربرية (راجع جمهرة أنساب العرب لابن حزم - القاهرة - ص 461).

وكانت قد خربت من جراء غزوات العدو المتكررة. وتوالت غزوات المسلمين لأراضي ليون في الأعوام التالية. وفي أواخر سنة 339 هـ (يناير 950 م)، توفي راميرو الثاني ملك ليون، فثارت الحرب الأهلية بين ولديه أردونيو وسانشو، وانتهز المسلمون هذه الفرصة فعاثوا في أراضي ليون غير مرة، وانتهى الأمر بفوز أردونيو وجلوسه على العرش. ورأى أردونيو أن يعقد الصلح مع الناصر، فأرسل إليه سفيراً يخطب وده، فاستجاب الناصر إلى دعوته، وعقد معه معاهدة صلح تعهد فيها أردونيو بأن يصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر (سنة 955 م)، ولكن أخاه سانشو رفض هذه المعاهدة وحال دون تنفيذها. فاضطر الناصر إلى استئناف الحرب، وسير قائده أحمد ابن يَعلى في جيش إلى ليون، فهزم النصارى وعقد الصلح بين الفريقين مرة أخرى، واستمرت بينهما علائق السلم مدى حين. * * * ونعود الآن قليلا إلى الوراء لنستعرض بعض الحوادث الداخلية، ومنها بالأخص ما حدث من محن المحل والمجاعة بالأندلس. ففي سنة 317 هـ (929 م)، وقع المحل بالأندلس واحتبس الغيث، واضمحلت الزروع، وعزت الأقوات، وغلت الأسعار على نحو ما حدث في سنة 303 هـ، فأمر الناصر خطيب المسجد الجامع بالحضرة، بالاستسقاء، فبدأ بذلك في خطبة الجمعة التالية، ثم برز بالناس إلى مصلى الربض يوم الإثنين الثامن من شهر صفر (23 مارس)، فلم يسقط الغيث، واستمر المحل والقحط، وجهدت الناس. وخرجت كتب الناصر إلى جميع العمال على الكور بالأمر بالاستسقاء، وكان الكتاب إلى جميع العمال بنفس النص على النحو الآتي: " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فإن الله عز وجل، إذا بسط رزقه وأغدق نعمته، وأجزل بركاته، أحب أن يشكر عليها، وإذا رواها وقبضها، أحب أن يسئلها، ويضرع إليه فيها، وهو الرزاق، ذو القوة المتين، والتواب الرحيم، الذي يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وهو الذي يتزل الغيث من بعد ما قنطوا، وينشر رحمته، وهو الولي الحميد، فأوجبت به الرغبة، عز وجهه فيه، والخشوع لعزته، والاستكانة له، والإلحاح في المسئلة

فيما احتبس به، والتوبة من الأعمال المنكرة التي توجب سخطه منه، وتبذل نقمته، وتستروحه رضاه، تعالى جده. وقد أمرنا الخطيب فيما قبلنا بالاستسقاء في المسجد الجامع يوم الجمعة، والجمعة الثانية التي تليه، إن أبطأت السقيا، والبروز يوم الإثنين بعدها لجماعة المسلمين عندنا إلى مصلاتهم، أو يأتى الله قبل ذلك بغيثه المعني عنه، ورحمته المنتظرة منه، المرجوة عنده، فمر الخطيب بموضعك أن يحتمل على مثل ذلك، ويأخذ به من قبله من المسلمين، وليحملهم بذلك المحمل، ولتكن ضراعتهم إلى الله تعالى، ضراعة من قد اعترف بذنبه، ورجا رحمة الله، والله غفور رحيم، وهو المستعان لا شريك له إن شاء الله " (¬1). وفي سنة 324 هـ، وقع بالأندلس محل جديد لم يعهد فيها بمثله من قبل، فاحتبس المطر، وجفت الزروع. ومع ذلك فلم يترك هذا المحل وراءه كثيراً من الآثار المخربة، ويقول لنا ابن حيان، إن البركات والخيرات استمرت ذائعة بين الناس في سائر الجهات. وبذل الناصر لمعونة الناس ما جبر النقص في المحل. وانهمل الغيث في العام التالي، وقد نظم الشاعر عبد الله بن يحيى بن إدريس في ذلك قصيدة في مديح الناصر هذا مطلعها: نعم الشفيع إلى الرحمن في المطر ... مستنزل الغيث بالأعذار والنذر (¬2) وعاد المحل والقحط يعصف بالأندلس في سنة 329 هـ (941 م)، وتوقف المطر، وعم الجفاف، وشرع قاضي الجماعة، وصاحب الصلاة محمد بن أبي عبد الله بن عيسى في إقامة صلاة الاستسقاء في يوم الجمعة الثاني من ربيع الآخر. ولكن المحل تمادى، وبرز الناس إلى مصلى الربض مراراً وتكراراً. وفي الثاني عشر من جمادى الأولى (أول فبراير)، بدا نوء غليظ وسحاب كثيف ونزل الثلج طوال اليوم وغطى الأرض، ثم نزل المطر والثلج، وانقطع دون أن يروي الأرض. فعاد القاضي إلى الاستسقاء حتى استجاب الله لعباده بعد أيام قلائل، وبدأ الناس في الزرع، وتوالى نزول الغيث، واستسقى الناس سقيا وافياً، ورويت الأراضي والمزارع، وهبطت الأسعار وعاد الرخاء (¬3). ¬_______ (¬1) ابن حيان في السفر الخامس - لوحة 102 أوب. (¬2) ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 150 أ. (¬3) ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 181.

هذا، ومما ذكره لنا ابن حيان من الحوادث الداخلية في سنة 324 هـ (936 م)، وقوع الحريق العظيم بمدينة قرطبة. ففي أوائل شهر شعبان من هذه السنة، نشبت النار بسوق قرطبة، فأحرقت جميع مجالس الحصاد، واتصل الحريق بحي الصرافين، وما جاور مسجد أبي هرون، فاحترق وتداعى المسجد. ثم اتصلت النار بسوق العطارين، وما جاوره من الأسواق والأحياء، واتسع نطاقها بصورة مرعبة. وكان حريقاً شنيعاً مروع الآثار. وقد أمر الناصر بعد انتهائه، وانجلاء آثاره، أن يعاد بناء مسجد أبي هرون، فأعيد على أحسن حال. وأمر الناصر كذلك يإعادة بناء ما تهدم من الدور والصروح العامة (¬1). - 3 - لم ينس عبد الرحمن خلال توفره على محاربة الثوار والنصارى داخل شبه الجزيرة، أن يعني بمقاومة الدعوة الفاطمية التي اجتاحت شمالي إفريقية، وامتدت بسرعة إلى عُدوة المغرب وإلى سبتة، وأخذت تهدد شواطىء الأندلس. وكانت الدعوة الفاطمية تنطوي بالنسبة للأندلس على خطر مزدوج ديني وسياسي معاً. وكانت في قوتها وعنفوانها تهدد طرفي إفريقية أعني مصر والمغرب. فمنذ عبيد الله المهدي أول الخلفاء الفاطميين، تتردد جيوش الخلافة الفتية من قواعدها في تونس نحو مصر والمغرب، غازية. وكان اجتياحها السريع للمغرب يثير بحق جزع حكومة قرطبة؛ ولا غرو فقد كانت عدوة المغرب تعتبر دائماً، قاعدة لغزو الأندلس وخط دفاعها الأول. وكان ثوار الأندلس يتجهون بأبصارهم إلى العدوة، ويفاوضون الفاطميين، ويأتمرون معهم على حكومة الأندلس، فكان على عبد الرحمن أن يغالب هذا الخطر الجديد قبل استفحاله. ففي سنة 319 هـ (931 م) سير عبد الرحمن إلى ثغر سبتة أسطولا قوياً يتكون من مائة وعشرين سفينة، ما بين حربية وناقلة، وسبعة آلاف رجل منهم خمسة آلاف من البحارة وألف من الحشم، وانضم إليه عدة من وجوه ألمرية وبجانة تطوعا في مراكبهم، وكان تحت قيادة أميري البحر أحمد بن محمد بن إلياس وسعيد بن يونس بن سعديل. فخرج هذا الأسطول من الجزيرة آخر جمادى الأولى من هذه السنة، واستولى على سبتة من يد ولاتها البربر بني عصام حلفاء الفاطميين، وطلب الناصر إلى صاحب طنجة ¬_______ (¬1) ابن حيان السفر الخامس - لوحة 150 أ.

أبى العيش الحسني أن ينزل له عنها لتكمل له بذلك السيطرة على رأس العدوة، فأبى، فحاصره الأسطول وضيق عليه حتى أذعن، وأجاب الناصر إلى ما طلب، وانتقل مع إخوته وبني عمه من الأدارسة إلى مدينة البصرة وثغر أصيلا تحت طاعة الناصر (¬1). وبادر زعماء البربر من الأدارسة وزنانة إلى طاعة الناصر ومهادنته، وامتدت دعوته إلى فاس. وبعث إليه موسى بن أبي العافية أمير مكناسة يطلب محالفته والدخول في طاعته، فأجابه عبد الرحمن إلى رغبته، وأمده بالأموال والهديا، وقوى أمره في المغرب. وفي سنة 321 هـ (933 م) استطاع موسى أن يهزم جيشاً أرسله عبيد الله الفاطمي لغزو المغرب، والقضاء على دعوة الناصر، بقيادة قائده ابن يصل عامل تاهرت. ثم توفي عبيد الله في العام التالي. وفي سنة 323 هـ سير ولده الخليفة القائم إلى المغرب حملة أخرى، بقيادة ميسور الصقلبي، فضيق على موسى وطارده حتى الصحراء، واستولى الأدارسة حلفاء الفاطميين على مملكته. وبعث الناصر لإنجاده إلى شواطىء العدوة أسطولا قوامه أربعون سفينة بقيادة أمير البحر عبد الملك بن أبي حمامة، سار إلى سبتة، تم تقدم إلى مليلة فافتتحها، ثم افتتح نكور وجراوة، فقويت نفس موسى، واستقل نوعاً من عثرته، وانسحب الفاطميون إلى الداخل، وقضى الأسطول في غزواته هذه ستة أشهر، ثم عاد إلى قواعده في ألمرية. وجازت جيوش عبد الرحمن وأساطيله بعد ذلك مراراً إلى المغرب، لمحاربة الفاطميين وحلفائهم من الأدارسة وغيرهم من أمراء البربر، واضطر الأدارسة في النهاية إلى طلب الصلح من عبد الرحمن والاعتراف بطاعته (332 هـ)، ودعى لعبد الرحمن على منابر المغرب، واستقرت دعوته هنالك مدى حين، ولكن سلطانه فيما وراء البحر لم يكن ثابت الدعائم، وكان رهيناً بقيام دولة الأمراء المحالفين له. ولما تولى المعز لدين الله رابع الخلفاء الفاطميين الملك، وبدت الدولة الفاطمية في أوج قوتها في إفريقية، وأخذت أساطيلها القوية تزعج الدولة البيزنطية، بغزو ¬_______ (¬1) ابن حيان - السفر الخامس - لوحة 125 أوب، والاستقصاء ج 1 ص 85.

شواطىء قلورية (¬1) في جنوبي إيطاليا، كان خطر غزو الفاطميين للأندلس يلوح قوياً في الأفق. والظاهر أن هذه الفكرة لم تكن بعيدة عن ذهن المعز، بل يبدو فوق ذلك أن حكومة قرطبة وقفت على بعض وثائق تؤيد هذه النية. وفي سنة 344 هـ (955 م) سارت بعض السفن الفاطمية وهاجمت ثغر ألمرية، وأحرقت ما فيه من السفن، وعاثت في ألمرية. فرد عبد الرحمن بأن أرسل قوة بحرية بقيادة أمير البحر غالب، إلى شواطىء إفريقية (تونس)، فعاثت فيها، وأمر عبد الرحمن في الوقت ئفسه بلعن الشيعة والفاطميين على منابر الأندلس. ثم عاد بعد ذلك بثلاثة أعوام، فسير أسطوله ثانية إلى إفريقية بقيادة أحمد بن يعلي، تهديداً للقوات الفاطمية، التي زحفت بقيادة جوهر الصقلي حذاء الشاطىء إلى عدوة المغرب، وكان المعز قد سير قائده جوهراً في سنة 347 هـ، في جيش عظيم إلى المغرب الأقصى، ومعه زعيم صنهاجة زيري بن مناد في قواته، فاجتاح شمالي المغرب الأقصى كله حتى المحيط، ونازل فاس واقتحمها عنوة. وكان الناصر يرقب تقدم الفاطميين على هذا النحو في أراضي العدوة بجزع، ويجعل أساطيله على أهبة دائمة. وعبرت في نفس الوقت حملة أندلسية أخرى من طريق سبتة إلى المغرب، ولبثت هنالك حتى ارتد الفاطميون أدارجهم (¬2). ويقدم إلينا ابن حيان بقلمه البليغ تلك الصورة عن تقدير الناصر لأهمية عدوة المغرب في الدفاع عن الأندلس، ومقاومة الدعوة الفاطمية: " لم تزل نفس الخليفة الناصر لدين الله، منذ استولى على أمر الملك، واعين النصر، وسلط على أهل الخلاف، دروباً على ما سخر له من ذلك، ظمؤا إلى درك اقصاره، متخطياً موسطته إلى نهايته، معملا فيه رؤيته، موقظاً له فكرته، تأمل هذا الفرج في ساحل البحر الرومي ... مجاورة جبل البرابر الحالّين بلاد المغرب لملكتهم لعدوتهم الراكبة لعدوة بلد الأندلس، تكاد عدوتهما تتراءى لضيق بحر الزقاق الحاجز بينهما، وسهولة مرامه أى أوقات الزمان رؤى ¬_______ (¬1) وهي بالإفرنجية Calabria. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 138 و141؛ وابن الأثير ج 8 ص 119؛ ونفح الطيب ج 1 ص 169؛ والبيان المغرب ج 2 ص 219 و220 و225 و237، 238؛ وراجع Dozy: Hist., Vol.II.p. 164 & 165

ركوبه. فمنه طرقت الأندلس في الزمان الخالية، واكتسب أهلها المخافة، فدعته همته العلية، وفكرته المصيبة، إلى التوقل إلى تلك الباغية المرهوبة، والسمو لتلك العورة المكشوفة، وذلك عند ما كشف عند يكنف ذلك الساحل الغربي من طنجة الفتنة، وضع ما كان أوهته من صدع الفرقة، وملك مفتاح الجزيرة الخضراء فرضة الأندلس الدنيا، الراكبة فتح ذلك البحر المرهوب، المحاضية لضرتها مدينة سبتة فرضة المجاز من بلد العدرة. فاذكى نظر عينه ما كان منبثاً بخاطره من الرهبة، فأرهف العزم، وألطف الحيلة، وابتدئ ففتح ذلك بمخاضة من تقدمت له بأسلافه ملوك بني أمية من أمراء تلك البلاد في وصلة أو سلفت بينهم أصرة، يستثير وصايلهم، ويصل أحبلهم، ويستدعي ولايتهم، ويسبب ذلك ما شاء مهاداتهم، واكرام أسبابهم، وقضاء حوايجهم، فلم يلبث أن هويت إليه أفئدة كثير منهم، وزعمايهم بين مصحح في ولايته، مستجيب لدعوته، مغتنم لعطيته. مستعين بقوته على مدافعة من قد هد ركنه من بني عبيد الله إمام الشيعة المقتحم أرضه عليه ودونه، وبين منافق مقيم لسوقه بينه وبين تلك الشيعة، منذ بدت بينها العداوة، مايل مع الدولة، مجتلب لعاجل ما استمسك به من الرشوة. " استوى للناصر لدين الله من الطائفتين أولياء قاموا بدعوته، ورفعوا فوق أعلامه، وعاطوا مضطهدا، عبيد الله الشيعي صاحب إفريقية بدعوته، وقلبوا مجانهم إليه، ونصبوا الحرب لرجاله، فكفكفوهم عن الإيغال في بلدتهم من قاصية المغرب، يهطنونهم بالكيد والمكر، فتمكنت بذلك قدم الناصر لدين الله، فيما حازه من مدينة سبتة والقطعة التي استضمها إليها من أرض العدوة، واجتذب من أجله كثيراً من فرسان البربر وحماة رجالهم إلى حضرته، استعان بهم في حروبه، وتمكن من ذلك من ارتياد عتاق الخيل بوادي البربر، واستنتاجهم الفاضل لبراذين الأندلس، فمتنت بذلك أسباب ملكه، وجل مقداره، وبعد صيته، وهابته ملوك الأمم حوله، وظهرت نتيجة ما عاتاه من مواصلة أمراء البربر، وسعى لهم سعيه لصدر دولته الفاضلة، سنة سبع عشرة وثلث مايه وما يليها، إذ ترددت فيها عليه كتب محمد بن خزر عظيم أمراء زنانة في وقته، وأنفرهم عن عبيد الله الشيعي، وأدناهم من داره، وأول من تناوله الناصر

لدين الله من جماعتهم بمكاتبته، واجتذبه بوصلته " (¬1). - 4 - هذا وربما كان قيام الخلافة الفاطمية في الضفة الأخرى من البحر، وانسياب دعوتها إلى المغرب الأقصى، على مقربة من شواطىء الأندلس، في مقدمة البواعث التي حدت بعبد الرحمن إلى العمل على إحياء تراث الخلافة الأموية الروحي، بعد أن توطدت دعائم دولتها السياسية بالأندلس، وكان مؤسسها عبد الرحمن الداخل قد أمر بمنع الدعاء لبني العباس، ولكنه لم يتخذ سمة الخلافة واكتفى بلقب الإمارة. وسار بنوه على أثره. وبالرغم من أن الدولة الأموية قد استطاعت غير مرة، أن تستعيد مجدها السالف، في عهد الحكم بن هشام وولده عبد الرحمن الأوسط، فإن أمراء بني أمية لم يفكروا في الإقدام على منافسة بني العباس في ألقاب الخلافة. وقيل في تعليل ذلك إنهم كانوا يرون الخلافة تراثاً لآل البيت، ويدركون قصورهم عن ذلك " بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة، والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية " وأنهم بعبارة أخرى كانوا يرون أن الخلافة تكون لمن يملك الحرمين (¬2). بيد أننا نعتقد أن هذا الإحجام يرجع بالأخص إلى بواعث الحكمة والسياسة، والتحوط من إثارة الفتنة والخلافات الدينية والمذهبية. فلما ظهرت الدعوة الفاطمية في إفريقية، ونمت بسرعة في أوائل القرن الرابع الهجري، ولما تواترت الأنباء من جهة أخرى، عما انتهت إليه الدولة العباسية في المشرق من الإضطراب والفوضى، وما حدث من استبداد موالي الترك بالأمر وحجرهم على الخلفاء، رأى عبد الرحمن أن يتسم بسمة الخلافة، وأن يسترد بذلك تراث أسرته الروحي، وأنه بما وفق إليه من النهوض بالدولة الإسلامية وتوطيد أركانها، أحق بألقاب الخلافة من دولة منحلة وأخرى طارئة. ونفذ الأمر بذلك في يوم الجمعة مستهل ذي الحجة سنة 316 هـ، حيث قام صاحب الصلاة القاضي أحمد بن أحمد بن بقى بن مخلد بالدعاء له بالخلافة، على منبر المسجد الجامع بقرطبة (¬3). وإليك نص الوثيقة الرسمية التي صدرت بذلك وهو: ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس لوحة 103 ب و104 أ. (¬2) ابن خلدون ج 1 (المقدمة) ص 190؛ والمسعودي في مروج الذهب (بولاق) ج 1 ص 78؛ وابن الأبار في الحلة السيراء ص 99. (¬3) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 99 أ.

" بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبيه محمد الكريم. أبا بعد فإنا أحق من استوفي حقه، وأجدر من استكمل حظه، ولبس من كرامة الله تعالى ما ألبسه، فنحن للذي فضلنا الله به، وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسر على أيدينا دركه، وسهل بدولتنا مرامه، وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا، وأعلى في البلاد من أمرنا، وأعلن من رجاء العالمين بنا، وأعاد من انحرافهم إلينا، واستبشارهم بما أظلهم من دولتنا إن شاء الله، فالحمد لله ولي الإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضل علينا فيه. وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك - إذ كل مدعو بهذا الإسم غيرنا، منتحل له، ودخيل فيه، ومتسم بما لا يستحقه منه، وعلمنا التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه، فمر الخطيب بموضعك، أن يقول به، وأجر مخاطبتك لنا عليه إن شاء الله. والله المستعان. وكتب يوم الخميس لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة 316 " (¬1). وهكذا اتخذ عبد الرحمن سمة الخلافة عن يقين بأفضليته، وأولوية حقه وحق أسرته، وتسمى بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، وذلك في الثاني من شهر ذي الحجة سنة 316 هـ (يناير سنة 929 م) فكان أول أمير من بني أمية بالأندلس ينعت بأمير المؤمنين. وبدأت الدعوة من ذلك الحين لبني أمية بألقاب الخلافة في الأندلس والمغرب الأقصى، ونقشت ألقاب الخلافة على السكة. ويضع بعض المؤرخين اتخاذ لقب الناصر لسمة الخلافة في سنة (327 هـ) أى بعد وقوعه بنحو عشرة أعوام، وهو تحريف واضح تنقضه وثيقة الدعوة الرسمية (¬2). - 5 - وكان من أبرز الحوادث الداخلية في عصر الناصر، حركة الفيلسوف المتصوف ابن مَسَرَّة الجبلي، واهتمام الناصر بمقاومتها وقمعها، وذلك حتى بعد أن توفي زعيمها بأعوام طويلة، وإصدار كتابه الشهير في شأنها. ¬_______ (¬1) يضع ابن حيان اتخاذ الناصر لسمة الخلافة في حوادث سنة 316 هـ والدعاء له بها، حسبما تقدم في مستهل ذي الحجة من هذه السنة، ويلخص في كلامه نص الوثيقة (السفر الخامس - لوحة 99 أ). وقد اعتمدنا في نقل الوثيقة الخلافية على ما ورد في الأوراق المخطوطة الخاصة بعهد الناصر، ص 78 و79، والبيان المغرب ج 2 ص 212. (¬2) هذه رواية ابن الأثير (ج 8 ص 178) وكذلك ابن خلدون (ج 4 ص 137). والظاهر أن أصحاب هذه الرواية لم يطلعوا على وثيقة الدعوة التي أثبتنا نصها.

وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مَسَرَّة من أهل قرطبة، وبها ولد سنة 269 هـ (882 م)، ودرس على أبيه وعلى ابن وضاح والخشني وغيرهم، ولكنه جاهر ببعض الآراء الدينية المغرقة في التأويل والقدر وإنفاذ الوعيد وغيرها، فاتهم بالزندقة، فغادر الأندلس فارًّا إلى المشرق، وأنفق هنالك بضعة أعوام، وتفقه على يد المعتزلة والكلاميين وأهل الجدل. ثم عاد إلى الأندلس، وهو يخفي آراءه ونحلته الحقيقية تحت ستار من النسك والورع، وكان ذلك في بداية عهد الناصر، فاختلف إليه الطلاب من كل صوب، وكان يستهويهم بغزير علمه، وسحر بيانه، ومنطقه الخلاب، حتى التف حوله جمهرة كبيرة من الصحب والأتباع، أضحت تكون مدرسة خاصة من الآراء الدينية والكلامية المتطرفة. واختلف الناس في أمر ابن مسرة، فمنهم من كان يرتفع به إلى مرتبة الإمامة في العلم والزهد والورع، ومنهم من كان يرميه بالزندقة وترويج البدع، والانحراف عن مبادىء الدين الصحيحة. وتوفي ابن مسرة بقرطبة في شوال سنة 319 هـ (931 م) (¬1). ولكن آراءه وتعاليمه بقيت من بعده ذائعة بين تلاميذه وأتباعه، وتكونت من حولها فرقة سرية، اتهمت بالمروق والإلحاد، تتابع دعايته، وتعمل على بث تعاليمه، حتى برم بهم المتزمتون من أهل السنة، وأخذوا يسعون لدى السلطات المختصة، لتعمل على قمع هذه الجماعة، والقضاء على تعاليمها. وإليك كيف يصور لنا ابن حيان بقلمه البارع خطة ابن مسرة في بث تعاليمه، واستهواء أتباعه. قال: " كان مذهب الظنين، المرتب المرائي بالعبادة، المنطوى على دخل السريرة، محمد بن عبد الله بن مسرة، الرابض للفتنة، دب في الناس صدر دولة الخليفة الناصر لدين الله، واستهواهم بفضل ما أظهره من الزهد، وأبدى من الورع. " وكان يستهوي العقول، ويصور الأفئدة. وكان من شأنه أن يلقي أول من يأتيه، مقتبساً من أهل السلامة، بالمساهلة، إلى أن يحيله عن رأيه بالمفاضلة، فإذا أصغى إلى عذوبة منطقه، وعلق في شرك حجاجه، غره رفقاً بباطله من ¬_______ (¬1) ابن الفرضي في " تاريخ العلماء والرواة بالأندلس " (القاهرة) ج 2 رقم 1204. وكذلك الحميدي في " جذوة المقتبس " (القاهرة) ص 58 و59. والتكملة لابن الأبار (القاهرة) رقم 765 و991.

الطاير فرخه، فلا يبعد أن يلفته عن رأيه، ويشككه في اعتقاده ... ويحصله في اتباعه، فاستهوى خلقاً من الناس، صدّهم عن سبيل الله، وأوحشهم من الجماعة، واتخذ من رأى غيهم في مذهبه وايمة دخل في عرضهم رجال من ذوي الفهم. ولم يزل يستظهر عليهم بالمواثيق في الكتمان إلا من الثقات الوثاق العقدة، فاكتتم بذلك شأنه، إلى أن عاقصته منيته، صدر دولة الناصر لدين الله، أيام شغله بحروب أهل الخلاف المتصلة. فرفع الله بموته عن الناس فتنة، ولم يلبث دعاته مع انتشارهم في البلاد أن تلبسوا بعده بما أودعه من مكنون علمه، فكثر القول في شأنه، وشيم أهل الخلاف من تلقايه، فذعر له أهل السنة من أهل قرطبة، وتوقعوا منه البلية، ففزع فقهاؤهم وكبراؤهم بها إلى أصحاب الخليفة الناصر لدين الله فنبهوا ... " (¬1). ومضت أعوام طويلة، قبل أن تصل أصوات أهل السنة المعارضين لتعاليم ابن مسرة إلى المسئولين، ولم يصدر قرار السلطة العليا في شأنه وشأن تعاليمه، إلا بعد أن مضى أكثر من عشرين عاماً على وفاته، مما يدل على أن دعوته وتعاليمه لبثت حية ذائعة. قال ابن حيان: " وفي يوم الجمعة لتسع خلون من ذي الحجة سنة أربعين وثلاث ماية، قرئ على الناس بالمسجدين الجامعين بالحضرتين، قرطبة والزهراء، كتاب أمير المؤمنين الناصر لدين الله إلى الوزير صاحب المدينة عبد الله بن بدر، بإنكاره لما ابتدعه المبتدعون، وشذ فيه الخارجون، من رأي الجماعة المنتمون إلى صحبة محمد بن عبد الله بن مسرة، وانتحلوه في الديانة، فافتتن العوام بما أظفره من التقشف والشظف في المعيشة، واستتروا لبدعهم بسكنى الأطراف البعيدة، حتى استمالوا بفعلتهم عصابة ... وفرقة، فتنت بمذاهبهم، وأن ذلك بلغ أمير المؤمنين، ففحص عليه، وعلم صحته، فتعاظمه، واستوحش من اجتراء تلك الطايفة الخبيثة عليه، فأوعز إلى وزيره ومتولي أحكامه ومدينته، تتبع هذه الطائفة، وإخافتها والبسط عليها، والقبض على من عثر عليه منها، وإنهاء خبره إلى أمير المؤمنين ". وأورد لنا ابن حيان بعد ذلك، نص الكتاب الذي صدر باسم الخليفة ¬_______ (¬1) مخطوط ابن حيان (السفر الخامس من المقتبس) المحفوظ بالخزانة الملكية. وقد حالت خروم المخطوط دون ظهور بعض الكلمات.

الناصر لدين الله، في الحملة على تلك الطائفة، والتبرؤ منها، وهو من إنشاء كاتبه ووزيره عبد الرحمن بن عبد الله الزجالي. ويبدأ الكتاب بالتنويه بشأن الإسلام، وأفضليته على سائر الأديان، وبرسالة محمد خاتم النبيين، الذي اصطفاه الله، وأرسله إلى الناس، وكرم به أمته على ساير الأمم، وما نبه به الإسلام من إقامة الدين، وعدم افتراق الكلمة. وانه لما شملت النعمة، وعم الأقطار بعدل أمير المؤمنين السكون والدعة، طلعت فرقة لا تبتغي خيراً، ولا تأتمر رشداً، من طغام السواد، " وأبدت كتباً لم يعرفوها، ضلت فيها حلومهم، وقصرت عنها عقولهم " واستولى عليهم الشيطان بخيله ورجله، فقالوا بخلق القرآن، واستيئسوا، وآيسوا من روح الله، وأكثروا الجدل في آيات الله، وحرموا التأويل في حديث رسول الله، فبريت منهم الذمة، ووعدهم الله ببالغ نكاله، لما انطوت عليه قلوبهم من الزيغ، ولما كذبوا من التوبة، وأبطلوا من الشفاعة، ونالوا محكم التنزيل، والقدح في الحديث، والقول بمكروه في السلف الصالح، فشذوا عن مذهب الجماعة، حتى تركوا رد السلام على المسلمين، وهي التحية التي نسخت تحية الجاهلين، وقالوا بالاعتزال عن العامة. ولما فشي غيهم، وشاع جهلهم، واتصل بأمير المؤمنين، من قدحهم في الديانة، وخروجهم عن الجادة، أغلظ في الأخذ فوق أيديهم، وأنذرهم إنذاراً فظيعاً، واعتزم أن يوقع بهم العقاب الشديد، وأمر بقراءة كتابه هذا على المنبر الأعظم بحضرة قرطبة، ليفزع قلب الجاهل، ويضطر الغواة إلى الآثار الصحيحة التي يتقبلها الله منهم، وأن يقرأ هذا الكتاب في سائر الأقطار والكور، وفي البدو والحضر، وأن ينفذ عهده بذلك إلى ساير قواده، وجميع عماله. لكي يقوموا بمطاردة هذه " الطغمة الخبيثة، التي اجترأت على تبديل السنة، والاعتداء على القرآن العظيم، وأحاديث الرسول الأمين ". ويختتم الكتاب بمطالبة العمال ببث العيون، وتتبع أولئك المارقين، وإخطار أمير المؤمنين بأسمائهم ومواضعهم، وأسماء الشهود عليهم، حتى يحملوا إلى باب سدته، وينكلوا بحضرته (¬1). ¬_______ (¬1) ورد نص هذا الكتاب في اللوحات 17 و18 و19 من مخطوط المقتبس السالف الذكر. وسوف ننشر نص الكتاب كاملا في نهاية الكتاب.

قال ابن حيان: " وتمادي الطلب لهذه الفرقة المسرِّية، والإخافة لهم، وتخويف الناس من فتنتهم بقية أيام الناصر لدين الله ". وهنا ولأول مرة نجد شرحاً وافياً، بقلم ابن حيان القوي الناقد، لتلك الحركة الدينية الخطيرة، حركة ابن مسرَّة وتلاميذه، وهي التي استحالت أيام الناصر لدين الله إلى جمعية سرية واسعة الانتشار. فهل كانت حقاً، كما يصورها ابن حيان، وكما تصورها لنا الوثيقة الخلافية، التي ينقلها إلينا، جمعية مارقة ملحدة، تهدد العقائد والنظام والأمن؟ أم هل كانت حركة تفكير فلسفي حر، لم يتسع لها أفق التفكير المعاصر، وكانت كمعظم الحركات المماثلة ضحية لنقمة المتزمتين الرجعيين من الفقهاء والحكام، يدافعون بسحقها عن نفوذهم وسلطانهم المطلق؟.

الفصل الثانى خلال الناصر ومآثره

الفصل الثاني خلال الناصر ومآثره عصر الناصر أعظم عصور الإسلام بالأندلس. منشآت الناصر. مشروع بناء الزهراء. البدء في إنشاءها. قصر الزهراء وفخامته وروعته. منشآت الزهراء الأخرى. بعض أوصاف وأرقام عن الزهراء. نهاية الزهراء كقاعدة ملوكية. تخريبها أيام الثورة. بعض ما قيل في رثائها. أطلال الزهراء واختفاؤها. جهود العلماء الإسبان للكشف عن مواقعها. وصف لما ظهر من آثارها ومعالمها. منشآت الناصر بالمسجد الجامع. تنظيم الناصر للجيش والأسطول. الأحوال المالية في عهد الناصر. غنى الدولة الأموية وبذخها. إنشاء دار السكة بقرطبة. قرطبة وعظمتها. اصطفاء الدولة الأموية للموالي والصقالبة. حرص الناصر على السلطان المطلق. الصقالبة ونفوذهم. أثر هذا الاصطفاء. قرطبة مركز الجاذبية الدبلوماسية. تقدم الصلات الدبلوماسية بين الإسلام والنصرانية. سفارة قيصر قسطنطينية إلى الناصر. حفل استقبال السفراء وروعته. هدايا قيصر إلى الناصر. خطاب القاضي منذر بن سعيد. سفارات ملوك النصرانية. سفارة إمبراطور ألمانيا. سفارة الناصر إلى الإمبراطور. موضوع المفاوضات بين العاهلين. رأي الناصر في نظام الحكم. سفارات نصرانية أخرى إلى الناصر. مرض الناصر ووفاته. خلاله وصفاته. حجابه ووزراؤه وقواده. الوزراء وأصحاب الخطط. تنويه الشعر بعظمة عصره. صفة الناصر. أبناؤه. إشادة النقد الحديث بمناقبه. ننتقل الآن إلى ناحية أخرى من نواحي عصر الناصر. كان عصر عبد الرحمن الناصر بالرغم مما شغله من فتن وحروب مستمرة، عصر عظمة ورخاء ومجد، بل كان في الواقع أعظم عصور الإسلام بالأندلس، ولاسيما من نواحيه المعنوية والحضارية. وإذا كانت الأندلس قد بلغت فيما بعد في عصر المنصور بن أبي عامر، ذروة تفوقها السياسي والحربي في شبه الجزيرة الإسبانية، فإن الدولة الأموية بالأندلس بلغت في عهد الناصر ذروة القوة والبهاء؛ وكان هذا العهد حد الفصل بين مراحل تقدمها وازدهارها، ومراحل انحلالها وسقوطها. ولم تحل مهام الحرب والسياسة دون قيام الناصر بأعمال الإنشاء العظيمة، وكان في مقدمتها إنشاء مدينة الزهراء أعظم قواعد الأندلس الملوكية. وكانت قرطبة عاصمة الأندلس قد بلغت يومئذ أوج العظمة والازدهار، وأضحت تفوق بغداد منافستها في المشرق بهاء وفخامه. وكان الناصر قد ابتنى إلى جانب القصر الزاهر

وهو مقام الملك، قصراً جديداً سماه دار الروضة، جلب إليه الماء من فوق الجبل، واستدعى المهندسين والبنائين من كل فج، وأنشأ في ظاهر قرطبة متنزهات عظيمة ساق إليها الماء من أعلى الجبل فوق قناطر بديعة. ومع ذلك فقد كانت قرطبة بمعاهدها ودورها وطرقها الزاخرة، وسكانها الخمسمائة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك عظيم كملك الناصر، من استكمال الفخامة الملوكية، والقصور والميادين والرياض الشاسعة، بل كانت تضيق بهذه المرافق الملوكية منذ عهد عبد الرحمن الداخل، حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون له منزلا ومتنزها ملوكياً. وقد كان بناء القواعد الملوكية دائماً سنة العروش القوية الممتازة. فلما بلغ الناصر لدين الله ما أراد من توطيد ملكه، وسحق أعدائه في الداخل والخارج، عنى بأن يعرض آيات من ملكه الباذخ، وثاب له رأي في أن يقيم بجوار قرطبة ضاحية ملوكية عظيمة، فأنشأ مدينة الزهراء. ولإنشاء الزهراء قصة، وربما كانت أسطورة على مثل الأساطير التي ترتبط بقيام المدن والمنشآت العظيمة. ولم تقل لنا الرواية إن الناصر رأى حلماً كالذي رآه قسطنطين، وأوحى إليه بإنشاء قسطنطينية، ولكنها تقول لنا إن الذي أوحى إلى الناصر ببناء هذه الضاحية الملوكية هي جاريته وحظيته "الزهراء" وأنه ورث من إحدى جواريه مالا كثيراً، فأمر أن يخصص لافتداء الأسرى المسلمين، ولكنه لم يجد من الأسرى من يفتدى، فأوحت إليه "الزهراء" بأن ينشئ بهذا المال، مدينة تسمى باسمها وتخصص لسكناها (¬1). بيد إنا نفضل أن نرجع مشروع الناصر إلى بواعث الملك والسياسة، وإلى عرض فخامة الملك، والترفع بمظاهره وخصائصه، عن المظاهر العامة، لعاصمة مكتظة زاخرة. والظاهر أيضاً أن شغفاً خاصاً بالعمارة والبناء، كان يحفز الناصر ويذكي رغبته في إقامة هذه الضاحية الملوكية، وقد كانت المنشآت والهياكل العظيمة على كر العصور مظهر الملك الباذخ، والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها في هذا المعنى: همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... مُلْك محاه حوادث الأزمان إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 245.

وهكذا اختطت الزهراء في ساحة تقع شمال غربي قرطبة، على قيد خمسة أميال أو ستة منها، في سفح جبل يسمى جبل العروس (¬1). وكان البدء في بنائها في فاتحة المحرم سنة خمس وعشرين وثلثمائة (نوفمبر سنة 936 م). وعهد الناصر إلى ولده وولي عهده الحكم، بالإشراف على بناء العاصمة الجديدة (¬2)، وحشد لها أمهر المهندسين والصناع والفنانين من سائر الأنحاء، ولا سيما من بغداد وقسطنطينية (¬3). وجلب إليها أصناف الرخام الأبيض والأخضر والوردي من ألمرية وريُّه، ومن قرطاجنة إفريقية وتونس، ومن الشام وقسطنطينية، وجلب إليها من سواري الرخام أربعة آلاف وثلاثمائة وأربعة وعشرين سارية (¬4). وكان يشتغل في بنائها كل يوم من العمال والفعلة عشرة آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخسمائة، ويعد لها من الصخر المنحوت نحو ست آلاف صخرة في اليوم؛ وقدرت النفقة على بنائها بثلثمائة ألف دينار كل عام طوال عهد الناصر، أعني مدى خمسة وعشرين عاماً، هذا عدا ما أنفق عليها في عهد ولده الحكم (¬5). وابتنى الناصر في حاضرته الجديدة قصراً منيف الذرى، لم يدخر وسعاً في تنميقه وزخرفته، حتى غدا تحفة رائعة من الفخامة والجلال، تحف به رياض وجنان ساحرة، وأنشأ فيه مجلساً ملوكياً جليلا سمي بقصر الخلافة، صنعت جدرانه من الرخام المزين بالذهب، وفي كل جانب من جوانبه ثمانية أبواب، قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب والجوهر، وزينت جوانبه بالتماثيل والصور البديعة، وفي وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكانت الشمس إذا أشرقت على ذلك المجلس سطعت جوانبه بأضواء ساحرة (¬6). وزود الناصر مقامه في قصر الزهراء، وهو الجناح الشرقي المعروف بالمؤنس بأنفس التحف والذخائر، ونصب فيه الحوض الشهير المنقوش بالذهب، الذي أهدي إليه من قيصر ¬_______ (¬1) مختصر نزهة المشتاق للادريسي (طبع رومة) ص 193؛ والمسالك والممالك لابن حوقل ص 78. ويسمى ابن حوقل هذا الجبل بجبل بطلش. (¬2) البيان المغرب ج 1 ص 247، ونفح الطيب ج 1 ص 266. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 144. (¬4) البيان المغرب ج 2 ص 246، ونفع الطيب ج 1 ص 246، وأعمال الأعلام ص 38 (¬5) نفع الطيب ج 1 ص 265. (¬6) نفح الطيب ج 1 ص 246 و247.

قسطنطينية، والذي جلبه من هنالك إلى قرطبة، ربيع الأسقف. وجلب إليه الوزير أحمد بن حزم من الشام حوضاً ثانياً رائعاً، يقوم عليه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وهي تمثل بعض الطيور والحيوانات وتقذف الماء من أفواهها إلى الحوض (¬1). وقد دون هذه الروايات والأوصاف العجيبة، التي تشبه أوصاف قصور ألف ليلة وليلة المسحورة، عن قصر الزهراء، أكثر من مؤرخ معاصر وشاهد عيان، وأجمعت الروايات على أنه لم يبن في أمم الإسلام مثله في الروعة والإناقة والبهاء (¬2). وأنشأ الناصر في الزهراء أيضاً مسجداً عظيماً، تم بناؤه في ثمانية وأربعين يوماً. وكان يعمل فيه كل يوم ألف من العمال والصناع والفنانين، وزوده بعمد وقباب فخمة، ومنبر رائع الصنع والزخرف، فجاء آية في الفخامة والجمال (¬3). وأنشئت بها مجالات فسيحة للوحوش متباعدة الساح، ومسارح للطير مظللة بالشباك، ودار عظيمة لصنع السلاح، وأخرى لصنع الزخارف والحلي (¬4). والخلاصة أن الناصر أراد أن يجعل من الزهراء قاعدة ملوكية حقة، تجمع بن فخامة الملك الباذخ، وصولة السلطان المؤثل، وعناصر الإدارة القوية المدنية والعسكرية. واستمر العمل في منشآت الزهراء طوال عهد الناصر، أعني حتى وفاته في سنة خمسين وثلثمائة، واستمر معظم عهد ابنه الحكم المستنصر، واستغرق بذلك من عهد الخليفتين زهاء أربعين سنة (¬5)؛ ولكنها غدت منزل الملك والخلافة مذ تم بناء القصر والمسجد في سنة تسع وعشرين وثلثمائة، وبذا كانت (إلى جانب قرطبة) أول منزل للخلافة الإسلامية بالأندلس. وقد انتهت إلينا عن هذه الضاحية الملوكية الشهيرة أوصاف وأرقام مدهشة، تنبىء عما كانت عليه من الضخامة. فقد ذكر ابن حيان مؤرخ الأندلس أن الزهراء كانت تشغل مسطحاً قدره تسعمائة وتسعون ألف ذراع، وأن مبانيها اشتملت على أربعة آلاف سارية ما بين صغيرة وكبيرة، منها ما جلب من مدينة ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 266؛ وأعمال الأعلام ص 38. (¬2) نفح الطيب ج 1 ص 264، 265. (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 264. (¬4) ابن خلدون ج 4 ص 144. (¬5) نفح الطيب ج 1 ص 264.

رومة، ومنها ما أهداه قيصر قسطنطينية، وأن مصاريع أبوابها كانت تبلغ زهاء خمسة عشر ألفاً، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموه. وذكر مؤرخ آخر أن عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين فتى، وعدد النساء والحشم بالقصر ستة آلاف وثلثمائة، يصرف لهم في اليوم ثلاثة عشر ألف رطل من اللحم، سوى الدجاج والحجل وغيرها (¬1). قد لا نجد في المنشآت الملوكية الحديثة ما يذكرنا بهذه الأرقام المدهشة، سوى القصر البابوي أو قصر الفاتيكان الشهير برومة، وما انتهى إليه خلال العصور المتعاقبة من الضخامة والفخامة والجلال، فإن هذا المقام الكنسي الملوكي الفخم، يحتوي على أربعة آلاف غرفة، وعلى مئات الأبهاء والساحات والأروقة، ويضم عدة أجنحة ومجالس رائعة، أسبغ عليها أبدع ما عرف الفن الرفيع من آيات الزخرف والنقش والتصوير. ويحدثنا الرحالة البغدادي ابن حوقل عن الزهراء - وقد زارها أيام الحكم ولد الناصر - فيصف موقعها، ويقول " إن العمارة اتصلت بينها وبين قرطبة، وإن لها مسجداً جامعاً دون جامع البلدة (قرطبة) في المحل والقدر، وعلى سورها سبعة أبواب حديد، وليس لها نظير بالمغرب فخامة حال وسعة تملك، وابتذال لجيد الثياب والكسى، وفراهة الكراع وكثرة التحلي، وإن لم يكن لها في عيون كثير من الناس حسن بارع " (¬2). ولكن الزهراء لم تعمر طويلا كقاعدة ملوكية، فقد لبثت قاعدة الملك والخلافة زهاء أربعين عاماً فقط، مذ نزل بها الناصر سنة 329 هـ حتى نهاية عهد ابنه الحكم المستنصر سنة 366 هـ، ولم يكن ذلك لأن الزهراء قد عفت كقاعدة ملوكية، ولكن لأن تحولا خطيراً قد وقع في سلطان بني أمية عقب وفاة الحكم، إذ استطاع الوزير محمد بن أبي عامر (الحاجب المنصور) أن يتغلب على الدولة وأن يحجر على الخليفة هشام المؤيد ولد الحكم حسبما نفصل بعد؛ ثم رأى أن ينقل قاعدة الحكم إلى ضاحية ملوكية جديدة أنشأها لنفسه بجوار قرطبة (سنة 368 هـ) على نهر الوادي الكبير وسماها الزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة ودور الحكومة، واتخذ لنفسه سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور. ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 265. (¬2) المسالك والممالك ص 78.

وهكذا فقدت الزهراء صفتها كقاعدة رسمية، وشاءت الأقدار ألا تكون منزل الملك والخلافة إلا في عهد مؤسسها، وعهد خلفه الذي أكمل بناءها. وكان قيام الحاجب المنصور في الواقع خاتمة لسلطان بني أمية، ولم يبق بعد ذلك من دولتهم سوى الإسم. وقد بقيت الزهراء حيناً مقاماً ملوكياً للخليفة المحجور عليه - هشام المؤيد - ولكنها فقدت من ذلك الحين أهميتها السياسية وهيبتها الملوكية. ثم كانت المحنة الكبرى بانهيار هذا الصرح البديع الذي شاده بنو أمية بالأندلس، وانهيار الخلافة الأموية والدولة العامرية معاً، وسقوط الأندلس صرعى الحرب الأهلية. ففي ربيع الأول سنة 401 هـ (نوفمبر سنة 1010 م) زحفت قوات البربر ومعها سليمان المستعين زعيم الثورة الأموية على قرطبة لينتزعها من الخليفة هشام المؤيد، والفتى واضح الحاجب المتغلب عليه، واقتحموا في طريقهم مدينة الزهراء، وفتكوا بحاميتها وسكانها، وعاثوا في معاهدها ورياضها، وأحرقوا المسجد والقصر، ولبثوا فيها بضعة أشهر. والظاهر أن الضربة كانت قاضية فلم يبق من الضاحية الملوكية الباهرة بعد أن غادروها سوى أطلال دارسة. ولا يكاد اسم الزهراء، يذكر بعد ذلك في التاريخ الأندلسي، إلا كأثر عصفت به صروف الدهر، وقد كانت الزهراء أيام روعتها وازدهارها، وحي الشعر الرائع والخيال الرفيع، وقد أشاد بجمالها وفخامتها، جمهرة من أكابر شعراء الأندلس وأمراء البيان، ثم رثوها بعد ذلك في مقطوعات مؤثرة. ومما قاله ابن زيدون وهو من أعظم شعراء عصر الطوائف، يشيد بالزهراء، ورائع ذكرياتها: خليلي لا فطر يسرُّ ولا أضحى ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعلى في الأماني بها قدحا ألا هل إلى الزهراء أوبة نازح ... تقضت مبانيها مدامعه نزحا مقاصير ملك أشرقت جنباتها ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحا يمثل قرطيها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عز أن يصدى الفتى فيه أو يضحا

هناك الحمام الزرق تندى خفافها ... ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا تعوضت من شدو القيان خلالها ... صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا (¬1) ونقل إلينا الشيخ محيى الدين بن عربي (¬2) أبياتاً، قال إنه قرأها على بعض جدران الزهراء بعد خرابها، رثاء في المدينة الشهيرة وهي: ديار بأكناف الملاعب تلمع ... وما إن بها من ساكن وهي بلقع ينوح عليها الطير من كل جانب ... فيصمت أحياناً وحيناً يرجع فخاطبت منها طائراً متغرداً ... له شجن في القلب وهو مروع فقلت على ماذا تنوح وتشتكي ... فقال على دهر مضى ليس يرجع ويرثى الفتح بن خاقان معاهد الزهراء خلال رواية نقلها عن جولة لبعض الكبراء في تلك الأطلال: " وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالي ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها، والوهى بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأفياءها، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من شذاهم وأرجت، أيام نزلوا خلالها، وتفيأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجناتها، ونبهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأضحت ولها بالتداعي تلفع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نؤى وأحجار، وقد هوت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيه الجديد ... " (¬3). وكانت أطلال الزهراء ما تزال قائمة حتى القرن السابع الهجري (القرن الثالث عشر). وقد ذكرها الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الذي وضعه في منتصف القرن السادس الهجري (منتصف القرن الثاني عشر)، وذكر أن بينها وبين قرطبة خمسة أميال (¬4)؛ وذكرها أيضاً ياقوت الحموي في معجمه الجغرافي الذي ¬_______ (¬1) راجع قصيدة ابن زيدون برمتها في ترجمته في " قلائد العقيان " للفتح بن خاقان ص 72. (¬2) هو من أكابر متصوفة الأندلس وعلمائها في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجري، وقد نقل إلينا هذه الرواية والأبيات في كتابه الشهير " محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ". (¬3) راجع قلائد العقيان في ترجمة المعتمد بن عباد ص 10. (¬4) راجع نزهة المشتاق (المختصر) طبع رومة - ص 193.

وضعه في أوائل القرن السابع الهجري (¬1). وفي شوال سنة 633 هـ (1236 م) كانت نكبة الأندلس ونكبة الإسلام، بسقوط قرطبة في أيدي الإسبان؛ فطويت بذلك أسطع صحف الإسلام وصحف الخلافة في الأندلس. وكانت قرطبة قد فقدت أهميتها السياسية منذ الثورة وسقوط الدولة الأموية، ولكنها لبثت بعد ذلك عصراً تحتفظ بهيبتها الخلافية القديمة. ومن المرجح أن أطلال الزهراء بقيت بعد سقوط قرطبة في أيدي الإسبان عصراً يصعب تحديده، غير أن قرطبة فقدت في ظل سادتها الجدد صبغتها ومعالمها الإسلامية بسرعة، ولم يبق اليوم من آثارها وصروحها الإسلامية سوى مسجدها الجامع، الذي ما يزال بالرغم من تحويله إلى كنيسة جامعة، يحتفظ إلى اليوم بكثير من روعته الإسلامية السالفة. * * * هذا وما زالت سيرة مدينة الزهراء وذكريات فخامتها الذاهبة، تحتل المقام الأول في تاريخ إسبانيا المسلمة الأثري والفني. وقد اهتم العلماء الإسبان منذ نحو قرن بالكشف عن معالمها وأطلالها، لما يلقيه ذلك الكشف من أضواء هامة على أحوال الخلافة الأندلسية ونظمها الإدارية والاجتماعية، وعلى تطور الفن الأندلسي في أزهي عصوره. وعنيت الحكومة الإسبانية منذ بداية القرن الحالي، بإجراء الحفريات الأثرية للكشف عن صروح المدينة الخلافية. وبالرغم من أن جهود اللجان الأثرية المتعاقبة التي اضطلعت بهذا العمل، لم تكن متواصلة أو ذات نطاق واسع، فقد استطاع الأثريون الإسبان أن يكشفوا عن كثير من معالم الزهراء، ومواقع صروحها، وأبهائها الملوكية. وقد أتيح لنا أن نزور معالم الزهراء وأطلالها غير مرة، خلال زياراتنا لعاصمة الخلافة القديمة (¬2). وتقع هذه الأطلال الضخمة غربي قرطبة على بعد نحو سبعة أميال منها، وشمالي نهر الوادي الكبير على قيد ميلين، وتحتل منحدراً صخرياً وعراً يقع أسفل الأكمة التي يحتلها دير سان خيرنمو San Jeronimo الشهير، الذي يقال إنه بني بأنقاض قصر الزهراء. وتسمى هذه المنطقة التي تحتلها أطلال الزهراء " قرطبة القديمة " Cordoba la vieja. ¬_______ (¬1) راجع معجم البلدان تحت كلمة الزهراء (مصر) ج 4 ص 421. (¬2) قمنا بزيارة أطلال الزهراء لآخر مرة في مايو سنة 1963.

وتشمل الحفريات الأثرية التي يقوم بها العلماء الإسبان منذ سنة 1910 منطقة واسعة، تمتد 1518 متراً من الشرق إلى الغرب و745 متراً من الشمال إلى الجنوب. ومع أن هذه المنطقة لم تكشف كلها فإن ماكشف حتى الآن من الأطلال الضخمة، ومن نقوشها وزخارفها التي مازال بعضها قائماً في بعض الجدران، والتي تتمثل بالأخص في مئات القطع الرخامية الزخرفية التي وجدت، يكفي لتكوين فكرة عامة، عن هندسة المدينة الملوكية ومنعتها وفخامة صروحها الذاهبة. وتنقسم أطلال الزهراء بصفة عامة إلى مجموعات ثلاث، مدرجة من أعلى إلى أسفل. وتشمل المجموعة الأولى مواقع القصر الخليفي والمقام الخاص. وتشمل الثانية فيما يبدو مساكن الحاشية والحرس. وتشمل المجموعة الثالثة، وهي الواقعة أسفل الربوة، في بسيط معتدل من الأرض، أربعة أفنية كبيرة عالية، هي التي يجرى اليوم ضمها وإعادة تشكيلها، فيما يظن أنه البهو العظيم الذي كان مخصصاً لاستقبال الملوك وأكابر السفراء. وقد تم الكشف عن هذا البهو الذي يعتبر أعظم ما كشف حتى اليوم من آثار الزهراء في سنة 1944 م، ووجدت سائر حطامه وزخارفه مدفونة تحت الأنقاض. ويعكف الأثريون الإسبان منذ أعوام على إقامة الصرح وتنسيقه، مما وجد من أنقاضه وأعمدته وزخارفه. وقد أقيم حتى اليوم في وسطه ما اصطلح على تسميته " بهو السفراء " أو باسمه التاريخي " المجلس المؤنس "، وهو عبارة عن أربعة أفنية متلاصقة تبلغ واجهتها نحو أربعين متراً، وقد قسمت من الداخل إلى ثلاث أروقة مستطيلة، يتوسطها رواق رابع ذو عقود من الجانبين. ويقوم كل فناء منها على خمسة عقود، وقد ركب على هذه العقود ما وجد بين الأطلال من رؤوس وقواعد رخامية مزخرفة، وفي وسط الرواق الثالث عقد جميل عال يفضي إلى بهو داخلي، زين جانباه بالزخارف الرخامية. ويبلغ طول كل رواق من الأروقة المذكورة نحو عشرين متراً، وعرضه نحو ثمانية أمتار. وقد صنعت العقود كلها على نمط واحد، وزينت من أعلاها بما أمكن جمعه من قطع الزخارف الرخامية التي وجدت. وقد شيدت هذه الأروقة على ارتفاع يبلغ نحو عشرة أمتار. وقد كشفت الحفريات الأخيرة عن مجموعة جديدة من الأطلال تقع أعلى هذه الأبهاء من اليسار، وهي عبارة عن مجموعة من الغرف السكنية وبهو مستطيل.

وهي لا تفترق كثيراً عن غيرها من المجموعات الأخرى المماثلة من حيث التخطيط، ولكنها تكشف لنا عن حقائق معمارية وفنية هامة، فهي المجموعة الوحيدة التي وجد بها أثر الدهان واضحاً. وقد تبين أن لون الدهان الذي كان مستعملا في هذه المجموعات من المساكن (مساكن الحاشية) هو اللون الأحمر، يحف به على ارتفاع نحو متر ونصف خط أبيض، يعلوه خط أحمر، وتبين كذلك أن البلاط المستعمل في تغطية أرض الغرف هو أيضاً أحمر اللون، وهو قطع مربعة يبلغ ضلع الواحدة منها أربعن سنتمتراً. وتبين أخيراً أن الأحجار المستعملة في أسفل البناء، هي أحجار كبيرة بعضها يبلغ طوله نحو 80 سنتيمتراً وعرضه 40 سنتيمتراً. وإلى جانب هذه المجموعات الجديدة من أطلال الزهراء، توجد المجموعات القديمة، وهي تشمل موقع القصر الخليفي والجدار الشمالي، والفناءين التوأمين المتصلين بالمنحدر، والفناء الصغير المتصل بقصر الخلفاء، ومجموعة من مساكن الحرس. وترجع منطقة الجدار الشمالي إلى عصر الناصر ذاته، وهي من منشآته في المرحلة الأولى من بناء الزهراء، وقد أصلحت على امتداد سبعين متراً. وهذا الجزء من الجدار أمتن وأحكم صنعاً، من قسمه الذي بني فيما بعد في عهد الحكم المستنصر. أما عن الفناءين المتماثلين أو الفناءين التوأمين، فيقع أولهما على بعد ثمانية أمتار أسفل القصر الخليفي، ويشتمل كل منهما على بهو كامل، وهناك ما يدل على أن كلا منهما كان يحتوي على مجموعة من المساكن المتماثلة المخصصة لسكنى طائفة هامة من البطانة أو الجند. ويشغل الفناء الغربي رقعة ضخمة مربعة تقريباً تبلغ مساحتها نحو خمسمائة متر، وبه أيضاً بقايا أبنية سكنية. بيد أنه لم يكتشف في هذه المنطقة أبواب أو مداخل تكشف عن حقيقة نوع هذه الأبنية، والظاهر أن الفناء الشرقي كان موقع مسكن " للحريم "، أو بعبارة أخرى كان جناحاً للقصر الذي تسكنه النساء والأولاد حسبما تدل على ذلك آثار أبنيته ومرافقه. وعثر المكتشفون إلى جانب هذه المجموعات الضخمة من أطلال المدينة الخليفية، بطائفة كبيرة من القطع الزخرفية والعقود والأعمدة والألواح والأحواض الرخامية، ومئات من القطع والأواني الزخرفية والبللورية، وقد جمعت كلها في متحف خاص أقيم عند مدخل " مدينة الزهراء "، وعرضت فيه بعض القطع

والأحواض الرخامية البديعة الزخرف والنقوش، وبعض الأواني الخزفية والبللورية المصححة، وهذا إلى ما يوجد من تحف الزهراء ونقوشها الزخرفية بمتحف قرطبة الأثري، وفي مقدمتها الوعل البرونزي الشهير الذي يعتبر من أروع القطع الفنية. نقول، ولعل حفائر الزهراء المستقبلة تكشف لنا عن معالم كثيرة أخرى من ضروب الفخامة والجلال، التي كانت تتسم بها المدينة الخلافية، والتي تحدثنا عنها الروايات المعاصرة (¬1). هذا ولم ينس الناصر أن يشمل المسجد الجامع بعنايته، أسوة بسائر أسلافه من بني أمية، فجدد واجهته، وزاد فيه زيادات كبيرة (346 هـ - 957 م). وكان قبل ذلك قد هدم منارته القديمة، وأنشأ مكانها المنارة العظمى، وذلك في سنة 340 هـ (951 م). وكانت منارة الناصر تمتاز بفخامتها وارتفاعها الشاهق، وكانت مربعة الواجهات، ولها أربعة عشرة شباكاً ذات عقود، وتحتوي على سلمين أحدهما للصعود، والآخر للنزول، وقد ركب في قمتها ثلاث تفاحات كبيرة، إثنتان منها من الذهب، والثالثة من الفضة (¬2)، وكانت إذا أرسلت الشمس أشعتها عليها، تكاد تخطف الأبصار ببريقها. وقد أزال الإسبان فيما بعد، تلك المنارة العظيمة، تتمة لبرنامجهم في تشويه المسجد الجامع، وأقاموا مكانها برج الأجراس الحالي. وما زالت اللوحة التي تنوه بما قام به الناصر من تجديد واجهة الجامع قائمة إلى اليوم، في مكانها في الجانب الأيمن من بابه الرئيسي المسمى "باب النخيل" (¬3) وقد كتب بها ما يأتي بخط كوفي جميل: " بسم الله الرحمن الرحيم. أمر عبد الله عبد الرحمن أمير المؤمنين الناصر لدين الله أطال الله بقاءه، ببنيان هذا الوجه، وإحكام إتقانه، تعظيماً لشعائر الله، ¬_______ (¬1) رجعنا في هذا الاستعراض لأطلال الزهراء إلى مشاهداتنا الخاصة. وكذلك إلى البحوث الأثرية الآتية: Medina Azzahra y Alamiriya, por D.R.Velazquez Bosco (Madrid 1912) Excavaciones del Plan nacional en Medina Azzahra (Cordoba) , Campana de 1943. por R. Castéjon y Martinez de Arizala (Madrid 1945) Nuevas Excavaciones en Medinat Al - Zahra: El Salon de Abd Al - Rahman III por R. Castéjon (Al - Andalus, Vol. X (1945) Fsc.I. (¬2) أعمال الأعلام ص 38. (¬3) وبالإسبانية Puerta de las Palmas

ومحافظة على حرمة بيوته، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، ولما دعاه على ذلك من تقبل عظيم الأجر، وجزيل الذخر، مع بقاء شرف الأثر، وحسن الذكر، فتم ذلك بعون الله، في شهر ذي الحجة سنة ست وأربعين وثلث مائة على يد مولاه ووزيره وصاحب مبانيه عبد الله بن بدر، عمل سعيد بن أيوب " (¬1). - 2 - تولى عبد الرحمن الناصر عرش مملكة تفاقمت من حولها الخطوب، واستنفدت مواردها الثورة، فتداركها بعزمه وقوة نفسه، واستطاع أن يسحق خصومها في الداخل والخارج، في سلسلة طاحنة من الحروب والغزوات المستمرة، وأن يوطد دعائمها وأن يخضع الجزيرة لصولتها، وأن يكفل لها الأمن والسكينة والرخاء. ولم يفت الناصر منذ البداية أن الجيش عماد الدولة وسياج الملك، فعكف على إصلاح الجيش الذي أضناه الكفاح ضد الثورة، وحشد له الجند من سائر أنحاء الأندلس والمغرب، واستكثر من الأسلحة والذخائر، وصقلت الحروب والغزوات المستمرة كفاية الجيش ودربته، وأمدته بطائفة من أمهر القادة وأشدهم بأساً، ورفعت القوة المعنوية بين الصفوف، وكان إقدام الأمير على تولي القيادة بنفسه مجدداً لعهد الحماسة الحربية والانتصارات الباهرة. وعنى عبد الرحمن في الوقت نفسه بأمر الأسطول وإصلاحه، فأنشأ له وحدات جديدة قوية. وكانت ألمرية عندئذ مركز الأسطول الأندلسي الرئيسي، وبها أكبر دار للصناعة. وبلغ الأسطول في عهد الناصر زهاء مائتي سفينة مختلفة الأنواع والأحجام، وهذا عدا الأسطول المخصص لشئون المغرب البحرية، وقد كان يضم كذلك عدداً كبيراً من السفن. وهكذا كان أسطول الأندلس في ذلك العهد من أقوى الأساطيل يومئذ، وكان بضخامته وأهباته، يسيطر على مياه إسبانيا الجنوبية والشرقية، وينازع الفاطميين سيادة الشق الغربي من البحر المتوسط. وكان عهد الناصر بالرغم من استمرار الحروب والغزوات، كما قدمنا عهد رخاء ويسر، توطدت فيه مالية الدولة وامتلأت خزائنها بالأموال الوفيرة، وزاد الخراج والدخل زيادة عظيمة باستتباب السكينة والأمن، وازدهار الزراعة والتجارة والصناعة، وكثرة الأخماس والغنائم. وإن فيما احتوته الزهراء من القصور ¬_______ (¬1) راجع الآثار الأندلسية الباقية لمحمد عبد الله عنان (الطبعة الثانية) ص 20 و21 و30.

والمنشآت الباذخة، وما بذل لإقامتها من النفقات مدى أعوام طويلة، لما يستوقف النظر، ويحمل على تأمل ذلك المدى المدهش الذي بلغته الدولة الأموية بالأندلس في عهد الناصر من القوة والضخامة والغنى. وقد انتهت إلينا في ذلك أرقام مدهشة، منها أن جباية الأندلس بلغت في عهد الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، هذا عدا أخماس الغنائم التي لا تحصى. وقيل إن الناصر خلف عند وفاته في بيوت الأموال ما تبلغ قيمته خمسة آلاف ألف ألف (خمسة آلاف مليون) دينار. وكان يقسم الجباية من أجل النفقة إلى ثلاثة أثلاث: ثلث لنفقة الجيش، وثلث للبناء والمنشآت العامة، وثلث يدخر للطوارئ (¬1). ولم يتردد المؤرخ الحديث في قبول هذه الأرقام حتى أن العلامة دوزي ينقلها، ويقدر أن الناصر ترك عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب (¬2). ويقول لنا ابن حوقل الرحالة البغدادي الذي زار قرطبة في هذا العهد، إن الناصر كان أغنى ملوك عصره، وإنه وبني حمدان ملوك حلب والجزيرة أغنى ملوك العالم في ذلك العصر (¬3). وهذه أرقام وروايات تشهد بضخامة الدولة الأموية وغناها الطائل في عصر الناصر، وتفسر لنا كيف استطاع الناصر إلى جانب حروبه وغزواته، أن يضطلع بكثير من المنشآت العظيمة. هذا، وقد كان مما عنى به الناصر تنظيم العملة، وتثبيتها، فأمر في سنة 316 هـ، باتخاذ دار السِّكة داخل مدينة قرطبة لضرب العين من الدنانير والدراهم، فاتخذت هناك على رسمه، وولى خطتها أحمد بن محمد بن حدير، وذلك في 17 من شهر رمضان من هذه السنة، فقام بالضرب فيها من هذا التاريخ، من خالص الذهب والفضة، وبذل جهده في الاحتراس من المدلسين، فأصبحت دنانيره ودراهمه عياراً محضاً. وقد كان ضرب النقد معطلا قبل الناصر، وكان لهذا الإجراء أثره في تثبيت العملة واستقرار التعامل (¬4). ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 177، والبيان المغرب ج 2 ص 247، وأعمال الأعلام ص 38. (¬2) Dozy: Hist.Vol.II.p. 178 (¬3) ابن حوقل، المسالك والممالك ص 77. (¬4) ابن حيان - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية لوحة 99 ب.

وبلغت الأندلس في عهد الناصر ذروة الرخاء والنعماء والأمن والعزة، وازدهرت الزراعة والتجارة والصناعة والعلوم والآداب والفنون، وشمل الأمن سائر أطراف المملكة، ورخصت كلفة العيش. ونمت قرطبة نمواً عظيماً حتى بلغ سكانها أكثر من خمسمائة ألف، وبلغت مساجدها ثلاثة آلاف، ومنازلها أكثر من مائة ألف، وحماماتها العامة ثلاثمائة، وبلغت أرباضها أو ضواحيها ثمانية وعشرين، هذا عدا المدينة الوسطى، وكان لقرطبة يومئذ سبعة أبواب: باب القنطرة، وباب اليهود، وباب عامر، وباب العطارين، وباب طليطلة، وباب عبد الجبار، وباب الجوند. وكان للقصر الأموي ستة أبواب: باب السُّدة، وباب الجنان، وباب العدل، وباب الصناعة، وباب الملك، وباب الساباط، وهو في المسجد الجامع. وازدانت قرطبة بعدد كبير من القصور والمتنزهات الفخمة، ودوت شهرتها في الآفاق، ووصلت إلى قاصية الشمال، حتى أن الراهبة السكسونية هروسوفيتا التي اشتهرت بنظمها في أواخر القرن العاشر، أشادت في قصائدها اللاتينية بمحاسن قرطبة ووصفتها بأنها " زينة الدنيا " (¬1). - 3 - كانت سياسة الدولة الأموية بالأندلس تقوم منذ البداية على اصطناع الموالي والصقالبة واتخاذهم أداة وبطانة، وكان مؤسسها عبد الرحمن الداخل قد عمد بتأثير الظروف العصيبة التي أحاطت بقيام ملكه، والخطوب والثورات الجمة التي أثارها خصومه ومنافسوه من زعماء القبائل العربية، إلى الاسترابة بالعرب، واصطناع البربر والموالي الذين آزروه وقت المحنة، ومكنوه من توطيد زعامته وإمارته. وقد حافظ خلفاء الداخل على هذه السياسة في جوهرها. ومنذ عهد الحكم المنتصر (180 - 206 هـ) نرى نفوذ الموالي والصقالبة يشتد في البلاط وفي الدولة. وكان الحكم يعشق مظاهر الفخامة والملك والبذخ، فغص البلاط الأموي في عهده بالخدم والحشم، من المماليك والصقالبة، بيد أن نفوذهم لبث مدى حين بعيداً عن شئون الدولة العليا، قاصراً على شئون القصر والخاص. واقتفى عبد الرحمن الناصر سياسة جده الداخل، في الاسترابة بالقبائل ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 247. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 174

خريطة: خطط قرطبة الإسلامية. خريطة العلامة الأثري القرطبي رافائيل كستيخون.

العربية ذات البأس والعصبية، وفي إقصاء زعمائها عن مناصب النفوذ والثقة، واستأثر بكل سلطة حقيقية في الدولة، وجمع مقاليد الحكم كلها في يده، فلم يبق سلطة فعلية لحاجب أو وزير. وكان الناصر حريصاً على سلطانه المطلق، لايني عن سحق كل من حدثته نفسه بالوقوف في سبيله، ولو كان أقرب الناس إليه. ولما نمى إليه أن ولده عبد الله يأتمر به مع بعض فتيان القصر ورجال الدولة، لأنه آثر أخاه الحكم بولاية العهد وتصريف الشئون، وأن جماعة من أهل قرطبة بايعوه بالخلافة، لم يحجم عن أن يقضي بإعدامه، وإعدام جميع من اتجهت إليهم شبهة الاشتراك معه، وكان ذلك في سنة 338 هـ (949 م). وكان عبد الله من أفضل أبناء الناصر علماً وعقلا وبصراً بالأمور، وكذلك قضى الناصر بإعدام بعض أبناء عمومته وأخيه القاضي ابن محمد حين قامت الأدلة على ائتمارهم به (¬1). وعهد الناصر بالمناصب الكبيرة إلى رجال وضيعي المنبت من الصقالبة والموالي المعتقين أو الأرقاء، وهم رجال لا إرادة لهم يوجههم كيفما شاء، وكان يثق بالصقالبة بنوع خاص، ويوليهم من السلطان والنفوذ ما لا يوليه سواهم (¬2). وقد كانت كلمة " الصقالبة " تطلق في الأندلس على الأسرى والخصيان من الأجناس الصقلبية (السلافية) الحقيقية، ثم غدت تطلق بمضي الزمن على جميع الأجانب الذين يعملون في البطانة وفي القصر. وكان أولئك الصقالبة مزيجاً من الجليقيين (النصارى الإسبان) والألمان والفرنسيين واللونبارد والإيطاليين (¬3)، وكان معظمهم يؤتى بهم أطفالا بواسطة خوارج البحر (القراصنة) وتجار الرقيق، وكانوا يختارون من الجنسين، ويربون منذ الحداثة تربية عربية حسنة، ويلقنون مبادىء الإسلام، وقد نبغ بعضهم في النثر والنظم وصنفوا الكتب والقصائد. ومنذ عهد الناصر يشتد نفوذ الصقالبة في شئون الإدارة والحكم، فضلا عن القصر والخاص، ويعهد إليهم بالمناصب الكبرى في القصر والإدارة والجيش. وما لبث أن سما شأنهم وتوطد سلطانهم، وأحرزوا الضياع والأموال الوفيرة، وفاق عددهم في عهد الناصر أى عهد آخر، حتى قدر بعض المؤرخين عددهم ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 143، والبيان المغرب ج 2 ص 244، وأعمال الأعلام ص 39. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 138. (¬3) ابن حوقل في المسالك والممالك ص 75؛ وكذلك Dozy: Hist, Vol. II.p. 153

يومئذ في القصر والبطانة، بثلاثة عشر ألفاً وسبعمائة وخمسين، وبلغوا في رواية أخرى سبعة آلاف وثمانين ويقول لنا ابن الخطيب إن عدد الفتيان الصقالبة بمدينة الزهراء كان عند وفاة الناصر ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسين، وعدد النساء بالقصر ستة آلاف وسبعمائة وخمسين، تجري عليهم جميعاً رواتب الطعام بسائر صنوفه (¬1). وعلى أي حال فقد كان من أولئك الصقالبة الحرس الخليفي، ورجال الخاص والحشم، وكان الناصر يمد لهم في السلطان والنفوذ، ويرغم أشراف العرب وزعماء القبائل على الخضوع لهم، ليذل بذلك أنوفهم ويسحق هيبتهم (¬2). بل كان منهم في عهد الناصر قائد الجيش الأعلى نجدة، ومعظم أكابر القادة والضباط، وكان منهم أفلح صاحب الخيل، ودرِّي صاحب الشرطة، ومنهم ياسر وتمام صاحبا النظر على الخاص (¬3). وكان لهذه السياسة غير بعيد، أسوأ الأثر في انحلال الجيش وفتور قواه المعنوية، لما جاشت به صدور الضباط والجند العرب، من الحفيظة والسخط على هذه السياسة المهينة، وكانت هزيمة الناصر في موقعة الخندق الشهيرة (ألانديجا) (327 هـ)، ترجع من وجوه كثيرة إلى هذا الانحلال المعنوي، الذي سرى إلى الجيش من جراء الأحقاد القومية والطائفية (¬4). - 4 - كانت الأندلس بما اجتمع لها في عهد الناصر من أسباب القوة والسلطان، قد تبوأت مركز الصدارة بين الدول الإسلامية، وكانت الدولة العباسية قد دخلت يومئذ في دور انحلالها، ولم تكن الدولة الفاطمية الفتية منافستها في المشرق، قد بلغت يومئذ ذروة قوتها ونفوذها، فكانت الأندلس تستأثر يومئذ بزعامة الإسلام. وكانت قرطبة مركز الجاذبية الدبلوماسية في العالم الإسلامي، تتجه إليها أبصار الدول النصرانية في طلب المودة، وعقد العلائق الدبلوماسية؛ وكانت قسطنطينية مركز هذه الجاذبية الدبلوماسية بين أمم النصرانية حتى القرن الثامن. ثم نافستها في ذلك مملكة الفرنج القوية مدى حين، فلما اضمحل شأن المملكة ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 40 و41. (¬2) Dozy: HistVol.II.p. 153. وراجع نفح الطيب ج 1 ص 265. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 123؛ ونفح الطيب ج 1 ص 171. (¬4) Dozy: Hist.V.II.p. 153.

الفرنجية، استردت قسطنطينية زعامتها الدبلوماسية في النصرانية. ولما قامت الإمبراطورية الجرمانية في القرن العاشر، استطاعت أن تبسط زعامتها السياسية على أواسط أوربا وغربيها، وهكذا كانت زعامة النصرانية تتردد في هذه الحقبة بين شرقي أوربا وغربيها. هذا بينما لبثت قرطبة تستأثر وحدها بزعامة الإسلام في الغرب حتى نهاية القرن العاشر. وقد كان هذا العصر الذي اجتمعت فيه تلك الزعامات الدينية والسياسية القوية، أحفل العصور بصلات الإسلام والنصرانية. فكانت ثمة معاهدات وسفارات ومراسلات وعلائق دبلوماسية، بين قرطبة وبين معظم الأمم النصرانية، وقد بلغت هذه الصلات ذروتها في عصر الناصر لدين الله، وتوالت وفود الأمم النصرانية يومئذ على بلاط قرطبة، تنشد الحلف والصداقة والمهادنة، من زعيم الإسلام في الغرب. وكان بلاط قسطنطينية بالرغم من نأيه عن مقر الخلافة الأندلسية، وعدم اتصاله بها، بأية حدود أو صلات جغرافية مشتركة، في مقدمة الساعين إلى توثيق الروابط الودية مع بلاط قرطبة. ففي سنة 336 هـ (948 م) (¬1)، وفدت على الناصر رسل قسطنطين السابع قيصر قسطنطينية المعروف " ببورفيروجنتوس " (¬2) ومعهم طائفة من الهدايا النفيسة. وتقدم إلينا الرواية الأندلسية عن هذه السفارة تفاصيل شائقة، تلقي ضوءاً على نظم الرسوم الدبلوماسية في هذا العصر، فتقول لنا إن الناصر بعث رسله للقاء السفراء البيزنطيين حين وصولهم إلى الشاطىء لإرشادهم وخدمتهم، ولما وصل الركب إلى مقربة من قرطبة، بعث بعض قواته للاحتفاء بهم، ثم بعث الفتيين ياسراً وتماماً فصحباهم إلى دار الضيافة، بقصر ولي العهد الحكم، في ربض قرطبة، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة، ورتب لخدمتهم طائفة من الموالي والحشم. وفي اليوم الحادي عشر من ¬_______ (¬1) هذه هي رواية ابن خلدون (ج 4 ص 142). وفي رواية أخرى أنها وقعت سنة 338 هـ (نفح الطيب ج 1 ص 171). وذكر الطبيب الأندلسي ابن جلجل وقد عاش قريباً من عصر الناصر، أنها وقعت في سنة 337 هـ (راجع طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة - طبعة ميللر - ج 2 ص 447). وذكر صاحب البيان المغرب أنها وقعت في سنة 334 هـ (ج 2 ص 239). ولم نعثر في تواريخ الدولة البيزنطية على تفاصيل هذه السفارة، ولكن الرواية الإسلامية واضحة جلية. (¬2) ومعناها الأرجواني.

ربيع الأول من السنة المذكورة، خرج الناصر من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لاستقبالهم، وجلس في بهو المجلس الزاهر، وكان يوماً مشهوداً من أيام الأندلس. فركبت الجند بالسلاح في أكمل شكل، وزين القصر الخلافي بأنواع الزينة وأصناف الستور، وحفل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة، وجلس عن يمين الخليفة ولده وولي عهده الحكم، وجلس باقى أولاده يميناً وشمالا، ورتب الوزراء في مراتبهم، وغص المجلس برجال الدولة والقادة والعظماء والزعماء من كل ضرب. ودخل سفراء ملك الروم، فبهرهم ما رأوا من روعة الملك وفخامة السلطان، وقدموا الهدايا التي يحملونها. وذكر لنا الطبيب الأندلسي أبو داود سليمان بن حسان المعروف " بابن جُلجل " الذي عاش في عصر هشام المؤيد حفيد الناصر، أنه كان في مقدمة هدايا أرمانيوس ملك الروم إلى الناصر سفران جليلان من كتب الأقدمين، أحدهما نسخة مصورة أبدع تصوير من كتاب ديسقوريدس (¬1) عن الحشائش، مكتوبة بلغة مؤلفها أي باليونانية؛ والثاني نسخة من تاريخ أورسيوس (هروسيس) (¬2) مكتوبة باللاتينية، وهو المتضمن لتاريخ العالم القديم، وأقاصيص الملوك السابقين (¬3). وقدم الرسل كتاب القيصر قسطنطنين السابع، وقد كتب في ورق ذى لون سماوي باللغة اليونانية، وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة ومكتوبة بنفس اللغة، فيها وصف لهدايا الإمبراطور، وعلى الكتاب طابع ذهبي، على إحدى وجهيه صورة للمسيح، وعلى الوجه الآخر صورة الإمبراطور قسطنطين، مصنوعة من الزجاج الملون البديع. وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه: " قسطنطين ورومانين ¬_______ (¬1) ديسقوريدس Dioscorides طبيب وكيمائي يوناني. أصله من كليكية بآسيا الصغرى. وقد عاش في القرن الأول للميلاد، واشتهر بكتابه عن مركبات الأدوية. وهو ما يزال يعتبر ذا قيمة علمية حتى عصرنا، وكان يعتبر حتى القرن السابع عشر أثمن مرشد لخواص الأعشاب الطبية. (¬2) باولوس أورسيوس Paulus Orosius حبر ومؤرخ إسباني (قوطي) عاش في القرن الخامس الميلادي ووضع باللاتينية تاريخاً للخليقة في عصره. وقد اشتهر تاريخه بالرغم من ركاكته وكثرة خرافاته، وانتفع به كثير من المؤرخين اللاحقين. وعرفه المؤرخون المسلمون ونقلوا عنه. وأشار إليه ابن خلدون في مواضع عديدة من تاريخه، وتعرفه الرواية الإسلامية بهروسيس أو هرشيوش. (¬3) راجع رواية ابن جلجل مفصلة في كتاب طبقات الأطباء، في ترجمة ابن جلجل (ج 2 ص 447).

المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم " (¬1)، وفي سطر آخر صيغة التوجيه: " العظيم الإستحقاق للفخر، الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة، الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه ". وذكر لنا ابن جُلجل أن ملك الروم كتب إلى الناصر في شأن كتاب ديسقوريدس أنه لا تجني فائدته إلا بواسطة شخص يجيد اليونانية، وأنه لم يكن في قرطبة يومئذ من يحسن هذه اللغة، وأن الناصر كتب في خطابه إلى " أرمانيوس " فيما بعد، أن يرسل إليه برجل يتكلم اليونانية واللاتينية، فبعث إليه براهب يدعى نيقولا، فحظى عند الناصر، وتوفر على تفسير كتاب ديسقوريدس وشرح محتوياته لأطباء قرطبة. وأما كتاب أورسيوس المكتوب باللاتينية فقد كان في بلاط قرطبة من يجيدها (¬2). وكان الناصر قد أمر أن يخطب الأعلام في ذلك الحفل، وأن يعظموا من شأن الإسلام والخلافة، وأن يشكروا نعمة الله على ظهور دينه، وإعزاز كلمته، وذلة أعدائه، واستعد بعض الخطباء لذلك، ولكن بهرهم هول المجلس فوجموا وأرتج عليهم القول، وكان منهم اللغوي الكبير أبو علي القالي وافد العراق وضيف الخليفة - وكان قد وفد على الأندلس في سنة 330 هـ، ندبه الناصر لذلك تكريماً له وتقديراً لبلاغته، ولكنه ما كاد يبدأ خطابه، حتى بهت وتلعثم ثم صمت؛ فعندئذ نهض الفقيه منذر بن سعيد البلوطي دون استعداد ولا سابق توقع، وارتجل خطاباً بليغاً ضافياً يشيد فيه بعهد الناصر ومآثره، ثم أعقبه بقصيدة في نفس المعنى (¬3)، فأثار بذلاقته وثبت ¬_______ (¬1) رومانين هو رومانوس الثاني ابن قسطنطين السابع، وقد حكم بعد أبيه من سنة 959 إلى سنة 963 م. وتسميه الرواية الإسلامية " أرمانيوس ". (¬2) راجع رواية ابن جلجل المشار إليها في طبقات الأطباء ج 2 ص 447. (¬3) نقل المقري عن ابن حيان وغيره، نص الخطاب الذي ألقاه منذر بن سعيد في ذلك الحفل. وإنه ليصعب علينا متى تأملنا عباراته المنمقة، وسجعاته المرتبة، وما يتخلله من ضروب البيان والبديع، أن نصدق أنه خطاب مرتجل ألقي عفو الساعة. ولعله صورة منقحة منمقة للخطاب الأصلي. وقد رأينا أن ننقل فقرات من ذلك الخطاب تتناول عهد الناصر بشيء من الوصف والتحليل. جاء في الخطاب بعد الديباجة ما يأتى: " وإنب أذكركم بأيام الله عندكم، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين، التي لمت شعثكم، وأمنت صربكم ورفعت قوتكم، بعد أن كنتم قليلا فكثركم، ومستضعفين فنصركم، ولاه الله رعايتكم وأسند إليه إمامتكم، أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم شعل النفاق، حتى صرتم، في مثل حديقة البعير من ضيق الحال، ونكد العيش والتقتير، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء، وانتقلتم بين سياسته إلى تمهيد كنف العافية، بعد استيطان البلاء. أناشدكم الله معشر الملأ =

جنانه أيما إعجاب، وأكبر الناصر همته وعلمه، وكان هذا الخطاب المرتجل فاتحة مجده، فأغدق عليه الناصر عطفه، وولاه القضاء، وأصبح من رجال الدولة المشهورين. ومن شعر منذر بن سعيد في وصف ذلك الحفل المشهود قوله: مقالي كحد السيف وسط المحافل ... فرقت به ما بين حق وباطل بقلب ذكي ترتمي جمراته ... كبارق رعد عند رعش الأنامل فما دحضت رجلي ولا زل مقولي ... ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل وقد حدقت حولي عيون أخالها ... كمثل سهام أثبتت في المقاتل لخير إمام كان أو هو كائن ... لمقتبل أو في العصور الأوائل ترى الناس أفواجاً يؤمون بابه ... وكلهم ما بين راج وآمل وفود ملوك الروم وسط فنائه ... مخافة بأس أو رجاء لنائل فعش سالماً أقصى حياة مؤملا ... فأنت رجاء الكل حاف وناعل ستملكها ما بين شرق ومغرب ... إلى درب قسطنطين أو أرض بابل (¬1) ¬_______ = ألم تكن الدماء مسفكة فحقنها، والسبل مخوفة فأمنها، والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها، ألم تكن البلاد خراباً فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها ". ثم قال: " فأصبحتم بنعمة الله إخواناً، وبلم أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعواناً، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخير والبركات، وصارت وفود الروم وافدة عليكم، وآمال الأقصين والأدنين مستخدمة إليه وإليكم، يأتون من كل فج عميق وبلد سحيق " ثم قال: " فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم، والتزام الطاعة لخليفتكم، فإن من نزع يداً من الطاعة، وسعى في تفريق الجماعة، ومرق من الدين، فقد خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها والتمسك بعروتها، حفظ الأموال وحقن الدماء وصلاح الخاصة والدهماء، وأن بقوام الطاعة تقام الحدود وتوفى العهود ... فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به، فإنه تبارك وتعالى يقول (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، وقد علمتم ما أحاط بكم، في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين وصفوف الملحدين، الساعين في شق عصاكم، وتفريق ملأكم الآخذين في مخاذلة دينكم وتوهين دعوة نبيكم ... الخ. راجع خطاب ابن سعيد بأكمله في نفح الطيب ج 1 ص 172 - 173. (¬1) وقد نقل إلينا المقري عن المغرب لابن سعيد وغيره نبذة في ترجمة القاضي منذر بن سعيد البلوطي، وفيها أنه ولد سنة 265 هـ، وبرع في علوم القرآن والسنة، وظهر بفصاحته وذلاقته وجزالة شعره، وكان الخطاب الذي ارتجله في مجلس الناصر لمناسبة استقباله لرسل ملك الروم بدأ ظهوره وشهرته، فولاه الناصر الصلاة والخطابة في مسجد الزهراء، ثم ولاه قضاء الجماعة بقرطبة. وتوفي سنة 355 هـ. (راجع نفح الطيب ج 1 ص 174 و175 وكذلك قضاة قرطبة للخشني ص 175 و176).

ولما انصرف رسل قسطنطين، بعث الناصر معهم سفيراً هو هشام بن هذيل بهدية حافلة، ليؤكد المودة ويوثق عرى التحالف بين قرطبة وقسطنطينية، فعاد بعد سنتين وقد أدى سفارته خير أداء، وعادت معه رسل قسطنطين (¬1). وتفيض الرواية الإسلامية في تفاصيل هذه السفارة إفاضة واضحة، ولكنها لا تلقى كبير ضوء على موضوعها وغايتها الحقيقية، وأكبر الظن أنها لم تكن إلا تجديداً لعلائق الدولة البيزنطية مع دولة الإسلام بالأندلس، وتوطيداً للصداقة القديمة التي رأى بلاط قسطنطينية أن يعقدها مع بلاط قرطبة منذ عهد عبد الرحمن ابن الحكم (¬2) لتكون شبه تحالف ضد الدولة العباسية خصيمتهما المشتركة. وربما كانت ترى في الوقت نفسه إلى تنظيم الخطط المشتركة بين الدولتين، لمقاومة الدولة الفاطمية الفتية، التي بدأت تزعج البيزنطيين في أواسط البحر المتوسط، وتزعج حكومة قرطبة بتوغلها في المغرب الأقصى. ثم توالت سفارات ملوك النصرانية بعدئذ على الناصر فوفدت عليه رسل ملك الصقالبة وهو يومئذ الملك بيتر أو بطرس (¬3)، فاحتفل بقدومهم كذلك وبعث معهم ربيعاً (ريفا) الأسقف سفيراً إلى ملكهم؛ ثم وفدت رسل ملك فرنسا وهو يومئذ لويس الرابع في طلب الصداقة والمودة، فأجابهم إلى ما طلبوا. على أن أهم سفارة تلقاها الناصر يومئذ، هي سفارة أوتو الأكبر إمبراطور ألمانيا، وقد كان أوتو يومئذ زعيم النصرانية، كما كان عبد الرحمن الناصر زعيم الإسلام. وتشير الرواية الإسلامية إلى تلك السفارة في غموض وإيجاز، وتصف أوتو بملك الصقالبة أو ملك " اللمان " وتسميه " هوتوا " أو " هوتو " (¬4)، ولكنها تتفق مع الرواية الفرنجية في تاريخ هذه السفارة وهو سنة 344 هـ الموافقة سنة 956 م. ففي ذلك العام وفد على قرطبة سفير، وهو حبر يدعى يوحنا الجورزيني نسبة إلى الدير الذي ينتمي إليه في جورزني على مقربة من متز، وكان يوحنا من أكابر ¬_______ (¬1) راجع في أخبار هذه السفارة البيزنطية: ابن خلدون ج 4 ص 142 و143، ونفح الطيب ج 1 ص 170 - 174؛ والبيان المغرب ج 2 ص 239. وراجع Aschbach: ibid,B.I.p. 96-100 (¬2) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " القسم الأول ص 282 - 283. (¬3) هو بطرس بن سيمون الكبير ملك بلغاريا وقد كان يومئذ يعرف بملك الصقالبة. (¬4) راجع ابن خلدون ج 4 ص 143؛ والبيان المغرب ج 2 ص 234.

العلماء وأقطاب البحث والمناظرة. والظاهر أنه قد وقعت فعلا قبل ذلك مراسلات كلامية بين الناصر وأوتو عن الإسلام والنصرانية، وأن الناصر قد عرض في بعض رسائله بالنصرانية وتعاليمها، فألفى أوتو الفرصة سانحة لأن يدافع سفيره العلامة الذلق عن قضية النصرانية لدى خليفة قرطبة (¬1). بيد أنه يبدو من أقول الروايات الكنسية أن هذه المهمة الجدلية، لم تكن إلا مهمة ثانوية إلى جانب موضوع سفارته الأصلية، وأن مهمته الحقيقية كانت تتعلق بشأن توغل المستعمرات العربية المغامرة، في جنوبي فرنسا وفي ليجوريا وسويسرة، وعيثها في تلك الأنحاء، بصورة تبث الرعب والروع إلى كثير من المدن والجماعات النصرانية، والاستعانة بنفوذ خليفة الأندلس الذي تنتمي إليه هذه المستعمرات من الناحية الأدبية، لوقف عدوانها وتوغلها (¬2). وقدم يوحنا إلى قرطبة عن طريق الرون وقطلونية برفقة راهب آخر، ومعه طائفة نفيسة من الهدايا برسم الخليفة، فاستقبل بحفاوة، وأنزل في إحدى الدور الرسمية. ولكن الناصر لم يبادر باستقباله حين وقف على موضوع رسالته، ولم يقبل بالأخص أن تكون المسائل الدينية موضوع جدل بينهما. ولما ألح يوحنا في طلب المقابلة والمحادثة، أجاب الناصر بأنه سبق أن أرسل رسولا أسقفاً إلى أوتو فاعتقله مدى ثلاثة أعوام، وأنه سيعتقله أى يوحنا، أضعاف هذه المدة، لأنه أرفع مقاماً من ملك النصرانية. وأخيراً تقرر أن يرسل الناصر إلى ملك الألمان رسولا آخر يستوثق من عواطفه ونياته نحوه، وأن يبقي يوحنا معتقلا حتى يعود السفير. واختير لهذه السفارة كالعادة قس من رعايا الخليفة هو ربيع أو ريفا الأسقف، وكان عالماً متمكناً يشغل في البلاط منصباً هاماً، ويحبوه الناصر بعطفه وتقديره، لعلمه وجليل خدماته (¬3)، فاخترق فرنسا إلى ألمانيا، ومثل لدى الإمبراطور أوتو في تورنجن، حيث كان ينفق معظم أوقاته. وكان أوتو يجوز يومئذ بعض المتاعب الداخلية من جراء ثورة ولده عليه، فأبدى تساهلا في قبول وجهات نظر الخليفة، وأكرم مثوى سفيره، وعاد ربيع الأسقف إلى قرطبة، بعد سنتين من سفره (347 هـ - 958 م). فارتاح الناصر لنتائج سفارته، وأذن برؤية يوحنا سفير ¬_______ (¬1) Reinaud: Invasions des Sarrazins en France p. 187 (¬2) تناولنا قصة هذه المستعمرات في الفصل التالي. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 143. وهو ربيع بن زيد عن زعماء النصارى المعاهدين، وكان يجيد العربية واللاتينية.

الإمبراطور، واستقبله بقصر قرطبة في احتفال فخم، ظهرت فيه روعة البلاط الأموي، وأفضى إلى الخليفة بموضوع سفارته. ولسنا نعرف ماذا كانت نتائج هذه السفارة، لأن الرواية العربية لا تحدثنا عن موضوعها، ولا تحدثنا الرواية الكنسية عن نتائجها. ولكن المرجح أن وجهة النظر التي أبدتها حكومة قرطبة لسفير الإمبراطور، فيما يتعلق بأمر المستعمرات العربية المغامرة، وغزواتها في غاليس وشمالي إيطاليا وسويسرة، أنها ليست لها علاقة بتلك المستعمرات، وأنها لا تتحمل تبعة أعمالها، ولا تستطيع أن تتدخل في شأنها، أو تبذل نصحها لأولئك المغامرين الخارجين عن طاعتها، وهو استنتاج يؤيده صمت الرواية العربية عن ذكر أخبار هذه المستعمرات، مما يدل على أن حكومة الأندلس، لم تكن ذات علائق رسمية بها، ولم تكن تعني بأمرها، وإن كانت بلا ريب تنظر إلى غزواتها وتوغلها في الأراضي النصرانية، بعين العطف والرضى. ولكن لوتبراند وهو مؤرخ كنسي معاصر، يؤكد لنا أن الخليفة كان يحمي هذه المستعمرات، ويمدها بالتشجيع والعون (¬1). بيد أن الرواية الكنسية تقدم إلينا بهذه المناسبة حديثاً طريفاً عن آراء الناصر في نظم الحكم، فقد وقف الناصر من مستشاريه أو من يوحنا نفسه على طرق نظام الحكم الإقطاعي السائد في ألمانيا، وما يتمتع به بعض الأمراء المحليين في ظل هذا النظام، من الاستقلال الداخلي، وأبدى ليوحنا اعتراضه على هذا النظام، قائلا إن ملككم أمير حكيم ماهر، ولكن في سياسته شيئاً لا أستسيغه، وهو أنه بدلا من أن يقبض بيديه على جميع السلطات، ينزل عن بعضها لأتباعه، ويترك لهم بعض ولاياته، معتقداً أنه يكسب بذلك، وهذا خطأ فادح، فإن مداراة العظماء لا يمكن إلا أن تزيد في كبريائهم، وتذكي رغبتهم في الثورة (¬2). وفي ذلك ما يوضح لنا فكرة الناصر في الحكم المطلق، وسياسته في سحق أولي الشأن والعصبية من زعماء القبائل العربية، واعتماده على بطانة ذليلة من الفتيان الصقالبة والمولدين. تلك تفاصيل المراسلات والسفارة الشهيرة التي تبادلها أوتو الأكبر وعبد الرحمن الناصر، زعيما النصرانية والإسلام في عصرهما، بيد أنها لم تكن خاتمة الصلات ¬_______ (¬1) Reinaud: ibid, p. 193 (¬2) Dozy: Hist.V. II. p. 153

الدبلوماسية بين الناصر وملوك النصرانية. فقد تلقى الناصر كذلك في سنة 344 هـ (955 م) سفارة من أردونيو الرابع ملك ليون يرجو عقد السلام والمودة، فأجابه إلى طلبه؛ وأرسل في السنة التالية سفيره محمد بن الحسين إلى ليون، فعقد مع أردونيو معاهدة صادق عليها، ولكن حال دون تنفيذها منافسة سانشو لأخيه أردونيو. وفي سنة 347 هـ (958 م) وفدت طوطة ملكة نافار بنفسها إلى قرطبة، ومعها ولدها غرسية وسانشو أمير ليون، وطائفة من الأحبار والعظماء النصارى، فاستقبلهم الناصر في قصره بالزهراء استقبالا حافلا، وعقد السلم مع طوطة، وأقر ولدها ملكاً على نافار، ووعد سانشو بالعون على استرداد عرشه. ثم وفدت على الناصر رسل البابا يوحنا الثاني عشر في طلب السلم والمودة، بين الإسلام والنصرانية فأجابهم إلى ما طلبوا (¬1) , وكانت سفارة ذات مغزى واضح في الاعتراف بزعامة الناصر للعالم الإسلامي. وفي أخبار هذه السفارات المتبادلة بين زعيم الإسلام وملوك النصرانية، وفي تفاصيلها الشائقة، ما يلقى كبير ضوء على طبيعة التقاليد والرسوم الدبلوماسية في العصور الوسطى. - 5 - وفي أوائل سنة 349 هـ مرض الناصر من برد شديد أصابه، واحتجب حيناً، وأكب الأطباء على معالجته حتى تحسنت حالته نوعاً، وعاد إلى الجلوس في القصر، ولكنه أصيب بنكسة، وعاد إلى احتجابه، ولبث أشهراً تشتد به العلة حيناً، وتخف حيناً، حتى وافاه القدر المحتوم، في الثاني من شهر رمضان سنة 350 هـ (15 أكتوبر سنة 961 م). وكانت وفاته بقصر الزهراء في الحادية والسبعين من عمره، واستطال حكمه زهاء خمسين عاماً، وهي أطول مدة حكمها خليفة من خلفاء الإسلام، إذا استثنينا عهد المستنصر بالله الفاطمي بمصر. وكان عبد الرحمن الناصر أعظم أمراء الإسلام في عصره، بل ربما كان أعظم أمراء عصره قاطبة. ولم تصل الدولة الإسلامية في الغرب، إلى ما وصلت إليه في عصر الناصر، من القوة والسؤدد والهيبة والنفوذ. وكان يتمتع بخلال باهرة قلما تجتمع في شخصية واحدة، سياسية وعسكرية وإدارية. وكان يشبه في ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 143.

حزمه وصرامته وبعد نظره، بجده الأكبر عبد الرحمن الداخل (¬1). ويجمل ابن الأبار خواصه وخواص عصره في تلك العبارة: " وظهر لأول ولايته من يمن طائره، وسعادة جده، واتساع ملكه، وقوة سلطانه، وإقبال دولته، وخمود نار الفتنة على اضطرامها بكل جهة، وانقياد العصاة لطاعته، مما تعجز عن تصوره الأوهام " (¬2). وتولى حجابته لأول ولايته مولاه بدر بن أحمد، وما لبث أن اصطفاه وأولاه كل ثقته، وفوض إليه الأمر والنهي، وجعله على حد قول المؤرخ " شمساً لملكه وبدراً " (¬3). وولى أبناءه الثلاثة عبد الرحمن وعبد الله وإسماعيل مناصب في القصر والخاص. ولما توفي بدر بن أحمد في شهر رجب سنة 309 هـ، ولى الناصر مكانه في الحجابة موسى بن محمد بن حُدير. وتولى وزارته عدة من أنبه رجال العصر، منهم أحمد بن محمد بن حُدير، وجَهْور بن عبد الملك، وعبد الله بن محمد الزجّالي. وتولى إدارة الشئون المالية عبد الملك بن جهور، وأحمد بن عبد الملك بن شُهَيد (¬4). وأهدى ابن شهيد إلى الناصر هديته المشهورة، التي أفاض في وصفها مؤرخو الأندلس، وكان منها خمسمائة ألف مثقال من الذهب، ومائتا أوقية من المسك والعنبر، وثلاثون شقة من الحرير المرقوم بالذهب، ومائة فرس مسرجة، وعشرون بغلا عالية الركاب، وأربعون وصيفاً، وعشرون جارية بكسوتهن وزينتهن، وأصناف عديدة أخرى. قال ابن خلدون " وهي مما يدل على ضخامة الدولة الأموية واتساع أحوالها ". ويجمع مؤرخو الأندلس على أنه لم تقدم هدية في قدرها ونفاستها إلى ملك من ملوك الأندلس. قدمها ابن شهيد إلى الناصر في سنة 327 هـ، ومعها خطاب رقيق يشيد فيه بعظمة الناصر ومآثره، فوقعت لديه أحسن موقع، وزاده حظوة واختصاصاً، وأسمى منزلته على سائر الوزراء، وأسبغ عليه لقب ذي الوزارتين، فكان أول من حظى بهذا اللقب من وزراء الأندلس، وضاعف له رزق الوزارة، وجعله ثمانين ألف دينار في العام (¬5). وولي قيادة الجيش لأول عهد الناصر أحمد بن محمد ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 163. (¬2) الحلة السيراء (ليدن) ص 99 - 100. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 240. (¬4) البيان المغرب ج 2 ص 164 (¬5) راجع ابن خلدون ج 4 ص 138؛ ونفح الطيب ج 1 ص 166 و167 و177 نقلا عن ابن حيان وابن الفرضي وغيرهما.

ابن أبي عبدة، سليل الأسرة الشهيرة، التي تولى زعماؤها قيادة الجيوش الأندلسية خلال الفتنة الكبرى. وكذلك وليها الحاجب بدر غير مرة، ووليها الفتيان الصقالبة مثل نجدة وميسور وغيرهما. وقد رأينا كيف انتهت سياسة عبد الرحمن في إيثار الصقالبة بالقيادة إلى كارثة الخندق. وممن ولى القضاء في عهد الناصر أحمد بن محمد بن زياد، وأسلم بن عبد العزيز بن هشام، ومنذر بن سعيد البلوطي (¬1). وقد أورد لنا ابن حيان ثبتاً طويلا من الوزراء وأصحاب الخطط والموالي الذين تولوا المناصب الكبرى في عهد الناصر. فمن الوزراء: محمد بن سليمان بن وانسوس. سعيد بن المنذر القرشي. عبد الحميد بن بسيل، خالد بن أمية بن شهيد. عيسى بن أحمد بن أبي عبدة. جهور بن عبد الملك البختي، أحمد بن محمد بن إلياس. ومن أصحاب الخطط: محمد بن سعيد بن المنذر القايد. عيسى بن فطيس الكاتب. عبد الله بن بدر بن أحمد صاحب الشرطة. محمد بن قاسم بن طملس صاحب المظالم. محمد بن عبد الله بن موسى الخازن. إسماعيل بن بدر بن اسماعيل العارض. ومن الموالي: جهور بن عبيد الله بن محمد بن أبي عبده. أحمد بن خالد ابن أمية بن عيسى بن شهيد. محمد بن جهور بن عبد الملك البختي. مروان بن جهور بن عبد الملك البختي، أحمد بن سهل بن محمد. عبد الله بن أحمد بن محمد ابن عيسى. محمد بن عباس بن محمد بن أبي عبدة. عبيد الله بن عباس بن أحمد ابن أبي عبده، عبد الله بن يحيى بن إدريس. عبد الوهاب بن محمد بن بسيل. محمد بن مروان بن عبد الله بن بسيل. عبد الرحمن بن أحمد بن زكريا بن عاصم. محمد بن أحمد بن قابوس. أحمد بن محمد بن عيسى. محمد بن عبد السلام بن كليب بن ثعلبة (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 161. (¬2) نقلنا هذا الثبت عن ابن حيان أورده في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية الذي سبقت الإشارة إليه غير مرة. وأورد لنا ابن حيان أيضاً ثبتاً طويلا بأسماء عمال الكور في عهد الناصر استغرق صفحة كاملة (لوحة 153 أ). ولكنا لم نجد محلا لإيراده.

وذكر لنا ابن حيان، في حوادث سنة 324 هـ، أن الوزراء في هذه السنة كانوا عشرة، وهم: سعيد بن المنذر القرشي المرواني. أحمد بن محمد بن حدير. عبد الحميد بن بسيل. أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف. خالد بن أمية ابن شهيد. عيسى بن أحمد بن أبي عبدة. عبد الملك بن جهور. فطيس بن اصبغ بن فطيس. أحمد بن محمد بن إلياس. يحيى بن إسحق. وذكر لنا في حوادث سنة 325 هـ، أنه قد عزل عن الوزارة يحيى بن إسحق، ووليها أحمد بن عبد الملك بن شهيد، وعبد الرحمن بن عبد الله الزجالي، وأن الوزراء بلغ عددهم في هذه السنة واحداً وعشرين وزيراً، منهم تسعة من العشرة الذين سبق ذكرهم عدا يحيى بن إسحق (¬1). وكان عبد الرحمن الناصر عالماً أديباً، يهوى الشعر وينظمه، ويقرب الأدباء والشعراء؛ وكان في مقدمة دولته وأكثرهم حظوة لديه، الفقيه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وشاعر الدولة المروانية منذ محمد بن عبد الرحمن. ويفيض ابن عبد ربه في مناقب الناصر، ويستعرض غزواته منذ ولايته حتى سنة 322 هـ، في أرجوزة طويلة رتبت وفق السنين (¬2). ومن شعره في وصف عصر الناصر، واعتزاز الإسلام بدولته قوله: قد أوضح الله للإسلام منهاجا ... والناس قد دخلوا في الدين أفواجا وقد تزينت الدنيا لساكنها ... كأنها ألبست وشياً وديباجا يا ابن الخلائف إن المزن لو علمت ... نداك ما كان منها الماء ثجّاجا والحرب لو علمت بأساً تصول به ... ما هيجت من حمياك الذي اهتاجا مات النفاق وأعطى الكفر رمته ... وذلت الخيل إلجاماً وإسراجا وأصبح النصر معقوداً بألوية ... تطوي المراحل تهجيراً وإدلاجا أدخلت في قبة الإسلام بارقة ... أخرجتها من ديار الشرك إخراجا بجحفل تشرق الأرض الفضاء به ... كالبحر يقذف بالأمواج أمواجا يقوده البدر يسري في كواكبه ... عرمرماً كسواد الليل رجراجا ¬_______ (¬1) وردت الفقرة الأولى في المقتبس - السفر الخامس - لوحة 153 أ، ووردت الفقرة الثانية في لوحة 162 أ. (¬2) راجع هذه الأرجوزة في كتاب العقد الفريد (طبعة المطبعة الأزهرية) ج 3 ص 209 إلى 227.

إن الخلافة لن ترضى ولا رضيت ... حتى عقدت لها في رأسك التاجا (¬1) ومما ينسب إلى الناصر من النظم، قوله: لا يضر الصغير حدثان سن ... إنما الشأن في سعود الصغير كم مقيم فازت يداه بغنم ... لم تنله بالركض كف مغير (¬2) وكان الناصر سمحاً وافر الجود. ويصفه ابن الأثير بأنه كان، أبيض، أشهل، حسن الوجه، عظيم الجسم، قصير الساقين (¬3) وترك الناصر من البنين أحد عشر ولداً منهم ولي عهده وخلفه الحكم المستنصر بالله. وقال الوزير جعفر بن عثمان المُصْحفي في رثاء الناصر: إلا إن أياماً هفت بإمامها ... لجائرة مشتطة في احتكامها فلم يؤلم الدنيا عظام خطوبها ... وأحداثها إلا قلوب عظامها تأمل فهل من طالع غير آفل ... لهن وهل من قاعد لقيامها وعاين فهل من عائش برضاعها ... من الناس إلا ميت بفطامها كأن نفوس الناس كانت بنفسه ... فلما توارى أيقنت بحمامها فطار بها يأس الأسى وتقاصرت ... يد الصبر عن أعوالها واحتدامها ويشيد النقد الحديث بمناقب عبد الرحمن الناصر وعصره أعظم إشادة. وربما كان أبلغ ما قيل في ذلك تلك العبارات القوية التي يختتم بها العلامة دوزي حديثه عن عصر عبد الرحمن الناصر: " لقد كانت هذه نتائج باهرة، ولكنا نجد إذا ما درسنا ذلك العصر الزاهر، أن الصانع يثير الإعجاب والدهشة، بأكثر مما يثيرهما المصنوع: تثيرهما تلك العبقرية الشاملة التي لم يفلت شىء منها، والتي كانت تدعو إلى الإعجاب في تصرفها نحو الصغائر، كما تدعو إليه في أسمى الأمور. إن ذلك الرجل الحكيم النابه، الذي استأثر بمقاليد الحكم، وأسس وحدة الأمة، ووحدة السلطة معاً، وشاد بواسطة معاهداته نوعاً من التوازن السياسي، والذي اتسع تسامحه الفياض لأن يدعو إلى نصحه رجالا من غير المسلمين، لأجدر بأن يعتبر قريناً لملوك العصر الحديث، لا خليفة من خلفاء العصور الوسطى " (¬4). ¬_______ (¬1) وقيل إن هذه القصيدة وجهت إلى الناصر لمناسبة عوده ظافرأً من أول غزوة قام بها ضد الثوار في مستهل حكمه. (¬2) نفح الطيب ج 1 ص 166. (¬3) ابن الأثير ج 8 ص 177. (¬4) Dozy: Hist, V.II.p. 175

الفصل الثالث غزوات المسلمين

الفصل الثالث غزوات المسلمين في غاليس وشمال إيطاليا وسويسرة توقف الغزو الإسلامي عقب بلاط الشهداء. استئناف الغزو في عهد هشام. غزو الفرنج لشمالي الأندلس. الغزوات الاسلامية المغامرة. صمت الرواية الإسلامية عن ذكرها. غزو قورسقة وشواطىء فرنسا الجنوبية. غزو مرسيليا وبروفانس. غزو موسى بن موسى لسبتمانيا. غزو جزيرة كاماراج. اضطراب الأحوال في جنوبي فرنسا. غزو المسلمين لشواطىء سان تروبيه. معاقلهم في تلك الأنحاء. تدخلهم بين النصارى. اختراق الغزاة لدوفينه. عبورهم مون سني. احتلالهم لممرات الألب. جوازهم الى سهول بييمون. عودهم إلى غزو بروفانس. غزوهم لمرسيليا وإيكس. غلقهم لممرات الألب. تقدمهم إلى ليجوريا. غزوهم لمنطقة فاليه وسافوا. وصولهم إلى قلب سويسرة وشرقها. غزوهم لثغر فريجوس. اتحاد الأمراء النصارى على مقاومتهم. استنجادهم بقيصر قسطنطينية. مهاجمة المسلمين وتمزيقهم. الصلح بينهم وبين ملك بروفانس. احتلالهم لممر سان برنار. استيلاؤهم على جرينوبل. غاراتهم في بييمون. الحرب بينهم وبين المجر. وصولهم إلى سان جالن. قتالهم وهزيمتهم. صدى الغزوات الإسلامية في جنوبي أوربا. سعي البابوية وإمبراطور ألمانيا لوقفها. محاربة الغزاة في دوفينه وبروفانس. هزيمتهم وارتدادهم إلى الجنوب. سقوط حصن فراكسنيه. سقوط المستعمرات الإسلامية في الألب. غزوات بحرية إسلامية لشواطىء فرنسا. غزو قورسقة وسردانية. ظروف هذه الغزوات الإسلامية. خواصها وبواعثها. آثارها المادية والأدبية. أثر العرب في تقدم الزراعة في الأنحاء المفتوحة. نقلهم لكثير من المحاصيل والغراس. أثرهم في تحسين سلالة الخيل. الآثار الاجتماعية. أقوال النقد الحديث. - 1 - تحدثنا فيما تقدم عن غزوات العرب في غاليس (جنوبي فرنسا) منذ الفتح، ورأينا كيف وضع ارتداد العرب في موقعة بلاط الشهداء في سنة 114 هـ (732 م) حداً لغزواتهم في غاليس، وكيف فقدوا تباعاً قواعدهم في لانجدوك وسبتمانيا، حتى انتهت رياستهم فيما وراء البرنيه بسقوط ثغر أربونة، آخر قواعدهم في سبتمانيا، في يد الفرنج في سنة 142 هـ (759 م) (¬1). وكانت الأندلس خلال هذه الفترة تضطرم بالفتن الداخلية والحرب الأهلية. ولما استطاع عبد الرحمن الأموي أن ينتزع الرياسة لنفسه من غمر الفتنة، وأن يعيد ¬_______ (¬1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " القسم الأول ص 137.

ملك الدولة الأموية بالأندلس، لبث بقية عهده يعمل على توطيد ملكه الفتى، وحمايته من الثوار والخوارج، ولم تتح له فرصة للتفكير في الغزوات الخارجية. بل لقد اضطر أن يقف موقف المدافع من مملكة الفرنج ومن عاهلها شارلمان، الذي حاول أن يغزو الولايات الإسلامية، بمؤازرة الزعماء الخوارج في الثغر الأعلى، واضطر أن يغضي مدى حين عن غزوات المملكة النصرانية الناشئة، لأراضي الأندلس وقواعدها الشمالية. فلما تولى ولده هشام الملك، واستطاع أن يقضي على ثورة أخويه سليمان وعبد الله، وجه عنايته إلى مقارعة المملكة الفرنجية، ورد خطرها عن الأندلس، وبعث إلى الشمال في سنة 176 هـ (792 م) بجيش كثيف بقيادة حاجبه عبد الملك ابن عبد الواحد بن مغيث، فعبر جبال البرنيه، ونشبت بين المسلمين والفرنج في بسائط سبتمانيا عدة معارك كانت سجالا، وجدد بذلك عهد الغزو والجهاد فيما وراء البرنيه. وعاد الفرنج في عهد الحكم بن هشام، فعبروا جبال البرنيه في سنة 185 هـ (801 م) وغزوا الثغر الأعلى وافتتحوا ثغر برشلونة، واقتطعوا بذلك جزءاً من الأندلس الشمالية. ولم تمض بضعة أعوام أخرى، حتى عبر الفرنج البرنيه للمرة الثانية (193 هـ - 809 م) وحاولوا الاستيلاء على مدينة طرطوشة، ولكن المسلمين استطاعوا إنقاذها. وفي عهد عبد الرحمن بن الحكم سارت حملة بحرية أندلسية لغزو الجزائر الشرقية، وقد رأينا فيما تقدم كيف غدت مياه الأندلس الشرقية مركزاً لحملات البحارة المسلمين، يسيرون منها نحو الشمال والشرق إلى الشواطىء والجزائر القريبة، ينقضون عليها طلباً للغنيمة والسبي، وكيف بدأت من ذلك الحين محاولات المجاهدين المسلمين، لغزو شواطىء فرنسا الجنوبية وأحواز مصب الرون. وقد فصلنا فيما تقدم من كتابنا أخبار الغزوات الأندلسية الرسمية فيما وراء البرنيه، وأشرنا بإيجاز إلى بداية عهد الحملات البحرية الأندلسية الخاصة (¬1). سنحاول في هذا الفصل أن نستعرض لمحة من أخبار هذه الحملات والغزوات الإسلامية غير الرسمية البحرية والبرية، إلى شواطىء فرنسا الجنوبية، وما يجاورها ¬_______ (¬1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " ص 265 و266.

من سهول ليجوريا وهضاب سويسرة، ومما يجدر ذكره أن الرواية الإسلامية قلما تشير إلى هذه الغزوات بكلمة؛ وربما كان ذلك راجعاً إلى طبيعة هذه الغزوات والمغامرات غير الرسمية، التي كانت تنظمها جماعات خاصة من المجاهدين لا تربطها بحكومة قرطبة صلة رسمية، ولا تعتمد إلا على جهودها ومواردها الخاصة. بدأت هذه الغزوات الأندلسية للشواطىء والثغور الفرنجية منذ أوائل القرن التاسع. وكان معظمها حملات بحرية، قوامها جماعات من المجاهدين والزعماء المغامرين. ففي سنة 806 م غزت إحدى هذه الجماعات البحرية المجاهدة جزيرة كورسيكا (قورسقة)، وهزمت الأسطول الفرنجي الذي بعثه ببين ابن شارلمان ملك إيطاليا لقتالهم، وعادت بكثير من الغنائم والسبي. وتوالت بعد ذلك غزوات البحارة الأندلسيين لشواطىء كورسيكا وسردانية، وهما يومئذ أغنى جزر البحر المتوسط. وكذلك توالت غارات البحارة المسلمين على شواطىء فرنسا الجنوبية. وتعني الرواية الكنسية والفرنجية المعاصرة بتدوين هذه الغزوات الإسلامية، وتصف عصفها وعيثها، وما كانت تحدثه من الرعب بين السكان النصارى، وتقول لنا إن البحارة المسلمين، ذهبوا في الجرأة إلى حد التجول في مياه الأطلنطيق، والإغارة على شواطىء فرنسا الغربية، وإن سفينة عربية كبيرة اجتازت في ذلك الحين مياه الأطلنطيق حتى مصب نهر اللوار (¬1). وفي سنة 838 م سار أسطول أندلسي من مياه طرّكونة ومياه الجزائر الشرقية إلى مياه بروفانس، وغزا ثغر مرسيليا وما حوله من الأراضي، وأثخن فيها، وحمل الغزاة كثيراً من الغنائم والسبي. ولم يستطع ملك فرنسا الضعيف لويس ابن شارلمان مقاتلة الغزاة. ثم عاد البحارة المسلمون وغزوا شواطىء بروفانس مرة أخرى، ونفذوا إلى مصب نهر الرون، واقتحموا مدينة آرل وخربوا كنائسها. وتوالت بعد ذلك غزواتهم لهذه المنطقة. وفي سنة 850 م في أواخر عهد عبد الرحمن ابن الحكم، عبر موسى بن موسى بن قسي صاحب سرقسطة وزعيم الثغر الأعلى، جبال البرنيه، وغزا سبتمانيا وأثخن في نواحيها، واضطر شارل الأصلع ملك فرنسا أن يهادنه، وأن يعقد الصلح معه، وأن يسترضيه بالهدايا والتحف. ومن ¬_______ (¬1) جمعت أقوال الروايات الكنسية والفرنجية المعاصرة، عن هذه الغزوات الإسلامية، في موسوعة Bouquet التي سبقت الإشارة إليها غير مرة، بنصوصها اللاتينية أو الفرنسية القديمة، وقد اعتمدنا عليها في كثير من حوادث هذا الفصل.

المرجح أن هذه الغزوة لم تكن ذات طابع رسمي، ولم تكن لها صلة بحكومة قرطبة. ذلك أن بني قسيّ زعماء الثغر الأعلى في ذلك الحين، كانوا يتمتعون باستقلال محلي، ولا يدينون بالولاء لحكومة قرطبة، وكانوا بالعكس ينزعون إلى مقاومتها والخروج عليها. وفي سنة 869 م هاجمت جماعة من البحارة والمجاهدين المسلمين شواطىء بروفانس مرة أخرى، واستولت على جزيرة كاماراج الواقعة في مصب الرون، وأسرت أسقف آرل الذي كان يقيم بها، وعادت مثقلة بالغنائم والأسرى. - 2 - وأذكى نجاح هذه الغزوات المتوالية، في نفوس المغامرين والمجاهدين من مسلمي الأندلس وإفريقية، حب التوغل في هاتيك الأنحاء، ورغبة في استعمارها والاستقرار فيها. وكانت أحوال غاليس (جنوبي فرنسا) قد اضطربت يومئذ، وغلب سيد من سادة هذه الأنحاء يدعى بوسون على ولايتي دوفينه وبروفانس، وتلقب بملك آرل. وقام يناوئه بعض منافسيه، ونشبت بينه وبينهم حرب أهلية (نحو سنة 890 م). ففي تلك الآونة رست سفينة عربية صغيرة عليها عشرون بحاراً من المسلمين، في خليج جريمو أو خليج سان تروبيه، ونزلوا إلى الشاطىء ولجأوا إلى غابة كثيفة، تظلها الجبال، ثم هاجموا بعض الضياع القريبة وفتكوا بسكانها. ولما رأوا منعة معقلهم من البر والبحر، عولوا على الاستقرار فيه، ودعوا إخوانهم من الثغور الإسلامية القريبة إلى القدوم، وأرسلوا في طلب العون والتأييد من حكومات الأندلس والمغرب، فوفد عليهم كثير من المغامرين البواسل. ولم تمض أعوام قلائل، حتى استقروا في ذلك المكان، وأنشأوا لهم سلسلة من المعاقل والحصون، أمنعها وأشهرها حصن تطلق عليه الرواية الفرنجية المعاصرة، اسم (فراكسنتم) Fraxinetum. والمظنون أنه هو المكان الذي تقوم عليه اليوم قرية (جارد فرينيه) Garde - Frinet الواقعة في سفح جبال الألب (¬1). وما زالت ثمة آثار تدل على قيام معاقل قديمة في ذلك المكان، ولما كثر جمعهم، واشتد ساعدهم، اخذوا في الإغارة على الأنحاء المجاورة، وأصبحوا قوة يخشى بأسها. وسعى إليهم بعض الأمراء والسادة المتنافسين يستظهرون بهم، بعضهم على بعض، فلبوا الدعوة، ¬_______ (¬1) Reinaud: Invasions des Sarrazins en France. p. 160

وانتزعوا من بعض السادة أراضيهم، وأعلنوا أنفسهم سادة في الأنحاء المغلوبة، وبثوا الذعر والروع في جنوب بروفانس، حتى وصفهم كاتب معاصر " بأن واحداً منهم يهزم ألفاً، واثنين يهزمان ألفين " (¬1). وكانت هذه أول خطوة في استعمار المسلمين لجنوبي فرنسا. وفي خاتمة القرن التاسع اتخذ المستعمرون المسلمون خطوة أخرى، فتقدموا نحو جبال الألب غرباً، وشمالا. وكانت مملكة آرل قد ضعفت واضمحلت، وخلف بوسون ولده لويس، ولكنه ذهب إلى إيطاليا ليحارب إلى جانب حلفائه فهزم هنالك وأسر، وتركت مملكته بلا دفاع، وساد الإنحلال والفوضى غاليس كلها. فانتهز المسلمون تلك الفرصة واخترقوا مفاوز دوفينه، وعبروا " مون سني " أهم ممرات الألب الفرنسية، واستولوا على دير نوفاليس الشهير الواقع في وادي " سيس " على حدود بييمون، وفر الأحبار إلى مختلف الأنحاء (سنة 906 م). وأغار المسلمون على القرى والضياع المجاورة ونهبوها، وفتكوا بأهلها، وأسر بعضهم وأخذوا إلى تورينو بإيطاليا وسجنوا في ديرها، ولكنهم استطاعوا أن يحطموا أغلالهم، وأضرموا النار في الدير وفي المدينة، وفروا عائدين إلى زملائهم. واشتد بأس المسلمين في تلك الأنحاء، واحتلوا معظم ممرات الألب، فسيطروا بذلك على طرق المواصلة بين فرنسا وإيطاليا، ثم انحدروا من آكام الألب إلى سهول بييمون، وأغاروا على بعض مناطقها. وفي سنة 908 م نزلت سرية قوية من البحارة المسلمين في شاطىء بروفانس على مقربة من " إيج مورت " ونهبت دير بالمودي، وكانت الأديار والكنائس يومئذ مطمح أنظار الغزاة، لما كانت تغص به من الذخائر والأموال. وانتشر المسلمون بعد ذلك في جميع الأنحاء المجاورة، واجتاحوا كل ما في طريقهم من البسائط، وهاجموا مرسيليا، وهدموا كنيستها، وغزوا إيكس، وسبوا النساء وتزوجوا بهن ليكثر نسلهم ويقووا به، وانضم إليهم كثير من النصارى المغامرين من أهل هذه الأنحاء، وهجر السادة والأغنياء حصونهم وقصورهم، والتجأوا إلى الداخل خشية القتل والأسر، وأغلق المسلمون طريق الألب إلى إيطاليا، وكان يمر بها كل عام ألوف من الحجاج الذين يقصدون إلى رومة، واقتضوا منهم الضرائب الفادحة ليسمحوا لهم بالمرور. ¬_______ (¬1) Reinaud: ibid, p. 161

- 3 - ثم اتخذ المسلمون خطوة جديدة في سبيل التقدم إلى أواسط أوربا، فدفعوا بغزواتهم إلى بييمون ومونفراتو. وتقول لنا الرواية الكنسية المعاصرة إنهم وصلوا في أوائل القرن العاشر إلى حدود ليجوريا على شاطىء خليج جنوة. ويروي لوتبراند، وهو كاتب معاصر، أن العرب غزوا سنة 906، مدينة " آكي " من أعمال مونفراتو الشهيرة بحماماتها (وهي على مقربة من تورينو)، ثم غزوها ثانية سنة 935 بقيادة زعيم يدعى (ساجيتوس) ولكنهم هزمو ومزقوا. وفي هذا الوقت أيضاً نزلت جماعة قوية من البحارة الإفريقيين بساحل جنوة، وقتلت عدداً كبيراً من أهلها، وأسرت جموعاً كثيرة من النساء والأطفال. وفي سنة 939 م غزا المسلمون منطقة " فاليه " في جنوب سويسرة، ونهبوا دير " أجون " الشهير، وغزوا في الوقت نفسه منطقة " تارانتيز " من أعمال سافوا الوسطى، ثم اتخذوا منطقة " فاليه " قاعدة للإغارة على الأراضي المجاورة في سويسرة وإيطاليا، ونفذوا منها إلى أواسط سويسرة، ثم إلى " جريزون " في شرق سويسرة، ونهبوا دير ديزنتي أشهر وأغنى الأديار السويسرية، ونهبوا طائفة أخرى من الأديار والكنائس الغنية. وفي بعض الروايات أيضاً أن المسلمين وصلوا في غزواتهم إلى بحيرة جنيف، وجاوزوا إلى مفاوز جورا الواقعة في شمالها، وكانت سويسرة يومئذ من أقاليم بورجونية وملكتها يومئذ الملكة " برت " الوصية على ولدها الطفل كونراد، فارتدت حين اقتراب العرب إلى حصن ناء في جهة نيو شاتل. وفي سنة 930 م غزا العرب فريجوس وكانت يومئذ من أكبر وأمنع ثغور فرنسا الجنوبية، وغزوا أيضاً ثغر طولون، ففر السكان إلى الجبال، وعاث المسلمون في تلك الأنحاء، وخربوا المدن والحصون، وأحرقوا الأديار والكنائس. ولما اشتدت وطأة المسلمين في جنوبي فرنسا، وبلغ السخط من غزواتهم وعيثهم ذروته، اعتزم سادة الجنوب، وعلى رأسهم هوج ملك بروفانس أن يبذلوا كل ما في وسعهم لسحق ذلك العدو المزعج. ورأى هوج أن يبدأ بافتتاح حصن فراكسنيه (فراكسنتم) الذي يمتنع به المسلمون، ويتخذونه قاعدة لتأمين مواصلاتهم مع اسبانيا وإفريقية، وقاعدة للإغارة على الداخل، وكتب إلى صهره إمبراطور

قسطنطينية، يطلب منه أسطولا من قاذفات النار اليونانية، حتى يستطيع مهاجمة المسلمين من البر والبحر معاً. فلبى نداءه. وفي سنة 943 م رسا أسطول بيزنطي في مياه سان تروبيه، وزحف هوج في نفس الوقت بجيشه على فراكسنيه، وهوجم المسلمون من البر والبحر بمنتهى الشدة، وأحرقت سفنهم، ونفذ هوج إلى الحصن بعد قتال رائع، وفر المسلمون إلى الآكام والربى، وكاد يسحق سلطانهم في تلك الأنحاء. ولكن حدث بعد ذلك أن علم هوج أن خصمه ومنافسه بيرانجيه، قد عاد إلى إيطاليا لينازعه في انتزاع عرشها فصرف هوج الأسطول، واضطر أن يعقد الصلح مع المسلمين، بشرط أن يبقوا في رؤوس الألب وممراتها، وأن يغلقوا الطريق إلى إيطاليا في وجه خصمه، وبذلك استعاد المسلمون قلاعهم وسيادتهم في جنوبي بروفانس. واحتل المسلمون آكام الألب وممراتها، وفرضوا الضرائب الفادحة على المسافرين، واستطاعوا بسيطرتهم على ممر سان برنار الكبير، الموصل بين سويسرة وإيطاليا، وغيره من الممرات والمعاقل الجبلية، أن يجتاحوا الأنحاء المجاورة، وأن يبثوا فيها الذعر والروع، واستقرت منهم جموع في السهول والضياع القريبة من معاقلهم، وتزوجوا النساء الأسيرات، وزرعوا الأرض، واكتفى أمراء هذه النواحي بأن يحصلوا منهم بعض الضرائب. ونفذ المسلمون أيضاً إلى منطقة نيس ذاتها، وما يزال في نيس إلى اليوم حي يعرف بحي العرب Canton des Sarrazins وأخيراً نفذ المسلمون إلى قلب ولاية دوفينه، وغزوا جرينوبل واحتلوها مدى حين، واحتلوا واديها الخصيب " جريزيفودان " الذي يجري فيه نهر الإيزر فرع الرون، وفر أسقف جرينوبل وزملاؤه إلى الشمال حاملين رفات قديسيهم (¬1). - 3 - وهكذا انتشرت المستعمرات والمعاقل الإسلامية خلال القرن العاشر الميلادي في بروفانس وسافوا وبييمون وسويسرة، وبسط المسلمون سيادتهم على ممرات جبال الألب وعلى الحدود بن غاليس وبلاد اللونبارد (شمال إيطاليا) وبينها وبين سويسرة، وبلغوا في تقدمهم في غاليس مدينة جرينوبل، واحتلوا في سويسرة ولاية فاليه ومفاوز جورا المتاخمة لبرجونية، واحتلوا في إيطاليا الشمالية، ولاية ¬_______ (¬1) Reinaud: ibid , p. 180 & 181

ليجوريا. وكانت معاقلهم في بروفانس ولا سيما حصن " فراكسنيه "، قواعد غزواتهم وملاذ قوتهم وسيادتهم. والظاهر أنهم اتبعوا نفس هذه الخطة في سهول بييمون، فأنشأوا بها سلسلة من الحصون والقلاع القوية، لتكون مركز غزواتهم في بلاد اللونبارد وفي سويسرة، فإن الرواية الكنسية التي كتبها حبر معاصر من دير نوفاليس، تذكر لنا اسم حصن إسلامي في تلك الأنحاء وتسميه "فراشنديلوم" Fraschendellum، والمظنون أنه هو المكان الذي تعرفه الجغرافية الحديثة باسم "فراسنيتو"، وهو الواقع في لومبارديا على مقربة من نهر " بو ". وتقص علينا نفس هذه الرواية الكنسية أيضاً أن سيداً نصرانياً من سادة تلك الأنحاء يدعو إيمون دفعه شغف المغامرة والكسب، إلى محالفة المسلمين فانضم إليهم، واشترك في غاراتهم الناهبة؛ وفي ذات يوم وقعت بين السبايا امرأة رائعة الحسن، فاستبقاها إيمون لنفسه، ولكن زعيماً مسلماً استحسنها وانتزعها منه قسراً، فغضب إيمون والتجأ إلى كونت روتبالدرس حاكم بروفانس العليا، وفاوضه سراً في محاربة المسلمين، وإنقاذ البلاد منهم، فرحب الكونت بهذا المشروع، ودعا السادة إلى معاونته، واستطاع أن يحشد قوات كبيرة، وهوجم المسلمون في بييمون من كل صوب ومزقوا، وسقطت قلاعهم في أيدي النصارى، وذهب سلطانهم في تلك الأنحاء. وتقص الرواية الكنسية أيضاً قصة مؤامرة دبرها كونراد ملك برجونية لإهلاك المسلمين النازلين في أملاكه في جورا وعلى حدود برجونية، والمجر الذين كانوا يشاطرونهم يومئذ الإغارة والعيث في تلك الأنحاء. وذلك أنه كتب إلى المسلمين يستحثهم على قتال منافسيهم المجر، وانتزاع ما بيدهم من الأراضي والضياع الخصبة، وكتب مثل ذلك إلى المجر يستحثهم لقتال المسلمين والمعاونة على إجلائهم، وعين مكاناً للقاء الفريقين، فالتقت الجموع المتنافسة من المسلمين والمجر، ونشب بينهما قتال هلك فيه كثير من الفريقين، ثم أشرف كونراد بجموعه، ومزق البقية الباقية من الفريقين قتلا وأسراً، وتضع الرواية تاريخ هذه الموقعة في سنة 952 م، ولكنها لا تعين لنا مكان حدوثها (¬1). ومنذ منتصف القرن العاشر يأخذ نجم أولئك المسلمين المستعمرين المغامرين في الأفول، وتضمحل سيادتهم في تلك الأنحاء. بيد أنهم لبثوا مدى حين بعد ذلك ¬_______ (¬1) Bouquet: T, IX, p. 6., Reinaud: ibid , p. 128

يحتلون كثيراً من مواقع سافوا، ويجوبون أنحاء سويسرة كلها في طلب الغنيمة والسبي، وقد اعتادوا على حرب الجبال وحذقوا أساليبها، وبلغوا في توغلهم في سويسرة مدينة سان جالن على مقربة من بحيرة كونستانس، وأنشأوا ثمة كثيراً من القلاع والأبراج، التي مازالت تقوم منها إلى اليوم بعض الأطلال والبقايا، ولبثوا حيناً في سان جالن حتى حشد رئيس ديرها حوله جمعاً من المقاتلين الأشداء، وفاجأوا المسلمين في جوف الليل، ومزقوهم قتلا وأسراً، وبذلك خفت وطأة الغزوات الإسلامية في شمال سويسرة. واستمرت المستعمرات والمعاقل الإسلامية في دوفينه وبروفانس، وبعض جهات الألب، وكان قربها من " فراكسنيه " أمنع المعاقل الإسلامية يمدها بأسباب الجرأة والعون، ويمدها قربها من البحر دائماً بأمداد جديدة من المتطوعين والمغامرين من ثغور الأندلس وإفريقية. وكان لاستقرار هذه المستعمرات الإسلامية في جنوبي أوربا، وعيثها المستمر في الأنحاء والسهول المجاورة، وقع عميق في الحكومات الأوربية، وكان صريخ البابوية يتردد لدى أمراء أوربا، بالسعي إلى مكافحة هذا الخطر الداهم، وكان أوتو الأكبر إمبراطور ألمانيا وأعظم أمراء النصرانية يومئذ، أشد هؤلاء الأمراء اهتماماً بالقضاء على خطر المستعمرات الإسلامية، لأنه يدنو من أملاكه ويصيبها بشره. ولهذا رأى أن يبذل في هذا السبيل سعيه، لدى عبد الرحمن الناصر عاهل الأندلس وزعيم الإسلام الروحي والزمني، وأوفد إليه في سنة 956 م سفارته الشهيرة التي أتينا على ذكرها. وبحث سفيره يوحنا الجورزيني مع الخليفة مسألة اعتداء المستعمرات الإسلامية على الأراضي النصرانية، والتمس إليه أن يعاون بنصحه ونفوذه على قمع هذا العدوان. ولكن هذا المسعى لم يسفر عن أية نتائج عملية، إذ اعتذر الخليفة حسبما فصلنا من قبل، بأن هذه المستعمرات الإسلامية لا تخضع له ولا تأتمر بأوامره، وأنها تعمل مستقلة بعيدة عن حكومة قرطبة. على أن لوتبراند، وهو مؤرخ كنسي معاصر، يؤكد أن الخليفة كان يحمي هذه المستعمرات ويمدها بالتشجيع والعون (¬1). - 4 - ولم يمض قليل على ذلك حتى أخرج المسلمون من معاقلهم في آكام سان برنار ¬_______ (¬1) Reinaud: ibid , p. 193

(في نحو سنة 969 م). ولسنا نعرف تفاصيل ذلك الحادث، ولكن المحقق أن المسلمين أبدوا كعادتهم منتهى البسالة في الدفاع عن مواقعهم، والظاهر أيضاً أن القديس برنار (سان برنار) الذي سميت هذه الآكام باسمه، كان من أبطال الموقعة التي نشبت وانتهت بجلاء المسلمين. واستمر المسلمون في دوفينه وبروفانس، وكثيراً ما دعوا إلى التدخل بين سادة هذه الأنحاء. ولما غزا الإمبراطور أوتو بلاد اللونبارد، وأخرج منها ملكها بيرانجيه، التجأ ولده أدلبرت إلى عرب "فراكسنيه"، ليعاونوه في استعادة ملكه، وكان هذا التحالف بين السادة والمسلمين، يقوي سيادة الغزاة ويدعمها كلما أذنت بالانهيار. بيد أن هذه السيادة قد أخذت في الاضمحلال، مذ فقد العرب معاقلهم في جبال الألب. وفي سنة 965 م أخرج المسلمون من مدينة جرينوبل ومن واديها الخصب (جريزيفودان) وطوردوا في تلك النواحي، وساءت أحوالهم، وأعلن الإمبراطور أوتو بعد ذلك بعامين أو ثلاثة وهو يومئذ في إيطاليا، أنه سيتولى طرد المسلمين من الأراضي النصرانية، ولكنه توفي دون القيام بمشروعه. ثم دنت بوادر المعركة الحاسمة. وحدث في ذلك الحين أن حبراً كبيراً ذائع الصيت، وهو سان ماييل أسقف دير كلوني من أعمال برجونية، حج إلى رومة، ولما عاد من طريق دوفينه أسره المسلمون المرابطون في الجبال مع جماعة كبيرة من الحجاج، واشترطوا عليهم فدى فادحة، فدفعت بعد عناء، وأطلق سراح سان مييل وزملاؤه، وأذكى الحادث حماستهم وسخطهم، وذاعت قصة أسرهم، وما يعانيه الحجاج من شر المسلمين وعدوانهم. فنهض سيد من سادة تلك الأنحاء يدعى بوبون، (أو بيفون)، وانتهز فرصة الحماسة العامة وجمع حوله كثيراً من المقاتلة، وبنى حصناً في سترون على مقربة من حصن كان يملكه المسلمون، ولبث يتحين الفرصة لمفاجأة العرب والاستيلاء على حصنهم، حتى استطاع ذات يوم أن يحمل بعض الحراس على فتح الأبواب، فتمت الخيانة، وباغت النصارى المسلمين في حصنهم، وقضوا عليهم قتلا وأسراً (سنة 972 م). وفي الوقت نفسه التف النصارى في دوفينه حول زعيم يدعى جيوم، وهاجموا المسلمين في جميع مراكزهم وقلاعهم ومزقوهم في كل ناحية، وبذا انهارت سيادتهم في دوفينه، ولم تبق إلا في بروفانس. ولما قوي جيوم وكثر جمعه، بسط نفوذه

على بروفانس وتلقب بألقاب الإمارة، واعتزم أن يخرج المسلمين نهائيا من تلك الأرض. فدعا السادة لمعاونته ومنهم كونت نيس، ورأى المسلمون أن العاصفة تنذر باجتياحهم من كل ناحية، فاستجمعوا كل أهبتهم وقواهم، ونزلوا من الآكام إلى البسيط في صفوف متراصة، ووقعت بينهم وبين النصارى معركة هائلة في " تورتور" فهزم المسلمون وارتدوا إلى قلاعهم، ولاسيما " فراكسنيه " التي غدت ملاذهم الأخير, فطاردهم النصارى أشد مطاردة، وضيقوا الحصار عليهم، فحاولوا الفرار تحت جنح الليل إلى الغابات المجاورة، ولكن النصارى لحقوا بهم وأمعنوا فيهم قتلا وأسراً، وأبقى على من استسلم وعلى المسالمين الذين كانوا يحترفون الزرع في الضياع المجاورة، وفر كثيرون من طريق البحر، وتنصر كثير منهم، وبقي نسلهم في تلك الأرض زمناً طويلا. وهكذا سقط حصن فراكسنتم أو فراكسنيه سنة 975 م، بعد أن لبث زهاء ثمانين سنة مركزاً قوياً للغزوات العربية غاليس، وقسمت أسلاب العرب وأراضيهم بين السادة والجند، الذين اشتركوا في هذه الحرب الصليبية، وانهارت سلطة العرب في تلك الأنحاء. أما المستعمرات الإسلامية التي كانت مبعثرة في آكام الألب، فيقال إنها طوردت ومزقت في نفس الوقت، واعتنق الذين أسروا النصرانية. ولكن توجد رواية أخرى خلاصتها أن هذه المستعمرات لبثت في معاقلها نحو جيل آخر حتى تولى مطاردتها زعيم يدعى جيرولدوس. وعلى أي حال فلم تأت أواخر القرن العاشر حتى ذهبت سيادة المسلمين في غاليس وسويسرة، ولم يجب أحد في إفريقية والأندلس صريخ الغوث، الذي وجهه أولئك المستعمرون البواسل إلى إخوانهم، لأن الحوادث الداخلية لم تكن تسمح يومئذ ببذل هذا العون. على أن ذلك لم يكن خاتمة الغزوات الإسلامية في تلك المياه. ففي سنة 1003 م سارت حملة بحرية من مسلمي الأندلس، ونزلت بجوار أنتيب في جنوب فرنسا، واجتاحت الأراضي المجاورة. وفي سنة 1019 م نزلت حملة مسلمة أخرى في ظاهر أربونة وحاولت أن تستولي عليها، ولكنها هزمت ومزقت. وفي سنة 1047 م هاجمت حملة أخرى جزيرة ليران الواقعة إلى الغرب من مرسييليا وأسرت عدداً من الرهبان. وظهر في ذلك الحين زعيم أندلسي جرىء هو مجاهد العامري

أحد أمراء الطوائف، وصاحب ثغر دانية والجزائر الشرقية (جزائر البليار)، واهتم بأمر الغزوات البحرية، فسار في أسطوله إلى مياه قورسقة وسردانية، وغزا سردانية واحتل بعض أنحائها (سنة 406 هـ 1015 م)، ولكن النصارى استردوها بعد قليل (¬1). ولبث مجاهد العامري الذي تسميه الرواية النصرانية " موسيتو " أو " موجيتوس " مدى حين سيد هذه المياه، يبث فيها بحملاته الرعب والروع. تلك هي قصة الغزوات الإسلامية في غاليس وبلاد اللونبارد وسويسرة؛ وهي قصة تغفل الرواية الإسلامية كثيراً من أدوارها ووقائعها، ولكنها تشغل فراغاً كبيراً في الروايات الكنسية والفرنجية المعاصرة. وهذه الروايات هي عمدتنا فيما ننقل من سير هذه الغزوات الشهيرة. ومن المحقق أنها مشبعة بروح التحامل والخصومة في كثير من المواطن، ولكنا نستطيع مع ذلك أن نتبين منها، أهمية الدور الذي قام به أولئك المجاهدون والمغامرون المسلمون، في تلك الوهاد والآكام النائية، وما كان لهم بين هاتيك الأمم من السيادة والنفوذ مدى عصور. - 5 - والآن فلنحاول أن نستعرض طرفا من العوامل والظروف التي أحاطت بتلك الغزوات الإسلامية النائية، وطرفاً من الآثار التي خلفتها في البلاد والأمم التي كانت ميداناً لها. ينكر بعض مؤرخي الغرب على تلك الفتوحات والغزوات العربية والإسلامية بوجه عام، خاصة الاستقرار والإنشاء، ويقولون إنها كانت في الغالب حملات ناهبة، تقوم على رغبة الكسب وتحصيل الغنائم. ولاريب أن ظمأ المغنم وشغف المغامرة، وما إليها من لذة الاستكشاف والسيادة، كانت من أهم العوامل التي قامت عليها هذه الغزوات، وتلك هي العوامل الخالدة التي تقوم عليها فتوحات الأمم منذ أقدم العصور. ولكن من الحق أيضاً أن نقول إن نزعة الجهاد لم تكن بعيدة عن تلك الغزوات، وإن كثيراً من أولئك المغامرين البواسل، كانت تحفزهم الحماسة الدينية، وفكرة الجهاد في سبيل الله. وقد كانت هذه العصابات الغازية المستعمرة تعمل في الغالب لحساب نفسها، ولكنها كانت تعمل ملحوظة بعطف ¬_______ (¬1) ابن خلدون؛ المقدمة ص 212.

الحكومات والأمم الإسلامية التي تنتمي إليها. وكانت تؤدي إلى تلك الحكومات خدمات جليلة، بما كانت تقوم به من إزعاج الحكومات والأمم النصرانية، وإضعاف جيوشها ومواردها. ومن المحقق أيضاً أن نزعة الاستقرار والإنشاء لم تكن بعيدة عن أذهان الغزاة، بل كان يحفزهم مثل ذلك الروح الاستعماري القوي الذي دفع الأمم الغربية في العصر الحديث إلى افتتاح الأمم المتأخرة واستعمارها (¬1). وقد استقروا بالفعل واستعمروا، حيث مهدت لهم الكثرة والقوة سبيل البقاء، كما فعلوا في إقريطش (كريت)، حيث استقروا بها بعد افتتاحها زهاء قرن وثلث قرن (827 - 961 م)، ونشروا بها الإسلام والحضارة الإسلامية. وكذلك استقروا مدى حين في باري وفي تارنت من ثغور إيطاليا الجنوبية وفي راجوزا (رغوس) من ثغور الأدرياتيك الشرقية؛ وكان لهم على شواطىء قلورية (جنوبي إيطاليا) مستعمرة زاهرة لبثت تسطع في هذه المياه عصراً. ويبالغ المؤرخون الغربيون أيضاً، في تصوير الآثار المخربة لتلك الغزوات الإسلامية، وما كانت تقترن به من ضروب العنف والسفك. ولكن العنف والقسوة والسفك والتخريب، لم تكن خاصة بالغزوات الإسلامية، وإنما كانت من خواص العصر ذاته، ولم تكن الغزوات النصرانية للأراضي الإسلامية أقل عنفاً وسفكاً. ويكفي أن نشير هنا إلى الحملات الصليبية التي لبثت مدى عصور تحمل إلى الأمم الإسلامية أروع صنوف الدمار والسفك، بل يكفي أن نشير إلى ما كانت ترتكبه البعوث الإستعمارية الحديثة، الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، في الدنيا الجديدة من صنوف القسوة والسفك، وما ترتكبه اليوم بعض الأمم الأوربية " المتمدنة " من الجرائم المروعة في إفريقية وآسيا باسم المدنية والاستعمار. * * * والآن لنر ماذا خلفته الغزوات الإسلامية في هذه الأنحاء من الآثار المادية والاجتماعية. ومن المحقق أن هذه الآثار لا تكاد ترى اليوم، ولا يشعر بها إلا الباحث المنقب. ويلاحظ أولا أن الفتوحات العربية الأولى في غاليس وأكوتين لم يطل أمدها أكثر من نصف قرن، ولم تكن الحضارة الإسلامية في اسبانيا قد تكونت وتفتحت بعد. ثم كانت الغزوات اللاحقة التي فصلنا أخبارها، والتي كانت ¬_______ (¬1) Finley: Byzantine Empire, Ch.III - I

أقرب إلى المغامرة المؤقتة، منها إلى الفتوح المستقرة، فلم تتح للغزاة فرص الإستقرار والعمل السلمي، لأنهم كانوا في مراكزهم النائية متفرقين، يشتغلون قبل كل شىء بالدفاع عن مراكزهم وأنفسهم. بيد أن هذه الغزوات المحلية المتقطعة وهذه المستعمرات الإسلامية النائية، خلفت وراءها في الأراضي المفتوحة بعض الآثار المادية والمعنوية. ومن ذلك ما كشفته المباحث الأثرية منذ القرن الماضي على شواطىء خليج سان تروبيه من أطلال الحصون العربية القديمة التي كانت قائمة في تلك الأرض، والتي ما تزال قائمة في بعض آكام الألب الفرنسية والسويسرية، وهي تدل على ما كان للغزاة من الحذق والبراعة في فن التحصينات والمنشآت الحربية. وهناك في جنوب فرنسا وفي بعض أنحاء إيطاليا الشمالية والجنوبية، عدد كبير من الأبراج القائمة فوق الآكام والربى، يدل ظاهرها على أنها كانت تستعمل لأغراض حربية. ويرى البعض أن هذه الأبراج هي آثار عربية من مخلفات الغزاة كانت تبنى لعقد حلقات الاتصال، وتسهيل حركات الدفاع فيما بينهم. ومن المعروف أن العرب منذ فتوحاتهم الأولى في سبتمانيا أعني منذ أوائل القرن الثامن، كانوا ينشئون في الأراضي المفتوحة حصوناً وأبراجاً تسمى "بالرباط". بيد أن فريقاً آخر من الباحثين يرى بالعكس أن هذه الأبراج إنما كانت من إنشاء أبناء الأرض المفتوحة، أقاموها أيام اشتداد خطر الغزوات العربية، ليستعينوا بها على رد الغزاة. وقد ظفرت المباحث الأثرية أيضاً بالعثور على كثير من القطع الذهبية والفضية (المداليات) في أنحاء كثيرة من لانجدوك وبروفانس، وثبت أنها من مخلفات العرب والمسلمين، وأنها كانت تستعمل للتعامل مكان النقود، ولكنها لا تحمل اسماً ولا تاريخاً ولا يمكن تعيين عهد سكها، وإن كانت بذلك تدل على أنها ترجع إلى عصر الغزوات الأولى. ووجدت أيضاً في العهد الأخير في منطقة تور سيوف ودروع قيل إنها عربية، من مخلفات الموقعة الشهيرة التي نشبت في تلك السهول بين العرب والفرنج في سنة 732 م (موقعة بلاط الشهداء). ومن الحقائق التي لا شك فيها أثر المسلمين في الزراعة؛ فقد رأينا أن كثيراً من الغزاة تخلفوا عن إخوانهم، واستقروا في تلك الأرض وزرعوها، ومن المعروف أن العرب حولوا وديان اسبانيا المجدبة، إلى حدائق ورياض زاهرة، ونقلوا

إليها مختلف الغراس من المشرق، وأنشأوا بها القناطر العظيمة. وقد حمل هؤلاء الغزاة المغامرون إلى جنوب فرنسا كثيراً من خبرتهم الزراعية، ولقنوها لسكان تلك الأنحاء. ويقال إن " القمح الأسمر" الذي هو الآن من أهم محاصيل فرنسا إنما هو من مخلفات العرب، وهم الذين حملوا بذوره، وكانوا أول من زرعه بفرنسا، والمرجح أيضاً أنهم هم الذين حملوا فسائل النخيل من اسبانيا وإفريقية إلى شواطىء الريفييرا. ومن آثارهم الصناعية، استخراج "القطران" الذي تطلى به قاع السفن ويحميها من العطب، فهم الذين علموه لأهل بروفانس، وما زال عندهم من الصناعات الذائعة، وما زال اسمه الفرنسي Quitran ينم عن أصله العربي. ومن الحقائق الثابتة أيضاً، فضل العرب في تحسين نسل الخيول في تلك الأنحاء، وما يزال في جنوب فرنسا جهات تشتهر بجمال خيولها ونبل أرومتها، ولا سيما في " كاماراج " في مقاطعة " لاند " من أعمال غسقونية، ومن المحقق أن هذه الخيول الأصيلة الجميلة، إنما هي من سلالة الخيول العربية، التي أحضرها الفرسان المسلمون معهم إلى تلك الأنحاء. ولا ننسى ما للدم العربي من أثر في بعض أنحاء جنوب فرنسا. فقد رأينا أن المسلمين أنشأوا بعض المستعمرات الزراعية، وتزوجوا من نساء تلك الأراضي وتناسلوا فيها. ولما تغلب عليهم النصارى وأخرجوا نهائيا من تلك الأراضي تنصر كثير منهم ممن أسروا، وأرغموا على افتداء حياتهم وأسرهم بالتنصر، وقد لبث أبناء أولئك المسلمين المتنصرين عصوراً في تلك البلاد، يشتغلون بالزراعة والتجارة حتى جرفهم تيار التطور واندمجوا في المجتمع النصراني، واختفت كل آثارهم وخواصهم العربية والإسلامية. هذا، وأما عن الآثار الاجتماعية، فانه يلاحظ في بعض جهات بروفانس التي استقر فيها المسلمون مدى حين، أن لسكانها بعض التقاليد الخاصة، ومن ذلك أنواع من الرقص يظن أنها ترجع إلى أصل عربي. على أن أعظم آثار العرب الاجتماعية في جنوب فرنسا، يبدو في تطور الحركة الفكرية في العصور الوسطى، فقد كان للعرب أثر عظيم في تكوين النزعة الشعرية في الجنوب، وظهر أثر هذه النزعة واضحاً في الحركة الأدبية التي تعرف بحركة "التروبادور" Troubadour التي ظهرت في جنوبي فرنسا، وفي شمال إسبانيا وشمال إيطاليا، منذ القرن الحادي عشر

الميلادي، وقوامها القريض الحربي والغنائي، وزعماؤها فرسان شعراء وفنانون. أضف إلى ذلك أن تأثير الحضارة الإسلامية في سير الحضارة الأوربية، لم يقف عند هذا العصر ولا عند هذه الحدود، فقد استمرت العلائق بعد ذلك طويلا بين مسلمي الأندلس والأمم النصرانية المجاورة، وكان للحضارة الأندلسية في تطورها العقلي والاجتماعي أعظم الآثار. وقد لبثت ذكرى العرب وذكرى الغزوات العربية في فرنسا، تثير مدى القرن الثامن في نفوس النصارى أعظم ضروب السخط والروع، وتقدمها الرواية الكنسية المعاصرة في أشنع الصور؛ فلما ظهرت عصابات النورمان والمجر وغزت فرنسا من الشرق والغرب، رأى النصارى من عيثهم وسفكهم أهوالا لا تذكر بجانب أهوال الغزوات الإسلامية، وارتفعت ذكرى العرب وأضحت تقترن بكل ما هو عظيم ضخم (¬1)، وفي ذلك يقول المستشرق رينو: " إن ذكرى الغزوات النورمانية والمجرية لا توجد إلا في الكتب. ولكن ما السر في أن ذكرى العرب ما زالت ماثلة في جميع الأذهان. لقد ظهر العرب في فرنسا قبل النورمان والمجر، واستطالت إقامتهم بعد الغزوات النورمانية والمجرية، وإن غزوات العرب الأولى ليطبعها طابع من العظمة، حتى أننا لا نستطيع أن نتلو أخبارها دون تأثر. ذلك لأن العرب (¬2) دون النورمانيين والمجر، ساروا مدى آماد في طليعة الحضارة، ثم إنهم لبثوا بعد أن غادروا أرضنا موضع الروع في شواطئنا، وأخيراً لأن المعارك التي اضطلعوا بها أيام الصليبيين في اسبانيا وإفريقية وآسيا، أسبغت على اسمهم بهاء جديداً، بيد أن هذه العوامل كلها قد لا تكفي لتعليل المكانة العظيمة التي يتبوأها الاسم العربي في أوربا وفي أذهان المجتمع الأوربي. أما السبب الحقيقي لهذه الظاهرة المدهشة، فهو الأثر الذي بثه قصص الفروسية في العصور الوسطى، وهو أثر لا يزال ملموساً إلى يومنا " (¬3). ¬_______ (¬1) Reinaud: ibid , p. 310 (¬2) يلاحظ أن كلمة " العرب " هنا يجب أن تفهم بأوسع معانيها، فالمقصود بها هنا " الغزاة المسلمون ". ومنذ أواخر القرن الثامن الميلادي تغيض الصبغة العربية عن هذه الفتوحات، وتغدو فتوحات إسلامية، ينضوي تحت لوائها العرب وغيرهم من أبناء المجتمعات الإسلامية، التي قامت في إفريقية واسبانيا. (¬3) Reinaud: ibid; p. 311-312. وقد اعتمدنا على مؤلف هذا العلامة في كثير من هذه الملاحظات الخاصة بآثار العرب (المسلمين) في جنوب فرنسا.

الكتاب الثانى الدولة الأموية فى الأندلس القسم الرابع ربيع الخلافة الأندلسية

الكتاب الثاني الدّوْلة الأمويَّة في الأندَلسْ القسم الرابع رَبيع الخلافة الأندَلسِيّة 350: 370 هـ - 961: 980 م

الفصل الأول الحكم المستنصر بالله

الفصل الأوّل الحكم المستنصر بالله خلافة الحكم المستنصر. تنظيم البيعة له. عنايته بتوسيع المسجد الجامع. تحرك أمير قشتالة. وفود أردونيو الرابع على الحكم. وصف لحفل استقباله. سفارة سانشو. وفاة أردونيو. تحالف الملوك النصارى. خروج الحكم إلى الغزو. استيلاء المسلمين على شنت إشتيبن. إفتتاح قلهرة. استرداد حصن غرماج. عناية الحكم بتعزيز الأسطول. ظهور النورمان في المياه الغربية. مقاومة المسلمين وارتداد النورمان. عود النورمان إلى المياه الغربية ثم انسحابهم. قرطبة تغدو مركز التوجيه في شبه الجزيرة. وفود الملوك النصارى وسفاراتهم على قرطبة. حوادث المغرب. انحلال دولة الأدارسة. أميرهم الحسن بن كنون. طاعته للناصر والحكم. مسير بلكين نائب المعز الفاطمي إلى قتال زناتة. ولاء زناتة لبني أمية. غزو بلكين لأراضيهم. هزيمة زناتة. نكث الحسن بن كنون. الحكم يرسل جيوشه إلى المغرب. هزيمة الحسن وفراره. عوده إلى القتال. هزيمة جند الأندلس. الحسن يطلب الصلح. الحكم يرسل كبير قواده غالباً في جيش ضخم. غالب يطارد الحسن ويرغمه على التسليم. التجاء الحسن إلى قرطبة. وصف لموكب القائد غالب. وصف لصفات الحسن. مغادرته قرطبة إلى مصر. اعتداء صاحب قشتالة على الأراضي الإسلامية. نكبة جعفر ويحيى ابني علي بن حمدون. اصطناع الحكم للبربر. مولد ولي العهد هشام. الحكم العالم. شغفه باقتناء الكتب. المكتبة الأموية الكبرى ودور الحكم في إنشائها. ذيوع الشغف باقتناء الكتب. جامعة قرطبة. تشجيع الحكم للعلماء. تقدير النقد الحديث لهذه النزعة العلمية. المكتبات العامة بالأندلس. أخذ البيعة لولي العهد الطفل. تعليق ابن حيان على ذلك. وفاة الحكم. ورعه وخلاله. الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي. هديته إلى الحكم. القائد غالب الناصري. الحكم الشاعر. أبهة بلاط قرطبة في عهد الحكم. تكوين المجتمع الأندلسي في هذا العصر. الأرستقراطية الأندلسية. المولدون. طبقة الرقيق. النصارى المعاهدون. اليهود. نفوذهم وازدهارهم العلمي. طويت بوفاة عبد الرحمن الناصر، ألمع صفحة في تاريخ اسبانيا المسلمة، وتاريخ الخلافة الأندلسية. استقرت الخلافة الأندلسية في عهد الناصر، على أسس ثابتة، وسحقت ثورة المولدين والعرب، بعد أن كادت تقضي على ملك بني أمية، وعلى صرح الدولة الأندلسية كلها، ورد النصارى الإسبان إلى عقر دارهم، فسكنوا وجلين منتظرين، وتمتعت الأندلس بعهد من السلم والاستقرار والرخاء، لم تعرفه من قبل، ووصلت رقعة الوطن الأندلسي إلى أعظم ما وصلت إليه، إذا استثنينا عهد الفتح الأول. وهكذا كان عصر الناصر بالنسبة للأندلس، ذروة عصورها، قوة وعظمة ومجداً.

وخلف الناصر أكبر ولده الحكم المستنصر بالله بعهد منه، وكان الناصر قد آثره منذ حداثته على سائر إخوته وولاه عهده (¬1). وقيل إنه أخذ له بيعة العهد وهو طفل لم يجاوز الثامنة. وبويع الحكم في اليوم التالي لوفاة أبيه، في الثالث من رمضان سنة 350 هـ (16 أكتوبر 961 م)، وكان الحكم يومئذ في نحو الثامنة والأربعين من عمره، إذ كان مولده حسبما تقدم بقرطبة في 24 من جمادى الأولى وقيل في غرة رجب سنة 302 هـ (915 م) (¬2)، وأمه أم ولد تدعى مرجان. وأخذت البيعة للخليفة الجديد في قصر الزهراء. وجلس الحكم على سرير الملك في البهو الأوسط الذهبي، واجتمع إخوته، وسائر الوزراء ورجال الدولة، وأكابر الفتيان الصقالبة، ومن دونهم من رجال الخاص، وأهل الخدمة، وأكابر الجند، انتظموا جميعاً وفق مراتبهم في المجلسين الشرقي والغربي، وفي مختلف الأروقة، وانتظم الحرس وفرسان الحشم وطبقات الجند، فيما وراء باب السُّدة، صفوفاً متصلة حتى باب المدينة. ولما تمت البيعة، أذن للناس في الانصراف، إلا الإخوة والوزراء ورجال الخاصة، فإنهم لبثوا بالقصر، حتى احتمل جسد الخليفة الذاهب (الناصر) إلى قصر قرطبة ليدفن هنالك في مقبرة القصر (¬3). ولم يكن الحكم حين ولايته، محدثاً في شئون الملك، بل لقد مارسها في حياة أبيه، وكثيراً ما ندبه أبوه لمباشرة المهام والشئون الخطيرة، فكان عند جلوسه أميراً مكتمل النضج والخبرة. واستهل الحكم عهده بالنظر في توسيع المسجد الجامع، وأصدر بذلك مرسومه في اليوم التالي لجلوسه. وكان المسجد الجامع قد ضاقت جنباته بجموع المصلين، فقرر توسيعه من الناحية الشرقية على طول الجامع من الجنوب إلى الشمال حتى صحنه. وبلغت الزيادة نحو مساحة الجامع، فتضاعف بذلك حجمه. وابتنى الحكم محرابه الثالث، واستغرق بناؤه أربعة أعوام، وعملت له قبة فخمة زخرفت ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 244؛ وأعمال الأعلام لابن الخطيب (المطبوع ببيروت سنة 1956) ص 41. (¬2) الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (القاهرة سنة 1956) ج 1 ص 487، والحلة السيراء لابن الأبار ص 102. وراجع ص 378 من هذا الكتاب. (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 181.

بالفسيفساء البديعة. وأرسل قيصر قسطنطينية رومانوس الثاني إلى الحكم منها قدراً كبيراً، كما أرسل إليه أستاذاً خبيراً بأعمال الفسيفساء. وأنشأ الحكم أيضاً مقصورة جديدة لها قبة على الطراز البيزنطي. وابتنى إلى جانب المسجد داراً للصدقة، وأخرى للوعاظ وعمال المسجد. وتشغل زيادة الحكم في الجامع اليوم قسمه الأوسط، الواقع بين الجناح القديم، الذي أنشأه عبد الرحمن الداخل وزاد فيه عبد الرحمن الأوسط - والجناح الذي أنشأه الحاجب المنصور، وهو يشغل نحو ثلث المسجد من الناحية الشرقية (¬1). ولم يمض سوى قليل، حتى بدت من الأمراء النصارى نزعة إلى العدوان. وكان الناصر قبيل وفاته قد عاون سانشو الأول (شانجُه) ملك ليون ابن أردونيو الثالث بالمال والجند على استرداد عرشه، وفر ابن عمه ومنافسه أردونيو الرابع مهزوماً إلى برغش (سنة 960 م)، واشترط الخليفة ثمناً لهذا العون، أن يهدم النصارى بعض حصون الحدود، وأن يسلموا عدداً آخر منها إلى المسلمين. فلما توفي الناصر بعد ذلك بقليل، نكث سانشو بالعهد، وأبى تنفيذ ما وعد. ومن جهة أخرى فقد ظهر عامل جديد في عدوان النصارى. وذلك أن قشتالة، وقد كانت يومئذ ولاية من ولايات ليون، كانت تنزع إلى الاستقلال، وكان زعيمها الكونت (القومس) فرنان كونثالث (¬2) رجلا مقداماً يلتف حوله مواطنوه، فثار على سانشو، وأعلن استقلال قشتالة، ونصب نفسه أميراً عليها، وأخذ يغير على أراضي المسلمين المجاورة، وهي مما يلي غرب الثغر الأعلى، وشمال الثغر الأوسط، وانضم إليه كثير من النصارى المتعصبين. فنما بذلك جيشه واشتد بأسه. وكان الكونت يطمح إلى توسيع أملاكه، ويعتمد على مناعة قلاعه الواقعة على الحدود. وقد أغضى الحكم في البداية عن هذا العدوان مؤثراً الاعتصام بالسلم، ولكنه لما رأى تمادي النصارى في بغيهم، أخذ في التأهب للحرب، وأنفذ الكتب إلى سائر الولاة والقواد، بوجوب الأهبة والاستعداد للجهاد في سبيل الله. وكان أردونيو الرابع الملك المخلوع، قد لجأ إلى الحكم ليعاونه على استرداد ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 249، وأعمال الأعلام ص 48. (¬2) ويسميه ابن خلدون " فردلند القومس " (ج 4 ص 144) وفي مكان آخر فرلند بن غند شلب (ج 4 ص 180) وورد اسمه في أعمال الأعلام " فران غنصالص " وهو أكثر مطابقة للاسم القشتالي (ص 375).

عرشه. وتفيض الرواية الإسلامية في وصف مقدمه على قرطبة، ومثوله بين يدي الخليفة، فتقول لنا إن أردونيو وفد على قرطبة في عشرين رجلا من وجوه أصحابه، ومعهم غالب الناصري مولى الحكم وصاحب مدينة سالم، وذلك في آخر صفر سنة 351 هـ (30 مارس 962 م). وتلقاهم الوزير هشام المصحفي في قوات كثيفة من الجند. فلما دخلوا قصر قرطبة، ووصل أردونيو إلى ما بين باب السُّدة وباب الجنان، سأل عن مكان مدفن الناصر، فأشير إليه في الروضة بداخل القصر، فسار إليه وخلع قلنسوته وانحنى أمامه خاشعاً. وأنزل أردونيو وصحبه في دار الناعورة الفخمة، وبولغ في إكرامهم. وبعد يومين استدعاهم الحكم إلى قصر الزهراء، وقد حشدت قوات عظيمة من الجند، وبولغ في الاحتفال بالزينات، وإظهار الأسلحة والعُدَد. وجلس الحكم فوق سرير الملك في المجلس الشرقي، ومن حوله الإخوة والوزراء والأكابر، وجىء بأردونيو وأصحابه، ومعهم جماعة من وجوه نصارى الأندلس. فدخلوا بين الصفوف الفخمة المزركشة وقد بهروا بما رأوا، وجازوا أبواب القصر المتعاقبة، وأجلسوا برهة في بهو الانتظار، ثم استدعوا للمثول بين يدي الخليفة، فسار أردونيو ومن ورائه أصحابه، فلما وصل إلى المجلس الخلافي كشف رأسه وخلع برنسه. ولما دنا من سرير الحكم سجد أمامه ثم قبل يده. ثم ارتد راجعاً إلى كرسي من الديباج المثقل بالذهب. وتولى الترجمة بين أردونيو والخليفة، وليد بن خيزون قاضي الذمة بقرطبة، وأعرب الحكم عن سروره وترحيبه بمقدم أردونيو، ووعده برعايته. وبسط أردونيو قضيته، وشكا مما أنزله به خصمه سانشو، مع أن الشعب كان قد آثره باختياره، ولكن خصمه لجأ إلى الخليفة الراحل واستجار به، فأغاثه ونصره عليه، ومع ذلك فقد قصر في الوفاء بعهوده، وأنه يضع نفسه وبلاده وشعبه، تحت رعاية الخليفة، وأنه يتعهد بمحالفة الإسلام، ومقاطعة صهره فردلند القومس أمير قشتالة، ويقدم ولده غرسيه رهينة بصدق وفائه (¬1). وهنا وعده الخليفة بعونه ونصرته في تمليكه ما كان له. وانصرف أردونيو بعد الشكر والتحية، وخرج من المجلس، وقد بهره وأذهله ما رأى من آيات الفخامة والسلطان. وقدم إليه الحاجب جعفر الهدايا التي أمر بها الخليفة له ولأصحابه. وألقى الخطباء والشعراء ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 145.

خطبهم وقصائدهم، منوهين بروعة هذا اليوم المشهود. فمن ذلك قول عبد الملك ابن سعيد المرادي من قصيدة: ملك الخليفة آية الإقبال ... وسعوده موصولة بنوال والمسلمون بعزة وبرفعة ... والمشركون بذلة وسفال ألقت بأيديها الأعاجم نحوه .. . متوقعين لصولة الرئبال هذا أميرهم أتاه آخذاً ... منه أواصر ذمة وحبال متواضعاً لجلاله متخشعاً ... متبرعاً لما يرع بقتال (¬1) فلما نمى إلى سانشو ما وعد به الخليفة خصمه ومنافسه، خشى عاقبة هذا المسعى، فبعث إلى الحكم وفداً من الأكابر والأحبار، يعرض عليه أن يعترف بطاعته، وأن يقوم بتنفيذ ما تعهد به للناصر من تسليم بعض الحصون الواقعة على الحدود وهدم البعض الآخر (¬2). ولكن أردونيو ما لبث أن توفي، وعاد سانشو إلى نكثه بعد أن أمن شر منافسه. وهنا شعر الأمراء النصارى بخطورة أهبة المسلمين العسكرية، وأدركوا أن لا بد لهم من الاتحاد جميعاً، لكي يستطيعوا مواجهتهم. وهكذا عقد التحالف بين سانشو ملك ليون، وخصمه الكونت فرنان أمير قشتالة، وغرسية سانشيز ملك نافار، وكونت برشلونة، وتأهب الجميع لمدافعة المسلمين. وفي صيف سنة 352 هـ (963 م) خرج الحكم إلى الغزو، معلناً الجهاد، واجتمعت إليه الجيوش في طليطلة، فسار مخترقاً جبال وادي الرملة إلى أراضي قشتالة، وأشرف على قلعة شنت إشتيبن المنيعة (¬3) فحاصرها المسلمون، واستولوا عليها. وعبثاً حاول الكونت فرنان كونثالث، أن يقف في سبيل المسلمين، واجتاح المسلمون أراضيه، ومزقوا قواته، حتى أذعن إلى طلب الصلح، ولكنه نكث عهده، فهاجمه المسلمون كرة أخرى، واستولوا على بلدة أنتيسة الحصينة (¬4). ¬_______ (¬1) أورد لنا المقري (عن ابن حيان) عن هذه الزيارة تفاصيل مسهبة (راجع نفع الطيب ج 1 ص 181 - 184). ولخصها ابن خلدون (ج 4 ص 145). وكذلك البيان المغرب ج 2 ص 251. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 145. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 251. (¬4) ابن خلدون ج 4 ص 144. وأنتيسة هي Atienza.

وأرسل الحكم جيشاً آخر بقيادة يحيى بن محمد التجيبي حاكم سرقسطة في اتجاه نافار. وكان ملكها غرسية سانشيز، قد أغار على الأراضي الإسلامية ناكثاً لعهده، وهرع حليفه سانشو ملك ليون في قواته لإنجاده، ونشبت بين الفريقين موقعة هزم فيها النصارى وامتنعوا بالجبال. وفي نفس الوقت سار القائد غالب مولى الحكم في جيش قوي إلى مدينة قلهرّة، من قواعد نافار الغربية، فافتتحها، وحصنها وشحنها بالرجال والعدة، وكان فتحاً عظيماً. وسار حاكم مدينة وشقة في قواته شمالا نحو أراضي نافار مما يلي جبال البرنيه، واستولى على حصن يبه (¬1) واجتاح تلك المنطقة، وغنم ما فيها من السلاح والأقوات والماشية (¬2). واستغرقت هذه الفتوح والغزوات العظيمة، الصائفة في سنتي 352 و353 هـ (963 - 964). ويروي لنا ابن خلدون قصة غزوة إسلامية أخرى في أراضي قشتالة - فيقول لنا إن غالباً سار إلى بلاد ألبة، ومعه يحيى بن محمد التجيبي، وقاسم بن مطرف بن ذى النون، فاستولى على حصن غرماج Gormaz. ويضع ابن خلدون تاريخ هذه الغزوة في سنة 354 هـ (965 م). وتقع قاعدة " غرماج " الحصينة على نهر دويرة على مقربة من شنت إشتيبن. وكان الناصر قد انتزعها من النصارى في سنة 940 م. والظاهر أن القشتاليين بقيادة فرنان كونثالث، كانوا قد استولوا عليها فيما استولوا عليه من قواعد الحدود، قبل أن يخرج الحكم إلى الغزو، فاستردها المسلمون في صائفة سنة 353 هـ، أو في الصائفة التالية، وقاموا بتحصينها لمدافعة القشتاليين في هذه المنطقة (¬3). وتشير الرواية الإسلامية فوق ذلك إلى غزوات ناجحة أخرى، قام بها المسلمون في أراضي قشتالة في سنتي 355 و356 هـ، بيد أنها لا تقدم إلينا شيئاً عن تفاصيل تلك الغزوات (¬4). وفي سنة 353 هـ وقعت بالعاصمة الخلافية مجاعة عظيمة، فبذل الحكم للفقراء والمعوزين في سائر أرباض قرطبة والزهراء، من النفقة ما يكفل أقواتهم ويسد عوزهم. ¬_______ (¬1) وبالإسبانية Yerba. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 145. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 145. (¬4) راجع البيان المغرب ج 2 ص 255.

وكانت حوادث المغرب الأقصى (وسوف نتحدث عنها بعد)، وما يتهدد الأندلس من جراء مشاريع الفاطميين وأشياعهم في تلك المنطقة، مما يشغل حكومة قرطبة، ويحفزها دائماً إلى اليقظة والتأهب، وكان من أثر ذلك أن قصد الحكم في شهر رجب سنة 353 إلى ثغر ألمرية (سبتمبر سنة 964) في جماعة كبيرة من الرؤساء والقادة، ليشرف بنفسه على أعمال التحصين الجارية فيها، وليتخذ ما يجب لتجديد الأسطول وتعزيزه. وكانت ألمرية أعظم قواعد الأسطول الأندلسي، وكانت سفنه الراسية بها يومئذ تبلغ ثلاثمائة قطعة (¬1). بيد أنه لم يمض قليل، حتى جاء الخطر يتهدد الأندلس من ناحية أخرى. ففي أواخر سنة 355 هـ (¬2) (أواخر سنة 967 م) ظهرت سفن النورمان أو المجوس في مياه الشاطىء الغربي قبالة ولاية الغرب. وكان النورمان قد ظهروا في مياه الأندلس لأول مرة في سنة 229 هـ (843 م) أيام عبد الرحمن بن الحكم، وبدأت حكومة قرطبة تعني بشأن الأسطول ومضاعفة أهبتها البحرية من ذلك الحين. وكان أولئك الغزاة النورمان في هذه المرة من أهل دانماركة المجوس، ويقودهم رتشارد الأول دوق نورماندي، وحفيد زعيمهم الكبير رولو. وكانت عدة أسطولهم ثمانية وعشرين مركباً. ونزل الغزاة على مقربة من بلدة قصر أبي دانس (¬3)، وعاثوا في تلك النطقة، ثم زحفوا شمالا إلى بسائط أشبونة الغنية اليانعة، وعاثوا فيها تخريباً ونهباً، واجتمع المسلمون في تلك المنطقة لقتالهم. ونشبت بينهم وبين الغزاة موقعة دامية قتل فيها كثير من الفريقين. وفي تلك الأثناء خرج أسطول إشبيلية من نهر الوادي الكبير بقيادة أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس، وسار على عجل إلى شاطىء البرتغال الجنوبي، وكان الغزاة قد انحدروا عندئذ جنوباً ثم شرقاً بمحاذاة الشاطىء، ووقع اللقاء بين سفنهم وبين سفن المسلمين عند مصب نهر شِلْب. فحطم المسلمون عدة من سفن الغزاة، وأنقذوا من كان بها من أسرى المسلمين، وقتل كثير من النورمان، وارتدوا منهزمين عن تلك المياه، بيد أن سفنهم لبثت تجوس خلال المياه الغربية، والمسلمون لهم بالمرصاد أينما ظهروا. وأمر الحكم زيادة في التحوط أن تحشد بعض ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 252, والإحاطة (1956) ج 1 ص 486. (¬2) ويذكر ابن خلدون أنها كانت سنة 354 هـ (ج 4 ص 145). (¬3) وهي بالإفرنجية Alcacer do Sal، وهي ثغر برتغالي صغير يقع جنوب شرقي اشبونة.

سفن الأسطول الصغرى في نهر الوادي الكبير تجاه قرطبة، وترتيبها على هيئة مراكب النورمان (¬1)، وذلك خشية أن يتسرب الغزاة بطريق النهر إلى العاصمة، كما فعلوا حينما هاجموا إشبيلية في غزوتهم الأولى. ولم تمض بضعة أعوام على ذلك، حتى عادت مراكب النورمان تجوس خلال المياه الغربية (360 هـ - 971 م) مرة أخرى، وتهدد شواطىء ولاية الغرب الغنية. ويقدم إلينا ابن حيان عن هذه الغزوة الثانية للنورمان لشواطىء الأندلس بعض تفاصيل ملخصها أن الحكم عهد إلى أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بتسيير الأسطول من ألمرية وإشبيلية، واجتماع قوى الأندلس البحرية كلها لمواجهة الغزاة، كما عهد إلى الوزير القائد غالب بن عبد الرحمن بأن يشرف على القوات البرية والبحرية التي أعدت لمدافعة أولئك الغزاة، وأمر صاحب الخيل والحشم زياد بن أفلح بإخراج السلاح والعدة، وحشد قوة مختارة من الجند. بيد أنه لم تقع فيما يبدو، أية معارك هامة بين المسلمين والغزاة، ولم يحدثنا ابن حيان عن وقوع مثل هذه المعارك. والظاهر أنهم ارتدوا من تلقاء أنفسهم لما رأوا من تفوق قوى المسلمين (¬2). وفي خلال ذلك كانت قرطبة تغدو شيئاً فشيئاً، مركز التوجيه في شبه الجزيرة الإسبانية كلها، وتغدو كعبة لملوك اسبانيا النصرانية، يفدون إليها تباعاً، يقدمون إليها عهود الطاعة، ويلتمسون منها الصداقة والعون. وقد بدأ تقاطر هذه الوفود والسفارات من سنة 355 هـ (966 م) واستمر عدة أعوام. ويجدر بنا قبل التحدث عنها، أن نشير إلى ما وقع من تغييرات في الإمارات والممالك النصرانية. فقد توفي سانشو ملك ليون مسموماً في سنة 966 م. وخلفه ولده الطفل راميرو الثالث، تحت وصاية عمته الراهبة إلبيرة، وكان من أثر ذلك أن وقع التفكك في مملكة ليون، وأعلن عدة من الزعماء المحليين استقلالهم. وتوفي الكونت ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 255. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 257. وابن حيان في المقتبس - مخطوط أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة كوديرا) المنشور بتحقيق الأستاذ عبد الرحمن على الحجي (بيروت 1965) ص 23 - 26 وبه بيانات وتفاصيل هامة عن حوادث الأعوام الخمسة من سنة 360 إلى سنة 364 هـ. وسوف نرجع إليه بكثرة فيما يتعلق بأحداث هذه الأعوام وأحوالها.

فرنان كونثالث أمير قشتالة في سنة 970 م، وخلفه ولده غرسيه فرناندز. وتولى عرش نافار سانشو غرسية الثاني، بعد وفاة أبيه غرسية سانشيز. وكان أول الوافدين على قرطبة من أمراء النصارى أمير جليقية، وأمير أشتوريش، (الأسترياس). ثم وفدت رسل سانشو غرسية ملك نافار، وهم جماعة من القوامس والأساقفة يسألون الصلح، فأجابهم الحكم إلى ما طلبوا. ووفدت في شعبان سنة 360 هـ (يونيه 971 م) سفارة من أمير برشلونة الكونت بوريل ابن شونير Saunier على رأسها مبعوثه القومس بون فلي لتجديد المودة والصداقة، ومعهم ثلاثون أسيراً من المسلمين الذين كانوا محجوزين بالإمارة، تقرباً من الخليفة. فاستقبلهم الحكم بالمجلس الشرقي من قصر الزهراء مرتين، الأولى في الرابع من رمضان سنة 360 هـ، والثانية في الثاني من شوال، واستمع إلى رسالتهم بالقبول والرضى، وصرفهم بجزيل الصلات وفاخر الكسي (¬1). وفي السادس من ذي الحجة سنة 360 هـ (أكتوبر 971 م) وفدت الراهبة إلبيرة عمة ملك ليون راميرو الثالث والوصية عليه - ويسميها ابن حيان حلويرة وأحياناً حلورية (¬2) -، فقوبلت في قرطبة بمظاهر الترحاب والتكريم، واحتفل الحكم باستقبالها بقصر الزهراء في يوم مشهود، وعقد السلم لملك ليون تحقيقاً لرغبتها، وأغدق عليها الهدايا والصلات " وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثلقين بالذهب وملحفة ديباج " (¬3). ومما هو جدير بالذكر أنه قام بالترجمة يومئذ بين الخليفة الحكم، وبين سفراء أولئك الأمراء والملوك النصارى، قاضي النصارى وأسقفهم بقرطبة، عيسى بن منصور، وقومس أهل الذمة، معاوية بن لب، ومطران إشبيلية عبيد الله بن قاسم. وكانت لغة النصارى ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ السالفة الذكر ص 21 و32. (¬2) راجع ابن حيان في المقتبس - القطعة السالفة الذكر ص 63 و146 و235 و241. ويلاحظ أن ابن حيان لم يتحدث عن قدومها بنفسها إلى قرطبة وإنما يتحدث عن قدوم رسل من قبلها. بيد أننا أخذنا هنا برواية ابن خلدون بالرغم من كونها تنصرف إلى اسم سيده نصرانية أخرى. والرواية الإسبانية تؤيد هذا التفضيل. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 146. وراجع المقتبس لابن حيان (قطعة أكاديمية التاريخ السالفة الذكر) ص 64.

الإسبان يومئذ هي اللغة الرومانية (الرومانشي) Romance أو" اللاتينية "، وهي التي تطورت فيما بعد إلى اللغة القشتالية (¬1). ووفدت سفارات أخرى من غرسية فرناندز أمير قشتالة، وفرنان لينيز كونت شلمنقة وغيرهما. وفي سنة 973 م (362 هـ) وفدت سفارة جديدة من سانشو غرسية ملك نافار، ومن الراهبة إلبيرة الوصية على ملك ليون. وكان جل هذه الزيارات والسفارات من أمراء اسبانيا النصرانية، يقصد إلى عقد السلم والمودة مع خليفة الأندلس، وأحياناً إلى تقديم الطاعة وطلب العون. هذا وقد وردت إلى الخليفة رسالة ودية من يوحنا زيمسكي (الدمستق) قيصر قسطنطينية على يد رسوله قسطنطين الملقي، وذلك في جمادى الأولى سنة 361 هـ (972 م) (¬2)، ورسالة أخرى في أواخر سنة 363 هـ (974 م) من إمبراطور ألمانيا أوتو الثاني الذي خلف أباه أوتو الأول، وفيها يجدد علائق المودة التي كانت بين أبيه وبين الناصر. ووردت في نفس العام سفارة جديدة من الكونت بوريل أمير برشلونة يطلب تجديد المودة والصداقة. ويعلق العلامة المؤرخ الأستاذ بيدال على ذلك بقوله: " وصلت الخلافة الأندلسية في ذلك العصر إلى أوج روعتها، وبسطت سيادتها السلمية على سائر اسبانيا، وكفلت بذلك السكينة العامة ". وفي هذا العام، سنة 361 هـ، في الخامس والعشرين من جمادى الأولى، أمر الخليفة الحكم صاحب مدينة الزهراء، محمد بن أفلح، بمطاردة الشعراء الهجائيين والقبض عليهم، صوناً لأعراض الناس من لاذع ألسنتهم ومقذع هجائهم وكان منهم عيسى بن قرلمان الملقب بالزبراكة، ومؤنس الكاتب، وأحمد بن الأسعد، ويوسف بن هارون البطليوسي وغيرهم. فظفر صاحب المدينة بمعظمهم وأودعهم السجن، واختفى البطليوسي حيناً، ولكنه لما شعر بوطأة المطاردة، ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: Origenes del Espanol p. 421 (¬2) راجع المقتبس قطعة أكاديمية التاريخ ص 71 و72. وكان يوحنا زيمسكي. وهو كبير الجيش البيزنطي قد ائتمر بعمه القيصر نيقفور الثاني مع زوجه الحسناء ثيوفانو وانتهى بقتله وذلك في العاشر من ديسمبر سنة 969 م، واعتلى العرش في الحال مكانه، وحكم حتى وفاته في العاشر من يناير سنة 979 م.

قدم نفسه لصاحب المدينة، فزج إلى السجن. ورفع أمره إلى الخليفة، فرق لمحنتهم. أمر بالإفراج عنهم، فأطلق سراحهم في أواخر شعبان من هذه السنة (¬1) وفي هذا الإجراء ما يشهد برفيع خلال الحكم. ورقة شعوره، وموفور احتشامه. * * * وفي ذلك الحين حدثت بعدوة المغرب، في الضفة الأخرى من البحر، حوادث هامة، شغلت الحكم، وكدرت صفو السلام السائد في مملكته. وقد سبق أن أشرنا إلى غزو الناصر لدين الله لثغر سبتة، وعبور جيوشه إلى المغرب لمقاومة جهود الفاطميين في السيطرة عليه، ومحاربة الأدارسة أمراء المغرب وحلفاء الفاطميين، ومطاردتهم. حتى أذعنوا في النهاية إلى طلب الصلح، والاعتراف بطاعة الناصر (سنة 332 هـ - 943 م). وقيام الدعوة المروانية بالمغرب منذ ذلك الحين. وكانت دولة الأدارسة، قد تقلصت في ذلك الحين، عن معظم أنحاء المغرب الجنوبية والوسطى، وارتدت إلى منطقة الريف الشمالية، ما بين غربي بحر الزقاق والمحيط، وجعلت قاعدتها بعد انقراض أمرهم في فاس، في قلعة حجر النسر المنيعة، الواقعة في جنوبي تطوان. ولم تكن مع ذلك دولة مستقلة بمعنى الكلمة، إذ كانت تنضوي تحت لواء المتغلب على المغرب، سواء من العبيديين (الفاطميين) أصحاب إفريقية. أو الأمويين أصحاب الأندلس. وكان أمير الأدارسة في أواخر عهد الناصر، الحسن بن كنّون (أو قنون)، وهو القاسم بن محمد ابن القاسم بن إدريس، الذي قدر أن تنقضي على يده دولة الأدارسة بالمغرب، وكان قد بايع العبيديين، ودعا لهم حينما تغلب جوهر الصقلي على المغرب، ناكثاً بذلك عهده للناصر. فلما انصرف جوهر إلى إفريقية في أواخر سنة 349 هـ (960 م) عاد الحسن إلى طاعته لبني أمية. ولما توفي الناصر أعلن الحسن طاعته لولده الحكم المستنصر. ولم يكن ذلك سوى مصانعة ورياء، إذ كان الأدارسة يبغضون بني أمية، ويترقبون فرص الخروج عليهم، ولم تكن طاعتهم لهم إلا خوفاً من بطشهم، لوقوع مملكتهم في شمال العدوة على مقربة من الأندلس. ¬_______ (¬1) راجع المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ المشار إليها - ص 73 - 75.

وفي أوائل سنة 361 هـ (971 م) سار بُلكّين بن زيري بن مناد الصنهاجي، قائد الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، من إفريقية غازياً إلى المغرب، ليعيد هنالك سلطان الشيعة، ولينتقم من قبيلة زناته، لمقتل أبيه زيري بن مناد. وكان زيري عامل الخليفة المعز وقائده على المغرب، وكانت زناتة من القبائل المغربية القوية المخالفة للشيعة، والمنضوية تحت لواء الأمويين. وكان من أشد خصوم الشيعة أيضاً، جعفر ويحيى ابنا علي بن حمدون المعروف بالأندلسي (¬1)، وكان الأندلسي هذا قد استقر في "المسيلة" في المغرب الأوسط، وبسط حكمه على تلك الناحية، وخلفه ولده جعفر في إقطاعه، ولكنه خشي سطوة الشيعة، وسطوة عاملهم زيري، ففر وأخوه يحيى مع الأهل والمال إلى المغرب الأقصى، ولجأ إلى بني خزر أمراء زناتة الأقوياء، وألد خصوم الشيعة وصنهاجة. وكان رسل الحكم يروجون الدعوة في زناتة وحلفائهم لمحاربة الشيعة، ويمدونهم بالمال لحشد الرجال والعدة، فاجتمعت قوات بني خزر وجعفر ويحيى على قتال زيري، ودارت بينهما الحرب في وادي ملوية عند مشارف المغرب الأقصى، وانهزم الشيعة، وقتل زيري ومعظم رجاله بعد معركة طاحنة واحتوى الزناتيون على معسكره، وانهار بذلك سلطان الشيعة في المغرب، وكان ذلك في العاشر من رمضان سنة 360 هـ (يوليه 971 م). واحتز الظافرون رأس زيري ورؤوس عدة من أكابر صحبه. وحملها جعفر ويحيى وأصحابهما إلى الأندلس، وقدموها إلى الحكم، فحظوا لديه وغمرهم بعطفه وصلاته (¬2). ¬_______ (¬1) ذكر ابن حيان نقلا عن محمد بن يوسف بن عبد الله الوراق أن جعفراً وأخاه هما من أصل أندلسي، وهما ابنا على بن حمدون بن سملك بن سعيد بن إبراهيم. وكان منزلهم بالأندلس بكورة إلبيرة على مقربة من قلعة يحصب. وانتقل جدهما حمدون إلى إفريقية وتزوج من كتامة، ثم سافر إلى الحج، وتعرف هناك بأبي عبد الله الشيعي ودخل في مذهبه. ولما ظهر الشيعي بإفريقية واحتوى على ملك بني الأغلب حظى لديه، وحظى أبناؤه لدى الخلفاء الفاطميين، واستقروا مدى حين حكاماً للمسيلة. ثم اتهم زعيمهم جعفر بالإتصال ببني خزر، وتوعده الخليفة المعز بشر النكال ففر وأخوه في الأهل والمال إلى بني خزر أمراء زناته (راجع المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ - ص 33 - 36). (¬2) يقدم إلينا ابن حيان تفاصيل ضافية عن استقبال جعفر وأخيه يحيى حين مقدمهما إلى الأندلس برؤوس زيري وأصحابه، ودخولهما قرطبة في ركب ضخم برفقة صاحب السكة والمواريث وقاضي إشبيلية محمد بن أبي عامر، ثم استقبال الخليفة لهما ومن معهما من أعيان بني خزر، وذلك بالمجلس القبلي من قصر الزهراء، في حفل فخم رتبت فيه صفوف الجند وأهل الخدمة بأثوابهم =

وكان لهذه النكبة التي حلت بجيش الشيعة وصنهاجة، وقع عميق في الخلافة الفاطمية. فأمر الخليفة المعز قائده يوسف بن زيري بن مناد، المسمى بُلُكّين (بلقين) أن يسير في الجيوش إلى المغرب حسبما تقدم. فسار بلكلين، وهو ينزل ضرباته المتوالية بأتباع زنانة حيثما وجدوا في طريقه، وكانت منهم جموع غفيرة في المغرب الأوسط في بجاية، والمسيلة، وبسكرة، وتاهرت وغيرها، فمزقهم شر ممزق. ووصل بلكين في قواته، إلى المغرب الأقصى، في ربيع الثاني سنة 361 هـ، واستعد بنو خزر وسائر أمراء زناتة للقائه، ووقعت الحرب بين الفريقين، فهزمت زناتة شر هزيمة، وانتحر أميرها محمد بن الخير بن خزر وذلك بأن اتكأ على سيفه فذبح نفسه، حتى لا يقع في يد عدوه، ومزق بلكين زناتة كل ممزق، وهدم مدينة البصرة، وبسط سلطانه على معظم أنحاء المغرب، وقطع دعوة الأمويين، وحقق انتقامه لمقتل أبيه كاملا (¬1). وسارع الحسن بن كنون، القلَّب مع كل تطور جديد، إلى بيعة بلكين، والانضواء تحت لوائه، أو بعبارة أخرى، تحت لواء سادته الشيعة ولكن بلكين لم يمكث طويلا بالمغرب. إذ سرعان ما استدعاه سيده المعز - وكان يتخذ يومئذ أهبته للسفر إلى مصر، مقر ملكه الجديد - فارتد عائداً بقواته إلى إفريقية. ووقف الحكم على تطور الحوادث بالمغرب، فأزعجه ذلك وأهمه، وبادر ¬_______ = الزاهية، وقد رفعت رؤوس القتلى وعددها مائة وفي مقدمتها رأس زيري على القنوات. وكان دخولهم على الخليفة، في أواخر ذي القعدة سنة 360 هـ. واستقبلهم الخليفة بالبشر والرضى، وامتدح موقفهم وانصرافهم عن حزب الشيعة إلى مؤازرة حزبه. وعلى أثر انتهاء المقابلة، انزلوا في الدور التي خصصت لهم بقرطبة، ورتب الخليفة لكل من جعفر وأخيه يحيى نفقة شهرية قدرها ألف دينار، ورتب لمرافقيهم من بني خزر، كل ما يكفيه من النفقة والطعام. يقول ابن حيان بعد أن أورد لنا هذه التفاصيل الشائقة بإسهاب لا مزيد عليه: " فكان يوم جعفر بن علي ومن ورد معه من أحد الأيام العقم بقرطبة، في اكتمال حسنه وجلالة قدره، خلد حديثه زمناً في أهلها، قاضياً من عجب الجلالة، وكل شىء فإلى انقضاء، إلا إله الأرض والسماء، تعالى جده " (المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 44 - 53 وص 57). (¬1) راجع مجموعة " نبذ تاريخية في أخبار البربر في القرون الوسطى " المنتخبه من كتاب " مفاخر البربر " لمؤلف مجهول، والمنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (الرباط سنة 1934) ص 6 - 8، ويرجع الكاتب هذه الموقعة إلى سنة 360 هـ. وراجع أيضاً المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 36 و38.

بإعداد جيش ضخم، حسن الأهبة، لغزو المغرب، ومقاتلة الحسن بن كنون، تحت إمرة قائده محمد بن القاسم بن طملس، كما أمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بحشد الأسطول. وعبر محمد بن القاسم في قواته من الجزيرة الخضراء إلى سبتة، في شوال سنة 361 هـ (يوليه 972 م)، وكان الحسن بن كنون عندئذ في طنجة، فخرج في جموع البربر لقتال جيش الحكم، فوقعت عليه الهزيمة وقتل كثير من أصحابه، وفر هارباً تاركاً أمواله وعتاده بطنجة، واستسلم أهل طنجة إلى محمد بن القاسم، وأعلنوا طاعتهم للحكم؛ ودخل محمد طنجة واحتلها، وبعث إلى الحكم بفتحها. ثم طارد فلول الحسن بن كنون جنوباً حتى ثغر أصيلا، ودخلها. وفي تلك الأثناء كان الحسن قد جمع فلوله، وأعاد تنظيم قواته، وسار إلى لقاء جيش الحكم مرة أخرى، فالتقى الجمعان في مكان يعرف بفحص مهران؛ وهنا حالف الحسن حسن الطالع، فدارت الدائرة على جند الأندلس، وقتل منهم عدة كبيرة فرساناً ومشاة، وفي مقدمتهم قائدهم محمد بن القاسم، وبلغ القتلى من الفرسان وفق تقدير الرازي خمسمائة ومن الرجالة ألفاً، وكان ذلك في الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة 362 هـ، وفرت فلول الأندلسيين إلى سبتة فامتنعوا بها، وبعثوا إلى الحكم يطلبون الإنجاد والغوث (¬1). وأراد الحسن في نفس الوقت أن يستغل نصره بطلب الصلح، وتقديم الطاعة وتبادل الرهائن، وبعث أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بذلك إلى الحكم، فكتب الحكم إليه ومن معه من القادة يوصيهم بالاستمرار في مجاهدة الملحد، ومجاهدة من معه، حى يفتح الله عز وجل فيه وفيهم. وكان مما قاله في كتابه: " أن أفضل ما احتمل عليه، وعمل به، استشعار الحزم، وادراع التحفظ، واستنصاح الاتهام، وإذكاء العيون، وبث الجواسيس، والاستكثار منهم، ومن حملة الأخبار حتى لا يخفي لحسن - أهلكه الله - حركة، ولا يتوارى له مذهب ". ومما كتبه الحكم إلى عبد الرحمن بن يوسف بن أرمطيل قائد ثغر أصيلا، ¬_______ (¬1) راجع مجموعة " نُبذ تاريخية في أخبار البربر " التي سبق ذكرها ص 8. وابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 96.

رداً على ما أبداه الحسن من رغبة في الإنابة والصلح: " وكيف يذهب الآن هذا المذهب وهو في طغيانه مستمر، وفي دينه مستبصر، ولكم في كل أيامه محارب، هذا هو الضلال، والمحال عين المحال، وسبب الخبال، وقد رأى أمير المؤمنين تأمين جميع الناس لديه غيره، وغير من أصر إصراره، وتمادى تماديه، إلى أن يحكم الله عليه، ويفتح فيه " (¬1). وبادر الحكم في نفس الوقت، بحشد جيش جديد، ندب لقيادته مولاه ووزيره وكبير قواده غالباً بن عبد الرحمن " البعيد الصيت المعروف بالشهامة ". وأمده عدا الجند الكثيف، والعتاد الضخم، بأموال جليلة لاستمالة القبائل، وأمره أن يشتد في قتال الأدارسة، وأن يستأصل شأفتهم، وأن يطهر المغرب من كل القوى المناوئة لبني أمية. وقال له؛ " سر يا غالب مسير من لا إذن له في الرجوع إلا حياً منصوراً، أو ميتاً معذوراً، وابسط يدك في الإنفاق، فان أردت نظمت للطريق بيننا قنطار مال " (¬2). فخرج غالب في قواته الجرارة من قرطبة، وعبر البحر من الجزيرة الخضراء إلى قصر مصمودة (أو القصر الصغير) وذلك في الحادي عشر من رمضان سنة 362 هـ. وعلم الحسن بمقدمه، وعظيم أهبته، فغادر مدينة البصرة، الواقعة في الجنوب حيث كان يقيم، ولجأ بأهله وأمواله وذخائره إلى قلعة حجر النسر، الواقعة شمالها. ثم جمع قواته وخرج لقتال جيش الحكم، ونشب القتال بين الفريقين أياماً، وبث غالب في رؤساء البربر من غمارة وغيرهم من جند الحسن، الأموال والهدايا، فانفصلوا عنه، واضطر الحسن أن يمتنع بمن بقى معه في قلعة حجر النسر، فطارده غالب وضرب الحصار حول القلعة. وفي أوائل شوال بعث الحكم ثقته محمد بن أبي عامر إلى العدوة بأحمال من المال والحلي والخلع لتوزيعها على أكابر البربر الذين يمكن استمالتهم إلى جانب الخلافة. وأصدر الحكم في نفس الوقت مرسومه بتعيين ابن أبي عامر ¬_______ (¬1) ابن حيان - قطعة أكاديمية التاريخ ص 97 و98. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 218، وكذلك " نبذ تاريخية في تاريخ البربر " ص 9. وقد وردت هذه العبارة بصورة أخرى في كتاب نقله إلينا ابن حيان، وأرسله الحكم إلى غالب وهو بالعدوة ردا على كتاب منه، وجاء في خاتمته هذه العبارة: " فاستقبل نظرك استقبال من استشعر مذهب أمير المؤمنين ووطن فيه على أن لا مرجع إلا بما يحب أو يموت فيعذر ". راجع المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 131.

قاضياً لقضاة العدوة، إلى ما يتقلده من خطتى الشرطة الوسطى والعليا والمواريث وقضاء إشبيلية (¬1). ووصلت إلى غالب من الأندلس بعد ذلك أمداد جديدة، بقيادة الوزير يحيى بن محمد التجيبي وإخوته، يوسف ومحمد وهاشم وهذيل، ومعه جملة من المال (المحرم سنة 363 هـ) ونزل يحيى وجنده بطنجة، وانضموا إلى قوات القائد الأعلى غالب. وشدد غالب الحصار على الحسن، وقطع سائر علائقه وموارده، وبث قواته في سائر الأنحاء لمطاردة الأدارسة، واستئصال شأفتهم. ونشبت بين جند الحكم وبينهم معارك عديدة، قتل فيها الكثير منهم. وفي صفر سنة 363 هـ استولى غالب على مدينة البصرة، وسلمها إليه أهلها، بعد أن قتلوا نائبها الحسنى. وكان ضمن حاشية غالب الشاعر محمد بن حسين التميمي المعروف بالطبني، بعثه إليه الحكم تحقيقاً لرغبته لكي يساعده بنظمه على اكتساب ولاء المنشقين على الحسن (¬2). وفي تلك الأثناء، كان الحسن قد أجهده الحصار، وأشرف على الهلاك، ومن معه من أهله ورجاله، فاضطر في النهاية إلى طلب الأمان والتسليم، وأعلن طاعته للحكم (جمادى الآخرة سنة 363 هـ)، ودخل غالب قلعة حجر النسر، ودعى في مسجدها للحكم. ووصلت هذه الأنباء السارة إلى الحكم، وأعلنها الحكم في جامع قرطبة، بعد ذلك بأيام قلائل. وتتبع غالب سائر من بقي من الأدارسة ببلاد الريف حتى استأصل شأفتهم، وقضى على دولتهم. وسار إلى مدينة فاس ودخلها، وعين لها حاكماً من قبله، وتم بذلك إخضاع المغرب للدعوة الأموية. وكان قد وصل من العدوة قبل هزيمة الحسن، عدد كبير من القبائل والبطون البربرية الخارجة عليه، الجانحة إلى طاعة الحكم. وكان بين هؤلاء عدد كبير من فرسان قبائل كتامة يبلغون زهاء ثلاثة آلاف وخمسمائة فارس، ورئيسهم أبو العيش بن أيوب، وقد عقد له الحكم على قومه، وأصدر له بذلك سجلا من إنشاء صاحب المواريث جعفر بن عثمان، يبين فيه واجباته وسلطاته ولا سيما في شئون الجباية، وأصدر الحكم سجلات مماثلة لزعماء القبائل والبطون البربرية الأخرى، وقد ذكرها لنا ابن حيان، وذكر أسماء زعمائها (¬3). ¬_______ (¬1) ابن حيان - قطعة أكاديمية التاريخ ص 123. (¬2) ابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 109. (¬3) ابن حيان في المقتبس قطعة أكاديمية التاريخ ص 110 - 115.

وفي أواخر ذي الحجة سنة 363 هـ، عبر القائد الأعلى غالب البحر إلى الجزيرة الخضراء، تاركاً شئون العدوة للقائد يحيى بن محمد بن هاشم التجيبي تحقيقاً لرغبة الحكم؛ وكان في ركب القائد الأعلى المظفر، الحسن بن كنون وسائر أهله وشيعته من زعماء الأدارسة ومعهم الأهل والولد. وصدر قبيل ذلك في قرطبة، عن أمر الخليفة الحكم، كتاب طويل من إنشاء الوزير جعفر ابن عثمان قرىء على سائر منابر الأندلس، وفيه ينوه بما من الله على خليفته من كفالة أمر المسلمين، وقمع عدوان النصارى بالأندلس، ثم مطاردة الشيعة أهل البدع بالعدوة، وما منحه الله من النصر على المخالفين " حتى استوثقت الطاعة في جميع بلاد المغرب وقامت الدعوة بمنابر قواعده " (¬1). وأشرف غالب في ركبه الحافل على قرطبة في أوائل المحرم سنة 364 هـ، وأنزل الأشراف الحسنيون المرافقون له في الدور التي أعدت لهم بقرطبة وأرباضها. وخرج الجند من مدينة الزهراء في صبيحة يوم الخميس الخامس من محرم لتلقي القائد المظفر، والمسير بين يديه، وعلى رأسهم عدة من الفتيان ورؤساء الخدمة، ودخل غالب قرطبة في عسكره، وفي ركبه الأشراف الأدارسة، ونزل بفحص الناعورة؛ ويصف لنا ابن حيان في تفصيل شاف موكب القائد غالب، وركبه المظفر الفخم، ومن كان يحف به أو يتبعه من الفرسان المدرعين وأهل الخدمة والصقالبة، والعبيد الرماة وغيرهم من أصحاب الطبول والقرون والبنود والرايات. ودخل غالب في موكبه الفخم مدينة الزهراء من باب السُّدة، ونفذ إلى القصر، وأنزل الأدارسة الذين معه في المجالس القبلية بدار الجند. وكان الخليفة الحكم قد جلس لاستقباله في المجلس الشرقي المشرف على الرياض، وقد حف به الإخوة، وجلس من بعدهم الوزراء والحجاب وأصحاب الشرطة والمدينة والقضاة وسائر أهل الخدمة، كل في مكانه المعهود. واستقبل الخليفة زعماء الأدارسة، وشيخهم حنون بن أحمد بن عيسى، وشكر طاعتهم، وعفا عن الحسن، ووعدهم بالإحسان، وأجزل لهم الأرزاق والصلات (¬2). وعين من حاشيتهم في ديوانه، سبعمائة من أنجادهم. واستمر الحسن وذووه على ذلك زهاء عامين. ثم وقعت ¬_______ (¬1) راجع الكتاب المذكور في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 178 - 182. (¬2) ابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 194 - 200.

النفرة بينه وبين الحكم لأسباب منها، " سوء خلق الحسن ولجاجته ". قال المؤرخ: " وكان الحسن بن قنون هذا جاهلا متهوراً فظاً، شديد الجرأة، قاسي القلب ". ولم ينس الحكم ما كان من قسوته وفظاعته نحو جنده أيام الحرب بينهما، حيث كان الحسن يلقي بالأسرى من جند الأندلس من أعلى قلعته الشامخة فيصلون إلى الأرض إرباً (¬1). وهكذا ثقل وجوده وذووه في قرطبة. ومن جهة أخرى فقد كان الحاجب جعفر بن عثمان المُصْحفي يتوجس شراً من وجود الحسن وصحبه، ويستثقل نفقاتهم، وينصح بإخراجهم من الأندلس. فرأى الحكم أن يقصيهم من مملكته، وأن يتخلص من نفقاتهم الباهظة، وأن يبعث بهم إلى المشرق. وهكذا أخرج الحسن وعشيرته من قرطبة، وركبوا البحر من ألمرية إلى تونس سنة 365 هـ (975 م)، ثم ساروا إلى مصر، حيث نزلوا في كنف خليفتها الفاطمي العزيز بالله، فأكرم وفادتهم، ووعدهم بنصرة قضيتهم. واستقر الحسن بمصر بضعة أعوام، حتى سنة 373 هـ، وعندئذ بعثه العزيز بعهد منه، إلى بلكين بن زيري بن مناد بالقيروان، يطلب إليه إمداده وعونه، على تنفيذ مشاريعه، إلى أن كان من أمره ما سيجىء (¬2). وكان غرسية فرناندز، ولد فرنان كنثالث، صاحب قشتالة وألبة، قد خلف أباه في الحكم، منذ وفاته في سنة 970 م. وكان مثله يتبع سياسة النفاق والمصانعة، في إظهار رغبته في السلم، ثم يقوم في الوقت نفسه بالإغارة على الأراضي الإسلامية، كلما سنحت الفرص. فلما شغل الحكم بحوادث المغرب، وعبرت الجيوش الأندلسية وقوادها الأكابر، إلى العدوة، بعث غرسية قواته، فأغارت على أراضي المسلمين، واقتحمت حصن دسة الواقع شمال شرقي مدينة سالم، والذي يتوسط أراضي بني عمريل بن تيملت الثغري. ووقع هذا الاعتداء في شهر ذي الحجة سنة 363 هـ (صيف سنة 974 م)، وأحرق النصارى الزروع واستاقوا الماشية. فخرج في أثرهم زروال ومضاء، ولدا عمريل، واليا هذه ¬_______ (¬1) " نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 10 و 14. (¬2) راجع في سرد هذه الحوادث المغربية: البيان المغرب ج 2 ص 261 - 265، وابن خلدون ج 6 ص 216 - 219، والاستقصاء ج 1 ص 86 - 88. و" نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 6 - 12.

المنطقة، في أصحابهما، واستنقذوا الماشية، وقتلوا عدداً من النصارى؛ ولكن النصارى تكاثروا عليهم بعد ذلك، ووقعت بين الفريقين معركة قتل فيها زروال. ومن الغريب أن غرسية فرناندز، كان قبل هذا الاعتداء بقليل، قد بعث رسله إلى قرطبة، في طلب السلم والمهادنة، فأجابهم الحكم إلى ما طلبوا؛ وما كادوا ينصرفون من قرطبة، حتى جاءت الأنباء بما حدث من اعتداء القشتاليين، فبعث الحكم لفوره أفلح صاحب الخيل، في سرية من وجوه الجند، للقبض على السفراء القشتاليين، فهرعت في أثرهم واستطاعت أن تظفر بهم، وأعيدوا إلى قرطبة حيث زجوا إلى السجن. ووفد على الحكم في العام التالي، أبناء عمريل الخمسة بعد وفاة أبيهم، وشهد القائد الأعلى غالب بن عبد الرحمن، بحزمهم وحسن طاعتهم، وأوصى بتقليدهم عمل والدهم، فقسمت بينهم الأراضي والحصون، على رضا منهم، وغمرهم الحكم بالخلع والصلات (¬1). وكان من الأحداث البارزة في أواخر سنة 363 هـ، ما وقع من نكبة جعفر ويحيى ابني على بن حمدون الأندلسي. وكانا قد استقرا في قرطبة، في كنف الحكم وتحت سابغ رعايته. وكان الحكم قد ابتاع منهما عبيدهما الذين استعفوا من خدمتهما، ودفع الثمن إليهما، وتم فصل العبيد عنهما، وضمهم الحكم إلى جنده لما كانوا يتصفون به من الشجاعة والبأس، وكان لذلك فيما يبدو أثر سيىء في نفسيهما، فقيل إنهما تكلما في حق الخليفة بما لا يحمد، وجاهرا بامتداح خلفاء الشيعة، سادتهم الأوائل، ونمى ذلك إلى الحكم، فأمر في الحال بالقبض عليهما، وزجا مكبولين إلى سجن الزهراء. وكان ذلك في شوال سنة 363 هـ، ولبثا في المطبق بضعة أشهر، حتى عاد الخليفة فعفا عنهما، وأمر بإطلاق سراحهما، وذلك في رجب من العام التالي، فأقرا بالذنب وطلبا الإنابة والصفح، فأسعفهما الخليفة بما طلبا، وغمرهما بصلاته (¬2). ¬_______ (¬1) راجع ابن حيان في " المقتبس " قطعة مكتبة أكاديمية التاريخ (ص 73 و188 و189). وراجع بحثاً في ذلك الموضوع للعلامة كوديرا عنوانه: Embajodores de Castilla encarcelados en Cordoba de los ultimos anos de Alhakam II (B.R.A.H.Tom. XIV, 1889)) (¬2) ابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 171 - 174.

وعمد الحكم في نفس الوقت إلى اصطناع البربر وفرسانهم، لما لقيه منهم في حربه ضد الحسنيين الأدارسة، من المجالدة ووفرة البأس والشجاعة، فأكرم وفادتهم، وألحقهم بجنده، وأجزل لهم العطاء. وكان في مقدمة هؤلاء بنو برزال الذين أبلوا من قبل في محاربة زيرى بن مناد الصنهاجى، وكانوا قد عبروا إلى الأندلس، وأغضى الحكم عن انحيازهم إلى مبادئ الخوارج الإباضية. وهكذا اجتمعت للحكم من عبيد جعفر ويحيى ومن داخلهم من أحرار البربر الوافدين، قوة عسكرية بربرية تضم نحو سبعمائة فارس من خيرة الشجعان (¬1). وفي شهر جمادى الآخرة سنة 364 هـ أصدر الحكم أوامره بإسقاط سدس المغرم (الضرائب) الواجب أداؤه على سائر الرعايا عن هذه السنة، وأنفذ بذلك مرسومه إلى سائر القواد والعمال بمختلف الكور، وقرر أن يكون هذا السدس شائعاً في الناس يستوي في معرفته العالم منهم والجاهل، وذلك ترفيهاً لهم وتحقيقاً لمصالحهم (¬2). وفي شهر رجب من هذه السنة، بعث الحكم، نظراً لما بدا من تحركات النصارى في مختلف الأنحاء، عدداً من أكابر رجال المملكة إلى كور الأندلس لحث أهلها على ارتباط الخيل، والاستعداد لمؤازرة جيش الصائفة، وكان ممن بعث من رجالاته صاحب الشرطة العليا، يحيى بن عبيد الله بن يحيى، بعثه إلى كور الجوف، وبعث قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس إلى كور الشرق، وبعث أحمد بن محمد بن سعد الجعفري إلى الغرب، نحو شنترين وما إليها، وبعث آخرين لنفس الغرض (¬3). وفي أوائل شعبان سنة 364 هـ (ابريل 975 م) هاجم جيش مشترك من الجلالقة والقشتاليين والبشكنس، حصن غرماج الواقع على نهر دويرة على مقربة ¬_______ (¬1) ابن حيان - قطعة أكاديمية التاريخ ص 191 و192. (¬2) المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 208. وقد أورد لنا ابن حيان نص هذا المرسوم كاملا (ص 207 و208) وفيه يقرر الحكم أنه أصدر مرسومه المذكور " لما تظاهرت آلاء الله تعالى عليه، وحسن بلائه عنده " وأنه " رأى أن يجدد له الشكر " ويمتري منه المزيد بإسقاط سدس جميع مغرم الحشود الواجب تقاضيها منهم لسنة أربع وستين وثلاثمائة، تخفيفاً عن رعيته وإحساناً إلى أهل مملكته. (¬3) المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 216.

من مدينة سالم، ونشب وبينه وبين حاميته الإسلامية قتال عنيف. وشجع النصارى على انتهاك السلم المعقود بينهم وبين الخليفة، اعتقادهم بأن قوى الأندلس كلها ما تزال مشغولة بحروب العدوة. وانقلب النصارى إزاء بسالة الحامية الإسلامية إلى محاصرة الحصن، ووافتهم أمداد أخرى جاءت لتشد أزرهم. وما كاد الحكم يقف على هذه الأنباء حتى بعث كبير قواده غالباً بن عبد الرحمن في قوة مختارة غادرت قرطبة على عجل. وبعث الحكم في أثرها أحمال المال للإنفاق على الصائفة. واستمر حصار النصارى لغرماج حتى شوال من تلك السنة. وجاءت للنصارى أمداد جديدة من جند ليون، سيرتها الراهبة إلبيرة الوصية على ملك ليون، ناكثة بذلك عهدها في التهادن والسلم. وفي منتصف شوال، هاجم النصارى الحصن، وهم في أكثر من ستين ألفاً، محاولين اقتحامه، ونشبت بينهم وبين الحامية الإسلامية معركة طاحنة انتهت بهزيمة النصارى وتبديد شملهم، فبادرت صفوفهم بالارتداد عن الحصن بعد أن فقدوا كثيراً من جندهم وعتادهم، وطاردهم المسلمون، فقتلوا منهم جموعاً أخرى، وأحرزوا غنائم جمة. وبعث المسلمون إلى الوزير غالب، وهو مقترب منهم لنصرتهم، بنبأ هذا الظفر، فأنفذه من فوره إلى الخليفة، وسار إلى الحصن ونزل به، ثم خرج في قواته، فعاث حيناً في أراضي قشتالة، وانتسف الزروع، وخرب القرى، وتقدمت قوة بعث بها غرسية فرنانديز صاحب قشتالة لمدافعة المسلمين، فهزمت وردت إلى أعقابها (¬1). * * * تولى الحكم المستنصر الملك، حسبما أسلفنا، وهو كهل في الثامنة والأربعين من عمره، ولم يكن إلى ذلك الحين قد أنجب ولداً، وكان ذلك مما يثير قلقه وجزعه، إذ كان يتوق أن يكون له وريث في الملك. ومن ثم فقد سر أيما سرور حينما ولدت له حظيته " جعفر " أو صبح النافارية، ولداً سماه عبد الرحمن (سنة 351 هـ - 962 م)، وكان مولده حادثاً خطيراً، نوهت به الشعراء والأدباء. ولكن هذا الولد توفي طفلا، فحزن الحكم لفقده أيما حزن. على أن القدر لم يلبث ¬_______ (¬1) المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 218 و219 و234 - 237.

أن حباه مرة أخرى، إذ ولدت "جعفر" ولداً آخر سماه أبوه هشاماً وكنيته أبو الوليد، فكان ولي عهده الملقب بالؤيد. " فعظم استبشاره به وسروره بموهبة الله فيه " (¬1). وحضر الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي وقت البشارة بولادته، وأنشد هذه الأبيات: أطلع البدر في سحابه ... وأطرف السيف من قرابه وجاءنا وارث المعالي ... ليثبت الملك في نصابه بشرنا سيد البرايا ... بنعمة الله في كتابه وكان مولد هشام المؤيد سنة 354 هـ (965 م)، وكان مؤدبه مذ بلغ الثامنة من عمره الفقيه أحمد بن محمد بن يوسف القسطلي، وقد أمر الحكم بأن تعد لتعليمه الدار المعروفة بدار الملك بقصر الزهراء، وأن تزود بجميع ما يحتاج إليه لذلك. وكان قعود هشام مع مؤدبه في المجلس الشرقي منها في رمضان سنة 361 هـ، وندب الحكم وصيفه الفتى ذكاء ناظراً للأمير متكفلا بشئونه (¬2). وفي أواخر سنة 363 هـ ندب الخليفة العلامة النحوي أبا بكر الزبيدي الإشبيلي ليقوم بتدريس العربية وعلومها لولي العهد. وفي العام التالي ندب الفقيه المحدث يحيى بن عبد الله ابن يحيى ليقوم بإسماعه الحديث. وكان يومئذ عمدة المحدثين بقرطبة (¬3). وسنرى أي دور عظيم تلعبه فيما بعد، أم هشام جعفر أو صبح النافارية، على مسرح الحوادث. وأما عن شخص الحكم، فقد كان حسبما تصفه الرواية، أبيض مشرباً بحمرة، أعين، أقنى، جهير الصوت، قصير الساقين، ضخم الجسم، غليظ العنق، عظيم السواعد، أفقم (¬4). * * * يمتاز عصر الحكم المستنصر بظاهرة، من ألمع الظواهر في تاريخ الدولة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 252 و253، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 43. (¬2) ابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 76 و77. (¬3) المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 133 و216. (¬4) البيان المغرب ج 2 ص 249. والأعين هو ذو العينين السوداوين النجلاوين، والأقنى ذو الأنف المرتفع الأعلى والمحدودب الوسط، والأفقم أي الأعرج.

الأندلسية، هي ازدهار العلوم والآداب أعظم ازدهار، وإنشاء المكتبة الأموية العظيمة، التي كانت بضخامتها، وتنوع محتوياتها، من أعظم مكتبات العصور الوسطى. ويرجع ذلك قبل كل شىء إلى شخصية الحكم نفسه، وإلى صفاته العلمية الممتازة، التي نوه بها أكثر من مؤرخ أندلسي، وإلى شغفه العظيم بجمع الكتب، وهو شغف كان له أكبر الأثر في ملىء خزائن الأندلس بنفائس الكتب، من كل فن ومن كل قطر، من أقطار العالم الإسلامي. وقد أشاد ابن حيان مؤرخ الأندلس - وقد عاش قريباً من عصر الحكم - بصفات الحكم العلمية، وتقدمه في العلوم الشرعية، وعنايته بتحقيق الأنساب وتأليف قبائل العرب، واستدعاء رواة الحديث من جميع الآفاق، وإيثار مجالس العلماء، وشغفه بجمع الكتب بصورة لم يسمع بها (¬1). ويشاطره معاصره الفيلسوف ابن حزم، هذا الإعجاب بصفات الحكم العلمية، ويذكر لنا في أكثر من موضع من مؤلفه الجامع في الأنساب، أنه ينقل من خط الحكم (¬2). ويجمل ابن الخطيب هذه الصفات في قوله: " وكان رحمه الله (أى الحكم) عالماً فقيهاً بالمذاهب، إماماً في معرفة الأنساب، حافظاً للتاريخ، جماعاً للكتب، مميزاً للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مصر وأوان، تجرد لذلك، وتهمم به، فكان حجة وقدوة، وأصلا يوقف عنده " (¬3). وقد انتهت إلينا تفاصيل مدهشة عن الدور العظيم الذي قام به الحكم في إنشاء المكتبة الأموية الكبرى. وكانت هذه النزعة الأموية، إلى تشجيع العلوم والآداب وجمع الكتب، قد بدت منذ عصر عبد الرحمن الداخل. وفي عهد الأمير محمد ابن عبد الرحمن كانت المكتبة الأموية بالقصر، أعظم مكتبات قرطبة. وكان عبد الرحمن الناصر يشغف بجمع نفائس الكتب من سائر الآفاق، حتى أن قيصر ¬_______ (¬1) الحلة السيراء، نقلا عن ابن حيان ص 101 و102. (¬2) جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة) ص 281 و282 و292 و374 و375 و384، 398. وقد وضع الحكم بالفعل كتاباً في " أنساب الطالبيين والعلويين القادمين إلى المغرب " (نفح الطيب ج 2 ص 79). (¬3) أعمال الأعلام ص 41.

قسطنطينية حينما أرسل إليه سفارته الشهيرة، حرص على أن يهديه كتابين من ذخائر الأقدمين هما كتاب ديسقوريدس عن الأعشاب الطبية وتاريخ أورسيوس. ولما توفي الناصر، عنى ولده الحكم بجمع مكتبات القصر وتنظيمها، لتكون بداية طيبة للمكتبة الأموية العظيمة، التي أنفق بقية عمره في جمعها وتنسيقها (¬1). ويقول لنا ابن حيان في دهشة وإعجاب إنه " لم يسمع في الإسلام بخليفة، بلغ مبلغ الحكم في اقتناء الكتب والدواوين، وإيثارها والتهمم بها. أفاد على العلم، ونوه بأهله، ورغب الناس في طلبه، ووصلت عطاياه وصلاته إلى فقهاء الأمصار النائية". وكان الحكم يبعث إلى أكابر العلماء المسلمين من كل قطر، بالصلات الجزيلة، للحصول على النسخ الأولى من مؤلفاتهم. ومن ذلك أنه بعث إلى أبي الفرج الأصفهاني ألف دينار من الذهب العين، ليحصل منه على نسخة من كتابه "الأغاني". فأرسل إليه منه نسخة حسنة منقحة، قبل أن يحصل عليه أحد في العراق أو ينسخه أحد منهم، وأرسل إليه أبو الفرج أيضاً - وهو ممن ينتمون إلى المروانية بني أمية - كتاباً ألفه في أنساب قومه بني أمية، يشيد فيه بمجدهم ومآثرهم، فجدد له الحكم الصلة الجزيلة (¬2). وفعل الحكم مثل ذلك مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي، إذ بعث إليه بمبلغ جليل ليحصل على النسخة الأولى من شرحه لمختصر ابن عبد الحكم. وأسبغ الحكم رعايته على اللغوي الكبير أبى علي القالي، الذي وفد من العراق على أبيه الناصر، وقربه إليه، وألف كتبه تحت كنفه، وأورث أهل الأندلس علمه (¬3). وأهدى إليه أبو عبد الله الخشني بعض كتبه ومنها كتاب "القضاة" أو "قضاة قرطبة" (¬4)، وأهدى إليه مطرف ابن عيسى الغساني، كتابه المسمى بالمعارف في " أخبار كورة إلبيرة "، كما أهدى إليه كثير من علماء العصر مؤلفاتهم، تيمناً برعايته للعلم والعلماء. وكان للحكم طائفة من مهرة الوراقين بسائر البلاد، ولاسيما في بغداد والقاهرة ودمشق، ينقبون له عن الكتب، ويحصلون منها على النفيس والنادر، كما كانت له في بلاطه طائفة ¬_______ (¬1) J.Ribera: Disertaciones y Opusculos (Madrid 1928) p. 191 & 192 (¬2) الحلة السيراء - عن ابن حيان ص 102. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 146. (¬4) راجع كتاب قضاة قرطبة للخشني (المقدمة).

أخرى، من البارعين في نسخ الكتب، وتحقيقها، وتجليدها، وتصنيفها. وبذل في هذا السبيل من الجهود والأموال ما لم يسمع به، واجتمع لديه من نفائس الكتب في مختلف العلوم، ما لم يجتمع لأحد قبله. ولما ضاقت أبهاء القصر الخليفي، عن استيعاب العدد العظيم، من الكتب الواردة إليها باستمرار، أنشأ الحكم على مقربة من القصر صرحاً عظيماً خاصاً بالمكتبة، افتن المهندسون في ترتيبه وتنسيقه، وإنارة أبهائه. قال ابن حزم " ملأ الأندلس بجميع كتب العلوم " وذكر لنا أن تليداً الفتى - وكان على خزانة العلوم بقصر بني أمية بالأندلس - أخبره أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، في كل فهرسة خمسون ورقة، ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط (¬1). وعهد الحكم بإدارة المكتبة الأموية العظيمة إلى أخيه عبد العزيز. وعهد بالإشراف على جامعة قرطبة وأساتذتها إلى أخيه المنذر. وكان يقضي معظم أوقاته بمدينة الزهراء، في أبهائها المنيفة وظلالها الهادئة، معتكفاً على القراءة والدرس برفقة صفيه محمد بن يوسف الحجاري، الذي كتب له تاريخ الأندلس والمغرب، وتواريخ أخرى لبعض المدن. وكان من أصفيائه في تلك المجالس أيضاً، الفتى سابور الفارسي، الذي قدم بدعوته إلى قرطبة، واختاره ليكون وصيفاً خاصاً له، وكان من أعلم أهل عصره (¬2). ولم يكن هذا الشغف بجمع الكتب، في عصر الحكم، قاصراً على الأمير، فقد عنى كثير من كبراء العصر وعلمائه، بانشاء مكتبات خاصة زاخرة بنفائس الكتب. وشغف النساء المثقفات كذلك بجمع الكتب، وإنشاء المكتبات، ومن أشهر هؤلاء عائشة بنت أحمد بن قادم، وكانت من أبرع نساء عصرها، علماً وأدباً وشعراً، وكانت خزانة كتبها من أغنى وأقيم المكتبات الخاصة. وكانت سوق الكتب في قرطبة، من أشهر الأسواق وأحفلها بالحركة. بل لقد سرى هذا الشغف باقتناء الكتب إلى النصارى واليهود أنفسهم، وكان الكثير منهم يجيدون اللغة العربية، ويتذوقون ثمرات التفكير العربي من أدب وشعر وفلسفة وغيرها. وكان من أشهر هؤلاء الطبيب اليهودي حسداي، طبيب الحكم الخاص، وفي ¬_______ (¬1) جمهرة أنساب العرب ص 92. ونقلها ابن الأبار في الحلة السيراء ص 103. (¬2) Modesto Lafuente: Historia General de Espana ; T. III, p. 337.

ظله وتحت رعايته كتب يهود قرطبة باللغة العربية، وألفوا بها مختلف الكتب، وكان من أشهر المكتبات الأندلسية الخاصة فيما بعد، مكتبة يوسف بن إسماعيل ابن نغرالة اليهودي، وزير باديس أمير غرناطة (¬1). وإلى جانب هذا الشغف بالكتب والثقافة العالية، كان التعليم العام في عهد الحكم يجوز نهضة عظيمة، وكان أبناء الشعب جميعاً يعرفون القراءة والكتابة، هذا بينما كان أرفع الناس مكانة في أوربا - خلا رجال الدين - لا يعرفون. وأسس الحكم عدداً كبيراً من المدارس يتعلم فيها الفقراء مجاناً. أما جامعة قرطبة، فقد كانت يومئذ من أشهر جامعات العالم، وكان مركزها في المسجد الجامع، وتدرس في حلقاتها مختلف العلوم، وكان يدرس الحديث أبو بكر ابن معاوية القرشي، ويملي أبو علي القالي ضيف الأندلس دروسه عن العرب قبل الإسلام، وعن لغتهم وشعرهم وأمثالهم، وكان ابن القوطية يدرس النحو، وكان يدرس باقي العلوم أساتذة من أعلام العصر، وكان الطلبة يعدون بالآلاف (¬2). وكان الحكم يسبغ رعايته على سائر العلماء من مختلف الملل والنحل، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. ومن شواهد هذه الرعاية أن الأسقف العالم ريثموندو الإلبيري، المسمى باسمه العربي، ربيع بن زيد، كان أثيراً لديه متمتعاً برعايته، لتبحره في علم الفلك، والعلوم الفلسفية، وهي من الدراسات التي كان يعني بها الحكم. وكان هذا الحبر القرطبي عالماً مبرزاً، متمكناً من الآداب العربية واللاتينية، وكان الناصر والد الحكم يقدر علمه ومواهبه، ويحبوه بعطفه ورعايته بالرغم من نصرانيته، وكان يشغل مكانة هامة في القصر (¬3). يقول العلامة دوزي: " وعلى العموم فإن إغداق الحكم على العلماء الإسبان والأجانب لم يعرف حداً، وقد كانوا يهرعون إلى بلاطه. وكان المليك يشجعهم ويوليهم رعايته، حتى الفلاسفة استطاعوا في ظله أن ينصرفوا إلى بحوثهم دون ¬_______ (¬1) كتاب الصلة لابن بشكوال (القاهرة) ج 2 ص 654، وكذلك J.Ribera: ibid., p. 199-202 (¬2) Dozy: Histoire des Musulmans d'Espagne, Vol.II, p. 184 & 185 (¬3) F.J.Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana (Madrid 1897) , p. 607 & 612.

خوف من أن يقتلهم الأتقياء الورعون " (¬1). ويبدي النقد الحديث تقديره وإعجابه بتلك النزعة العلمية التي امتاز بها الحكم، والتي سادت كل عصره. فمثلا يقول لنا المؤرخ الإسباني موديستو لافونتي: " كانت دولة الحكم الثاني دولة الآداب والحضارة، كما كانت دولة أبيه دولة العظمة والبهاء. وإن الرواية العربية لتحبو الحكم بكثير من جميل الذكر. فهل نغضى نحن عن تسجيل إعجابنا بما لهذا الأموي المستنير من الصفات الباهرة، لأنه كان مسلماً ولم يكن نصرانياً؟ إن ذلك يعني أننا ننكر فضائل أمثال أوغسطوس وتراجان وأدريان وماركوس أوريليوس، لأن أولئك القياصرة العظام لم يكونوا نصارى. إن السلم الذي وطده أكتافيوس في اسبانيا الرومانية، قد وطده الحكم في اسبانيا العربية؛ وقد قدم الحكم، كما قدم أكتافيوس من قبل، الأدلة على أن الرغبة في السلم، لم تكن لأنه لا يعرف الحرب ولا النصر، ولكن لأنه كان يؤثر إلهام القريض، ويؤثر الكتب على خزائن السلاح، وإكليل الجامعات الحقيقي على إكليل الحروب الدموي. لقد أعيد عصر أوغسطوس في اسبانيا بعد ألف عام في صورة جديدة، وقد تحول بلاط قرطبة إلى نوع من الأكاديمية العظيمة، وأغدق على ثمرات العبقرية فيض الإغداق والكرم الرائع، ونستطيع أن نقدر مدى التضحيات العظيمة، ومدى الصبر، والمثابرة، والنفقات التي أمكن أن يتحقق بها إنشاء تلك المجموعة المدهشة، من أربعمائة ألف إلى ستمائة ألف مخطوط، هي محتويات مكتبة قصر بني مروان ". ثم يشير موديستو لافونتي بعد ذلك إلى أن هذا المستودع الزاخر من ثمرات العقل، وتلك الحضارة التي وصل إليها العرب في عصر الحكم، كانت قد وضعت بذورها من قبل، وتعاقب أمراء بني أمية منذ عبد الرحمن الداخل في تعهدها بالغرس والنماء، وقد كانوا جميعاً من أهل العلم والأدب، ومن حماة العلوم والآداب. ثم يختتم تعليقه على عصر الحكم بقوله: " لقد جاء هذا الخليفة الشهير الذي يعشق الآداب في عهد سعيد من السلم، ولما كانت بذور التمدن موجودة من قبل، فقد تفتحت في ظل رعايته، وازدهر ¬_______ (¬1) Dozy: Histoire des Musulmans d'Espagne ; Vol.II, p. 189

الغرس ازدهاراً عظيماً، حتى أنه بعد الحرث الكثير، والمطر الغزير، بدت شمس وضاءة رائعة منعشة " (¬1). وقد اختلف في تقدير محتويات المكتبة الأموية العظيمة، التي أنشأها الحكم المستنصر، فقدرها بعض المؤرخين بأربعمائة ألف مجلد، وقدرها البعض الآخر بستمائة ألف (¬2). وكانت توجد في قواعد الأندلس الأخرى، عدا مكتبة قرطبة العظيمة زهاء سبعين مكتبة أخرى (¬3). وهذا وحده يكفي للدلالة على مدى التقدم العظيم، الذي بلغته الحركة الفكرية والأدبية في الأندلس، في هذا العصر الزاهر. ولبثت المكتبة الأموية العظيمة قائمة بقصر قرطبة، حتى وقعت الفتنة الكبرى في سنة 400 هـ، وحاصر البربر قرطبة، فأخرجت معظم الكتب من خزائنها خلال الحصار، وبيعت بأمر الفتى واضح مولى المنصور بن أبي عامر، ثم نهب ما تبقى منها عند اقتحام البربر لقرطبة، حسبما نذكر بعد (¬4). * * * وشعر الحكم في أواخر عهده، بأعراض الضعف والمرض تدب إليه، فانتقل من قصر الزهراء وفقاً لنصح أطبائه، لغلبة برد الجبل عليه، وقضى حيناً في منية ناصح، ومنية الناعورة، ثم انتقل إلى قصر قرطبة. وعقد العزم على تأمين ولاية العهد لولده الطفل هشام. وتم ذلك في شهر جمادى الثانية سنة 365 هـ (5 فبراير سنة 976 م) حيث جلس الحكم بقصر قرطبة، وأعلن عزمه في تقليد ولده عهد الخلافة من بعده، وأخذت البيعة بالفعل من الحاضرين، وأخرجت كتبها لسائر الخاصة والعامة. وتولى أخذها على الناس وفق مراتبهم، محمد بن أبي عامر، وهو يومئذ صاحب الشرطة والمواريث، وكان من قبل كافلا لهشام، وميسور الفتى الكاتب مولى صبح، ثم دعى لهشام في الخطبة بالأندلس والمغرب، ونقش اسمه في السكة. ¬_______ (¬1) Modesto Lafuente: Historia General de Espana (Barcelona 1889) , Tom. II ; p. 364-367 (¬2) نفح الطيب ج 1 ص 184. (¬3) Prescott: Ferdinand and Isabella of Spain, p. 187. (¬4) ابن خلدون ج 4 ص 146.

وينعى ابن حيان على الحكم هذه السياسة في اختيار ولده الطفل لولاية العهد، فيقول إنه أي الحكم على ما وصف من رجاحة " كان ممن استهواهم حب الولد، وأفرط فيه، وخالف الحزم في توريثه الملك بعده، في سن الصبا دون مشيخة الأخوة، وفتيان العشيرة، ومن يكمل للإمامة بلا محاباة، فرط هوى، ووهلة انتقدها الناس على الحكم، وعدوها الحانية على دولته. وقد كان يعيبها على ولد العباس قبله، فأتاها هو مختاراً ولا مرد لأمر الله ". وأصيب الحكم بعد ذلك بقليل، بشلل أقعده عن الخروج والحركة، ويقول لنا ابن حيان إن الحكم كان يعاني من هذه " العلة الفالجية " ولا يكاد يستفيق منها (¬1) فلزم فراشه، وتولى تدبير الشئون خلال مرضه، وزيره جعفر بن عثمان المصحفي. ثم توفي بعد ذلك بأشهر قلائل، في اليوم الثاني من صفر سنة 366 هـ (30 سبتمبر سنة 976 م) (¬2). * * * وكان الحكم المستنصر من خيرة أمراء بني أمية خلقاً وعلماً وعدلا. وتنوه الرواية الإسلامية في غير موطن بجميل خلاله وصفاته. فيقول لنا ابن الأبار: " وكان حسن السيرة، فاضلا عادلا، مشغوفاً بالعلوم " (¬3). ويقول لنا ابن الخطيب: " وإليه انتهت الأبهة والجلالة، والعلم والأصالة، والآثار الباقية، والحسنات الراقية " (¬4). وكان الحكم من ذوي الورع والتقوى، تشهد بذلك عنايته الفائقة بأمر المسجد الجامع، وتوسعته وإنشاء منبره الجديد، وتزويده بالماء بطريقة هندسية بديعة، وما بذله في سبيل ذلك من النفقات الطائلة، ويشهد بذلك أيضاً تشدده في محاربة الخمر وإراقتها (¬5). وكان محباً للعدل معيناً بإقامته، شديداً في محاسبة الطغاة من العمال والحكام، يؤيد ذلك ما رواه صاحب ¬_______ (¬1) المقتبس - قطعة مكتبة أكاديمية التاريخ ص 211. (¬2) تضع معظم الروايات وفاة الحكم في هذا التاريخ (الحلة السيراء ص 101، ونفح الطيب ج 1 ص 185، وابن الخطيب عن ابن حيان، في أعمال الأعلام ص56). ولكن صاحب البيان المغرب ينفرد بالقول بأن وفاته كانت في الثالث من رمضان سنة 366 هـ. (¬3) الحلة السيراء ص 101. (¬4) أعمال الأعلام ص 49. (¬5) الحلة السيراء ص 103.

البيان المغرب من أنه أرسل غير مرة إلى الحكام الظلمة، يحذرهم من سطوته، وإلى القواد والعمال، يحذرهم من سفك الدم بلا موجب (¬1). وكان من أعمال الحكم الإنشائية أيضاً إصلاح قنطرة قرطبة العظيمة على نهر الوادي الكبير، وتقوية دعائمها التي وهنت بمضي الزمن (سنة 361 هـ)، وإشرافه على ذلك بنفسه (¬2). وكان الحكم عارفاً بأقدار الرجال، مميزاً للنابهين منهم، وقد جمع في حكومته وبلاطه جمهرة من أعاظم رجال العصر وألمعهم. وكان في مقدمة هؤلاء، كبيرهم وزعيمهم الحاجب جعفر بن عثمان بن نصر المصحفي. وكان جعفر ينتمي إلى بطن من بطون البربر من بلنسية، وتولى أبوه عثمان أيام الناصر تأديب ولده الحكم، وهكذا نشأت بين الحكم وبين ولد أستاذه ومؤدبه جعفر مودة عميقة، فلما أسندت إليه ولاية العهد، قدم جعفر في الأعمال واستخدمه في الكتابة، ثم ولاه الناصر بعد ذلك حكم جزيرة ميورقة. ولما ولي الحكم الخلافة استوزره وأمضاه على كتابة الخاصة، وضم إليه بعد ذلك ولاية الشرطة، ثم تولى بعد ذلك منصب الحجابة أى رياسة الوزارة، خلفاً للحاجب جعفر بن عبد الرحمن الصقلبي، وأصبح أول رجل في الدولة، واجتمعت إليه سائر السلطات، ولما رزق الحكم بولده هشام اختار جعفر كافلا له، واستمر جعفر هو القائم بدولة الحكم حتى وفاته. وكان المصحفي من أساطين الكتابة والشعر وله شعر حسن، أورد لنا منه ابن الأبار مختارات رقيقة مشرقة تدل على تمكنه (¬3). وكان من أشهر أعمال المصحفي في بداية عهد الحكم أن قدم إليه هديته الباذخة، التي حاول أن يبز فيها هدية الوزير ابن شهيد إلى الناصر. وقد أورد لنا ابن حيان في المقتبس وصفاً لمحتويات هذه الهدية الشهيرة وهي: مائة مملوك من الفرنج ناشئة على خيول صافنة كاملو العدة والسلاح، وثلاثمائة وعشرون درعاً مختلفة الأجناس، وثلثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة هندية، وخمسون خوذة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 255، 256. (¬2) ابن حيان في المقتبس - قطعة مكتبة أكاديمية التاريخ السابق الإشارة إليها ص 64 و65. (¬3) راجع ترجمة جعفر المصحفي ومختارات من شعره, في " الحلة السيراء " ص 141 - 147.

حبشية من حبشيات الإفرنجة، وثلثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية، وعشرة جواشن مذهبة، وخمسة وعشرون قرناً مذهبة من قرون الجاموس (¬1). وكانت هدية المصحفي للحكم، من أشهر الحوادث الاجتماعية في هذا العصر. وكان من أكابر دولة الحكم أيضاً، القائد غالب بن عبد الرحمن الناصري صاحب مدينة سالم، وكان مولى لأبيه الناصر. وكان غالب، فضلا عن كونه من نصحاء الحكم، ومستشاريه المقربين، من أعظم قادة الأندلس ورجالاتها في هذا العصر، وكان الحكم، عرفاناً منه بقدر هذا القائد المظفر، قد أسند إليه القيادة العليا، وأصدر مرسومه بذلك إليه في سنة 361 هـ، وذلك " لغنائه وجميل مقامه ". ثم عاد على أثر انتصاره في موقعة حصن غرماج في سنة 364 هـ، فقلده سيفين مذهبين من ذخائر سيوفه، وسماه " ذا السيفين " (¬2) وكان منهم أيضاً الوزير يحيى بن محمد التجيبي، والقائد سعيد بن الحكم الجعفري، وكلاهما من أعظم الوزراء والقادة، وقد برز كلاهما في غزوات الصوائف، وحوادث المغرب الأقصى. وكان من كتاب الحكم عيسى بن فطيس، ومن قضاته منذر بن سعيد البلوطي كبير القضاة في عهد أبيه الناصر، ثم أبو بكر محمد بن السليم. وكان الحكم، بالرغم مما كان يسود الممالك الإسبانية النصرانية في عهده من جنوح إلى المهادنة والسلم، يرقب حركاتها وتصرفاتها بعناية، وقد رتب لذلك بعض عماله المهرة المخلصين المعروفين بصدق الخدمة، وفي مقدمتهم ابن أبي عمروس العريف، وصاحبه سعيد، للسفارة بينه وبين ملوك جليقية، ولقاء قواميسها، والتردد عليهم " للتعرف على أخبارهم، والتجسس لأنبائهم " وحمل الكتب إليهم في كل وقت، وصرفها عنهم، وهو ما يفصح عن بعض الوسائل التي كان يلجأ إليها بلاط قرطبة للإحاطة بأخبار الممالك النصرانية ونياتها (¬3). وكان الحكم شاعراً مطبوعاً ينظم القريض الرقيق، ومما ينسب إليه قوله: إلى الله أشكو من شمائل مسرف ... عليّ ظلوم لا يدين بما دنت ¬_______ (¬1) ابن خلدون في كتاب العبر ج 4 ص 144. (¬2) راجع المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 69 و220. (¬3) المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 76.

نأت عنه داري فاستزاد صدوده ... وإني على وجدي القديم كما كنت ولو كنت أدري أن شوقي بالغ ... من الوجد ما بلغته لم أكن بنت وقوله: عجبت وقد ودعتها كيف لم أمت ... وكيف انثنت بعد الوداع يدي معي فيا مقلتي العبرا عليها اسكبي دماً ... ويا كبدي الحرّا عليها تقطعي * * * ونلاحظ أخيراً أن بلاط قرطبة، كان في أيام الحكم المستنصر، يبدو في بهي أثوابه الملوكية والخلافية، وكان جلوس الحكم في أيام الأعياد أو لاستقبال الوافدين والسفراء من أيام قرطبة المشهودة. وقد أفاض ابن حيان في وصف هذه الأيام والحفلات الباذخة. ويبدو مما كتبه أن الخليفة الحكم، كان يؤثر الجلوس في هذه الأيام بالمجلس الشرقي من قصر الزهراء، ويجلس عن يمينه ويساره إخوته بترتيب السن؛ ثم يليهم في ترتيب الجلوس، الوزراء، يجلسون بعد فرجتين، إلى اليمين وإلى اليسار، ويلي ذلك صاحب المدينة بقرطبة، ويجلس إلى اليمين، وإلى جانبه صاحب المدينة بالزهراء، ثم يجلس من بعدهم صاحب الحشم، فصاحب الخيل، فأصحاب الشرطة العليا والوسطى، وسائر طبقات أهل الخدمة وفق مراتبهم، وقاضي الجماعة، والحكام وأصحاب الشرطة الصغرى، وأسباط الخلافة، وجلة قريش، ثم وجوه الموالي، ثم قضاة الكور والفقهاء المشاورون والعدول، وأعيان قرطبة. ويصطف الجند في أثوابهم الزاهية، منذ مداخل القصر حتى الممر المفضي إلى مجلس الخليفة، وقد أورد لنا ابن حيان وصف هذا النظام في مختلف المناسبات الرسمية، مما يدل على أنه هو نظام البروتوكول (المراسيم) الثابت الذي كان يتبعه بلاط قرطبة في هذا العهد عند جلوس الخليفة للمناسبات الرسمية الكبرى (¬1). ويجب أن نلاحظ من ذلك الوقت التطور العظيم، الذي حدث في تكوين المجتمع الأندلسي. فقبل عهد الناصر كانت الرياسة والأرستقراطية، تنحصر في القبائل العربية. وكان البربر يحتلون مقاماً أدنى. وكانت المعارك يضطرم لظاها ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 29 و49 و50 و57 و81 و94 و194 و195.

باستمرار بين السلطة المركزية أعني بين الإماوة وبين العصبية العربية، التي تحاول دائماً أن تقيم رياستها في الثغور والمدن على أساس الاستقلال المحلي. وقد استمرت هذه المعارك عصوراً، منذ عبد الرحمن الداخل، حتى جاء الناصر، فشدد في مطاردة العصبية العربية وتحطيمها، وآثر أن يعهد بالرياسة والسلطات المحلية إلى طوائف الصقالبة حسبما شرحنا ذلك من قبل. وفي عهد الحكم المستنصر كانت الأرستقراطية العربية، قد اضمحلت، وغاض نفوذها، واختفت كقوة سياسية واجتماعية تخشاها السلطة المركزية، وإن كانت بقيت كطبقة من الطبقات، وحلت محلها أرستقراطية من نوع جديد، قوامها القادة والرؤساء العسكريون، من الموالي والصقالبة، فكانت بذلك أرستقراطية سيف، وليست أرستقراطية قبيل أو عصبية، وبلغ الفتيان الصقالبة أيام الحكم، ذروة القوة والنفوذ والثراء، مثلما كانوا أيام أبيه الناصر. ويكفي أن نذكر هنا دليلا على ضخامة ثراء هؤلاء القوم، أن أحدهم وهو الفتى الكبير درّي الخازن، قام بإهداء مولاه الخليفة الحكم، منيته الغراء بوادي الرمان من ضواحي قرطبة، وكان قد أنشأها مغني ومتنزهاً، وأفاض عليها أروع صنوف البذخ والبهاء، وجعلها برياضها ومنشآتها جنة حقة. وقد قبل الحكم هدية فتاه، وقام بزيارة هذه المنية مع ولي عهده هشام وحاشيته، وأنفق فيها يوم استجمام ومسرة. وقد أجمع الخليفة ومرافقوه على أنهم " لم يشاهدوا في المتنزهات السلطانية أكمل ولا أعذب ولا أعم من صنيع درّي هذا " (¬1). هذا وأما الطبقة الوسطى فقد انحصرت في التجار ورجال الصناعة وغيرهم ممن استطاعوا أن يحرزوا بالتجارة والفنون في مختلف القواعد ثروات عظيمة. ويأتي بعد الطبقة الوسطى، طبقات الشعب الكادحة، وكانت على نحو ما يحدث في كل زمان ومكان، تبغض الطوائف الميسورة، وتنقم عليها نعماء العيش. وكانت ثمة طبقة أخرى، ذات مميزات خاصة، هي طبقة المولدين أو بعبارة أخرى مسلمو الإسبان، وكانت تحتل مكانها بين الطبقات المتوسطة والميسورة. وكان بينها الكثيرون ممن أحرزوا الجاه والنفوذ والثراء. بيد أن المولدين بالرغم من إسلامهم، كانوا يعتبرون أقل مكانة من المسلمين الأصليين. وكان المعروف ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 107.

من أصولهم دائماً، أنهم كانوا على الأغلب عبيداً أو مسترقين من القوط، دخلوا في الإسلام اجتناء للحرية. وقد زاد عدد المولدين زيادة كبيرة، منذ عهد عبد الرحمن ابن الحكم، حيث دخل كثير من النصارى المعاهدين في الإسلام، حينما اشتدت وطأة حكومة قرطبة عليهم، أيام الفتن التي حاولوا إثارتها لإشاعة الإضطراب والفوضى، حسبما فصلنا ذلك في موضعه. وبذلك ازداد عدد المولدين زيادة كبيرة، منذ أوائل القرن التاسع الميلادي، وغدوا في ظل الخلافة أيام الناصر وولده الحكم، يمثلون أقلية كبيرة بين الأمة الأندلسية. وأما الطبقة المسترقة أو طبقة العبيد، فكانت في تلك العصور تتألف من العمال العبيد، الذين يلحقون في الغالب بالضياع. وكان هذا النظام موجوداً منذ أيام القوط، ولكنه طبق أيام المسلمين، بصورة أفضل بكثير مما كان عليه، ومنح هؤلاء العمال حقوقاً إجتماعية وإنسانية، رفعت عنهم كثيراً من صور العبودية القديمة، التي كانت تعطي للسيد عليهم حق الحياة والموت، والبيع والشراء. ويلحق بغير الأحرار أيضاً طبقة الصقالبة والخصيان. بيد أن هذه الطبقة كانت تحتل مكانة ملحوظة في المجتمع، وكان لها في الحكومة والقصر، أيما نفوذ، وقد ظهر منها زعماء وقادة وصلوا إلى مراكز عظيمة، وكان لهم فيما بعد شأن يذكر، في تطور الحوادث التي أعقبت انهيار الخلافة الأندلسية. وإلى جانب هذه الطبقات المختلفة، التي تتألف منها الأمة الأندلسية، كانت توجد دائماً طبقة النصارى المعاهدين، الذين يعيشون في ظل الحكم الإسلامي، وكانت تجتمع في القواعد الأندلسية في أقليات كبيرة. وكانت تحتل في العاصمة، وفي بعض المدن الأخرى مكانة خاصة، ويشغل كثير من أفرادها مراكز هامة في الحكومة والجيش، وقد تحدثنا من قبل عن بعض أحوال هذه الطبقة وظروفها. ويجب أخيراً ألا ننسى الأقلية اليهودية. فقد عومل اليهود منذ الفتح بمنتهى الرفق والرعاية، وازدهرت أعمالهم التجارية والصناعية، في ظل ذلك التسامح الإسلامي المأثور، ووصلوا في قرطبة في ظل الخلافة، إلى ذروة النفوذ والرخاء. وفي أيام الناصر تولى أحدهم، وهو العلامة حسداي بن شبروت، الإشراف على الخزانة العامة، وكان قبل ذلك قد حظى برعاية الناصر بخدماته الدبلوماسية، وترجمته لكتاب ديسقوريدس عن الأعشاب الطبية، من اليونانية إلى العربية،

وهو الكتاب الذي أهدى قيصر منه نسخة إلى الناصر. وفي ظل هذه الرعاية، وفد كثير من العلماء والأدباء اليهود إلى قرطبة، أيام الناصر وولده الحكم، وقامت في ظل نشاطهم مدرسة قرطبة التلمودية، ومؤسسها الرابي موسى بن حنوش، وازدهرت في ظلها البحوث التلمودية، وغدت مركز الرياسة والتوجيه لهذه البحوث. واستمرت الخلافة الأموية، ومن بعدها حكومات الطوائف على رعاية الأقلية اليهودية وتشجيعها، وكان يهود قرطبة يرتدون الزي العربي، ويتخلقون بالتقاليد والعادات العربية، ويمتازون بثرائهم ومظاهرهم الفخمة (¬1). ¬_______ (¬1) راجع: R. Altamira: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola, Vol. I,p. 250-254

الفصل الثانى هشام المؤيد بالله

الفصل الثاني هشام المؤيد بالله مؤامرة الفتيان الصقالبة لإبعاد هشام وترشيح المغيرة بن الناصر. الحاجب جعفر يناهض مشروعهم. محمد بن أبي عامر يتولى قتل المغيرة. معسكر الصقالبة ومعسكر الأحرار. أخذ البيعة لهشام. وصف ابن الخطيب لأحوال الخلافة الأندلسية يومئذ. اجتماع السلطة في يدي الحاجب جعفر وابن أبي عامر. صبح البشكنسية أم المؤيد. ظهورها في بلاط قرطبة وتمكن نفوذها من الحكم. حظوة الحاجب جعفر لديها. محمد بن أبي عامر. أصله ونشأته. خلاله وطموحه. حظوته لدى صبح. طبيعة العلائق بينهما. مصانعته للحاجب جعفر. نفوذه لدى صبح. جعفر المصحفي يتولى الحجابة وابن أبي عامر الوزارة. الصراع الخفي بين الرجلين. الخليفة الصبي هشام. شغفه باللهو واللعب. حجبه والحجر عليه. دور ابن أبي عامر في ذلك. طموحه في الاستئثار بالسلطة. الفتيان الصقالبة. تفاهم الحاجب وابن أبي عامر على سحقهم. ابن أبي عامر يتولى قيادة الجيش ويغزو أرض النصارى. الخلاف بين الحاجب والقائد غالب. مسير ابن أبي عامر وغالب إلى الغزو. ذيوع شهرة ابن أبي عامر. الصراع بينه وبين المصحفي. محاولة المصحفي التفاهم مع غالب. ابن أبي عامر يحبط خطته. مسير ابن أبي عامر وغالب ثانية إلى الغزو. زواج ابن أبي عامر من أسماء ابنة القائد. تولية غالب منصب الحجابة. تضاءل مكانة المصحفي. إقالته والقبض عليه وعلى أهله. اشتداد ابن أبي عامر في مطاردته. وفاة المصحفي أو قتله في سجنه. شعر له في محنته. ابن أبي عامر يسحق خصومه ومنافسيه. اهتمامه بتنظيم الجيش. اصطناعه للبربر واضطهاده للعرب. لما توفي الحكم المستنصر بالله، في اليوم الثاني من صفر سنة 366 هـ، حرص خادماه الخصيان، الفتيان فائق وجؤذر، على كتمان خبر موته، وقاما بضبط القصر، واتخاذ التدابير اللازمة، لتسيير الأمور وفق الخطة التي وضعاها. وكانت هذه الخطة، تنحصر في تنحية ولي العهد الصبي هشام عن العرش، واختيار عمه أخى المستنصر، المغيرة بن عبد الرحمن الناصر، لولاية العرش، وكان الفتيان الصقالبة داخل القصر، زهاء ألف، ولهم نفوذ عظيم، وفي يدهم الحرس الخليفي ومعظمه من الصقالبة والمرتزقة. فكانوا بذلك قوة يخشى بأسها. استدعى فائق وجؤذر، الحاجب جعفر بن عثمان المُصْحفي، ونبآه بموت الخليفة وعرضا عليه مشروعهما، في تولية المغيرة، فتظاهر الحاجب بالاستحسان والموافقة، ووعدهما بالعمل وفق خطتهما، وتنفيذ ما يشيران به. ثم خرج،

فبادر إلى ضبط أبواب القصر، واستدعى أصحابه من خاصة الحكم، مثل زياد بن أفلح مولى الحكم، وقاسم بن محمد، ومحمد بن أبي عامر، وهشام بن محمد بن عثمان وغيرهم. واستدعى في نفس الوقت عصبته وأشياعه من زعماء البربر، مثل بني برزال، كما استدعى سائر القادة الأحرار، فاجتمع له منهم ومن أجنادهم طوائف ضخمة. فنعى لهم الخليفة، وعرض عليهم مشروع الفتيان الصقالبة، في تنحية هشام وتولية المغيرة، وأوضح لهم أن هذا المشروع خطر داهم عليهم، وأنه إذا ولى المغيرة، واستبد الصقالبة بالأمر، قضى عليهم وعلى دولتهم ونفوذهم، ونكل بهم المغيرة والصقالبة. والأمر بالعكس إذا ولى هشام ولي العهد الشرعي، فإنهم يستبقون سلطانهم ونفوذهم، وتغدو الدولة دولتهم، ويأمنون على أنفسهم وأموالهم. فاقترح بعض أصحابه أن يقتل المغيرة، فيؤمن بذلك شره في الحال والاستقبال، وتطوع محمد بن أبي عامر لتنفيذ هذه المهمة الدموية، حفظاً للوئام والوحدة، فبعث جعفر معه سرية من الجند الأحرار الموثوق فيهم، وسار معه بدر القائد مولى الحكم، في سرية من غلمان الخليفة. وأحاط الجند بدار المغيرة، ثم نفذ محمد بن أبي عامر في نفر من أصحابه، ونبأه بموت الخليفة وجلوس ابنه هشام، وأنه أتى ليتبين حقيقة موقفه، فذعر المغيرة وأكد لابن أبي عامر، أنه مطيع مخلص لكل ما تقرر، وتضرع إليه أن يحقن دمه، وأن يراجع القوم في أمره. ولكن الرد كان قاطعاً في وجوب التخلص من المغيرة، فدفع إليه ابن أبى عامر عدة من رجاله، فقتلوه خنقاً أمام زوجته، ثم أشاعوا أنه قتل نفسه، ودفن في نفس مجلسه، وكان سنه يوم قتل سبعاً وعشرين سنة. ووقع ذلك كله في يوم واحد فقط. ولما وقف الفتيان فائق وجؤذر على ما وقع، تملكهما السخط والروع، وبادرا إلى الحاجب جعفر، وتظاهرا بالرضا والاستبشار بما وقع، واعتذرا له مما سبق أن اقترحا عليه، وأخذ الفريقان من ذلك الحين، يتوجس كل من صاحبه ويتربص به، وانقسم أهل القصر إلى معسكرين، معسكر الصقالبة يتزعمه فائق وجؤذر، ومعسكر الأحرار يتزعمه الحاجب جعفر ومحمد بن أبي عامر (¬1) ¬_______ (¬1) نقل إلينا ابن بسام في الذخيرة هذه التفاصيل عن ابن حيان (الذخيرة - القسم الرابع المجلد الأول ص 40 و41). ونقلها أيضاً صاحب البيان المغرب ج 2 ص 278 - 280.

وسنرى فيما بعد، كيف تطورت هذه المعركة الخفية بين المعسكرين. * * * وهكذا وقع الاتفاق على تولية هشام، وأخذت له البيعة في صبيحة اليوم التالي لوفاة أبيه الحكم، وهو يوم الإثنين الثالث من صفر سنة 366 هـ (أول أكتوبر سنة 976 م). فأجلس الخليفة الصبي هشام، في كرسي الخلافة، ولما يجاوز الثانية عشرة من عمره. وتولى أخذ البيعة له الحاجب جعفر محمد ابن أبي عامر، ولم يعترض أحد على توليته. واستمر أخذ البيعة أياماً، وكتب بها إلى الأقطار، فلم يردها أحد. وينقل إلينا ابن الخطيب، عن ابن حيان، مئات من أسماء الوزراء والعلماء والقضاة والأكابر، من مختلف الطبقات، الذين أخذوا البيعة لهشام، ومنهم كثيرون، ممن اشتركوا في أخذ البيعة له بولاية العهد، في حياة أبيه (¬1). ويصف لنا ابن الخطيب حالة الخلافة الأندلسية، وأحوال الأندلس، عند ولاية هشام، فيما يأتي: " بويع ولي عهده (أي الحكم) هشام الملقب بالمؤيد بالله والخلافة قد بلغت المنتهى، وأدركت الجنى، وبلغ طورها، وانتهى دورها، فكانت كمامة ثم زهرة بسّامة، ثم ثمرة بهية، ثم فاكهة شهية؛ وكان بكرسي العامرية مجلاها، ثم تلاها ما تلاها، وأرخص الحطوط من أعلاها، فكان المال قد ضاقت عنه خزائنه، والمصر قد عظمت مزاياه ومزاينه، والملك تعوذ بالله، أن لا يصيبه عائنُه الذي يعاينه، والمباني قد بلغت السماء سمواً، وزاحمت الكواكب علواً، والبلاد وقد بلغ فيها إلى أقاصي الاهتمام، وفرغت بناتها من لبنات التمام، والآثار الصالحة قد تخلدت، والمآثر الواضحة قد تعددت، والأذهان في بسطة الإسلام قد تبلدت، ورسم الخلاف قد أمحى، والدّولة المراونية قد بركت وسط المرعى، والدعوة قد انتشرت في المغرب الأقصى" (¬2). * * * وهكذا تمت البيعة لهشام المؤيد، بين يوم وليلة، وقضى على كل معارضة، وتوارى الأعمام وبنو العم، واجتمعت مقاليد السلطة في أيدي رجلين، هما الحاجب ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 48. وقد شغلت أسماء الذين أخذوا البيعة لهشام تسع صفحات كاملة. (48 - 57). (¬2) أعمال الأعلام ص 43 و44.

جعفر بن عثمان المصحفي، ومحمد بن أبي عامر، وهو يومئذ مدير الشرطة، ومتولي خطة المواريث، وناظر الحشم. بيد أنه من الخطأ أن يقال إن السلطة، قد خلصت لهذين الرجلين وحدهما، فقد كان ثمة شخصية ثالثة تشاطرهما السلطان من وراء ستار. تلك هي "صبح" البشكنسية حظية الحكم وأم ولده هشام الخليفة الصبي، وكانت قد منحت الوصاية على ولدها، واكتسبت بذلك صفة شرعية في الاشتراك في الحكم وتدبير الشئون. فمن ذلك كانت تلك المرأة، التي لبثت ردحاً طويلا من الزمن، تسيطر بسحرها ونفوذها، على خلافة قرطبة، وتشترك في تدبير شئونها، في السلام والحرب، مع أعظم رجالات الأندلس؟ لسنا نعرف الكثير عن نشأتها وحياتها الأولى. وكل ما تقدمه إلينا الرواية الإسلامية في ذلك، هو أن " صبحاً " كانت جارية بشكنسية أي نافارية. ولا تذكر الرواية إن كانت قد استرقت بالأسر في بعض المواقع، أم كانت رقيقاً بالملك والتداول، ولكنها تصفها بالجارية والحظية؛ وصبح أو صبيحة ترجمة لكلمة Aurora الفرنجية، ومعناها الفجر أو الصباح الباكر، وهو الاسم النصراني الذي كانت تحمله صبح فيما يظهر (¬1). وظهرت صبح في بلاط قرطبة في أوائل عهد الحكم المستنصر، وكانت فتاة رائعة الحسن والخلال، فشغف بها الحكم، وأغدق عليها حبه وعطفه، وسماها "بجعفر" (¬2) ولم تلبث أن استأثرت لديه بكل نفوذ ورأي. ثم ازداد هذا النفوذ توطداً وتمكناً، حينما رزق منها الحكم بولده عبد الرحمن ثم بولده هشام حسبما تقدم. ولم تك صبح يومئذ جارية أو حظية فقط، بل كانت ملكة حقيقية، ولا تشير الرواية الإسلامية إلى أنها غدت زوجة حرة للحكم المستنصر، بعد أن كانت جارية وحظية. ولكن هنالك ما يدل، على أن صبحاً، كانت تتمتع في البلاط والحكومة بما يشبه مركز الملكة الشرعية. فالرواية الإسلامية تنعتها بالسيدة صبح أم المؤيد (¬3) أو السيدة أم هشام. وتصفها التواريخ الإفرنجية "بالسلطانة صبح" (¬4). بيد أن ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 268 و269. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 100 (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 251 و253. (¬3) راجع الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 43؛ والبيان المغرب ج 2 ص 267 و282. (¬4) Conde: Dominacion, V I. p. 480 & 493 ; Dozy: Hist. Vol, II. p. 190 & 195.

هناك ما يقطع مع ذلك بأنها بقيت من الوجهة الشرعية جارية " وأم ولد " فقط، وأن الحكم توفي عنها دون تغيير في مركزها الشرعي (¬1). استمرت صبح أيام الحكم، تتمتع في البلاط والحكومة، بنفوذ لا حد له, وكان الحكم يثق بإخلاصها وحزمها، ويستمع لرأيها في معظم الشئون. وكانت كلمتها هي العليا، في تعيين الوزراء ورجال البطانة، وكان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، يجتهد في خدمتها وإرضائها، ويستأثر لديها ولدى الحكم بنفوذ كبير. واستمرت الحال حيناً على ذلك، حتى دخلت في الميدان شخصية جديدة قدر لها أن تضطلع فيما بعد بأعظم قسط في توجيه مصاير الأندلس. تلك هي شخصية محمد بن أبي عامر الذي تقدم ذكره غير مرة، والذي رأيناه في أواخر عهد الحكم يشغل منصب مدير الشرطة وناظر الخاص. كان محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر المعافري، يرجع إلى أصل من أعرق الأصول العربية. وكان جده عبد الملك بن عامر المعافري، أول من دخل الأندلس مع الفاتحين موسى وطارق، وظهر في الفتح بشجاعته وحسن بلائه. ونزلت أسرة بني عامر بالجزيرة الخضراء، وأقطعت حصن طرُّش الواقع على نهر وادي يارُه، الذي يصب على مقربة من جبل طارق، وظهرت بالعلم والوجاهة، وتولى كثير من أبنائها مناصب القضاء والإدارة؛ وولد محمد بن أبي عامر بحصن طرُّش وأنفق فيه حداثته. وكان أبوه عبد الله، المكني بأبي حفص من أهل العلم والتقى، عالماً بالحديث والشريعة، وكانت أمه بريهة بنت يحيى تنتمي إلى بني تميم. ونشأ محمد على تقاليد أسرته، مؤثراً حياة الدرس، ووفد على قرطبة حَدَثاً، ودرس في معاهدها درساً مستفيضاً، وبرع في الأدب والشريعة، وكان من أساتذته العلامة اللغوي أبو علي القالي البغدادي، وأبو بكر بن القوطية، والمحدث أبو بكر بن معاوية القرشي، وكان طموحاً مضطرم النفس والعزم، رفيع المواهب والخلال. وتنوه بهذا الطموح المدهش معظم الروايات المعاصرة واللاحقة (¬2). وكان محمد بن أبي عامر في نحو ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 269. والمعجب للمراكشي ص 74. (¬2) الحلة السيراء ص 148، والبيان المغرب ج 2 ص 274 هـ والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 243. والإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ص 474.

السابعة والعشرين من عمره، حينما أراد الخليفة الحكم أن يعين مشرفاً لإدارة أملاك ولده عبد الرحمن، ورشحه الحاجب جعفر فيمن رشح لتولي هذا المنصب، وأعجبت صبح بذكائه وحسن روائه، وظرف شمائله، فاختارته دون غيره، وعين بمرتب قدره خمسة عشر ديناراً في الشهر، وذلك في أوائل سنة 356 هـ (967 م) (¬1) , ولما توفي عبد الرحمن طفلا، عين مشرفاً لإدارة أملاك أخيه هشام. وتقدم في وظائف الدولة بسرعة. فأضيف إليه النظر على الخزانة العامة. وعلى أمانة دار السِّكة، ثم عين للنظر على خطة المواريث (358 هـ)، فقاضياً لكورة إشبيلية ولبلة. ثم عينه الحكم مديراً للشرطة الوسطى (361 هـ) , وفي أواخر أيامه عينه ناظراً على الحشم (الخاص). ويقدم إلينا ابن حيان وظائف ابن أبي عامر في أواخر أيام الحكم على النحو الآتي: صاحب الشرطة الوسطى، والمواريث، وقاضي إشبيلية، ووكيل الأمير أبي الوليد هشام، وكان عندئذ يلقب " بفتى الدولة " (¬2). وهكذا وصل محمد بن أبي عامر إلى أرفع وظائف الدولة والقصر في أعوام قلائل. ويرجع الفضل في تقدمه بتلك السرعة، أولا إلى مواهبه وكفاياته الباهرة، ثم يرجع بالأخص إلى عطف صبح وحمايتها له. وقد انتهى هذا العطف غير بعيد إلى النتيجة الطبيعية. كانت صبح امرأة حسناء، لا تزال في زهرة العمر، وما زال قلبها يضطرم حباً وجوى، وكان سيدها الحكم قد أشرف على الستين، وهدمه الإعياء والمرض؛ أما ابن أبي عامر فقد كان فتى في نضرة الشباب، وسيم المحيا، حسن القد والتكوين، ساحر الخلال، وكان من جهة أخرى يفتن في خدمة صبح وإرضائها، ولا ينفك يغمرها بنفيس الهدايا والتحف، حتى لقد أهداها ذات مرة نموذج قصر من الفضة، بديع الصنع والزخرف، أنفق عليه مالا عظيماً، ولم ير مثله من قبل بين تحف القصر وذخائره، وشهده أهل قرطبة حين حمل من دار ابن أبي عامر إلى القصر، فكان منظراً يخلب اللب، ولبثوا ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 267. وينقل إلينا المقري رواية أخرى عن اتصال ابن أبي عامر بصبح، خلاصتها أنه كان يجلس في دكان عند باب القصر، ليكتب للخدم والمترافعين للسلطان، إلى أن طلبت صبح من يكتب عنها، فعرفها به بعض من كان يأنس الجلوس إليه من فتيان القصر: فاستحسنت كتابته، وعينته أميناُ لبعض شئونها (نفح الطيب ج 1 ص 187). (¬2) المقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ - ص 106.

يتحدثون بشأنه حيناً؛ فكانت هذه العناية تقع من قلب صبح أحسن موقع، وتزيدها عطفاً على ابن أبي عامر وشغفاً به. وكان الحكم يشهد هذا السحر الذي ينفثه ابن أبي عامر إلى حظيته، وإلى نساء القصر جميعاً، ويعجب له. ويروى أنه قال يوماً لبعض ثقاته: " ما الذي استلطف به هذا الفتى حرمنا حتى ملك قلوبهن، مع اجتماع زخرف الدنيا عندهن، حتى صرن لا يصفن إلا هداياه، ولا يرضين الا ما أتاه، إنه لساحر عظيم أو خادم لبيب، وإني خائف على ما بيده " (¬1). ولم تلبث علائق صبح وابن أبي عامر أن ذاعت، وغدت حديث أهل قرطبة، ولم يك ثمة ريب في أنها استحالت غير بعيد إلى علائق غرامية. وربما ارتاب الحكم في طبيعة هذه العلائق، وثاب له رأي في نكبة ابن أبي عامر، وسعى لديه بعض خصومه، واتهمه بأنه يبدد الأموال العامة، التي عين للنظر عليها، في شراء التحف والإنفاق على أصدقائه، فأمره الحكم أن يقدم حساب الخزانة العامة، ليتحقق من سلامتها، وقد كان بالخزانة في الواقع عجز كبير، فهرع ابن أبي عامر إلى صديقه الوزير ابن حُدير، وكان وافر الوجاهة والثراء، فأغاثه وأعانه بماله على تدارك هذا العجز، وتقدم إلى الحكم سليم العهدة برىء الذمة، فزالت شكوكه، وتوطدت ثقته فيه. واستمر ابن أبي عامر متمتعاً بنفوذه وسلطانه، يندبه الحكم لعظائم المهام والشئون، وكان آخرها ما عهد إليه من تنظيم البيعة بولاية العهد لولده هشام حسبما تقدم؛ وابن أبي عامر خلال ذلك كله، يحرص على عطف صبح، ويستزيده ويصانع الحاجب جعفر، ويجتهد في إرضائه وكسب ثقته، وكان بين الرجلين تباين يفيد منه ابن أبي عامر، فقد كان الحاجب جعفر على ما يبديه من التواضع والبشر والترفق بالناس، قليل الجود، مؤثراً لجمع المال. وكان ابن أبي عامر على نقيضه في ذلك، فكان واسع البذل والجود، حريصاً على اصطناع الرجال، وكانت داره الفخمة بضاحية الرصافة، مقصد الناس من كل صوب، وكانت مائدته معدة دائماً، وكان بذلك كله يخلق جواً من الحب والإعجاب، ويجتذب الصحب والأنصار، بسحر خلاله, ووافر بذله ومروءته، وبارع وسائله وأساليبه (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 268. (¬2) الذخيرة - القسم الرابع المجلد الأول ص 42. والبيان المغرب ج 2 ص 275.

فلما توفي الحكم المستنصر، وأسندت الخلافة إلى ولده الطفل هشام، اتخذت الأمور وضعاً جديداً، ينذر بتطورات جديدة. وقد رأينا أي دور قام به ابن أبي عامر عندئذ، من الانضمام إلى الحاجب جعفر في معارضة الفتيان الصقالبة، ومقتل مرشحهم للخلافة، المغيرة بن عبد الرحمن الناصر. * * * وهكذا تحقق مشروع الحكم بجلوس ولده هشام، وتحقق مشروع الثلاثة ذوي السلطان من بعده، وكان طبيعياً أن تحرص صبح على تولية ولدها لتحكم باسمه، وكان طبيعياً كذلك أن يؤازر ابن أبي عامر صاحبته المحسنة إليه، ليستمر بواسطتها محتفظاً بسلطانه ونفوذه. أما الحاجب جعفر فقد كان له مثل ذلك الباعث في تولية هشام، إذ كان يخشى من تولية المغيرة، وأوليائه الصقالبة، على نفسه وعلى سلطانه. وهكذا جمعت البواعث والغايات المشتركة بين أولئك الثلاثة، الذين قدر لهم أن يسيطروا على تراث الخلافة الأموية. ولكن هذا التحالف الذي أملته الضرورة المؤقتة، لم يكن طبيعياً ولا سيما بين الحاجب جعفر، ومنافسه القوي محمد بن أبي عامر. وكانت العلائق بين صبح وابن أبي عامر، تزداد كل يوم توثقاً، ولا سيما منذ وفاة الحكم. وكان ابن أبي عامر، يرى في تلك المرأة، التي تجتمع في يدها السلطة الشرعية، بوصايتها على ولدها الطفل، أداة صالحة هينة، يستطيع أن يخضعها لإرادته، ويسخرها لمعاونته، على تحقيق مشاريعه البعيدة المدى. وكانت صبح من جانبها تغدق كل عطفها وثقتها، على هذا الرجل القوي الذي سحرها بخلاله، وقوة نفسه، وباهر كفاياته، وتضع فيه كل أملها لحماية العرش الذي يشغله ولدها الفتى، فلم تمض أيام قلائل على تولية هشام، حتى عين حاجب أبيه جعفراً المصحفي حاجباً له، ورقى في نفس الوقت ابن أبي عامر من خطة الشرطة إلى مرتبة الوزارة، وجعله معاوناً للمصحفي في تدبير دولته (¬1). وبذلك أشرك ابن أبي عامر، في تولي السلطة المباشرة مع المصحفي، ولم يعترض أحد من رجال القصر أو الدولة على ذلك الاختيار، سوى الحاجب جعفر، فقد كان يرى في هذا التعيين انتقاصاً لسلطته، ونكراناً لجميله، بعد أن حمل أعباء السلطة كلها دهراً. وكان يرى في ابن أبي عامر بالأخص منافساً يخشى ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 270.

بأسه، ويرتاب في نياته وأطماعه. ومن ذلك اليوم يضطرم بين الرجلين صراع عنيف صامت لم يك ثمة شك في نتيجته. وكان ابن أبي عامر هو الأقوى بلا ريب، سواء بمواهبه وقوة نفسه، أو بمؤازرة صبح له. ولم تكن هذه المؤازرة ترجع فقط إلى ذلك الحب القديم، الذي تضطرم به جوانح صبح نحو ذلك الرجل القوي، ولكنها كانت أيضاً ترجع إلى ثقة صبح في مقدرته وبراعته، وفي أنه هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يحمي ملك ولدها الفتى، وأن يوطد الأمن والسلام في المملكة. كان ابن أبي عامر في الواقع هو السيد المطلق، وكانت صبح تفوض إليه كل سلطة وكل أمر، فكان يدير الشئون كلها بمهارة، تثير إعجاب خصومه وأصدقائه على السواء. وكان الخليفة الفتى هشام المؤيد بالله، ميالا بطبيعته وسنه إلى اللهو والدعة، ولم يكن له شىء من تلك الخلال الرفيعة، التي تهيء الأمراء للاضطلاع بمهام الملك، فكان يلزم القصر والحدائق، ويقضي كل أوقاته في اللهو واللعب، بين الخصيان وآلات الطرب؛ وكان ابن أبي عامر وصبح يشجعان هذه الميول السيئة في نفس الأمير، ويريانها ملائمة لمقاصدهما (¬1). ومذ ولي هشام، حجر عليه ابن أبي عامر، ولم يسمح لأحد غيره برؤيته أو مخاطبته، وكان يحمل صبحاً بدهائه وقوة عزمه، على أن تختلق الأعذار لحجب ولدها، حتى غدا هشام شبه معتقل أو سجين. وفي ذلك يقول لنا مؤرخ أندلسي: " حجر المنصور ابن أبي عامر على هشام المؤيد، بحيث لم يره أحد مذ ولي الحجابة، وربما أركبه بعض سنين، وجعل عليه برنساً فلا يعرف، وإذا سافر وكل من يفعل به ذلك " (¬2). ويقدم إلينا ابن الخطيب تلك الصورة عن الخليفة هشام: " ولما كان هشام مندرجاً في طي كافله الحاجب المنصور، بحيث لا ينسب إليه تدبير، ولا يرجع إليه من الأمور قليل ولا كثير، إذ كان في نفسه وأصل تركيبه مضعفاً مهيناً مشغولا بالنزهات، ولعب الصبيان والبنات، وفي الكبر بمجالسة النساء ومحادثة الإماء، يحرص بزعمه على اكتساب البرْكات والآلات المنسوبات " (¬3). وفي الفرص النادرة، التي كان يسمح فيها للأمير بالخروج، كان ابن أبي عامر يتخذ أشد ¬_______ (¬1) Dozy: Hist. Vol. II. p. 227. (¬2) راجع نفح الطيب ج 1 ص 276. (¬3) أعمال الأعلام ص 58.

التحوطات، فيحيط موكب الأمير حين يخترق شوارع قرطبة، بصفوف كثيفة من الجند، تمنع الشعب من رؤيته أو الاقتراب منه. وكان حجب هشام على هذا النحو، عماد ذلك الانقلاب العظيم الذي اعتزم ابن أبي عامر، أن يحدثه في نظم الدولة، لتمكين سلطانه وجمع سلطات الخلافة كلها في يده. وكان لابد لتحقيق هذه الغاية الكبرى، أن يسحق ابن أبي عامر كل سلطة أخرى تعترض سبيله. وكان الصقالبة وعددهم نحو ألف، لا يزالون قوة يحسب حسابها، وكذا كان الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، ما يزال بحكم منصبه وتأييد عصبته، مسيطراً على السلطة العليا. وكانت الوحشة ما تزال قائمة بين الحاجب وبين الصقالبة، مذ تسبب في فشل مشروعهم لتولية المغيرة بن عبد الرحمن، وحصد شوكتهم بتولية هشام. وكان الحاجب يخشى غدرهم ودسائسهم. وبلغه أن فريقاً من زعمائهم، وعلى رأسهم الفتيان جؤذر وفائق، يدبرون مؤامرة لقب نظام الحكم، فاتخذ بعض التحوطات، ووضع الفتيان تحت الرقابة، وأغلق باب الحديد، الذي كان مخصصاً بدخولهم ودخول أصحابهم إلى القصر، وقصر دخولهم مع بقية الناس على باب السُّدة، وفصل الغلمان من أصحاب جؤذر وفائق، وتفاهم مع ابن أبي عامر على إلحاقهم بحاشيته، وكانوا زهاء خمسمائة، فقبل ابن أبي عامر خدمتهم وفخم بهم شأنه، ثم انحاز إليه بنو برزال، وكانوا قبلا من أصحاب الحاجب جعفر، فقوى بهم أمره، ولم يمض سوى قليل حتى استقال زعيم الصقالبة الفتى جؤذر، وشعر الصقالبة بأن نجمهم قد أفل، وسلطانهم قد انهار، فسرى بينهم التذمر، واجتمع المتمردون حول فتى من زعمائهم يدعى درّي. فتفاهم الحاجب وابن أبي عامر على إزالته، فدعي إلى بيت الوزارة لسؤاله عن أمور نسبت إليه وإلى عماله من رعيته في بياسة؛ ولما قدم دري ورأى كثرة الجند، شعر بالشر، وأراد العودة فمنعه ابن أبي عامر، فهجم عليه وأراد أن يبطش به، فصاح ابن أبي عامر بالجند، فهرع إليه بنو برزال وانهالوا عليه ضرباً، ثم حمل إلى داره وقتل في نفس المساء. ورأى ابن أبى عامر الفرصة سانحة لسحق الصقالبة، فأمر كبيرهم فائقاً وباقي زعمائهم بالتزام دورهم، وفرق بذلك شملهم. ثم جد في مطاردتهم واستصفاء أموالهم، وفشى فيهم القتل والنفي، حتى هلك الكثير منهم، وأبعد الفتى فائق في النهاية إلى

ميورقة فمات هناك، وانهار بذلك سلطان الصقالبة، وأمن الحاجب وزميله ابن أبي عامر شرهم، وتقلد الحاجب جعفر أمر القصر والحُرم بدلا منهم. ويبدي ابن حيان ارتياحه لسحق الصقالبة واستئصال شأفتهم على هذا النحو. وقد كان الصقالبة في البداية زينة للدولة والبلاط، وكان ظهورهم بجموعهم المتألقة وأزيائهم الفخمة، يسبغ على القصر، وعلى مواكب الخلافة، طابعاً من الأبهة والعظمة. ولكنهم منذ استأثروا بثقة الخليفة، وبسطوا سلطانهم على القصر والدولة، اشتد طغيانهم، وثقلت وطأتهم على أهل الدولة، وعلى الشعب قاطبة (¬1). وسنحت بعد ذلك بقليل فرصة أخرى، لكي يوطد ابن أبي عامر قدمه في السلطة، ويبسط نفوذه على الجيش عصب كل سلطان حقيقي. وذلك أن القشتاليين، كانوا قد انتهزوا فرصة مرض الحكم، وانشغال المسلمين عقب وفاته، فدفعوا غاراتهم جنوباً، ووصلوا إلى مقربة من العاصمة ذاتها، ولم يبد الحاجب في ذلك، ما كان واجباً من الهمة والنجدة، فاهتم ابن أبي عامر، وأشار إلى الحاجب جعفر بتجهيز الجيش واستئناف الجهاد؛ ولكن الحاجب لم يجد من القادة من يعهد إليه بتلك المهمة، فتقدم ابن أبي عامر للاضطلاع بها، وجهز المال والجند، وأشرف بنفسه على اختيار الجند. وخرج من قرطبة في رجب سنة 366 هـ (فبراير 977 م)، وسار شمالا إلى أراضي قشتالة، ثم عطف غرباً حتى أحواز شلمنقة، وحاصر حصن الحامة، ومكانه اليوم محلة تسمى بالإسبانية " لوس بانيوس " Los Banos ( الحمامات)، وتقع في جنوب بلدة (بخار) في السفح الغربي لجبال جريدوس، ثم استولى على الحصن وربضه، وقفل راجعاً إلى قرطبة، مثقلا بالأسرى والغنائم، وذلك لثلاثة وخمسين يوماً من خروجه إلى الغزو (¬2). وكان لهذا الظفر الحربي الأول، الذي حقق على يد ابن أبي عامر، أكبر الأثر في نفوس الجند، ونفوس الشعوب قاطبة، فقد رأى الجند فيه قائدهم المظفر، وقد استولى على قلوبهم ببذله ووفرة عطائه، ورأى فيه الشعب حامي المملكة والمدافع عنها، وكان لهذه البداية نتائج بعيدة المدى. ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك حتى تأهب ابن أبي عامر للسير إلى غزوته ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 280 و281. والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 44. (¬2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 45. والبيان المغرب ج 2 ص 382. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 208.

الثانية؛ وكانت قد وقعت ثمة ظروف جديدة زادت في توطيد مركزه، وفي إضعاف مركز الحاجب جعفر. وكان بين الحاجب، وبين القائد غالب بن عبد الرحمن صاحب مدينة سالم، وأعظم فرسان الأندلس، عداء مستحكم، زاده ما تقوّل به الحاجب على غالب، من تقصيره في الدفاع عن الحدود الشمالية، وعجزه عن رد النصارى، فانتهز ابن أبي عامر هذه الفرصة ليضم غالباً إلى جانبه، وسعى إلى خدمته والدفاع عنه لدى صبح، ولدى الخليفة، حتى خرج المرسوم برفعه إلى خطة " ذي الوزارتين "، وبأن يندب لقيادة جيش الثغر، وأن يندب ابن أبي عامر لقيادة جيش الحضرة. وخرج ابن أبي عامر على أثر ذلك بالجيش إلى غزوته الثانية، وذلك في يوم عيد الفطر سنة 366 هـ (مايو 977 م)، فالتقى بغالب وجيشه في محلة مجريط (¬1) على طريق وادي الحجارة، واخترق الجيشان معاً أراضي قشتالة القديمة، واستولى المسلمون على حصن مولة، وأصابوا كثيراً من الغنائم والسبي. وكان لجيش غالب التفوق في الأعمال الحربية في تلك المنطقة، ولكن غالباً تنحى عن ذلك لابن أبي عامر، وارتد بجيشه إلى الثغر، بعد أن توثق بينهما التحالف، والتفاهم على سحق الحاجب جعفر عدوهما المشترك؛ وقفل ابن أبي عامر إلى قرطبة بالغنائم والسبي، وقد نسب إليه فخر الظفر على الأعداء، فزاد صيته، وارتفعت هيبته، وتمكنت منزلته لدى الخليفة، وازداد الشعب حوله التفافاً وله حباً (¬2). وهنا بدت طلائع المعركة الحاسمة بين ابن أبي عامر وجعفر المصحفي. فما كاد ابن أبي عامر يصل إلى قرطبة، حتى خرج أمر الخليفة بعزل محمد بن جعفر ولد الحاجب عن حكمها، وتقليده لابن أبي عامر، وبذلك تم لابن أبي عامر السيطرة على المدينة والجيش معاً. وكانت قرطبة تعاني قبل توليه حكمها من اضطراب الأمور، واختلال الأمن، وذيوع الفساد والفسق، فضبط أمرها وقمع أهل الشر والدعارة، فساد بها الهدوء والأمن. ثم استخلف ابن أبي عامر على حكم المدينة ابن عمه عمرو بن عبد الله بن أبي عامر. فسار في طريقته، في ¬_______ (¬1) هي محلة وقلعة حصينة أنشأها الأمير محمد بن عبد الرحمن فوق سفح جبال وادي الرملة على مقربة من طليطلة لصد غارات النصارى. ولبثت تؤدي مهمتها الدفاعية، حتى سقطت في أيدي النصارى في سنة 476 هـ (1083 م). وعلى موقعها القديم أنشئت مدينة مدريد الحديثة. (¬2) الذخيرة - القسم الرابع ج 1 ص 46 و47، والبيان المغرب ج 2 ص 283.

انتهاج الحزم والشدة في ضبط الأمور، ومطاردة أهل البغي والعدوان. كل ذلك والحاجب جعفر، يشهد سلطانه يغيض شيئاً فشيئاً، وسلطان ابن أبي عامر في صعود وتمكن مستمر، ويشهد انصراف الخليفة والشعب عنه، ويشعر في قرارة نفسه بدنو الخاتمة المحتومة. وخطر للحاجب جعفر أن يقف هذا التحول الخطر، باستمالة القائد غالب ومصالحته، فطلب يد ابنته أسماء زوجاً لابنه محمد، فاستجاب غالب إلى طلبه، وكادت تتم المصاهرة، ولكن سرعان ما علم ابن أبي عامر بذلك المشروع، فثارت نفسه، وكتب إلى غالب يناشده الولاء، ويخطب ابنته لنفسه، وعضده في ذلك أهل القصر، فنزل غالب على تلك الرغبة، وعدل إلى مصاهرة ابن أبى عامر، وتم العقد في أوائل المحرم سنة 367 هـ (977 م). ولم يمض قليل على ذلك حتى خرج ابن أبي عامر إلى غزوته الثالثة، فسار إلى طليطلة في أوائل صفر، حيث التقى مع صهره غالب. وسار الإثنان في قواتهما شمالا، وافتتحا في طريقهما بعض الحصون، ثم قصدا إلى مدينة شلمنقة الواقعة جنوب غربي مملكة ليون فاقتحماها، وعاثا في أرباضها، واستوليا على كثير من الغنائم والسبي؛ وعاد ابن أبي عامر إلى قرطبة لأربعة وثلاثين يوماً فقط من خروجه، ومعه عدد عظيم من رؤوس النصارى. فاغتبط الخليفة بصنعه، ورفعه إلى خطة الوزارتين أسوة بصهره غالب، ورفع راتبه إلى ثمانين ديناراً في الشهر، وهو راتب الحجابة في ذلك العصر. وما كاد ابن أبي عامر يستقر في قرطبة، حتى اتخذت الأهبة لإتمام زفافه. فأحضرت أسماء إلى العاصمة في موكب فخم، وكانت من أجمل نساء عصرها وأوفرهن ثقافة وسحراً، وكانت قد تزوجت لأول مرة بالوزير ابن حُدير أيام الحكم، ثم طلقت منه. وزفت أسماء إلى ابن أبي عامر، في حفلات كانت مضرب الأمثال في البذخ والبهاء، ونظم الاحتفال في قصر الخليفة، وبإشراف أمه صبح، وأغدقت صبح على العروس أروع الهدايا والتحف. وكان زواجاً سعيداً موفقاً لبث مدى الحياة (¬1)، وإن كان غالب قد خرج بعد ذلك بأعوام قلائل على صهره حسبما نفصل بعد. ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 46 و47، والبيان المغرب ج 2 ص 284 و285، ونفح الطيب ج 1 ص 187. وراجع أيضاً. Dozy: Hist. Vol. II. p. 214 & 215.

واستقدم الخليفة غالباً من الثغر، وقلده خطة الحجابة إلى جانب جعفر، فكانت ضربة جديدة للحاجب. ولكن جعفراً لم يسعه إلا الإذعان والسكوت، وقد أضحى يشعر شعوراً قوياً بالخطر المحدق به، وبأنه لم يبق له من الحجابة سوى الاسم، ولم ينخدع بما كان يبديه نحوه ابن أبي عامر من التلطف والمصانعة، وهو يقبض دونه على كل شىء في القصر والدولة. وأخيراً وقعت النكبة المرتقبة، ففي الثالث عشر من شعبان سنة 367 هـ، أصدر الخليفة أمره بإقالة الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي، والقبض عليه وعلى ولده وآله، والتحفظ علي أموالهم. وبادر ابن أبي عامر إلى محاسبتهم واستصفاء أموالهم، وشدد في مطاردتهم، حتى مزقهم كل ممزق، وعوجل هشام ابن أخي الحاجب فقتل في مطبقه، وكان من أشد الناس عداوة لابن أبي عامر، وزج جعفر إلى ظلام السجن، يعتقل فيه حيناً، ثم يعتقل حيناً في داره، واضطر إزاء التشدد في مطالبته أن يبيع داره الفخمة بالرُّصافة، وكانت من أعظم دور قرطبة، وأمعن ابن أبي عامر في نكايته، واستجوابه بمحضر من زملائه القدماء؛ واستطالت محنة المُصْحفي أعواماً، عانى خلالها أروع آلام المهانة والذلة، وهو يستعطف ابن أبي عامر فلا يرحمه؛ واستمر سجيناً في مطبق الزهراء حتى توفي سنة 372 هـ (982 م). وقيل إنه قتل خنقاً في مطبقه، وقيل إنه دست إليه شربة مسمومة كانت سبب وفاته. وكان المصحفي حسبما تقدم شاعراً جزلا، وقد أذكت المحنة شاعريته، وصدر عنه في مطبقه كثير من القصائد المؤثرة. ومن ذلك قوله: صبرت على الأيام لما تولت ... وألزمت نفسي صبرها فاستمرت فيا عجباً للقلب كيف اصطباره ... وللنفس بعد العز كيف استذلت وما النفس إلاحيث يجعلها الفتى ... فإن طمعت تاقت وإلا تسلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت صبري على الذل ذلت وقلت لها يا نفس موتي كريمة ... فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت ويعلق ابن حيان على محنة المصحفي بقوله: " وكانت لله عند جعفر، في إيثاره هشاماً بخلافته، واتباع شهوة نفسه وحظ دنياه، وتسرعه إلى قتل المغيرة لأول وهلة، دون قصاص جريرة استدركته دون إملاء، فسلط

عليه من كان قدر أن يتسلط على الناس باسمه " (¬1). وهكذا سار ابن أبي عامر إلى غايته بسرعة مدهشة، ولجأ في تحقيقها إلى أذكى الوسائل وأشدها، واستطاع بعزمه وصرامته وبارع خططه، أن يسحق كل عقبة، وأن يروع كل منافس ومناوىء. ويجمل ابن خلدون معركة ابن أبي عامر مع خصومه في تلك العبارة القوية: " ثم تجرد لرؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطهم عن مراتبهم، وقتل بعضهم ببعض، كل ذلك عن أمر هشام وتوقيعه، حتى استأصل شأفتهم، ومزق جموعهم" (¬2). ولم يكن مهلك المصحفي، بعد سحق الصقالبة، سوى حلقة جديدة في سلسلة المطاردة الشاملة التي نظمها ابن أبي عامر لاستئصال شأفة خصومه ومنافسيه. ذلك أنه جد في نفس الوقت، في مطاردة كل من يخشى بأسه من بني أمية أو غيرهم من زعماء القبائل، حتى سحق كل من يصلح منهم للولاية والرياسة، ومزقهم في البلاد شر ممزق، كل ذلك تحت شعار حمايته للمؤيد وللعرش، وفي ذلك يقول شاعر من شعراء العصر: أبنى أمية أين أقمار الدجى ... منكم وأين نجومها والكوكب غابت أسود منكم عن غابها ... فلذاك حاز الملك هذا الثعلب ولما خلا الجو لابن أبي عامر من أولياء الخلافة، والمرشحين للرياسة، اهتم بتنظيم الجيش. فأنشأ صفوفاً جديدة من المرتزقة من زناتة وصنهاجة وغيرهما من قبائل البربر، ومن الجند النصارى من ليون وقشتالة ونافار، وبذل لهم الأجور السخية، واجتذب قلوبهم بعدله ورفقه وجوده. وغير أنظمة الجيش القديمة، فقدم رجال البربر، وأخر زعماء العرب، وأقصاهم عن مناصبهم، وفرق جند القبيلة الواحدة في صفوف مختلفة، وكانوا من قبل ينتظمون في صف واحد. وكان العرب يتمسكون منذ أيام الفتح بوحدة القبيلة، لأن العصبية كانت في قبائلهم حتى أيام الناصر، ما تزال فتية قوية، ولكن الناصر عمل على سحق القبائل العربية، وإضعاف هيبتها، وجاء ابن أبي عامر فألفى الميدان ممهداً لخططه، فلم تلق سياسته الجديدة كبير معارضة (¬3). ¬_______ (¬1) راجع في محنة المصحفي، الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 48 و49، والبيان المغرب ج 2 ص 285 - 288، والحلة السيراء ص 142. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 147. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 316، وابن خلدون ج 4 ص 148، ونفح الطيب ج 1 ص 137. وراجع: Dozy: Hist. Vol. II. p. 232 & 233

الكتاب الثالث الدولة العامرية

الكِتابُ الثالِث الدّولة العامِريّة 368: 399 هـ - 978: 1009 م

الفصل الأول الحاجب المنصور

الفصل الأوّل الحاجب المنصور ابن أبي عامر يطمح إلى حلل الملك. إنشاؤه لمدينة الزهراء وانتقاله إليها. يؤلف حرسه من الصقالبة والبربر. تشدده في الحجر على هشام. موقف صبح من ذلك. ذيوع علاقتها مع ابن أبي عامر. تحولها إلى خصومته والتشهير به. تفاهمها مع القائد غالب. التفاف المعارضين حوله. جعفر بن حمدون الأندلسي يتولى الوزارة. تقاطر البربر من العدوة. الوحشة بين ابن أبي عامر وغالب. نهوض غالب لمحاربته. استعانته بملك ليون. القتال بين غالب وابن أبي عامر. مصرع غالب وهزيمة قواته. الموقعة حسبما يصفها ابن حزم. غزوات ابن أبي عامر. غايته من القيام بها. مسيره إلى ليون ومحاصرته لسمورة. هزيمته للنصارى في شنت منكش. توغله في ليون ثم عوده إلى قرطبة. اتخاذه لسمة الملك وتسميه بالحاجب المنصور. غدره بجعفر الأندلسي. الحرب الأهلية في ليون. اعتراف برمودو بطاعة المنصور. مسير المنصور إلى الغزو. يخترق شرقي الأندلس ويغزو قطلونية. اقتحامه لبرشلونة وتدميرها. حوادث المغرب. مسير الحسن بن كنون إلى غزو المغرب. المنصور يرسل جيشاً لقتاله. مطاردة الحسن وإرغامه على طلب الأمان. مسيره إلى قرطبة واغتياله. ندب الوزير السلمي لحكم المغرب. إجتماع قبائل البربر حوله. مسير زيري زعيم مغراوة إلى قرطبة. القتال بين السلمي وبني يفرن. مقتله وولاية زيري حكم المغرب. مسير زيري ثانية إلى قرطبة. عوده وخيبة أمله. غزو بني يفرن لفاس واحتلالها. القتال بين مغراوة وبني يفرن. اشتداد ساعد زيري. إنشاؤه لمدينة وجدة. غزو المنصور لليون واستيلاؤه على قلمرية. غزوه لنافار. ما تزعمه الرواية النصرانية. عود المنصور إلى غزو ليون. اقتحامه لمدينة ليون وتدميرها. استيلاؤه على سمورة. حوادث الثغر الأعلى. عبد الله ولد المنصور. تآمره مع عبد الرحمن التجيبي والي سرقسطة وآخرين. وقوف المنصور على المؤامرة في خروجه إلى الغزو. اعتقاله لعبد الرحمن التجيبي. فرار عبد الله والتجاؤه إلى غرسية أمير قشتالة. غزو المنصور لقشتالة وهزيمة أميرها. غرسية يرسل عبد الله استجابة لطلب المنصور. إعدامه. تأملات عن هذا الحادث. سانشو ابن غرسية يخرج عليه بتحريض المنصور. المنصور يغزو قشتالة ويستولي على شنت إشتيبن وكلونية. قصة الأيل الذي أهداه صاعد إلى المنصور. مسير المنصور إلى غزو ليون. إذعان برمودو وتعهده بأداء الجزية. المنصور يرشح ولده عبد الملك للولاية من بعده ويوليه الحجابة. اقتصاره على التسمي " بالمنصور ". اختصاصه بألقاب السيادة. إحجامه عن المساس بالخلافة. عوامل هذا الإحجام. موقف صبح أم المؤيد. اتصالها بزيري حاكم المغرب. تحوطات المنصور. تفاهمه مع هشام وموكبهما المشترك. يأس صبح ووفاتها. الوحشة بين المنصور وزيري. مسير عبد الملك إلى العدوة لمحاربة زيري. هزيمة البربر وسقوط فاس. عبد الملك يتولى حكم المغرب. الصلح بين زيري والمنصور. المنصور يغزو جليقية. اختراقه لأراضي البرتغال. استيلاؤه على بازو وقلمرية. توغله في جليقية ومسيره إلى شنت ياقب. يهدم أسوارها وكنيستها العظمى. مسيره شمالا حتى ثغر لاكرونيه. عوده من طريق لاميجو إلى قرطبة. ملك ليون يطلب

الصلح. غزوة أخرى لقشتالة. موقعة صخرة جربيرة. اقتحام المنصور لمدينة برغش. غزوه لنافار. آخر غزوات المنصور. ما تقوله الرواية الإسلامية. موقعة قلعة النسور. ما تقوله عنها الرواية النصرانية. آراء البحث الحديث في شأنها. مرض المنصور ووفاته. قبره بمدينة سالم. أضحى ابن أبي عامر، بعد أن قضى على كل خصومه ومنافسيه، وحده، سيد الميدان، وأضحى بعد أن وضع يده على الجيش، صاحب السلطة العليا دون منازع ولا مدافع. ولم يكن الخليفة هشام المؤيد، بعد ذلك، سوى أداة لينة في يد المتغلب القوي، يوجهها كيف يشاء. على أن ابن أبي عامر لم يقنع بما حققه لنفسه من الاستئثار بالسلطة الفعلية. وعلى الرغم من أنه لم يفكر يومئذ في الافتئات على شىء من رسوم الخلافة الشرعية، فإنه اتجه إلى أن يتشح بحلل الملك في صورة من صوره، فتكون له ثوباً خلاباً، يتوج سلطانه الفعلي، بمظاهر العظمة والأبهة الملوكية. ولم يكن اتجاه ابن أبي عامر يقف عند تحقيق المظهر دون غيره، ولكن كانت لديه أسباب عملية قوية، تدعو إلى التحوط من أخطار التآمر والغيلة، وقد أصبح يخشى على نفسه من الوجود في قصر الزهراء، ومما قد يضمره بعض الحاقدين المتربصين (¬1)، ورأى أن يتخذ له مركزاً مستقلا للإدارة والحكم، يجمع بين السلامة ومظاهر السلطان والعظمة. فوضع أسس مدينة ملوكية جديدة أسماها الزاهرة (368 هـ - 978 م). وقد اختلف في الموقع الذي كانت تحتله الزاهرة لأن البحوث الأثرية الحديثة لم تكشف شيئاً من معالمها، مثلما فعلت بالنسبة لمدينة الزهراء. ويقول البعض إنها كانت تحتل بسيطاً يقع جنوب شرقي قرطبة في منحنى نهر الوادي الكبير، وعلى قيد أميال قليلة منها. ويقول البعض الآخر إنها كانت تحتل بقعة على مقربة من شرقي قرطبة على الضفة الجنوبية لنهر الوادي الكبير (¬2). وأنشأ المنصور بالزاهرة قصراً ملوكياً فخماً، ومسجداً، ودواوين للإدارة والحكم، ومساكن للبطانة والحرس، وأقام حولها سوراً ضخماً، ونقل إليها خزائن المال والسلاح، وإدارات الحكم؛ وتم بناء المدينة الجديدة في نحو عامين، وأقطع ما حولها للوزراء والقادة، وأكابر رجال الدولة، فابتنوا الدور العظيمة، وأنشئت الشوارع والأسواق الفسيحة، واتصلت أرباضها بأرباض قرطبة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 294، وأعمال الأعلام 62. (¬2) وهذا يستفاد من أقوال ابن حزم في " طوق الحمامة " ص 110.

وأضحت تنافس المدينة الخليفية في الضخامة والرونق. وفي أوائل سنة 370 هـ (980 م)، انتقل محمد بن أبي عامر إلى مدينة الزاهرة، واتخذ له حرساً خاصماً من الصقالبة والبربر، وأحاط قصره الجديد بالحراس والحاشية، يرقبون كل حركة وسكنة في الداخل والخارج، وأقفرت بذلك مدينة الزهراء الخليفية، وهجر الوزراء والكبراء قصر الخلافة، وساد الصمت حول مركز الخلافة الشرعي؛ وأنشأ ابن أبي عامر في نفس الوقت حول القصر الخليفي سوراً وخندقاً، وأحكم غلق أبوابه، ووكل بها من يمنع دخول أي شخص أو نبأ إلى الخليفة دون علمه وإذنه. وبث عيونه على هشام وحاشيته، وأشاع أنه قد فوض إليه النظر في سائر شئون المملكة، لكي يتفرغ لشئون العبادة. وهكذا أهمل شأن الخليفة الفتى، وقطعت سائر علائقه مع الخارج، ولبث محجوباً في أعماق قصره، يغمره الخمول والنسيان (¬1). ماذا كان موقف صبح إزاء هذا الانقلاب الحاسم في مركز ولدها ومركز الخلافة؟ لاريب أنها كانت بموقفها وتصرفها، أكبر معين لابن أبي عامر على إحداثه، وكان حبها المضطرم لذلك الرجل الذي ملك عليها كل مشاعرها وعقلها، يدفعها دائماً إلى مؤازرته والإذعان لرأيه، وكان إعجابها الشديد بمقدرته وتوفيقه يضاعف ثقتها به، ويعميها دائماً عن إدراك الغاية الخطيرة التي يسعى إلى تحقيقها، هذا إذا لم نفترض أن تلك البشكنسية المضطرمة الجوانح، كانت تذهب في حبها إلى حد الائتمار بولدها وتضحية حقوقه ومصالحه. والظاهر أن علائقها بابن أبي عامر قد انتهت بالخروج عن كل تحفظ، وغدت فضيحة قصر ذائعة، شهر بها مجتمع قرطبة، وتناولها بلاذع التعليق والهجو، وظهرت بهذه المناسبة قصائد وأناشيد شعبية كثيرة، في التشهير بحجر ابن أبي عامر على هشام وعلائقه بصبح، فمن ذلك ما قيل على لسان هشام في الشكوى من الحجر عليه: ْأليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعاً عليه وتملك باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شىء في يديه (¬2) ومن ذلك ما قيل في هشام وأمه صبح، وقاضيه ابن السليم: ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 295 و296 و297 و298، وابن خلدون ج 4 ص 148 والحلة السيراء ص 149، ونفح الطيب ج 1 ص 272. (¬2) هذان البيتان ينسبان أيضاً إلى المقتدر العباسي.

اقترب الوعد وحان الهلاك ... وكل ما تحذره قد أتاك خليفة يلعب في مكتب ... أمه حبلى وقاض ... (¬1) وهذه الأناشيد اللاذعة وأمثالها تعبر عن روح العصر، وتدل على ما كان يثيره موقف صبح وسمعتها، من الحملات المرة. وتتفق الرواية الإسلامية في الإشارة إلى هذه العلاقة الغرامية التي استطال أمدها، بين صبح وابن أبي عامر، وإن كانت تؤثر التحفظ والاحتشام، ولم نجد ما يعارضها سوى كلمة أوردها المقري لكاتب مغربي يدافع فيها عن ابن أبي عامر، ويدفع عن صبح تهمة شغفها به، ويرمي أولئك الشعراء بالتحامل والكذب (¬2). على أنه يبدو أن الحوادث قد بدأت تتطور من ذلك الحين، وأن موقف صبح قد بدأ يتخذ وجهة أخرى. فقد أدركت صبح أخيراً ما يرمي إليه ابن أبي عامر، وأدركت خطورته على مستقبل ولدها، ومستقبل الأسرة والخلافة، فثارت نفسها سخطاً. وكانت صبح قد جاوزت الأربعين يومئذ، وقد تصرم ذلك الحب القديم، الذي شغفها بابن أبي عامر دهراً، وأضحت تبغض ذلك الرجل الذي سلب ولدها، وسلبها كل نفوذ وسلطة، ومن ذلك الحين تنقلب صبح إلى خصومة ابن أبي عامر ومقاومته. وقد كان من الصعب، إزاء عزم ابن ابي عامر ويقظته، وسلطانه الشامل، ان تستطيع صبح القيام بأية عمل مباشر، فلجأت عندئذ إلى العمل المستتر، وأخذت تبث في نفس ولدها هشام، بغض ابن أبي عامر والسعي إلى مناوأته واسترداد سلطانه منه، وتولى مقاليد الحكم بنفسه، وشهرت بواسطة أعوانها من الناقمين، على ابن أبي عامر، دعاية شديدة، واتهمته بأنه يسجن الخليفة الشرعي ويحكم رغم إرادته ويغتصب سلطته. والظاهر أن صبحاً لم تقف عند هذا الحد من المقاومة الأدبية، وأنها حاولت في نفس الوقت، أن تقوم بمحاولة عملية لمقاومة أبن أبي عامر وإسقاطه. وربما كان لتدبير صبح وتحريضها، أثر فيما وقع يومئذ بين ابن أبي عامر وصهره القائد غالب، صاحب مدينة سالم. وكان غالب بالرغم من تقلده خطة الوزارة، يقيم بالثغر، بعيداً عن قرطبة. وكان يتمتع في قرطبة وسائر مدن الأندلس ¬_______ (¬1) البيان المغرب عن ابن حيان ج 2 ص 300، ونفح الطيب ج 1 ص 281. (¬2) راجع نفح الطيب ج 1 ص 282.

بسمعة عالية في ميدان الفروسية والقيادة، وهو ما كان ينقمه ابن أبي عامر على صهره. وكان المعارضون يرون فيه الرجل الوحيد، الذي يستطيع أن يقارع ابن أبي عامر ويقاومه. فرأى ابن أبي عامر أن يرفع إلى مرتبة الوزارة جعفر بن علي ابن حمدون المعروف بالأندلسي، وكان من مشاهير الفرسان والقادة البربر من زناته، وكان مقيماً بالعدوة، فعبر البحر إلى الأندلس، واستقر في الوزارة، يكنفه ابن أبي عامر بحبه وثقته، ويستعين به على تأليف البربر وكسب محبتهم، ولاسيما بعد أن غدوا يؤلفون معظم حرسه وحاشيته. وتقاطر البربر من العدوة، وابن أبي عامر يستقبلهم بأوفر ضروب البذل والإحسان، ويقوي بهم صفوفه وبطانته. وكان غالب يستشعر الوحشة والريبة من تصرفات صهره، ويتوقع منها سوء العاقبة. ولم يمض قليل حتى ساء التفاهم بين غالب وصهره، فعمد غالب إلى مصانعة ابن أبي عامر، ودعاه أثناء غزوه بالصائفة في أراضي قشتالة، إلى وليمة أقامها بمدينة أنتيسة (¬1)، إحدى مدن الثغر التي تحت ولايته، وجاء ابن أبي عامر إلى القلعة حيث أقيمت الوليمة، في بعض أصحابه، فانفرد به غالب وشرع في عتابه. ثم اشتد بينهما النقاش، فشهر غالب سيفه على صهره فجأة، فأصابه في بعض أنامله وصدغه، واستطاع ابن أبي عامر أن يفر ناجياً بنفسه، من مأزق بالغ الخطورة. وامتنع غالب بالقلعة، بينما سار ابن أبي عامر لفوره إلى مدينة سالم، حيث دار غالب وأهله، فاستولى عليها وعلى سائر أمواله ومتاعه، وفرقها في الجيش، وعاد إلى الحضرة، وهو يضمر لغالب أسوأ النيات. وكان غالب أعظم قادة الأندلس وأبرعهم في ذلك العصر، وكانت لديه في الثغر قوات يعتد بها، فنهض لقتال قوات ابن أبي عامر، وغلب عليها، في البداية غير مرة. ثم رأى أن يستعين براميرو الثالث ملك ليون، فأمده ببعض قواته. وسار ابن أبي عامر لمقارعة خصمه في معركة حاسمة. ووقع اللقاء بين الفريقين أمام حصن شنت بجنت San Vicente على مقربة من أنتيسة، ونشبت بينهما معركة شديدة، أبلى فيها غالب وقواته بلاء حسناً وكاد يحرز النصر في البداية، ولكنه ما لبث أن سقط ميتاً عن جواده خلال المعمعة، ولم يعرف سبب مصرعه لأنه لم يقتل بيد أحد، وحملت رأسه في الحال إلى ابن أبي عامر، فدب الوهن ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Atienza. وهي تقع شمال وادي الحجارة، على مقربة من غربي مدينة سالم.

والذعر إلى قواته، وطاردتها قوات الأندلس، وأمعنت فيها قتلا وأسراً، وهلك من الجند النصارى الذين كانوا يقاتلون إلى جانب غالب عدد جم. وكان بين القتلى أمير نصراني هو راميرو ابن سانشو أباركا من أمراء البشكنس (¬1). وقتل كذلك في المعركة عدة من الكبراء والقادة المسلمين، الذين كانوا مثل غالب يعارضون سياسة ابن أبي عامر. وكان ذلك في الرابع من محرم سنة 371 هـ (أغسطس سنة 981 م) (¬2). وقد روى الفيلسوف ابن حزم عن أبيه الوزير ابن حزم، وزير ابن أبي عامر، وكان ممن صحبه في تلك الموقعة، تفاصيل الموقعة حسبما شهدها. وهو يصف لنا هيئة القائد غالب خلال الموقعة في قوله: " وهو شيخ كبير قد قارب الثمانين عاماً وهو على فرسه، وفي رأسه طرطور عال، وقد عصب حاجبيه بعصابة " قال: وكان قد جمع جموعاً عظيمة من المسلمين والنصارى، فبدأ بالهجوم على الميمنة، وفيها جعفر بن علي وأخوه يحيى والبربر، وحمل عليهم حملة، أزاحتهم عن مواقعهم، ومزقت صفوفهم؛ ثم حمل على الميسرة، وكان فيها الوزير ابن حزم مع غيره من الرؤساء، ففعل بها كما فعل بالأولى. ثم أخذ يتأهب لمهاجمة القلب، وهو تحت قيادة ابن أبي عامر نفسه، وهو يقول: " اللهم إن كنت أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره ". ثم يصف لنا ابن حزم مصرع غالب على النحو الآتي، قال: " فهز فرسه، وترك جبهة القتال وأخذ ناحية إلى خندق كان في جانب عسكره، فظن أصحابه أنه يريد الخلاء، فلما أبطأ عليهم ركبت طائفة منهم نحوه، فوجدوه قد سقط إلى الأرض ميتاً، وقد فارق الدنيا بلا ضربة ولا رمية ولا أثر، وفرسه واقف بجانبه يعلك لحامه، ولا يعلم أحد سبب موته. فلما أدرك أصحابه سقط في أيديهم، وطلبوا حظ أنفسهم، فبادر مبادر منهم بالبشرى إلى ابن أبي عامر، فلم يصدق حتى وافى مواف بخاتمه، ووافاه آخر بيده، ووافاه آخر برأسه ". هذا وقد بلغت القسوة بابن أبي عامر، أن أمر بالتمثيل بجثمان خصمه الصريع ¬_______ (¬1) وهو الذي تسميه الرواية العربية برذمير بن شانجه ويعرف " براي قرجة ". (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 298 و299، وأعمال الأعلام ص 62 و63. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 233 & 234.

الباسل، فحشى جلده بالقطن، وصلب على باب القصر بقرطبة، وصلب رأسه على باب الزاهرة، ولبث كذلك دهراً، حتى أدركه الفيلسوف ابن حزم نفسه، وهو فتى، وذلك عند إنزاله يوم هدم الزاهرة في سنة 399 هـ (1008 م) (¬1). * * * وهنا تبدأ سلسلة هذه الغزوات الشهيرة العديدة، التي شهرها ابن أبي عامر على الممالك الإسبانية النصرانية، واستمر يضطلع بها باستمرار ودون هوادة، والتي خرج منها جميعاً متوجاً بغار الظفر، ولم يهزم في أية واحدة منها. وتتحدث معظم الروايات الإسلامية عن حروب ابن أبي عامر وغزواته بإفاضة، وتعددها بأكثر من خمسين غزوة. ولكنها لا تقدم إلينا عنها تفاصيل واضحة، ولاسيما عن الزمان والمكان (¬2)، ويجمل ابن خلدون ذكرها في قوله: " وردد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، فغزا اثنين وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه، لم ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش، ولا أصيب له بعث ولا هلكت سرية " (¬3). وتجمل الرواية الإسلامية بواعث هذه الغزوات المستمرة في نزعة الجهاد. ولكن الحقيقة هي أن ابن أبي عامر، كان باضطلاعه بتلك الغزوات المتعاقبة يرمي إلى غاية سياسية بعيدة المدى، لم يفكر فيها أحد قبله من أمراء الأندلس، أو لم يجد لديه وسيلة أو مقدرة لتنفيذها. ذلك أنه فكر في أن يسحق الممالك الإسبانية النصرانية سحقاً تاماً، وأن يقضي على استقلالها القومي، وأن يخضعها جميعاً إلى سلطة الخلافة. وقد خالف ابن أبي عامر في غزواته، سنن أسلافه من الأمراء والقادة، فقد كان هؤلاء يحاربون في معظم الأحيان للدفاع ورد غارات النصارى، ولكن ابن أبي عامر كان هو البادئ بالحرب دائماً، ولم يقبل من أعدائه قط صلحاً أو مهادنة، ولم يقنع إلا بالنصر الكامل. ¬_______ (¬1) راجع رواية ابن حزم في رسالة " نقط العروس " (المنشورة في مجلة كلية الآداب بالقاهرة في عدد ديسمبر سنة 1951) ص 81 و82. (¬2) ذكر ابن الأبار في الحلة السيراء أن المؤرخ الكبير أبو مروان ابن حيان قد استوعب هذه الغزوات وفصلها في كتابه الكبير الذي ألفه في أخبار الدولة العامرية. ولكن هذا المؤلف لم يصل بعد إلينا (ص 149). (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 148. وكذلك ابن الأثير ج 8 ص 224 وج 9 ص 12.

ولكن سوف نرى أن غزوات المنصور، بالرغم من تحري هذه الغاية البعيدة المدى، وبالرغم مما كان يحالفها من الظفر المستمر، لم تخرج في مجموعها عن أساليب الصوائف والغزوات الإسلامية المأثورة، ولم تتجه بالفعل إلى تحري هذه الغاية الكبرى. سار ابن أبي عامر عقب الفراغ من أمر صهره غالب، إلى مملكة ليون، ليعاقب ملكها راميرو الثالث على معاونته لخصمه غالب، وتدخله على هذا النحو في شئون الأندلس، وقصد إلى مدينة سمورة الحصينة الواقعة شمالي شلمنقة، وضرب حولها الحصار (أوائل سنة 371 هـ الموافقة 981 م) ولكنه لم يستطع الاستيلاء على قلعتها المنيعة بسرعة، فتركها وعاث فيما حولها من السهول، وأمعنت قواته في التخريب والقتل، وأحرقت مئات القرى والضياع، وهام النصارى على وجوههم في الجبال والوديان ألوفاً مؤلفة. وهرع راميرو الثالث إلى غرسية فرنانديز كونت قشتالة، وسانشو ملك نافار، وعقد الثلاثة تحالفاً لمحاربة ابن أبي عامر، وسارت قواتهم المشتركة للقائه. ونشب القتال بين الفريقين في ظاهر بلدة " روضة " في جنوب غربي " شنت منكش " (¬1)، فهزم النصارى وقتل منهم عدد كبير، واستولى المسلمون على قلعة شنت منكش الشهيرة؛ ثم زحف ابن أبي عامر بعد ذلك شمالا إلى مدينة ليون عاصمة المملكة، وهنالك وقف راميرو في قواته محاولا اعتراضه، وحاول المسلمون اقتحام المدينة، ووصلوا في هجومهم بالفعل إلى أبوابها، ولكن الشتاء كان قد دخل، وغمرهم البرد والثلوج، فاضطروا إلى وقف القتال، وعاد ابن أبي عامر إلى قرطبة بعد غزوات دامت بضعة أشهر (¬2). وعلى أثر هذا النصر، وفي أواخر سنة 371 هـ (أواخر 981 م) اتخذ ابن أبي عامر سمة الملك، فتسمى بالحاجب المنصور، وأمر بالدعاء له على المنابر، ونفذت الكتب والأوامر باسمه عن " الحاجب المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر " ونقش اسمه في السكة، وجرى الوزراء ورجال الدولة على تقبيل يده، عند المثول لديه، واجتمعت حول شخصه، وحول داره، مظاهر الجلالة الملكية، وتم بذلك استئثاره بجميع السلطات والرسوم، ولم يبق من الخلافة الأموية سوى ¬_______ (¬1) روضة هي بالإسبانية Rueda، وشنت منكش هي Simancas. (¬2) Dozy: Hist. Vol. II. p. 234-235 ; Recherches (3ème ed.) Vol. I. p. 180-181.

الاسم (¬1). هذا وسوف نجري منذ الآن فصاعداً على تسمية ابن أبي عامر باسمه الملكي: المنصور. وكان المنصور حين استقدم جعفراً بن علي الأندلسي، ورفعه إلى خطة الوزارة ليعارض به نفوذ القائد غالب، وليوثق بوجوده مودة البربر وتأييدهم، يتوجس مع ذلك من وجوده وسلطانه، ويخشى أطماعه ومشاريعه، في الناحية الأخرى من البحر، فما كاد ينتهي من أمر غالب، ومن ترتيب رسومه الملكية، حتى قرر أمره، فدعاه ذات مساء إلى مأدبة حافلة، وأغرى به السقاة حتى فقد وعيه، ثم دس عليه في طريقه إلى منزله من قتله، وحمل إليه رأسه سراً (372 هـ). فتظاهر المنصور بالحزن على ضحيته، وكانت هذه الجريمة المثيرة، عنواناً لبعض النواحي القاتمة، في خلاله وفي وسائله السياسية (¬2). وفي ذلك الحين كانت الأحوال قد اضطربت في ليون، وفقد راميرو الثالث من جراء هزائمه المتوالية كل عطف وتأييد، وزاد الشعب نقمة عليه، محاولاته في توسيع سلطانه، وتمكين حكمه المطلق. وما لبثت جليقية أهم ولاياته، أن اضطرمت بالثورة، وقرر أشرافها خلع راميرو، وتولية ابن عمه برمودو (أو برمند) ملكاً مكانه. وفي أكتوبر سنة 982 م، توج هذا الأمير ملكاً على ليون في مدينة شنت ياقب. فسار راميرو إلى محاربته ونشبت بينهما موقعة شديدة غير حاسمة، في بلدة بورتليا دي أريناس، على حدود ليون وجليقية، ثم عاد برمودو إلى جمع قواته، وسار لمحاربة خصمه. مرة أخرى، فهزمه واستولى على مدينة ليون في مارس سنة 984. فالتجأ راميرو إلى مدينة أسترقة، والتمس مساعدة المنصور، على أن يعترف بطاعته؛ ولكنه توفي بعد ذلك بأشهر قلائل؛ وحاولت أمه أن تحكم مكانه بمعاونة المنصور، فأبى المنصور أن يستمع إليها وأدرك برمودو من جهة أخرى أنه لن يستطيع مقاومة الأشراف المعارضين لحكمه إلا بمعاونة المسلمين، فتقدم إلى المنصور، وعرض أن يعترف بطاعته، فقبل المنصور وأمده بجيش، استطاع أن يخضع به سائر المملكة، وأن يوطد حكمه. وبقيت بعد ذلك في مدينة ليون حامية كبيرة من المسلمين. ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 148، والبيان المغرب ج 2 ص 299، و300. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 301، وأعمال الأعلام ص 65.

وهكذا غدت مملكة ليون الإسبانية النصرانية لأول مرة، ولاية تابعة لحكومة قرطبة، تؤدي لها الجزية، وتأتمر بأوامرها، وكانت هذه أول ثمرة لسياسة الغزو المنظم، التي سار عليها المنصور. وتحول اهتمام المنصور بعد ذلك إلى شمال شرق الأندلس، فحشد جيشاً ضخماً استعداداً لغزوة هامة، لم تخطر من قبل لأحد من أمراء الأندلس. وخرج في قواته من قرطبة في ذي الحجة سنة 374 هـ (مايو 985 م)، ومعه عدة من الكتاب والشعراء، يجتمعون في مجلسه خلال السير. وتوصف غزوة المنصور هذه بأنها الثالثة والعشرون. وسار المنصور جنوباً صوب إلبيرة (غرناطة)، ثم اتجه شرقاً إلى بسطة، فلورقة، فتدمير، فمرسية، وأقام في مرسية ثلاثة وعشرين يوماً في ضيافة أحمد بن عبد الرحمن المعروف بدجيم بن مروان بن خطاب وولده أبى الأصبغ موسى. وكان ابن خطاب من أعظم رجالات الأندلس وجاهة وثراء وجوداً؛ ومن المدهش حقاً، ما تنقله إلينا الرواية، من أنه استضاف المنصور وسائر حاشيته وجيشه خلال هذه المدة، وتكفل بسائر النفقات، وأبدى من ضروب الجود والبذخ ما يفوق قصص ألف ليلة وليلة، وغدا بذلك من أعظم أصدقاء المنصور وأكثرهم حظوة لديه (¬1). وسار المنصور في جيشه بعد ذلك شمالا. وكان يقصد ثغر برشلونة العظيم. وقد لبثت برشلونة منذ الفتح في أيدي المسلمين نحو قرن من الزمان، وكانت أعظم ثغور الأندلس الشمالية الشرقية، ثم افتتحها عاهل الفرنج شارلمان أو كارل الأكبر في سنة 801 م (185 هـ) أيام الحكم بن هشام، بعد حصار طويل، وبعد أن دافع المسلمون عنها أروع دفاع. واتخذ الفرنج من برشلونة قاعدة لولاية " الثغر القوطي "، الذي نما فيما بعد، واستطاع حكامه الكونتات القوط مع الزمن، أن ينتزعوه من يد الفرنج، وأن يجعلوا منه إمارة مستقلة، هي إمارة قطلونية، التي ¬_______ (¬1) الحلة السيراء عن ابن حيان وابن الفياض ص 251 و252 و253. هذا ويقدم إلينا العذري نسبة ابن خطاب كاملة، فهو أحمد بن عبد الرحمن المعروف بدجيم بن مروان بن خطاب بن محمد بن مروان بن خطاب بن عبد الجبار الداخل. ويقول لنا إنه استضاف المنصور وجميع عسكره أياماً، وصنع له فيما صنع حماماً كان ماء الحمام من ماء الورد الطيب للغاية وأهدى له قناطر من الفضة الخالصة. (العذري في كتاب ترسيع الأخبار السابق ذكره ص 15).

حافظت عصراً على استقلالها، ثم اندمجت بعد ذلك في مملكة أراجون القوية (¬1). واخترق المنصور بجيشه قطلونية، وهزم قوات أميرها الكونت بوريل، في أواخر شهر يونيه، وأشرف على ظاهر برشلونة في اليوم الأول من يوليه، ولم تمض أيام قلائل حتى اقتحم المسلمون المدينة، ودخلوها في يوم الاثنين منتصف صفر، سنة 375 هـ، الموافق سادس يوليه سنة 985 م (¬2). ودمر المسلمون المدينة وأحرقوها، وقتلوا معظم أهلها، وتركوها قاعاً صفصفاً، وكان بين الأسرى أودلرادو نائب كونت برشلونة، فاقتيد إلى قرطبة، حيث قضى في الأسر أعواماً طويلة. والظاهر أن المنصور لم يحاول الاحتفاظ ببرشلونة، ولم تكن لديه نية افتتاحها بصورة دائمة، ولكنه قصد أن يدمر قوى النصارى في هذا الطرف النائي من شبه الجزيرة الإسبانية. * * * وما كاد المنصور يرتد بجيشه إلى قرطبة، حتى استغرقت حوادث المغرب جل اهتمامه. وقد فصلنا فيما تقدم عند الكلام على عهد عبد الرحمن الناصر، ثم عهد ولده الحكم المستنصر، أدوار الصراع الذي نشب في المغرب الأقصى، بين الفاطميين مذ قامت دولتهم في إفريقية، وبين بني أمية، ورأينا كيف استطاع الحكم المستنصر، بعد سلسلة من الأحداث المثيرة، والمعارك الطاحنة، بينه وبين الفاطميين وحلفائهم الأدارسة بالمغرب، أن يقضي على قوى الشيعة والأدارسة، وكيف استسلم إليه الأدارسة وكبير زعمائهم الحسن بن كنون في سنة 363 هـ، واستقروا حيناً في كنفه في قرطبة، ثم خرجوا منها بعد ذلك بعامين، وساروا إلى مصر حيث استقروا بها في كنف خليفتها الفاطمي العزيز بالله. وكان العزيز قد شغل في أوائل ولايته، برد خطر القرامطة عن مصر والشأم؛ فلما تمت هزيمة القرامطة، وزال خطرهم (368 هـ)، عاد إلى الاهتمام بشئون المغرب، وثاب له رأي في العمل على استعادة سلطان الدعوة الفاطمية، وسحق ¬_______ (¬1) راجع تفاصيل ذلك في القسم الأول من العصر الأول من " دولة الإسلام في الأندلس " ص 234 - 236. (¬2) تتفق الروايات النصرانية مع الرواية الإسلامية في تحديد تاريخ دخول المسلمين لبرشلونة على هذا النحو. راجع الإحاطة لابن الخطيب (القاهرة) ج 2 ص 71. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 239. والمراجع.

الدعوة المروانية في المغرب الأقصى، فأوعز إلى نائبه على إفريقية (تونس) بُلُكّين بن زيري بن مناد الصنهاجي، أن يسير في قواته إلى المغرب؛ فبدأ بلكين زحفه على المغرب سنة 369 هـ، فاستولى على مدينة فاس، وهزم سائر الأمراء الذين تصدوا لمقاومته من زناتة وغيرهم، وفر أولئك الأمراء المعارضون جميعاً إلى الشمال، واعتصموا بسبتة، وبعثوا إلى المنصور يستغيثون به. فعهد المنصور يومئذ، إلى جعفر بن علي بن حمدون المعروف بالأندلسي، وهو من زعماء زناته بمحاربة بلكين، وأمده بالجند والمال، والتف حوله باقي الزعماء. ولكن بلكين استمر في تقدمه، رغم كل معارضة، حتى استولى على المغرب كله، ولم يبق منه بيد خصوم الشيعة سوى القطاع الشمالي. وفي سنة 373 هـ (983 م) بعث العزيز بالله، الحسن بن كنون زعيم الأدارسة، من مصر إلى المغرب تحقيقاً لملتمسه، ليسعى إلى استرجاع ملكه، وقلده عهده، وأمر نائبه على المغرب بلكين أن يمده بالقوات اللازمة؛ وكان العزيز، ووزيره ابن كلِّس تخالجهما أيضاً رغبة في التخلص من الحسن وصحبه، والتخفف من مؤنتهم (¬1). فسار الحسن إلى المغرب، في جيش صغير أمده به بلكين، ودعا لنفسه، فالتف حوله كثير من البربر، ولاسيما بني يفرن، وجاهروا بطاعته؛ وعلم المنصور بخبره، فبعث ابن عمه الوزير أبا الحكم عمرو بن عبد الله بن عامر المعروف بعسكلاجة، في جيش كثيف، إلى المغرب، لقتاله والقضاء على دعوته. فعبر البحر إلى سبتة لقتال الحسن، وانضم إليه زعماء مغراوة في قواتهم، وفي مقدمتهم كبيرهم زيري بن عطية بن خزر، ثم بعث المنصور لإمداده جيشاً آخر إلى المغرب بقيادة ولده عبد الملك. وطارد عسكلاجة الحسن، ثم أحاطه بقواته، وحاصره حتى أرهقه الحصار، ولم ير بداً من طلب الأمان والتسليم، على أن يسير إلى الأندلس كسابق عهده، فأجيب إلى طلبه، وأرسل على عجل إلى قرطبة تحقيقاً لرغبة المنصور. ولما علم المنصور بمقدم الحسن، آثر أن ينقض الأمان الذي منحه ابن عمه، وأن يقضي على حياة ذلك الخصم العنيد، الذي تكرر خروجه على حكومة قرطبة، فأنفذ إليه من قتله في الطريق وأتاه برأسه، وذلك في جمادى الأولى سنة 375 هـ (أواخر سنة 985 م) وانهارت بذلك دعوة الأدارسة ¬_______ (¬1) " نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 19.

بالمغرب الأقصى، وتفرق أنصارهم، وركدت ريحهم. وعلى أثر ذلك ندب المنصور لحكم المغرب الوزير الحسن بن أحمد بن عبد الودود السلمي، ومنحه السلطان المطلق، وأمره أن يعمل على استمالة البربر في تلك الأقطار، إذ يجب أن لا ننسى أن البربر كانوا للمنصور ظهيراً، وعوناً على إخضاع القبائل العربية بالأندلس، ومنهم اتخذ المنصور حاشيته وجنده، وكثيراً من رجالات حكومته وجيشه. فسار الوزير إلى المغرب (376 هـ) ونزل بفاس، وضبط شئون البلاد، واجتمعت إليه أمراء زناته ومغراوة، واتخذ من زعيم مغراوة زيري بن عطية عوناً وحليفاً، لما أبداه من إخلاص للدعوة المروانية وتأييدها. واستدعى المنصور زيري للوفود عليه، فسار إلى قرطبة، واحتفى المنصور بمقدمه، وأسبغ عليه كثيراً من مظاهر العطف والتكريم، وأوعز إليه بمقاتلة بني يفرن أولياء الفاطميين؛ فلما عاد زيري إلى المغرب سار مع الوزير الحسن إلى قتال بني يفرن وزعيمهم يدُّو بن يَعلى، ولكنه هزم، وجرح الوزير الحسن، ثم توفي متأثراً بجراحه (سنة 381 هـ). فلما علم المنصور بذلك عقد لزيري على المغرب، وندبه لحكمه، وأمره بضبط الأمور، والتعاون مع جيش الخلافة، وأصحاب الحسن، فاضطلع زيري بمهام الحكم بمقدرة وكفاية، وكان حازماً، قوى النفس والعزم، فقوى أمره وتوطد سلطانه، ولكنه لبث مشغولا بأمر خصومه من بني يفرن وغيرهم، ولبثت الحرب سجالا بينهم مدى حين (¬1). وفي سنة 382 هـ (992 م) استدعى المنصور زيري بن عطية، للقدوم عليه للمرة الثانية، فاستخلف زيري على المغرب ولده المعز، وسار إلى قرطبة، وقدم إلى المنصور هدية عظيمة منها طيور نادرة، وحيوانات غريبة، وأسود؛ فأكرم المنصور وفادته، وأنزله بقصر المصحفي، وغمره بالمال والصلات، ومنحه لقب الوزارة، وجدد له عهده على المغرب، وعلى جميع ما غلب عليه؛ ولكن زيري لم يبتهج بلقب الوزارة، بل بالعكس ساءه ذلك، إذ كان يعتبر نفسه في مرتبة الإمارة، فعبر البحر إلى العدوة وفي نفسه مرارة وخيبة أمل. وما كاد يصل إلى طنجة حتى نمى إليه أن خصومه الألداء بني يفرن وأميرهم يدُّو ¬_______ (¬1) راجع في حوادث المغرب الأقصى، ابن خلدون ج 7 ص 28 - 30، والاستقصاء ج 1 ص 88 - 92، و" نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 17 - 21.

ابن يعلى، قد انتهزوا فرصة غيبته، فزحفوا على فاس واستولوا عليها، وقتلوا بها كثيراً من رجال مغراوة. فأسرع بالسير إلى فاس، وهناك جمع قواته، ونشبت بين مغراوة وبني يفرن معارك عديدة متوالية، قتل فيها كثير من الطائفتين وانتهت بهزيمة بني يفرن ومقتل أميرهم يدُّو، وبعث زيري برأسه إلى المنصور (383 هـ). وأصبح زيري بعد هزيمة بني يفرن وركود أمرهم، أعظم أمراء المغرب قوة وبأساً، واستقر سلطانه في سائر أنحاء المغرب، واستمر في الظاهر على ولائه للمنصور، وللدعوة الأموية. ولكن نفسه كانت تجيش بمشاريع أخرى. ولما كانت فاس بموقعها في الطرف الغربي للمغرب، وعلى مقربة من مواطن القبائل الخصيمة، أصبحت لا تصلح لمشاريعه، فقد اعتزم أن ينشىء لنفسه قاعدة جديدة، فأنشأ مدينة وجدة الواقعة جنوبي شرقي مليلة، وعلى مقربة من جنوب غربي تلمسان، وابتنى بها قصبة منيعة وقصراً، وأحاطها بأسوار ضخمة، ونقل إليها أمواله وذخائره، وسكنها بأهله وحشمه، واتخذها قاعدة الحكم (سنة 386 هـ - 996 م) لموقعها المتوسط بين المغربين الأوسط والأقصى (¬1). * * * ولنقف الآن قليلا في تتبع حوادث المغرب، لنعود إلى تتبع حوادث الأندلس، ذلك أن المنصور سار على سنته من المضي في غزو الممالك النصرانية. وكانت الأحوال في ليون ما تزال بعيدة عن الإستقرار، نظراً لما كان يضطرم بين حامية ليون المسلمة، وبين النصارى من الشغب المستمر. وكان برمودو ملك ليون، بعد أن استتب له الأمر، يرقب الفرص لإخراج المسلمين من مملكته، فجد في جمع قواته، وانقض ذات يوم على المسلمين، وطاردهم إلى خارج حدوده، فاضطر المنصور أن يرد بغزو ليون، فسار في قواته نحو الشمال مخترقاً أراضي ليون، ثم سار غرباً إلى مدينة قُلُمرية، الواقعة في شمال البرتغال على مقربة من المحيط، واستولى عليها في يونيه سنة 987 م (378 هـ)، وأمعن في تخريبها حتى لبثت قاعاً صفصفاً مدى سبعة أعوام. وفي خلال ذلك كان البشكنس أو النافاريون قد أغاروا بقيادة ملكهم سانشو على أراضي الثغر الشمالي، فسار المنصور إلى ¬_______ (¬1) الإستقصاء ج 1 ص 92.

قتالهم وطاردهم حتى مدينة بنبلونة عاصمة نافار؛ وهنا تقول الرواية النصرانية إن البشكنس انقلبوا إلى الهجوم، وهزموا المسلمين (أواخر 987 م). ثم تزيد على ذلك أن جيشاً من الفرنسيين، قد سار في نفس الوقت إلى برشلونة، تعاونه سفن من البحر، فاستولى عليها، ولم تلبث طويلا في يد المسلمين. وقد رأينا فيما تقدم أن المسلمين حين غزوا برشلونة، لم يقصدوا إلى الاحتفاظ بها، بل اكتفوا بتخريبها وإحراقها. على أن الرواية الإسلامية تحدثنا عن غزوة نافار هذه، دون أن تشير أية إشارة إلى هزيمة المسلمين، وهي تسميها بغزاة البياض، وتضع تاريخها في سنة 379 هـ (989 م)، وتقول لنا إن المنصور عاد بجيشه إلى سرقسطة، حيث التقى هنالك بولده عبد الملك أثر عوده من حروب المغرب (¬1). وما كادت تمضي أشهر قلائل، حتى عاد المنصور لاستئناف الغزو؛ فخرج في ربيع سنة 378 هـ (988 م) في جيش ضخم، وعبر نهر دويرة، واخترق أراضي ليون شمالا، فرابط برمودو معظم قواته بمدينة سمُّورة، اعتقاداً منه أن المنصور سيبدأ بمهاجمتها، ولكن المنصور سار تواً إلى مدينة ليون، فقاومته حيناً لمناعة قلاعها، ولكنه اقتحم أسوارها، بعد قتال رائع، قتل فيه قائدها الكونت جونزالفو كونثالث، ودخلها المسلمون فخربروا صروحها، وأبادوا سكانها، وغادروها أطلالا دارسة. وسار المنصور بعد ذلك جنوباً إلى سمورة، وأحرق في طريقه عدداً من الأديار ومنها ديري إسلونزا وسهاجون العظيمين، وضرب الحصار حول المدينة، فغادرها برمودو سراً، واضطر السكان إلى تسليمها إلى المنصور، فأمر بنهبها، واضطر معظم نبلاء المملكة (الكونتات) إلى الاعتراف بطاعته، ولم يبق بيد برمودو من مملكته، سوى الرقعة الجبلية الشمالية الغربية من جليقية (¬2). وفي العام التالي وقعت بالثغر الأعلى حوادث هامة. وكان الثغر الأعلى وقاعدته سرقسطة، لوقوعه في أقصى الشمال بعيداً عن قرطبة، يغدو في فرص ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 302 و303. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 181. وكذلك Cronica General ; ibid ; Vol. II. p. 446. و Dozy: Hist. Vol. II. p. 244 & 245.

كثيرة مهداً للقلاقل والثورات المتعاقبة. وكان حكامه بنو هاشم التجيبيون الذين غلبوا على بني قسيّ، وانتزعوا سرقسطة لأنفسهم، منذ أيام الأمير عبد الله، يتمتعون بنوع من الإستقلال المحلي، ويحرصون على سلطانهم، بالرغم من اعترافهم الإسمي بسلطان الحكومة المركزية. وكان حاكم الثغر الأعلى وهو يومئذ عبد الرحمن بن مطرِّف التجيبي، يرقب سياسة المنصور، في القضاء على سلطان الحكام المحليين، بتوجس وحذر، ويلتمس السبل لحماية سلطانه، ولم يكن بعيداً عن التفكير في التحالف مع جيرانه من النصارى، في نافار، وقشتالة، كما فعل أسلافه أيام الناصر؛ ولكن تطور الحوادث جعله يتجه اتجاهاً آخر. ذلك أن عبد الله ابن المنصور بن أبي عامر، كان ناقماً على أبيه لأنه يؤثر أخاه عبد الملك عليه ويصطفيه دونه، ويوليه كل عطفه وثقته. وكان عبد الله يومئذ فتى في الحادية والعشرين من عمره، وكان يشعر أنه يتفوق في الشجاعة والخلال على أخيه الأكبر، ولكن المنصور كان يشك في بنوة ولده عبد الله، ويضن عليه بحبه وثقته، ويخشى نياته ومشاريعه (¬1). وكان عبد الله قد ذهب إلى سرقسطة، ونزل عند صاحبها عبد الرحمن، وهو متغير النفس على أبيه. فانتهز التجيبي الفرصة، واستمال عبد الله إليه، وأذكى حقده على أبيه، وائتمر الإثنان على الوثوب بالمنصور في أول فرصة والقضاء عليه، على أن يقتسما ملك الأندلس، فيستولي عبد الله على قرطبة وما والاها، ويستولي عبد الرحمن على الثغر وأحوازه، وانضم إليهما في تلك المؤامرة بعض أكابر الجند ورجال الدولة، من المعارضين للمنصور والناقمين عليه، وفي مقدمتهم الوزير عبد الله بن عبد العزيز المرواني حاكم طليطلة المعروف بالربضي. وترامت أخبار هذه المؤامرة الخطيرة إلى المنصور قبل نضجها، فأعمل الحيلة في استدعاء ولده عبد الله من سرقسطة، وأبدى له كثيراً من الرفق والعطف، وصرف الوزير المرواني عن حكم طليطلة صرفاً جميلا، ثم أقاله بعد ذلك من الوزارة، واعتقله بداره. ثم خرج بالصائفة غازياً إلى أراضي قشتالة، واستدعى أمداد الثغور، فتوافدت إلى لقائه، وفيهم عبد الرحمن بن مطرف ورجاله. واجتمعت الحشود بقوات قرطبة في مدينة وادي الحجارة. وهناك أجمع أهل ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 305 و306.

الثغور بوحي المنصور، على الشكوى من عبد الرحمن بدعوى احتباسه لأرزاقهم، فقرر المنصور إقالته، ولكنه رأى استمالة لبني هاشم، أن يعين مكانه في حكم سرقسطة، ولده يحيى الملقب "بسماحة" (نهاية صفر 379 هـ). ولم تمض على ذلك أيام قلائل، حتى أمر المنصور بالقبض على عبد الرحمن، ومحاسبته، تم أعدم بأمره فيما بعد إثر عوده إلى الزاهرة (¬1). واستدعى المنصور في نفس الوقت ولده عبد الله إلى معسكره خشية مما قد يقع منه. ثم سار في قواته شمالا إلى شنت إشتيبن، وبينما هو مشغول بحصارها، إذ فر ولده عبد الله في نفر من غلمانه، ولحق بغرسية فرنانديز كونت قشتالة، فوعده بحمايته وتأييده. فطالب المنصور غرسية بتسليم ولده، وأقسم ألا يكف عن قتاله، حتى ينزل على رغبته، فأبى غرسية، واضطرم القتال بين الفريقين، وسار المنصور شرقاً، واستولى على أوسمة (وخشمة) ووضع بها حامية إسلامية، ثم استولى على " القبة " بعد ذلك بقليل، وتوالت الهزائم على غرسية، حتى اضطر أخيراً إلى أن يتضرع إلى المنصور أن يكف عنه، وتعهد بإجابته إلى سائر مطالبه؛ فقبل المنصور ضراعته، وبعث غرسية عبد الله، في جماعة من القشتاليين، فاستقبله سعد الخادم، مع جماعة من الفرسان، وقبل يده ولاطفه، ثم تركه مع بعضهم، فأنزلوه عن بغله، وأخطروه أن يتأهب للموت، فترجل عبد الله، وقدم نفسه للموت هادئاً، ثبت الجنان رائع الشجاعة، فضرب عنقه عند غروب الشمس من يوم الأربعاء 14 جمادى الآخرة سنة 380 هـ (9 سبتمبر 990 م) وأنفذ برأسه في الحال إلى والده المنصور، فبعث به المنصور مع كتاب الفتح إلى الخليفة، ودفن شلوه في مكان مصرعه، وكان عمره يوم إعدامه ثلاثة وعشرين عاماً. وكانت غزوة المنصور التي وقعت خلالها تلك الحوادث هي غزوته الخامسة والأربعون (¬2). وقد يبدو لنا المنصور، بإقدامه على إزهاق ولده، في أشنع الصور وأروعها. ولكن يجب علينا أن نذكر الظروف التي اضطر فيها المنصور، إلى اتخاذ تلك الخطوة المؤلمة؛ فقد كان ائتمار عبد الله بأبيه، وتحالفه أولا مع التجيبيين سادة الثغر، وخصوم الحكومة المركزية منذ بعيد، ثم التجاؤه بعد ذلك إلى أمير قشتالة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 304. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 304 و305. وكذلك Dozy: Hist. Vol. II. p. 247 & 248.

من أقطع الدلائل على مرض نفسه، وخطورة مقصده؛ ولو نجحت المؤامرة، لقضى على سلطان المنصور، وانهارت دعائم الدولة الإسلامية العظيمة، التي نجح المنصور في إقامتها وتوطيدها، ولكان المنصور نفسه حسبما كان يعتقد، من أول ضحاياها (¬1)، فما كان عبد الله يتردد عندئذ في إزهاق أبيه ليفسح المجال لنفسه. ولقد كان تصرف المنصور قبل كل شىء تصرفاً سياسياً صارماً، خلواً من كل عاطفة، إلا عاطفة الاحتفاظ بالنفس والسلطان، وكان للمنصور في تصرفه المثير أسوة في كل عصر، وفي كل قطر، بل كانت له أسوة في بني أمية أنفسهم من أمراء وخلفاء، فقد قام عبد الرحمن الداخل بإزهاق ابن أخيه وأبناء عمومته، وأقدم الأمير عبد الله على إزهاق إخوته الثلاثة، وإزهاق ولديه، ثم جاء الناصر لدين الله، فأقدم على إزهاق ولده وأبناء عمومته، كل ذلك بتهمة التآمر، وحرصاً على السلطان. وقد كان القتل، وما زال على كر العصور، سلاح الطغاة الأقوياء، يجعلونه سياجاً لطغيانهم ودولتهم؛ وهكذا جعل المنصور مقتل ولده سياجاً لطغيانه فاهتز له الناس، وملئوا وحشة وروعاً (¬2). هذا وأما عبد الله بن عبد العزيز المرواني، أحد أركان المؤامرة، فقد استطاع الفرار في الوقت المناسب، والتجأ إلى حماية برمودو ملك ليون. وكان من ذيول المؤامرة أن قرر المنصور أن يعاقب غرسية فرنانديز كونت قشتالة، على ما ارتكبه في حقه، باغراء ولده عبد الله وحمايته، فحرض ولده سانشو على الثورة عليه، وأيده عدد كبير من الأشراف، وانتهى سانشو بأن أعلن الحرب على أبيه، وجاهر المنصور بتأييده، ثم انتهز فرصة اضطرام هذه الحرب الأهلية، وسار لمحاربة الكونت، واستولى على شنت إشتيبن وكلونية. ثم ترك جزءاً من قواته لمتابعة الصائفة وعاد إلى قرطبة. وهنا تقدم الرواية الإسلامية إلينا قصة حادث مدهش، يعتبر من أغرب موافقات القدر، وهو أن شاعر المنصور أبا العلاء صاعدا بن الحسن البغدادي، أهدى إليه أيّلا في عنقه حبل، وسماه غرسية باسم كونت قشتاله، وبعث به إلى القصر يوم السبت منتصف ربيع الثاني سنة 385 هـ، ومعه أبيات جاء فيها: ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 306. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 305.

يا حرز كل مخوف وأمان كل ... مشرد ومعز كل مذلل عبد جذبت بضبعه ورفعت من ... مقداره أهدى إليك بأيِّل سميته غرسية وبعثته ... في حبله ليتاح فيه تفاؤلي فكان من عجائب القدر، أن تحققت نبوءة الشاعر. ففي نفس اليوم الذي قدم فيه الأيل والقصيدة إلى المنصور، تمت الهزيمة على الكونت غرسية فرنانديز، وجرح وأسر على ضفاف نهر دويرة، على مقربة من بلدة " القصر "، وذلك في يوم 25 مايو سنة 995 (منتصف ربيع الثاني 385 هـ). ثم توفي الكونت بعد أيام قلائل متأثراً بجراحه، وتم الأمر لولده سانشو، ولكنه اضطر أن يؤدي الجزية للمسلمين (¬1). وفي خريف هذا العام سار المنصور إلى غزو ليون ومعاقبة ملكها برمودو على حمايته لعبد الله بن عبد العزيز المرواني. وكانت الأحوال قد ساءت في ليون، واستولى الأشراف الإقطاعيون على سائر أراضيها وضياعها، ولم يبق لملكها سوى الاسم، واضطر برمودو أن يغادر مدينة ليون عاصمة ملكه، وأن يتخذ أسترقة عاصمة مكانها. فلما أرهقه المنصور بالحرب غادر أسترقه، والتمس الصلح من المنصور، وسلمه المتآمر عبد الله، وتعهد بدفع الجزية، فأجابه المنصور إلى ما طلب. واستولى فيما بعد على مدينة سمورة، وأسكنها المسلمين وولى عليها عاملا من قبله هو أبو الأحوص معن بن عبد العزيز التجيبي. وهكذا عادت قشتالة وليون إلى دفع الجزية لحكومة قرطبة (¬2). وأما عبد الله المرواني، فقد ألقى به المنصور إلى السجن مصفداً، وتركه يرزح في أصفاده، بالرغم مما رفعه إليه من القصائد المؤثرة في طلب العفو والمغفرة (¬3). * * * وقد تقدم أن ابن أبي عامر اتخذ سمة الملك منذ سنة 371 هـ (981 م)، وتسمى بالحاجب المنصور، وأمر بالدعاء له على المنابر، وكانت هذه أول خطوة في اتخاذه ألقاب الملك بصفة رسمية، بعد أن استأثر بكل سلطة فعلية. ¬_______ (¬1) الذخيرة المجلد الرابع القسم الأول ص 22 و23، وأعمال الأعلام ص 68 و69، والمعجب لعبد الواحد (القاهرة 1914) ص 20، وابن خلدون ج 4 ص 181. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 181. وراجع Dozy: Hist. Vol. II. p. 249. (¬3) راجع الحلة السيراء ص 113 و114.

وفي سنة 381 هـ (991 م) أى بعد ذلك بعشرة أعوام، اتخذ المنصور خطوة أخرى في سبيل تدعيم صفته الملوكية. فرشح ولده عبد الملك للولاية من بعده، وهو فتى لم يجاوز الثامنة عشرة، ونزل له عن خطة الحجابة والقيادة العليا، وسائر الخطط الأخرى التي كان يتقلدها، واقتصر على التسمى بالمنصور، وأن تنفذ الكتب عنه " باسم المنصور أبي عامر وفقه الله " كما قلد ولده عبد الرحمن خطة الوزارة. ثم كانت الخطوة الثالثة بعد ذلك بخمسة أعوام، حينما أصدر المنصور في سنة 386 هـ (996 م) أمره، بأن يخص بألقاب السيادة من دون سائر الناس في المخاطبات، وأن يرفع ذلك عن سائر أهل الدولة، ونفذت الكتب بذلك، وخوطب المنصور من ذلك الوقت " بالملك الكريم "، وبولغ في تكريمه وتعظيمه في سائر المخاطبات، واستمر ذلك بقية حياته (¬1). ولم يك ثمة شك فيما يرمي إليه ابن أبي عامر، من وراء هذه الخطوات المتعاقبة في سبيل الاتشاح بألقاب الملك والسيادة. فهو قد حقق من الناحية العملية أمنيته الجوهرية، بالاستيلاء على الدولة والاستئثار بكل سلطة فعلية. ولكنه كان ويرمي إلى أبعد من ذلك. فهو قد أصبح أعظم وأقوى رجل في الدولة، وقد جمع بين يديه سائر السلطات السياسية والعسكرية. وكان الجيش وهو عماد السلطان والدولة، يتكون معظمه من البربر والنصارى المرتزقة، ويدين للمنصور بمنتهى الولاء والإخلاص، وهو الذي عنى بإنشائه وتنظيمه، وقاده إلى ميادين النصر عشرين عاماً. وإذاً فقد كان يبدو من هذه الظروف كلها، أنه لم يك ثمة ما يحول دون أن يحقق المنصور غايته الأخيرة، فيتوج حكمه بالصفة الشرعية، وينتزع لنفسه ما بقي من رسوم الملك والخلافة، ويؤسس بذلك لنفسه ولعقبه دولة جديدة، تحل مكان الدولة الأموية المحتضرة. وهنالك ما يدل على أن المنصور، كان يعتزم بالفعل أن يتخذ سمة الخلافة؛ وهذا ما يقرره الفيلسوف ابن حزم، ويروي تفاصيله نقلا عن أبيه الوزير ابن حزم وزير المنصور. وملخص روايته أن المنصور جمع للمشورة في ذلك الأمر قوماً من خواصه منهم ابن حزم، وابن عياش، وابن فطيس من الوزراء، وبعض الفقهاء، وقد صوّب رأيه ابن عياش وابن فطيس، ولكن ابن حزم ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 315 و316.

عارض فيه، وأعرب عن خوفه من أن يحرك ذلك ساكن الأحوال، وأن المنصور ليس في حاجة إلى مثله، وبيده سائر الأمور؛ وتردد رأي الفقهاء بين الاعتراض والموافقة (¬1). على أنه يبدو من جهة أخرى، من تريث المنصور وتمهله في اتخاذ الخطوات المذكورة، أنه كان يخشى نتائج العنف والتسرع. فما الذي كان يخشاه المنصور إذاً، وقد اجتمعت في يده كل السلطات، وأضحى يسيطر على سائر القوى؟ لقد كان نهوض المنصور وتقدمه في سبيل السلطان، مقترناً بظروف لا تساعد على اكتساب محبة الشعب وتأييده الخالص. فقد وقع عن طريق اتصاله بصبح، بالمرأة التي كانت تسيطر على الدولة، والتي كانت علائقه بها تثير كثيراً من الهمس والتعليق اللاذع، وقد وقع على حساب الخليفة الطفل هشام المؤيد، الذي استلب ابن أبي عامر سلطانه وحقوقه تباعاً، ثم حجر عليه بطريقة قاسية تشبه الموت المدني، وقطع علائقه مع العالم، ولم يكن يسمح له بمقابلة أحد، أو بالخروج من القصر؛ وفي الفرص النادرة التي كان يسمح بخروجه فيها، كان يسير في موكبه وعليه برنس يخفي شخصه، ومن حوله صفوف كثيفة من الجند، فلا يستطيع أحد أن يراه أو يقترب منه (¬2). وكان الشعب القرطبي يشهد أطوار هذه المأساة المؤلمة واجماً ناقماً، ويعتبر الخليفة الشرعي ضحية وشهيداً، يستحق كل عطفه ورثائه. ولم يكف كل ما حققه المنصور من مظاهر السلطان والمجد، وما أحرزه من الظفر المتوالي، وما أسبغه حكمه على الأندلس من أسباب السكينة والعزة ْوالأمن والرخاء، لم يكف ذلك كله لحمل الشعب على نسيان قضية خليفته الشرعي. أضف إلى ذلك كله، تلك الوسائل الدموية المثيرة، التي لجأ إليها ابن أبي عامر للتخلص من خصومه ومنافسيه، فقد كانت تباعد بينه وبين الشعب؛ ولم يكن الشعب، إزاء هذه الظروف والعوامل كلها، ليمنح ابن أبي عامر حبه وولاءه، وإن كان من جهة أخرى يخشاه ويرهبه، بل ويعجب بحزمه وعزمه وعبقريته في تسيير الأمور، وفي تأمين البلاد، وإذلال العدو. ومن ثم كان تريث ابن أبي عامر وتحوطه. فإنه لم يكن واثقاً من إغضاء ¬_______ (¬1) راجع نقط العروس لابن حزم ص 77. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 41، ونفح الطيب ج 1 ص 276.

الشعب، عن انقلاب حاسم يقضي به على آخر مظاهر الخلافة الشرعية، وينتزع به تراث بني أمية. ومن جهة أخرى، فقد كانت هناك صبح أم الخليفة المعتقل، المحروم من كل حقوقه وسلطانه؛ وكانت صبح قد غدت بمضي الزمن ألد خصوم ابن أبي عامر وأخطرهم. وقد رأينا كيف بدأت تعمل لمقاومته، مذ شعرت بخطورة مشاريعه، على مركز ولدها، وتحاول أن تجمع من حولها كلمة الناقمين والمعارضين لابن أبي عامر، باسم حماية الخليفة الشرعي، وإنقاذه من نير المتغلب، وكيف وقعت أول محاولة حقيقية لمقاومة ابن أبي عامر، في انقلاب صهره القائد غالب عليه ومحاربته إياه، ولم تبذل من ذلك الحين أية محاولة أخرى في هذا السبيل. هذا وسلطان المنصور على مر الأعوام يتوطد، ومركز هشام المؤيد يزداد سوءاً وانحلالا، وتغيض ذكريات الخلافة ورسومها شيئاً فشيئاً. فلما عمد المنصور أخيراً إلى اتخاذ ألقاب السيادة والملك، شعرت صبح بأن الضربة القاضية أضحت على وشك الوقوع، واعتزمت ان تضاعف العمل في سبيل حماية ولدها، وتحريره من قبضة المتغلب. فكررت ضد المنصور دعايتها القديمة، واتهمته على يد دعاتها وأعوانها، باغتصاب سلطان الخلافة، ومقاومة رغبة الخليفة في تولي الحكم بنفسه؛ وخطر لها في نفس الوقت أن تتصل بزيري ابن عطية حاكم المغرب، وأن تدفعه إلى مناوأة المنصور، فبعثت إليه رسلها، وأنفذت إليه الأموال سراً، ليحشد الجند ويتأهب للعبور إلى الأندلس. وكان زيري من أولياء بني أمية ومن أشد المخلصين لقضيتهم، وكان ينقم على المنصور سياسته في الحجر على هشام؛ وفوق ذلك فقد كان غاضباً على المنصور، لما أساء به في حقه حين زيارته إلى قرطبة؛ وإذاً فقد لبى زيري دعوة صبح، وأخذ يشهر بالمنصور وسياسته، وحجره على الخليفة، ويدعو إلى مقاومته، ورد الأمر إلى الخليفة الشرعي (¬1). وكان المنصور يقظاً، فلم يفته شىء من خطط صبح وأعوانها. وكان أول همه أن يرفع يدها عن الأموال، التي أخذت تفتن في تهريبها بواسطة فتيان القصر، وكان المنصور مريضاً، فبعث ولده عبد الملك في قوة من الجيش إلى قصر الخلافة بقرطبة، ومعه جمهرة من الفقهاء والوزراء، ثم دخل بهم إلى مجلس الخليفة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 302، و" نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 27.

وخاطبه في الأمر، فأنكر هشام ذلك، وتبرأ من خصومة المنصور، ووافق على نقل المال، فنقل فوراً إلى الزاهرة، ولم يبق منه في خزائن القصر شىء، ولم تجد توسلات صبح، ولا وعيدها، وتطاولها على عبد الملك شيئاً، ويقال إن ما حمله المنصور يومئذ من المال بلغ عدة ملايين (¬1). ولما أبل المنصور من مرضه بعد ذلك بقليل، سار إلى قصر قرطبة مع ابنه عبد الملك وسائر عظماء الدرلة، وانفرد بالخليفة في مجلسه، فاعترف له هشام بالفضل، وحمد اضطلاعه بشئون الدولة، وأقره على سياسته. ثم عمد المنصور إلى اتخاذ خطوة جريئة أخرى، فأخرج هشاماً من القصر، وأركبه في زي الخلافة في موكب عظيم، وركب إلى جانبه، وأمامه ولده عبد الملك، وسار الجيش أمام الموكب ومن خلفه، وتبع الموكب جموع عظيمة من طوائف الجند والفتيان الصقالبة. وشق هذا الموكب الخليفي شوارع قرطبة، بين جموع حاشدة مستبشرة من الشعب، وكان يوماً عظيماً مشهوداً، وكان آية الظفر للمنصور وسياسته (¬2). وهكذا فشلت صبح في محاولتها، ولم يسفر ذلك الصراع المتأخر إلا عن توطيد سلطان المنصور، وسحق البقية الباقية من خصومه ومعارضيه. ولم تك صبح في الواقع أهلا لمقاومة ذلك الرجل القوي، خصوصاً بعد أن مكن له في كل شىء، ولم يبق للخليفة الأموي من السلطان سوى الاسم. ولما أيقنت صبح أن المقاومة عبث، وأنه لا منقذ لولدها من ذلك النير الحديدي، لجأت إلى السكينة والعزلة، فلا نسمع عنها بعد ذلك في سير الحوادث، ولا نعرف تاريخ وفاتها بالتحقيق، ولا نعرف إن كانت وفاتها قبل وفاة المنصور أو بعدها؛ وكل ما تقوله الرواية الإسلامية في ذلك، هو أن وفاتها كانت أيام ولدها هشام. والظاهر أنها توفيت بعد ذلك بقليل قبل وفاة المنصور، حوالي سنة 390 هـ (1000 م)، لأننا لا نعثر باسمها بعد ذلك في حوادث الأندلس. وقد نظم شاعر العصر أبو عمر محمد ابن دراج القسطلي، قصيدة موثرة يرثي فيها صبحاً " أم هشام المؤيد بالله "، ومما جاء فيها: ¬_______ (¬1) الذخيرة (عن ابن حيان) المجلد الرابع القسم الأول ص 52 - 54، ونفح الطيب ج 2 ص 95. (¬2) الذخيرة المجلد الرابع القسم الأول ص 54.

هل الملك يملك ريب المنو ... ن أم العز يصرف صرف القضاء ألم نر كيف استباحت يدا ... هـ حريم الملوك وعلق النساء هو الرزء أودى بعزم الملو ... ك مصاباً وأودى بحسن العزاء لبيض أياديك في الصالحا ... ت تمسك وجه الضحى بالضياء فتلك مآثرها في التقى ... وبذل اللهي ما بها من خفاء جزاك بأعمالك الزاكيا ... ت خيرُ المجازين خير الجزاء ولقيت من ضنك ذاك الضريح ... نسيم النعيم وطيب الثواء (¬1) هذا وأما عن موقف زيري بن عطية، وتطاوله على المنصور، فقد رد المنصور بأن قطع عنه رزق الوزارة، ومحا اسمه من ديوانه، واعتبره خارجاً عاصياً؛ ورد زيري على ذلك بأن قطع ذكر المنصور من الخطبة، وطرد عماله بالمغرب، وأعلن الخروج والثورة. فجهز المنصور لقتاله جيشاً عظيماً بإمرة مولاه الفتى واضح، وأمده بالأمول والذخائر؛ وعبر واضح البحر في قواته إلى طنجة، وهناك انضمت إليه جموع غفيرة من بربر غمارة وصنهاجة، وحالفته على قتال زيري. وخرج زيري في قواته والتقى الجمعان بوادي زارات جنوبي طنجة، ونشبت بينهما معارك شديدة متصلة مدى ثلاثة أشهر، ثم انتهت بهزيمة واضح وتمزيق جيشه، ففر في فله إلى طنجة، وكتب إلى المنصور يستصرخ به. فخرج المنصور من قرطبة إلى الجزيرة الخضراء، وتوافدت إليه الجيوش، ثم أجاز ابنه عبد الملك بمعظم قوات الأندلس وقوادها، وأمره بالتشدد في محاربة زيري والقضاء عليه؛ فعبر عبد الملك البحر في قواته إلى سبتة، واتصل خبره بزيري فتأهب للقائه، وبعث إلى جميع بطون زناتة يستصرخهم لنصرته، فهرعت إليه الوفود والقوات من سائر النواحي، وسار لقتال عبد الملك في جموع عظيمة. وزحف عبد الملك من طنجة، ومعه الفتى واضح في قوات لا تحصى، والتقى الفريقان بوادي منى من أحواز طنجة، ونشبت بينهما معارك هائلة هزم البربر في نهايتها شر هزيمة، وقتل منهم عدد ضخم، وجرح زيري واستولى عبد الملك على معسكره، ثم طارده حتى مكناسة، ففر إلى الصحراء مع نفر من أصحابه. ¬_______ (¬1) وردت هذه القصيدة بأكملها في ديوان ابن دراج المنشور بعناية الدكتور محمود علي مكي (ص 119 - 123) ووردت كذلك في يتيمة الدهر (القاهرة 1947) ج 2 ص 109 و110.

وقد أشاد شاعر العصر ابن دراج القسطلي بعبقرية المنصور وأهباته العسكرية ضد زيري بن عطية في قصيدة طويلة هذا مطلعها: لك الله بالنصر العزيز كفيل ... أجد مقام أم أجد رحيل هو الفتح أما يومه فمعجل ... إليك وأما صنعه فجزيل وآيات نصر ما تزال ولم تزل ... بهن عمايات الضلال تزول سيوف تثير الحق أنى انتضيتها ... وخيل يجول النصر حيث تجول ومنها: لئن صديت الباب قوم ببغيهم ... فسيف الهدى في راحتيك صقيل فإن يحيى فيهم بغي جالوت جدهم ... فأحجار داود لديك مثول هدًى وتقى يؤدي الظلام لديهما ... وحق بدفع المبطلين كفيل يجمع له منه قائد النصر عاجل ... إليه ومن حسن اليقين دليل تحمل منه البحر بحراً من القنا ... يروع بها أمواجه ويهول بكل معالاة الشراع كأنها ... وقد حملت أسد الحقائق غيل (¬1) ودخل عبد الملك مدينة فاس ظافراً، في نهاية شوال سنة 387 هـ (نوفمبر 997 م) وكتب إلى أبيه المنصور بالفتح، فكتب إليه بعهده على المغرب، وعاد واضح بالجيش إلى قرطبة. ولبث عبد الملك والياً للمغرب ستة أشهر فقط، نظم خلالها شئونه، ووطد أمره، ثم عاد إلى الأندلس، وخلفه على المغرب عيسى ابن سعيد صاحب الشرطة، فلبث في ولايته حتى أوائل سنة 389 هـ. ثم أقيل وخلفه الفتى واضح. وفي تلك الأثناء كان زيري بن عطية قد جمع فلوله من قوات زناتة، ووافته جموع كثيرة من مغراوة، وكانت صنهاجة قد اختلفت على أمرها، فانتهز زيري هذه الفرصة وزحف شرقاً على بلاد صنهاجة، وأوغل فيها، واستولى على تاهرت وتلمسان وبعض بلاد الزاب، وأقام بها الدعوة لهشام المؤيد وللمنصور، ثم كتب إلى المنصور يتقرب إليه ويسترضيه، ويؤكد حسن طاعته من جديد، فعفا عنه المنصور، وأعاده لولاية المغرب، بيد أنه لم يعش طويلا فتوفي في سنة 391 هـ (1001 م)، متأثراً بجراحه التي أصابته في موقعة وادي منى. وخلفه في ¬_______ (¬1) وردت هذه القصيدة في ديوان ابن دراج المشار إليه (ص 3 - 9).

الولاية ولده المعز. فأقره المنصور، ولبث المعز والياً للمنصور، مقيماً على دعوة بني أمية، يعمل على توطيدها بالمغرب، إلى أن اضطرب حبل الخلافة بالأندلس (¬1). * * * وبينما كان عبد الملك المنصور بالمغرب يتم إخضاع زيري وشيعته، كان المنصور يتخذ الأهبة لأعظم غزاته. وكانت منطقة جلِّيقية في قاصية اسبانيا الغربية، تعتبر لنأيها ووعورتها، أمنع مناطق اسبانيا النصرانية، وأبعدها عن متناول الفاتحين. ولم يفكر أحد من الغزاة المسلمين، منذ أيام طارق أن يقصد إلى تلك المنطقة الجبلية الوعرة، لما يعترض الوصول إليها من الصعاب الهائلة. ولكن المنصور اعتزم أن يسير إلى جليقية لسببين: الأول أنها كانت ملاذاً وملجأ لملوك ليون، يمتنعون به كلما أرهقتهم الغزوات الإسلامية، والثاني أنها كانت مستقراً لمدينة شنتياقب (أو شنت ياقب) الدينية، كعبة إسبانيا النصرانية ومزارها المقدس، ورمز زعامتها الروحية. وقد سبق أن عرضنا إلى نشأة هذه المدينة المقدسة، وإلى أسطورة القديس ياقب (أو يعقوب الحواري) التي اتخذت أساساً لإنشائها، وكيف زعمت الأسطورة أن قبر القديس يعقوب، قد اكتشف بمعجزة وقعت في هذه المنطقة، فأنشئت فوقه كنيسة، وأنشئت حول الكنيسة مدينة مقدسة، سميت باسم القديس، وغدت عاصمة اسبانيا الدينية، ومزاراً شهيراً يقصده النصارى من سائر الأنحاء (¬2). وقد شاء المنصور أن يضرب اسبانيا النصرانية في صميم معقلها القاصي، وفي صميم زعامتها الروحية، بغزو جليقية، واقتحام مدينتها المقدسة. فخرج من قرطبة في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة 387 هـ (3 يوليه 997 م) على رأس قوى الفرسان، وفي الوقت نفسه تحرك الأسطول الأندلسي، الذي أعده المنصور لهذه الغزوة الكبرى، من مرساه أمام قصر أبي دانس Alcacer do sal في مياه البرتغال الغربية، شمالا بحذاء الشاطىء البرتغالي، يحمل المشاة والأقوات والذخيرة؛ واخترق المنصور اسبانيا الغربية شمالا، وهو يعبر الجبال والأنهار العظيمة تباعاً، حتى وصل إلى مدينة ¬_______ (¬1) راجع حوادث المغرب في البيان المغرب ج 2 ص 302، وابن خلدون ج 7 ص 33، والإستقصاء ج 1 ص 93 و94، و" نبذ تاريخية في أخبار البربر " ص 30 - 35. (¬2) راجع تفاصيل ذلك في القسم الأول من العصر الأول من " دولة الاسلام في الأندلس " ص 220 و221.

قورية؛ ثم زحف نحو الشمال الغربي، واستولى في طريقه على مدينتي بازو وقلمرية (¬1). وهنا وفد على المنصور، عدد كبير من القوامس (الكونتات) النصارى المعترفين بطاعته، وهم الواقعة أملاكهم في أراضي البرتغال ما بين نهري دويرة ومنيو، وانضموا مع قواتهم إلى جيشه. ثم سار المنصور شمالا حتى وصل إلى نهر دويرة، وهنالك وافاه الأسطول، مخترقاً النهر من مصبه عند ثغر بورتو، فجعل منه جسراً مريحاً لعبور جيشه وعدده وأقواته، واتجه الجيش الإسلامي بعد ذلك صوب جلِّيقية، وهو يقتحم السهل والوعر في شعب الجبال، ثم عبر نهر منيو (منهو)، وسار بحذاء شاطىء المحيط، واستولى في طريقه على بعض الحصون، وخرب عدداً من الأديرة التاريخية في تلك المنطقة. وكانت جموع كبيرة من النصارى، قد فرت إلى الجزائر المقابلة للشاطىء، فعبر المسلمون إليهم من بعض المخائض وأسروا معظمهم، واخترقوا مفاوز الجبال المجاورة للمحيط، واستخرجوا من لجأ إليها من النصارى، واستصفوا غنائمها؛ ثم اقتحموا الجبال إلى السهل، وخربوا بلدة إيليا (إيريا) ونهبوها، وهي أيضاً من المزارات الدينية الشهيرة. وأشرف المسلمون على مدينة شنت ياقب في يوم الأربعاء الثاني من شعبان (11 اغسطس)، فوجدوها خالية من أهلها، وكانوا قد غادروها حين اقتراب الغزاة، فدخلها المسلمون، وهدموا أسوارها وصروحها التاريخية، وكنيستها العظمى، واستولوا على سائر ما فيها من الذخائر والتحف، وأمر المنصور بصون قبر القديس ياقب القائم وسط الكنيسة العظمى، والمحافظة عليه. ولم يجد المنصور بالكنيسة إلا شيخاً من الرهبان يجلس على القبر فسأله عن مقامه، فقال أؤانس يعقوب، فتركه وأمر بالكف عنه. وأخذ المسلمون أبواب المدينة، ونواقيس الكنيسة العظمى، وحملها الأسرى النصارى على كواهلهم حتى قرطبة، فوضعت الأبواب فيما بعد، في سقف الزيادة التي أنشأها المنصور بالمسجد الجامع، وعلقت به النواقيس رؤوساً للثريات الكبرى (¬2). وسار المنصور بعد ذلك مخترقاً أراضي برمودو التي امتنع بها وعاث فيها. ¬_______ (¬1) هما بالإفرنجية على التوالي Viseu و Coimbra. (¬2) تتبعنا حوادث هذه الغزوة حسبما أوردها ابن عذارى في البيان المغرب ج 2 ص 316 - 319. وراجع ابن خلدون ج 4 ص 181، وأعمال الأعلام ص 67 و68، ونفح الطيب ج 1 ص 193 - 195. وكذلك Cronica General ; ibid ; Vol. II. p. 448 & 449.

ولم يستطع أحد أن يقف في سبيله، ووصل إلى شاطىء المحيط على مقربة من بلدة كرونية (قرجيطة). ثم انحدر جنوباً حتى وصل إلى أراضي الزعماء النصارى (القوامس) الموالين له، والذين صحبوه في غزوته، فأمر بالكف عنها، وتابع سيره حتى وصل إلى مدينة لاميجو في شمال البرتغال الحديثة (وتسميها الرواية الإسلامية لميقة)، وهنالك وزع الهدايا والكسى الفاخرة على الزعماء النصارى، وصرفهم إلى بلادهم، وكتب بالفتح إلى دار الخلافة، ثم عبر نهر دويرة على النحو الذي تقدم وصفه، وقفل راجعاً إلى قرطبة، وفي ركبه عدد كبير من الأسرى، ومقادير عظيمة من الغنائم. وكانت غزوة عظيمة، استبشر بها المسلمون، وقرت نفوسهم، واهتزت لها اسبانيا النصرانية من أقصاها إلى أقصاها، ولبث أثرها العميق أعواماً بعيدة، وكانت غزوة المنصور الثامنة والأربعون. ونظم ابن دارج القسطلي في تهنئة المنصور بغزوة " شنتياقُه " (شنت ياقب) قصيدة طويلة هذا مطلعها: اليوم أنكص إبليسٌ على عقبه ... مُبرّءاً سبَبُ الغاوين من سببه واستيقنت شيع الكفار حيث نأت ... في الشرق والغرب أن الشرك من كذبه بشنتياقة لما أن دلفْتَ له ... بالبيض كالبدر يسري في سنا شهبه وجلة الدين والإسلام عاطفة ... عليك كالفَلَك الجاري على قُطُبه (¬1) وعلى أثر غزوة شنت ياقب اضطر برمودو ملك ليون، بعد الذي أصاب بلاده من الهزائم والمحن، أن يسعى إلى طلب الصلح، فبعث ولده بلايو صحبة معن بن عبد العزيز حاكم سمّورة المسلم، إلى قرطبة طالباً عقد الصلح، فأجابه المنصور إلى ما طلب، وانصرف راجعاً إلى أبيه (¬2). ولم يعش برمودو طويلا بعد ذلك، فتوفي سنة 999 م، وخلفه في الملك ولده الطفل ألفونسو الخامس، تحت وصاية أحد الأشراف، ولزم مكانه في قاصية جلّيقية. وقام المنصور بعد ذلك بعدة غزوات أخرى في أراضي النصارى، بيد أننا لا نظفر في شأنها بتفاصيل دقيقة واضحة. والظاهر من إشارة أوردها صاحب ¬_______ (¬1) وردت هذه القصيدة في ديوان ابن دراج المتقدم ذكره (ص 440 - 443). ويلاحظ أنه قد ورد بها اسم " شنت ياقب "، " شنتياقة " وهو أقرب إلى اسمه الإسباني Santiago (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 181.

البيان المغرب، أن المنصور قام بغزوة إلى نافار في سنة 389 هـ (999 م) (¬1)، وفي العام التالي أعني في سنة 390 هـ (1000 م) سار المنصور إلى أراضي قشتالة في جيش ضخم، وذلك أن الملوك والأمراء والنصارى " من حيز بنبلونة إلى أسترقة "، اتفقوا جميعاً بزعامة سانشو غرسية كونت قشتالة، على مقاومة المنصور والتفاني في قتاله، وحشد سائر أمراء البشكنس وقشتالة وليون قواتهم، وجمع سانشو غرسية سائر قواته في وسط قشتالة، في وادي دويرة الأدنى خلف الحاجز الجبلي الوعر المسمى " صخرة جربيرة " Pena Cervera، وتعاهد الملوك والأمراء النصارى على الثبات وعدم الفرار. ورأى المنصور كعادته أن يبادر أعداءه بالقتال، فسار في قواته تواً إلى مدينة سالم، ونفذ شمالا إلى أراضي قشتالة حيث يرابط أعداؤه، فلما أشرف على صخرة جربيرة، هاله ما رأى من وعورتها، وحصانة المراكز التي يحتلها العدو، ووفرة جموعه وعدده. ورأى سانشو أن يعجل بمهاجمة المسلمين، قبل أن يوطدوا مراكزهم، فاندفع النصارى في هجوم عنيف خاطف على المسلمين، فاضطربت ميمنة المسلمين وميسرتهم، ودب الخلل إليهم، وعمد إلى الفرار كثير منهم، وكادت تدور عليهم الدائرة. ولكن القلب، وكان يقوده ابنا المنصور عبد الملك وعبد الرحمن، ويتألف معظمه من فرق البربر القوية الباسلة، صمد أمام الموجة الهائلة، وهرع المنصور إلى رابية مشرفة على الموقعة، ومن ورائه خاصته وحاشيته، وهو يحث رجاله وقادته على الثبات، فلم يمض سوى قليل حتى انقلبت الآية، وارتد، العدو في غير نظام، وتمكن أحد الزعماء البربر من قتل أحد كونتات بني غومس (¬2) وجاء برأسه؛ فضاعف المسلمون جهودهم، وشددوا الوطأة على النصارى، وأمعنوا فيهم قتلا وأسراً، وطاردوهم إلى عدة مراحل حتى مزقوهم شر ممزق. وكانت هذه الوقيعة في اليوم الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة 390 هـ (30 يوليه سنة 1000 م). وخسر المسلمون في الموقعة أكثر من سبعمائة قتيل. وتابع المنصور زحفه في أراضي قشتالة، وهو يدمر كل شىء في طريقه، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 321. (¬2) بني غومس يسمون كذلك في الرواية العربية، وهم أبناء غومس دياث Gomez Diaz أحد زعماء ليون. وقد تزوج ابنة كونت قشتالة فرنان كونثالث، وأصبحوا خلفاء له، وكانت أملاكهم في سالدانيا وكريون وسمورة.

حتى اقتحم عاصمتها " برغش " وذلك في يوم عيد الفطر (4 سبتمبر)، ثم واصل سيره إلى سرقسطة، وقام من هنالك بغزوة في أراضي نافار، حتى أشرف على عاصمتها بنبلونة. وكل ذلك دون أن يجرأ أحد من النصارى على الوقوف في سبيله. ثم عاد إلى قرطبة وقد أنفق في هذه الغزوات مائة يوم وتسعة أيام. ووجه على أثر عوده إلى قواده، كتاباً ليقرأوه في الجيش. وفيه ينحى المنصور باللائمة على جنده، لما بدا منهم من التخاذل والنكوص، ويذكرهم بأنه لولا شجاعة فئة قليلة، منهم، عاونت بثباتها على إحراز النصر ومحو العار، لانتهى بإقالتهم جميعاً (¬1). وكان لهذه الغزوة، وما لابسها من الظروف الدقيقة، أعظم وقع في الأندلس. وكان لنصر جربيرة مغزى أعمق من أي نصر أحرزه المنصور. وفيه يقول صاعد شاعر المنصور مهنئاً، من قصيدة تعتبر من غرر قصائده: جددت شكري للهوى المتجدد ... وعهدت عندك منه ما لم يعهد اليوم عاش الدين وابتدأ الهدى ... غضاً وعاد الملك عذب المورد ووقفت في ثاني حنين وقفة ... فرأيت صنع الله يؤخذ باليد من فاته بدر وأدرك عمره ... جربير فهو من الرحيل الأسعد خملت ميامنهم عليك نشيجة ... كالسيل يحطم جلمداً عن جلمد ما ناجزوك وفي الجوانح موضع ... لتصبُّر ومكانة لتجلُّد طال الشقاء عليهم وتبرموا ... بالجيش في الذل المقيم المقعد فتحالفوا لمحنث وتجمعوا ... لمفرق وتألفوا لمبدد وفي ربيع سنة 392 هـ (1002 م) خرج المنصور إلى الغزو لآخر مرة، فاخترق أراضي قشتالة شمالا، ووصل في زحفه حتى بلدة قناليش الواقعة جنوبي ناجرة، ثم سار غربا في اتجاه برغش وعاث في تلك المنطقة (¬2). ولا تقدم الرواية الإسلامية عن هذه الغزوة تفاصيل أخرى، ولا تحدثنا بالأخص عن أية موقعة حاسمة، وقعت بين المسلمين والنصارى. ولكن بعض الروايات النصرانية الإسبانية القديمة، تذكر لنا في هذا الموطن، أن القوات النصرانية المتحدة، المكونة من جيوش برمودو ملك ليون، وغرسي فرناندز كونت قشتالة، ¬_______ (¬1) راجع في تفاصيل هذه الموقعة الشهيرة: أعمال الأعلام ص 69 - 72. (¬2) راجع الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (طبعة القاهرة القديمة) ج 2 ص 72.

وغرسية سانشيز ملك نافار، وقفت في وجه المنصور في ظاهر بلدة صغيرة تسمى " قلعة النسور " (¬1)، وتقع في غربي مدينة سرية، وأنه وقعت بين المسلمين والنصارى، موقعة هزم فيها المسلمون، وقتل منهم عدة آلاف، وأن المنصور انسحب في قواته تحت جنح الظلام، ثم توفي بعد ذلك بقليل حزناً وغماً، أو من الجراح التي أصابته في الموقعة (¬2). ولا بأس من أن نقدم هنا خلاصة لما تذكره الرواية النصرانية من تفاصيل الموقعة، وإليك ما يقوله في ذلك المؤرخ لافونتي. ومما هو جدير بالذكر أنه يرجع بداية حوادثها إلى سنة 1001 م، وفي هذا الوقت كان ملك ليون ألفونسو الخامس الطفل ولد برمودو الثاني، وكان تحت وصاية منندو كونثالث كونت جليقية وزوجته دونيا مايور؛ وكان يحكم قشتالة الكونت سانشو غرسيس ولد غرسي فرناندز، ويحكم نافار الملك سانشو غرسيس الكبير. يقول لافونتي: إنه في هذه السنة أعني سنة 1001 م، بدت في قلب اسبانيا المسلمة طلائع استعدادات عظيمة، وجمع ولاة شنترين وبطليوس وماردة كل قواتهم، وعبرت حشود عظيمة من الجند البربر إلى الجزيرة، وكانت هي الأمداد التي وعد بإرسالها المعز بن زيري من المغرب إلى المنصور، واجتمعت جيوش إفريقية والأندلس والبرتغال المسلمة في طليطلة، فهل كان المنصور يزمع أن يضرب قشتالة التي أتعبته مقاومتها الضربة الأخيرة؟ لقد تفاهم سانشو أمير قشتالة مع قريبيه ملكي ليون ونافار على التعاون على مقاومة الجيش الإسلامي العظيم، وأدرك الجميع ضرورة الاتحاد والتحالف. واجتمعت الجيوش النصرانية المتحدة في السهل الواقع جنوب مدينة سرية عند منابع دويرة، قريباً من مدينة نوماثيا Numacia القديمة؛ وكان يقود جيوش ليون وجلّيقية والأسترياس الكونت منندو وصي الملك الطفل ألفونسو الخامس، ويقود قوات قشتالة ونافار، كل ملكها. وقدم المسلمون، وقد انقسمت قواتهم إلى شطرين، قوات الأندلس وقوات البربر؛ وساروا تواً نحو ضفاف نهر دويرة، حتى التقوا بالنصارى في ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Calatanazor (¬2) Cronica General ; ibid ; Vol. II. p. 449.

مكان يسمى " قلعة النسور ". ثم وقعت بين الفريقين مناوشات ختمها مقدم الليل، وفي فجر اليوم التالي تأهب كل فريق، وحشد قواته، واختلط ضجيج المسلمين بصيحات النصارى، وأصوات المزمار بدوي الطبول. واشتبك الفريقان بعنف، وأخذ زعماء كل فريق يحث رجاله ويشجعهم. وكان المنصور يثب هنا وهنالك كأنه نمر، وقد شقت فرسانه صفوف القشتاليين، وساءه ما لقي من مقاومة، فاندفعت قواته إلى الهجوم بعنف، واستمر القتال تحت جو قاتم من الغبار المتصاعد، حتى دخل الليل، فانفصل الجيشان دون أن يكتب النصر لأحدهما. وأصيب المنصور خلال القتال بجراح عديدة، فأوى إلى خيمته، وقد علم أن كثيراً من قادته قتلوا، وأدرك مبلغ الخسارة الفادحة التي حاقت بجيشه؛ فأصدر أوامره قبل الصبح بالارتداد. وعبر نهر دويرة، وهو على أهبة الحرب حتى لا يفكر النصارى في مطاردته. ثم شعر المنصور خلال السير بالإعياء والخور، ولم يستطع أن يستمر فوق صهوة جواده لخطورة جراحه، فحمل في محفة إلى مدينة سالم. ثم يقول لافونتي: إن بعض مؤرخينا ومنهم ماريانا يحاول أن يرد هذه الموقعة إلى ما قبل ذلك بثلاثة أعوام، وأنه يوجد منهم من يقرنها بأخطاء ومغامرات خرافية بل مضحكة. تلك هي خلاصة التفاصيل التي تسبغها الرواية النصرانية على موقعة قلعة النسور. ويلاحظ أن هذه الرواية ترجع الموقعة إلى سنة 1001 م، وأن المؤرخ يتحدث هنا عن طبقة جديدة من الملوك النصارى، وهم خلفاء أولئك الذين تزعم الروايات النصرانية الأخرى تحالفهم على قتال المنصور (¬1). وقد حاول بعض الباحثين الإسبان المحدثين، مثل سافدرا وكوديرا التدليل على صحة هذه الرواية وقبولها. ولكن فريقاً آخر من أقطاب البحث الحديث وفي مقدمتهم دوزي، يرون بطلان هذه الرواية، ومخالفتها للحقائق التاريخية الثابتة. ذلك أن برمودو ملك ليون كان قد توفي في سنة 999 م، وتوفي غرسية فرناندز كونت قشتالة في سنة 995 م، وتوفي غرسية سانشيز ملك نافار في سنة 1000 م، ¬_______ (¬1) Modesto Lafuente: Historia General de Espana. T, III. p. 24-26.

فكيف تتحدث الرواية هنا عن تحالف الملوك الثلاثة، وقد ماتوا جميعاً قبل الموقعة المزعومة؟ هذا ومن جهة أخرى فإن الرواية الإسلامية لا تذكر شيئاً عن هذه الموقعة، وهي لا تضن علينا في مواطن كثيرة بالتحدث عن هزائم المسلمين، وصمتها في هذا الموطن قرينة، على أنه لم يك ثمة موقعة ولا هزيمة (¬1). ويعلل مؤرخ إسباني معاصر هو الأستاذ مننديث بيدال، أصل هذه الأسطورة بكونه إنما يرجع إلى ما أحرزه سانشو غرسية كونت قشتالة، من نجاح جزئي في بعض الوقائع، وقد حرصت الأساطير القشتالية على تسجيل هذا النجاح، وعمدت إلى المبالغة فيه شيئاً فشيئاً (¬2). وعلى أثر اختتام الغزوة، ارتد المنصور بجيشه جنوباً، وقد لحقه الإعياء، واشتد به المرض، فترك جواده، وسار نحو أسبوعين محمولا على محفة، حتى وصل إلى مدينة سالم، وهي معقل الثغر المنيع؛ وكان من أعز أماني المنصور أن تدركه منيته خلال الغزو، مجاهداً في سبيل الله، وكان دائماً يحمل معه أكفانه حيثما سار إلى الغزو، وهي أكفان صنعت من غزل بناته، واشتريت من خالص ماله الموروث. وقد استجاب الله دعاءه، فما كاد يحل بمدينة سالم، حتى شعر بدنو أجله، فاستدعى ولده عبد الملك، وألقى إليه نصائحه الأخيرة. وفي ليلة الإثنين 27 رمضان سنة 392، الموافق 11 أغسطس سنة 1002، توفي المنصور محمد بن أبي عامر، ودفن كرغبته في صحن قصر مدينة سالم، وذلك لسبعة وعشرين عاماً من حكمه، وعمره أربعة وستون عاماً، إذ كان مولده في سنة 328 هـ، ونقش على شاهد قبره هذان البيتان: آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه تالله لا يأتي الزمان بمثله ... أبداً ولا يحمي الثغور سواه (¬3) ولبث قبر المنصور بمدينة سالم عصوراً، مزاراً معروفاً، وذلك بالرغم من ¬_______ (¬1) راجع: Dozy: Recherches: Vol. I, p. 198-202 ; Hist. V. II. p. 268. وقد لخص العلامة المستشرق كونثالث بالانثيا آراء الفريقين في كتابه: Historia de la Espana Musulmana (4a Ed.) p. 57 & 58. (¬2) R.M. Pidal: Historia y Epopya p. 21 (¬3) الحلة السيراء ص 151.

استيلاء النصارى على المدينة، منذ أواخر القرن الحادي عشر. ويروي لنا ابن الخطيب، أنه عهد إلى بعض رسله ممن وجههم إلى قشتالة، لتأكيد عقد الصلح مع ملكها، بأن يزور في طريقه مدينة سالم، وأن يشاهد قبر المنصور، وأن هذا الرسول قد أخبره عند عوده، أن القبر ما يزال قائماً في مكانه إلا أن رسومه من شعر منقوش، وتاريخ مثبوت، قد عفت ومحيت آثارها، وقد كان ذلك فيما يبدو في وزارة ابن الخطيب الثانية فيما بين سنتي 1361 و1370 م (¬1). ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 81.

الفصل الثانى خلال المنصور ومآثره

الفصل الثاني خلال المنصور ومآثره الناصر والمنصور. المنصور يشق طريقه إلى السلطان. وسائله في ذلك. جيش المنصور وأهباته. شغفه بالجهاد. نتائج غزواته. الصوائف الإسلامية. عقمها وأثرها في إنهاك الجيوش الإسلامية. عبقرية المنصور الإدارية. استقرار الأمن والرخاء في عهده. وزراء المنصور وكتابه. أعماله الإنشائية. توسيعه للمسجد الجامع. تجديده لقنطرة قرطبة وإنشاؤه لقنطرة إستجة. جوده وبذله. مفاخرته بنشأته المتواضعة. صرامته في إقامة العدل. شغفه الشراب. براعته العلمية والأدبية. رعايتة للعلماء والأدباء. صاعد البغدادي شاعر المنصور. ديوان الندماء. مجالس المنصور الأدبية. شغفه بجمع الكتب. مقته للفلسفة والتنجيم. شعره ونثره. وصيته لابنه عبد الملك. وصيته لغلمانه. علائقه الدبلوماسية. مصاهرته لسانشو غرسية ملك نافار. وفود سانشو إلى الزاهرة. عبد الرحمن ولد المنصور وحفيد سانشو. إشادة الروايات الإسلامية بعظمة المنصور وخلاله. إشادة النقد الغربي بعبقريته السياسية والعسكرية. كان المنصور بن أبي عامر عبقرية فذة، تمثل ذروة النبوغ الشعبي، والطموح الفردى؛ فقد خرج المنصور من صفوف الطبقة الوسطى، وشق طريقه بساعده وهمته إلى السلطان والرياسة، ولم تسعفه في ذلك نشأة ملوكية، أو انقلاب عنيف، ولم يكن عزمه في بلوغ ذلك أقل شأناً من تألق طالعه، وقد وصل المنصور إلى مرتبة من السلطان والقوة، لم يصل إليها أحد قبله من أعاظم أمراء الأندلس حتى ولا عبد الرحمن الناصر نفسه. ويمكننا أن نقول إنه إذا كان عهد الناصر ألمع صفحة في تاريخ اسبانيا المسلمة، من النواحي السياسية والحضارية، فإن عهد المنصور لا يقل عنه لمعاناً وتألقاً، بل ربما امتاز على عهد الناصر، بما أحرزته اسبانيا المسلمة خلاله، من تفوق عظيم في السلطان والقوى العسكرية، في شبه الجزيرة الإسبانية. فقد استطاعت إسبانيا النصرانية في عهد الناصر، أن تنتهز فرصة الفتن الداخلية بالأندلس، وأن توطد قواها العسكرية، وأن تغزو الأندلس غير مرة غزوات مخربة، وقد لقى الناصر على يد النصارى غير هزيمة فادحة، أما في عهد المنصور، فقد انتهت اسبانيا النصرانية إلى حالة يرثى لها من التفكك والضعف، واستمرت زهاء ثلث قرن تتلقى ضربات المسلمين الساحقة

المتوالية. وقد وصل المنصور في غزواته في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى مواطن لم يبلغها فاتح مسلم من قبل. بدأ المنصور حياته في حلبة العلم والدرس، ولكن سرعان ما تفتحت مواهبه الإدارية والسياسية، فجاز مراتب المناصب السلطانية بسرعة، وظهر في كل منها بفائق كفايته وحزمه. وما كاد يختفي الحكم المستنصر من الميدان ويقوم ولده الطفل هشام في الخلافة، حتى تبلورت مطامع المنصور، واتجهت تواً إلى غايتها البعيدة، فكان الصراع مع الفتيان الصقالبة، ثم مع الحاجب جعفر، ولم يتح بعد ذلك لأية قوة معارضة أن تقف في سبيله. ولما اجتمعت سائر السلطات في يده، اتشح بثوب الحاكم المطلق، الذي لا يطيق أية مشاركة في سلطانه أو أي اعتراض لرأيه، ولم يدخر وسعاً في أن يخمد أية نزعة للخروج أو الثورة على حكمه. وهنا تبرز النواحي القاتمة في عبقرية المنصور، فنراه يلجأ في تدعيم سلطانه وحمايته إلى نفس الوسائل الميكيافيللية التي يلجأ إليها الطغاة دائماً في كل قطر، وفي كل عصر: إلى القتل، والغيلة، والخديعة، وكل ضروب العنف المثير، ونراه يسير إلى تحقيق الغاية بأي الوسائل، ولا يعف في ذلك السبيل عن ظلم يقع، أو دم يسفك، حتى ولو كان دم ولده بالذات. على أن هذه الوسائل المثيرة التي كانت سياجاً لسلطان المنصور، ودعامة لدولته، والتي هي دائماً من لوازم الحكم المطلق، يجب ألا تحول أنظارنا عن حقيقة ناصعة أخرى، وهي أن المنصور لم يستخدم هذا السلطان إلا لخير دينه، وخير الأمة التي نصب نفسه حاكماً عليها، ومشرفاً على مصايرها؛ ولعل الإسلام في شبه الجزيرة الإسبانية، لم يظفر قط بمجاهد في بطولة المنصور، وتفانيه في الذود عن دينه، وإعلاء كلمته، ولعل الأندلس لم تر قط مثل المنصور، زعيماً أخلص في خدمتها، وكرس جهوده ومواهبه في بناء قوتها وعظمتها، وسحق عدوها، وتحقيق أمنها ورخائها. وقد أدرك المنصور منذ البداية، أنه يجب لتحقيق سلام الأندلس وأمنها، وردع الممالك النصرانية عن عدوانها المستمر، أن يكون للأندلس قوة عسكرية عظيمة، تكفي لإرهاب عدوها، وإعزاز دينها، ومن ثم فقد بذل جهده لإصلاح الجيش الأندلسي، وتقويته، وتزويده بأفضل العناصر المحاربة. وقد رأى

المنصور أن يعتمد على البربر بالأخص، لما كانوا يتصفون به من البداوة والشجاعة، فاستقدمهم من العدوة، ورغبهم بوفرة البذل والعطاء (¬1). وكذلك استخدم المرتزقة من النصارى الإسبان، ومنحهم الأجور والجرايات السخية؛ وكان يجمع في جيشه الكثير منهم، ومعظمهم من المستعربين، وكان يحرص على رضائهم بتوسيع النفقة عليهم، معاملتهم بالمساواة والرفق (¬2). واستطاع المنصور بما وضعه للجيش من أنظمة محكمة، وما أفاض عليه من وافر النفقة والعدد، أن ينشىء للأندلس قوة عسكرية عظيمة، لم تعرفها في أية عهد آخر. وكانت هذه القوة فضلا عن كونها دعامة سلطانه وحكمه، دعامة الأندلس وأداتها للدفاع والغزو. ونستطيع أن نقدر أهمية الجيش الأندلسي وكفايته أيام المنصور، متى ذكرنا أن المنصور لبث زهاء ربع قرن، يقود قواته إلى الغزو المستمر، في أراضي الممالك النصرانية، كل ربيع وكل صيف، وأنه في نفس الوقت كان يبعث الحملات العسكرية العظيمة إلى المغرب، لتخوض سلسلة من الحروب الطاحنة. وقد بلغ من كثرة قوى الجيش النظامية وكفايتها، أن أصدر المنصور في سنة 388 هـ (998 م) أمره بإعفاء الناس من إجبارهم على الغزو، اكتفاء بعدد الجيش المرابط، وقرأ الخطباء ذلك المرسوم على الناس، إثر قراءة كتب الفتح، وعرفوا فيه " بأن من تطوع خيراً، فهو خير، ومن خف إليه، فمبرور ومأجور، ومن تثاقل فمعذور " (¬3). وقد أورد لنا ابن الخطيب (عن التيجاني) بعض الإحصاءات الهامة عن جيش المنصور، فذكر لنا أن الجيش المرابط (الثابت) بلغ في عهده من الفرسان اثنى عشر ألف ومائة فارس من سائر الطبقات، جميعهم مرتزقون في الديوان، يصرف لهم السلاح والنفقة والعلوفة. وكان عدد الحرس الخاص ستمائة فارس غير الأتباع. وانتهى عدد الرجالة في الجيش المرابط إلى ستة وعشرين ألف راجل. وكان عدد الجيش المرابط يتضاعف وقت الصوائف بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة. وقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف ستة وأربعين ألفاً، وكان عدد المشاة يتضاعف كذلك، وقد يبلغ المائة ألف أو تزيد. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 299 و315 و316. (¬2) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana (Madrid 1897) p. 630. (¬3) أعمال الأعلام ص 68.

وأورد لنا ابن الخطيب أيضاً، بيانات مفصلة مما كان يقتنيه المنصور من عتاق الخيل برسم الجهاد، ومطايا الركوب، ودواب الحمل، وقد بلغت وحدها أربعة آلاف جمل خصصت لحمل الأثقال. وأما عن عُدة الحرب، فقد كان المنصور يحتفظ بكميات عظيمة من الخيام والسهام والدروع، والتراس، وعدد من المجانيق وغيرها من آلات الحصار (¬1). وكان المنصور يضطرم شغفاً بالجهاد في سبيل الله، وكانت غزواته التي زادت على الخمسين، فضلا عن كونها عنوان هذا الجهاد المستمر، ترمي إلى غاية عسكرية وسياسية فطنة، هي تحطيم قوى اسبانيا النصرانية، وردعها بذلك عن العدوان على أراضي المسلمين. وقد تحققت هذه الغاية في أواخر عهد المنصور على أكمل وجه. وقد عنى مؤرخ الأندلس الكبير ابن حيان - وقد عاش قريباً من ذلك العصر - بتفصيل هذه الغزوات في مؤلف ضخم سماه " بالمآثر العامرية " واستخرجه من تاريخه الكبير " المقتبس " (¬2). وكان من نتائج هذه الغزوات أن امتلأت الأندلس في عصر المنصور بالغنائم والسبي من بنات الإسبان وأولادهم ونسائهم، وتغالي الناس في تجهيز بناتهم بالثياب والحلي والمال، وذلك لرخص بنات الإفرنج وركود سوق الزواج (¬3). وبلغ من شغف المنصور بالجهاد، أنه كان يتولى القيادة بنفسه في سائر غزواته الصائفة والشاتية، ولم يقعده شىء عن القيادة، والإشتراك الفعلي في كثير من المعارك، حتى أننا نراه في آخر غزواته يتولى القيادة بالرغم من مرضه، ويسير محمولا على محفة، ثم يقضي نحبه عقب الغزو، بين يدي جنده وفي معقل الثغر، بعيداً عن قصوره، ومهاد راحته ونعمائه. وكان يحرص في سائر غزواته، على أن يستخلص ما يعلق بوجهه أو ثيابه من الغبار، أثناء المعارك التي يخوضها، فكان يمسحه بمناديل اجتمعت له منها رزمة كبيرة، كان يحملها معه دائماً، حتى ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 99 و101 و102. (¬2) جذوة المقتبس للحميدي (القاهرة 1952) ص 74، والحلة السيراء ص 149، والمعجب لعبد الواحد المراكشي ص 21. وذكر لنا ابن الخطيب اسم هذا المؤلف كاملا وهو: " أخبار الدولة العامرية المنسوخة بالفتنة البربرية وما جرى فيها من الأحداث الشنيعة " كما ذكر لنا أنه يحتوي على أكثر من مائة سفر (أعمال الأعلام ص 98). (¬3) المعجب ص 21.

إذا وافته المنية ضمت إلى أكفانه، ودفنت معه تنفيذاً لوصيته (¬1). ومما يؤثر عن علائق المنصور بجيشه، أنه كان لقوة ذاكرته، يعرف كثيراً من جنده بالإسم, أو يعرف على الأقل كثيراً ممن امتاز منهم خلال المعارك بالإقدام والشجاعة، ويدعوهم إلى مائدته في المآدب الكبيرة، التي اعتاد أن يقيمها لجنده عقب كل انتصار. بيد أننا نستطيع أن نلاحظ بعد كل ذلك، أن سياسة المنصور العسكرية وغزواته المتوالية المظفرة، وإن كانت في الأصل تنطوي على غاية عسكرية وسياسية بعيدة المدى، هي سحق اسبانيا النصرانية، لم تؤت ثمارها إلا في حيز ضيق، هو ردع اسبانيا النصرانية، وكف عدوانها عن الأراضي الإسلامية، ولم تقصد بالفعل إلى الغاية الحاسمة، وهي القضاء على قوة اسبانيا النصرانية وسحقها بصورة نهائية، وهي غاية قصرت سياسة اسبانيا المسلمة عن العمل لها منذ البداية، ومن ثم فقد استطاعت الممالك الإسبانية النصرانية، أن تعيش، وأن تنمو قواها تباعاً، وأن تغدو بمضي الزمن، مناوئاً خطراً لاسبانيا المسلمة، يستغرق قواها باستمرار، ويشغلها في كفاح مدمر مستمر. وهنا، وعلى ضوء هذا الكفاح العقيم الذي استمر أجيالا بين اسبانيا المسلمة واسبانيا النصرانية، لا نرى مندوحة، من أن نحكم على سياسة الصوائف أو الغزوات الإسلامية العارضة، التي كانت تقليداً عسكرياً إسلامياً، في معظم الدول الإسلامية المتاخمة للدول النصرانية، فنقول إنها كانت من الناحية العسكرية تقوم على أسلوب خاطىء، وقد كانت تنهك الجيوش الإسلامية بقدر ما تنهك جيوش العدو، ولم يكن لها غاية محدودة مستقرة. وليس أدل على ذلك من تاريخ الصوائف أو الغزوات الإسلامية الموسمية أيام الدولة العباسية في أراضي الدرلة البيزنطية، فقد كان معظمها حملات غازية تقصد إلى العيث في أرض العدو، وإلى إحراز الغنائم المؤقتة الإقليمية وغيرها، ولم تنجح في تحطيم قوى الدولة البيزنطية أو سحقها. وقد كان عقم هذه الغزوات العارضة أشد وأوضح في الأندلس، حيث لبثت الدولة الأندلسية، إبان قوتها وتفوقها، عصوراً، تقتصر على الصوائف وما إليها من الغزوات الموسمية برسم الجهاد أو الانتقام من العدو، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 310، والمعجب ص 21.

وتنهك بذلك قوى الجيوش الإسلامية ومواردها بصورة مستمرة، وذلك دون أن تحقق غاية ثابتة مستقرة، أو توفق إلى القضاء على القوى الخصيمة بصورة حاسمة. ولقد اجتمعت لاسبانيا المسلمة في عصر المنصور أعظم القوى والموارد العسكرية التي اجتمعت لها في أي عصر سابق أو لاحق، وكانت هذه القوى الزاخرة، التي كان رائدها المنصور، - وهو أعظم شخصية سياسية وعسكرية، أتيح لها أن تقود الأندلس، وأن تسهر على مصايرها - كانت هذه القوى كفيلة بسحق الممالك الإسبانية النصرانية لو أنها وجهت نحو هذه الغاية توجهاً صائباً. ويقدر النقد الإسباني الحديث نفسه هذه الحقيقة، فيقول لنا إن غزوات المنصور ودفعه حدود النصارى إلى ما وراء نهر دويرة، وافتتاحه لقلمرية وسمورة وليون وشنت ياقب وكويانسا وشنت منكش وأوسمة وبرشلونة، دفع اسبانيا النصرانية إلى حافة الخراب تقريباً، وقضى هذا البعث لقوة الإسلام على كل أمل في " الإسترداد " La Reconquista (¬1) . ولكن غزوات المنصور على كثرتها، وعلى ما أسبغ عليها من طابع النصر المستمر، لم تخرج كثيراً عن حيز الصوائف والغزوات الإسلامية العارضة، التي تحقق أية غاية مستقرة ثابتة. وأما عن مقدرة المنصور في الإدارة والحكم، فإن الكلام فيها حرى بأن يطول، فقد أبدى المنصور طوال حياته كفاية إدارية مدهشة، وظهر في سائر المناصب التي أسندت إليه، مذ تولى وكالة هشام ولي العهد، فأمانة دار السكة والخزانة، ثم خطة المواريث، فخطة القضاء، ثم الشرطة، فالإشراف على الحشم والخاص؛ ظهر فيها جميعاً ببراعته وحصافته، وحسن تصريفه؛ ثم ظهرت هذه المقدرة على أتمها مذ ولي الحجابة، واستأثر بسائر السلطات، واحتمل فوق كاهله سائر المسئوليات الكبرى. فقد غدا المنصور زعيم الأندلس، وحاكمها الأوحد، والمشرف على مصايرها في الحرب والسلم؛ وقد أبدى المنصور في اضطلاعه بتلك المهمة العظمى، مقدرة فائقة، لم يبدها أحد من أسلافه. فلم تر الأندلس من قبل استقراراً كالذي رأته في عهد المنصور، ولم تتمتع قط بمثل ما تمتعت به في عهد المنصور، من الأمن والطمأنينة والدعة. وكانت أيام المنصور بالأندلس كلها ¬_______ (¬1) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana ; p. 629.

أيام فخار وظفر ورخاء ورغد، لم تعان خلالها من غزوات العدو المخربة، ولم تصب فيها بأية هزيمة ذات شأن، ولم تضطرم فيها أية ثورة أو فتنة، وفيها ازدهرت الزراعة والتجارة والصناعة، وزهت العلوم والآداب، وعم الخصب والرخاء في جنبات الأندلس، وفاضت خزائن قرطبة بالأموال، ووصل محصل الجباية يومئذ إلى أربعة آلاف ألف دينار (أربعة ملايين) سوى رسوم المواريث، وسوى مال السبي والغنائم، وما ينتج من المصادرات وأمثالها مما لا يرجع إلى قانون. وكانت النفقات السلطانية تبلغ في الشهر نحو مائتي ألف دينار، فاذا دخل شهر يونيه، وحلت الصائفة، تضاعفت النفقة بسب الاستعداد للغزو، ووصلت إلى خمسمائة ألف في الشهر أو أكثر (¬1). وكانت حكومة المنصور تضم عدة من أقدر رجالات الأندلس في هذا العصر ما بين وزراء وكتاب. وكان من وزرائه، أبو مروان عبد الملك بن شهيد، ومحمد بن جَهور، وعيسى بن فُطيس، وأبو عبد الله بن عياش، وأحمد بن محمد ابن حدير، ومحمد بن حفص بن جابر، وأحمد بن سعيد بن حزم والد الفيلسوف الشهير، وكان من أقدر وزراء المنصور وآثرهم لديه، وكان المنصور قد استوزره قبل سائر أصحابه في سنة 381 هـ، وبلغ من ثقته به أن كان يستخلفه على المملكة في أوقات معينة، ويعهد إليه بخاتمه؛ والظاهر أنه لما بلغ ذروة النفوذ والسلطان، شمخ بأنفه، وبدرت منه بوادر الدالة والاعتداد، فتغير عليه المنصور، وأقصاه عن خدمة الوزارة، وبعثه إلى كورة الغرب لينظر في شئونها، ثم عاد بعد قليل فأعاده إلى حسن رأيه، ورده إلى منصبه في الوزارة، وكان ابن حزم من أكابر أهل العلم والبلاغة (¬2). وكان من كتاب المنصور عيسى بن سعيد القطاع، وهو من أقدم كتابه، وكان من أنصاره ومعاونيه منذ أيام الحكم، فبلغ في ظله وتحت كنفه أرفع مكانة، وكان فوق ذلك من أخصائه ورفاقه في مجالس أنسه ترتفع بينهما الكلفة؛ وكان منهم، أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني، وخلف ابن حسين بن حيان والد المؤرخ، وغيرهم. وكانت هذه الصفوة من الوزراء والكتاب، الذين ينتمي معظمهم إلى أسر عريقة تعاقب أبناؤها في الوزارة، مثل آل شُهيد، وآل عبدَة، وآل جَهور، وآل فُطيس، وآل حُدير وغيرهم، ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 89. (¬2) كتاب " إعتاب الكتاب " لابن الأبار - مخطوط الإسكوريال - لوحة 53 و54.

ممن حملوا عمد الدولة الأموية، وعملوا على توطيد دعائمها، تعمل مع المنصور على تسيير دفة الحكم بمقدرة فائقة. وكان من هؤلاء الوزراء من يتصل بالمنصور برباط المودة الشخصية الوثيقة، ويشاطره شغفه بالشعر والأدب، ويغشى مجالس أنسه وشرابه، مثل عبد الملك بن شهيد، وأبى عبد الله بن عياش، وعيسى ابن سعيد. هذا وكان ممن اشترك مع المنصور في الحجابة في بداية عهده، بعد المصحفي، جعفر بن علي بن حمدون الأندلسي، والقائد غالب بن عبد الرحمن، الذي جمع بين القيادة والحجابة حيناً، وقد رأينا كيف لقي كل منهما مصرعه بعد ذلك على النحو الذي تقدم ذكره (¬1). * * * ولم يحل انشغال المنصور طوال عهده بالغزو المستمر، عن القيام بأعمال الإنشاء العظيمة. فقد أنشأ مدينة الزاهرة، وقصورها المنيفة، وحدائقها الغناء، واتخذها كما تقدم مركزاً للإدارة والحكم. ثم ابتنى إلى جانبها منية جميلة ذات قصر وحدائق رائعة، يرتادها للاستجمام والتنزه، وسماها "بالعامرية". وقد كان جمال هاتين الضاحيتين العامريتين، مستقى للأوصاف الشعرية والنثرية الرائعة. ومما قيل في العامرية أبيات لعمرو بن أبي الحباب أنشدها، وقد دخل يوماً على المنصور بقصر المنية، والروض قد تفتحت أزهاره: لا يوم كاليوم من أيامك الأول ... بالعامرية ذات الماء والظلل هواؤها في جميع الدهر معتدل ... طيباً وإن حل فصل غير معتدل ما إن يبالي الذي يحتل ساحتها ... بالسعد ألا تحل الشمس بالحمل كأنما غرست في ساعة وبدا السـ ... ـوسان من حينه فيها على عجل (¬2) وكان من أعظم وأجل أعمال المنصور زيادة المسجد الجامع. وكانت قرطبة قد اتسعت رقعتها اتساعاً عظيماً منذ أيام الناصر، واضطرد هذا الاتساع في أيام المنصور حتى بلغت مبلغاً عظيماً، وبلغت أرباض المدينة أعني أحياؤها يومئذ ¬_______ (¬1) راجع في ذكر وزراء المنصور: البيان المغرب ج 2 عى 286 و287 و290 و299، وأعمال الأعلام ص 70 و75 و80، ونفح الطيب ج 1 ص 274، والذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول ص 17 و56. (¬2) راجع بعض هذه القصائد والأوصاف في البيان المغرب ج 2 ص 296 و297، ونفح الطيب ج 1 ص 272 و273.

إحدى وعشرين ربضاً " كل ربض فيها يعد أكبر مدينة من مدائن الأندلس ". وقد ذكر ابن الخطيب لنا أسماءها ومواقعها تفصيلا، وبلغ خندقها المحيط بها ما عدا ناحية النهر سبعة وأربعين ألف وخمسمائة ذراع أي ستة عشر ميلا (¬1)، وزاد سكانها في نفس الوقت زيادة كبيرة، ولاسيما منذ مقدم طوائف البربر الكثيرة عليها، في بداية عهد المنصور، وضاقت رحبات المسجد الجامع برواده، ولاسيما في أيام الجمع. فرأى المنصور أن يقيم للجامع من ناحيته الشرقية جناحاً جديداً، لأن ناحيته الغربية كانت متصلة بالقصور الملكية. وشرع في إنشاء هذا الجناح في سنة 387 هـ (997 م)، فأقيم بحذاء الجامع من شماله إلى جنوبه، على رقعة شاسعة تكاد تعدل مساحته الأصلية، وروعيت في إنشائه البساطة والمتانة قبل الزخرفة، كما روعي التماثل والمطابقة للصرح القديم؛ ونزعت من أجل ذلك ملكية عدد كبير من الأماكن والدور، حرص المنصور على أن ينصف أصحابها فيما يستحقونه من ثمن أو معاوضة. وتضاعف حجم المسجد الجامع بهذه الزيادة، وأضحى يحتل رقعة عظيمة شاسعة تبلغ في الطول مائة وثمانين متراً، وفي العرض مائة وخمسة وثلاثين متراً. وكان يشتغل فيه عدد كبير من الأسرى النصارى، الذين أخذوا في مختلف المعارك. وكان المنصور يشترك بنفسه أحياناً في أعمال البناء. وبلغ عدد سواريه ما بين كبيرة وصغيرة، ألف وأربعمائة وسبعة عشرة، وبلغت ثرياته ما بين صغيرة وكبيرة مائتان وثمانون، وبلغ عدد المكلفين بالخدمة به في عهد المنصور، ما بين أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وغيرهم مائة وخمسون شخصاً، وكان الجامع وما حوله يعتبر وحده ربضاً مستقلا يتولاه عريفه وحراسه على حدة (¬2). ومازال جناح المنصور بمسجد قرطبة الجامع حتى اليوم، قائماً بسائر رحابه وعقوده وسواريه، وذلك بالرغم من تحويل عقوده الجانبية إلى كنائس وهياكل، ويعرفه الأثريون " بمسجد المنصور " (¬3). وجدد المنصور قنطرة قرطبة القائمة على نهر الوادي الكبير، وراء المسجد ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 103. (¬2) أعمال الأعلام ص 103. (¬3) راجع في زيادة المنصور للمسجد الجامع، البيان المغرب ج 2 ص 306 - 308، ونفح الطيب ج 1 ص 257. وراجع كتابي " الآثار الأندلسية الباقية " حيث يوصف جامع قرطبة بحالته الحاضرة تفصيلا الطبعة الثانية (ص 20 - 31).

الجامع، وكانت في الأصل قنطرة رومانية، فجددها السمح بن مالك أمير الأندلس ثم جاء المنصور فجددها، وأعاد بناءها، وذلك في سنة 378 هـ (988 م)، وتم بناؤها في سنة ونصف، وبلغت النفقة عليها مائة وأربعين ألف دينار، وعظم بها نفع القرطبيين. وابتنى المنصور كذلك قنطرة إستجة على نهر شنيل، فرع الوادي الكبير، واقتضى إنشاؤها كثيراً من الجهد والنفقة، ولكنها حققت تسهيلات عظيمة، في مواصلات قرطبة بالقواعد والولايات الغربية والجنوبية (¬1). * * * وكان المنصور، على الرغم من صرامته، وما لجأ إليه لتوطيد حكمه من الوسائل المثيرة، يتسم بصفات عديدة مؤثرة؛ فقد كان جواداً وافر الجود والبذل، يغدق صلاته على من يستحقها من العاملين معه والمتصلين به، وعلى الفقراء وذوي الحاجات، وله في ذلك حكايات كثيرة. وكان يفاخر بنشأته المتواضعة، ويقلل من شأن نفسه. وذكر المؤرخ ابن حيان في كتابه في " أخبار الدولة العامرية " عن والده خلف بن حيان كاتب المنصور، أن المنصور لامه ذات يوم لأمر من الأمور، فبدا عليه الفزع، فأشفق عليه المنصور وهدأ من روعه, ثم خلا به بعد أيام وقال له: " رأيت من ذعرك ما استنكرت، ومن وثق بالله برىء من الحول، والقوة لله، وإنما أنا آلة من آلاته أسطو بقدرته، وأعمل عن إذنه، ولا أملك لنفسي إلا ما أملك، ... فطمئن جأشك، فإنما أنا ابن امرأة من تميم طالما تقوت بثمن غزلها، أغدو به إلى السوق، وأنا أفرح الناس بمكانه، ثم جاء من أمر الله ما تراه، ومن أنا عند الله لولا عطفي على المستضعف المظلوم، وسيري لجهاد الطاغية " (¬2). وكان ورعاً، شديد الإيمان واليقين، يخشى ربه، ويزدجر إذا ذكر الله وعقابه. وكانت هذه أعجب الخلال في رجل كالمنصور، لم يعف عن سفك الدماء في سبيل تحقيق أطماعه. ولكنها حقيقة تنوه بها الرواية الإسلامية وتؤكدها، ومن دلائلها أن المنصور، كان يحمل معه في سائر غزواته وأسفاره مصحفاً ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 309، ونفح الطيب ج 1 ص 191، وأعمال الأعلام ص 76 (¬2) إعتاب الكتاب لابن الأبار - مخطوط الإسكوريال - لوحة 56.

خطه بيده، يقرأ فيه ويتبرك به في كل مناسبة (¬1). وكذلك تنوه الرواية بعدالة المنصور، وصرامته في إحقاق الحق، والانتصاف لذوي المظالم. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب عدة أمثلة رفعت فيها الظلامات إلى المنصور ضد بعض أكابر خدمه وحاشيته، ممن كانوا يظنون أن مراكزهم تحميهم من إجراء العدالة، فأمر المنصور بالانتصاف منهم لذوي الظلامات. وكان يقترن بهذه الصفة، خلة محمودة أخرى، هي تذرعه بالحلم والصبر، وضبط النفس في أموركثيرة، وذلك بالرغم مما كان عليه من الهيبة والرهبة والسلطان (¬2)، ولكن الرواية تنعي على المنصور خلة سيئة، هي شغفه بمعاقرة الخمر، وقد لازمته هذه الرذيلة طوال حياته، ولم يقلع عنها إلا قبل وفاته بعامين. ويصف لنا ابن الخطيب كيف كان المنصور يصل في العمل يومه بليله، وهو عاكف على الشراب، في تلك الفقرة البليغة: " وكانت الجزالة والرجولة ثوبه الذي لم يخلعه، إلى أن وصل إلى ربه، والحزم والحذر شعاره الذي لم يفارقه طول حياته، والنصب والسهر شأنه في يومه وليله، لا يفضل لذة على تدبيره، وحلاوة نهيه وأمره، فينفذ الأمور، والكأس تدور، والجبال للطرب تمور " (¬3). * * * بقيت من خلال المنصور ناحية ربما كانت ألمع خلاله جميعاً، وتلك هي الناحية العلمية. نشأ المنصور حسبما رأينا في بيت علم وأدب، ودرس وفقاً لتقاليد أسرته دراسة حسنة، وبرع في الشريعة والأدب، وكان حرياً به أن يتبوأ مكانه بين علماء عصره، لولا أن شاءت الأقدار أن تدفع به إلى معترك السياسة والسلطان. على أن المنصور لبث بالرغم من مشاغل هذا المعترك السياسي الخضم، يحتفظ طول حياته بشغفه بالعلم والأدب، ويوثق صلاته بالعلماء والأدباء والشعراء ويؤثرهم بحبه وعطفه، ويجمعهم حوله في أوقات فراغه وسويعات لهوه وأنسه، ويساجلهم البحث والمناظرة، ويطارحهم قرض الشعر، ذلك لأن المنصور كان شاعراً أيضاً، وله نظم حسن سوف نورد شيئاً منه. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 2 ص 309 و310، وابن خلدون ج 4 ص 147. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 310 - 312، والحلة السيراء ص 151. (¬3) البيان المغرب ج 2 ص 310، وأعمال الأعلام ص 75.

وكان من أخص جلسائه الأدباء، الكاتب البغدادي، أبو العلا صاعد ابن الحسن. وكان قد وفد من المشرق على الأندلس سنة 380 هـ، والمنصور في أوج سلطانه، فأراد المنصور أن يجعل منه قريناً لأبى علي القالي، الوافد من قبل على الناصر والحكم، فقربه وأذن له أن يجلس بجامع مدينة الزاهرة، يملي كتابه المسمى " بالفصوص " على أدباء قرطبة، وهو كتاب في الآداب والأخبار والأشعار، ولكن أدباء قرطبة أنكروا ما ورد فيه، وكذبوه في كثير مما يلقيه، وفضحوا كثيراً من سرقاته الأدبية والشعرية (¬1). ومع ذلك فقد كان صاعد أديباً بارعاً، خفيف الروح، متوقد الذهن، حاضر البديهة، وكان يأتي بكثير من غريب الشعر بداهة، فأعجب به المنصور، وأولاه رعايته، وألحقه بديوان الندماء، وأجرى عليه راتباً حسناً؛ وكان بهذا الديوان بعض أدباء العصر مثل زيادة الله بن مضر الطبني، وابن العريف، وابن التياني، وغيرهم. وغدا صاعد شاعر المنصور ينظم له المدائح والطرف، ويصطحبه المنصور في نزهاته برياض الزاهرة، وينظمه في مجالس أدبه وأنسه. وقد أورد لنا ابن بسام وصفاً مسهباً لهذه المجالس الأدبية، التي يجتمع فيها المنصور بخلانه وندمائه ومنهم صاعد، وأورد لنا كثيراً مما قيل فيها من النظم. وقد كان بعض الفتيان الصقالبة من بطانة المنصور، يأخذ بقسط حسن من الشعر والأدب، ويغشى مجالس المنصورالأدبية ويشترك في المطارحات الشعرية، وكان من أشهرهم الفتى فاتن، وكان من أبرع العارفين منهم باللغة والأدب. وقد كان للفتيان الصقالبة في الواقع تراث من الشعر والأدب، واشتهروا بذلك أيام المنصور خاصة، وأصدر أحدهم في ذلك كتاباً سماه " الإستظهار والمغالبة على من أنكر فضل الصقالبة "، ضمنه كثيراً من أشعارهم ونوادر أخبارهم (¬2). ولبث صاعد على مكانته حتى وفاة المنصور، ومن بعده حتى نهاية الدولة العامرية، ثم أفل نجمه بعد ذلك، وساءت أحواله عند ظهور الفتنة، فغادر الأندلس متخفياً في سنة 403 هـ، وجاز البحر إلى صقلية، واتصل بأميرها فأولاه رعايته، وحسنت حاله، وكانت وفاته بها في سنة 410 هـ. ¬_______ (¬1) الصلة لابن بشكوال (طبعة القاهرة) رقم 40. (¬2) راجع الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 7 - 22، والمعجب ص 16 و17.

وكان للمنصور، فضلا عن مجالس الأدب والأنس العابرة، مجلس أسبوعي يعقده للبحث والمناظرة، ويشهده كثير من العلماء والأدباء (¬1). وكان في غزواته يستصحب بعض العلماء والأدباء من أصدقائه، إذ كان شغف البحث والمناظرة، يلازمه دائماً حتى في ميدان الحرب؛ وإلى جانب هذا الشغف الشخصي بالحياة العقلية، كان المنصور مولعاً بالعمل على نشر العلم والمعرفة بين طبقات الشعب، فأنشأ كثيراً من دور العلم بقرطبة، وبالغ في الإنفاق عليها، وكان يزور المدارس والمساجد، ويجالس الطلاب أحياناً، ويمنح المكافآت النفيسة لمن يستحقها. وإلى جانب هذا الشغف بالآداب والعلوم ونشر الحياة العقلية، كان المنصور يشغف أيضاً بجمع الكتب، وكان أكابر المؤلفين يهدون إليه كتبهم، على نحو ما كان متبعاً أيام الحكم، ومن ذلك أن صاعداً البغدادي أهدى إليه كتاب " الفصوص " المتقدم ذكره، فأثابه عنه بخمسمائة دينار (¬2). وكان المنصور يمقت الفلسفة وما إليها، ويرى أنها مخالفة للدين، ويكره التنجيم والمنجمين، وقد أمر بأن يستخرج من المكتبة الأموية العظيمة (مكتبة الحكم المستنصر) سائر كتب الفلاسفة والدهريين، وأن تحرق بمحضر من كبار العلماء، وفي مقدمتهم أبو العباس بن ذكوان، وأبو بكر الزبيدي، والأصيلي وغيرهم، وكان ذلك بلا ريب عملا غير موفق، وكان خسارة علمية فادحة. وينعى المستشرق سيمونيت على المنصور هذا التصرف، فيقول: " إنه إذا كان الحكم الثاني قد استطاع لنزعته العلمية والأدبية أن يحمي الفلاسفة، فقد جاء المنصور من بعده فقام بحرق كتب الفلسفة التي كانت بمكتبة الحكم، وذلك لكي يرضى الفقهاء والدهماء " (¬3). واشتد المنصور أيضاً في مطاردة المنجمين، وبلغه أن أحدهم وهو محمد بن أبي جمعة، يهجس في تنبؤاته بانقراض دولته، فأمر بقطع لسانه وقتله، فخرست ألسن المنجمين جميعاً (¬4). ¬_______ (¬1) راجع جذوة المقتبس للحميدي ص 73، والمعجب ص 20. (¬2) الصلة لابن بشكوال رقم 40. (¬3) Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana ; p. 351 (¬4) البيان المغرب ج 3 ص 315، وأعمال الأعلام ص 77.

وللمنصور شعر جيد، نظمه في مختلف مناسبات حياته، ومن ذلك قوله في الفخر: رميت بنفسي هول كل عظيمة ... وخاطرت والحر الكريم يخاطر وما صاحبي إلا جنان مشيع ... وأسمر خطى وأبيض باتر وإني لزجاء الجيوش إلى الوغى ... أسود تلاقيها أسود خوادر فسدت بنفسي أهل كل سيادة ... وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر وما شدت بنياناً ولكن زيادة ... على ما بنى عبد المليك وعامر رفعنا العوالي بالعوالي مثلها ... وأورثناها في القديم معافر وقوله يتهدد الفاطميين بمصر، ويمني نفسه بفتح مصر والشأم: منع العين أن تذوق المناما ... حبا أن ترى الصفاء والمقاما لي ديون بالشرق عند أناس ... قد أخلوا بالمشعرين الحراما إن قضوها نالوا الأماني وإلا ... جعلوا دونها رقاباً وهاما عن قريب ترى خيول هشام ... يبلغ النيل خطوها والشاما وأما عن نثر المنصور، فقد رأينا أن نورد نموذجاً له، وصيته لولده عبد الملك حينما حضرته الوفاة، وقد نقلها إلينا ابن حيان عن أبيه خلف بن حسين، وهذا نصها: " يا بني: لست تجد أنصح لك، ولا أشفق عليك مني، فلا تعديَّن وصيتي، فقد جردت لك رأيي ورويتي، على حين اجتماع من ذهنى، فاجعلها مثالا بين عينيك. وقد وطأت لك مهاد الدولة، وعدلت لك طبقات أوليائها، وغايرت لك بين دخل المملكة وخرجها، واستكثرت لك من أطعمتها وعددها، وخلفت لك جباية تزيد على ما ينوبك لجيشك ونفقتك، فلا تطلق يدك في الإنفاق، ولا تقيض لظلمة العمال، فيختل أمرك سريعاً، فكل سرف راجع إلى اختلال لا محالة، فاقصد في أمرك جهدك، واستثبت فيما يرفع أهل السعاية إليك، والرعية قد استقصيت لك تقويمها، وأعظم مناها أن تأمن البادرة، وتسكن إلى لين الجنبة. وصاحب القصر قد علمت مذهبه، وأنه لا يأتيك من قبله شىء تكرهه، والآفة ممن يتولاه ويلتمس الوثوب باسمه، فلا تنم عن هذه الطائفة جملة، ولا ترفع عنها سوء ظن وتهمة، وعاجل بها من خفته على أقل بادرة، مع

قيامك بأسباب صاحب القصر على أتم وجه. فليس لك ولا لأصحابك شىء يقيكم الحنث في يمين البيعة، إلا ما تقيمه لوليها من هذه النفقة، فأما الانفراد بالتدبير دونه، مع ما بلوته من جهله وعجزه عنه، فإني أرجو أني وإياك منه في سعة ما تمسكنا بالكتاب والسنة. والمال المخزون عند والدتك، هو ذخيرة مملكتك وعدة لحاجة تنزل بك، فأقمه مقام الجارحة من جوارحك التي لا تبذلها إلا عند الشدة، تخاف منها على سائر جسدك. ومادة الخراج غير منقطعة عنك بالحالة المعتدلة. وأخوك عبد الرحمن قد صيرت إليه في حياتي ما رجوت أني قد خرجت له فيه عن حقه من ميراثي، وأخرجته عن ولاية الثغر، لئلا يجد العدو مساغاً بينكما في خلاف وصيتي، فيسرع ذلك في نقض أمري، وتجلب الفاقرة علي دولتي. وقد كفيتك الحيرة فيه، فأكفه الحيف منك عليه، وكذلك سائر أهلك فيما صنعت فيهم، بحسب مما قدرت به خلاصي من مال الله الذي في يدي. وخلافتك بعدي أجدى عليهم مما صرفته، فلا تضيع أمر جميعهم، والحظهم بعيني فإنك أبوهم بعدي. فإن انقادت لك الأمور بالحضرة فهذا وجه العمل، وسبيل السيرة، وإن اعتاصت عليك، فلا تلقين بيدك إلقاء الأمة، ولا تبطر بك وأصحابك السلامة، فتنسوا ما لكم في نفوس بني أمية وشيعتهم بقرطبة. فإن قاومت من توثب عليك منهم، فلا تذهل عن الحزم فيهم، وإن خفت الضعف فانتبذ بخاصتك وغلمانك، إلى بعض الأطراف التي حصنتها لك، واختبر غدك إن أنكرت يومك. وإياك أن تضع يدك في يد مرواني ما طاوعتك بنانك، فإني أعرف ذنبي إليهم ". وهذه وصيته لغلمانه نقلها إلينا أيضاً ابن حيان عن أبيه: " تنبهوا لأمركم واحفظوا نعمة الله عليكم، في طاعة عبد الملك أخيكم ومولاكم ولا تغرنكم بوارق بني أمية ومواعيد من يطلب منهم شتاتكم، وقدروا ما في قلوبهم وقلوب شيعتهم بقرطبة من الحقد عليكم، فليس يرأسكم بعدي أشفق عليكم من ولدي. وملاك أمركم أن تنسوا الأحقاد، وأن تكون جماعتكم كرجل واحد، فإنه لا يفل فيكم " (¬1). ¬_______ (¬1) نقل إلينا ابن بسام (عن ابن حيان) هذين النصين في الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 56 - 58. ونقلهما ابن الخطيب أيضاً في أعمال الأعلام ص 81 و82.

وفي وصية المنصور لولده وغلمانه، يرتسم برنامج سياسته كلها، وتبدو يالأخص نواحي توجسه وتخوفه، فهو لم يكن يأمن جانب بني أمية قط، وقد لبث يتوقع الشر منهم حتى وفاته. ثم توفي وهو يتوقع الشر منهم لبنيه ودولته. وقد كان المنصور في ذلك صائب التقدير، بعيد النظر. * * * هذا وأما علائق المنصور الدبلوماسية فإنه لم يتح له عقد الكثير منها، ولم تفد إليه سفارات من ملوك النصارى على نحو ما حدث أيام الناصر والحكم المستنصر. ذلك لأن عهد المنصور كان كله عهد حروب مستمرة، بين الأندلس وبين اسبانيا النصرانية، ولم يقع بين الفريقين تهادن أو سلم طويل الأمد. وكل ما نستطيع أن نسجله من ذلك حادثان متشابهان، أولهما قدوم برمودو الثاني ملك ليون إلى قرطبة في سنة 985 م، مستجيراً بالمنصور ليعاونه على مقاومة الأشراف الخارجين عليه وتوطيد عرشه. وقد أجابه المنصور إلى طلبه وبادر بمعونته. ومما هو جدير بالذكر أن برمودو قدم ابنته تريسا Teresa، بعد ذلك إلى المنصور عروساً له، فقبلها المنصور وتزوجها أو اتخذها سرية له (¬1). والثاني، وهو من أشهر الحوادث الشائقة التي وقعت أيام المنصور، هو مقدم سانشو غرسية ملك نافار على المنصور، معتذراً إليه، لائذاً بعفوه ومهادنته, والوجه الشائق في ذلك هو أن سانشو غرسية هذا كان صهراً للمنصور، وكان تقرباً من المنصور، واكتساباً لمودته قد قدم ابنته عروساً إليه (981 م) فتزوجها المنصور، واعتنقت الإسلام، وسميت باسم "عبدة"، وكانت من أحظى نسائه لديه، ورزق منها بولده عبد الرحمن الذي سمي أيضاً " شنجول " أو " سانشول " أى شانجُه (سانشو) الصغير نسبة لجده ملك نافار. ثم ساءت العلائق بين المنصور وصهره، وتابع المنصور غزو نافار مرة بعد مرة، حتى اضطر سانشو إلى طلب الصلح، وسار إلى قرطبة مستصرخاً المنصور ولائذاً بعفوه. ووصل سانشو إلى قرطبة في الثالث من رجب سنة 382 هـ (4 سبتمبر سنة 992 م) فسر المنصور بمقدمه سروراً عظيماً، وبعث القواد والكبراء وطوائف الجند في موكب فخم، وعلى رأسهم ولده عبد الرحمن وهو طفل في مهده، لاستقباله ومرافقته ¬_______ (¬1) R. M. Pidal: La Espana del Cid (Madrid 1947) p. 71.

إلى قصر الزاهرة، فلما وقعت عين سانشو على حفيده، ترجل وقبل يده ورجله، ثم رافق الركب إلى الزاهرة، وقد اصطفت الجند على طول الطريق في صفوف كثيفة زاهية كاملة السلاح والعدة، واصطف الوصفاء والصقالبة من باب القصر إلى الداخل صفين. وسار سانشو، وقد بهره كل ما رأى، حتى وصل إلى مجلس المنصور في عصر ذلك اليوم، وقد جلس المنصور في هيئة فخمة، ومن حوله الوزراء وأعاظم رجال الدولة؛ فلما أبصره سانشو هوى إلى الأرض فقبلها مرات متوالية، ثم قبل يدى المنصور ورجليه، فأمره بالجلوس على كرسي مذهب خصص له، ثم انصرف الناس واختلى الملك النصراني بالمنصور، وأفضى كل إلى صاحبه بما أراد، ثم خرج سانشو وفي أثره الخلع السلطانية، وما انفض المجلس إلا عند دخول الليل. وكان مقدم سانشو غرسية إلى قرطبة، واستقباله بها، من أيام الأندلس المشهودة، وقد أعاد بروعته وما اقترن به من مغزى عميق بظفر الإسلام على أعدائه، ذكرى أيام الناصر في وفود الملوك النصارى عليه، ملتمسين منه الصلح والمودة (¬1). * * * وقد أجمعت الرواية الإسلامية، الأندلسية والمشرقية، على الإشادة بخلال المنصور وباهر صفاته. وهي جميعاً سواء أوجزت القول أو أفاضت، تنم عن عميق التقدير والإعجاب، ثم هي مع ذلك لم تغفل التنويه بالجوانب القاتمة في تلك العبقرية الفذة، على أنها على العموم أكثر ميلا إلى إبراز محاسن المنصور ومواهبه، والإشادة بما أسبغته على الأمة الأندلسية من ضروب العظمة والبهاء. قال ابن الأثير يصف المنصور: " وكان شجاعاً، قوى النفس، حسن التدبير، وكان عالماً محباً للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وقد أكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة " (¬2). وقال ابن خلدون " وكان ذا عقل ورأي وشجاعة، وبصر بالحروب، ودين متين " (¬3). ويصفه الفتح ابن خاقان في " المطمح " في تلك العبارات الشعرية: " وكان أمضاهم (يعني من ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن الخطيب في " أعمال الأعلام " وصفاً شائقاً لهذا الحادث. ص 66 و73 و74. (¬2) ابن الأثير ج 9 ص 61. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 147.

تقدمه) وأذكاهم جناناً، وأتمهم جلالا، وأعظمهم استقلالا. قام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها إنافة. وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة، فانتظمت له الممالك، واتضحت به المسالك، وانتشر الأمن في كل طريق، واستشعر اليمن كل فريق. وملك الأندلس بضعاً وعشرين حجة، لم تدحض لسعادتها حجة، ولم تزخر لمكروه بها لجة، وكانت أيامه أحمد أيام، وسهام بأسه أشد سهام " (¬1). ويجمل ابن حيان حياة المنصور في تلك الفقرة: " وامتثل رسم المتغلبين على سلطان ولد العباس بالمشرق من أمراء الديلم في عصره. فنال بغيته، وتهنأ معيشته، وأورثه عقبه بعده، عن غير اقتدار عليه، بجند خاص، ولا صيال بعشيرة، ولا مكابرة بمال وعدة، بل رمى الدولة من كنانها، وعدا عليها بأعضادها، وانتضلها بمشاقصها، وأنفق على ضبطها أموالها وعددها، حتى حولها إليه وسبكها في قالبه، وسلخ رجالها برجاله، وعفى رسومها بما أوضح من رسومه " (¬2). هذا، وقد أشاد ابن الخطيب بخلال المنصور في مواطن وفقرات عديدة نقتطف منها ما يلي: قال مشيراً إلى ولاية هشام: " فاستقر الأمر لهشام، يكنفه الحاجب المنصور أسعد أهل الأندلس مولداً، وأشهرهم بأساً ونداً، وأبعدهم في حسن الذكر مداً، الحازم العازم، العظيم السياسة، الشديد الصلابة، القوي المنة، الثبت الموقف، معود الإقبال، ومبلغ الآمال، الذي صحبته ألطاف الله الخفية في الأزمات، واضطرد له النصر العزيز في نحو سبع وخمسن من الغزوات، ولم تفارقه السعادة حالتي المحيا والممات ". وقال: " فقد أجمع الشيخة أنه نهض بجد لا كفاء له، وأصحب سعداً لا نحس يخالطه، وأعطى إقبالا لا إدبار معه، قد وثق بذلك فلم يلتفت إلى غيره ... " " وكان مهيباً وقوراً، فإذا خلا كان أحسن الناس مجلساً، وأبرهم بمن يحضر منادماً ومؤانساً، وكان شديد القلق من التبسط عليه، والدالة، والامتنان، ¬_______ (¬1) نقله البيان المغرب ج 2 ص 292، والمقري في نفح الطيب ج 1 ص 189. (¬2) نقله صاحب الذخيرة. القسم الرابع المجلد الأول ص 43.

لا يغفرها زلة، ولا يحلم عنها جريرة، ولم يكن يسامح في نقصان الهيبة، وحفظ الطاعة أحداً، من ولد ولا ذي خاصة، دعاه ذلك إلى قتل ولده عبد الله صبراً بالسيف بما هو معروف ". " وكانت الجزالة والرجولة، ثوبه الذي لم يخلعه، إلى أن وصل إلى ربه، والحزم والحذر شعاره، الذي لم يفارقه طول حياته، والنصب والسهر شأنه في يومه وليله، لا يفضل لذة على لذة تدبيره، وحلاوة نهيه وأمره " (¬1). ولم يكن النقد الغربي أقل تقديراً لعظمة المنصور، وقد أشاد بعبقريته ومواهبه كثير من المؤرخين والنقدة الغربيين، وهذه نماذج من أقوالهم: قال المؤرخ الإسباني اليسوعي ماسديه مشيراً إلى المنصور: " وكان سياسياً كبيراً، وقائداً عظيماً، فقد أخمد نار الثورات التي كانت تعصف بالمملكة، واكتسب حب الشعب بجميع طبقاته، وتفوق في شهرته وهيبته على أكبر القواد، بما اجتمع في أحكامه من الصرامة واللين والقصاص والعفو، وكان يهدم المدن التي تقاوم جيوشه ويبيدها، ولكنه لم يسمح قط لجنده بأن تسىء معاملة مدينة سلمت طوعاً " (¬2). ويقول المؤرخ الإسباني المعاصر الأستاذ مننديث بيدال معلقاً على عصر المنصور: " عاش الإسلام في اسبانيا أروع أيامه وأسطعها، وانتهى نصارى الشمال إلى حالة دفاع كانت دائماً مقرونة بالمحن، ولاح كأنهم لم يعيشوا إلا لتأدية الجزية والسلاح والأسرى والمجد للخلافة الأموية " (¬3). ويلاحظ الأستاذ بيدال في نفس الوقت أن عبقرية المنصورالعسكرية والسياسية كانت من عوامل القضاء على الروح القومية النصرانية المستعربة، وذلك لما أغدقه المنصور من عطفه ورعايته على كثير من النصارى والمستعربين (¬4). ويختتم العلامة دوزي كلامه عن المنصور بالفقرة الآتية: " وعلى الجملة، فإذا وجب أن نستنكر الوسائل التي لجأ إليها المنصور في اغتصاب السلطة، فمن ¬_______ (¬1) راجع أعمال الأعلام ص 58 و74 و75. (¬2) J.F. Masdeu: Historia Critica de Espana y de la Cultura Espanola. (¬3) R.M.Pidal: La Espana del Cid, p. 72. (¬4) R.M. Pidal: Origenes des Espanol, p. 423.

الواجب أيضاً أن نعترف بأنه استخدمها بطريقة شريفة. وما كنا لنسرف في لومه لو أن القدر خلقه على أريكة العرش، ولعله كان يعتبر عندئذ من أعظم الملوك الذين عرفهم التاريخ. ولكنه خلق في القرية، واضطر لتحقيق أطماعه، أن يشق لنفسه طريقاً تكتنفه آلاف الصعاب. ومن الأسف أنه من أجل تذليلها، قلما راعى شرعية الواسطة. لقد كان المنصور رجلا عظيماً من وجوه كثيرة، ولكن يستحيل علينا، متى رجعنا إلى مبادىء الأخلاق الخالدة أن نحبه، ومن الصعب أن نعجب به " (¬1). ¬_______ (¬1) Dozy: Hist. Vol. II. p. 275.

الفصل الثالث الممالك النصرانية الإسبانية

الفصل الثالث الممالك النصرانية الإسبانية خلال القرن العاشر الميلادي نهوض اسبانيا النصرانية في عهد الفتنة الأندلسية. وفاة أردونيو الثاني. الحرب الأهلية في ليون. استقرار راميرو في الملك. ولاية قشتالة. جهادها في سبيل الاستقلال. الكونت فرنان كونثالث. ثورته ضد راميرو الثاني. هزيمته وأسره. ثورة قشتالة. الإفراج عن الكونت. طاعته لملك ليون. استمراره في العمل لاستقلال قشتالة. وفاة راميرو. الحرب الأهلية بين ولديه أردونيو وسانشو. معاونة فرنان كونثالث لسانشو. انتصار أردونيو وفوزه بالملك. يعقد الصلح مع الناصر. وفاته وجلوس سانشو. موقف فرنان كونثالث. اضطراب الأحوال في ليون. فرار سانشو وجلوس أردونيو الرابع. التجاء سانشو وجدته طوطة إلى الناصر. سانشو يسترد العرش بمعونة الناصر. نكثه لعهوده. فرنان كونثالث يعلن استقلال قشتالة. التجاء أردونيو إلى الحكم. اتحاد الأمراء النصارى. غزو الحكم لقشتالة ونافار. اضطرارهما لعقد الصلح. بداية الكفاح بين قشتالة والمملكة الإسلامية. الحكم يأذن بنقل رفات القديس بلايو. الثورة في جليقية. مصرع سانشو وجلوس ولده راميرو. وفاة فرنان كونثالث وصفاته. وفود الأمراء النصارى وسفاراتهم على قرطبة. عدوان النصارى على أراضي المسلمين وردهم. النزاع بين راميرو وبرمودو على العرش. تدخل المنصور في ذلك. غزو المنصور لشنت ياقب. برمودو يلتمس الصلح. وفاته وجلوس ولده ألفونسو. ملكة نافار. غرسية سانشيز وأمه طوطة. ولده سانشو غرسية. غزو المنصور لنافار. وفاة سانشو وجلوس ولده غرسية سانشيز. ولده سانشو الكبير. عناصر المجتمع في اسبانيا النصرانية. طبقة الأشراف والفرسان والملاك والزراع الأحرار. طبقة الأرقاء. رقيق الضياع. التنظيم السياسي للمملكة النصرانية. السلطة المركزية. الأشراف. القضاء واشتراك الأشراف في مزاولته. رجال الدين وسلطانهم الإقطاعي. مقارنة بين هذا النظام ونظام المملكة الإسلامية. لما بلغت الثورات والفتن الداخلية بالأندلس، ذروتها في النصف الأخير، من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، فيما اصطلح على تسميته بالفتنة الكبرى، وبددت قوى الأندلس ومواردها في ذلك الصراع الداخلي المدمر، أخذت اسبانيا النصرانية، وقد أمنت شر الغزوات الإسلامية طوال هذه الفترة، تتنفس الصعداء، فاشتد ساعدها، ونمت مواردها، وتوطدت حكوماتها. ولم تأت فاتحة القرن العاشر الميلادي، حتى كانت مملكة ليون، التي خلفت مملكة جليقية، وبسطت سلطانها على ولاية قشتالة، في أواسط اسبانيا الشمالية، قد

بلغت مستوى من القوة والبأس، يتيح لها أن تخوض مع المملكة الإسلامية صراعاً عنيفاً. وقد رأينا كيف بلغ هذا الصراع ذروته في عهد الناصر، وكيف أنه بالرغم مما حققه الناصر من إخماد الفتنة، وإحياء قوة الأندلس، استطاع النصارى بقيادة ملكهم أردونيو الثاني، أن يحرزوا على المسلمين نصرهم الخطير، في موقعة شنت إشتيبن في سنة 917 م. وكانت موقعة شنت إشتيبن، وما تلاها من تكرر غزو النصارى للأراضي الإسلامية، نذيراً خطيراً لحكومة قرطبة. ولكن وفاة أردونيو الثاني في سنة 925 م وضع حداً مؤقتاً لتلك الفورة القومية، التي جاشت بها اسبانيا النصرانية. ذلك أن أخاه وخلفه فرويلا، لم يحكم سوى عام واحد، ثم توفي، فاضطرم النزاع على العرش بين سانشو وألفونسو ولدى أردونيو، وانتهى بأن فاز ألفونسو بالعرش بمعاونة صهره وحميه سانشو ملك نافار. ولكن سانشو لم ييأس، فجمع جيشاً جديداً، وتوج نفسه ملكاً في شنت ياقب في أقاصي جليقية، ثم زحف على ليون فحاصرها واستولى عليها، وارتقى العرش مكان أخيه. فعاد ملك نافار إلى مؤازرة ألفونسو ومعاونته، حتى استطاع أن يهزم أخاه، وأن يستولى على مدينة ليون مرة أخرى. بيد أن أخاه سانشو لبث محتفظاً بجليقية؛ مصراً على دعواه في الملك. واستمرت الحرب الأهلية بين النصارى أعواماً، وانتهى طورها الأول، حينما توفي سانشو ابن أردونيو في سنة 929 م، واستقر الملك لأخيه ألفونسو الرابع دون منازع. ثم بدأ طورها الثاني في سنة 931 م، ففي تلك سنة توفيت زوجة ألفونسو، فحزن لفقدها أيما حزن، وغلب عليه اليأس والزهد، فتنازل عن العرش لأخيه راميرو ثاني ملوك ليون بهذا الإسم، ولجأ إلى دير ساهاجون واعتنق الرهبانية، ولكنه عافها بعد قليل، فترك عزلة الدير، ونادى بنفسه ملكاً في حصن شنت منكش Simancas، وكان عمله في نظر الرهبان عاراً كبيراً، فأثاروا عليه دعاية شديدة، حتى اضطر أن يعود إلى الرهبانية. وقد كان ألفونسو في الواقع " أميراً أصلح لقلنسوة الراهب منه لتاج الملك، وأشد شغفاً بالمقدس منه بميدان الحرب "، ولكنه ما لبث أن انتهز فرصة مسير أخيه راميرو إلى نجدة

ثوار طليطلة، فغادر الدير، وزحف في بعض أنصاره على مدينةْ ليون واستولى عليها، فعاد راميرو مسرعاً، وحاصر أخاه في ليون واستولى عليها بدوره. ثم أراد أن يضع حداً لمساعي ألفونسو ومحاولته فسمل عينيه، وسمل كذلك أعين أبناء عمه الثلاثة، وهم أولاد فرويلا الذين اشتركوا في الثورة عليه. ويعلق النقد الإسباني الحديث على تلك القسوة بقوله: " وإنه ليروعنا ذكرى العقوبة التي أنزلها راميرو الثاني بأخيه ألفونسو، وبأبناء عمه الثلاثة، وإنه لن يكفي مر القرون ليمحو ذكرى عقوبة سمل العينين التي ورثت عن التشريع القوطي، قبل أن نراها تطبق بكثرة من جانب ملوكنا نحو ذوي قرباهم " (¬1). وهكذا استقر الملك لراميرو بعد صراع عائلي عنيف. وكان راميرو الثاني أو رذمير كما تسميه الرواية الإسلامية، ملكاً شجاعاً مقداماً، نذر نفسه للكفاح ضد المسلمين، ومقارعتهم بكل الوسائل، فتارة يغير على الأراضي الإسلامية، وتارة يحرض الثوار على حكومة قرطبة، أو يسير إلى إنجادهم بالفعل، كما حدث حينما سار لمعاونة طليطلة على مقاومة الناصر (930 م)، وتارة يشتبك مع المسلمين في معارك طاحنة. وقد سبق أن فصلنا أدوار ذلك الصراع العنيف، الذي اضطرم بين راميرو وبين الناصر، والذي بلغ ذروته في موقعة الخندق المشئومة، التي دارت فيها الدائرة على المسلمين، تحت أسوار مدينة سمورة في سنة 327 هـ (939 م). 1 - نشأة مملكة قشتالة لم يكن اضطراب الأمور في مملكة ليون، قاصراً على قسمها الغربي في جليقية، حيث كان الزعماء (الكونتات) الجلالقة، يثورون على العرش من آن لآخر، بغية توطيد سلطانهم المحلي، بل كان يشمل أيضاً قسمها الشرقي، في منطقة قشتالة، التي كانت تسمى يومئذ " بردوليا " ثم سميت فيما بعد " قشتالة Castilla " (¬2) ، وذلك لكثرة الحصون التي كانت تقام بها. وكانت هذه المنطقة، التي استحالت فيما بعد إلى مملكة قشتالة، تمتد شرقاً حتى هضاب نافار، ومن ¬_______ (¬1) M. Lafuente: Historia General de Espana (Barcelona 1889) T. II.p. 360. (¬2) كلمة Castillo الإسبانية معناها الحصن. وقد كانت تسمى في الجغرافية العربية القلاع قبل أن تنتظم إلى مملكة قشتالة. وتسمى بالإضافة إلى ولاية " ألبة " Alava " ألبة والقلاع ".

ولاية ريوخا جنوباً، حتى الأراضي التي سميت فيما بعد أراجون وسوبرابي، وكان سكانها الأصليون من البشكنس وأهل ألبة. وكان ملوك الجلالقة أو ملوك أوبييدو قد غزوها وأضافوها إلى أملاكهم، وكانت عاصمتها يومئذ مدينة برغش. وأبدى زعماء قشتالة منذ البداية، مقاومة عنيفة للملوك الجلالقة، وبذلوا جهدهم للمحافظة على استقلالهم المحلي، وثاروا بالفعل في عهد أردونيو الثاني في أوائل القرن العاشر. فحاربهم أردونيو وأخضعهم، وقبض على كثير منهم وأعدمهم، واضطر الباقون إلى الالتزام بطاعته، وكانوا يتمتعون بسلطات محدودة تحت سلطان زعيم محلي، مقره في " برغش ". وهو يخضع بدوره لملك ليون. ولكن هذا النظام المهين، لم يرق لكونتات قشتالة، فلبثوا يتحينون الفرص للثورة، وتحقيق استقلالهم المنشود. وعرضت هذه الفرصة، وألفت قشتالة بطل ثورتها التحريرية، في شخص زعيمها الكونت فرنان كونثالث (وفي الرواية الإسلامية فرّان غنصالس)، الذي غدت حياته مستقى للملاحم الشعرية، والقصص الإسباني في العصور الوسطى، فحشد الكونت أنصاره وقواته، وأعلن الحرب على راميرو الثاني ملك ليون، وولد أردونيو؛ وكان راميرو يومئذ في أوج قوته، بعد انتصاره على المسلمين في موقعة الخندق، فلم يلق مشقة في هزيمة الكونت وسحق قواته، وأسر فرنان كونثالث، وزجه راميرو إلى ظلام السجن في مدينة ليون، وعين لحكم قشتالة آسور فرناندز كونت مونزون، ثم عين بعد ذلك لحكمها ولده سانشو، وأمره أن يعامل القشتاليين بالرفق والحسنى؛ ولكن ذلك لم يخمد جذوة الوطنية القشتالية. ولبث القشتاليون مخلصين لأميرهم المأسور، واستمروا في الثورة والقتال، وزحفت جموعهم بالفعل على ليون، فخشى راميرو العاقبة، وأطلق سراح فرنان كونثالث، ولكن بشروط فادحة، هي أن يقسم يمين الطاعة لملك ليون، وأن يتنازل عن كل أملاكه، وأن يزوج ابنته أوراكا لأردونيو ولد راميرو الأكبر. وقبل فرنان كونثالث هذه الشروط مرغماً. وظل أهل قشتالة على بغضهم لملك ليون، وولائهم لأميرهم. وفقد راميرو بذلك عون الزعماء القشتاليين ومساهماتهم المخلصة في الدفاع عن البلاد، واستطاع المسلمون خلال ذلك الإغارة مراراً على أراضي ليون والعيث فيها، وقام الناصر بتجديد مدينة سالم، ثغر

الحدود بين أراضي قشتالة والأراضي الإسلامية، وتحصينها (سنة 946 م). واضطر راميرو أن يلتزم خطة الدفاع، إزاء الغزوات الإسلامية المتوالية. وكان فرنان كونثالث، يعمل أثناء ذلك، على توطيد مركزه، وضم كونتيات قشتالة كلها تحت لوائه، ليجعل منها وحدة سياسية، أو بالحرى إمارة مستقلة، يغدو عرشها من بعده وراثياً في أسرته. وقد استطاع غير بعيد أن يحقق هذه الغاية (¬1). 2 - مملكة ليون وفي أوائل سنة 950 م توفي راميرو الثاني ملك ليون، فنشبت الحرب الأهلية مرة أخرى بسبب وراثة العرش. وذلك أن راميرو ترك ولدين أولهم أردونيو، وهو ولد زوجه الأولى تاراسيا، وسانشو وهو ولد زوجه الثانية أوراكا أخت غرسية ملك نافار. فادعى أردونيو أنه أحق بالعرش باعتباره أكبر الأخوين، ولكن سانشو نازعه في ذلك، معتمداً على عون أخواله النافاريين، وجدته طوطة ملكة نافار، وكذلك على عون الكونت فرنان كونثالث وأهل قشتالة. وكان الكونت غير ميال إلى معاونة أردونيو، بالرغم من كونه زوج ابنته، إذ كان قد أرغم على تلك المصاهرة كما تقدم، وقد آثر أن يقف إلى جانب سانشو، إذ وعده بأن يرد إليه أملاكه، وأن يحقق أمانيه في الاستقلال، ومن ثم فقد كان من الطبيعي أن يعمل على إضعاف مملكة ليون لكي يدعم بذلك استقلاله. وهكذا نشبت الحرب بين أردونيو وبين جيش متحد من قوات سانشو، ونافار، وقشتالة. ولكن أردونيو هزم أعداءه، وأخضع سائر الخارجين عليه واستقر في العرش، ورأى انتقاماً لخيانة فرنان كونثالث أن يطلق زوجه الملكة ابنة الكونت، وبذلك كفرت هذه الأميرة عن خصومة أبيها لمملكة ليون. وانتهز المسلمون فرصة الحرب الأهلية، فتوالت غزواتهم لأراضي ليون؛ ومن جهة أخرى فقد كان أشراف ليون في تمرد مستمر على ملكهم؛ وخشى أردونيو العاقبة، فبعث سفيراً إلى قرطبة في أوائل سنة 955 م يطلب عقد الصلح مع الناصر، فأجابه الناصر إلى طلبه، وبعث إليه سفيره محمد بن الحسين، فعقد معه ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: La Espana del Cid p. 70 ; Altamira: Historia de Espana, Vol. I. p. 244-245

معاهدة صلح، تعهد فيها أردونيو بأن يصلح بعض القلاع الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر. ثم توفي أردونيو بعد ذلك بقليل، وخلفه أخوه سانشو في الملك؛ وكان أول ما عمل أن رفض تنفيذ المعاهدة التي عقدها أخوه مع الناصر، فاضطر الناصر إلى إعلان الحرب، وبعث حاكم طليطلة أحمد بن يعلى في الجيش إلى ليون، فغزاها، وتوغل في أراضيها، واضطر سانشو أن يعقد الصلح، وأن يقر ما سبق أن تعهد به أخوه. وبذلك استقرت علائق السلم بين الفريقين. ومن جهة أخرى فإن فرنان كونثالث لم يتحول عن سياسة العداء نحو ليون؛ وقد كان قبل أن يرث سانشو العرش، يؤازره ويناصره ضد أخيه أردونيو، فلما تولى أردونيو عرش ليون، انقلب إلى خصومته وفقاً لسياسته المأثورة ضد ليون، وكان يبغى في الوقت نفسه أن تعود ابنته أوراكا مطلقة أردونيو الثالث إلى العرش، بعد أن تزوجت من ابن عمه الأمير أردونيو، وقد عاونه القدر غير بعيد على تحقيق بغيته. ذلك أن الأحوال ما لبثت أن ساءت في مملكة ليون، فقد ثار الأشراف بسانشو ونزعوه عن العرش، واحتجوا لخلعه بهزيمته أمام المسلمين في بعض المعارك التي خاضها، وبأن بدانته الفائقة تمنعه من ركوب الخيل، ومن تولى الإدارة، ففر سانشو إلى بنبلونة، إلى جانب جدته طوطة ملكة نافار، وقام الأشراف في ليون وقشتالة، باختيار ملك جديد هو أردونيو الرابع، وهو ابن ألفونسو الرابع، عم المك المخلوع وصهر الكونت فرنان كونثالث، وكان أحدباً دميماً سيىء الخلال، حتى لقب بالردىء El Malo. ولجأ سانشوا إلى عون الناصر، فأرسل إليه طبيباً يهودياً من قرطبة، يتولى علاجه من بدانته؛ وفي سنة 958 م (347 هـ) قصدت طوطة إلى قرطبة، ومعها ولدها الفتى غرسية سانشيز، الذي كانت تحكم نافار باسمه، وسانشو ملك ليون المخلوع، فاستقبلهم الناصر استقبالا حافلا، وعقد السلم مع طوطة، وأقر ولدها ملكاً على نافار، ووعد سانشو بالعون على استرداد عرشه، وذلك مقابل تعهده، أن يسلم للمسلمين، بعض الحصون الواقعة على الحدود، وأن يهدم البعض الآخر؛ ثم أمده الناصر بالمال والجند، فغزا ليون، وغزا النافاريون في الوقت نفسه ولاية قشتالة من ناحية الشرق وانتهت هذه الحرب الأهلية الجديدة، بانتصار سانشو وجلوسه على العرش مرة أخرى، وفر أردونيو إلى برغش.

ولكن سانشو نكث بعهده للمسلمين، وأبى تنفيذ ما تعهد به، ثم ثوفي الناصر بعد ذلك بقليل، ولزمت ليون ونافار السكينة حيناً. ولكن فرنان كونثالث اتجه وجهة أخرى. وكان قد انتهز فرصة الحرب الأهلية، وأعلن استقلال قشتالة، ونصب نفسه أميراً مستقلا عليها، وأخذ يسعى لتوسيع أملاكه بالإغارة على الأراضي الإسلامية. وكان يرى في نزول ميدان الكفاح ضد المسلمين، وسيلة لتدعيم هيبته في نفوس النصارى المتعصبين، فأخذ يغير على الأراضي الإسلامية مرة بعد أخرى. وكان فرنان كونثالث، على قول المؤرخ الإسباني " ذا عبقرية تمازجها الغطرسة، وروح تمازجها العجرفة، معتداً بنفسه، وعالماً بما يمكن أن يجنيه من قلبه وساعده، محباً للاستقلال، تملؤه فكرة تحرير بلاده قشتالة من نير ليون، وأن يقيم لها سيادة خاصة " (¬1). وقد رأينا فيما تقدم، كيف لجأ أردونيو الرابع ملك ليون المخلوع إلى الحكم، وكيف استقبله الخليفة بقصر الزهراء في حفل مشهود، ووعده بأن يعاونه على استرداد عرشه، لقاء عهود قطعها على نفسه، وكيف خشى سانشو عاقبة هذا المسعى، فبعث إلى الحكم يعرض عليه أن يعترف بطاعته، وأن ينفذ ما تعهد به للناصر، وكيف عاد بعد ذلك إلى نكثه السابق حينما توفي خصمه أردونيو. وعندئذ لم يجد الحكم بداً من الحرب، ولم يجد الأمراء النصارى بداً من الاتحاد. وقد فصلنا فيما تقدم كيف اجتاحت الجيوش الإسلامية، أراضي قشتالة، ومزقت جيوش أميرها فرنان كونثالث، في موقعة شنت إشتيبن، وأرغمته هو وحليفه سانشو ملك ليون على طلب الصلح، وكيف اجتاحت غربي نافار عقاباً لأميرها غرسية سانشيز على نكثه، وإغارته على أراضي المسلمين، وكيف توالت غزوات المسلمين لأراضي قشتالة، ما بين سنتي 963، و 967 م. وهنا نقف قليلا أمام تلك الحقيقة التاريخية الهامة، وهي أننا نجد قشتالة إحدى ولايات مملكة ليون القديمة، تحارب المسلمين لأول مرة كإمارة مستقلة. ومن ذلك التاريخ تحتل قشتالة مكانتها في تاريخ الكفاح، بين اسبانيا النصرانية ¬_______ (¬1) Modesto Lafuente: ibid ; T. II. p. 361.

خريطة: الممالك الإسبانية النصرانية في أواخر القرن العاشر عهد الحكم المستنصر والمنصور.

واسبانيا المسلمة، وتغدو بالرغم من نشأتها المتواضعة شيئاً فشيئاً، أعظم الممالك النصرانية رقعة، وأوفرها قوة ومنعة، وأشدها مراساً في محاربة المسلمين، وانهاك قوى المملكة الإسلامية. واستمر سانشو حيناً يحكم في ظروف صعبة من جراء ثورات الزعماء والأشراف الخارجين عليه، وكان بعد أن عقد الصلح مع الحكم، قد أرسل إليه تحقيقاً لرغبة زوجه تريسا، وأخته الراهبة إلبيرة، سفارة يطلب إليه الإذن بنقل رفات القديس بلايو إلى ليون. وكان نصارى قرطبة قد عنوا بنقل رفات هذا القديس من الوادي الكبير، فأجاب الخليفة سؤله، ونقلت الرفات في العام التالي في حفل فخم، وأودعت ليون بكنيسة خاصة أقامها الملك، وسماها دير سان بلايو. ولم يحضر سانشو هذا الحفل لانشغاله بمقاومة الخوارج عليه. وكان من أشد خصومه والمحرضين عليه الحبر سسناندو أسقف شنت ياقب؛ وكان هذا الأسقف قد حصن مدينته وقصره الأسقفي، بحجة حمايتها وحماية مزار القديس ياقب من غارات النورمان، ولكنه أعلن العصيان، وعبثاً حاول سانشو استرضاءه، بيد أنه اضطر أخيراً أن يفتح مدينته للملك حينما رأى فشل الزعماء الخارجين في مقاومته. وكان بين الزعماء الخارجين عليه من الأشراف وأشدهم مراساً، الكونت جوندسالفو (غندشلب) سانشيز حاكم جليقية، وكان قد استطاع أن يوطد استقلاله في المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وأن يبسط حكمه على لاميجو وبازو وقلمرية، الواقعة فيما وراء دويرة شمالي ولاية البرتغال، فسار سانشو لقتاله، ولكنه حينما عبر نهر منيو بقواته، ألفى رسل الزعيم الثائر يعرضون عليه التسليم والطاعة، مع رجاء واحد فقط هو أن يأذن الملك بمقابلة الكونت، فقبل سانشو. وكان الكونت قد دبر مشروعاً دنيئاً لاغتياله. فدعاه إلى مأدبة أقامها وقدم إليه فاكهة مسمومة تناولها سانشو دون أن يخامره الريب، وسرعان ما شعر بدبيب الموت يسري إلى أحشائه، فحمل في الحال إلى ليون وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ودفن بها تحقيقاً لرغبته، وكان ذلك في سنة 966 م (¬1). وهكذا توفي سانشو ملك ليون مسموماً، بعد أن حكم اثنتي عشرة سنة، فخلفه ولده راميرو الثالث، طفلا في الخامسة من عمره تحت وصاية عمته الراهبة ¬_______ (¬1) Modesto Lafuente ; ibid, T. II. p. 341-342.

إلبيرة. ولكن معظم الأشراف أبوا الاعتراف بسلطانه. ونشبت في ليون طائفة من الثورات المحلية، ولاسيما في ولايات جليقية، وحاول كثير من الزعماء الأقوياء الانفصال عن العرش، وتوطيد سلطانهم المحلي. وكان مثل فرنان كونثالث في الاستقلال بولاية قشتالة، أقوى مشجع لهم، ولبثت أخطر حركة من ذلك النوع، هي ثورة جوندسالفو سانشيز (قاتل مليكه) حيث استمر على استقلاله يحكم المنطقة الواقعة بين نهري منيو ودويرة، وحكم القواعد الثلاثة الهامة لاميجو وبازو وقلمرية، الواقعة فيما وراء نهر دويرة. وفي خلال ذلك، توفي الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة في سنة 970 م وخلفه في الإمارة ولده غرسية فرناندز، كما توفي غرسية سانشيز ملك نافار وخلفه ولده سانشو غرسية الثاني. ويعلق المؤرخ لافونتي على عمل فرنان كونثالث مؤسس استقلال قشتالة وسياسته بقوله: " إن جميع الوسائل التي تذرع بها الكونت لتحقيق غايته لا تبدو مستحسنة في نظرنا، فإن معاملته لملوك ليون راميرو الثاني، وأردونيو الثالث، وسانشو الأول، وأردونيو الردىء، وكذلك معاملته لغرسية ملك نافار، حليفاً وخصماً بالتوالي لهؤلاء وهؤلاء، وساعياً في تولية وعزل هؤلاء وهؤلاء، ومقسماً للولاء وناقضاً له، ولقد كانت مقتضيات السياسة وملابساتها في صالحه، وإن كان ذلك لا يطابق حكم الأخلاق الصارم. بيد أننا نلاحظ أنه من مفاخر الكونت أنه لم يحالف المسلمين قط، ولم يتهادن قط مع أعداء وطنه أو دينه. أما عن بدء عهد استقلال قشتالة، فيمكن أن نضعه في منتصف القرن العاشر (الميلادي)، وهو الوقت الذي رأينا فيه الكونت يعمل لحسابه دون خضوع لملوك ليون " (¬1). وأدركت الممالك النصرانية يومئذ، وفي مقدمتها مملكة ليون، التي شغلت بحوادثها الداخلية، أنه لا مجال للعدوان على أراضي المسلمين، ولزمت السكينة حيناً. واتجه الملوك والأمراء النصارى إلى تحسين علائقهم مع بلاط قرطبة، فتوالت زياراتهم وسفاراتهم على الحكم، يسألون الصلح والمهادنة. وكان من الوافدين بأنفسهم على قرطبة أمير جلِّيقية، والراهبة إلبيرة الوصية على عرش ليون. وقد فصلنا من قبل قصة هذه الزيارات والسفارات في موضعها. ¬_______ (¬1) Modesto Lafuente: ibid., T. II. p. 861

ولما توفي الحكم المستنصر، وشغل المسلمون بعض الوقت بشئونهم الداخلية، اعتقد النصارى أن الفرصة قد عرضت مرة أخرى لغزو أراضي المسلمين، فأغار القشتاليون على الأراضي الإسلامية، وتوغلوا فيها جنوباً وعاثوا فيها؛ وهنا نهض محمد بن أبي عامر لرد عدوانهم، فغزا أراضي قشتالة في أوائل سنة 977 م (366 هـ) ثم غزاها ثانية، واقتحم مدينة شلمنقة في العام التالي. وبدأت بذلك سلسلة الغزوات الشهيرة المتوالية، التي شهرها المنصور بن أبي عامر، على الممالك الإسبانية النصرانية، واستغرقت طيلة حياته، والتي فصلنا أخبارها فيما تقدم. ونستطيع أن نشير هنا فيما يتعلق بمملكة ليون، إلى ما وقع من إقدام راميرو الثالث ملك ليون، على معاونة القائد غالب الناصري ببعض قواته، في حربه مع المنصور، فلما سار المنصور بعد ذلك لمحاربة راميرو ومعاقبته على هذا التحدي، استغاث راميرو بغرسية فرناندز أمير قشتالة، وسانشو غرسية ملك نافار، فسار المنصور، لمقاتلة القوات النصرانية المتحدة، وهزمها في موقعة شنت منكش في سنة 981 م (371 هـ). وعلى أثر ذلك، رأى أشراف ليون، أن راميرو لم يعد صالحاً لحكم المملكة، فقرروا خلعه، وتولية ابن عمه برمودو ملكاً عليهم (982 م). ولكن راميرو لم يذعن لهذا القرار، فجمع أنصاره واستعد للحرب، واضطرمت بين برمودو وراميرو حرب أهلية، انتهت بهزيمة راميرو، وفراره إلى مدينة أسترقة، وامتناعه بها. وحاول راميرو بعد ذلك، أن يلجأ إلى المنصور، وأن يستمد عونه لاسترداد عرشه. ولكنه توفي بعد ذلك بقليل، وتخلص برمودو بذلك من منافسته. بيد أن برمودو، لم يشعر مع ذلك بالطمأنينة. فقد لبث فريق كبير من الأشراف على معارضتهم لحكمه، ولبث النضال الداخلي مؤذناً بالخطر. وعندئذ قرر برمودو أن يلجأ إلى المنصور، فالتمس منه التأييد والعون، على أن يعترف بطاعته، فأجابه المنصور إلى طلبه، وبعث إليه بقوة من جنده، حلت بمدينة ليون عاصمة المملكة، وبذلك أصبحت ليون مملكة تابعة تؤدي الجزية، ولكن برمودو حينما شعر بتوطد مركزه، واشتداد ساعده، قرر أن يتخلص

من نير المنصور، فهاجم الحامية الإسلامية، واستخلص مدينة ليون من يدها, فنهض المنصور لمحاربته، وسار إلى مدينة ليون فاقتحمها وخربها، ومزق قوى النصارى، ثم استمر يغزو أراضي ليون تباعاً، ويوقع الهزائم المتوالية ببرمودو، حتى اضطر برمودو إلى طلب الصلح، والعودة إلى الاعتراف بالطاعة (995 م)، وقد رأينا كيف سار المنصور بعد ذلك، إلى غزو مدينة شنت ياقب عاصمة إسبانيا النصرانية الروحية (997 م)، وكيف انضم إليه في تلك الغزوة معظم أشراف جليقية. وعندئذ لم ير برمودو مناصاً في النهاية، من العود إلى التماس الصلح، والاعتراف بالطاعة، ونبذ كل مقاومة. فأجابه المنصور إلى طلبه. وعاش برمودو بعد ذلك عامين آخرين، قضاهما في إصلاح الكنائس والأديار والقلاع، التي هدمت خلال الحرب. ثم توفي سنة 999 م، فخلفه ولده ألفونسو الخامس طفلا. وقام بالوصاية عليه الكونت مننديث كونثالث أحد أشراف المملكة (¬1). 3 - مملكة نافار أشرنا فيما تقدم إلى نشأة مملكة نافار المستقلة، في أواخر القرن التاسع الميلادي، وكيف تولى عرشها سانشو غرسية (الأول)، عقب اعتزال أخيه فرتون الملك في سنة 905 م. وقد عمل سانشو على توسيع أطراف مملكته الصغيرة، واستطاع أن يدفع حدودها جنوباً حتى ناجرة، وخاض مع المسلمين حروباً عديدة، أيام الأمير عبد الله، وفي أوائل عهد الناصر. وقد غزا الناصر نافار سنة 920 م، ثم بعد ذلك في صائفة 924 م، ودخل عاصمتها بنبلونة وخربها، وسحق قوى نافار، وقضى على كل مقاومة من جانبها وكل نزعة للعدوان. ولما توفي سانشو في سنة 916 م، خلفه ولده غرسية سانشيز طفلا، وحكم أولا تحت وصاية عمه خمينو غرسيس، ثم بعد ذلك تحت وصاية أمه الملكة طوطة، التي لبثت تحكم باسمه طويلا، حتى بعد أن بلغ سن الفتوة والنضج. وكانت نافار خلال ذلك ترتبط برباط المصاهرة، مع المملكتين النصرانيتين الأخريين. فقد كان أردونيو الثالث ملك ليون متزوجا من أوراكا إبنة الملكة طوطة وأخت غرسية. وكان فرنان كونثالث كونت قشتالة متزوجاً من إبنة أخرى لطوطة هي ¬_______ (¬1) ابن خلدون، ج 4 ص 181؛ وكذلك Altamira: ibid, Vol. I. p. 246.

سانشا، وكانت طوطة تحتل بذلك مقاماً ملحوظاً في الممالك الثلاث. ولما توفي راميرو الثاني ملك ليون في سنة 950 م، واضطرمت الحرب الأهلية حول وراثة العرش بين ولديه أردونيو وسانشو، وقفت نافار إلى جانب سانشو، ولد الملكة أوراكا النافارية، ثم وقفت بعد ذلك إلى جانبه مرة أخرى، بعد أن تولى العرش عقب وفاة أخيه، وقام أشراف ليون بخلعه، ولجأت الملكة طوطة في معاونته إلى الناصر حسبما تقدم. ثم اضطربت العلائق بين نافار وبين جارتها قشتالة، ونشبت الحرب بينهما، فهزم الكونت فرنان كونثالث أمير قشتالة، وأسر في موقعة نشبت بين الفريقين على مقربة من ناجرة، واعتقل في نافار مدة طويلة ضعفت فيها شوكة قشتالة ولزمت السكينة حيناً. ولما توفي الناصر، وتولى مكانه ولده الحكم المستنصر، طالب ملك ليون بتسليم الحصون التي تعهد بتسليمها إلى أبيه، وطالب ملك نافار بأن يسلمه أسيره فرنان كونثالث أمير قشتالة، فرفض الملكان مطالب الحكم، وأطلق غرسية أسيره فرنان كونثالث، فهرع إلى برغش عاصمته، وقبض على صهره أردونيو الرابع، وأرسله مخفوراً إلى الحدود الإسلامية، وهنالك التجأ إلى القائد غالب حاكم الثغر، ثم سار معه إلى الحكم مستجيراً به، واستقبله الحكم كما تقدم في احتفال مشهود. واستطال حكم غرسية سانشيز حتى سنة 970 م، واستمرت أمه الملكة العجوز طوطة، محتفظة بإشرافها عليه، ومشاركتها الفعلية في الحكم، حتى وفاتها في سنة 960 م. ولما توفي غرسية سانشيز، خلفه في عرش نافار ولده سانشو غرسية الثاني. وكانت مملكة نافار قد اتسعت رقعتها عندئذ، وأصبحت تشمل عدا ولاية نافار الأصلية، ولايات كانتبريا، وسوبرابي، ورباجورسا، ونمت مواردها وقواها حتى أن سانشو لم يحجم عن الإغارة على الأراضي الإسلامية، ورد المنصور على هذه الجرأة، فغزا نافار، وتوغل فيها حتى اقتحم عاصمتها بنبلونة، وذلك في سنة 987 م. وخلف سانشو في الحكم ولده غرسية سانشيز الثالث، فلم يدم حكمه سوى

خمسة أعوام، وفي عهده غزا المنصور نافار مرة أخرى (999 م). ثم توفي غرسية في العام التالي، فخلفه ولده سانشو الثالث الملقب بالكبير. 4 - عناصر المجتمع في اسبانيا النصرانية سبق أن تحدثنا فيما تقدم عن عناصر المجتمع في اسبانيا المسلمة، ويجدر بنا أن نتحدث هنا عن عناصر المجتمع في اسبانيا النصرانية. لم يكن في اسبانيا النصرانية بعد الفتح الإسلامي، ما يمكن أن يسمى بالحياة القومية العامة. وكانت كل ولاية أو مملكة، تعيش وفق ظروفها ونظمها الخاصة، وكان هذا التباين ذاته، يقوم في الداخل، ويتفاقم أحياناً بما يحدث إلى جانبه من خلافات أخرى، تصيب النظم والحياة الإجتماعية. وقد بقي تكوين المجتمع النصراني الإسباني عقب الفتح، على ما كان عليه أيام القوط، فكان يتكون من عنصرين رئيسيين، هما الأحرار، والعبيد؛ وكان الأحرار وهم الذين يستطيعون التصرف في أشخاصهم، والتنقل بحرية من مكان إلى آخر، ينقسمون بدورهم إلى أشراف وعامة. وكانت طبقة الأشراف، تتكون أولا من الحكام ومن خاصة الملك، وتتوقف في تكوينها على الملك، يمنحها الألقاب والأراضي والوظائف. ويلحق بهذه الطائفة كبار الملاك، الذين يحصلون على أملاكهم سواء بالميراث أو الهبة. وكان للأشراف امتيازات كثيرة، سواء بالنسبة لأشخاصهم أو أملاكهم، فكانوا داخل أراضيهم سادة بكل معنى الكلمة، لهم مطلق الحرية والتصرف، بل كان لهم أن يتركوا خدمة الملك، وأن ينتقلوا إلى مملكة أخرى، إذا غضبوا منه لسبب من الأسباب. وكان من جراء ذلك، أن كثيراً من الأشراف النصارى، كانوا ينتقلون إلى الأراضي الإسلامية، وينضوون تحت لواء الأمراء والخلفاء، ويحاربون معهم ضد مواطنيهم وأبناء دينهم. وكان هؤلاء الأشراف يعفون من الضرائب، خلافاً لما كان عليه الأمراء في عهد القوط، وكانوا ملزمين فقط بمساعدة الملك وقت الحرب، فينتظمون مع أتباعهم في الجيش المحارب على نفقة الملك. وكان يلحق بهذه الطبقة من الأشراف، بعض طوائف أخرى أقل أهمية من الناحية الاجتماعية، مثل الفرسان والمحاربين، وهم الأشخاص الذين يستطيعون

أن يقتنوا لأنفسهم خيلا وسلاحاً، ليشتركوا في الحرب، ثم يمنحون نظير هذا الاشتراك بعض الإمتيازات. وقد نمت هذه الطبقة فيما بعد. وكذلك كان ينتمي إلى الأشراف، وينضوي تحت حمايتهم، بعض الطوائف الميسورة، مثل صغار الملاك، وأصحاب الصناعات. ولم تكن هذه الحماية تقف عند الأشخاص أو الأسر المعينة فقط، ولكنها كانت تشمل أحياناً بعض القرى والضياع، فينضوي أهل القرية أو الضيعة، تحت حماية الشريف بشروط معينة، وكان هؤلاء يقدمون جزءاً من أملاكهم إلى السيد المتولي حمايتهم، ويؤدون إليه إتاوات معينة، وأعطية ْشخصية. بيد أنهم كانوا في حل من تركه إذا قصر في حمايتهم، والانضواء تحت حماية سيد آخر. ويلحق أخيراً بهذه الطبقة الشعبية الزراع الأحرار، وهم الأشخاص الأحرار الذين لا يملكون أرضاً، ولكن يتلقون من الملاك أرضاً لزرعها. وكذلك الأحرار الذين كانوا من قبل رقيقاً، ثم وفقوا إلى تحقيق حرياتهم، وكان هؤلاء عليهم أن يؤدوا إلى السيد أو المالك ضرائب وإتاوات عينية فادحة، بيد أنه كان في وسعهم أن يتركوه متى شاءوا. إلى جانب هذه الطبقات الحرة من المجتمع النصراني، كانت توجد الطبقة المستعبدة أو طبقة الأرقاء، وقد بقيت أحوالها على ما كانت عليه أيام القوط تقريباً. وكانت تتكون من عناصر عدة، فمنهم عبيد الدولة، وعبيد الملك، وعبيد الكنيسة والأديار (عبيد رجال الدين)، ثم عبيد الأفراد وعبيد الأرض الملحقين بها. وكان عبيد الأفراد على الأغلب من أسرى الحرب، ومنهم الأسرى المسلمون. وقد استمرت هذه الطوائف من الرقيق، قائمة حتى القرن الثاني عشر، ثم اندمجت بعد ذلك في طائفة واحدة من الأرقاء، هم رقيق الضياع. وكان رقيق الضياع يعتبرون من مرافق الأرض، وينتقلون معها بانتقال الملكية. وكانوا يزرعون الأرض على نفقتهم، ويؤدون إلى السيد، سواء أكان هو الملك، أو الأشراف أو الكنيسة، جزءاً من المحصول، وإتاوات أخرى، ويقدمون إلى جانب ذلك خدمات شخصية كثيرة، مثل القيام بحرث أرض السيد، أو ضم محاصيله وعصر نبيذه وزيته، أو المعاونة في بناء داره، وتنحصر حقوقهم في التمتع بالسكن، والعيش في الضيعة. وكان بيع الضيعة يغدو في معظم

الأحيان بالنسبة لهم محنة أليمة، إذ يفرق أحياناً بين الرجل وزوجه، أو بينه وبين أولاده. وكانت هذه الطبقة من الأرقاء تتكون من أبناء العبيد، ومن المحكوم عليهم بالرق، في قضية مدنية أو جنائية، ومن أسرى الحرب، وقد كانوا أسوأ طوائف الرقيق حظاً. وكان تحرير الرقيق، يقع إما بالعتق أو بالفرار أو الثورة. على أن ثورات العبيد كانت قليلة، وكان الأغلب أن يظفر العبيد بحرياتهم، في أعقاب الثورات التي يشتركون فيها. أما العتق فكان يجري وفقاً لتعاليم الكنيسة. على أن هذه الطائفة من المتحررين، لم تكن تتمتع بكامل حقوق الطوائف الحرة الأخرى، فكان السيد محتفظ لنفسه أحياناً قبل المعتوقين ببعض الخدمات أو الإتاوات. وقد استمرت الطبقة الوسطى، تنمو على كر الزمن، بزيادة عدد المعتوقين أو الأحرار الأصائل، حتى إذا كان القرن العاشر، كانت هذه الطبقة، تكون الجزء الأعظم من السكان، وتتمتع بظروف وأحوال أفضل بكثير مما كانت عليه من قبل (¬1). 5 - تنظيم السلطات السياسية أما من حيث التنظيم الأساسي، وتوزيع السلطات السياسية، في الممالك الإسبانية النصرانية، فقد كانت هذه السلطات موزعة، بين ثلاث جهات رئيسية، هي الملك، والأشراف، ورجال الدين. وقد كان المفروض أن تكون السلطة الملكية، هي أعلى السلطات وأشملها، وقد كانت كذلك من الوجهة النظرية. فقد كان الملك، هو رئيس الدولة الأعلى، وله الولاية على كل فرد تضمه أرض المملكة. وكان الملك مصدر التشريع، ومنه وباسمه تصدر القوانين العامة، وكذا كان له حق الموافقة على القوانين المحلية، التي يصدرها الأشراف بالنسبة للمنتمين إليهم، وله أن يدعو رعاياه إلى الحرب، وأن يرغمهم على الخدمة فيها، وأن يصدر السِّكة، وأن يباشر العدالة. وهو الذي يعين الأساقفة ويقيلهم، ويؤسس الكنائس والأديار، وهو الذي يقود الجيش، وعلى الجملة فهو الذي يتولى سائر الوظائف السياسية والعسكرية والدينية والمدنية. ¬_______ (¬1) Altamira: ibid ; Vol. I. p. 287-293.

على أن هذه السلطات لم تكن متساوية في جميع الأحوال والعصور، وقد تعدلت بمضي الزمن، وانتقصت أطرافها، أحياناً بطريق التنازل من جانب الملوك، وبخاصة لأن الملك لم يكن يزاول هذه السلطات بطريق مباشر. وكان الأشراف يتمتعون داخل أملاكهم، بقدر كبير من الاستقلال، ويبسطون حكمهم على طائفة كبيرة من الأراضي والقرى والضياع والحصون، وكان السيد يعيش في حصنه، وهو يقع عادة في موقع إستراتيجي حصين، ويحيط به عدد من المساكن المحصنة، ويخضع لسلطته سائر سكان المنطقة، بعضهم كعبيد، والبعض الآخر من المشمولين بحمايته. وكان يجني منهم الضرائب، والإتاوات العينية، ويدعوهم للخدمة العسكرية متى دعاه الملك إلى الحرب، ويباشر القضاء بينهم، وله أن يوقع عليهم بعض الأحكام الجنائية التي تتصل بالقانون العام. وعلى الجملة فقد كان للشريف على سكان منطقته، السيادة المطلقة، وهو الذي يوزع بينهم مختلف المناصب والأعمال. وأما القضاء قِبل الأشراف أنفسهم، فقد كان يزاوله بالنسبة للسيد، أشراف من طبقته، ولا يزاوله قضاة الملك، لأنهم لم يكونوا من الأشراف. وكان للشريف أن يشهر الحرب على زملائه الأشراف، إذا أصابه منهم حيف أو إهانة، وله أن يترك خدمة الملك دون أن يخسر شيئاً من أملاكه، بل كان له أن يشهر الثورة ضد الملك. ولم يكن يحد من هذه السلطة، التي يمنحها الملك إياه سوى أمرين، الأول الخيانة، وفي هذه الحالة يجرد الشريف من أملاكه وامتيازاته، والثاني متى ضمت لأملاكه أراض جديدة، فإنه لا يستطيع أن يبسط عليها سلطته وامتيازاته إلا بموافقة الملك. وكان الأشراف يشاركون في مزاولة القضاء مشاركة فعلية، فقد كانوا يؤلفون جزءاً من المحاكم العادية، ويشتركون في تشكيل المحاكم الملكية كلما اجتمعت، ويحتلون كذلك بعض المناصب الإدارية الهامة. وكان لهذه المساهمة الخطيرة، أثرها في إذكاء شهوتهم إلى الاستئثار بالسلطة، وتوطيد استقلالهم المحلي، وكثيراً ما كانوا يلجأون إلى الثورة، لفرض إرادتهم على العرش، أو يتدخلون في وراثة العرش بالقوة القاهرة. ومع ذلك فقد كان الملوك، يعمدون إلى الإغضاء في أحيان كثيرة، ولو كان

في ذلك إضرار بالسلطة الملكية. ذلك أن ضعف الملوكية، وضرورات الحرب، ثم الحاجة إلى معاونة الأشراف أيام الحرب الأهلية حول وراثة العرش، كانت ترغم الملوك على التسامح، بل وأحياناً على زيادة المنح والامتيازات للأشراف، وذلك حرصاً على استتباب الأمن والسكينة، إذ كان الأشراف في تلك العصور قوة يخشى بأسها. وقد كانت طائفة الأشراف هذه، بالرغم من مركزها الاجتماعي الممتاز، تنطوي على عيوب ومثالب كثيرة، فقد كانت تجنح إلى استغلال الرعايا، وانتزاع ما في أيديهم، بل وقد كانت ترتكب الجرائم جهاراً، فتعمد إلى نهب التجار والمسافرين، وكان الأشراف يقتتلون فيما بينهم للفوز بثمار أمثال هذه الجرائم. وقد استمر هذا النظام الإجرامي الجائر عصوراً، بالرغم من تدخل الملك. والأساقفة، لحفظ الأمن في كثير من الأحيان. وإلى جانب الأشراف، كان رجال الدين من الأساقفة والرهبان ومن إليهم، يتمتعون كذلك في أراضيهم بسلطان مستقل. وكان للكنائس والأديار أراض شاسعة خاصة، ترجع إلى الهبات والنذور وغيرها، وفيها تزاول السلطة بطريق مطلق، وفقاً لروح هذا العصر الإقطاعي. وكان لها أيضاً كثير من العبيد والزراع تتمتع قبلهم كالأشراف، بالحق في تحصيل الجباية والمحاصيل وغيرها. وكان الملوك في أحيان كثيرة يهبون بدافع الورع والحماسة الدينية، إلى الكنائس والأديار، رقاعاً شاسعة من الأرض، فتبسط سلطانها على سكان المنطقة، وتحصل منهم الإتاوات، وتزاول بينهم القضاء. وكانت الكنائس والأديار، تدفع هذه السلطات أحياناً إلى حدود مرهقة، اجتناباً لافتئات الأشراف المجاورين. وكان رجال الدين، على مثل الأشراف، يلبون دعوة الملك إلى الحرب هم ورجالهم، ويحشدون الصفوف من بين رعاياهم من الأحرار والزراع والأرقاء، أو يعهدون بذلك إلى رئيس من غير رجال الدين. والخلاصة أن الأساقفة والرهبان كانوا كالأشراف، سادة بكل معاني الكلمة، وكانوا يمتازون في ذلك على الأشراف، بأن كان الملك يصدر الوثائق والمراسيم المكتوبة بامتيازاتهم، وكان يتبع الكنيسة أحياناً مناطق كثيفة من السكان، كما كان الشأن في شنت ياقب، حيث قامت حول الكنيسة مدينة عظيمة، صارت تابعة لها هي وما حولها من الأراضي الشاسعة.

وكانت سلطة الأسقف تتخذ في أحيان كثيرة صورة مطلقة في المدينة وفي الحقل، يزاولها على يد كونتات وموظفين وغيرهم. وكان له جيشه أو جنده الخاص، يحمون أراضيه من الأجانب أو الأشراف المغيرين (¬1). ونلاحظ أن هذا التنظيم السياسي، الذي تطبعه روح إقطاعية عميقة، والذي ينطوي على توزيع السلطة بين مختلف الطوائف والعصبيات، بصورة تجعل دولا عديدة داخل الدولة، يتنافى في جملته وتفاصيله مع التنظيم السياسي للدولة الأندلسية الإسلامية. فقد رأينا فيما تقدم، كيف كان العرش يحرص منذ البداية على سلامة السلطة المركزية، وكيف بذل أمراء بني أمية، منذ عبد الرحمن الداخل جهودهم، لإخماد النزعة القبلية، وتحطيم رياستها؛ ثم جاء الناصر فحطم العصبية العربية، وقضى على رياسة القبائل العربية بصورة نهائية، واستخلص السلطة كلها للعرش، ولم يكن العرش يتسامح بعد ذلك، مع أية رياسة محلية تنزع إلى الاستقلال، إلا ما كان بالنسبة لبعض الثغور النائية، مثل طليطلة وسرقسطة، وذلك لأسباب عملية واستراتيجية. ¬_______ (¬1) R Altamira: ibid, Vol. I. p. 293-299

الفصل الرابع عبد الملك المظفر بالله

الفصل الرابع عبد الملك المظفر بالله عبد الملك بن المنصور يتولى الحجابة وتدبير المملكة. إشادة الرواية الإسلامية بعهده وبخلاله. يحذو حذو أبيه في سياسته نحو المغرب. يتابع سنته في الغزو. خروجه إلى الغزو ومسيره إلى الثغر الأعلى. عيثه في أراضي برشلونة. عوده إلى قرطبة واستقبال هشام له. جلوسه في الزاهرة. سفارة أمير برشلونة. إحتكام أميرى قشتالة وجليقية إليه. غضب سانشو غرسية وعدوانه. مسير عبد الملك لغزو قشتالة. غزوه لمملكة ليون. غزوة بنبلونة. استقباله لسفير القيصر في مدينة سالم. غزوة قلونية أو غزاة النصر. إتخاذ عبد الملك لقب المظفر بالله. قصة هذا اللقب ومرسومه. استئنافه للغزو واختراقه لقشتالة. الغزوة السابعة أو غزاة العلة. مرضه وتفرق جيشه. وفاته. ما قيل عن اغتياله بالسم. موقفه من الخليفة هشام. إنهماكه في الشراب واعتماده على الغلمان والوزراء. الوزير عيسى ابن القطاع. المنافسة بينه وبين الفتيان. تغلب الفتى طرفة واستئثاره بالسلطة. تغير عبد الملك عليه. القبض عليه وإعدامه. ابن القطاع يسترد نفوذه وسلطانه. كبرياؤه وتعسفه. الوقيعة في حقه. استظهار عبد الملك بالصقالبة والبربر. سخط الأسر العربية لذلك. تآمر ابن القطاع على إزالة بني عامر. وقوف عبد الملك على المؤامرة. بطشه بالوزير وأصحابه. استرداده لسائر السلطات. صفات عبد الملك وخلاله. لما توفي المنصور بن أبي عامر بمدينة سالم، في السابع والعشرين من رمضان سنة 392 هـ، بعد أن ألقى إلى ولده عبد الملك، وصيته ونصائحه الأخيرة، بادر عبد الملك بالعودة إلى قرطبة، تاركاً لأخيه الأصغر عبد الرحمن، أمر العناية بمواراة أبيه، والعودة بالجيش. وما كاد يصل إلى العاصمة، حتى بادر برؤية الخليفة هشام المؤيد، واستصدر منه المرسوم بتوليته الحجابة، وجلس في الحكم مكان أبيه بالزاهرة. وتلى نص المرسوم بالمسجد الجامع، وأنفذت الكتب إلى الجهات، وإلى عدوة المغرب، معرفة بوفاة المنصور وتولية ابنه عبد الملك تدبير المملكة مكانه. وكان لوفاة المنصور وقع عظيم بقرطبة، فحزن الناس لفقده أيما حزن، وأدرك العقلاء أن رزءاً فادحاً نزل بالإسلام والأندلس. واعتقد فريق من الفتيان المروانيين بالقصر، وبعض الناقمين من العناصر الأخرى، أن الفرصة قد سنحت، للتحرر من نير الحكم القائم، والعود إلى النظام الخلافي، ولكن السلطات العامرية كانت ساهرة. فقبضت في الحال على عدد من المحرضين،

وأبعدوا إلى العدوة، واستتب الأمر لعبد الملك، دونما جهد أو اضطراب، واستقبل الناس حكمه بالاستبشار والرضى. وكان عبد الملك، حينما خلف أباه المنصور في الحكم، في الثامنة والعشرين من عمره، إذ كان مولده بقرطبة في سنة 364 هـ، ويكنى أبا مروان ويلقب بسيف الدولة وبالمظفر بالله، وأمه حرة تدعى الذلفاء؛ وقد رأينا كيف تمرس عبد الملك في شئون الحكم أيام أبيه، وكيف تولى القيادة، واشترك معه في كثير من غزواته، ومن ثم فقد قبض عبد الملك على زمام الأمور بحزم وكفاية، واعتزم أن يسير على خطى أبيه، سواء في تدبير الشئون الداخلية، أو الاستمرار في غزو الممالك النصرانية. وتشيد الرواية الإسلامية بعهد عبد الملك على قصره، وما بلغته الأندلس فيه من الرخاء والنعماء، وتقدمه إلينا في صور طيبة لامعة. فيقول لنا ابن حيان في قوة وحماسة: " انصب منه الإقبال والتأييد على دولته انصباباً، ما عهد مثله في دولة. وسكن الناس منه إلى عفاف، ونزاهة، ونقي سريرة، ووثوق في بعد همته، اطمأنوا بها إلى جنبه، في السرِّ والعلانية، فباحوا بالنعم، واستثاروا الكنوز، وتناهوا في الأحوال، وتناغوا في المكاسب، وتحاسدوا في اقتناء الأصول، وابتناء القصور، وغالوا في الفرش والأمتعة، واستفرهوا المراكب والغلمان، وغالوا في الجواري والقيان، فسمت أثمان ذلك في تلك المدة، وبلغت الأندلس فيها الحد الذي فاق الكمال؛ فمهد تلك الدولة في احتشاد النعم عندها، وارتفاع حوادث الغير عنها ... في كنف ملك مقتبل السعد، ميمون الطائر، غافل عن الأيام، مسرور بما تتنافس فيه رعيته من زخرف دنياها. فاجتمع الناس على حبه. ولم يدهنوا في طاعته، ورضى بالعافية منهم، وآتوه إياها فصفى عيشه، وانشرح قلبه، وخلصه الله من الفتنة ". ويشيد ابن حيان بعد ذلك، بعفة عبد الملك، وورعه وتواضعه وشجاعته وحيائه، وتورعه عما يشين الملك من المجون والاستهتار، وبره بوالديه، وثباته على عهد أبيه. كل ذلك في عبارات تنم عن عميق تأثره وإعجابه (¬1). بيد أن هذه الصور المشرقة التي تقدم إلينا عن خلال عبد الملك، تغشاها ¬_______ (¬1) نقله أعمال الأعلام ص 84 و85، والبيان المغرب ج 3 ص 3.

من الناحية الأخرى خلة قاتمة، هي شغفه بمعاقرة الشراب وانهماكه في لذاته (¬1). افتتح عبد الملك المنصور عهده، بإجراء كان له في نفوس الناس أطيب وقع؛ وذلك أنه أسقط سدس الجباية عن سائر الناس، في سائر بلاد الأندلس. فكان لذلك أثره في التخفيف عن الناس، والرفق بهم، وبث شعور الرضى والاستبشار بالعهد الجديد. وحذا عبد الملك حذو أبيه المنصور نحو المغرب، في تأييد زناتة ومغراوة، والإبقاء على ولائهم. وكان المنصور حينما توفي زيري بن عطية زعيم مغراوة، في سنة 391 هـ، قد أقر ولده المعز حاكماً على المغرب حسبما قدمنا. فلما تولى عبد الملك الحجابة، أعلن المعز طاعته له، ودعى له على منابر المغرب، فكتب إليه عبد الملك بعهده، على سائر ما يملكه من أقطار المغرب (سنة 393 هـ) على أن يؤدي إلى حكومة قرطبة، مقادير معينة من المال والخيل والدرق. واستمر المعز على الوفاء بعهوده، أيام عبد الملك وأخيه عبد الرحمن من بعده (¬2). واعتزم عبد الملك أن يسير على سنن أبيه في متابعة غزو الممالك النصرانية، وألا يترك لها فرصة لتذوق السلم والدعة. وكان الملوك النصارى قد تنفسوا الصعداء عند وفاة المنصور، واعتقدوا أن الظروف قد تتغير، وأن أخطار الغزوات الإسلامية قد تخبو، ولكن سرعان ما تبدد هذا الأمل. ذلك أنه لم تمض أشهر قلائل على تولية عبد الملك، حتى اتخذ الأهبة لغزوته الأولى، واستعد لها استعداداً خاصاً، ووفدت على قرطبة طوائف كبيرة، من الزعماء والمتطوعة من العدوة، للاشتراك فيها، وأجزل لهم عبد الملك الصلات والأرزاق، ووزع فيهم ما كان مخزوناً من السلاح. وخرج عبد الملك بالجيش من مدينة الزاهرة، في شعبان سنة 393 هـ (يونيه 1003 م). وتصف لنا الرواية مشهد خروجه فتقول لنا إنه " خرج على الناس شاكي السلاح، في درع جديد سابغة، وعلى رأسه بيضة جديدة مثمنة الشكل مذهبة، شديدة الشعاع، وقد اصطفت القواد والموالي والغلمان الخاصة، في أحسن تعبئة، فساروا أمامه، وقد تكنفه الوزراء الغازون معه " (¬3). وسار عبد الملك ¬_______ (¬1) الببان المغرب ج 3 ص 3. (¬2) نفح الطيب ج 2 ص 198، والاستقصاء ج 1 ص 95. (¬3) البيان المغرب ج 3 ص 5.

أولا إلى مدينة طليطلة، ثم ارتد منها إلى مدينة سالم، وهنالك انضم إليه الفتى واضح في قواته، ووفد عليه في نفس الوقت قوة من النصارى، أرسلها الكونت سانشو غرسية أمير قشتالة، وفقاً لمعاهدته مع المنصور. وتابع الحاجب عبد الملك سيره بعد ذلك في نحو الثغر الأعلى، واستراح أياماً في سرقسطة، ثم غادرها قاصداً إلى الثغر الإسباني أو بعبارة أخرى إلى إمارة برشلونة التي بدت من أمرائها منذ أيام المنصور نزعة إلى العدوان؛ وأشرف على سلسلة من الحصون القوية الواقعة جنوبي جبال مونسيش، واستولت قوات الفتى واضح على حصن مدنيش (¬1)، وحاصر الحاجب بقواته حصن ممقصر أو ممقصره (¬2)، واستولى عليه بعد قتال عنيف، وأباد حاميته، وعاث المسلمون بعد ذلك في بسائط برشلونة، وخربوا كثيراً من حصون العدو، واستولوا على كثير من الغنائم والسبي. وقضى الحاجب وجيشه عيد الفطر في بسائط برشلونة، واحتفل بالعيد احتفالا فخماً، واستقبل طبقات الأجناد مهنئين ومسلمين. وبعث من معسكره رسالتين إلى قرطبة من إنشاء كاتبه أحمد بن برد يصف فيهما الفتح، إحداهما برسم الخليفة هشام المؤيد، والثانية لتقرأ على الكافة في جامع قرطبة. ثم قفل عبد الملك بجيشه عن طريق مدينة لاردة. واخترق الثغر الأعلى جنوباً إلى قرطبة، فدخلها في الخامس من ذي القعدة. وهنالك تلقاه الأكابر والعلماء مهنئين مستبشرين؛ وقصد الحاجب من فوره إلى الخليفة هشام، فاستقبله أحسن استقبال، وأكرم منزله، وخلع عليه من ثيابه وسلاحه، فشكره الحاجب وقبل يده. وفي اليوم التالي جلس بقصر الزاهرة، واستقبل مختلف الوفود، وكان يوماً مشهوداً (¬3). وقد نظم ابن دراج القسطلي في التهنئة بهذه الغزوة قصيدة هذا مطلعها: بدا ريح السعد واستقبل النجح ... فبالله فاستفتح فقد جاءك الفتح ¬_______ (¬1) هو باسمه الإسباني Meya. (¬2) هو باسمه الإسباني حصن Monmagastre؛ ويسميه ابن الخطيب حصن منغص (أعمال الأعلام ص 87). (¬3) راجع في أخبار هذه الغزوة: البيان المغرب، ج 3 ص 5 - 9، وأعمال الأعلام ص 87.

وقد قدّم النصر العزيز لواءه ... وقبل طلوع الشمس ينبلج الصبح فقد في سبيل الله جيشاً كأنه ... من الليل قطع طبق الأرض أو جنح كتائب في أقدامها النجح والهدى ... وألوية في عقدها اليمن والنجح (¬1) ولم يمض قليل على ذلك، حتى أرسل أمير برشلونة الكونت رامون بوريل الثالث، سفارة إلى قرطبة يطلب عقد الصلح والمهادنة، فاستقبل السفراء الفرنج استقبالا حافلا، على نمط أسلافهم من السفراء النصارى. وكانت هذه آخر فرصة من نوعها أبديت فيها أبهة الخلافة وفخامتها (¬2). وكان من أثر هيبة عبد الملك في نفوس الملوك النصارى، أن احتكم إليه أمير قشتالة الكونت سانشو غرسية، ومننديث كونثالث زعيم جليقية، والوصي على ملك ليون الطفل. وكان ملك ليون وهو ألفونسو الخامس، يومئذ ما يزال حدثاً في العاشرة من عمره، وكانت أمه إلبيرة أختاً لسانشو غرسية، وكان سانشو يرى بذلك أنه أحق بالوصاية على ابن أخته الملك الطفل، من مننديث كونثالث. فلما احتكم الطرفان إلى عبد الملك، ندب قاضي النصارى أصبغ بن سلمة، لبحث النزاع والفصل فيه، فقضى لمننديث كونثالث بأحقيته للوصاية، واستمر بالفعل وصياً على ملك ليون حتى قتل غيلة في سنة 398 هـ (1008م) (¬3). والظاهر أن سانشو غرسية لم يرضه هذا الحكم، فبدت منه أعراض العدوان على أرض المسلمين، أو هو قد اعتدى عليها بالفعل. ومن ثم فإنا نجد عبد الملك يخرج بقواته في صيف سنة 394 هـ (1004 م) ويقصد إلى أراضي قشتالة ويعيث فيها، ولم يبد سانشو أية مقاومة، فقفل عبد الملك إلى قرطبة، واضطر سانشو إلى طلب الصلح، وقصد بنفسه إلى قرطبة، فاستقبله عبد الملك أحسن استقبال، وأعيد عقد الصلح والتهادن بين الفريقين، وتعهد سانشو أن يعاون عبد الملك في غزواته ضد مملكة ليون، وضد خصومه من بني قومس وغيرهم. وفي العام التالي (395 هـ - 1005 م) خرج عبد الملك في قواته وسار ¬_______ (¬1) تراجع هذه القصيدة بأكملها في ديوان ابن دراج القسطلي الذي سبقت الإشارة إليه ص 466 و467. (¬2) الذخيرة. القسم الرابع، المجلد الأول، ص 64. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 181، البيان المغرب ج 3 ص 10.

صوب طليطلة؛ وهنالك لحق به الفتى واضح وسانشو غرسية في بعض قواته، ثم سار شمالا نحو أراضي ليون، وبعث واضحاً في قواته إلى مدينة سمورة، وكانت قد خربت منذ أيام المنصور، وليس فيها سوى قليل من النصارى يقيمون في بعض أبراجها، فقتل الرجال، وسبى النساء. وعاث عبد الملك بعد ذلك في أراضي ليون، وإلى جانبه سانشو غرسية، واقتحم أملاك بني غومس، ووصل في زحفه في جلِّيقية، إلى بلدة لونة الحصينة، واستولى في هذه الغزوات على كثير من الغنائم والسبي. ولكنه لم يحقق خلالها نتائج حربية ذات شأن (¬1). وفي أواخر سنة 396 هـ (صيف سنة 1006 م) خرج عبد الملك إلى غزوته الرابعة. وتصف الرواية الإسلامية هذه الغزوة بأنها غزوة " بنبلونة "، وبعبارة أخرى " بنبلونة " عاصمة نافار. وتقول لنا إن عبد الملك سار بجيشه إلى سرقسطة ثم إلى وشقة، ثم إلى بربشتر، ومنها نفذ إلى أرض العدو. ولكن هذا الإتجاه الذي اتخذه الجيش الإسلامي، لا يحمل على الاعتقاد بأنه كان يقصد إلى نافار أو بلاد البشكنس، وإنما يبدو بالعكس أنه اتجه شمالا إلى أراضي ولاية " ريباجرسا " الصغيرة الواقعة شمال شرقي بربشتر، وهي إحدى ولايات البرنيه الفرنجية. وتقول الرواية الإسلامية إن المسلمين اقتحموا في هذه الغزوة بسيط أبنيونش وشنت يوانش، (سان خوان) وعاثوا في أرض العدو قتلا وسبياً وحرقاً، ثم تقول لنا إن الجيش الإسلامي قد انقضت عليه يومئذ عاصفة مروعة من رعد وبرق ومطر غزير. تخللها قصف مفزع وبرد قارس، وخشى أن تكون سبباً في نكبته. ولكن تداركه لطف الله. وقفل عبد الملك راجعاً بجيشه إلى قرطبة. ولكن الشعب لم يبد في استقباله شيئاً من الحماسة، لضآلة النتائج التي ترتبت على هذه الغزوة، ولكونها لم تسفر عن شيء من الغنائم والسبي، التي كانت تملأ أسواق قرطبة أيام أبيه المنصور (¬2). ومما يتصل بأخبار هذه الغزوة، أن عبد الملك عرج في طريق العودة على مدينة سالم، وقضى بها عيد الأضحى، وهنالك وافاه سفير من قبل قيصر ¬_______ (¬1) راجع أخبار هذه الغزوة في الذخيرة. القسم الرابع، المجلد الأول ص 65؛ والبيان المغرب ج 3 ص 11 و12. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 12 و13؛ وأعمال الأعلام ص 87.

قسطنطينية، الإمبراطور بسيل الثاني، ومعه كتاب مكتوب بالذهب يطلب فيه قيصر استئناف المودة والصداقة، التي كانت قائمة بين ملوك بني أمية، وبين القياصرة، ومعه كذلك هدية وعدد من الأسرى المسلمين الذين أسروا في أطراف الجزائر التابعة لقيصر، فسر عبد الملك لذلك، وصرف السفير أجمل صرف (¬1). ونمى إلى عبد الملك في تلك الأثناء، ما كان يجيش به أمير قشتالة سانشو غرسية من قصد إلى العدوان، فرأى أن يعاجله بالغزو. فخرج من قرطبة في صيف سنة 397 هـ (1007 م) في غزوته الخامسة، وهي المعروفة بغزوة قلونية، أو غزوة النصر، وسار مخترقاً أراضي قشتالة. ويبدو من أقوال الرواية الإسلامية أن عبد الملك لم يواجه يومئذ أمير قشتالة فحسب، ولكنه كان يواجه جبهة متحالفة من الملوك النصارى، يشترك فيها سانشو غرسية، وألفونسو الخامس ملك ليون، وسانشو الثالث ملك نافار، وعدد من الزعماء النصارى في مقدمتهم بنو غومس (¬2). ويشير صاحب البيان المغرب إلى هذه الغزوة بقوله " غزاة النصر التي لقى فيها (أي عبد الملك) شانجه بجميع النصرانية على اختلافها " (¬3). ولا تقدم إلينا الرواية الإسلامية بعد ذلك شيئاً من التفاصيل، سوى قولها إن الحاجب عبد الملك، قد هزم النصارى في تلك الموقعة هزيمة عظيمة في ظاهر مدينة قلونية (كلونية)، الواقعة شمال نهر دويرة على مقربة من شنت إشتيبن، وأحرز عليهم نصراً مبيناً، وافتتح الحصن صلحاً. ووصل كتاب الفتح إلى قرطبة، وقرىء على الكافة كالعادة، فكان له وقع عظيم، وكان أهل قرطبة يخشون سوء العاقبة من اجتماع الجيوش النصرانية لقتال المسلمين. وقفل عبد الملك بالجيش إلى قرطبة، فوصل إليها في أواخر ذي الحجة من تلك السنة، واتخذ على أثر ذلك لقبه " المظفر بالله " تنويهاً بما أحرزه من النصر العظيم (¬4). وقد ساق لنا المؤرخ الفقيه أبو المطرف ابن عون الله، وهو من معاصري هذه الحوادث، قصة هذا اللقب، فذكر أن عبد الملك كان مثل أبيه يسمو إلى ¬_______ (¬1) الذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول، ص 65 و66. (¬2) راجع ابن خلدون ج 4 ص 182. (¬3) البيان المغرب ج 3 ص 14. (¬4) ابن خلدون ج 4 ص 182؛ والبيان المغرب ج 3 ص 14؛ والذخيرة، القسم الرابع، المجلد الأول ص 66.

الألقاب السلطانية، فتقدم إلى الخليفة هشام، على أثر عوده من غزوة قلونية، والتمس إليه إخراج الأمر له، بأن يتسمى " بالمظفر " وهو اللقب الذي اختاره وآثره، وأن يكنى في سائر ما يذكر عنه " بأبى مراون "، وأن ينعم على ابنه الغلام محمد، الذي منح لقب الوزارة، بلقب " ذي الوزارتين "، ويعلي بذلك مرتبته على سائر الوزراء، وأن يكنى بأبى عامر، كنية جده، وكان الخليفة يقيم يومئذ عند الحاجب بقصر الزاهرة، في الجناح الفخم الذي أنشىء وقتها، ففي منتصف المحرم سنة 398 هـ، تحرك الخليفة خفية إلى قصر ناصح من قصور الزاهرة، واستدعى حاجبه، وفاوضه فيما أراد. ولما انصرف من لدنه، اتبعه في الحال بمرسوم التكريم الذي التمسه، فأذاع عبد الملك نص المرسوم، وبعث بالكتب للعمل به، وإليك نص هذا المرسوم، وقد زعم البعض أنه كان بخط الخليفة هشام نفسه: " بسم الله الرحمن الرحيم. من الخليفة هشام بن الحكم المؤيد بالله، أتم الله عليك نعمه، وألبسك عفوه وعافيته، إنا أريناك ... من صنع الله الجسيم، وفضله العظيم، لنا عليك ما شفى الصدور، وأقر العيون، فاستخرنا الله سبحانه في أن سميناك المظفر؛ فنسأل الله تعالى سؤال إلحاف وضراعة وابتهال، أن يعرفنا وإياك بركة هذا الاسم، ويحليك معناه، ويعطينا وإياك وكافة المسلمين، فضل ما حملت منه، وأن يخير لنا ولهم في جميع أقضيته، ويقرنه بيمنه وسعادته، بمنه وخفي لطفه، وكذلك أبحنا التكني في مجالسنا ومحافلنا، وفي الكتب الجارية منك وإليك، في أعمال سلطاننا، وسائر ما يجري فيه اسمك معنا ودوننا، إنافة بمحلك لدينا، ودلالة على مكانك منا، وكذلك ما شرفنا به فتاك أبا عامر، محمد ابن المظفر تلادنا، أسعده الله، بالإنهاض إلى خطة الوزارتين، وجمعناه بها في التكني على المشيخة والترتيب، وآثرك في الدولة، وأنت الحقيق منا بذلك كله، وبجميل المزيد عليه، لأنك تربيتنا، وسيف دولتنا، وولي دعوتنا، ونشىء نعمتنا، وخريج أدبنا، فأظهر ما حددناه لك في الموالي، وأهل الخدمة، واكتب بها إلى أقطار المملكة، وتصدقه بشكر النعمة، أحسن الله توفيقك، وأمتعنا طويلا بمعافاتك، وآنسنا ملياً بدوام سلامتك، إنه ولي قادر عزيز قاهر ". وكانت الكتب تخرج من قبل عبد الملك على النحو الآتي: " من الحاجب

المظفر سيف الدولة أبى مروان عبد الملك بن المنصور ". فكان بذلك أول من اجتمع له لقبان ملوكيان من حكام الأندلس (¬1). وكان صدور هذا المرسوم حادثاً مشهوداً، أطلق عبد الملك على أثره الصلات والكسى، وكثرت تهاني الشعراء ومدائحهم. والظاهر أن عبد الملك لم يجن من هذا النصر ما كان يؤمل من إرغام أمير قشتالة على التزام السلم والهدوء، وأن سانشو غرسية بالعكس استمر في عدوانه. ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، حتى تأهب عبد الملك لاستئناف الغزو، فخرج من قرطبة في أوائل شهر صفر سنة 398 هـ (أكتوبر 1007 م) واخترق قشتالة الوسطى، حتى ضفاف نهر دويرة، وقصد إلى حصن شنت مرتين المنيع، الواقع على مقربة من غربي قلونية على الضفة اليمنى من النهر، فحاول النصارى في البداية أن يردوا المسلمين في ظاهر الحصن، ولكن المسلمين صدوهم بعنف، فالتجأوا إلى الحصن، وحاولوا الدفاع من وراء الأسوار، فهاجم المسلمون الحصن بشدة وثلموا أسواره بالمجانيق والنار، واضطر النصارى إلى التسليم، فأمر عبد الملك بقتل الجند وسبي النساء والذرية، وإصلاح ما تهدم من الحصن، وقفل راجعاً إلى قرطبة فوصلها في أوائل شهر ربيع الآخر. وفي شوال من نفس العام (صيف 1008 م)، خرج عبد الملك بالجيش، وكانت غزوته السابعة والأخيرة، وتعرف "بغزاة العلة". ذلك أنه ما كاد يصل إلى مدينة سالم حتى اشتد به المرض، فاستقر بها حيناً يرقب البرء. وفي أثناء ذلك دب الخلل إلى الجيش، وتفرق عنه أكثر المتطوعة، وأخفق مشروع الغزو، واضطر عبد الملك أن يعود أدراجه إلى قرطبة، عليلا ضعيفاً، وذلك في منتصف المحرم سنة 399 هـ. ومع ذلك فما كاد عبد الملك يشعر بقليل من التحسن، حتى عقد العزم على التأهب لاستئناف الغزو، وخرج بالفعل من قرطبة في منتصف شهر صفر، ولكن أصابته عندئذ نكسة شديدة، صحبتها نوبة سعال عنيف، فحمل إلى قصر الزاهرة في محفة، ومن حوله خاصة غلمانه، وتوفي على الأثر، وكان أخوه عبد الرحمن حاضراً مع أكابر رجال الدولة، وقيل إنه توفي مسموماً من شربة دست له بتحريض أخيه عبد الرحمن. وكانت وفاته في 16 صفر سنة 399 هـ ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 15 - 17؛ وأعمال الأعلام ص 88 و89.

(21 أكتوبر سنة 1008 م) (¬1)، ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره. * * * حكم عبد الملك المظفر ستة أعوام وبضعة أشهر، قضى معظمها في متابعة الغزو، ولم يكن لديه سعة من الوقت ليتناول تدبير الأمور بنفسه. وكانت الدولة قد توطدت منذ أيام أبيه المنصور، ولم يقع تبدل في طرق الحكم، فكان الخليفة هشام، كعهده أيام المنصور محجوباً في قصره، وكان عبد الملك يحرص على حجبه وإخفائه بين صفوف الجند، كلما سنحت فرصة خروجه في موكبه، بيد أنه يبدو أن عبد الملك كان أكثر تودداً للخليفة، ورفقاً به من أبيه، فقد كان يدعوه إلى قصوره بالزاهرة للتريض والاستجمام، وكان هشام ينفق أوقاتاً في ضيافته (¬2). وكان عبد الملك لانهماكه في الشراب واللهو، قد اعتمد في تدبير شئون الدولة، على خاصته من أكابر الفتيان العامريين أمثال طرفة، وواضح، وزهير، وخيران، ومجاهد، وعلب عيسى بن سعيد اليحصبي المعروف بابن القطاع، وزيره ووزير أبيه من قبل. وكان عبد الملك لأول ولايته، قد فوض أمره إليه ومنحه سائر السلطات العليا، ثقة منه بإخلاصه، واعتماداً على كفايته. ووطد حسن ظنه فيه، ما أبداه عيسى من البراعة والحزم في تدبيير الأمور، وتوطيد النظام والأمن. وكان الفتيان الصقالبة، ولاسيما زعيمهم طرفة، خادم عبد الملك الأكبر، ينقمون على عيسى، حظوته واستئثاره بالسلطة، ويعملون ما وسعوا للنيل من مكانته. واضطرمت المنافسة بالأخص بينه وبين طُرفة، وبذل طرفة جهوداً عنيفة لإفساد الجو بينه وبين الحاجب، واستطاع مع استمرار الوقيعة والدس أن يزعزع ثقة عبد الملك فيه، وأن يصرفه عن الاعتماد عليه، وانتهى الأمر بأن تغلب طرفة على الوزير، وحل محله في تدبير الأمور، واجتمعت السلطة في يده شيئاً فشيئاً، حتى غدا كل شىء في القصر وفي الدولة، وسما شأن الفتيان ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 37، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 66، وأعمال الأعلام ص 89. وذكر المقري أن وفاة عبد الملك كانت في المحرم سنة 399 (ج 1 ص 198). ويؤيد ابن الأثير رواية وفاة عبد الملك بالسم ويقول لنا إن أخاه عبد الرحمن سمه في تفاحة قطعها بسكين كان قد سم أحد جانبيها فتناول أخاه مما يلى الجانب المسموم، وأخذ مما يلى الجانب الصحيح فأكله بحضرته، فاطمأن المظفر وأكل ما بيده منها فمات (ج 8 ص 225). (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 16.

الصقالبة، وغلبوا على من عداهم من الكبراء وأصحاب المناصب. ومرض الحاجب في أوائل سنة 396 هـ، واستبد طرفة بالأمر، وأمضى كثيراً من الأمور دون علم الحاجب أو موافقته، وأبدى كثيراً من الاستهتار والتبذل والطيش، فلما أبل الحاجب من مرضه، كانت نفسه قد تغيرت على طرفة، ولما خرج إلى الغزو في شهر رمضان من هذا العام، خرج معه الوزير عيسى، واستطاع خلال الطريق أن يقنع عبد الملك بسوء مسلك طرفة وخطر مشاريعه، وكان من المقرر أن يلتقي طرفة بسيده في سرقسطة، فقدم إليها في بعض القوات في نفس اليوم الذي وصل فيه الحاجب مع جيشه؛ وما كاد يدخل إلى عبد الملك في قصره، حتى قُبض عليه، وصُفد بالأغلال، وحمل إلى إحدى جزر الشاطىء، واعتقل حتى انتهى عبد الملك من غزوته، فأمر بقتله، وهو في طريق العودة، وأمر الحاجب في نفس الوقت بقتل عبد الملك بن إدريس الجزيري الكاتب البليغ أمين البلاط، وكان من خاصة طرفة، وكان الوزير عيسى قد حذر عبد الملك من ممالأته لطرفة ومعاونته على إفساد أمور الدولة (¬1). وأضحى عيسى بن سعيد، بعد قتل طرفة، رجل الدولة الأول، واسترد كامل حظوته وسلطانه، على أنه لم ينعم طويلا بظفره. وكان هذا الوزير قد تقلب في مناصب الدولة منذ أيام المنصور، وحظى لديه، وسما شأنه، حسبما رأينا، ثم تضاعف شأنه، واستأثر بتدبير الأمور منذ بداية عهد عبد الملك، وجمع الأموال الطائلة، وزاد في توطد سلطانه ونفوذه مصاهرته للحاجب، حيث تزوج ابنه عبد الملك المكنى أبا عامر، أخت عبد الملك الصغرى، إحدى بنات المنصور، وهكذا بلغ الوزير أقصى مراتب النفوذ والثقة، وكثر بذلك حساده والوشاة في حقه. وكان عيسى يذكي من حوله عواطف الخصومة والنقمة. بما كان يجنح إليه من الصلف والخشونة والكبرياء، والنكول عن قضاء حاجات الناس، والنظر في مظالمهم، والتعالي عليهم، وكان حجابه وعماله، على شاكلته من الغلظة والتعسف في معاملة الناس. فكان ذلك كله سبباً في تسمم الجو حول الوزير، وحول تصرفاته. أضف إلى ذلك أن الوزير، لم يكن يشارك الحاجب في مجالس شرابه وأنسه إلا في القليل النادر، لأنه كان مقلا للشراب، فكان تخلفه يمهد ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 24 - 26.

لخصومه المقربين من الحاجب، سبل الدس والوقيعة في حقه. وقد كانت الذلفاء والدة الحاجب في الوقت نفسه تبغض الوزير، لأنه أيد ولدها عبد الملك في الزواج من قينة حسناء من جواريه هام بها، وكانت تعارضه في ذلك. والخلاصة أن عبد الملك أخذ يفقد ثقته في وزيره بسرعة، وقد كان فيما يبدو كثير التأثر بالوشاية، سريع التقلب والغدر، وأخذ الوزير من جانبه يشعر بهذا النقص في حظوته ويتوجس من عواقبه. والظاهر أن عيسى بن سعيد، كانت تحدوه في نفس الوقت أطماع ومشاريع أخرى. فقد كان يشعر أنه غدا باجتماع سائر السلطات في يده، ومشايعة رؤساء الجند له، أقوى رجل في الدولة، وأنه يستطيع أن يقف في وجه بني عامر، وأن يغدو بطل المناهضة لحكمهم. والواقع أن حكم العامريين كانت تشتد وطأته على الناس يوماً بعد يوم. وكان عبد الملك جرياً على سنة أبيه المنصور، قد مضى في الاستظهار بالفتيان الصقالبة والبربر، وبلغ الفتيان في عهده نحو ألفي غلام، ووفد عليه كثير من البربر؛ وكان أهم من وفد إليه من زعمائهم زاوي بن زيري بن مناد الصنهاجي، عم أبي المعز بن باديس صاحب إفريقية، وزعيم الفرقة الخارجة عليه، وفد عليه مع إخوته، فاستقبلهم عبد الملك، وغمرهم بصلاته، واستمروا بقرطبة حتى وقعت الفتنة، وكان لهم في حوادثها شأن يذكر (¬1). وفي رواية أخرى أن وفود زاوي وقومه على الأندلس، كان في أواخر أيام المنصور، وأنه هو الذي أذن لهم في الجواز (¬2). وكانت الأرستقراطية العربية تمقت هذا الإيثار للصقالبة والبربر، والاستظهار بهم، وترى فيه افتئاتاً على حقوقها ومكانتها، وكان كثير من الأسر العربية الكبيرة مثل آل حدير، وآل فطيس، وآل شهيد، وغيرهم، يتوقون إلى انتهاء حكم العامريين، ورد الأمر إلى بني أمية، وكان عيسى بن سعيد، وهو أيضاً من البطون العربية، يعتنق فكرتهم، ويعتقد أنه يستطيع أن يعمل على تحقيقها. واعتزم عيسى بالفعل أن يعمل في هذا السبيل، واتجه ببصره إلى سليل من ¬_______ (¬1) الذخيرة عن ابن حيان القسم الرابع المجلد الأول ص 61. (¬2) كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله بن بلقين (القاهرة 1955) ص 17، وابن خلدون ج 6 ص 157 و158.

المروانية هو هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وكان بينهما مودة وصداقة. وكاشف عيسى هشاماً بمشروعه، في إزالة بني عامر، وإزالة الخليفة هشام المؤيد. لعجزه وعقمه، وإقامته مكانه في الخلافة، ورد الأمر بذلك إلى بنى أمية. فاستجاب هشام إلى دعوته، وجرت بينهما المفاوضة بمنتهى التكتم والحذر. وكانت خطة عيسى، تتلخص في أن يدعو عبد الملك وأخاه عبد الرحمن وصحبه، إلى حفل عظيم يقيمه بالمنية التي وهبه عبد الملك إياها بقرب قصر الزاهرة، وذلك تيمناً بمولود رزق به ولده عبد الملك بن عيسى، وأن يحيط المنية بطوائف من رجاله المسلحين، فإذا حضر عبد الملك وأخوه وصحبه، انقض عليهم أولئك الرجال وقضوا عليهم جميعاً، وعندئذ يسير عيسى بصاحبه هشام إلى قصر الزاهرة فيجلسه فيه، ويأخذ له البيعة بالخلافة، وقد تقدم عيسى بالفعل بدعوته إلى عبد الملك فقبل الدعوة، وحدد بالفعل يوم الحفل. ولكن سرعان ما اتصل خبر المؤامرة بعبد الملك، نقله رجل من ثقات عيسى إلى نظيف الفتى الصقلبي، فأبلغه فوراً إلى سيده. وفي رواية أن عبد الملك بادر في الحال فقتل عيسى. ولكن الرواية الراجحة هي أن عبد الملك وأخاه عبد الرحمن اتفقا على تدبير قتله، في مجلس شراب ينظم لهذا الغرض، ونظم المجلس بالفعل في بهو القصر الكبير المشرف على النهر، وذلك في 20 ربيع الأول سنة 397 هـ. واستدعى الحاجب وزيره عيسى إليه؛ ومن غرائب القدر أن كان الوزير أيضاً يجلس مع بعض خاصته على الشراب، ومنهم الكاتب أبو حفص ابن برد، فبادر عيسى بالركوب إلى عبد الملك، ومعه بعض خاصته، فاستقبله عبد الملك بظاهر من الحفاوة. ثم أخذ بعد قليل في عتابه ومحاسبته على ما عزى إليه، ثم أغلظ له القول، وعيسى يعتذر ويحتج ببطلان ما نسب إليه، ويشدد القسم على ذلك، ويناشد حقن دمه. وفجأة جذب عبد الملك سيفه من جانب الفراش وشهره على عيسى، وطعنه في وجهه، فسقط على الأرض، فانهال عليه الجماعة طعناً بسيوفهم، ثم احتز رأسه ووضع جانباً؛ وقتل الجماعة أيضاً صاحبيه خلف ابن خليفة، وحسن بن فتح، وألقيت جثث الثلاثة في النهر، بعد أن وضعت في زنابيل مثقلة بالحجارة، وأمر عبد الملك بأن ينصب رأس عيسى على باب مدينة الزاهرة، عبرة للناس. وتركت معلقة في مكانها حتى انقضت الدولة العامرية،

ونفذ الجند في الحال إلى منازل عيسى وأصحابه، وصودر ما فيها، وقبض على أبناء عيسى وزجوا إلى السجن، وأرغم ولده عبد الملك على طلاق زوجته أخت الحاجب؛ وجدت الشرطة في أثر هشام بن عبد الجبار، حتى قبض عليه، ثم حمل إلى الزاهرة فأمر الحاجب باعتقاله في سجن أعد له، وهناك قتل خفية، ولم يسمع له خبر بعد ذلك قط. وكان لمقتل الوزير عيسى بن سعيد أعمق وقع في قرطبة، لما كان له من رفيع المنزلة والسلطان، ولبثت الوفود أياماً تحضر إلى الزاهرة لمشاهدة رأسه (¬1). وثاب المظفر بعد مقتل وزيره إلى نفسه، وعمل على جمع السلطة في يده، والحد من سلطة الوزراء والكتاب، ومراقبتهم ومحاسبتهم، وواظب على الجلوس بنفسه، وهجر اللهو والراحة؛ وكانت الأحوال المالية قد ساءت، مما أسرف فيه من النفقة والصلات، وبما أسقطه للناس من سدس الجباية، فاقتصد في النفقة، واجتهد في توفير المال، وتنمية الموارد، فنجحت المحاولة، وتحسنت الأحوال المالية في أواخر عهده (¬2). وقد أشرنا من قبل إلى طرف من أخلاق عبد الملك، وما جمعت من الصفات المشرقة والقاتمة معاً. ونزيد هنا ما رواه صاحب الذخيرة عن ابن حيان، من أن عبد الملك كان عرياً عن العلم والمعرفة والأدب، ولم يكن يجتمع في مجالسه سوى الأعاجم من الجلالقة والبربر ومن إليهم، ولم يكن يؤمها أحد من أهل المعرفة، من الأدباء والعلماء. بيد أنه مع ذلك لبث يسبغ رعايته على من كان يتصل منهم بأبيه من العلماء والأدباء والندماء وغيرهم، وأبقى لهم أرزاقهم ورواتبهم كما كانت ْأيام أبيه (¬3). وكان يستمع إلى الشعر، ويصل الشعراء، وقد أبقى بالأخص على شاعر أبيه صاعد البغدادي، وجعله شاعراً ونديماً له. وكان من خواص شعرائه أيضاً أبو عمر بن دراج القسطلي، والكاتب الشاعر أبو حفص ابن برد. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب نبذاً من الشعر، نظمها صاعد وابن دراج تحقيقاً لرغبة ¬_______ (¬1) راجع تفاصيل هذه المؤامرة وذيولها في الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 103 - 107، والبيان المغرب ج 1 ص 27 - 35. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 36، وأعمال الأعلام ص 89. (¬3) الذخيرة - القسم الأول المجلد الأول ص 60.

المظفر، في وصف مختلف صنوف الزهر، من الآس، والنرجس، والبنفسج، والورد والسوسن. ومما جاء في قصيدة ابن دراج في وصف السوسن ومديح الحاجب عبد الملك تلك الأبيات (¬1): إن كان وجه الربيع مبتسما ... فالسوسن المجتلى ثناياه يا حسنه بين ضاحك عبق ... يطيب ريح الحبيب ريّاه يا حاجباً مذ يراه خالقه ... توّجه بالعلى وحلاه إذا رآه الزمان مبتهجاً ... فقد رأى كل ما تمناه وإن رآه الهلال مطلعاً ... يقول ربي وربك الله ونظم بعضهم في وصف عهد عبد الملك الأبيات الآتية: زمان جديد وصنع جديد ... ودنيا تروق ونعمى تزيد وغيث يصوب وعيش يطيب ... وعز يدوم وعيد يعود ودهر ينير بعبد المليك ... كشمس الضحى ساعدتها السعود ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 18 - 21. وكذلك الروض المعطار ص 160.

الفصْل الخامِسُ عبد الرحمن بن المنصور وسقوط الدولة العامرية نظام الطغيان العامري. كيف كانت تلطفه عبقرية المنصور. ظهور مثالبه في عهد عبد الملك. عبد الرحمن المنصور يخلف أخاه. يتقلد الحجابة. تلقيبه بشنجول أو شانجه الصغير. إنحرافه وسوء خلاله. تودده للخليفة هشام. تلقبه بالمأمون وناصر الدولة. شروعه في اغتصاب ولاية العهد. ضغطه على هشام لتحقيق ذلك. مرسوم ولاية العهد ونصه. جلوس عبد الرحمن في الزاهرة. عكوفه على الشراب واللهو. إرغامه الكبراء على لبس العمامة. خروجه إلى الغزو. يخترق أراضي ليون. إعتصام النصارى بالجبال. ارتداد عبد الرحمن. أنباء الإنقلاب في قرطبة. الاضطراب في الجيش. سيره إلى قلعة رباح. سخط أهل قرطبة على بني عامر. المؤامرة وعناصرها. الذلفاء والدة عبد الملك ودورها. ترشيح محمد بن هشام للخلافة. نضج المؤامرة وتهيؤ الظروف لتنفيذها. مهاجمة المتآمرين للقصر. مصرع عبد الله بن أبي عامر. موقف الخليفة هشام وتصرفه. إقتحام العامة للقصر. الزاهرة وتسليمها. إقتحام الجموع لها ونهبها. إستيلاء المهدي على أموالها ونفائسها ثم تدميرها. نبوءة المنصور بخراب الزاهرة. وقوف شنجول على خبر الانقلاب وحيرته. يناشد أهل الثغر تأييد هشام. تخلي زعماء الجند عن نصرته. شنجول وصديقه ابن غومس. مسيره صوب قرطبة. فرار البربر تحت جنح الظلام. مسيره إلى أرملاط. التجاؤه وابن غومس إلى الدير. وقوعهما في يد فرسان المهدي. القبض على حشم شنجول ونسائه. مقتل شنجول وابن غومس. ما يقوله شاهد عيان عن هذه الحوادث. تأملات عن انهيار الدولة العامرية. كانت وفاة عبد الملك المظفر، فاتحة لفترة من أعجب فترات التاريخ الأندلسي وأشدها غموضاً واضطراباً، وكانت نذيراً بانقلاب من أعنف ما عرفت الأندلس وأشدها تقويضاً لبنائها وسلامها ورخائها. مضت خمسة وثلاثون عاماً على حكم الطغيان المطبق، الذي فرضه المنصور ابن أبي عامر على الشعب الأندلسي، وقضى في ظله على سلطان الخليفة الشرعي، ومحيت رسوم الخلافة، وسحقت العصبية العربية، وطوقت أعناق الشعب بأغلال خانقة. وبالرغم مما نعمت به الأندلس أيام المنصور من الاستقرار والعزة والرخاء، فإن الشعب لم يكن يرى في المنصور، سوى مغتصب للسلطة الشرعية، وكان يتوق إلى التحرر من هذا الطغيان الذريع، والتخلص من وطأة الصقالبة والبربر، والعود

إلى الأوضاع الطبيعية المألوفة. وكانت شخصية المنصور العظيمة، وعزمه الصارم، وهمته البعيدة، وخلاله الرفيعة، وتفانيه في الجهاد، والعمل على إعزاز الأندلس وإسعادها: كانت تفرض نفسها على الناس، وتخفف نوعاً من وطاة النظام وحدته، وتبث في نفوس الشعب نوعاً من الإعجاب المقرون بالإغضاء والتسامح. فلما توفي المنصور، ونهض ولده عبد الملك بأعباء الحكم، بدأ ينقشع هذا الشعور الملطف، وبدت مثالب الحكم المطلق على أشدها، وزاد إحساس الشعب بما يعانيه من ضروب الإرهاق والضغط، وظهرت شخصية عبد الملك ضئيلة باهتة بالنسبة لشخصية أبيه العظيم، وبدت بالرغم مما اضطلع به من الغزوات، وما تمتعت به البلاد في ظله من السلام والرخاء، لا تحمل سوى الأوزار الظاهرة، من عكوف على الشراب، وانهماك في الملاذ، والمضي في اغتصاب السلطة الشرعية، وتمكين لنير الصقالبة والبربر، والتطلع إلى ألقاب الملك، بصورة تكشف عما وراءها من الأطماع الخطرة. وجاء عبد الرحمن ابن المنصور إثر أخيه عبد الملك، وقد كان أضعف منه شخصية، وأسوأ خلالا، ليتابع حكم الإرهاب والطغيان، وجلس غداة وفاة أخيه بقصر الزاهرة، كما يجلس خليفة العرش مكان سلفه، في السابع عشر من صفر سنة 399 هـ (22 أكتوبر سنة 1008 م). ومثل في نفس اليوم لدى الخليفة هشام، فخلع عليه الخلع السلطانية، وقلده الحجابة، ثم أقبل إليه الأكابر والأعيان بقصر الزاهرة، مهنئين مبايعين. وكان عبد الرحمن وكنيته أبو المطرِّف، حينما تولى الحكم، فتى في الخامسة والعشرين من عمره. وكان يلقب منذ حداثته " بشنجول " (سانشول) أو شانجُه الصغير، وذلك لأنه حسبما تقدم كان حفيداً لسانشو غرسية ملك نافار، وكانت أمه الأميرة النافارية، حينما تزوجت المنصور، قد اعتنقت الإسلام، وتسمت باسم "عبدة"، وكان ولدها عبد الرحمن " أشبه الناس بجده ". وكان لهذه الأرومة الفرنجية الواضحة، أثرها في انصراف الناس عن محبته والعطف عليه، وكان يزيد في هذه الوحشة بين عبد الرحمن وبين الشعب، إنحرافه وخلاله السيئة، فقد كان فاجراً كثير الإستهتار والمجون، يقضي معظم وقته في الشراب واللهو " يخرج من منية إلى منية، ومن متنزه إلى متنزه، مع الخياليين والمغنين

والمضحكين، مجاهراً بالفتك، وشرب الخمر " (¬1). وجرى عبد الرحمن على سنة أبيه وأخيه، في الحجر على الخليفة هشام وحجبه، وفي الاستبداد بالرأي والحكم (¬2)، ولكنه نهج في معاملة الخليفة نهجاً جديداً، فأكثر من الإتصال به، والتقرب إليه، وبالغ في إرضائه وإرضاء حاشيته، وتحقيق رغباتهم؛ هذا في حين أن المنصور كان يقتصر في الاتصال بالخليفة على المواقف الضرورية، ويقتصد في رؤيته، ويؤثر التظاهر بتوقيره مع البعد عنه، ويحرص على عدم تدليله، وكبح جماح حاشيته؛ وجرى ولده المظفر على هذه السياسة. ولكن عبد الرحمن بالغ في التودد لهشام ومخالطته؛ ومن ذلك أنه استأذنه في أن يقوم بالتنزه مع أهله في قصور الملك بقرطبة، ويكون الخليفة هنالك مع خاصته وجواريه. فأذن هشام بذلك، وخرج مع الحاجب في موكبه مستخفياً، وقد ارتدى برنساً كالذي ترتديه الجواري، حتى لا يعرفه أحد، واخترق الموكب شوارع قرطبة المقفرة ومن حوله الجند، ونزل بقصر ناصح. وهنالك عرض عليه الحاجب شئون المملكة، والتمس إليه أن يأذن له في التلقب بالمأمون، وأن يضاف إلى اسمه ناصر الدولة، فخرجت رقعة الخليفة بذلك إلى الوزير الكاتب جَهْور بن محمد، وتسمية عنوانها " الحاجب المأمون ناصر الدولة أبو المطرِّف حفظه الله " وأبلغت بعد ذلك إلى الجهات والكافة. وكان ذلك لعشرة أيام فقط من ولاية عبد الرحمن. فعجب الناس لهذه الجرأة، وأنكر الناس على الحاجب هذا التسمي بألقاب الملك والخلافة، واعتبروها افتئاتاً وغروراً، ممن لا تؤهله خلاله لمثل هذا التكريم. ولكن سوف نرى أنها لم تكن سوى مقدمة لما هو أخطر وأبعد أثراً (¬3). ذلك أنه لم تمض على هذا الإجراء فترة يسيرة، حتى غادر الخليفة هشام قصر ناصح بقرطبة، إلى القصر الخليفي بمدينة الزهراء مستخفياً كعادته، يتقدم موكبه الحاجب عبد الرحمن، ونزل عبد الرحمن بمدينة الزاهرة. وأقام الخليفة بالزهراء يومين. وفي اليوم الثالث الموافق 14 ربيع الأول سنة 399 هـ، غادر القصر الخليفي في أهله، إلى منية جعفر المجاورة، ومعه الحاجب. وكان عبد الرحمن ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 39. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 148. (¬3) البيان المغرب ج 3 ص 40 - 42؛ وأعمال الأعلام ص 90.

بعد أن حصل على ألقاب الملك، يجيش بمشروع ضخم، هو أن ينتزع ولاية العهد من الخليفة الضعيف الساذج، وأن يقضي بذلك نهائياً على تراث بني أمية، وينقل رسوم الخلافة جملة إلى أسرة بني عامر، فتخلف أسرة بني أمية في ملك الأندلس. وقد رأينا فيما تقدم كيف أن أباه المنصور، بالرغم من قوة نفسه، وعريض سلطانه، كان ينأى عن المغامرة بمثل هذه المشاريع الدقيقة، لأنه كان يدرك بذكائه، وبعد نظره، أنها تنطوي على أخطر العواقب، وأنه لم يقدم على اتخاذ ألقاب الملك إلا بعد طول روية وأناة، وأنه كان أبداً حريصاً على ْالإبقاء على رسوم الخلافة وأوضاعها. وقد حذا ولده عبد الملك المظفر حذوه في حرصه وتعقله. ولكن عبد الرحمن لم يكن إلا فتى طائشاً، متعجلا، كثير الغرور، قصير النظر. وقد وصف لنا ابن حيان موقفه من المشروع في تلك العبارات القوية: " وقد تقدم القول في سبب تعلق هذا الجاهل بدعوى الخلافة، عجرفية من غير تأويل ولا عقيدة، وكيف استهواه كيد الشيطان، وغرته قوة السلطان إلى أن ركبها عمياء مظلمة، لم يشاور فيها نصيحاً، ولا فكر في عاقبة، بل جبرها بالعجلة " (¬1). وخلا عبد الرحمن بالخليفة، وأطال التقرب منه، وعرض عليه مشروعه، ويقال إنه أقنعه بأنهما على صلة رحم من ناحية الخؤولة، إذ ولد كلاهما من أم بشكنسية (نافارية) (¬2). ويقال من جهة أخرى، إن عبد الرحمن دس إلى الخليفة من هدده بالويل، وأنذره بأن عبد الرحمن قد اعتزم الفتك به، إذا لم يمنحه ولاية عهده (¬3). ويقال أيضاً إن هشاماً استفتى في ذلك فقهاء قرطبة وعلماءها، فأقروه على ما طلب. وكان أشد الساعين لتأييد عبد الرحمن، قاضي الجماعة أبو العباس ابن ذكوان، وكاتب الإنشاء أبو حفص بن برد (¬4). وعلى أي حال فقد استجاب هشام المؤيد إلى طلب عبد الرحمن. وخرج أصحابه عشية ذلك اليوم، يذيعون الخبر على الملأ، ويقولون إن الخليفة قد اختاره ولياً لعهده، إذ ليس له ولد يؤمل خلافته، وكثر الإرجاف لذلك. ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 91؛ والبيان المغرب ج 3 ص 43. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 42. (¬3) البيان المغرب ج 3 ص 39. (¬4) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 150.

وفي صباح اليوم التالي، وهو اليوم الخامس عشر من ربيع الأول سنة 399 هـ (نوفمبر 1008 م)، أحيط قصر الخليفة بصفوف كثيفة من الجند، وأخرج عبد الرحمن هشاماً، وأجلسه في الساحة الكبرى، وجلس من حوله الوزراء والقضاة والقادة وأكابر رجال الدولة، فكان يوماً مشهوداً، وصدر مرسوم ولاية العهد وهو من إنشاء كاتب الرسائل أبى حفص أحمد بن برد، وذيل بشهادة قاضي الجماعة أحمد بن عبد الله بن ذكوان، وشهادة الوزراء وهم تسعة وعشرون وزيراً، ويليهم شهادة مائة وثمانين رجلا، من أكابر أهل الدولة والحكام، والفقهاء، وغيرهم. وإليك نص هذا المرسوم الشهير: " هذا ما عهد به أمير المؤمنين هشام المؤيد بالله - أطال الله بقاءه - إلى الناس عامة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصة، وأعطى عليه صفقة يمينه ببيعة تامة، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمه ما جعله الله إليه من إمامة المسلمين، وخصه به من إمرة المؤمنين، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء، بما لا يصرف، وخشى أن هجم محتوم ذلك عليه، ونزل مقدور ذلك به، ولم يرفع لهذه الأمة علماً تأوى إليه، ولم يوردها ملجأ تنعطف عليه، أن يكون يلقى الله مفرطاً فيها، ساهياً عن أداء الحق إليها. ونفض عند ذلك طبقات الرجال من أحياء قريش وغيرهم، ممن يستحق أن يسند الأمر إليه، ويعول في القيام به عليه، ممن يستوجبه بدينه وأمانته وهديه وورعه، يعد اطراح الهوادة، والتبرىء من الهوى، والتحري للحق، والزلفى إلى الله عز وجل بما يرضيه. وبعد أن قطع الأواصر، وأسخط الأقارب، عالماً بأن لا شفاعة عنده أعلى من العمل الصالح، وموقناً أن لا وسيلة إليه أرضى من الدين الخالص، فلم يجد أحداً أجدر أن يوليه عهده، ويفوض إليه النظر في أمر الخلافة بعده، لفضل نفسه، وكرم خيمه، وشرف همته، وعلو منصبه، مع تقواه وعفافه ومعرفته وحزمه، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، النازح عن كل عيب، ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر وفقه الله، إذ كان أمير المؤمنين قد ابتلاه واختبره، ونظر في شأنه واعتبره، فرآه مسارعاً في الخيرات، مستولياً على الغايات، جامعاً للمأثرات، وارثاً للمكرمات، يجذب بضبيعة إلى أرفع منازل الطاعة، وينمو بعينيه إلى أعلا درج النصيحة،

أب منقطع القرين، وصنو معدوم الغريم، ومن كان المنصور أباه، والمظفر أخاه، فلا غرو أن يبلغ في سبيل الخير مداه، ويحوي من حلل المجد ما حواه، مع أن أمير المؤمنين أكرمه الله بما طالعه من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الأثر، أمل أن يكون ولي عهده القحطاني، الذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو ابن العاص، وأن يتحقق به ما أسنده أبو هريرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ألا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه. فلما استوى له الاختبار، وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مذهباً، ولا إلى غيره معدلا، خرج إليه من تدبير الأمر في حياته، وفوض إليه النظر في الخلافة بعد مماته، طائعاً راضياً، ومجتهداً متخيراً، غير محاب له، ولا مائل له بهواه، ولا مترك نصح الإسلام وأهله فيه. وجعل إليه الاختيار لهذه الأمة بولاية عهده فيها، وأمضى أمير المؤمنين أعزه الله، عهده هذا، وأنفذه، وأجازه، وبتله، لم يشترط فيه مثنوية ولا خياراً، وأعطى على الوفاء بذلك في سره وجهره، وقوله وفعله، عهد الله وميثاقه وذمة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وذمة الخلفاء الراشدين من آله وآبائه، وذمة نفسه، بأن لا يبدل ولا يغير، ولا يحول ولا يتأول. وأشهد على ذلك الله وملائكته، وكفي بالله شهيداً. وأشهد عليه من أوقع اسمه في هذا الكتاب. وهو - أعزه الله - جائز الأمر، ماضي القول والفعل، بمحضر من ولي عهده المأمون ناصر الدولة أبي المطرف عبد الرحمن بن المنصور - وفقه الله - وقبوله لما قلده، والتزامه ما ألزمه، وذلك في شهر ربيع الأول سنة 399 " (¬1). * * * وعلى أثر صدور هذا المرسوم الفذ في تاريخ الخلافة الإسلامية، خرج عبد الرحمن في موكب عظيم من الوزراء والقادة وأكابر أهل الدولة، إلى قصر الزاهرة وهو " يختال في ثوب الخلافة، يحسب أنها له نحلة، وأنه مستحق لها، وخليق بها " (¬2). وأقبل عليه المهنئون من الوزراء ورجال الدولة، يتكلفون البشر، والدعاء له بما أكرمه الله به، وقلوبهم تفيض إنكاراً وسخطاً، وأنفذت ¬_______ (¬1) ورد نص هذا المرسوم في أعمال الأعلام ص 91 - 93؛ ونفح الطيب ج 1 ص 198 و199؛ وابن خلدون ج 4 ص 149؛ والبيان المغرب ج 3 ص 44 - 46؛ وقد اتبعنا نحن بالأخص النص الوارد في أعمال الأعلام لأنه أوفاها وأصحها. (¬2) البيان المغرب عن ابن عون الله ج 3 ص 46.

الكتب في الحال إلى سائر نواحي الأندلس والعدوة، بوجوب إذاعة المرسوم، والدعاء لولى العهد على المنابر بعد الخليفة. وفي اليوم التالي جلس عبد الرحمن بقصر الزاهرة في هيئة الملك، واصطف من حوله رجال الدولة وفق مراتبهم، وأقبل وجوه قرطبة لتهنئته، وفي مقدمتهم طائفة من المروانية المبعدين عن الخلافة، وغيرهم من بطون قريش. يقول المؤرخ: " وخرجوا من عنده، وقلوبهم ذؤوبة عليه، موقدة ببغضه ". وبادر الشعراء وفي مقدمتهم أبو العلاء صاعد البغدادي، برفع قصائد التهاني. وقد أورد لنا ابن حيان طرفاً مما قاله الشعراء في ذلك (¬1). بيد أن شاعراً آخر، هو ابن أبي يزيد المصري، نظم في ذم ابن ذكوان وابن برد وهما المسؤولان عن تحرير مرسوم البيعة هذين البيتين: إن ابن ذكوان وابن برد ... قد ناقضا الدين عين عهد وعاندا الحق إذ أقاما ... حفيد شنجُه ولي عهد (¬2) وذهب عبد الرحمن في غروره واختياله إلى أبعد مدى، فعين ابنه الطفل عبد العزيز في خطة الحجابة، وأسبغ عليه لقب سيف الدولة، وهو لقب عمه المظفر. واعتقد عبد الرحمن أنه حقق بذلك مشروعه العظيم، في تخليد ملك الدولة العامرية، وأن الأمور قد دانت كلها له، فأطلق العنان لأهوائه، وانكب على لهوه وشرابه، يحيط به نفر من البطانة السيئة، والندماء الأسافل، يصورون له الأحوال في أبدع الصور وأحبها إلى نفسه. وكان من الحوادث البارزة في تلك الآونة، حادث ظاهر البساطة في ذاته، ولكنه أذكى موجة جديدة من السخط. وذلك أن عبد الرحمن أصدر أمره إلى رجال الدولة وأكابر أهل الخدمة، بأن يتركوا قلانسهم الطويلة، المبرقشة الملونة، التي كانوا يضعونها على رؤوسهم، ويمتازون بها على باقي الطوائف، وأن يستبدلوها فوراً بالعمائم. وقد كانت العمائم هي غطاء الرأس عند البربر. فأنف الكبراء لذلك، ولكنهم رضخوا للأمر كارهين، وحضروا إلى قصر الزاهرة بالعمائم لأول مرة في يوم 14 جمادى الأولى، وعلق جمهور الشعب على ذلك بمختلف الأقوال والتأويلات. ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 46 و47؛ وأعمال الأعلام ص 94 - 96. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 150.

وكان عبد الرحمن أثناء ذلك قد فكر في أن يشغل الناس بحديث الغزو أسوة بأبيه وأخيه، وكان سانشو غرسية أمير قشتالة من جهة أخرى قد أبدى أنه لا يزمع احترام السلم المعقود، وأخذ بالفعل يغير على الحدود الإسلامية. ولم تكن أخبار قرطبة، وما يسودها من اضطراب الأحوال، خافية على الملوك النصارى. واعتزم عبد الرحمن أن يسير إلى الغزو، وأن يقصد إلى جلِّيقية، فاعترضه كبير الفتيان الصقالبة، وحذره من مغادرة قرطبة في هذا الوقت، وأوضح له أن المروانية (بني أمية) يأتمرون به، ويدبرون انقلاباً ينتزعون به الحكم، وأن كثيراً من الجند يميلون إليهم، فلم يصغ إلى قوله، وأمر بالخروج إلى الغزو (¬1)، وعهد بإدارة الحكومة في غيبته إلى ابن عم أبيه عبد الله بن أبي عامر المعروف بعسكلاجة. وكان خروجه من قرطبة في 16 جمادى الأولى سنة 399 هـ (يناير سنة 1009 م) أعني في أعماق الشتاء، وسار بالجيش صوب طليطلة في طريقه إلى جليقية والأمطار تنهمر والبرد يهرأ الأجسام، وهو على سجيته من اللهو والشراب. ثم اخترق حدود مملكة ليون، ودخل جليقية. ولكن ملك ليون ألفونسو الخامس تحصن بقواته في رؤوس الجبال، ولم يتقدم لقتال المسلمين، ولم يجد عبد الرحمن سبيلا لقتاله لفيضان الأنهار وكثرة الثلوج، فقرر العودة بجيشه، فارتد راجعاً أدراجه. وبالرغم من أنه لم يحقق في غزوته هذه أية نتائج ذات شأن، فقد نظم ابن دراج القسطلي، على سجيته، في تلك الغزوة قصيدة طويلة، يشيد فيها بعبد الرحمن، وهذا مطلعها: هو البدر في فلك المجد دارا ... فما غسق الخطب إلا أنارا تجلى لنا فأرتنا السعود ... غيوب المنى في سناه جهارا وأوفى فكادت صوادي القلوب ... تفوت العيون إليه بدارا وحل فحلت جسام الفتو ... ح تبأى اختيالا وتزهى افتخارا (¬2) وما كاد عبد الرحمن يصل إلى طليطلة، حتى وافته الأنباء بأن انقلاباً حدث في قرطبة، وأن الثوار قد استولوا على مدينة الزاهرة، ونهبوا ذخائرها، وأضرموا النار في صروحها. وتسربت الأنباء إلى الجند، فوقع الاضطراب في الجيش، ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 96. (¬2) وردت هذه القصيدة كاملة في ديوان ابن دراج (ص 459 - 463).

واضطر عبد الرحمن أن يسير لفوره بالجيش إلى قلعة رباح، في طريقه إلى قرطبة. - 2 - لم يكن ذلك الهدوء الظاهر، الذي ساد قرطبة خلال هذه الأشهر القلائل التي اضطلع فيها عبد الرحمن بالأمر، سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة. وكان حكم الطغيان الذي فرضه بنو عامر على الأندلس قد أخذ منذ أيام عبد الملك، يحدث آثاره المادية والأدبية، في نفوس الشعب، ويبدو لهم بغيضاً مرهقاً. ولم يكن يستر هذه الآثار سوى سياج خفيف من الحذر والترقب. ذلك أن سلطان بني عامر كان يستند دائماً إلى قوة عسكرية يخشى بأسها، قوامها البربر والصقالبة؛ فلما جاء عبد الرحمن، وكشف عن نيته في الاستئثار برسوم الملك، واغتصاب ولاية العهد، ألفت العناصر الناقمة، وفي مقدمتها بنو أمية أصحاب الولاية الشرعية، في ذلك مادة جديدة، للتنديد بحكم بني عامر وطغيانهم واجترائهم، وفي تلمس الوسائل الكفيلة بسحق دولتهم؛ وكانت شخصية عبد الرحمن الهزيلة، وأرومته الأجنبية، وما أبداه من ضروب الاستهتار والمجون، تذكي عاطفة السخط عليه، سواء بين الخاصة أو الكافة، وتمهد السبيل إلى الانقلاب المنشود. وكانت خيوط المؤامرة التي اجتمعت حولها العناصر الناقمة، تتوثق شيئاً فشيئاً، وكان أهم مدبريها شخصيتين، الأولى الذلفاء والدة عبد الملك المصور، وقد كانت تعتقد اعتقاداً جازماً بأن ولدها قد توفي غيلة بالسم، وأن قاتله هو أخوه عبد الرحمن، وكانت لذلك تتوق إلى الانتقام، والثانية هي شخصية فتى من بني أمية هو محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وكان عبد الملك قد أمر بإعدام أبيه هشام بتهمة التآمر مع الوزير عيسى بن سعيد كما تقدم. وكانت الذلفاء امرأة ذكية قوية العزم، كثيرة المال والوجاهة، وكانت بالرغم مما أصبغه عبد الرحمن عليها وعلى أسرة ولدها وأخيه عبد الملك، من ضروب الرعاية والإكرام، تسعى دائبة للإيقاع به. فلما شعرت بأن الجو قد تهيأ للسعي، بما ثار حول تصرفات عبد الرحمن من ضروب الإنكار والسخط، اتصلت بوجوه بني أمية، وأخذت تحثهم على التحرك والقيام لاسترجاع دولتهم، والانتقام من بني عامر، وكان صلة الوصل بينها وبينهم فتى من صقالبة العامريين يدعى بشرى

وكان من قبل من فتيان المراونية، ثم انتقل إلى العامربين فيمن انتقل من فتيان القصر، ولكنه بقي على ولائه لسادته الأقدمين. وتعهدت الذلفاء بأن تعاون المتآمرين بالمال والتدبير؛ وسرعان ما استجاب بنو أمية للدعوة واختاروا من بينهم زعيماً هو محمد بن هشام بن عبد الجبار. وكان فتى جريئاً مغامراً في الثالثة والثلاثين من عمره إذ كان مولده في سنة 366 هـ، وأمه أم ولد تدعى مزنة (¬1)، وكان مذ قتل أبوه هشام، يتحرز على نفسه، ويختفي في أحواز قرطبة وكهوفها، ويجتمع حوله الصحب من المغامرين. فلما أجمع بنو أمية أمرهم على اختياره، بايعوه سراً بالولاية والخلافة، وكان له ولأبيه من قبل دعاة من أهل قرطبة من المروانية وغيرهم، يدعون له؛ واشتدت هذه الدعاية مذ أجمع المتآمرون رأيهم على اختياره. وكان خروج عبد الرحمن المنصور أو شنجول إلى الغزو فرصة سانحة للعمل، فأخذ محمد بن هشام يحشد أنصاره، ويجتمع بهم سراً في كهوف جبل قرطبة. وكثر إرجاف دعاته في المدينة أن دولة بني عامر قد قضي عليها، وأن الأمر سيعود إلى المروانية، وكثر تشهيرهم بعبد الرحمن وقبيح تصرفاته. وكانت هذه الدعاية تجد لدى جمهور الكافة أذناً صاغية، لما وقر في نفوسهم من بغض عبد الرحمن وازدرائه. وإليك كيف يصف لنا ابن الخطيب موقف الشعب القرطبي، وحالته النفسية إزاء العامريين، وإزاء عبد الرحمن: " وقد جبل الله أهل قرطبة على ملل ملوكها، والقلق بذوي أمرها، والإرجاف بما يتوقع لها. وكان سفهاؤهم بالأسواق والمجامع غير المحتشمة، تؤثر عنهم في العامريين نوادر حارة، واستراحات عنهم؛ كان المنصور وولده المظفر يستحضر لذلك مشيختهم، ويأمرهم بإنهاء وعيده، ويشافههم بإنكاره، ولا يزال حكامه يبلغون في تغيير ذلك وإنكاره أقصى المبالغ ضرباً للظهور، وقطعاً للألسنة. فلما ذهب عبد الرحمن هذا المذهب، وأطاع هذا الخرق، كثر الحمل وشهرت البغضة " (¬2). ولم يكن المروانية، وحدهم في هذا التدبير الذي قصد به إلى سحق نير العامريين ودولتهم، فقد كان إلى جانبهم سائر العناصر الناقمة من قريش، ومن المضرية ¬_______ (¬1) جذوة المقتبس ص 19. (¬2) أعمال الأعلام ص 90.

واليمنية، أو بعبارة أخرى من البيوت العربية، التي عمل المنصور وآله على سحق رياستها ومكانتها الاجتماعية، وإخضاعها لنفوذ البربر والصقالبة. وقد رأينا فيما تقدم أن هذه لم تكن أول مؤامرة أو محاولة من نوعها لتحطيم نير بني عامر، وأن المنصور وولده عبد الملك، استطاعا أن يقضيا على بعض المؤامرات الخطيرة، التي دبرت لتحقيق هذه الغاية. كانت الظروف قد تهيأت. إذاً أمام المتآمرين للعمل. فقد خرجت معظم وحدات الجيش مع عبد الرحمن إلى الغزو، ولم يبق منه سوى فرق قليلة ترابط في قرطبة والزاهرة، وجمهور الشعب متأهب بعواطفه ونفسيته الضجرة المتذمرة لتأييد أي انقلاب. ولما نضجت المؤامرة، واتسع نطاق الدعوة لمحمد بن هشام، وكثر الإرجاف بالانقلاب المنشود، شعر الوزراء العامريون بالخطر، وضاعفوا الأهبة والحرس حول قصور الزاهرة. وكان محمد بن هشام وأعوانه خلال ذلك يجتمعون سراً وينظمون خطتهم الأخيرة. وكان محمد هذا الذي اختاره بنو أمية زعيماً لهم، قد فطر منذ نشأته على الشر والمغامرة، لا يخالط سوى الزعانف والأشرار. وقد وصفه ابن الخطيب في قوله: " جرار جسور، ثائر مخاطر، خليع، مداخل للصقورة والفتاك، لايدري في أي واد يهلك " (¬1). وفي يوم 16 جمادى الأولى سنة 399 هـ (15 فبراير 1009 م) جاءت الأنباء إلى قصر الزاهرة بأن عبد الرحمن قد عبر بجيشه إلى أرض النصارى، فأدرك المتآمرون في الحال أن الفرصة قد سنحت للعمل، واعتزم محمد بن هشام لفوره أن ينزل الضربة المنشودة. وكان قد بث نفراً من رجاله حول قصر قرطبة، وقد تسلحوا تحت ثيابهم خفية. ففي عصر هذا اليوم، كان محمد يكمن في الضفة الأخرى من النهر (نهر الوادي الكبير) قبالة القصر. وكانت خطة المتآمرين أن يسددوا الضربة الأولى لقصر قرطبة، وهو يومئذ المقام الشتوي للخليفة هشام المؤيد، وحوله قلة من الحرس، ولأن ظروف العمل في قرطبة، كانت أدعى إلى النجاح نظراً لعطف الكافة والدهماء وتأييدهم. وفي الوقت المحدد عبر محمد النهر، والتف حوله من أصحابه اثنا عشر فتى، منهم طرسوس المجوسي، وهو أشدهم ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 109؛ وراجع البيان المغرب ج 3 ص 52.

جرأة وفتكاً؛ فساروا حذرين حتى باب القصر، ثم شهر طرسوس سيفه، وهجم في الحال على صاحب المدينة عبد الله بن أبي عامر (عسكلاجة) وانتزعه من مجلسه، وكان يحتسي الخمر مع قينتين من جواريه، وجىء به مخموراً إلى محمد بن هشام، فأمر بضرب عنقه، ورفع رأسه على رمح، فلما أبصرت العامة رأسه مرفوعاً، هرعت إلى محمد بن هشام، والتف حوله منهم جمهرة كبيرة من السفلة والغوغاء، فقويت بذلك عصبته، ثم بادرت باقتحام سجن العامرية، وأفرج عمن فيه من القتلة واللصوص، وتلاحق عليه أقاربه المروانية من كل صوب، واستنهضوا الناس لنصرته، حتى اجتمع حوله منهم طوائف غفيرة. ونمي الخبر إلى الخليفة هشام المؤيد، فأمر بإغلاق أبواب القصر، وصعد إلى السطح، ومن حوله خادمان يحمل كل منهما مصحفاً، وحاول مخاطبة العامة، فأسكتوه وأغلظوا له القول، فانصرف عنهم إلى داخل القصر، وأمر الخدم بالكف عن كل مقاومة حتى يقضي الله أمره. فأمر محمد بن هشام العامة بنقب أسوار القصر، واقتحام أبوابه، وبذل العامة في ذلك جهوداً فادحة، وأتوا بالسلالم، وصعدوا إلى أعلا الأسوار، وسيطروا على عدة نواح من سطح القصر، وارتد الخدم أمامهم، ووصلوا إلى خزائن السلاح فنهبوها واشتد ساعدهم. ولما سمع الخليفة بذلك، خشي البادرة على نفسه وأهله، فبعث إلى محمد بن هشام يعرض عليه أن يقصي بني عامر من الحكم، وأن يشركه في أمره، فرفض محمد ذلك، وطلب إلى فاتن محافظ القصر أن يفتح الأبواب، فأذعن ودخل محمد القصر، واحتل مجلسه، ومن حوله خاصة أصحابه، واعتزم أن يقضي ليله بين الشموع المضيئة. ثم قام بطرد العامة من القصر وأجلاهم عن سطحه، وكفهم عن انتهاك حرمه، وعين ابن عمه محمداً بن المغيرة في كرسي الشرطة، وابن عمه الآخر عبد الجبار بن المغيرة في خطة الحجابة، ودعا سليمان بن هشام من قرابته فسماه ولي عهده، وبعث إلى الخليفة هشام يعاتبه على إيثار بني عامر، ويدعوه إلى خلع ْنفسه، منذراً مهدداً، فارتاع هشام وبادر بالقبول، واستدعى محمد في الحال بني عمومته، وأكابر بيته، ونفراً من الأعيان والوزراء والقضاة في جوف الليل، وأعلن هشام خلع نفسه بمحضر من بعضهم، وقدم إلى محمد بعض حلله الخلافية الفاخرة، فتم الخلع، وذلك بعد أن مكث هشام في الخلافة ثلاثة وثلاثين عاماً

وبضعة أشهر، وآلت الخلافة في تلك الليلة إلى محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن عبد الرحمن الناصر، وتلقب بالمهدي. وكان ذلك صبيحة يوم الأربعاء 17 جمادى الآخرة سنة 399 هـ (16 فبراير سنة 1009 م). وهرعت الجموع من سائر أنحاء قرطبة إلى محمد بن هشام، ملتفة حوله، مؤيدة لبيعته، واعتبروه بطلا منقذاً، إذ كان أول من استطاع أن يثور في وجه بني عامر، وأن يعمل لإزالة ملكهم، وشعروا أن كابوس الإرهاب العامري قد تقلص، وأن عهداً جديداً سوف يبدأ، ولم يخطر ببالهم قط، أن هذا التحول كان نذير المحنة الغامرة، التي سوف تطيح بكل ما نعموا به في ظل الدولة العامرية من السكينة والأمن والرخاء. وفي الوقت نفسه كانت مدينة الزاهرة، معقل بني عامر، عرضة لهجوم مماثل. وكان القائمون على أمرها قد نمى إليهم ما وقع بقرطبة، وبادر محافظ الزاهرة عبد الله بن مسلمة إلى ضبط أسوارها وأبوابها، وحشد ما لديه من الجند، فبلغوا سبعمائة، وتأهب للدفاع وبعث محمد بن هشام إلى الزاهرة جمهوراً غفيراً من العامة مع طائفة من أصحابه. فأحاطوا بها وحاولوا اقتحامها، ولكن نظيفاً الخادم، ونصراً المظفري، وهما من الفتيان العامريين، استطاعوا في قوة من الغلمان إجلاء العامة عن الأسوار، ثم دخل الليل فحال بين الفريقين. وفي صباح اليوم التالي، 18 جمادى الأولى، ندب محمد بن هشام أو الخليفة المهدي، ابن عمه عبد الجبار بن المغيرة لمهاجمة الزاهرة، فسار إليها على رأس قوة كبيرة من العامة، الذين أقبلوا على التطوع فرساناً ومشاة، ووزعت عليهم الأسلحة، وأمامهم رأس عبد الله بن أبي عامر مرفوعاً فوق رمح، وهاجموا قصر عبد الملك المظفر، وكان خارج الأسوار، وكان فيه أهله وأمه الذلفاء، فنهبوه وتخاطفوا متاعه وذخائره، وذلك بالرغم من أن الذلفاء هي التي أمدت محمداً بن هشام بعونها ومالها. فلما شعر أهل الزاهرة، بأنه من العبث مقاومة هذه الجموع الهائلة، عرضوا التسليم على أن يصدر لهم المهدي الأمان، فبعث إليهم المهدي الأمان المنشود مكتوباً بخطه، وكان ذلك وقت الظهر، ففتحوا أبواب المدينة وسلموها، ودخل عبد الجبار لفوره قصر الزاهرة، واقتحمته الجموع، ونهبت منه من المتاع والنفائس ما لا يقدر ولا يوصف، واستأثر عبد الجبار

وصحبه المقربين من ذلك بأعظم نصيب, واستولت العامة على خزائن الكسوة والمتاع والسلاح والحلي، ولم يكف النهب إلا في مساء اليوم التالي. وحرص عبد الجبار على أن يحيط بقواته، بيوت الحُرم والمال وخاص المتاع والجوهر، وأن يبعد العامة عنها، وقد استولى المهدي على جميع محتوياتها ونقلها إلى قصر الخلافة بقرطبة. ويقال إنه حصل من أموال الزاهرة المنهوبة خمسة آلاف وخمسمائة ألف دينار من النقود، ومن الذهب ما قيمته ألف ألف وخمسمائة ألف. وأطلق المهدي الحرائر من بني عامر، واصطفى الجوارى لنفسه، ووهب منهن لوزرائه وأصحابه، وأذن للذلفاء أن تنتقل وأسرة ولدها عبد الملك وولده الصغير محمد، مطلقة السراح إلى دورها بالمدينة، وكانت لحرصها قد نقلت إليها معظم خزائن المال والمتاع. ولم يكتف المهدي بذلك كله، بل عمد بعد أن استصفى سائر ما في الزاهرة من الخزائن والأموال الطائلة، إلى هدم صروحها وأسوارها، واستطالت الأيدي إلى كل نفيس من مرمر قصورها وطرائفها وأنقاضها وأبوابها، فلم تمض أيام قلائل على ذلك السيل المدمر، حتى اختفت صروح الزاهرة ومعالمها الضاحكة، وغدت أطلالا دارسة، وخرائب موحشة. وكان المهدي يتعجل إزالة رسوم بني عامر بكل ما وسع، خشية أن يعود عبد الرحمن المنصور، قبل أن يتم إحكام ضربته وتوطيد مركزه. وقد ذكرت لنا الرواية أن المنصور بن أبي عامر، كان يتوقع ذهاب دولته وخراب الزاهرة، وكان هذا الخاطر ينتابه من آن لآخر، ويفضي به إلى خاصته, وقد نقل إلينا الوزير أحمد بن حزم، والد الفيلسوف الشهير، أن المنصور كان يقول: " ويحاً لك يا زاهرة الحسن، لقد حسن مرآك، وعبق ثراك، وراق منظرك، وفاق مخبرك، وطاب تربك، وعذب شربك، فياليت شعري من الذي يهدمك، ويوهن جسمك ويعدمك "، وأنه كان يؤكد لأصحابه صحة هذه النبوءة في مناسبات كثيرة (¬1). - 3 - لما وصلت أنباء هذا الإنقلاب الخطير الذي وقع في قرطبة، إلى عبد الرحمن ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 65.

المنصور أو شنجول، وهو في طليطلة، بادر بالسير في قواته إلى قلعة رباح، والحيرة تغلب عليه، والاضطراب يسود صفوف الجنود، وهنالك تمهل قليلا، وأعلن في الحال أنه ينزل عن ولاية العهد، ويقتصر على الحجابة، وبعث كتبه بذلك إلى طليطلة وأعمالها، وفيها يناشد الناس أن يهرعوا إلى نصرة الخليفة المظلوم هشام، وإلى التمسك بطاعته، ويصف لهم ما ارتكبه محمد المهدي ودهماء قرطبة من العيث والسفك. فلم يعبأ أحد بدعوته، وكان أول الخارجين عليه الفتى واضح مولى أبيه، وهو يومئذ والي طليطلة. وحاول شنجول في الوقت نفسه، أن يأخذ العهد على زعماء الجند بنصرته والقتال معه، ولا سيما زعماء البربر الذين يؤلفون سواد الجيش، فتظاهروا بموافقته، ولكنهم تعاهدوا فيما بينهم، وعلى رأسهم كبيرهم محمد بن يعلى الزناتي زعيم زناتة، أن يتخلوا عن شنجول وألا يغامروا بمحاربة أهل قرطبة، وفيها أسرهم وأموالهم، وخصوصاً بعد الذي ترامى إليهم عن التفاف الناس حول محمد بن هشام، وتفانيهم في نصرته؛ وقوى هذا العزم لديهم ما أفضى إليهم القاضي أبو العباس بن ذكوان - وكان قد صحب شنجول في غزاته - من أنه يتبرأ من شنجول ويقضي بفسقه، وينكر عليه ما يدعو إليه من قتال المسلمين بقرطبة، وفيهم العلماء والصالحون، والنسوة والأطفال. ومما تجدر ملاحظته أن القاضي ابن ذكوان هذا، كان من قبل من أخص رجال الدولة العامرية، وكان من أشد المعاونين لعبد الرحمن المنصور على انتزاع ولاية العهد من هشام. وكان إلى جانب شنجول في معسكره، زعيم من زعماء بني غومس سادة مقاطعة كريون في جلِّيقية، وكان قد صحبه يرجو عونه على بعض خصومه من الزعماء المجاورين، فلما رأى اضطراب أحوال الجند، نصح شنجول بأن يعدل عن السير إلى قرطبة، وأن يعود في أصحابه إلى طليطلة فيتفق مع واضح، فأبى شنجول نصحه، وزعم أنه متى اقترب من قرطبة، سارع الناس إلى نصرته. وقد بقي هذا الزعيم النصراني إلى جانب شنجول حتى النهاية (¬1). وعلى أي حال فقد سار شنجول في قواته صوب قرطبة، حتى انتهى إلى " منزل هاني "، وهي أقرب محلاته إلى المدينة. وما كاد الليل يرخي سدوله، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 70.

حتى غادر معظم الجند البربر أمكنتهم تحت جنح الظلام، وأسفر الصبح وهو صبح نهاية شهر جمادى الآخرة سنة 399 هـ (نهاية فبراير سنة 1009 م) فلم يبق إلى جانب عبد الرحمن سوى خاصته وحرمه وحشمه وجمع يسير من غلمانه، وابن غومس في نفر من أصحابه، وغادر المعسكر تباعاً زعماء البربر، والفتيان الصقالبة ووجوه الأندلسيين، وهنا نصحه ابن غومس مرة أخرى بأن ينجو بنفسه وصحبه، فأبى. وسار شنجول في أهله حتى وصل إلى أرملاط من مشارف قرطبة، وقد تركه النفر القليل الذي بقي معه، فاستولى عليه اليأس، وأدخل حرمه قصر أرملاط، ثم خرج مودعاً والصراخ يتبعه، وسار ومعه ابن غومس، وقد عول على الفرار، فالتجأ ليلا إلى الدير القريب. وكان محمد بن هشام في تلك الأثناء يتتبع أخباره وحركاته، فلما نمى إليه أنه يزمع الفرار، بعث في الحال الحاجب ابن ذرى في طائفة من الفرسان، فسار مسرعاً إلى أرملاط ودهم الدير، وقبض على شنجول وابن غومس. وأخذ نساء شنجول من القصر، وهن سبعون جارية، فبعث بهن إلى قرطبة. ولما شعر شنجول بأنه هالك أعلن أمام معتقله أنه يعترف بطاعة المهدي، فاستاقه ابن ذرى هو وابن غومس، ثم أمر بتوثيق يديه بالرغم من احتجاجه، وفي خلال الطريق طلب شنجول أن يفك وثاق يديه قليلا ليستريح، فأجيب إلى طلبه، وعندئذ أخرج من خفه سكيناً بسرعة البرق، وحاول أن يغمده في صدره، فتداركه الجند، وأوثقوا يديه، وأمر الحاجب بقتله، فذبح في الحال، وفصل رأسه عن جسمه، وقتل ابن غومس، وحمل رأس شنجول إلى المهدي في نفس المساء، وحمل جسده معروضاً على بغل، وأمر المهدي فحنطت الجثة، وركب عليها الرأس، وألبست كسوتها، ونصبت على خشبة طويلة على باب السُّدة، ونصبت رأس ابن غومس على سارية إلى جانبها. وكان مقتل عبد الرحمن المنصور في اليوم الثالث من رجب سنة 399 هـ (3 مارس سنة 1009 م). وقد انتهت إلينا من تعليقات المعاصرين على تلك الحوادث المتوالية المدهشة تعليق شاهد عيان يقول فيه: " ومن أعجب ما رأيت من عبر الدنيا، أنه تم من نصف نهار يوم الثلاثاء

لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة المؤرخ إلى نصف نهار يوم الأربعاء تتمة الشهر، وفي مثل ساعته فتح مدينة قرطبة، وهدم مدينة الزاهرة، وخلع خليفة قديم الولاية وهو هشام بن الحكم، ونصب خليفة جديد لم يتقدم له عهد، ولا وقع عليه اختيار، وهو محمد بن هشام بن عبد الجبار، وزوال دولة آل عامر، وكرور دولة بني أمية، وإقامة جنود من العامة المحشودة عورض بها أجناد السلطان أهل الدربة والتجربة، ونكوب وزراء جلة، ونصب ضدادهم، تقتحمهم العين هجنة وقماءة. وجرى هذا كله على يدي بضعة عشر رجلا من أراذل العامة، حجامين وخرازين، وكنافين، وزبالين، تجاسروا عليه، وقد تكفل المقدور بوقوعه، فتم منه ما لم يكن في حسبان مخلوق تمامه" (¬1). * * * وهكذا انهارت الدولة العامرية بسرعة مدهشة لم يكن يتوقعها أحد؛ فقد تولى عبد الرحمن المنصور الحكم عقب وفاة أخيه عبد الملك في 17 صفر سنة 399 هـ والدولة محكمة النظام موطدة الدعائم، والجيش على ولائه للدولة العامرية، فلم تمض سوى ثلاثة أشهر حتى انهار ذلك الصرح الشامخ، الذي شاده المنصور ابن أبي عامر، والذي لبث خمسة وثلاثين عاماً معقد النظام والسلامة والأمن والرخاء للأندلس، واستطاعت جموع يسيرة من الدهماء، أن تحقق بسرعة البرق ما لم يجرؤ على تصوره أو محاولته من قبل، أحد من أكابر خصوم الدولة العامرية والمتربصين بها. ومن الواضح أن الأسباب الجوهرية لمثل هذا الانقلاب الصاعق، ترجع قبل كل شىء إلى العوامل الأدبية والنفسية، فقد كان نظام الطغيان المطبق الذي فرضه المنصور على الأمة الأندلسية، بالرغم من كل ما حققه للأندلس من السؤدد والرخاء، يبدو كالكابوس المرهق، وكان الشعب يتوق إلى التخلص من هذا النير، الذي سلبه كل مظاهر الحرية. فلما تولى عبد الرحمن المنصور، كانت النفوس قد أشبعت ببغض هذا النظام والرغبة في زواله، وكان سلوك عبد الرحمن وتصرفاته ومجونه واستهتاره، عاملا جديداً في إذكاء هذا البغض وهذه الرغبة. وكان لاجترائه على اغتصاب ولاية العهد، أسوأ وقع في نفوس قوم جبلوا على تقديس شعائر الخلافة وحقوقها الشرعية. فلما خرج عبد الرحمن إلى الغزو، كان ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 74.

الشعب يضطرم سخطاً وبغضاً وازدراء، وكان يرقب أول بادرة للانفجار. فلما وقعت هذه البادرة بوثوب محمد بن هشام؛ لبى الشعب لفوره دعوة الخروج والثورة، ولم يفكر في شىء من العواقب، ولم يفكر إلا في تحطيم هذا النير البغيض - نير بني عامر - بأية وسيلة. وكان له ما أراد، وقد حقق رغبته بأيسر أمر. على أن الأمة الأندلسية لم تجن خيراً من هذا الانقلاب، الذي حققه الشعب القرطبي دون تدبر ودون تحوط. ذلك لأنه لم يقف عند القضاء على دولة بني عامر، بل بالعكس كان نذيراً بانهيار دعائم النظام والأمن، اللذين تمتعت بهما الأندلس في ظل الدولة المنقضية، ودفع الأمة الأندلسية إلى معترك مروع من الفتن المضطرمة، والفوضى الشاملة، التي انتهت بانهيار حكومتها المركزية، وتمزيق وحدتها، ومواجهتها لأخطر مصير عرفته منذ قيامها في شبه الجزيرة.

الكتاب الرابع سقوط الخلافة الأندلسية ودولة بنى حمود

الكتابُ الرابع سُقوطُ الخلافة الأندلسيّة ودوْلة بَني حمّود 399: 422 هـ- 1009: 1031 م

الفصل الأول الخلافة فى معترك الفتنة والفوضى

الفصل الأوّل الخلافة في معترك الفتنة والفوضى غداة الانقلاب. اقتسام السلطان. الشعب القرطبي. شخصية المهدي. اضطهاده للبربر. تحامل العامة عليهم. نفي المهدي للفتيان العامريين. إخفاؤه للخليفة هشام وادعاؤه بوفاته. عيثه وطغيانه. هشام بن سليمان. سعيه إلى خلع المهدي. القتال بين الفريقين. هزيمة هشام ومصرعه. تحريض المهدي على البربر والفتك بهم. مسيرهم إلى قلعة رباح. يرشحون سليمان بن الحكم للخلافة. استنصارهم بسانشو غرسية أمير قشتالة. الحرب بينهم وبين الفتى واضح. هزيمته وفراره. تأهب المهدي للدفاع. مسير البربر وحلفائهم النصارى إلى قرطبة. موقعة قنتش. هزيمة القرطبيين وتمزيق جموعهم. المهدي يظهر الخليفة هشام. فشل محاولته وفراره. مبايعة سليمان بن الحكم. المهدي وواضح يدبران محاولة جديدة. استنصارهما بأميرى برشلونة وأورقلة. مسير المهدي وحلفائه الفرنج إلى قرطبة. اللقاء بينهم وبين البربر. هزيمة البربر وفرار سليمان. تجديد البيعة للمهدي. مسيره لمطاردة البربر. هزيمته وارتداده إلى قرطبة. استعداده للدفاع. الوحشة بينه وبين واضح. ائتمار الفتيان به ومقتله. عود هشام المؤيد إلى الخلافة. واضح يتولى الحجابة. تمسك البربر بولاية سليمان. مسير البربر إلى الزهراء واحتلالها. عيثهم بأراضي قرطبة. هشام يقدم الحصون الأمامية لأمير قشتالة. حصار البربر لقرطبة. واضح يحاول الفرار. ضبطه ومقتله. ابن وداعة وابن مناو. هشام يحاول استرضاء البربر وسليمان. فشل المحاولة. اشتداد الحصار على قرطبة. مقتل حباسة بن ماكسن. هياج البربر. القتال بينهم وبين أهل قرطبة. هزيمة القرطبيين. اقتحام البربر للمدينة والفتك بأهلها. سليمان المستعين يسترد الخلافة. مصير هشام المؤيد. سليمان يتلقب بالظافر. تفكك عرى الدولة. توزيع الكور بين زعماء البربر. خلال سليمان وشعره. تربع محمد بن هشام الملقب بالمهدي على كرسي الخلافة، مكان الخليفة هشام المؤيد، في 17 جمادى الآخرة سنة 399 هـ (16 فبراير سنة 1009 م)، وانقضى عهد السلطة الثنائية - سلطة الخليفة الشرعي الإسمية، وسلطة حاجبه والمتغلب عليه الفعلية - ليفسح مجالا لعود السلطة الموحدة. ولكن الظروف التي وقع فيها هذا الانقلاب الحاسم، الذي أودى بين عشية وضحاها، بسلطان دولة من أعظم الدول الأندلسية، لم تكن تسمح لأية سلطة نظامية أن تثبت وأن تستقر، فقد كان الخليفة الجديد، شخصية مغامرة رخوة، تحركها النزعات الوضيعة، ولا تحدوها أية غاية مثلى، وقد أطلقت سائر الأهواء المتوثبة من عقالها، وأخذ كل حزب وكل فريق وكل طائفة، تحاول أن تحصل نصيبها من

أسلاب الدولة المنهارة. فقد كان هناك المروانية أو بنو أمية، يرون أنهم أصحاب السلطة الشرعية، وأصحاب التراث المتخلف عن مغتصبيها، بني عامر؛ وكان هناك الفتيان العامريون، وأنصارهم من الصقالبة، ومن إليهم من الجند المرتزقة، وقد كانوا أولياء الدولة العامرية، وكانوا من حيث العدد والعصبية قوة يعتد بها؛ وكان هناك البربر، وقد كانوا عماد الجيش العامري، وكان عددهم قد تضاعف في أواخر أيام المنصور وبنيه، وتوافد كثير من زعمائهم إلى شبه الجزيرة؛ ثم كان هناك أخيراً الشعب القرطبي، أو بعبارة أخرى كتلة العامة والدهماء الذين آزروا الخليفة الجديد والتفوا حوله، وقد كانوا قوة خطرة متقلبة، كثيرة الأهواء والنزعات، لا تؤمن عواقبها. استقبل الشعب القرطبي، ولاية الخليفة الجديد، بمظاهر السرور والرضى، وأقاموا الحفلات والولائم، وظنوا أنهم قد أفلتوا من أغلال النظام العامري المرهق، ليستقبلوا عهداً أكثر تسامحاً، وأوسع آفاقاً، وما دروا أن القدر يتربص بهم، وأن الأندلس سوف تجوز من تلك الساعة، عهداً مليئاً بالمحن والأحداث المؤلمة. والواقع أن الخليفة الجديد لم يكن رجل الموقف، ولم تكن جرأته التي تذرع بها لانتزاع السلطة من هشام المؤيد، والقضاء على سلطان بني عامر، جرأة زعيم مقدام يقدر المسؤوليات التي أخذها على عاتقه، ولكن جرأة مغامر متهور، وزعيم عصابة غير مسؤولة، التفت حوله جموع الدهماء الصاخبة، دون وعي ولا تدبر، شأنها دائماً في كل انقلاب وكل حدث جديد. ومن ثم فإنه ما كاد يشعر باستقرار أمره، وتمكن سلطانه، حتى أطلق العنان لطغيانه وأهوائه، وجمع حوله بطانة سوء، أخذت تتنكر للناس، وتضطهدهم، وتسومهم سوء الخسف، وأبدى الموكلون بالقصر من رجاله نحو البربر بنوع خاص منتهى الشدة والفظاظة، وكان المهدي ورجاله يخصون البربر بالبغض والزراية، لأنهم كانوا عضد المنصور، وسند نظامه الحديدي، وكان أهل قرطبة ينساقون مع المهدي في هذه العاطفة ضد البربر، وينظرون إليهم شزراً. وبدا سخط المهدي نحو البربر في سوء معاملتهم، والتشدد في دخولهم القصر، فكانوا يمنعون من الركوب عند الدخول، وينزع سلاحهم، ويوجه إليهم قارص

الكلام، ولم يفرق في ذلك بين أصاغرهم وزعمائهم، حتى أن كبيرهم زعيم قبيلة صنهاجة، زاوي بن زيري بن مناد، عند مقدمه إلى القصر، مع جماعة من رجاله، ردوا عند الباب بفظاظة، وأهينوا، فانصرفوا وقلوبهم تضطرم سخطاً. وسرت إلى العامة عندئذ، موجة من التحامل ضد البربر، فهاجمت بعض جموعهم دور البربر في ضاحية الرُّصافة، ونهبوا بعضها، وبادر صاحب المدينة بضبط الحال ورد الغوغاء، وقتل ثلاثة منهم. وأسرع زاوي بن زيري، وحبوس بن ماكسن، وأبو الفتوح بن ناصر، وغيرهم من زعماء البربر بالدخول على محمد بن هشام، وأخبروه بما وقع, فاعتذر لهم، ووعدهم برد ما نهب، وقتل عدد من الغوغاء، ولكن البربر لم تهدأ ثائرتهم، وبقيت نفوسهم على اضطرامها. وكان من أعمال العنف التي قام بها محمد بن هشام، أن نفى عدداً من الفتيان الصقالبة العامريين. فغادروا قرطبة، ولجأوا إلى أطراف الأندلس الشرقية، وكان من تملكهم لبعض نواحيها ومدنها ما سنذكر في موضعه. ولم يقبل منهم على مسالمة محمد بن هشام ومصادقته، سوى الفتى واضح صاحب مدينة سالم والثغر الأوسط، فإنه بعث إليه كتاباً يؤكد فيه طاعته، ويبدي ابتهاجه بمصرع عبد الرحمن المنصور، فرد عليه المهدي بالشكر، وبعث إليه أموالا ومتاعاً، ومرسوماً بولاية الثغر كله. وعمد محمد بن هشام بعد ذلك إلى مطاردة الخليفة هشام المؤيد، فحبسه في القصر أولا، وأخرج جواريه وفتيانه، ودوابه المحبوبة، ثم أخرجه بعد ذلك من القصر، وأخفاه في بعض منازل قرطبة. وتوفي في ذلك الوقت رجل نصراني أو يهودي، قيل إنه كان يشبه هشاماً شبهاً قوياً، فأعلن محمد بن هشام، وفاة الخليفة، وأحضر الوزراء والفقهاء فشهدوا بأنه هو الخليفة هشام المؤيد حقاً. ودفن هذا الخليفة المزعوم في اليوم السابع والعشرين من شعبان سنة 399 هـ (¬1). ولما شعر محمد بن هشام أن الأمر قد استتب له، أطلق العنان لأهوائه، وشهواته الوضيعة، وانكب على معاقرة الخمر، وبالغ في الاستهتار والمجون، والمجاهرة بالفسق والفجور، بصورة مثيرة أفقدته عطف الكثيرين واحترامهم، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 77؛ وابن الأثير ج 8 ص 252.

وبطش بكثير من الناس، وفي مقدمتهم ولي عهده سليمان بن هشام، فقد سجنه وسجن معه جماعة من قريش، وأخرج من الجيش نحو سبعة آلاف جندي، أقيلوا وقطعت أرزاقهم، وأضحوا عنصراً من عناصر التوتر والشغب؛ وزاد في التحامل على البربر، والتعريض بهم والطعن فيهم، في كل فرصة وموطن، حتى أصبح بغضه لهم، وتربصه بهم، من الأمور الذائعة، وأخذ كل فريق يحترز من صاحبه، ويتوقع منه الشر والغدر. وكان هشام بن سليمان بن الناصر، وهو والد سليمان ولي العهد المعتقل، قد وجد على محمد بن هشام من جراء انحرافه وطغيانه ومجونه، وخشي سوء العاقبة على بني أمية، وانهيار أمرهم، فأخذ يسعى في خلع محمد بن هشام، وانضم إليه جماعة من الناقمين عليه، وفي مقدمتهم جماعة العبيد العامريين، وطوائف البربر، ومن تغيرت نفوسهم على محمد بن هشام، وحاصر الثوار محمد بن هشام في قصره، فبعث إلى هشام القاضي ابن ذكوان، وأبا عمر بن حزم، يعاتبانه على تصرفته، وأمر بالإفراج عن سليمان بن هشام، ووقع بين الرسولين وبين هشام حوار شديد، أعلن فيه أنه أحق من محمد بالعرش، فانصرفا عنه. والتفت العامة من الربض الغربي حول محمد؛ وخرج محمد المهدي في جموعه لمقاتلة خصومه، ودار القتال بينهما يومين متواليين، ثم أسفرت المعركة عن هزيمة هشام وجموعه من البربر والعامريين، وأسر هشام وابنه وأخوه أبو بكر ونفر من الزعماء، قتلهم المهدي جميعاً (¬1). وانثالت الدهماء على دور البربر، فأعملت فيها التدمير والنهب حتى دخل الليل، وكان ذلك في أواخر شوال سنة 399 هـ (يونيه سنة 1009 م). ودافع البربر عن أنفسهم، ثم انسحب معظمهم إلى أرملاط (¬2) ضاحية قرطبة، ووقع القتال بقرطبة بين من تبقى منهم وبين العامة، وحرض المهدي على قتلهم، وجعل لرؤوسهم أثماناً، ففتك العامة بكثير منهم، ومن بينهم عدة من الزعماء، ونهبوا دورهم، واغتصبوا النساء وسبوهن، كل ذلك في مناظر مثيرة من السفك والاعتداء الغاشم؛ واختفى كثير من زعمائهم. وتوجس المهدي من العواقب، فأصدر للبربر أماناً، ونادى بالكف عنهم، ونصحهم بتغيير زيهم اتقاء ¬_______ (¬1) البيان المغرب عن ابن حيان ج 3 ص 84. (¬2) وهي بالإسبانية Guadimellato

الأذى، وكتب إلى البربر في أرملاط أماناً، فم يلتفتوا إليه، وغادروا أرملاط وساروا شمالا إلى قلعة رباح، وهناك أخذوا ينظمون أنفسهم ويتدبرون أمرهم. وكان ممن فر من بني أمية عقب هزيمة هشام بن سليمان ومصرعه، ولد أخيه سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، وكان إماماً للبربر، فسار معهم، ورشحوه منذ البداية لتولي الأمر مكان المهدي، ولقبوه بالمستعين. وكان سانشو غرسية أمير قشتالة يرقب تطور الحوادث في قرطبة باهتمام، متأهباً لمظاهرة الفريق الخارج على الآخر، ففاوضه سليمان وزعماء البربر في طليطلة على أن يمدهم بالجند، وتعهدوا إليه بتسليم بعض الحصون الواقعة على الحدود، فقبل معاونتهم؛ وفي أثناء ذلك حاول الفتى واضح صاحب مدينة سالم أن يعرقل مسير البربر، فأمر مدن الثغر أن تمنع المؤن عن البربر، ولقوا من جراء ذلك شدة وإرهاقاً. وأمده المهدي ببعض قواته بصحبة غلامه بليق، فجمع جموعه وسار لقتال البربر، ولجأ البربر من جانبهم إلى حليفهم سانشو، فأمدهم بالجند والمؤن الوفيرة. والتقى البربر وجيش واضح في مكان يسمى شرنبة على مقربة من قلعة النهر أو قلعة هنارس الحالية Alcala de Henares فهزم واضح هزيمة شنيعة، واستولى البربر على محلته وسلاحه، وفرت فلوله صوب قرطبة. وكان ذلك في شهر ذي الحجة سنة 399 هـ (¬1). وارتاع المهدي لتلك الهزيمة، وأخذ في تحصين قرطبة، وحفر حول فحص السرادق، وهو محلة البربر خندقاً، ورتب الرجال على الأبواب والأسوار، وأخذ ينظم قواته النظامية ومن العامة. وكان واضح قد أتاه منهزماً في أربعمائة فارس من الثغر، انضمت إلى قواته. وسار سليمان بن الحكم من جهة أخرى في جموع البربر، ومعها القوات القشتالية بقيادة سانشو غرسية، صوب قرطبة، وعسكروا بشرقها في سفح جبل يعرف بجبل قنتج أو قنتش وذلك في يوم 11 ربيع الأول سنة 400 هـ. وبرز واضح في جموعه من أهل قرطبة والثغر، واشتبك الفريقان في القتال يوم السبت 13 ربيع الأول (5 نوفمبر 1009 م)، واضطرمت بينهما معركة شديدة، وسرعان ما دب الخلل إلى جيش قرطبة، فارتد منهزماً إلى الوادي، وتبعه البربر بعنف. فضاقت بهم المسالك، وقتل منهم عدد جم ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 87.

يقدره البعض بعشرة آلاف، بينهم عدد كبير من العلماء والأئمة، وقتل النصارى وحدهم نيفاً وثلاثة آلاف رجل، وثبت واضح في رجاله حتى دخل الليل، فانسل تحت جنح الظلام وفر هارباً إلى الثغر (¬1). ولما رأى المهدي هزيمة جنده، سقط في يده، وحاول أن ينقذ نفسه بحيلة سخيفة، يدفع بها دعوى سليمان، فأظهر الخليفة هشاماً المؤيد، وكان قد أخفاه حسبما تقدم، وزعم أنه مات، وأجلسه في مكان بارز في شرفة القصر، وبعث القاضي ابن ذكوان إلى البربر، يخبرهم أن الخليفة هشاماً ما زال على قيد الحياة، وأنه الإمام الشرعي، وليس المهدي سوى نائبه وصاحبه، فرده البربر بجفاء وسخرية، وأبدوا تمسكهم بولاية سليمان. ولم ير المهدي أمامه سوى الفرار والنجاة بحياته، فغادر القصر سراً، واخترق قرطبة متنكراً، ولحق بطليطلة. ودخل زاوي بن زيري زعيم البربر القصر، ودخل سليمان بن الحكم في أثره في يوم الإثنين الخامس عشر من ربيع الأول سنة أربعمائة، وبايعه الناس بالخلافة، وتلقب بالمستعين بالله، واستقبله الشعب القرطبي القُلَّب بحماسة، شأنه مع كل متغلب وظافر (¬2). ووكل سليمان بعض الفتيان الصقالبة بالمحافظة على هشام المؤيد في بعض أجنحة القصر، ونزل البربر في الزهراء اتقاء للاحتكاك مع العامة. ومع ذلك فقد كانت حوادث الاعتداء تتوالى عليهم في دروب قرطبة وأزقتها. وكان من أول أعمال سليمان أن أمر بإنزال جثة عبد الرحمن بن المنصور عن خشبتها، فغسلت ودفن في دار أبيه؛ ووفد سانشو غرسية إلى القصر، فاستقبل بحفاوة وخلع عليه وعلى أصحابه، ثم عاد إلى معسكره، ووعده البربر بتسليم الحصون التي تعهدوا بتسليمها متى استقر سلطانهم، ثم غادر قرطبة بعد أن ترك من جنده مائة أنزلوا في ربض منية العقاب. أما محمد المهدي فما كاد يصل إلى طليطلة، حتى أخذ يدبر أمره من جديد، وكانت الثغور ما تزال باقية على طاعته ودعوته، وانضم إليه واضح وأخذ الأمر ييده. ولما علم سليمان بما يدبره المهدي وواضح، خرج في قواته من قرطبة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 90؛ ويقول ابن الخطيب إن النصارى قتلوا من أهل قرطبة ثلاثين ألفاً، وهو رقم يحمل طابع المبالغة (أعمال الأعلام ص 113). (¬2) الذخيرة لابن بسام. المجلد الأول القسم الأول، ص 30 و31؛ والبيان المغرب ج 3 ص 89 و90.

وسار صوب طليطلة، ثم دعا أهلها إلى طاعته، فأبوا. وانصرف سليمان بقواته إلى مدينة سالم، فلقي نفس الفشل في استمالة أهلها، فارتد عندئذ إلى قرطبة اتقاء لأهوال الشتاء (أواخر شعبان سنة 400 هـ). وفي خلال ذلك كله كان الفتى واضح قد سار إلى طرطوشة من ثغور الثغر الأعلى، واتصل بأمير برشلونة الكونت رامون بوريل وزميله أمير أورقلة الكونت أرمنجو، واتفق معهما على أن يمداه بجيش لمقاتلة البربر في قرطبة، فقبلا معاونته بشروط باهظة، من تقديم الطعام والشراب، وأن يتناول كل منهما في اليوم مائة دينار، وأن يتناول كل جندي دينارين في اليوم، وأن يستولي الجند النصارى على ما يغنمونه من سلاح البربر وأموالهم، وأخيراً أن يستولوا على مدينة سالم، وقد احتلوها بالفعل في طريقهم إلى طليطلة، بعد أن أخلاها واضح من المسلمين (¬1). وسار الجيش الفرنجي برفقة واضح إلى طليطلة، حيث انضم إليه المهدي في قواته، وسارت القوات المتحدة صوب قرطبة. وكان سليمان المستعين قد وقف على أهبة خصومه، ووفرة القوات الزاحفة عليه، فاستنفر الناس لنصرته، فلقيت دعوته فتوراً، فحشد ما استطاع من جموعه، وخرج مع البربر لملاقاة خصومه. وكان اللقاء على قيد نحو عشرين كيلومتراً من شمالي قرطبة في مكان يعرف " بعقبة البقر "، وذلك في منتصف شوال سنة 400 هـ (أواخر مايو سنة 1010 م)، واحتل البربر بقيادة زعيمهم زاوي بن زيري المقدمة، ورابط سليمان بقواته في المؤخرة. واقتتل البربر مع الفرنج قتالا شديداً، قتل فيه كثير منهم، وفي مقدمتهم الكونت أرمنجو (وتسميه الرواية العربية أرمقند)، ولكن جانباً من فرسان الفرنج اخترقوا صفوف البربر، فظن سليمان أن الهزيمة وقعت بهم فارتد منهزماً وكشف بذلك مؤخرة البربر، فلما رأى البربر فرار سليمان بقواته، ارتدوا لفورهم نحو الزهراء، فأخذوا أهلهم وأموالهم وغادروها إلى الجنوب مسرعين، وفر سليمان في بقية من صحبه شرقاً صوب شاطبة. وفي اليوم التالي دخل واضح ومحمد المهدي قرطبة، وجدد المهدي البيعة لنفسه وعين واضحاً لحجابته (¬2). واعتزم المهدي أن يقضي على البربر قبل أن يعودوا لمقارعته. فجمع الأموال ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 94. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 94 و95؛ والذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 32.

من أهل قرطبة، وأعطى الفرنج أعطياتهم، وحشد كل ما استطاع من قواته، وخرج لمطاردة البربر. وكان البربر قد وصلوا عندئذ إلى " وادي آره " أو وادي يارو (¬1). على مقربة من مربلة في طريقهم إلى الجزيرة الخضراء. وكان جيش المهدي يتكون من نحو ثلاثين ألف من المسلمين، وتسعة آلاف من الفرنج. وهناك التقى الجمعان، واشتبكا في معركة طاحنة، دارت فيها الهزيمة على المهدي وحلفائه، وقتل من الفرنج نحو ثلاثة آلاف، وغرق منهم عدد جم، واستولى البربر على كثير من أسلحتهم وخيلهم ومتاعهم (¬2)، ووقعت هذه الموقعة، في شهر ذي القعدة سنة 400 هـ (يونيه 1010 م)، وعلى أثرها ارتد المهدي إلى قرطبة، وهنالك غادره حلفاؤه النصارى عائدين إلى بلادهم. وسار البربر جنوباً إلى ناحية ريُّه، وهنالك لحق بهم سليمان المستعين بمن معه. وأخذ الفريقان يدبران معاً استئناف الصراع للاستيلاء على قرطبة. وعكف المهدي على تحصين قرطبة، وحفر حولها خندقاً، أقيم وراءه سور، وأخذ يستعد للدفاع، ويحشد الجند توقعاً لمعاودة البربر الكرة. وكانت جموع من البربر في أثناء ذلك تغير على نواحي قرطبة من آن لآخر. وفي أثناء ذلك كان واضح قد ضاق ذرعاً بتصرفات المهدي وحماقاته، وسوء خلقه من عكوف على الشراب والمجون. وكان الفتيان العامريون وفي مقدمتهم واضح جميعاً ينقمون على المهدي ما فعله بهشام المؤيد، وبني عامر، وكان قد وصل إلى قرطبة جملة منهم من شاطبة، وفيهم بعض الفتيان البارزين مثل خيران وعنبر، فأتمروا على الغدر بالمهدي، وأخرجوا هشاماً من محبسه بالقصر، وأجلسوه للخلافة ونادوا بولايته، وأتوا بالمهدي بين يديه، فضرب عنقه، واحتز رأسه، وألقى بجسده من أعلى السطح، ورفعوا رأسه على قناة طيف بها في الشوارع، ووقعت هذه الجريمة في الثامن من ذي الحجة سنة 400 هـ (23 يوليه 1010 م) (¬3). وهكذا استرد هشام المؤيد الخلافة، بعد سلسلة من الخطوب والأحداث المثيرة، وكان يومئذ كهلا في نحو السابعة والأربعين من عمره، وكان قد مضى ¬_______ (¬1) وبالإسبانية Guadiaro (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 96؛ وأعمال الأعلام ص 113. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 150؛ وابن الأثير ج 8 ص 226؛ والذخيرة القسم الأول، المجلد الأول ص 32؛ والبيان المغرب ج 3 ص 96 و99 و100.

عليه مذ ولى الخلافة صبياً لأول مرة أربعة وثلاثون عاماً، وفي تلك الفترة شهدت الأندلس طائفة من الأحداث الجسام، لم تشهد مثلها من قبل: شهدت قيام الحاجب المنصور ودولته العامرية، واختفاء سلطة الخلافة، في ظل نظام الطغيان المرهق الذي فرضه بنو عامر، ثم شهدت الثورة الغامرة التي أطاحت بالدولة العامرية وعود الخلافة الأموية في ثوبها الباهت المهلهل، على يد مغامرين مثل محمد بن هشام المهدي، وسليمان المستعين، وشهدت وفاة هشام المزعومة، ثم بعثه، وعوده إلى تولي الخلافة، شبحاً من أشباح الماضي، وألعوبة في يد واضح وزملائه الفتيان العامريين، أصحاب الحول والسلطان، بعد ابتعاد البربر ومصرع المهدي. وتولى واضح بالطبع منصب الحجابة للخليفة الذي اصطنعه، وسكنت الفتنة، وهدأت الخواطر نوعاً، وبعث الخليفة برأس المهدي إلى سليمان المستعين وحلفائه البربر، وكتب إليهم يدعوهم إلى طاعته، وأخذ يظهر في شوارع قرطبة خلافاً لما كان عليه فيما مضى، إظهاراً لهيبة الخلافة وسلطانها. ولكن البربر لم يقبلوا دعوته، وأبدوا تمسكهم بولاية سليمان، وكان البربر في الواقع يضطرمون حقداً على أهل قرطبة لما أصابهم منهم من أنواع النكال، ويزمعون الانتقام منهم بكل وسيلة. وحاول سليمان والبربر أن يحصلوا مرة أخرى على معاونة سانشو غرسية أمير قشتالة، وعرضوا أن يسلموه سائر الحصون الأمامية التي افتتحها الحكم والمنصور، إذا ارتضى محالفتهم ومعاونتهم على استعادة قرطبة، وخلع المؤيد، ولكن سانشو لم يصغ إليهم في تلك المرة، معتزماً أن يوجه مطالبه إلى الخليفة القائم. وعندئذ عول البربر على السير إلى قرطبة، فسارت جموعهم حتى وصلت إلى الزهراء غربي قرطبة، فهاجموها وقتلوا معظم الجند الذين بها، واحتلوها وذلك في شهر ربيع الأول سنة 401هـ (نوفمبر سنة 1010 م)، واستمروا بها بضعة أشهر حتى أواخر شعبان من تلك السنة، ثم زحفت جموعهم على أرباض قرطبة، يعيثون فيها تخريباً ونهباً وقتلا، ويجتنبون الاشتباك مع جند واضح، وضج أهل قرطبة لهذا الاعتداء، وزادت نفوسهم حقداً على البربر، وتحرقاً للانتقام منهم، وانتشرت جموع البربر في نفس الوقت جنوباً، حتى وصلت إلى أحواز غرناطة ومالقة وهي تنشر الخراب والدمار أينما حلت.

وفي تلك الأثناء وصل سفراء سانشو غرسية أمير قشتالة إلى قرطبة، يطالبون بالحصون الواقعة على الحدود، والتي افتتحها المسلمون منذ أيام الحكم حتى نهاية عهد بني عامر. ولم ير هشام وواضح بداً من إجابة سانشو إلى طلبه، اتقاء لعدوانه من جهة، واتقاء لتحالفه مع البربر من جهة أخرى. وعقد مجلس من الفقهاء والقضاة، وكتب محضر رسمي بتسليم عدد كبير من الحصون إلى النصارى، يقال إنها أربت على المائتين (¬1)، ومنها معاقل هامة، كانت قواعد أمامية للمسلمين، مثل شنت إشتيبن، وقلونية، وأوسمة، وغرماج وغيرها، وخسرت الأندلس بذلك خط دفاعها الأول، وتركت حدودها الأمامية مفتوحة لغزوات النصارى. واستمر البربر على حصارهم لقرطبة، وعيثهم في أرباضها الخارجية، وكانت الحالة تسوء من يوم إلى يوم، وكان الناس في قرطبة، جيشاً وشعباً، يزمعون مقارعة البربر، والقضاء عليهم بكل ما وسعوا، ويرفضون كل رأي أو مسعى يتجه إلى مسالمتهم أو التفاهم معهم، ولم يجد المؤيد وواضح بداً من الانسياق مع التيار العام، واتخاذ كل وسيلة ممكنة للدفاع عن المدينة، ولكن الموارد كانت تقل يوماً عن يوم، حتى اضطر المؤيد إلى إخراج سائر نفائس القصر وتحفه ورياشه، ليقتني بثمنها الخيل والسلاح، وفضلا عن ذلك فقد أرهق القرطبيون بالمطالب والمغارم حتى ضاقوا ذرعاً؛ وأخيراً شعر واضح بأنه يواجه حالة مستحيلة، واعتزم أن يغادر قرطبة سراً، إلى بعض نواحي الثغر، ولكن بعض أكابر الجند وقفوا على مشروعه، فنهض أحدهم، وهو على بن وداعة مع نفر من زملائه، فعاتبوه على ما بدد من الأموال، وما أساء من تصرف، ثم قتلوه واحتزوا رأسه، وطيف بها في الشوارع، ونهبت دوره ودور أصحابه، فوجد بها مال كثير معبأ كان يعتزم الفرار به. وهكذا كفر واضح بدمه عن جريمته في اغتيال المهدي، وهكذا أضحت الجريمة وسيلة ذائعة في بلاط قرطبة، لاقتناص السلطان أو التخلص من صاحبه (¬2). وعلى أثر ذلك ولى المؤيد ابن وداعة شرطة المدينة، فاستعمل الحزم والشدة، في قمع الشغب وصون النظام والأمن، فهابته العامة، وقلت حوادث الشغب، وتولى تدبير الأمور للمؤيد رجل من موالي العامريين يسمى ابن مناو؛ ثم جاءت ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 117. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 103 و104؛ وأعمال الأعلام ص 117 و118.

إلى قرطبة كتب من أهل الثغور يعتذرون فيها عن عجزهم عن إرسال الأمداد، وينصحون المؤيد إما بمصالحة البربر، أو التفاوض مع أمير قشتالة؛ فكتب هشام إلى زاوي بن زيري يحثه على عقد الصلح، ويعده بما شاء من مال أو ولاية، فرد زاوي بأنه لايستطيع مخالفة أصحابه، وأنه مع ذلك لايدخر وسعاً في العمل لتأليف كلمة المسلمين وحقن الدماء (¬1). ثم بذلت محاولة مماثلة لدى سليمان بن الحكم والبربر، إذ كتب أهل قرطبة على لسان هشام وابن مناو كتابين، وجه أحدهما من هشام إلى سليمان، وفيه يرجو العمل على إخماد الفتنة، وتسليم الأمر إليه، وعلى أن يغدو سليمان ولي عهده والقائم بأعباء الخلافة عنه، ووجه الثاني من وزراء قرطبة إلى وزراء البربر، فلم يحفل سليمان بكتاب هشام، وقال للرسل بل إنه هو أمير المؤمنين والخليفة، وأنه لا يعترف لهشام بصفة ما. كل ذلك والأمر يشتد على أهل قرطبة. ودخل الوزراء ووجوه الجند والفتيان على هشام، وكشفوا له خطورة الحالة، واشتداد ضغط البربر على المدينة وأرباضها، وتفاقم الضيق والغلاء، وقصور الثغور عن إنجاد المدينة، وكون الشعب منقسم على نفسه ما بين راغب في الكفاح، وراغب في الصلح، فبكى هشام فيما قيل، واعتذر لعجزه وقصوره، وقال لهم افعلوا ما ترون. وعجل باضطرام النار حادث وقع في آخر ذي الحجة سنة 402 هـ، إذ تقدم جماعة من وجوه البربر وفي مقدمتهم حباسة بن ماكسن ابن أخي زاوي، وكان من أشجع قادة البربر، ومعه جماعة قليلة من الفرسان، ونزلوا في بقعة قريبة من الأسوار، فرآهم أهل قرطبة من وراء الخندق، فاجتمع منهم عدد عظيم، وانقضوا على حباسة وصحبه، فدافعوا عن أنفسهم دفاعاً عظيماً، ولكنهم غلبوا في النهاية على أمرهم، وأسر حباسة، فلما عرفه القوم قتلوه بوحشية، وقطعوا جسده إرباً لعظيم حقدهم عليه، ولما قاسوه من شدة قتاله ونكايته، فلما وقف أخوه حبوس وعمه زاوي على الخبر، اضطرب البربر، واستعدوا للقتال، وفي اليوم التالي اشتبكوا مع أهل قرطبة في عدة معارك، وفتكوا بكثير منهم، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 107 و108.

واستمرت المعارك من ذلك الحين بين الفريقين سجالا، وأهل قرطبة يخرجون من المدينة مرة بعد أخرى، ويقاتلون البربر محاولين تحطيم الحصار المرهق، والبربر من جانبهم ينزلون بهم أشد الضربات، وفي 26 شوال سنة 403 هـ (مايو سنة 1013 م) نشبت بين الفريقين معركة عامة، وقاتل أهل قرطبة قتالا شديداً، ولكنهم هزموا بعد معارك طاحنة، وقتل منهم عدد جم، وساد الاضطراب أرجاء المدينة، وفتحت أبوابها؛ وخرج القاضي ابن ذكوان مع جماعة من الفقهاء وساروا إلى معسكر البربر، وطلبوا الأمان من سليمان وزعماء القبائل البربرية، فمنح الأمان لقاء مبالغ عظيمة فرضت على المدينة، ودخل البربر المدينة دخول الوحوش المفترسة، فقتلوا كثيراً من سكانها، ولم يفروا الأطفال والشيوخ، وأوقعوا بها السلب والنهب، وأحرقوا الدور، واغتصبوا النساء والبنات، وارتكبوا أشنع ضروب السفك والإثم، وكانت محنة من أروع ما قاسته عاصمة الخلافة. وفي اليوم التالي دخل سليمان المستعين قصر قرطبة، واستدعى هشاماً المؤيد وعنفه على موقفه، فاعتذر بأنه مغلوب على أمره. وهنا تختلف الرواية في مصير هشام، فالبعض يقول إن سليمان أخفاه حيناً، ثم قتله ولده محمد بن سليمان، والبعض الآخر بأنه فر من محبسه، وقصد إلى ألمرية حيث عاش حيناً في خمول وبؤس حتى توفي. بيد أننا نرجح الرواية الأولى، وإن كان اسم هشام سوف يظهر بعد ذلك على مسرح الحوادث. (¬1) ولما استتب الأمر لسليمان، وهدأت الخواطر نوعاً، تلقب بالظافر بحول الله مضافاً إلى المستعين، وانتقل إلى مدينة الزهراء بحاشيته وقواد البربر وجندهم، فاحتلوها وما حولها، ونزل علي والقاسم ابنا حمود قائدا فرقة العلوية بشقندة ضاحية قرطبة، وأخذ سليمان ينظم شئون الحكومة المضطربة. وكانت الفوضى قد سرت إلى جميع النواحي، وتفككت عرى الدولة، وقصر نفوذ الحكومة إلا عن قرطبة وما يجاورها، وقبض البربر الذين رفعوا سليمان إلى العرش، على السلطة الحقيقية، فتولوا مناصب الحجابة والوزارة، وسائر المناصب الهامة؛ ورأى سليمان إرضاء لهم من جهة، وإبعاداً عن قرطبة من جهة أخرى، ¬_______ (¬1) راجع في سقوط قرطبة ومصير هشام، ابن خلدون ج 4 ص 151؛ وابن الأثير، ج 9 ص 75 والمراكشي ص 22 - 25؛ وأبو الفدا ج 2 ص 139؛ والبيان المغرب ج 3 ص 112 و113؛ وأعمال الأعلام ص 118 - 120.

يقطعهم كور الأندلس، وكانوا ست قبائل رئيسية، فأعطى قبيلة صنهاجة وزعماؤها بني زيري، ولاية البيرة (غرناطة)، وأعطى مغراوة جوفي البلاد، وبني برزال وبني يفرن ولاية جيان ومتعلقاتها، وبني دُمَّر وازداجة منطقة شذونة ومورور؛ وأقر المنذر بن يحيى التجيبي على ولاية سرقسطة والثغر الأعلى، وكان قد انضم إلى سليمان، وحارب مع البربر من أجل قضيته، وولى بني حمود الأدارسة ثغور المغرب، فولى علياً بن حمود على ثغر سبتة، وأخاه القاسم بن حمود على ثغور الجزيرة الخضراء، وطنجة وأصيلا، وهكذا سيطر البربر على ولايات الأندلس الجنوبية والوسطى، وأخذوا يحتلون في شئونها مكانة لها خطرها (¬1). وكان الفتيان العامريون لما رأوا غلبة البربر على حكومة قرطبة الجديدة، قد توجسوا من غدرهم، وفر معظمهم إلى شرقي الأندلس، بعيداً عن سلطان الحكومة المركزية، وأنشأوا هنالك في القواعد الشرقية، حكومات محلية حسبما نذكر بعد. وقضى سليمان المستعين في الحكم للمرة الثانية نحو ثلاثة أعوام، استمرت خلالها حال الاضطراب والفوضى في قرطبة وسائر أنحاء الأندلس. ولم تهدأ الخواطر ولم تطمئن النفوس. وغلب سلطان البربر، واشتد طغيانهم وتحكمهم، ولبثت الأهواء المتوثبة تجيش في صدور الطامعين من زعمائهم، حتى تمخضت غير بعيد عن انقلاب جديد في مصاير الخلافة. وكان من أبرز صفات سليمان، مواهبه الأدبية الرفيعة، فقد كان أديباً متمكناً، وشاعراً مطبوعاً، قال فيه ابن بسام إنه " أحد من شَرُف الشعر باسمه، وتصرف على حكمه " وأورد له القصيدة الآتية، وهي الوحيدة التي عثر بها من نظمه، وفيها يعارض قطعة الرشيد " ملك الثلاث الآنسات عناني " وفيها تبدو براعته ورقة خياله: عجباً يهاب الليث حد سناني ... وأهاب لحظ فواتر الأجفان فأقارع الأهوال لا متهيباً ... منها سوى الإعراض والهجران وتملكت نفسي ثلاث كالدمى ... زهر الوجوه نواعم الأبدان ككواكب الظلماء لُحن لناظري .. . من فوق أغصان على كثبان هذي الهلال، وتلك بنت المشترى ... حسناً وهذي أخت غصن البان ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 113 - 115؛ وأعمال الأعلام ص 119.

حاكمت فيهن السلو إلى الصبا ... فقضى بسلطان على سلطاني فأبحن من قلبي الحمى وتركنني .. . في عز ملكي كالأسير العاني لا تعذلوا ملكاً تذلل للهوى ... ذل الهوى عزٌّ وملك ثاني ما ضر أني عبدهن صبابة ... وبنو الزمان وهن من عبداني إن لم أصغ فيهن سلطان الهوى ... كلفاً بهن فلست من مروان وإذا الكريم أحب أمَّن إلفه ... خطب القلى وحوادث السلوان وإذا تجارى في الهوى أهل الهوى ... عاش الهوى في غبطة وأمان (¬1) ¬_______ (¬1) ابن بسام في الذخيرة. المجلد الأول القسم الأول ص 33 و34؛ والمراكشي ص 25.

الفصل الثانى دولة بنى حمود

الفصل الثاني دولة بني حمُّود ظهور البربر في الميدان. علي والقاسم ابنا حمود. بنو حمود ونسبتهم. ولاية الثغور بين البربر والفتيان العامريين. استيلاء البربر على قرطبة باسم سليمان. خيران العامرى ينتزع ألمرية ويدعو للمؤيد. علي بن حمود يزعم أنه تلقى ولاية العهد من هشام. تحالفه مع خيران وعبوره إلى الجزيرة. مسير القوات المتحالفة إلى قرطبة. القتال بينها وبين البربر. هزيمة البربر وسليمان. علي بن حمود يدخل القصر. اشتداده في معاملة البربر. خيران يخرج عليه ويدعو لعبد الرحمن المرتضى. انضمام الثغور الشرقية وسرقسطة لهذه الدعوة. القتال بين المرتضى وصنهاجة. انتصار البربر ومقتل المرتضى. اضطهاد علي لأهل قرطبة. مصرعه. أخوه القاسم يخلفه. جنوحه إلى سياسة اللين والتفاهم. غلبة البربر عليه. خروج يحيى بن علي واستيلاؤه على الخلافة. التجاء القاسم إلى إشبيلية. خلع المعتلي وعود القاسم. اصطفاؤه للبربر. سخط أهل قرطبة. محاربتهم وهزيمتهم للبربر. مسير القاسم إلى إشبيلية ثم إلى شريش. يحيى المعتلي يطارده ويأسره. إستقرار المعتلي في الثغور الجنوبية. رد الأمر لبني أمية. خلافة عبد الرحمن المستظهر. وصف ابن حيان لبلاطه. عطفه على البربر. فتك القرطبيين بهم. فرار المستظهر ومصرعه. خلافة المستكفي. إضطهاده للزعماء. خلعه وفراره. يحيى بن حمود يحتل قرطبة. فتك القرطبيين بالحامية البربرية. رد الأمر لبني أمية. بيعة هشام المعتد بالله. وزيره حكم بن سعيد. سوء مسلكه ومصرعه. خلع هشام ومصيره. الإجماع على إبطال الخلافة والتخلص من بني أمية. استيلاء يحيى المعتلي على قرمونة. الحرب بينه وبين ابن عباد. هزيمة يحيى ومصرعه. خلافة إدريس المتأيد بالله. غزو إدريس وحلفائه لأحواز إشبيلية. الحرب بين زهير العامري وباديس أمير غرناطة. مصرع زهير. الحرب بين ابن عباد والبربر. هزيمة ابن عباد ومقتل ولده إسماعيل. وفاة إدريس وخلافة ولده يحيى. خروج حسن بن يحيى ومبايعته بالخلافة. مقتل الوزير ابن بقنه. مصرع حسن. محاولة الحاجب نجا ومصرعه. خلافة إدريس العالي. الثورة عليه وخلعه. خلافة محمد بن إدريس المهدي. طغيانه والسخط عليه. مصرعه. خلافة إدريس السامي. عودة إدريس العالي. خلافة المستعلي. إستيلاء باديس على مالقة. حكومة بني القاسم بن حمود بالجزيرة. إستيلاء ابن عباد على الجزيرة. إنقراض دولة بني حمود. تفكك الأندلس وانقسامها. لما قضي على دولة الأدارسة بالمغرب الأقصى أيام الحكم المستنصر، ثم بعد ذلك أيام المنصور بن أبي عامر، وأصبح المغرب ولاية أندلسية تخضع لحكومة قرطبة، تفرق كثير من زعمائه في مختلف الجهات، ولاذوا بالاختفاء، بعيداً عن بطش السلطة الجديدة، وأخذوا يرقبون الفرص لاستعادة سلطانهم؛ وهاجر

عدد كبير منهم إلى الأندلس، من البربر والمغاربة، وانضووا تحت لواء الدولة العامرية في أواخر عهدها، وعاونوا في توطيد سلطانها وتدعيم جيشها. ولما انهارت الدولة العامرية، وعم الاضطراب والفوضى في قرطبة، ظهر البربر طرفاً بارزاً من أطراف المعركة، التي اضطرمت حول السلطان والخلافة؛ ولما نجح بنو أمية في تحقيق ضربتهم الأولى على يد محمد بن هشام المهدي، انحاز البربر للفريق المعارض، لما نالهم من مطاردته واضطهاده، وكانت الخصومة تضطرم في الواقع منذ بعيد بين الأمويين والبربر، لاعتقاد الأمويين أن البربر كانوا أكبر عضد للمنصور، في اغتصاب السلطة والقضاء على سلطان بني أمية. ولما فشل البربر في محاولتهم الأولى للقضاء على رياسة المهدي، التفوا حول خصيمه سليمان المستعين، ليكون مرشحهم الشرعي، ووسيلتهم إلى انتزاع السلطة، وانتهى الصراع بين الفريقين، آخر الأمر بانتصار البربر، واستيلاء مرشحهم سليمان على الخلافة، وحصولهم على نصيبهم من أسلاب السلطة،، بتولي رياسة الولايات والثغور الجنوبية. وكان من بين الزعماء المغاربة، الذين قادوا جموع البربر في معركة قرطبة المظفرة، رجلان من عقب الأدارسة، هما علي والقاسم ابنا حمُّود بن ميمون ابن حمود. ونحن نعرف أن الأدارسة يرجعون نسبتهم إلى الحسن بن علي بن أبى طالب؛ وإذاً، فقد كان علي والقاسم، وفقاً لهذا القول، علويين من سلالة آل البيت. وهذا ما يقوله العلامة النسابة ابن حزم، إذ يرجع نسبة علي والقاسم، إلى إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي (¬1)، ويقوله أيضاً عبد الواحد المراكشي وابن عذارى، وابن الخطيب (¬2). بيد أنه بالرغم من هذه النسبة العلوية، وهذه الأرومة العربية العريقة، التي ينتحلها بنو حمود، فإنهم، إذا تركنا مسألة النسبة والسلالة جانباً، كانوا ينتمون في الواقع من حيث النشأة والعصبية والمصير، إلى البربر، وكان الطابع البربري غالباً عليهم، حتى أنهم لم يكونوا يتكلمون العربية، وإنما كانوا يتكلمون باللهجة البربرية، وقد أشار ابن الخطيب إلى ذلك في حديثه عن علي بن حمود (¬3). ¬_______ (¬1) راجع جمهرة أنساب العرب (القاهرة) ص 43 و44. (¬2) المراكشي في المعجب ص 24؛ وابن عذارى في البيان المغرب ج 3 ص 119؛ وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 128. (¬3) أعمال الأعلام ص 121.

وقد رأينا أن سليمان المستعين حينما استرد الخلافة، عقب انتصار البربر على أهل قرطبة، خص علياً والقاسم، بولاية الثغور المغربية، وندب علياً لحكم سبتة، وندب القاسم لحكم الجزيرة الخضراء وطنجة وأصيلا، وذلك في أوائل سنة 404 هـ (1013 م). وفي الوقت الذي استولى فيه البربر، على الولايات والثغور الجنوبية، كان الفتيان العامريون, منذ اضطرام الفتنة، قد استقروا بشرقي الأندلس، واستولى كثير منهم على الثغور الشرقية، وفي مقدمتهم مجاهد الذي استولى على دانية والجزائر الشرقية فيما بعد، وخيران، الذي استولى على ألمرية ومرسية. وكان خيران حينما استولى محمد بن هشام المهدي على الخلافة للمرة الثانية، بمؤازرة واضح والجند النصارى، وتولى واضح منصب حجابته، قد عاد إلى قرطبة مع نفر من الفتيان العامريين، وانضموا إلى واضح، ثم اشتركوا معه في تدبير اغتيال المهدي، وإعادة هشام المؤيد إلى كرسي الخلافة حسبما تقدم. وكان أولئك الفتيان يعتبرون هشاماً إمام دولتهم بعد ذهاب المنصور. فلما قتل واضح واستولى البربر على قرطبة، وانتزع سليمان المستعين الخلافة من هشام المؤيد، غادر خيران ومعه عدة كبيرة من الفتيان قرطبة، اتقاء بطش البربر، وسار إلى شرقي الأندلس، وانضم إليه حال سيره كثير من الناقمين من بني أمية وغيرهم، ثم زحف على ألمرية، وكانت بيد أفلح الصقلبي، فانتزعها منه، واستولى على كثير من الأماكن المجاورة، واشتد بأسه في تلك الناحية، ودعا لهشام المؤيد. وكان تمزق الأندلس على تلك الصورة، وانتثار السلطة، بين الأمويين والبربر، والفتيان العامريين، مما يفسح المجال لأطماع الطامعين والمتغلبين، وكانت تلك الأطماع تجيش في الواقع، في صدور أولئك الذين رأوا في ضعف السلطة المركزية، وذيوع الخلاف والفوضى، فرصة يمكن انتهازها. وكان علي ابن حمُّود الحسني، قد ولي حكم سبتة، وولي أخوه الأكبر القاسم، حكم الجزيرة الخضراء، لا يفصلهما سوى مضيق جبل طارق. وكان علي يطمح إلى أكثر من حكم مدينة، ويتطلع إلى الوثوب بحكومة قرطبة المضطربة المتداعية. وكان يرى في الفتيان العامريين خصوم سليمان المستعين حلفاءه الطبيعيين، فكاتب كبيرهم خيران صاحب ألمرية، وأظهر كتاباً زعم أنه تلقاه من الخليفة هشام المؤيد يوليه

فيه ولاية عهده، ويطلب إليه أن ينقذه من أسر البربر وسليمان؛ ويقول لنا ابن حيان، إن هشاماً المؤيد لما رأى اضطراب أمره وتصرم دولته، قد منح علي ابن حمود ولاية عهده، وأوصى إليه بالخلافة من بعده، وأرسل إليه ذلك بسبتة سراً، وولاه طلب دمه، واستكتمه السر حتى يحين الأوان لذلك (¬1). فذاعت دعوة علي، ولباها بعض حكام الثغور الجنوبية مثل، عامر بن فتوح الفائقي مولى الحكم المستنصر ووزير ولده المؤيد، وكان يومئذ حاكماً لمالقة. وكتب إليه خيران أن يعبر إليهم. فعبر علي من سبتة إلى الجزيرة الخضراء في أواخر سنة 406 هـ (1016 م) وسار في أشياعه من البربر إلى مالقة، فسلمها إليه عامر ابن فتوح، ودعا له بولاية عهد المؤيد حال ظهوره حياً، وسار خيران في قواته والتقى بعلي في ثغر المنكب الصغير، ما بين مالقة وألمرية، فجمع الزعيمان قواتهما ونظما خطتهما للزحف على قرطبة، وبويع علي بن حمود على طاعة المؤيد. ثم سارت القوات المتحدة صوب قرطبة، وانضم إليها خلال السير زاوي بن زيري وحبوس الصنهاجي في قوة من بربر غرناطة. وكان سليمان المستعين، قد ترامت إليه أنباء أولئك الخوارج عليه، وزحفهم لقتاله، فخرج من قرطبة للقائهم في جند البربر، والتقى الفريقان في ظاهر قرطبة على قيد عشرة فراسخ منها، ونشبت بينهما معركة شديدة، انتهت بهزيمة سليمان، وقتل عدد جم من أنصاره، وكان سليمان وأبوه الحكم، وأخوه عبد الرحمن، بين الأسرى. ودخل علي بن حمود قصر قرطبة في الثامن والعشرين من محرم سنة 407 هـ (أول يوليه سنة 1016 م) وبحث عن هشام المؤيد فلم يجده، وكان الاعتقاد سائداً بأن سليمان أخفاه ولم يقتله، فلما علم بأنه قُتِل، أتى بسليمان وأبيه وأخيه وقتلهم بنفسه انتقاماً للمؤيد. ثم أعلن وفاة المؤيد، ودعا إلى البيعة لنفسه، فبويع بالخلافة وتلقب بالناصر لدين الله، وكانت مدة خلافة سليمان الثانية مذ دخل قرطبة إلى أن قتل ثلاثة أعوام وبضعة أشهر، وكانت أمه أم ولد تدعى ظبية ومولده في سنة 354 هـ (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 114 و116. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 116 و117 و119 ر 120، وابن خلدون ج 6 ص 221 وج 4 ص 153؛ والمراكشي ص 24؛ وأعمال الأعلام ص 129؛ ونفح الطيب ج 6 ص 224، وجذوة المقتبس ص 20.

وهكذا اختتمت الدولة الأموية حياتها بالأندلس بعد أن عاشت منذ عصر الإمارة حتى نهاية عصر الخلافة مائتين وثمانية وستين عاماً، وانهارت دعائم الخلافة الأموية نهائياً، بعد أن لبثت منذ عهد هشام المؤيد أربعين عاماً، ستاراً للمتغلبين من بني عامر، ثم شبحاً هزيلا يضطرب في غمر الفتنة والفوضى. ولما قبض علي بن حمود على زمام الحكم، اشتد في معاملة البربر، وإخماد تمردهم وشغبهم، وحماية السلطة المركزية من عدوانهم، فهابوه ولزموا السكينة، وقضى بمنتهى الشدة على كل نزعة إلى الخروج والعصيان، وفتك بالمعارضين له سواء في ذلك العرب والبربر، وأذل الزعماء واستأثر بالسلطة. وحاول من جهة أخرى أن يحسن معاملة القرطبيين، وأن يقيم العدل، ويقمع الفوضى، وكان من معاونيه في الحكم، جماعة من أولياء الخلافة السابقين مثل أبي الحزم بن جهور، وأحمد بن برد وغيرهما. على أن الحوادث ما لبثت أن تطورت بسرعة. ذلك أن خيران العامري، لما دخل قرطبة مع علي بن حمود ولم يجد الخليفة هشاماً المؤيد على قيد الحياة، خشي سطوة الناصر وغدره، فغادر قرطبة، معلناً الخلاف، وسار إلى شرقي الأندلس حيث يحتشد معظم الزعماء العامريين وأنصارهم، وأعاد الدعوة لبني أمية في شخص مرشح جديد منهم، هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن الناصر، باعتباره أصلح من بقي منهم، وكان قد فر خفية من قرطبة إلى جيان، فاستدعاه خيران وبايعه وجمع كبير من أصحابه بالخلافة، ولقبوه بالمرتضى، وانضم إليهم في تلك الحركة المنذر بن يحيى التجيبي والي سرقسطة والثغر الأعلى ومعه قوة من المرتزقة النصارى، وكذلك ولاة شاطبة وبلنسية وطرطوشة وألبونت وغيرها. وأعلن المرتضى الخلاف على الناصر، وسار في جموعه أولا إلى غرناطة ليحارب جيش صنهاجة القوي، فلقيه أميرها زاوي بن زيري في قواته ونشبت بينهما معركة طاحنة استمرت أياماً، وانتهت بهزيمة أهل الأندلس، ومقتل المرتضى، وتمزق جموعه، وسقوط معسكره في أيدي البربر. وفي رواية أخرى أن المرتضى استطاع الفرار ناجياً بحياته، فبعث خيران في أثره بعض أعوانه فقتلوه على مقربة من وادي آش، وحملوا رأسه إلى خيران. وكان خيران والمنذر قد حقدا عليه لما رأيا من حدته وصرامة نفسه، وخشيا من غدره (¬1). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 127.

وسار خيران والمنذر فيمن بقي من أصحابهما ولحقا بألمرية. وسار الإفرنج المرتزقة حلفاء المنذر إلى الشمال. قال ابن حيان " فحل بهذه الوقيعة على جماعة الأندلس مصيبة أنست ما قبلها، ولم يجتمع لهم جمع بعد، وأقروا بالإدبار، وباؤوا بالصغار " واستطاع أخ للمرتضى، وهو أبو بكر هشام بن محمد، أن ينجوا من الموقعة، في بعض أصحابه إلى ألبونت، حيث دعا لنفسه بالخلافة، وأقام بها يرقب الحوادث (¬1). وتغفل معظم الروايات الإسلامية تاريخ هذه الموقعة، ولكن الظاهر من سياق الحوادث، ومما ذكره صاحب البيان المغرب، أن سير المرتضى من شرقي الأندلس صوب قرطبة، كان في سنة 409 هـ (¬2)، وأن الموقعة حدثت في أواسط هذا العام، وفي خلافة القاسم بن حمود، بعد مقتل أخيه على حسب ما يجىء. وكان علي بن حمود، حينما ترامت إليه أنباء خروج المرتضى ومسيره لقتاله، قد انقلب على أهل قرطبة خشية من غدرهم، ولما آنسه من ميلهم إلى المرتضى، وعاد فأطلق يد البربر، واشتد على أهل قرطبة، ونزع سلاحهم، واعتقل كثيراً من أعيانهم، وفي مقدمتهم وزيره أبو الحزم بن جهور، وصادر أموالهم، وهبت على القرطبيين ريح من الإرهاب والروع فلزموا السكينة حيناً (¬3). ولكن القدر كان يتربص بعلي بن حمود، ذلك أنه بينما كان يتأهب لقتال خصومه، المجتمعين يومئذ في منطقة جيان حول راية المرتضى، إذ ائتمر به نفر من فتيان القصر الصقالبة من موالي بني أمية، وتسلل ثلاثة منهم إليه وهو في الحمام وقتلوه، وذلك في الثاني من ذي القعدة سنة 408 هـ (23 مارس سنة 1018 م)، وكان سنه وقت مقتله خمس وخمسون سنة، ولم يمكث في الخلافة سوى عام وتسعة أشهر. فبعث زعماء زناتة إلى أخيه القاسم بنبأ موته، وكان يكبره ببضعة أعوام، وكان يومئذ والياً لإشبيلية، فحضر مسرعاً، وبويع بالخلافة في الثامن من ذي القعدة، أعني لستة أيام من مقتل أخيه، وتلقب بالمأمون، وقبض على الفتيان ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 125 و126 و127. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 125. وذكر ابن الخطيب وحده أن الموقعة حدثت بالفعل في سنة 409 هـ (أعمال الأعلام ص 131). (¬3) البيان المغرب ج 3 ص 123؛ وأعمال الأعلام ص 129.

الثلاثة الذين قتلوا أخاه وأعدمهم لوقته. وكان يحيى بن علي، ولد الخليفة القتيل والياً على سبتة، وولده الآخر إدريس والياً على مالقة، فاختلف البربر في البداية على مسألة الخلافة، ولكن أكثرهم انضم إلى جانب القاسم لأنه غبن أولا، وقدم عليه أخوه الأصغر. وهكذا استتب الأمر للقاسم، فعدل عن سياسة الشدة إلى سياسة اللين والمسالمة، وأحسن إلى الناس ونادى بالأمان وبراءة الذمة ممن تسور على أحد، وأسقط كثيراً من المكوس. فهدأت الخواطر، واطمأن الناس نوعاً، وكانت حركة المرتضى قد وصلت خلال ذلك إلى ذروتها، ووقعت الحرب بين جموع المرتضى وحليفه خيران والمنذر بن يحيى التجيبي، وبين قوى صنهاجة على مقربة من غرناطة، وانهزم أهل الأندلس وقتل المرتضى، وبعث زاوي بن زيري إلى القاسم بما وقع مع سهمه من الغنائم، ومنها سرادق المرتضى، فسر القاسم لذلك، وعرض سرادق المرتضى على نهر قرطبة ليراه الناس (¬1). وعمد القاسم إلى استمالة خيران واستعطافه، ولكنه بقي معتصماً بألمرية، وأقطع زميله زهيراً العامري ولاية جيان وقلعة رباح، محاولا بذلك أن يعقد السلم مع الفتيان العامريين، وأن يأمن خصومتهم وكيدهم. واتخذ القاسم بطانة من السود، وأسند إليهم مناصب الرياسة والقيادة، ولكنه لم يتخلص من قبضة البربر وسيطرتهم عليه، فضعف أمره وتكاثرت الصعاب من حوله. وكان ابن أخيه يحيى بن علي والي سبتة، يرقب الفرصة للخروج عليه، فاتفق مع أخيه إدريس والي مالقة، على أن يتركها له، لتكون قاعدة للعمل، وأن يستقر إدريس مكانه في سبتة. وأخذ يحيى يحشد أنصاره تباعاً في مالقة حتى اجتمع له جيش قوي. وفي أثناء ذلك كان عمه القاسم يشكو أمره إلى زعماء البربر، ولكنهم عجزوا عن التوفيق بينهما؛ وزحف يحيى في قواته على قرطبة، وخشي القاسم العاقبة فآثر الانسحاب على الحرب، وغادر قرطبة إلى إشبيلية في 23 ربيع الثاني سنة 412 هـ (أغسطس سنة 1022 م)، وضبط البربر القصر حتى مقدم ابن أخيه يحيى. ودخل يحيى بن علي بن حمود قرطبة بعد ذلك بأيام قلائل، في مستهل جمادى ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 131.

الأولى سنة 412 هـ. وبويع بالخلافة، وتلقب بالمعتلي بالله، وكان في الثانية والأربعين من عمره. واستقبل البربر والأندلسيين معاً رياسته بالاستبشار والرضى. وكان المعتلي فارساً بارعاً يتحلى بخلال الفروسية، ويجانب العصبية، ويؤثر العدل، ويجزل العطاء لمن وفد عليه، أو مدحه بشعره، فأحبه الناس؛ وكان من وزرائه أبو العباس أحمد بن برد، والكاتب محمد بن الفرضي، ولكنه وقع مثل عمه القاسم تحت نفوذ البربر وإمرتهم، فاستبدوا به، وضيقوا عليه. وكان القاسم بن حمود أثناء ذلك قد استقر في إشبيلية، وتسمى بالخلافة، وتلقب بالمستعلي، وأخذ يرقب سير الحوادث. ومن الغريب أن القاسم وابن أخيه يحيى، تهادنا واتفقا على أن يعترف كلاهما بصفة صاحبه. ويعلق الفيلسوف ابن حزم على ذلك بأنه لم يسمع بخليفتين تصالحا " وهو أمر، لم يسمع في الدنيا بأشنع منه، ولا أدل على إدبار الأمور " (¬1). على أن هذا الوضع الشاذ لم يدم طويلا. ذلك أن البربر أعلنوا خلع يحيى المعتلي في الثاني عشر من ذي القعدة سنة 413 هـ، ولم يكن قد مضى على خلافته سوى عام ونصف، فبادر يحيى بمغادرة قرطبة إلى مالقة. وفي الحال تحرك عمه القاسم من إشبيلية تلبية لدعوة البربر، ودخل قرطبة في الثامن عشر من ذي القعدة المذكور، وجددت له البيعة وتسمى بأمير المؤمنين. ولكن القاسم لم يوفق في سياسته أيضاً في تلك المرة. ذلك أنه أصطفى البربر، ومكنهم من أهل قرطبة، فاشتدوا في معاملتهم ومطاردتهم، وضاق أهل قرطبة في النهاية ذرعاً بتلك الحالة، فثاروا بالبربر، واستعدوا لقتالهم، وأعلنوا خلع القاسم، واستمرت المعارك حيناً حتى استطاع القرطبيون إرغام القاسم على مغادرة القصر، وذلك في جمادى الثانية سنة 414 هـ (سبتمبر سنة 1023 م). فانقلب البربر إلى محاصرة المدينة بعد أن أغلق القرطبيون أبوابها. واستمر الحصار خمسين يوماً، والمعارك في كل يوم تتجدد، وأخيراً خرج القرطبيون واشتبكوا مع البربر في معركة كبيرة حاسمة، وقاتلوا قتال اليائسين، حتى هزموا البربر ومزقوا جموعهم، وتفرقت بقايا البربر وانفضت عن القاسم، فسار القاسم في نفر من صحبه إلى إشبيلية، وكان بها إبناه محمد والحسن، فأغلقت المدينة أبوابها دونه، ¬_______ (¬1) راجع نقط العروس ص 80، والبيان المغرب ج 3 ص 132 و133.

وأخرج منها إبناه ومن معهم من البربر، وقام أعيان المدينة، وعلى رأسهم قاضيها محمد بن إسماعيل بن عباد، بضبط الأمور فيها، وسار القاسم وصحبه إلى بلدة شريش (¬1). وفي تلك الأثناء كان يحيى المعتلي، قد سار من مالقة إلى الجزيرة الخضراء، وكانت بها أموال عمه القاسم وأسرته فاستولى عليها، واستولى أخوه إدريس والي سبتة، على ثغر طنجة، وكانت أيضاً من أعمال القاسم، وكان يعدها ملجأ له وملاذاً يحتمي به إذا ذهب سلطانه بقرطبة؛ ولما انقلب القاسم في فلوله إلى شريش سار يحيى المعتلي لقتاله، وحاصر شريش حتى سلمت، وقبض على عمه وبنيه، وحملهم في الأصفاد إلى مالقة، وهناك أودعهم السجن، وانفرد يحيى برياسة البربر، وبسط سيادته على شريش ومالقة، وسبتة وطنجة من ثغورالمغرب، وبايعه البربر بالخلافة، وسموه المعتلي بالله، وبقي القاسم في يرسف في سجنه ردحاً طويلا من الزمن، حتى قتل خنقاً في سنة 431 هـ، وهو في نحو الثمانين من عمره (¬2). وكان أهل قرطبة قد سئموا عندئذ حكم البربر وأشياعهم، وأجمعوا على رد الأمر إلى بني أمية. وكان ثمة ثلاثة من المرشحين الذين اعتبروا أصلح من بقي من بني أمية لتولي الخلافة، هم سليمان بن المرتضى، ومحمد بن العراقي، وعبد الرحمن ابن هشام بن عبد الجبار بن الناصر لدين الله، فقرر القرطبيون أن يختاروا أحدهم بطريق الشورى، وعقدت لذلك جلسة كبرى بالمسجد الجامع، حضرها الوزراء والأكابر والخاصة والعامة. وحضر سليمان بن المرتضى ومحمد بن العراقي في البداية، وكاد الاختيار يقع على أولهما، وبدىء بالفعل في تحرير مرسوم البيعة، لولا أن حضر عندئذ عبد الرحمن بن هشام في كبكبة عظيمة، ومن حوله طائفة كبيرة من الجند شاهرة السلاح، فدخل المقصورة، وعقدت له البيعة في الحال، بين دهشة الحضور واضطرابهم، وذلك في السادس عشر من رمضان سنة 414 هـ (ديسمبر سنة 1023 م). ثم خرج من المسجد إلى القصر وقد اصطحب معه ابنى عمه سليمان والعراقي، فاعتقلهما لديه. ويصف لنا ابن حيان هذا الحفل الشهير، وكان من شهوده، بإفاضة ممتعة (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 134 و135؛ وأعمال الأعلام ص 133. (¬2) راجع البيان المغرب ج 3 ص 135 و144؛ والمراكشي ص 29. (¬3) راجع الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 35 و36. ويقول لنا ابن حيان إن الحفل عقد في الرابع من رمضان، والظاهر أن هناك تحريفاً، لأنه يقول لنا بعد ذلك عند مقتل =

واتخذ عبد الرحمن لقب المستظهر بالله، وكان يوم جلوسه فتى في الثالثة والعشرين من عمره، وندب للوزارة بعض القدامى من وزراء بني أمية السابقين مثل أحمد ابن برد، وجماعة من الفتيان الطامحين الأغمار، مثل أبي عامر بن شهيد، وأبي محمد ابن حزم (وهو الفيلسوف المستقبل)، وابن عمه عبد الوهاب بن حزم، وقد كانا على قول ابن حيان " من أكمل فتيان الزمان فهماً ومعرفة، ونفاذاً في العلوم الرفيعة ". فقدمهم على سائر رجاله، وأولاهم منتهى النفوذ والثقة؛ ويورد لنا ابن حيان ثبت المناصب الوزارية والرئيسية يومئذ على النحو الآتي: خدمة المدينتين، الزهراء والزاهرة، وخدمة كتابة التعقب والمحاسبة، وخدمة الحشم، وخدمة القطع بالناض والطعام، وخدمة مواريث الخاصة، وخدمة الطراز. وخدمة المباني، وخدمة الأسلحة وما يجري مجراها، وخدمة الخزانة القبض والنفقة. وخدمة الوثائق ورفع كتب المظالم، وخدمة خزانة الطب والحكمة. وخدمة الأنزال والنزائل، وخدمة أحكام السوق. ثم يعلق ابن حيان على ذلك بقوله: " وهذا زخرف من التسطير وضع على غير حاصل، ومراتب نصبت لغير طائل، تنافسها طالبوها يومئذ بالأمل، فلم يَحْلوا منها بنائل، ولا قبضوا منها مرتزقاً، ولا نالوا بها مرتفقاً، وغرهم بارق الطمع وسط بلد محصور، وعمل معصوب، وخراب متسول، ومع سلطان فقير، لا يقع بيده درهم إلا من صبابة، مستغل جوف المدينة، أو نهب مغلول ممن تقلقل عنها، يقيم منها رمقه، ويفرق جملته على من تكنفه من جنده ودائرته، ويتطرق إلى ما يقبح من ظلم رعيته، فلم يلبث الأمر أن تفرَّى به فسُفك دمه، وانحسم الأمل من دولته " (¬1). تلك هي الصورة القوية التي يقدمها إلينا المؤرخ الأندلسي المعاصر عن بلاط المستظهر، وظروف ولايته. والواقع أن هذا الخليفة الفتى كان يتمتع بخلال باهرة، وكان ممكناً أن يكون معقد الآمال، لو أتيح له من السلطان وحرية التصرف ما طلب، ولكن الظروف عاجلته وغلبته على أمره؛ وكان قد بدأ ولايته بأن أرسل إلى المدن والثغور يدعو إلى تأييد بيعته، فلم تثمر دعوته أو لم يتسع ¬_______ = المستظهر إن خلافته كانت سبعة وأربعين يوماً، ومقتله في الثالث من ذي القعدة. وهو ما يرد تاريخ البيعة إلى السادس عشر من رمضان (راجع البيان المغرب ج 3 ص 135). (¬1) نقله في الذخيرة. القسم الأول المجلد الأول ص 36 و37.

الوقت لذلك، وقبض على عدد من الوزراء والأكابر وصادر أموالهم، وكان يرجو بإزالتهم تمكين نفوذه وسلطانه، ثم قبض على عدد من أبناء عمه المروانية، واعتقلهم بالقصر مع ابني عمه سليمان والعراقي، وكانت هذه البوادر المكدرة تقضي على هيبته بسرعة، وتذكي السخط عليه في صدور الخاصة والعامة معاً. ثم وقع حادث كان نذير الاضطرام. وذلك أنه استقبل عدة من الفرسان البربر فأكرم وفادتهم وأنزلهم بالقصر، فغضب لذلك الكبراء، وأوغروا صدور العامة قائلين لهم, إننا حاربنا البربر وقهرناهم، وهذا الرجل يسعى في ردهم إلينا، وتمكينهم من أمرنا. فهاجت العامة، وزحفت جموعهم على القصر، واقتحموه على غرة، وقتلوا البربر حيث وجدوا، وفتحوا المطبق وأخرجوا من كان به من المعتقلين، ووثبوا إلى جناح الحرم، وأدرك عبد الرحمن المستظهر أنه هالك، فاختبأ في أتون الحمام، واعتدى الثوار على آل عبد الرحمن وحريمه، وسبوا أكثرهن، وكانت مناظر شنيعة مروعة (¬1). ولما اختفي المستظهر بالله، ظهر ابن عمه محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن الناصر، وكان مختفياً خفية البطش به، فأخذ إلى القصر، وأجلس في مجلس الملك، وبويع بالخلافة في اليوم الثالث من ذي القعدة سنة 414 هـ (17 يناير 1024 م)، وتلقب بالمستكفي بالله. وبحث عن المستظهر حتى عثر به في أتون الحمام في حالة مزرية، فأخذ إلى حضرة الخليفة الجديد، وأعدم أمامه، وكانت إمارته مذ ولي حتى قتل سبعة وأربعين يوماً، لم يحدث فيها حدث هام، ولم يجاوز سلطانه مدينة قرطبة. وكان عبد الرحمن المستظهر أديباً شاعراً من الطراز الأول، وقد نوه ابن بسام بمواهبه الأدبية الرفيعة، وأورد له طائفة من القصائد الجيدة (¬2). ومن شعره من قصيدة طويلة قالها في ذكر ابنة عمه أم الحكم بنت المستعين أيام خطبته لها: حمامة بنت العبشمين رفرفت ... فطرت إليها من سراتهم صقرا تقل الثريا أن تكون لها يدا ... ويرجو الصباح أن يكون لها نحرا ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 38 و39، والبيان المغرب ج 3 ص 148 و139. (¬2) راجع الذخيرة. القسم الأول المجلد الأول ص 40 - 43.

وإني لطعان إذا الخيل أقبلت ... جوانبها حتى ترى جونها شقرا ومكرم ضيفي حين ينزل ساحتى ... وجاعل وفدى عند سائله وفرا وكان المستكفي يوم ولادته في الثانية والأربعين من عمره إذ كان مولده في سنة 366 هـ، وأمه أم ولد تسمى حوراء. وكان عاطلا من الخلال الحسنة، ميالا إلى البطالة، شغوفاً بالمجون والشراب، عاجزاً سيىء الرأي، وقد شبهه ابن حزم، في سوء خلاله، وفي مجونه وفسقه، وفي خضوعه لغانية خبيثة، بسميه المستكفي العباسي، وقد كان كلاهما في نفس السن، وحكم كل منهما نحو سنة وخمسة أشهر (¬1). ولم تقع خلال ولاية المستكفي القصيرة، أحداث ذات شأن، وكان مما عمله أن أمر بخنق ابن عمه محمد العراقي، ونعاه للناس، وندب لولاية عهده ابن عمه سليمان بن هشام بن عبيد الله بن الناصر. وفي أيامه هدمت القصور الناصرية، وخربت قصور المنصور بالزاهرة، فسادتها الوحشة والخراب. واضطهد المستكفي معظم الرجال البارزين من الساسة القدماء، ومن المفكرين، وغادر كثير منهم قرطبة، ولجأوا إلى بلاط يحيى بن حمود بمالقة، وكان من هؤلاء الوزير السابق والشاعر اللامع أبو عامر بن شهيد؛ ووصف هؤلاء ليحيى ابن حمود سوء الأحوال في قرطبة. ومع أن يحيى لم يكن متحمساً لفكرة السير إلى قرطبة، فإن الأنباء ترامت إلى القرطبيين بأنه يتخذ أهباته لاسترداد عاصمة الخلافة؛ وعلى أي حال فقد سئم القرطبيون ولاية المستكفي العاطلة الماجنة الفاسدة ونادوا بخلعه. فدخل عليه الوزراء والكبراء، وأغلظوا له في القول، وطلبوا إليه التخلي، فاستعطفهم بلين القول، ثم غادر قرطبة في نفس اليوم متنكراً في زي امرأة. وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين من ربيع الأول سنة 416 هـ (مايو سنة 1025 م). وسار المستكفي صوب الثغر في نفر من صحبه, ووصل إلى إقليج من أحواز قرطبة، وهنالك اغتاله بعض مرافقيه، لاعتقادهم أنه يحمل مالا. وكان مقتله لسبعة عشر يوماً فقط من خلعه (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 141، وأعمال الأعلام ص 136. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 142 و143؛ وأعمال الأعلام ص 136. ومما هو جدير بالذكر أن محمد بن عبد الرحمن المستكفي هو والد الأديبة الشهيرة والشاعرة الأندلسية الكبيرة " ولادة " التي اشتهرت بروعة أدبها وشعرها، والتي أوحت إلى الوزير الشاعر ابن زيدون =

ومضت بضعة أشهر؛ والحكومة في قرطبة فوضى لا ضابط لها. وأخيراً قرر يحيى بن حمود أن يسير إلى العاصمة، فقصد إليها في قواته ودخل القصر في الخامس عشر من رمضان من نفس العام (9 نوفمبر سنة 1025 م)، وبقي بها إلى نهاية هذا العام، ثم غادرها في أوائل المحرم سنة 417 هـ قاصداً إلى مالقة، وترك بها وزيريه أحمد بن موسى، ودوناس بن أبي روح، يدبران شئونها، ومعهما حامية صغيرة من البربر، بيد أنه لم يمض زهاء شهرين حتى تجهمت الحوادث كرة أخرى. ذلك أن خيران وزهير الفتيين العامريين، قصدا إلى قرطبة، وأوعزا إلى القرطبيين بالتخلص منن البربر، فثار القرطبيون فجأة، وفتكوا بالحامية البربرية، وكانت زهاء ألف رجل، وفر أحمد بن موسى وزميله دوناس إلى مالقة، وكان ذلك في العشرين من ربيع الأول من سنة 417 هـ. وأجمع القرطبيون على أثر ذلك على رد الأمر لبني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جَهْوَر بن محمد بن جهور، واتفقوا على مبايعة هشام بن محمد ابن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر، أخى عبد الرحمن المرتضى. وكان عند مقتل أخيه في سنة 409 هـ، قد فر من قرطبة في نفر من صحبه، ولجأ إلى مدينة ألبونت في شمال شرقي الأندلس، واستظل من ذلك الحين بحماية واليها عبد الله بن قاسم الفهري. وبعث إليه أهل قرطبة بالبيعة، وهو بمقره بحصن ألبونت، فتلقاها في 25 ربيع الآخر سنة 418 هـ، وتلقب بالمعتد بالله، وبقي بمقره بألبونت مدة سنتين وسبعة أشهر، وهو يخطب له بقرطبة، ثم قدم إليها في شهر ذي الحجة سنة 420 هـ (¬1) فجددت له البيعة، واستمر في كرسي الخلافة عامين آخرين. وسر القرطبيون لمقدمه في البداية، ولكنه ألقى زمام الأمور إلى رجل من الموالي يسمى حكم بن سعيد القزاز، فاستأثر بكل سلطة، وأطلقت يده في الأموال، وكان أخرق عسوفاً، فجمع حوله نفراً من السفهاء العاطلين عن كل إخلاص وحزم، وأطلق العنان لغوايته وأهوائه، فاضطربت الشئون وامتعض العقلاء، ¬_______ = المتيم بها طائفة من غرر قصائده. وقد لبثت ولادة عصراً تخلب بجمالها وأدبها وشعرها ألباب المجتمع القرطبي الرفيع. وتوفيت في سنة 484 هـ (1091 م) (راجع الصلة لابن بشكوال رقم 1540؛ وقلائد العقيان ص 70، ونفح الطيب ج 2 ص 447 - 449). (¬1) جذوة المقتبس ص 26 و27.

وزعماء البيوتات الكبيرة، وشعروا بما نالهم على يده من ضروب الإهانة والنيل؛ وأحاط هذا الوزير المستبد الماجن الخليفة برجاله، وأبعد عنه الصحب وذوي الحجي، ودفعه بالرغم من شيخوخته، إلى تيار الشراب والمجون، حتى ساءت الأمور إلى الذروة، وفقدت الخلافة والحكومة، كل عطف هيبة، وتهامس الناس في وجوب إزالة هذه الحالة، والتخلص من أوزارها وعواقبها. والتفت جماعة الناقمين حول فتى من أبناء عمومة هشام، هو أمية بن عبد الرحمن العراقي، من أحفاد الناصر، وكان فتى شديد التهور والجهالة، ولكن بعيد الأطماع؛ وفي ذات يوم تربصت تلك الجماعة الناقمة بالوزير حكم بن سعيد وفتكت به، وطافت برأسه في المدينة، وتركوا جثته في العراء (ذو القعدة سنة 422 هـ - نوفمبر سنة 1031 م). ثم سار أمية في جموعه إلى القصر، والخليفة هشام عاكف على شرابه ونسائه، فنهبت العامة بعض أجنحة القصر، ولولا أن زجرهم الوزير الشيخ ابن جهور ونصحهم بالكف عنه، لما أبقوا على شىء. وخشي هشام المعتد على نفسه، فبادر إلى الخروج من القصر مع ولده ونسائه، وهو يناشد الجماعة أن يحقنوا دمه، ولجأ إلى ساباط الجامع واجتمع رأي الناس جميعاً كباراً وصغاراً على خلعه، والتخلص جملة من بني أمية، وإبطال رسم الخلافة، وعلى نفي بني أمية وإجلائهم جميعاً عن المدينة، وكان رائد الجماعة وناصحهم في ذلك أبو الحزم ابن جهور، وكان هذا الوزير النابه يستأثر نظراً لماضيه التالد، وأسرته العريقة، ورأيه الناضج، بمحبة الشعب وثقته وتأييده، وسنرى فيما بعد أي دور خطير يلعبه ابن جهور في مصاير قرطبة. وانتهى القوم إلى خلع هشام المعتد، وإبعاده وأهله إلى أحد الحصون القريبة، ثم غادره بعد أيام قلائل، وسار إلى الثغر، حيث التجأ إلى سليمان بن هود صاحب لاردة من أعمال الثغر الأعلى، وقضى هنالك بقية أيامه حتى توفي في سنة 428 هـ دون عقب؛ وأبعد أمية بن عبد الرحمن عن القصر، وكان يهجس بتولي كرسي الخلافة مكان المعتد، فلما رأى وعيد القوم، اختفى وغادر قرطبة إلى حيث لا يعلم أحد. ونودي في سائر أحياء قرطبة وأرباضها بأن لا يبقى بها أحد من بني أمية، ولا يأويهم أحد، وتولى ابن جهور تنفيذ هذا الأمر بمنتهى الحزم، حتى أجلاهم عن المدينة ومحا رسومهم (¬1). ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 145 - 152؛ وأعمال الأعلام ص 138 - 140.

وبخلع هشام المعتد، تنتهي رسوم الدعوة الأموية بصورة نهائية، وينقطع ذكرها إلى الأبد من منابر الأندلس والمغرب الأقصى. * * * ولنعد الآن قليلا إلى الوراء لنتتبع مصاير دولة بني حمود في جنوبي الأندلس، وقد رأينا أن يحيى بن علي بن حمود الملقب بيحيى المعتلي، بعد أن خلع عمه القاسم من الخلافة، وأرغم على مغادرة قرطبة في سنة 414 هـ، سار إلى بلدة شريش، فسار يحيى في أثره، وما زال به حتى هزمه وقبض عليه، ثم قتل في سجنه فيما بعد، واستولى يحيى على سائر ما كان بيده من البلاد والثغور، وانفرد برياسة البربر في الأندلس. ثم عاد فدخل قرطبة مرة أخرى على أثر خلع المستكفي في سنة 416 هـ. ولكنه غادرها بعد ذلك إلى مالقة، التي غدت من ذلك الحين معقله وعاصمة ملكه، في أوائل سنة 417 هـ، واستمر بها مدى حين. وكان يحيى المعتلي يخشى بالأخص على مملكته الفتية، من مطامع القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد، الذي استقل برياسة إشبيلية، حسبما تقدم. فسار بقواته إلى قرمونة حصن إشبيلية من الشمال الشرقي، وانتزعها من يد حاكمها محمد ابن عبد الله البرزالي كبير بني برزال، واستقر بها يرقب الفرصة للوثوب بابن عباد وتحطيمه، فسار البرزالي إلى ابن عباد وتحالف معه على قتال يحيى. وكان يحيى قد استسلم إلى لهوه وملاذه، وعكف على معاقرة الشراب والمجون المستمر، وجنوده تغير على إشبيلية من آن لآخر. ورأى القاضي ابن عباد أن يدحض دعوى المعتلي في الخلافة أولا، فأظهر في أواخر سنة 426 هـ شخصاً زعم أنه هشام المؤيد، وأنه كان مختفياً ولم يمت، وبايعه بالخلافة، ودعا الناس إلى الدخول في طاعته. ثم سير ابن عباد إلى قرمونة بعض قواته مع ابنه إسماعيل، ومعها طائفة من قوات البربر المتحالفة معه، فطوقت المدينة ليلا، وكمن معظمها في أماكن مستورة، ووقف يحيى على الخبر فخرج في قواته وهو ثمل، واشتبك مع المهاجمين في معركة حامية وكاد يوقع بهم الهزيمة، لولا أن ظهرت قوات ابن عباد من كمينها، وأطبقت عليه، فانهزم أصحابه، وقتل في المعمعة واحتز رأسه، وحمل سريعاً إلى ابن عباد في إشبيلية (المحرم سنة 427 هـ - نوفمبر سنة 1035 م)، واستمر فتك جند ابن عباد بالبربر أمام أسوار قرمونة، ولم يقف إلا حينما تدخل محمد بن عبد الله

البرزالي، وقد ساءه هذا الفتك الذريع بقومه، فكف ابن عباد مرغماً، ودخل البرزالي قرمونة، واستولى على ما فيها من مال ومتاع، وسبى نساء يحيى وجواريه (¬1). ولما قتل يحيى المعتلي على هذا النحو، سارع وزيراه أبو الفوز نجا الصقلبي، وأبو جعفر أحمد بن موسى بن بقنّة البربري، باستدعاء أخيه إدريس لتولي الملك مكانه، وكان والياً لسبتة. وكان ليحيى ولدان حدثان هما إدريس وحسن؛ وفي رواية أنه كان قد أوصى بولاية عهده لولده حسن، ولكن حداثة سنه حالت دون ولايته. وهكذا بويع إدريس بالخلافة في مالقة، قاعدة المملكة الحمودية وتلقب بالمتأيد بالله، وعين ابن أخيه حسناً لحكم سبتة وأعمالها، وندب لمعاونته الحاجب نجا، واعترفت بولايته رندة والجزيرة، وكان من حلفائه المعترفين ببيعته الفتى زهير العامري صاحب ألمرية، وحبوس بن ماكسن زعيم صنهاجة وصاحب غرناطة؛ وقد سارا في قواتهما لمعاونة إدريس على محاربة ابن عباد، وانضم إليهما البرزالي صاحب قرمونة. وفي شهر ذي القعدة سنة 427 هـ (1036 م) سارت القوات المتحالفة إلى أحواز إشبيلية وعاثت فيها، واحتلوا قرية طشّانة، ثم احتلوا "القلعة"، الواقعة شرقي إشبيلية، وأحرقوا طَريانة الواقعة في جنوبها، ثم احتلوا حصن القصر، وانصرف زهير بعد ذلك إلى ألمرية. وفي العام التالي توفي حبوس بن ماكسن، وخلفه في حكم غرناطة ولده باديس، وبعث باديس وأخوه بُلُقِّين إلى زهير يطلبان تجديد التحالف الذي كان بينه وبين أبيهما، ولكن زهيراً سار في قواته إلى غرناطة، والتقى بباديس وأخيه في قرية من أحواز غرناطة تسمى "ألفنت" (¬2). والظاهر أنه وقع بين الفريقين نوع من سوء التفاهم، واعتبر باديس أن زهيراً توغل في أرضه بقواته أكثر مما يجب؛ أو أن باديس وأخاه بلقين، قد وضعا خطة للغدر بزهير. وعلى أي حال فقد عمل باديس على قطع طريق الرجعة على زهير، ووضع له الكمائن في المضايق. ووقع القتال بين زهير والبربر، فهزم زهير وقتل، ولم يعثر على جثته، واحتوى باديس على معسكره، واستولى على غنائم هائلة من الخيل والسلاح والمتاع، وقبض باديس على كاتب ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 188 و189 و190؛ وأعمال الأعلام ص 137. (¬2) وهي بالإسبانية Daifontes، وهي تقع على قيد نحو خمسة كيلومترات من شمالي غرناطة.

زهير أحمد بن عباس ثم قتله بعد ذلك. وحدثت هذه الواقعة في أواخر سنة 429 هـ (1038 م) (¬1). وكان القاضي ابن عباد، المتغلب على إشبيلية، بعد قتل منافسه يحيى المعتلي قد خلا له الجو، واشتد بأسه، وأخذ يطمح إلى التغلب على ما يجاور إشبيلية من المدن والمقاطعات. فبدأ بأن سير ولده إسماعيل في جيش زحف على قرمونة حصن إشبيلية، من الشمال الشرقي، وكان بها محمد بن عبد الله البرزالي، فاستولى عليها، واستولى كذلك على إستجة الواقعة في شرقها. فاستغاث البرزالي بإدريس المتأيد، وباديس أمير غرناطة، وهرعت الجند البربر من مالقة وغرناطة استجابة لدعوته. ونشبت بين البربر وبين جند ابن عباد الأندلسيين وقائع عديدة، انتهت بهزيمة الأندلسيين ومقتل إسماعيل بن عباد، وذلك في أوائل المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م) (¬2). ولم تمض على ذلك أيام قلائل حتى توفي إدريس المتأيد في قلعة ببشتر، وكان قد نقل إليها مريضاً من مالقة. وكانت وفاته في السادس عشر من محرم سنة 431 هـ. وعلى أثر وفاته بويع ولده يحيى بالخلافة في مالقة، وذلك بترتيب وزيره أبى جعفر ابن بقنّة وسعيه. وتلقب يحيى بالقاسم بأمر الله، وكان فتى حَدَثاً قليل الخبرة والحزم، ولكن ابن بقنَّة سارع برفعه إلى العرش استبقاء لسلطانه الذي تأثل في ظل أبيه. بيد أن الحوادث ما لبثت أن تطورت بسرعة. ذلك أن نجا الحاجب الصقلبي، وكان يومئذ بسبتة، لم يرقه هذا الاختيار، فبادر بالدعوة إلى حسن بن يحيى المعتلي (ابن أخى إدريس). وكان إدريس قد اختاره لولاية عهده، وكان وقت وفاة عمه حاكماً لسبتة والثغور المغربية، فبويع حسن بالخلافة، وجهز الحاجب جيشاً، وسار بقواته مع حسن في أسطول يمم شطر مالقة، ونزلت القوات إلى البر، وحاصرت مالقة من البر والبحر، ولم تمض أسابيع قلائل حتى اضطر يحيى إلى التسليم والتنازل عن الخلافة، ثم سار إلى قمارش، وأقام بها. ¬_______ (¬1) راجع في تفصيل هذه الحوادث: البيان المغرب ج 3 ص 190 و191 و293، والإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (القاهرة 1956) ج 1 ص 269 و527 و528. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 199.

وبويع حسن بن يحيى بالخلافة في مالقة في جمادى الثانية سنة 431 هـ، وتلقب بالمستنصر بالله، واعترفت بطاعته غرناطة وغيرها، وعهد بتدبير الأمور إلى الوزير أبي جعفر بن بقنة، وعهد إلى الحاجب نجا بحكم الثغور المغربية. وكان حسن أميراً حازماً، قوي النفس، فنظم الإدارة، واستكثر من الجند، وجبى الأموال. واستراب بوزيره أبي جعفر، وكان يسر له نصرته ليحيى، فدبر مقتله، وذلك في يوم عيد الفطر سنة 433 هـ (¬1)، ثم أمر بقتل يحيى القاسم، فقتل في ربيع الثاني سنة 434 هـ. وكانت أخته زوجة للمستنصر، فما لبثت أن دبرت مقتله انتقاماً لأخيها، وهلك حسن بالسم في جمادى الأولى سنة 434 هـ (ديسمبر سنة 1042 م). والروايات بعد ذلك متضاربة، فمنها ما يقول بأن الحسن لم يعقب ذرية (¬2) ومنها ما يقول إنه ترك ولداً صغيراً بسبتة. وعلى أي فقد نهض الحاجب نجا على أثر وفاة المستنصر، وعبر البحر في قواته من سبتة إلى الجزيرة؛ وهنا يقال إنه نهض ليؤيد دعوة ولد الخليفة المتوفى، ويقال من جهة أخرى إنه نهض ليستخلص تراث الحموديين لنفسه، بعد أن اضطربت شئونهم. وسار نجا إلى الجزيرة وفيها ابنا القاسم بن حمود، فخرجت إليه أمهما سبيعة، وعنفته على مسلكه وعدم ولائه لسادته، فاستحى منها، وغادر الجزيرة ميمماً شطر مالقة. وكان معظم جنده من قبيلة برغواطة البربرية، أخوال حسن بن يحيى، فاسترابوا منه ومن مقاصده وائتمروا به، وقتلوه في الطريق. ثم ساروا إلى مالقة، وكان حسن بن يحيى أيام خلافته قد قبض على أخيه إدريس، وزجه إلى السجن ليأمن منافسته. فأخرجه الجند من سجنه وبويع بالخلافة. وتلقب بالعالي، وذلك في جمادى الثانية سنة 434 هـ (يناير سنة 1043 م)، وأطاعته البربر في غرناطة وقرمونة وجيان وغيرها. وهو الممدوح بالقصيدة المشهورة، التي نظمها عبد الرحمن بن مُقانا القبذاقي الأشبوني في مديحه ومطلعها: البرق لائح من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء المعين لعبت أسيافه عارية ... كمخاريق بأيدي اللاعبين ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 290؛ والمراكشي ص 36. (¬2) المراكشي ص 37.

ولصوت الرعد زجر وحنين ... وبقلبي زفرات وأنين وأناجي في الدجى عاذلتي ... وبك لا أسمع قول العاذلين (¬1) ومنها: عيرتني بسقام وضنى ... إن هذين لدين العاشقين قد بدا لي وضح الصبح المبين ... فاسقنيها قبل تكبير الأذين إسقنيها مرة مشمولة ... لبثت في دنها بضع سنين مع فتيان كرام نجب ... يتهادون رياحين المجون (1) وكان العالي أميراً رقيق الخلال، جواداً كثير الصلات، أديباً ينظم الشعر، ومع ذلك فقد كان يجمع حوله بطانة سيئة، وصحاباً من أراذل القوم. وكان ضعيف الرأي، متهاوناً في شئون الحكم، فسرى التفكك إلى سلطانه، وفي أواخر سنة 438 هـ (1046 م)، ثار عليه ابن عمه محمد بن إدريس بن علي بن حمود، فخرج إدريس في صحبه من مالقة إلى حصن ببشتر، وعاونه باديس بن حبوس أمير غرناطة بجنده ليسترد سلطانه. فغزا مالقة ولكنه لم يفز بطائل، فارتد مع أهله وصحبه إلى سبتة. وبويع محمد بن إدريس في شعبان سنة 438 هـ. وتلقب بالمهدي، وتوطد أمره بمالقة؛ ولكن بعض النواحي نكلت عن تأييده، ولاسيما غرناطة؛ وكان أميرها باديس من أشد معارضيه، وكان يشعر أنه أحق من غيره بزعامة البربر؛ وأبدى المهدي عزماً في تنظيم الحكومة وإصلاح الأمور، ولكنه كان طاغية سفاكاً للدماء يسرف في قتل مواطنيه البربر، حتى كرهه معظمهم، واجتمع رأي معارضيه من الزعماء وعلى رأسهم باديس على وجوب خلعه، والاعتراف بطاعة محمد بن القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء، واتفق رأي البعض الآخر ومنهم أبو النور بن أبي قرة اليفرني صاحب رندة، على الاعتراف بطاعة إدريس بن يحيى العالي. وهكذا ادعى الخلافة ثلاثة أمراء من بني حمود في وقت واحد، وفي مناطق صغيرة متقاربة، وهذا إلى الخليفة المزعوم الذي أقامه ابن عباد صاحب إشبيلية باسم هشام المؤيد؛ ويستعرض الفيلسوف ابن حزم هذه الحالة وهو معاصر لها في مرارة وتهكم، ويصفها بأنها " فضيحة لم يقع في العالم ¬_______ (¬1) راجع هذه القصيدة بأكملها في نفح الطيب ج 1 ص 202 و203.

إلى يومنا مثلها: أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يتسمى بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد " (¬1). واستمر محمد بن إدريس المهدي في كرسي الخلافة زهاء ستة أعوام. ولما لم ير خصومه وسيلة للتغلب عليه، لجأوا إلى الغيلة، فدسوا عليه من قتله بالسم، وذلك في أواخر سنة 444 هـ (أوائل سنة 1053 م). فبويع من بعده ولد أخيه وهو إدريس بن يحيى بن إدريس بن علي بن حمود، وتلقب بالسامي، وأقام حيناً بمالقة، ثم أصابته فيما يظهر لوثة، فغادر مالقة، وهام على وجهه في صفة تاجر، وغادر البحر إلى شاطىء العدوة، فأخذ إلى سبتة، حيث قتله حاكمها سواجات البرغواطي (¬2). وكان إدريس بن يحيى العالي، قد لجأ على أثر خلعه إلى سبتة، فأقام بها في كنف سواجات، وأقام كذلك حيناً في رندة، في كنف حاكمها أبي نور بن أبي قرة، فلما هلك السامي، سار إلى مالقة واستقبله أهلها بحماسة، ودعى له بالخلافة مرة أخرى، واستمر في الحكم حتى توفي سنة 446 هـ (1054 م) بعد أن عهد بالخلافة لابنه محمد. فخلفه ولده محمد، وتلقب بالمستعلي، وأقرت بيعته ألمرية ورندة، ولكن معظم الزعماء البربر، وفي مقدمتهم باديس صاحب غرناطة نكلوا عن طاعته. وفي سنة 449 هـ (1057 م)، سار باديس في قواته إلى مالقة، واستولى عليها وضمها إلى إمارته، وغادرها المستعلي، وسار إلى ألمرية، ثم عبر منها البحر إلى مليلة فقبله أهلها حاكماً عليهم، واستمر بها حتى توفي سنة 456 هـ (1064 م) والمستعلي هو آخر من حكم في مالقة من أمراء بني حمود. وفي أثناء ذلك كان رأي الزعماء البربر، وفي مقدمتهم باديس صاحب غرناطة وإسحاق بن محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة، ومحمد بن نوح صاحب مورور، وعبدون بن خزرون صاحب أركش، قد اجتمع على البيعة لبني محمد بن القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء. وكان يحيى المعتلي حينما خلع ¬_______ (¬1) ابن حزم في رسالته " نقط العروس " ص 83. وراجع البيان المغرب ج 3 ص 217 و244؛ وأعمال الأعلام ص 141. (¬2) البيان المغرب ج 2 ص 217؛ وأعمال الأعلام ص 142.

عمه القاسم بن حمود، قد قبض على ولديه محمد وحسن، واعتقلهما بالجزيرة، فلما توفي يحيى، أفرج عنهما. وتولى محمد حكم الجزيرة، وذلك في الوقت الذي قامت فيه دولة المهدي في مالقة. ثم حاول محمد أن ينتزع الخلافة لنفسه، فسار في أنصاره إلى مالقة يحاول انتزاعها من يد المهدي، ولكنه أخفق في محاولته، فارتد إلى الجزيرة، وتوفي بها في سنة 440 هـ. فخلفه محمد ولده وحكم الجزيرة فترة قصيرة؛ ثم خلفه ولده القاسم، وتلقب بالواثق، وكانت خلافته هزيلة ضيقة الرقعة والموارد، ولم يتح لها من البقاء سوى فترة يسيرة. ذلك أن ابن عباد صاحب إشبيلية اعتزم أن يقضي على خلافة الحموديين بصفة نهائية، فبعث قواته إلى الجزيرة الخضراء فطوقتها من البر والبحر واضطر القاسم سراعاً إلى التسليم، وغادر الجزيرة بالأمان مع أهله وصحبه (446 هـ - 1055 م) وسار إلى ألمرية حيث التجأ إلى حماية صاحبها المعتصم ابن صمادح، ولبث لها حتى توفي سنة 450 هـ (1058 م). وفي نفس الوقت كان باديس أمير غرناطة قد استولى على مالقة من يد المستعلي (449 هـ)، وانهار بها سلطان الحموديين، وهكذا انقرضت دولة بني حمود من مالقة والجزيرة معاً، وانتهى بذلك سلطانهم بالأندلس بعد أن حكموا المثلث الإسباني الجنوبي، وثغور العدوة الشمالية، زهاء نصف قرن (¬1). * * * وهكذا انحدرت إسبانيا المسلمة، في النصف الأول من القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي) عقب انهيار دعائم الخلافة الأموية والدولة العامرية، إلى معترك مروع من التمزق والفوضى، واستحالت الأندلس بعد أن كانت كتلة موحدة، تمتد من ضفاف دويرة شمالا إلى مضيق جبل طارق جنوباً، ومن شاطىء البحر المتوسط منذ طركونة شرقاً حتى شاطىء المحيط الأطلنطي غرباً، إلى أشلاء ممزقة، ورقاع متناثرة، وولايات ومدن متباعدة متخاصمة، يسيطر على كل منها حاكم سابق استطاع أن يحافظ على سلطته المحلية خلال الانهيار، ¬_______ (¬1) راجع في تفاصيل الحوادث المتقدمة، البيان المغرب ج 3 ص 288 و291 و292؛ وابن خلدون ج 4 ص 154 و155؛ وابن الأثير ج 9 ص 96 و97؛ والمراكشي ص 37 - 39، وأعمال الأعلام ص 142 و143. وراجع بحثاً بالإسبانية للأستاذ المستشرق الغرناطي سيكودي لوثينا عن دولة بني حمود عنوانه: Los Hammudles, Senores de Malaga y Algeciras, p. 47-53.

أو متغلب من الفتيان الصقالبة أو القادة ذوي السلطان السابق، أو زعيم أسرة محلي من ذوي الجاه والعصبية. وسيطر البربر من جانبهم على أراضي المثلث الإسباني الجنوبي، وما كان منه بيد الدولة الحمودية، وأنشأوا هنالك إمارات عدة، ما لبثت أن نزلت إلى ميدان الصراع العام، الذي شمل هذه المنطقة. وهكذا قامت على أنقاض الدولة الأندلسية الكبرى دول عديدة هي دول " الطوائف "، وذلك منذ أوائل الربع الأول من القرن الخامس، حتى الفتح المرابطي، زهاء سبعين عاماً، قضتها جميعاً في سلسلة لا نهاية لها من المنازعات الصغيرة، والخصومات والحروب الأهلية الانتحارية، وكادت بتنابذها وتفرقها ومنافساتها، تمهد لسقوط الأندلس النهائي. وقد كان من رحمة القدر، أن اسبانيا النصرانية، كانت في نفس الوقت الذي انتثرت فيه وحدة الأندلس على هذا النحو الخطر، تعاني من انقسام الكلمة، وتعصف بها ريح الخلاف والتفرق، فلم تتح لها فرصة للوثوب بالأندلس الممزقة، إلى أن كان الوقت الذي بلغ فيه تنابذ الطوائف ذروته، واشتد ساعد اسبانيا النصرانية كرة أخرى، واستطاعت أن تضرب ضربتها القوية بانتزاع طليطلة، أول قاعدة إسلامية كبيرة (478 هـ - 1085 م)؛ وعندئذ تطورت الحوادث بسرعة واتجهت الأندلس الجريحة، في توجسها وانزعاجها، إلى إخوانها المسلمين فيما وراء البحر، بعدوة المغرب، تستدعيهم لنصرتها. وكان أن تدفقت الجيوش المرابطية من المغرب على شبه الجزيرة الإسبانية، وكان أن أنقذت دولة الإسلام في الأندلس.

الكتاب الخامس النظم الإدارية والحركة الفكرية فى عصرى الإمارة والخلافة

الكتابُ الخامس النظم الإداريّة والحركة الفكريّة في عصْري الإمارة والخلافة

الفصل الأول نظم الحكم

الفصل الأول نظم الحكم والأوضاع السياسية والإدارية والعسكرية والاقتصادية في عصري الإمارة والخلافة - 1 - تعاقبت خلال هذه الفترة الطويلة التي سردناها من تاريخ الأندلس، على الأمة الأندلسية، أنواع من نظم الحكم، ومن الأوضاع السياسية والإدارية، كانت تسير طوراً بعد طور مع مختلف الحوادث، والحروب والانقلابات المتوالية. وبالرغم من أنه لم يفتنا أن نشير في مختلف المواطن إلى تلك التغييرات المتوالية، التي شهدتها الأمة الأندلسية، فإنه يجدر بنا أن نتحدث عنها حديثاً خاصاً، وأن نقدم منها إلى القارىء صورة مجتمعة متماسكة. كانت الأندلس عقب الفتح ولاية تتبع إفريقية، ويقوم باختيار حاكمها والي إفريقية. وقد أستمر هذا الوضع نحو ثمانية أعوام فقط، تعاقب فيها على ولاية الأندلس ثلاثة من الولاة هم عبد العزيز بن موسى، وأيوب بن حبيب اللخمي، ثم الحر بن عبد الرحمن الثقفي. غير أنه كان من الواضح أن هذا النظام لم يكن يلائم قطراً ضخماً كالقطر الأندلسي، وخصوصاً بعدما بدأت الغزوات الإسلامية لغاليس (جنوب فرنسا)، وبدأت الأندلس تخوض الصراع مع مملكة الفرنج فيما وراء البرنيه، ومع نصارى الشمال. ومن ثم فقد رأت خلافة دمشق أن تكون الأندلس ولاية مستقلة تتبع الخلافة مباشرة، ويقوم الخليفة بتعيين واليها. وكان الخليفة عمر بن عبد العزيز هو الذي أصدر هذا القرار شعوراً منه بأهمية الأندلس السياسية والعسكرية والاجتماعية. وكان أول ولاة الأندلس من قبل الخلافة، هو السمح بن مالك الخولاني، وقد ندبه عمر بن عبد العزيز لولايتها في سنة مائة من الهجرة (719 م). بيد أنه

لما توفي عمر بن عبد العزيز (101 هـ) عاد الأمر في تعيين ولاة الأندلس إلى ولاة إفريقية، ولكن بمصادقة الخليفة. وكان الوالي عادة هو قائد الجيش العام، وإليه يرجع أمر الغزو في الشمال. ولما وقعت نكبة بلاط الشهداء في سنة 114 هـ (732 م)، أخذت الخلافة مرة أخرى بيدها تعيين والي الأندلس، واختار الخليفة هشام بن عبد الملك لولايتها عبد الملك بن قطن. واستمر الأمر بعد ذلك حيناً يرجع إلى والي إفريقية، وأحياناً إلى اختيار الجماعة، أعني جماعة الزعماء والقادة في شبه الجزيرة، وكان ذلك يحدث بالأخص حين تضطرب الأمور، ويقع الخلاف بين مختلف القبائل والزعامات. ولما اضطرمت الفتنة بين الشاميين والبلديين، وأخذ الفريقان يتبادلان الرياسة، ضعف أمر السلطة المركزية، ولم تهدأ الأمور حتى عين أبو الخطار الكلبي والياً للأندلس (125 هـ). ولكن أبا الخطار كان يمنياً فمال إلى اليمنية، واضطرمت الفتنة بين اليمنية والمضرية، ولما تفافم الأمر، وخشي الزعماء عاقبة الفتنة والحرب الأهلية، اتفقوا على تعيين يوسف بن عبد الرحمن الفهري من المضرية للولاية، وذلك دون موافقة أو مصادقة لا من والي إفريقية ولا من الخلافة، وكان ذلك في سنة 129 هـ (747 م). واستمر يوسف بن عبد الرحمن الفهري والياً للأندلس زهاء عشرة أعوام، وهو يزاول سلطة شبه مطلقة. وقد استطاع بعزمه وحزمه، أن يعيد إلى الأندلس نوعاً من الاستقرار والسكينة. ولكن القدر كان يدخر للأندلس مصيراً آخر، في ظل سلطة أخرى، لم تكن تخطر ليوسف أو غيره من الزعماء المتطلعين إلى الرياسة. وذلك أن عبد الرحمن الأموي عبر إلى الأندلس في ربيع الآخر سنة 138 هـ (سبتمبر سنة 755 م)، وهرع في الحال إلى لوائه جمع من الصحب والأنصار، ووقع الحدث الحسم في موقعة المسارة في العاشر من ذي الحجة سنة 138 هـ (13 مايو سنة 756 م) فهزم يوسف الفهري وصحبه، وانتهت رياسته للسلطة، وكتب النصر لسليل بني أمية، فبويع عبد الرحمن الأموي في الحال بالإمارة، وبعثت من ذلك التاريخ دولة بني أمية بالأندلس، بعد أن سقطت بالمشرق قبل ذلك ببضعة أعوام. ومن ذلك التاريخ تقوم الدولة الأموية في الأندلس، وتستقر قواعدها تباعاً، بعد معارك طويلة متعددة، بينها وبين الزعامات المحلية والعناصر الثائرة. وقد

بقيت الدولة الأموية عصراً تتشح بثوب الإمارة، وذلك وفقاً لما قرره مؤسسها عبد الرحمن الداخل. وبالرغم من أن بلاط قرطبة، بلغ في عصر أمراء مثل الحكم ابن هشام، وولده عبد الرحمن، مبلغاً عظيماً من القوة والبهاء، وأضحى ينافس بلاط بني العباس في الأخذ بزعامة الإسلام، فإن أمراء بني أمية لبثوا على مبدئهم من الاكتفاء بلقب الإمارة، إلى أن كان عهد عبد الرحمن الثالث (الناصر) فعندئذ تغيرت أوضاع الغرب الإسلامي بقيام الخلافة الفاطمية في الضفة الأخرى من البحر، على مقربة من الأندلس. وكان هذا الحادث الخطير في ذاته أول حافز للناصر على اتخاذ سمة الخلافة، وصدر مرسومه بذلك في اليوم الثاني من شهر ذي الحجة سنة 316 هـ (يناير 929 م) وبذا تحولت الدولة الأموية من إمارة إلى خلافة، وكان عبد الرحمن الناصر أول من تلقب من أمرائها " بأمير المؤمنين ". وقد تميزت الخلافة الأموية بعدة خصائص، أولها الاعتماد في توطيد سلطانها على الموالي والصقالبة، وهي سياسة بدأت في عهد الإمارة منذ عبد الرحمن الداخل، ووصلت إلى ذروتها في عهد الناصر، وذلك حسبما فصلناه في موضعه، وثانيها الاسترابة بالقبائل والزعامات العربية، والعمل المستمر على إخضاعها، والقضاء على سلطانها ونفوذها، وذلك لما لقيه بنو أمية منذ البداية من معارضة هذه القبائل والزعامات، وانتقاضها المتوالي، وثوراتها المتعددة، وثالثاً عطفها الواضح على أهل الذمة وهم النصارى واليهود، وكفالة حرياتهم الدينية والاجتماعية، وهذه السياسة أيضاً ترجع إلى عصر الإمارة، حيث أنشىء منذ عهد الحكم بن هشام أو قبله بقرطبة، منصب خاص لإدارة شئون أهل الذمة يعرف صاحبه " بالقومس "، وقد كان للنصارى المعاهدين، فوق ذلك قاض خاص، وقد يكون أسقفهم في نفس الوقت؛ وعين بعد ذلك للنصارى مطران خاص، مركزه بمدينة إشبيلية. وقد استمر هذا التسامح نحو النصارى المعاهدين عصوراً، وذلك بالرغم مما كانوا يدبرونه في بعض الأحيان ضد الحكومة المسلمة من الدسائس والمؤامرات ويعقدون من الصلات المريبة مع نصارى الشمال. وبلغت الخلافة الأموية بالأندلس ذروة قوتها ونفوذها السياسي والأدبي في عهد الناصر وولده الحكم المستنصر. بيد أنه بوفاة المستنصر (366 - 976 م) وولاية ولده الحدث الضعيف هشام المؤيد، تبدو طلائع ذلك الانقلاب الحاسم

الذي كان يدخره القدر لمصير الخلافة الأموية. ذلك أن محمد بن أبي عامر، الذي أخذ يبزغ نجمه منذ أواخر أيام الحكم، ما كاد يلي منصب الوزارة، حتى أخذ يستجمع أزمة السلطة في يده تباعاً، ويحطم كل معارضة لسلطانه، وانتهى الأمر بأن فرض ابن أبي عامر نفسه حاكماً مطلقاً للأندلس، وأنشأ مدينة الزاهرة، لتكون له قاعدة جديدة للحكم، واتخذ سمة الملك، وتسمى بالحاجب المنصور (371 هـ - 981 م)، وبالرغم من أنه لم يتعرض بشىء للخلافة الأموية أو رسومها، فإن الخلافة لم تكن في ظل حكمه سوى شبح باهت، واسم بلا مسمى. وهكذا قامت الدولة العامرية واستمرت في ظل المنصور، ثم ولده عبد الملك المظفر، فأخيه عبد الرحمن زهاء ثلاثين عاماً، ثم انتهت بمصرع عبد الرحمن المنصور في رجب سنة 399 هـ (1009 م). وهنا استعادت الخلافة الأموية سلطانها بقيام محمد بن هشام الملقب بالمهدي، وتربعه في كرسي الخلافة مكان الخليفة هشام المؤيد، وانتهى بذلك عهد السلطة الثنائية، سلطة الخلافة الأموية الإسمية، وسلطة بني عامر الفعلية، ولكن عودة الخلافة الأموية على هذا النحو لم يكن سوى بداية مأساة مروعة، استمرت زهاء أربعين عاماً، اضطرمت الأندلس فيها بالفتن المدمرة، وغدت الخلافة الإسمية، والسلطة الفعلية، غنماً متداولا، بين بني أمية، والفتيان العامريين، والبربر، وبني حمود، وانتحل بنو حمود ألقاب الخلافة، وقامت في وقت واحد بالأندلس أكثر من خلافة في قرطبة، ومالقة، وإشبيلية، وغدت قرطبة والأندلس كلها مسرحاً لمعارك وحروب أهلية متوالية، ودمرت خلال ذلك مدينة الزهراء الخلافية، وعدة من أحياء قرطبة، وسادت الفوضى كل جنبات الأندلس، واستمرت هذه المحنة زهاء أربعين عاماً، ثم تمخضت في النهاية عن مأساة جديدة. وهي تمزق الأندلس إلى ولايات ومدن عديدة مستقلة، يحكم كل منها زعيم أو أمير مستقل، وبدأ بذلك عهد الطوائف. تلك خلاصة وجيزة للأوضاع النظامية، وأنواع الحكم المتوالية، التي عاشت في ظلها الأمة الأندلسية زهاء ثلاثة قرون منذ فتح الأندلس في سنة 92 هـ (711 م) حتى قيام دول الطوائف، في الربع الثاني من القرن الخامس الهجري.

- 2 - الحجابة والوزارة كانت حكومة الأندلس في عصر الولاة، هيئة إدارية محلية قوامها الحاكم (الوالي) وقادة الجيش. ولم تك ثمة مناصب وزارية بالمعنى المعروف، إذ لم يكن الوالي سوى رئيس مؤقت لإدارة الإقليم، وقد كان الوالي في معظم الأحيان هو قائد الجيش العام. ولم تظهر المناصب الوزارية إلا في بداية عصر الإمارة مذ قامت الدولة الأموية بالأندلس، على يد مؤسسها عبد الرحمن الداخل. وقد اقتبس الداخل لنظام حكومته، من أنظمة الحكومة الأموية بالمشرق، وأنشأ منصب الحجابة، ولكنه لم ينشىء مناصب الوزارة، بل اكتفى بتعيين نفر من أخلص أنصاره كمعاونين ومستشارين، يعاونونه في القيام بأعباء الحكم، ويبذلون له النصح في مهام الأمور. وعين للجيش أيضاً قائده العام. بيد أنه كان يقود الجيش بنفسه مواطن كثيرة. وقد امتازت حكومة الداخل بالاعتماد على الموالي والاسترابة بالعرب، لما لقيه الداخل من خصومتهم ومناوأتهم. وقد غدت هذه الظاهرة فيما بعد، ظاهرة الاسترابة بالعرب، من مميزات الحكومة الأموية بالأندلس، سواء في عهد الإمارة أو عهد الخلافة، واتخذت أسطع مظاهرها في عهد عبد الرحمن الناصر. واتجهت الحكومة الأموية، إلى جانب الاعتماد على الموالي، إلى اصطناع الصقالبة، واتخذ هذا الاتجاه طابعه القوي منذ عهد الحكم بن هشام، وظهر الصقالبة لأول مرة بكثرة في البلاط الأموي، واحتلوا معظم مناصب القصر والخاص. غير أن الاعتماد على الصقالبة لم يمنع قيام الحجابة والوزارات القوية. فكان منصب الحجابة في الواقع هو أهم المناصب التنفيذية، وكان يليه في معظم الأحيان رجال من الطراز الأول، أحياناً من رجال السيف، مثل عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث وعبد العزيز بن أبي عبدة حاجبا الحكم، وأحياناً من رجال القلم مثل عيسى بن شهيد حاجب عبد الرحمن بن الحكم، والحاجب جعفر المصحفي، حاجب الحكم المستنصر، وأحياناً يجمع الحاجب بين السيف والقلم مثل الحاجب عبد الكريم، وهاشم بن عبد العزيز حاجب الأمير محمد بن عبد الرحمن.

وكان يعاون الحاجب، وهو بمثابة رئيس الوزارة، عدة من الوزراء، يتولون مختلف المناصب الوزارية. وقد بلغت الوزارة في ظل الحكومة الأموية الأندلسية شأواً بعيداً، وتعاقب في ولايتها جمهرة من أعظم الرجال، وألمعهم خلالا، وكانت تضم عدة من أخطر مناصب الدولة، مثل منصب كبير الخاص. وكان يشغله على الأغلب فتيان الصقالبة. وخطة الخيل. وخطة الكتابة أو الكتابة العليا، وكان يتولاها وزير من الكتاب النابهين. وخطة صاحب المدينة أو حاكم قرطبة، وصاحب المدينة الزهراء، وكانتا من أهم المناصب الوزارية. وخطة المظالم، وكانت قبل عهد الناصر خطة مفردة تتضمن العرض والمظالم. ولكنها في عهد الناصر، قسمت إلى خطتين (325 هـ)، وجعل العرض خطة مستقلة بذاتها، وكذلك المظالم أضحت خطة مستقلة، وكان أول من وليها مستقلة محمد بن قاسم بن طملس، وكان يتولى المظالم وزير، وقد وليها قبله أيام الناصر جماعة من الوزراء النابهين مثل أحمد بن حدير. وعبد الملك بن جهور. وخطة الشئون المالية. وخطة الشرطة، وكانت من أهم المناصب الإدارية المتعلقة بضبط النظام والأمن، وكانت قبل عهد الناصر تنقسم إلى مرتبتين، الشرطة العليا، والشرطة الصغرى، ولكنها منذ سنة 317 هـ في عهد الناصر لدين الله، قسمت بحسب أهميتها إلى ثلاث مراتب: الشرطة العليا، والشرطة الوسطى، والشرطة الصغرى؛ وقد رتب رزق الشرطة الوسطى، وسطاً بين رزقي العليا والصغرى، وكان أول من تقلدها سعيد بن سعيد بن حدير. وخطة القضاء، وتتبعها خطة المواريث، وكذلك خطة السوق أو الحسبة. وخطة الشورى، وكانت من الخطط العارضة، ومن المناصب ذات النفوذ العلمي والأدبي قبل كل شيء، وتسند عادة إلى من يعتبر في وقته عميد العلماء وشيخهم، وكان أشهر من وليها رجال مثل بقي بن مخلد. وفي أيام المنصور بن أبي عامر، كان ثمة ديوان يسمى ديوان الندماء، كان يلحق به كل أديب وشاعر ممن يؤثرهم الأمير بصحبته ومجالسته. وفي أواخر الدولة العامرية، غلب الصقالبة في تولي الخطط الكبرى من حجابة ووزارة، وبدأ ذلك بنوع خاص في عهد عبد الملك بن المنصور. ولما انهارت الدولة العامرية استمرت هذه الظاهرة حيناً، وتولى أولئك الفتيان الحجابة للخلفاء الأخيرين من بني أمية، وغلبوهم على أمرهم، ثم استبدوا فيما

بعد، عند انهيار الدولة، برياسة طائفة من المدن والولايات، وكان من هؤلاء أمراء الطوائف، مثل مجاهد العامري صاحب دانية، وخيران العامري صاحب ألمرية. وظهرت في الدولة العامرية بدعة أخرى، هي إسناد منصب الحجابة إلى الأطفال. فقد استصدر عبد الملك بن المنصور من الخليفة المحجور هشام المؤيد، مرسوماً بتعيين ولده الطفل محمد في منصب الحجابة، ولقب بذي الوزارتين، وعين عبد الرحمن المنصور ولده الطفل عبد العزيز في منصب الحجابة، وأسبغ عليه لقب سيف الدولة. وكانت هذه المهازل وأمثالها دليلا على تصدع ذلك الصرح الإدارى المحكم الذي شاده الأمراء والخلفاء من بني أمية، خلال قرنين من الجهود المتوالية. وفي أيام الخليفة المستظهر العابرة (رمضان - ذو القعدة 414 هـ) استحدث بالوزارة عدة خطط جديدة مثل: خطة خدمة المدينتين الزهراء والزاهرة، وخدمة كتابة التعقب والمحاسبة، وخدمة الحشم، وخدمة مواريث الخاصة، وخدمة الطراز، وخدمة المعالي، وخدمة الأسلحة، وخدمة الخزانة، وخدمة الوثائق، ورفع كتب المظالم، وخدمة خزانة الطب والحكمة، وخدمة أحكام السوق، وهي خطط يصفها ابن حيان بأنها عبث وزخرف من التسطير وضع على غير حاصل، ومراتب نصبت لغير طائل. - 3 - الجيش، نظامه وتكوينه كان أول جيش إسلامي عبر إلى شبه الجزيرة لفتح الأندلس، مكوناً من العرب والبربر، وكان قائد الجيش الفاتح، طارق بن زياد، فيما يرجح بربرياً من قبيلة نفزة. وقد لعب البربر منذ البداية في تكوين قوى الأندلس الغازية والدفاعية أعظم دور، وكان تدفقهم من الضفة الأخرى من البحر - من المغرب - على شبه الجزيرة أسرع وأغزر من تدفق المتطوعة العرب، وكانوا يؤلفون الكثرة في جيش الغزو. ولما نظم عبد الرحمن الغافقي جيشه الضخم لغزو بلاد الفرنج، كان البربر من عناصره المختارة الغالبة، وكانت القيادة دائماً بيد الضباط العرب، وكان الخلاف الذي اضطرم منذ بداية الفتح بين العرب والبربر، يعمل عمله المقوض بين صفوف الجيش، وقد بدأ تكوين الجيوش الغازية الضخمة، منذ عهد السمح بن مالك الخولاني والي الأندلس، وكان أعظم هذه

الجيوش، الجيش الضخم الذي حشده عبد الرحمن الغافقي لغزو مملكة الفرنج. وبالرغم من أن البربر كان لهم في إنجاح معظم الغزوات الشمالية أثر فعال، فإنهم كانوا أيضاً في بعض الأحيان عنصراً خطراً على سلامة الجيش، لما كان يسودهم في بعض الأحيان من البغض وعدم التعاون لقادتهم العرب. وكان أسطع مثل لذلك الخلاف المدمر، ما حدث في موقعة بلاط الشهداء (114 هـ - 732 م) من تخاذل البربر وتخلفهم عن القتال أمام الفرنج، وإرغامهم هيئة الجيش على الانسحاب بعد مقتل قائده البطل عبد الرحمن الغافقي. ولما قامت ثورة البربر في المغرب، وهزم العرب في منطقة طنجة، وعبرت فلول الجيش المنهزم وهم من الشاميين بقيادة بلج بن بشر القشيري إلى الأندلس، وذلك بدعوة الوالي ابن قطن، ليستعين بهم على مغالبة البربر في الأندلس، رجحت كفة العناصر العربية في الجيش مدى حين. ولكن جيش الأندلس ما لبث أن انقسم إلى قسمين، معسكر الشاميين وهم أنصار بلج، ومعسكر العرب والبربر المحليين. ولبثت الحرب الأهلية تضطرم حيناً، حتى قام يوسف بن عبد الرحمن الفهري فاستقر في ولاية الأندلس، وقام بإصلاح الجيش وتنظيمه، ليعود كما كان جيشاً أندلسياً، يضطلع بالغزو ورد هجمات نصارى الشمال. وعنى عبد الرحمن الداخل بتنظيم الجيش أشد عناية، وحشد له المتطوعة والمرتزقة من سائر الطوائف. وبلغت قواته يومئذ نحو مائة ألف مقاتل. وهذا عدا الحرس الخاص، الذي يتكون من الموالي والبربر والرقيق، وقد بلغت قواته نحو أربعين ألفاً. ووضع عبد الرحمن الداخل أيضاً نواة الأسطول الأندلسي بما أنشأ من قواعد لبناء السفن في بعض الثغور النهرية والبحرية. ولكن بداية قيام الأسطول الأندلسي الفعلية ترجع إلى ما بعد ذلك بنحو نصف قرن، حينما فاجأ النورمانيون الأندلس بغزو الثغور الغربية، ثم بغزو إشبيلية، والفتك بأهلها. وكان ذلك في سنة 230 هـ (843 م) في عهد عبد الرحمن بن الحكم، فعندئذ أدركت الحكومة الأندلسية وجوب العناية بأمر الأسطول والتحصينات البحرية وبدىء بإنشاء السفن الحربية. وكانت أكبر دور الصناعة لإنشاء السفن في مياه الوادي الكبير تجاه إشبيلية. ومن ذلك الحين يقوم الأسطول الأندلسي بدوره في شئون

الغزو والدفاع، وقد بلغت وحداته في عهد عبد الرحمن الناصر زهاء مائتي سفينة. ومما تجدر ملاحظته أن الجيش الأندلسي، فد تلقى خلال عهد الفتنة الكبرى التي شملت سائر نواحي الأندلس، ولاسيما المنطقة الجنوبية، واستمرت تضطرم زهاء ستين عاماً، منذ عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273 هـ) كثيراً من الدربة والتجارب المريرة في معاركه المستمرة مع جيوش الثوار، وأضحى في أواخر هذه الحقبة في عهد عبد الرحمن الناصر، من حيث العدد والكفاية قوة لها خطرها. وقد بذل الناصر جهوداً عظيمة لإصلاح الجيش وتقويته، ومده بالأسلحة والعتاد الوفير. وعنى في الوقت نفسه بأمر الأسطول، فأنشأ له وحدات جديدة، وجعل مركزه الرئيسي ثغر ألمرية، وأنشأ بها أعظم دار للصناعة، وبلغ الأسطول الأندلسي في عهد الناصر، حسبما تقدم، زهاء مائتي سفينة مختلفة الأنواع والأحجام، وهذا عدا أسطول آخر خصص لشئون المغرب البحرية، وكان الأسطول الأندلسي يومئذ من أقوى الأساطيل، وكان يسيطر على مياه إسبانيا الشرقية والجنوبية. وفي عهد المنصور بن أبي عامر، بلغ الجيش الأندلسي المرابط ذروة القوة والضخامة، وقد رأى المنصور أن يعتمد بالأخص في تكوين الجيش على حشود البربر، فاستقدمهم من العدوة، وبذل لهم الأعطية السخية، وكذلك حشد في جيشه كثيراً من المرتزقة النصارى، ومعظمهم من المستعربين رعايا الحكومة الأندلسية، واستطاع المنصور، بما بذله من جهود عنيفة متوالية، ومن أموال وفيرة، أن ينشىء للأندلس قوة عسكرية هائلة لم تعرفها الأندلس في أى عصر سابق, أو لاحق. وقد نقلت إلينا الرواية بعض أرقام عن الجيش الأندلسي المرابط في عهد المنصور، من ذلك أن الفرسان بلغ عددهم إثنتي عشر ألف ومائة فارس من سائر الطبقات، تصرف لهم النفقة والسلاح والعلافة، وبلغ عدد الرجالة (المشاة) في الجيش المرابط ستة وعشرين ألف مقاتل. وكان عدد الجيش المرابط، يتضاعف وقت الصوائف مراراً بما ينضم إليه من صفوف المتطوعة، وقد بلغ عدد الفرسان في بعض الصوائف، ستة وأربعين ألفاً، وكان عدد المشاة يتضاعف أيضاً، وقد يعدو المائة ألف أو تزيد.

- 4 - الموارد الاقتصادية وصنوف الجباية لما افتتح المسلمون الأندلس، كان الشعب الإسباني المغلوب، ما يزال يعيش في ظل بقايا النظم الرومانية، التي اتخذها القوط أساساً لتشريعاتهم ونظمهم الإدارية. وكان عبء الضرائب يقع معظمه على طبقات الشعب الدنيا، ولا يكاد يقع شىء منه على عاتق الأشراف ورجال الدين، ومن إليهم من الطبقات الممتازة. فلما افتتح المسلمون شبه الجزيرة، فرضت الضرائب على قاعدة المساواة دون تمييز بين طبقة وأخرى، وفرضت الجزية على من لم يعتنق الإسلام من أبناء الشعب المغلوب. وفي خلال الحقبة الأولى، التي تميزت باستمرار الغزوات الإسلامية، وما تقتضيه من حشد الجيوش المستمرة، لم تكن موارد القطر المفتوح قد حققت كلها واستغلت. وقد كان من الواضح منذ البداية أن القطر المفتوح قطر زراعي قبل كل شىء. وكان خراج الأرض الزراعية، والجزية، وأخماس الغنائم، هي المصادر الرئيسية للدخل، وقد ازدهرت الزراعة بالأخص عقب الفتح لما حدث من توزيع أفضل للأرض، وتحسين أحوال العاملين فيها، وكان يوسف الفهري آخر الولاة، أول من عدل نظام الضرائب القديم، ففرض على كل ولاية، أن تقدم ثلث الدخل، ورفع الجزية عمن توفوا من النصارى، وقسم الأندلس من الناحية الإدارية إلى خمس ولايات حسبما أسلفنا ذلك في موضعه. وكانت حكومة قرطبة الإسلامية تسيطر على أخصب وأغنى وديان شبه الجزيرة الإسبانية، وكان أهم المحاصيل الزراعية هي القمح والزيتون والفاكهة وغابات الأشجار الخشبية، وما تزال هذه المحاصيل إلى اليوم هي أهم موارد اسبانيا الزراعية. وكذا كان تربية الماشية مورداً من أهم موارد الدخل القومي. ولما استقرت الأمور، واستطاع الفاتحون أن يضعوا أيديهم على موارد البلاد وثرواتها الطبيعية، وأن يستغلوها بمقدرة وذكاء، لم تبق الزراعة هي المورد الوحيد، وإن لبثت دائماً هي المورد الرئيسي. ذلك أن شبه الجزيرة الإسبانية، تضم ثروات متنوعة من المعادن، كانت تستغل منذ أيام الرومان، فكان يستخرج

بها الفضة والرصاص والحديد والذهب والزئبق، والقصدير من أنحاء مختلفة، في الشمال والجنوب، فكانت الفضة والنحاس تستخرج في الشمال، وفي جهة قرطبة، وكورة تدمير، وكان الزئبق يستخرج من جبال البرانس، والقصدير بجهة أكشونبة من ولاية الغرب، وكان البللور يستخرج في منطقة لورقة، والرخام من جبل قرطبة وباغة ومن جبال سيرّا مورينا. وكانت تقوم إلى جانب الزراعة صناعات هامة، مثل صناعة النسيج والملابس والأثاث والفخار والزجاج والورق (¬1)، وكانت التجارة تزدهر في نفس الوقت داخل شبه الجزيرة، وخلال موانيها الشرقية والجنوبية ولاسيما مالقة وألمرية، وتجبي الدولة من المكوس التجارية، سواء على التجارة الداخلية أو الخارجية أو على السفن الصادرة والواردة مقادير عظيمة. ولم تأت أوائل القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، في عصر عبد الرحمن ابن الحكم، حتى كانت إسبانيا المسلمة, قد بلغت مبلغاً عظيماً من الرخاء، وتضاعفت مواردها من الدخل القومي، وبلغت حصيلة الجباية من المكوس وحدها زهاء ألف ألف دينار في السنة، وبلغت في عهد عبد الرحمن الناصر من الكور والقرى خمسة آلاف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار. وبلغت من المستخلص (وهي الأملاك السلطانية) سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، وقد ذكرنا فيما تقدم، في موضعه، أن الناصر خلف عند وفاته في بيت المال عشرين مليوناً من الذهب، هذا عدا ما أنفقه من الأموال الطائلة في مختلف الغزوات، وفي مختلف المنشآت الباذخة التي أقامها، وفي مقدمتها مدينة الزهراء الملوكية، وهي مما يدل على ضخامة الموارد المالية للأندلس في عصر الخلافة. وفي أيام المنصور بن أبي عامر، في أواخر عصر الخلافة، حققت موارد الدخل زيادة عظيمة، ووصل محصل الجباية وحده إلى أربعة آلاف ألف دينار (أربعة ملايين)، سوى رسوم المواريث وسوى مال السبي والغنائم، واستمرت هذه الزيادة في عهد ولده عبد الملك. ثم كان انهيار الدولة العامرية، وانهيار الخلافة الأموية، واضطرام الفتنة في كل مكان، فتحطمت موارد الدخل، وكسدت التجارة والصناعة، وغاضت أسباب الرخاء. ¬_______ (¬1) راجع كتاب الأستاذ ليفي بروفنسال L'Espagne Musulmane aux Xème Siècle; p. 176, 183 & 184.، وكذلك نفح الطيب ج 1 ص 78 و93.

الفصل الثانى الحركة الفكرية الأندلسية

الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية في عصري الإمارة والخلافة - 1 - لبثت الأندلس عقب الفتح، ردحاً من الزمن، بعيدة عن أن تكون مهداً لنشوء الحركة الفكرية. ذلك أنه خلال عصر الولاية، لم تكن الأمور قد استقرت بعد، ولم تترك مشاغل الغزو، والخلافات الحزبية، والانقلابات المتوالية في الرياسة، كبير مجال لاتجاه الأذهان إلى التفكير والأدب، ومن ثم فإنا لا نجد في هذا العصر كتاباً أوشعراء أو مفكرين ذوي خطر، وإن كنا نجد بعض الآثار الشعرية القليلة، التي ترد على ألسنة بعض الولاة أو الزعماء. ويمكننا أن نرجع الحركة الفكرية الأندلسية، إلى عصر عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة 172 هـ. ذلك أن هذا الأمير القوي اللامع، منشىء الدولة الأموية بالأندلس، كان أول شخصية بارزة ظهرت في ميدان التفكير والأدب والشعر، ويمكن أن نعتبره بحق رائد النهضة الأدبية النثرية والشعرية، التي تفتحت فيما بعد، وازدهرت في عهد خلفائه، ولنا فيما أوردناه من نماذج قليلة، من نثره، ومن نظمه، ما يدل على براعته وتفوقه في هذا الميدان. ومن بين أمراء بني أمية بالأندلس، كان الرواد الأوائل في الحديث والفقه، فقد كان الداخل، فوق براعته الأدبية عالماً بالشريعة، وكان ولده هشام بن عبد الرحمن المتوفى سنة 180 هـ (796 م) مبرزاً في الحديث والفقه. وفي عصر هذا الأمير ظهرت، طلائع النهضة الأولى في ميدان التفكير والأدب، وكان يغلب على هذه النهضة في البداية، الطابع الديني قبل كل شىء، وكان قد رحل في عصر الداخل جماعة من فقهاء الأندلس إلى المشرق، ودرسوا بالمدينة على الإمام مالك وغيره من أقطاب المشرق، واستقوا من علم مالك واجتهاده، ونقلوا عنه كتابه (الموطأ)، وكان في مقدمة هؤلاء فقهاء مبرزون، مثل زياد بن عبد الرحمن،

وعيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى الليثي، وكان زياد بن عبد الرحمن عميد فقهاء الأندلس في وقته، وكان الأمير هشام بن عبد الرحمن يوقره ويجله لعلمه وورعه وزهده، وتوفي في سنة 204 هـ (¬1). وكذا كان عيسى بن دينار، وأصله من طليطلة، وسكن قرطبة، عالماً راسخاً، وكان أستاذ الفتيا في وقته لا يتقدمه فيها أحد، وكان ممن اتجهت إليهم الريبة في ثورة الربض فهرب واستخفى حيناً، ثم عفا عنه الأمير الحكم وأمّنه، فعاد إلى قرطبة وتوفي سنة 212 هـ (¬2). وأما يحيى بن يحيى الليثي فقد رحل كزميله إلى المشرق، وسمع من مالك، والليث ابن سعد، وعبد الله بن وهب وغيرهم، وعاد إلى الأندلس ليشغل بين فقهائها مركز الصدارة، وكان ذهناً حراً يعتز بحريته واستقلاله، فلم يل قضاءً، ورفض كل دعوة إلى توليه، وتوفي في سنة 234 هـ (¬3). وعلى يد أولئك الفقهاء والرواد، ذاع مذهب مالك بالأندلس منذ عصر هشام. وكان هشام نفسه كثير الإجلال لمالك ومذهبه، فزاد ذلك في ذيوع المذهب، وفي تمكين مكانته بالأندلس. وكان هذا بداية لنفوذ الفقهاء في شئون الدولة، وهو نفوذ اشتد فيما بعد، وكان له أثر عميق في تحريك القوى المعارضة، التي انتهت باضطرام ثورة الربض ضد الحكم بن هشام، في سنة 202 هـ (818 م)، وذلك حسبما أوضحنا في موضعه. وفي عصر الحكم بالذات، تتخذ الحركة الفكرية طابعاً أوسع أفقاً، وتظهر طوالع النزعة الأدبية إلى جانب العلوم الدينية، ويظهر الأدباء والشعراء إلى جانب الفقهاء والمحدثين. وكان في مقدمة من ظهروا في تلك الفترة عبد الملك ابن حبيب بن سليمان السلمي، وأصله من إلبيرة وسكن قرطبة، ثم رحل إلى المشرق وسمع الكثير من علمائه. ولما عاد إلى الأندلس عمل مشاوراً مع يحيى ابن يحيى، وسعيد بن حسان، وكان حافظاً للفقه على مذهب المدنيين، بيد أنه كان إلى جانب الفقه، بارعاً في النحو والعروض والشعر، حافظاً للأخبار والأنساب والأشعار، متصرفاً في عدة فنون. وكتب عدة مؤلفات في الفقه والتاريخ منها " الواضحة " و" الجوامع " وكتاب في " فضائل الصحابة "، وكتاب في " غريب الحديث "، وكتاب " حروب الإسلام "، وكتاب " طبقات ¬_______ (¬1) راجع علماء الأندلس لابن الفرضي (مصر) رقم 458. (¬2) راجع علماء الأندلس رقم 975. (¬3) جذوة المقتبس للحميدي (مصر) رقم 908.

الفقهاء والتابعين " و" مصابيح الهدى " وغيرها، وكان محمد بن عمر بن لُبابة يقول فيه: عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس، ويحيى بن يحيى عاقلها، وعيسى ابن دينار فقيهها. وتوفي عبد الملك بن حبيب في سنة 238 هـ (¬1). وفي عصر الحكم بن هشام تتخذ الحركة الفكرية، التي غلب عليها الطابع الديني، حتى ذلك الوقت، طابعاً أدبياً واضحاً، ويبدأ ظهور الكتاب والشعراء المبرزين، وكان الحكم نفسه في مقدمة شعراء عصره وأدبائه، وكان له نظم بارع أوردنا فيما قدم طرفاً منه. ومن شعراء هذا العصر، عباس بن ناصح الجزيري المصمودي، وهو من أهل الجزيرة، وقد رحل إلى مصر والحجاز والعراق، وتلقى على علمائها، ودرس الفقه، ولقي الأصمعي وغيره ببغداد، ثم عاد إلى الأندلس، ومدح الأمير الحكم فندبه لقضاء الجزيرة، وكان بارعاً في اللغة وشاعراً جزلا، يسلك في شعره مسلك العرب القديمة، وكان له أيضاً حظ من الفقه (¬2). وكان ولده عبد الوهاب بن عباس بن ناصح أيضاً، فقيهاً وشاعراً محسناً (¬3)، وكان من الكتاب والشعراء أيضاً حاجب الحكم وقائده عبد الكريم ابن عبد الواحد بن مغيث، ومؤمن بن سعيد. وكان مؤمن شاعراً مبرزاً كثير الشعر. وكان حاد النكتة والنادرة، ومن شعره قوله: حرمتك ما عدا نظراً مضراً ... بقلب بين أضلاعي مقيم فعيني منك في جنات عدن ... مخلدة وقلبي في الجحيم (¬4) وبلغ الشعر في عصر الحكم ذروته، على يد شاعرين كبيرين، هما العلامة عباس ين فرناس ويحيى الغزال الجيّاني. وكان أولهما عالماً بالفلسفة والفلك والكيمياء الصناعية والموسيقى. وقد أشرنا فيما تقدم إلى مخترعاته العلمية، وإلى محاولته اختراع طريقة لطيران الإنسان. وكان ثانيهما كذلك عالماً بالفلسفة والفلك، وقد عاش كلاهما طويلا بعد عصر الحكم، وفيما أوردناه فيما تقدم من شعرهما دليل على براعتهما في هذا الميدان. ¬_______ (¬1) راجع ابن الفرضي، علماء الأندلس، رقم 816. (¬2) راجع ابن الفرضي رقم 881. (¬3) ابن الفرضي رقم 881. (¬4) راجع جذوة المقتبس للحميدي رقم 826، وقضاة قرطبة للخشني (مصر) ص 103 و105.

وفي عصر عبد الرحمن بن الحكم، بلغت الحركة الفكرية الأندلسية الأولى ذروتها، ففي ميدان الكتابة احتشد في بلاط الحكم عدة من أكابر الكتاب المبرزين، وفي مقدمتهم الحاجب عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، ومحمد ابن سليمان الزجّالي، وفي ميدان العلوم الدينية ظهر في عهد عبد الرحمن، جمهرة من أكابر الفقهاء، مثل محمد بن يوسف بن مطروح، ومحمد بن حارث، وعبد الأعلى بن وهب، وبقيّ بن مخلد، ومحمد بن وضاح، وغيرهم، وكان عميد هذه الجمهرة من الفقهاء بقي بن مخلد، وهو من أهل قرطبة، ودرس على علماء الأندلس وإفريقية، وبرع في الحديث والرواية، ويمكننا أن نعتبره رائد علم الحديث في الأندلس. وقد أنكر عليه بعض خصومه ما أدخله من كتب الاختلاف وغريب الحديث بالأندلس، ووشوا به للأمير محمد بن عبد الرحمن. وقد أشرنا فيما تقدم إلى ما كان من مناظرته لخصومه، وإلزامهم الحجة، وإلى ما حباه به الأمير من عطفه وحمايته، وقد كان ذلك من أسباب انتشار الحديث بالأندلس. ولبقي بن مخلد عدة مؤلفات فقهية. وله تفسير للقرآن ومسند للنبي، وينوه العلامة ابن حزم في رسالته بعلم بقي وأهمية كتبه، ويقول لنا إن تفسيره للقرآن لم يؤلف في الإسلام مثله (¬1). وسمع على بقي جمهرة من فقهاء الأندلس، وكان ورعاً زاهداً، وتوفي سنة 276 هـ (¬2). وكان من أعلام الفقهاء في هذا العصر، محمد بن عبد السلام الخشني وهو من أهل قرطبة، ورحل إلى المشرق وسمع، في البصرة وبغداد ومصر، وكان فصيحاً جزل البيان، بارعاً في اللغة، ورواية الحديث، وكان أنوفاً منقبضاً عن السلطان، وقد رفض أن يتولى القضاء للأمير محمد بن عبد الرحمن، وتوفي في سنة 286 هـ (¬3). وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يتمتع به الأمير عبد الرحمن بن الحكم من المواهب الأدبية والشعرية، وأوردنا فيما تقدم طرفاً من شعره. وكان من ألمع شعراء عصره، صديقه وشاعره عبد الله بن الشمر بن نمير، وهو من أهل وشقة، وكان ¬_______ (¬1) راجع رسالة ابن حزم عن علماء الأندلس في نفح الطيب ج 2 ص 131. (¬2) راجع ابن الفرضي رقم 283. (¬3) ترجمته في ابن الفرضي رقم 1134. وهو غير محمد بن حارث الخشني صاحب " قضاة قرطبة " المتوفى سنة 361 هـ.

عالماً متمكناً وشاعراً محسناً. وله شعر جيد كثير وقد أخذ الناس من شعره (¬1). وكان من أبرز الظواهر الأدبية في هذا العصر، انتشار اللغة العربية وآدابها بين طائفة المستعربين أو النصارى المعاهدين، ونبوغ الكثير منهم فيها، وبلوغهم مرتبة البراعة في كتابتها، ويمكننا أن نذكر من كتابهم المبرزين في هذا العصر، الأسقف جومث بن أنتنيان، قومس أهل الذمة، وكان أديباً بارعاً، وكاتباً مقتدراً، ومن كتاب الأمير عبد الرحمن. وكانت الفتنة الكبرى في عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238 - 273 هـ) وولده الأمير عبد الله (275 - 300 هـ) عاملا هاماً في اضطرام النهضة الأدبية، والشعرية بنوع خاص. وكان من أبرز شعراء عهد الفتنة الأول عباس ابن فرناس، وقد أوردنا قصيدته في موقعة طليطلة، التي سحق فيها الثوار. وفي أواسط عهد الفتنة ظهر شاعر من أعظم شعراء الأندلس، وأديب من أعظم أدبائها، هو الفقيه أبو عمر أحمد بن عبد ربه (246 - 328 هـ) صاحب كتاب " العقد الفريد " الذي يعتبر من أعظم آثار الأدب الأندلسي. ويمكننا أن نعتبر ابن عبد ربه شاعر الدولة المروانية، منذ عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن حتى عهد عبد الرحمن الناصر، وقد ظهر بشعره في موقعة إستجة التي سحق فيها الثائر عمر بن حفصون، وذلك في سنة 278 هـ (891 م)، وظهر بمدائحه للأمير عبد الله، ثم حفيده عبد الرحمن الناصر، وقد كان معلمه في صباه، وبأرجوزته في غزوات الناصر ومآثره. وقد أوردنا من نظمه فيما تقدم عدة من قصائده. وأما كتابه " العقد الفريد " فإنه يعتبر بمحتوياته وتنوعه، من أمتع الكتب في الأدب العربي، وبالرغم من أن موضوعاته، يغلب عليها طابع الأدب المشرقي، فإنه يعتبر عنواناً بارزاً للأدب الأندلسي في مرحلته الأولى. وقد انتقد بعضهم العقد الفريد لأنه " لم يجعل فضائل بلده، واسطة عقده، ومناقب ملوكه يتيمة ملكه " (¬2) ويعتبر العقد الفريد بطابعه المشرقي، على النقيض من كتاب " الذخيرة " لابن بسام الشنتريني، المتوفى سنة 542 هـ، والذي يعتبر بمحتوياته وروحه، مثلا ساطعاً للأدب الأندلسي. ¬_______ (¬1) ابن الفرضي رقم 691. (¬2) راجع نفح الطيب ج 3 ص 126.

ومن شعراء عهد الفتنة وأدبائها البارزين سوّار بن حمدون القيسي، وسعيد ابن سليمان بن جودي، وهما من زعماء الفتنة العرب، وكان كلاهما إلى جانب فروسيته من أعلام البيان والنظم في وقته، وقد نقل إلينا ابن الأبار نماذج من نظمهما (¬1). وكان من أعلام الأدب في تلك الفترة أيضاً محمد بن أضحى الهمداني، وهو من زعماء العرب بكورة إلبيرة. وكان بارعاً في الأدب، خطيباً مفوهاً، يخطب بين يدي الأمراء في المحافل، وكان خلال الفتنة قد انضوى تحت لواء الأمير عبد الله، ثم انضوى بعد ذلك تحت طاعة الناصر فيمن خضع من ثوار النواحي (¬2). وكان الأمير عبد الله نفسه من ألمع شعراء عصره. وكان بارعاً في العربية، حافظاً للغريب من الأخبار، وقد نوه المؤرخ ابن حيان بشاعريته، ورفيع أدبه، وأوردنا نحن فيما تقدم نماذج رقيقة من شعره. - 2 - وكان عصر عبد الرحمن الناصر، من ألمع عصور الدولة الأموية بالأندلس، وفيه زهت العلوم والآداب، وظهرت جمهرة من أكابر الشعراء والعلماء. وكان من أعلام تلك الفترة، إلى جانب عميدهم ابن عبد ربه، صاحب العقد الفريد، محمد بن عمر بن لبُابة، وهو من أهل قرطبة. وكان إماماً في الفقه، متمكناً من حفظ الرأي، والبصر بالفتيا، وكان مشاوراً أيام الأمير عبد الله، ثم انفرد بالفتيا أيام الناصر، فلم يكن يشاركه أحد في الرياسة والقيام بالشورى، وكان حافظاً لأخبار الأندلس، وله حظ من النحو والشعر. وقد وُلي الصلاة بالمسجد الجامع، وتوفي في سنة 314 هـ. ومن مؤلفاته كتاب المنتخب في روايات مذهب مالك (¬3). وقد حدثنا ابن حيان في المقتبس عن شعراء عصر الناصر الذين التفوا حول بلاطه، وأشادوا بمديحه، فقال: إن " في مقدمتهم معلمه في الصبا أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، ويليه من نمطه عبيد الله بن يحيى بن إدريس، وعبد الملك بن سعيد المرادي، وإسمعيل بن بدر، وأغلب بن شعيب، وحسان بن ¬_______ (¬1) راجع الحلة السيراء (طبعة دوزي) ص 80 - 87. (¬2) الحلة السيراء ص 98. (¬3) ابن الفرضي رقم 1189.

حسان [السناط] وغيره، ومن كبار الطارئين عليه من المشرق، طاهر بن محمد المهند البغدادي، ومحمد بن حسين الطبني الإفريقي، وغيرهما، أسلفوا في الناصر لدين الله إحساناً كثيراً. فمن قول أبي عثمان عبيد الله يحيى بن إدريس في الناصر لدين الله، وقد غزا الروم في شهر رمضان، وأدركه الفطر في بلاد العدو، فلم يتورع، وصمد إلى لقياهم، وقد اجتمعوا: يهني الخلافة سعي خير إمام ... لله مسعاه وللإسلام ملك تمكن في المكارم والعلى ... كتمكن الأرواح في الأجسام عزم الرحيل مصمماً في عيده ... لشفاء غلة سيفه الصمصام يصل الترحل بالترحل دائبا ... في الحل يحكمه وفي الإبرام ليعز دين الله في كنف العلى ... ويذب عن حرم الهدى ويحام مستنجزاً وعد الإله بنصره ... في شيعة الإشراك والإحرام وقوله حينما نزل الناصر بجيوشه طليطلة، وارتياع الجلالقة لمقدمه، من قصيدة: على أي فتح تقدما أتتـ ... ـك فتوح الثغر فذاً وتوءما تباشر تترى من فتوح تواتـ ... ـرت كما تابع النثر الجمان المنظما ومن نظم أبى الحسن جعفر بن عثمان المعروف بالمصحفي كاتب ولي العهد ْالحكم بن الناصر لدين الله، السامي المحل في الاشتمال على متن البلاغة، من النثر والنظم بالتبريز، ما نظمه وقت انتقال الناصر إلى دين الله عن سرقسطة: على أيمن الأوقات كان ارتحالك ... وفي أيمن الساعات كان احتلالكا تنقلت عن دار الشقاق مظفراً ... وقد صال بالمخذول فيها صيالكا وحاربت ذا السيف العريض بميتة ... أرت مستجيش الشرك كيف اغتيالكا وأقفلت عنهم والمنايا صوايب ... تسيل بها في ساحتيهم سجالكا إذا ما القرى رام اغتلاق جفونهم ... فخطفه بالخوف عنها خيالكا وإن ذهبوا للسير في الأرض مذهبا ... تراءى لهم في كل أفق مثالكا هل الأجل المرهوب إلا صيالكا ... أم الأمل المرغوب إلا نوالكا بقيت أمير المؤمنين مملكاً ... فما الروضة الزهراء إلا جلالكا

وقال إسمعيل بن بدر في مديح الناصر وذكر غزوته للجزيرة الخضراء: تطوى المراحل إدلاجاً وتنحيرا ... مشمراً في رضى الرحمن شميرا وبدر الملوك الذي إشراق سنته ... تجلو عن الدين والدنيا الدياجيرا من قد قضى الله في ماضى شبيبته ... لا يزال على الأعداء منصورا قال ابن حيان: " والشعر في الناصر لدين الله رحمة الله عليه، كثير جداً، محمول عن فحول يقدمهم ابن عبد ربه، وابن إدريس، ومهند والطبني ونمطهم ... في تجويد صناعتهم بفضل ما ألفوا لديه من التوسعة عليهم، والإحسان إليهم، فكل منهم كمل فيما صاغه فيه ديواناً بذاته، عفى رسومها، وغيض معينها من الليالي وانصرام الدولة، وتسلط الفتن البربرية، والمطاولة على التواريخ الملوكية، التي كانت له قاصمة وجامعة، حتى مزقت كل ممزق بأيدي الجهال، فهل من باقية " (¬1). وكان بين وزراء الناصر وحجابه، عدة من أكابر الكتاب والأدباء، مثل الحاجب موسى بن محمد بن حدير، وقد كان من أهل الأدب والشعر، فضلا عن كونه من بيت رياسة وجلالة (¬2) وعبد الملك بن جهور، وقد كان وزيراً جليلا، وأديباً وشاعراً محسناً، ومن شعره: إن كانت الأبدان نائمة ... فنفوس أهل الظرف تأتلف يارب مفترقين قد جمعت ... قلبيهما الأقلام والصحف (¬3) وكان من أعلام تلك الفترة أيضاً القاضي منذر بن سعيد البلوطي (265 - 355 هـ)، وكان بارعاً في علوم القرآن والسنة، وظهر فوق ذلك بفصاحته وجزالة شعره. وقد أشرنا فيما تقدم إلى موقفه الخطابي الرائع، في حفل استقبال سفارة قيصر الروم، وما حباه به الناصر من أجل ذلك، من عطف، وتقدير، وتوليه للخطابة والقضاء. ومن مؤلفاته " كتاب الإبانة عن حقائق أصول الديانة ". وفي عصر الناصر ظهرت حركة دينية، على رأسها أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن مسرّة الجبلي من أهل قرطبة. وكان مولده بها في سنة 269 هـ. وقد ¬_______ (¬1) ابن حيان في المقتبس - السفر الخامس - مخطوط الخزانة الملكية - لوحات 27 و31. (¬2) جذوة المقتبس رقم 787. (¬3) جذوة المقتبس رقم 626.

برع ابن مسرة في العلوم الدينية، ولكنه جاهر ببعض الآراء المغرقة، في التأويل والقدر وغيرها، فاتهم بالزندقة وغادر الأندلس. فاراً إلى المشرق وذلك في سنة 298 هـ، ودرس هنالك على أيدي المعتزلة، والكلاميين وأهل الجدل. ثم عاد إلى الأندلس وهو يخفي نحلته وآراءه الحقيقية، تحت ستار من النسك والزهد. وكان يتخذ لنفسه غاراً يتعبد فيه على مقربة من جبل قرطبة، حتى سمي بالجبلي. واختلف إليه الطلاب من كل صوب. وكان يستهويهم بغزير علمه وجزالة بيانه، حتى ذاعت شهرته، وتبعه الكثيرون من الصحب والتلاميذ. وقد اختلف في أمر ابن مسرة، فبعضهم يسمو به إلى مرتبة الإمامة في العلم والزهد والورع، ومنهم من كان يرميه بالزندقة وترويج البدع. وتوفي ابن مسرة بقرطبة سنة 319 هـ (931 م) (¬1). على أن تعاليم ابن مسرة لبثت بعد ذلك حية ذائعة، طوال عهد الناصر، وقام جمهرة من أهل السنة، بمعارضة تعاليمه وإنكارها، ووصل صوتهم في ذلك إلى الخلافة، واضطر الناصر إلى أن يصدر باسمه بياناً في سنة 340 هـ، يستنكر فيه تعاليم ابن مسرة وتلاميذه، ويرميهم بالمروق، والخروج عن تعاليم السنة الحقيقية، وقد أورد لنا ابن حيان هذا البيان الفريد في المقتبس (¬2)، وقد تحدثنا فيما تقدم عن ابن مسرة وحركته، ولخصنا كتاب الناصر في شأنها. وفي عصر الناصر بالذات ظهر شاعر من أعظم شعراء الأندلس، هو أبو القاسم محمد بن هانىء الأزدي الإشبيلي، وقد ولد بإشبيلية في سنة 326 هـ، وظهر منذ حداثته ببراعة شعره وروعة افتنانه، ولكنه اتهم بالكفر والزندقة. فغادر الأندلس، ولحق بالبلاط الفاطمي بالمهدية، والخليفة المعز لدين الله يتأهب عندئذ لفتح مصر، فأغدق عليه المعز عطفه ورعايته. ولما سار المعز إلى مصر، سار ابن هانىء للحاق به، ولكنه توفي في طريقه في سنة 362 هـ. وقد ُشُبه ابن هانىء بالمتنبي في رصانة شعره، وروعة افتنائه، ومن أشهر قصائده قصيدته التي يصف فيها جيش المعز الذاهب إلى فتح مصر، بقيادة جوهر الصقلي، والتي يقول فيها: ¬_______ (¬1) ابن الفرضي رقم 652. (¬2) وذلك في النسخة الخطية من السفر الخامس من المقتبس المحفوظة بخزانة القصر الملكي بالرباط بالمغرب وقد نقلناه منه، ونشرناه في آخر الكتاب.

رأيت بعيني فوق ما كنت أسمع ... وقد راعني يوم من الحشر أروع غداة كان الأفق سد بمثله ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع فلم أدر إذ ودعت كيف أودع ... ولم أدر إذ شيعت كيف أشيع ألا إن هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع إذا حل في أرض بناها مدائنا ... وإن سار عن أرض غدت وهي بلقع تحل بيوت المال حيث محله ... وجم العطايا والرواق المرفع رحلت إلى الفسطاط أول رحلة ... بأيمن فأل في الذي أنت تجمع فإن يك في مصر ظمأ لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النيل يهرع ويمنهم من لا بغار بنعمة ... فيسلبهم لكن يزيد فيوسع وكان من أعلام الشعر في عصر الناصر أيضاً الوزير جعفر بن عثمان المصحفي، الذي تولى الحجابة فيما بعد لولده الحكم المستنصر، وتوفي في سنة 372 هـ في سجن الزهراء، ضحية لمنافسه القوى محمد بن أبي عامر المنصور. وقد أوردنا من شعره فيما تقدم في غير موطن. وظهر في عصر الناصر عدد من أكابر الكتاب البلغاء، في مقدمتهم كاتب الناصر الأثير عبد الله بن محمد الزجّالي، وهو الذي أنشأ عن لسانه البيان الخاص بمروق ابن مسرة الذي سبقت الإشارة إليه. وكان الناصر نفسه عالماً أديباً، يهوى الشعر وينظمه، ويقرب الأدباء والشعراء. وكان في مقدمة شعراء دولته وآثرهم لديه الفقيه ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد، وذلك حسبما أشرنا في موضعه. وظهر في عهد الناصر عدة من أعلام المؤرخين الذين وضعوا أسس الرواية الأندلسية. أولهم أحمد بن محمد بن موسى الرازي، وقد ولد الرازي سنة 274 هـ وتوفي سنة 344 هـ. ومن تصانيفه " أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم "، وكتاب " الإستيعاب في أنساب أهل الأندلس "، وكتاب في " صفة قرطبة وخططها ومنازل الأعيان بها ". وقد كانت رواية الرازي مستقى خصباً لمؤرخي الأندلس، وفي مقدمتهم عميدهم ابن حيان. وظهر قرينه ومعاصره ابن القوطية، وهو أبو بكر محمد بن عمر بن عبد العزيز بن عيسى بن مزاحم؛ ويعرف بابن القوطية لانتسابه بطريق النسب إلى

سارة القوطية إبنة وتيزا ملك القوط. وقد ولد بقرطبة وتوفي بها سنة 367 هـ (977 م)، وكان راوية متمكناً حافظاً لأخبار الأندلس. وسير أمرائها وأخبار علمائها وفقهائها وشعرائها. وقد كتب تاريخه المسمى " تاريخ افتتاح الأندلس ". وكان فوق ذلك من أئمة عصره في اللغة والنحو، وله في ذلك مؤلفات قيمة، وكانت كتب اللغة أكثر ما تقرأ عليه، وتؤخذ عنه. ومن أعلام المؤرخين في ذلك العصر أيضاً أحمد بن موسى العروي المتوفى سنة 388 هـ، وقد ألف كتاباً عنوانه " تاريخ الأندلس ". واستمرت النهضة الفكرية، التي ازدهرت في عصر الناصر، وفي عهد ولده الحكم المستنصر (350 - 366 هـ) وازدادت قوة وازدهاراً. وكان الحكم، وهو الخليفة الأديب العالم، رائد هذه الحركة الفكرية العظيمة. وكان من ظواهرها قيام جامعة قرطبة العظيمة، واحتشاد أكابر الأساتذة بين عقودها، وإنشاء المكتبة الأموية الكبرى، التي بذل الحكم في إنشائها من الجهود العظيمة والأموال الزاخرة ما لم يسمع بمثله، حتى بلغت محتويات هذه المكتبة الفريدة زهاء أربعمائة ألف مجلد، من مختلف أصناف العلوم والفنون. وكثرت المكتبات العامة والخاصة، وبلغ شغف اقتناء الكتب أشده في ذلك العصر، واحتشد حول بلاط الحكم، جمهرة من أكابر العلماء، في مقدمتهم الحافظ أبو بكر بن معاوية القرشي، وأبو علي القالي ضيف الأندلس يومئذ، والأديب المؤرخ محمد بن يوسف الحجاري، وإمام النحو والرواية ابن القوطية، وربيع بن زيد الفيلسوف والعلامة الفلكي النصراني، وغيرهم. وظهر في تلك الفترة جمهرة من الشعراء المبرزين، وكان في مقدمتهم طاهر ابن محمد البغدادي، الوافد من المشرق إلى الأندلس، وكان يعرف بالمهند. وكان شاعراً محسناً، مدح الحكم المستنصر، ثم مدح المنصور بن أبي عامر بعد ذلك، وحظى لديه، وقد اتهم بالغلو في بعض الآراء الدينية. ومن شعره قوله: متى أشكر النُّعمى التي هي جنتي ... ففي ظلها أمسي وفي ضوئها أضحى إذا قلت قد جازيت بالشكر نعمة ... شفعت بأخرى منك دائمة السفح فحمدي لا ينأى وفضلك لاينى ... وأرضي لا تصدى وأفقك لا يضحى (¬1) ومنهم محمد بن مطرف بن شخيص، وكان من أهل الأدب البارع، ومن ¬_______ (¬1) راجع جذوة المقتبس للحميدي (مصر) رقم 515، وبغية الملتمس رقم 859.

أعيان الشعراء المجيدين، كان متصرفاً في القول، متقناً لأساليب الجد والهزل، وكان من أخص شعراء بلاط الحكم، وله شعر كثير، ومن شعره في تهنئة الحكم بوفود جعفر ويحيى ابنى حمدون، وتقديم طاعتهم إليه، قصيدة طويلة، هذا مطلعها: بأيمن إقبال وأسعد طائر ... تباشير محتوم من الأمر واقع توافت بملك من معدِّ مقوض ... لملك إلى مهدي مروان راجع فيا لك من بشرى سرور تضمنت ... بلوغ الأماني عن سعود الطوالع ومن قوله في الغزل: فهل من شفيع عند ليلى إلى الكرى ... لعلي إذا ما نمت ألقى خيالها يقولون لى صبراً على مطل وعدها ... وما عدت ليلى فأشكو مطالها وما كان ذنبي غير حفظ عهودها ... وطي هواها واحتمالي دلالها (¬1) ومنهم محمد بن الحسين التميمي الطبني، أصله من طبنة، بلد بأرض الزاب بالمغرب، وكان شاعراً محسناً، وأديباً بارعاً من بيت أدب وجلالة ورياسة، وكان من شعراء الحكم الأثيرين. ومن شعره يهنىء الحكم بحلول عيد الأضحى: بخلت بجوهر لفظها أن يلقطا ... لما رأته من الجواهر أبسطا يا أيها الملك المتوج بالهدى ... نوراً على غسق الظلام مسلطا صل عيدك البهيج السنا في غبطة ... وازدد من الأعياد ألفا مغبطا (¬2) ومنهم يحيى بن هذيل، وكان من أهل العلم والأدب والشعر الجيد؛ وتوفي سنة 386 هـ، ومن شعره: لم يرحلوا إلا وفوق رحالهم ... غيم حكى غبش الظلام المقبل وعلت مطارفهم مجاجت الندى ... فكأنما مطرت بدرٍّ مرسل لما تحركت الحمول تناثرت من ... فوقهم في الأرض تحت الأرجل فبكيت لو عرفوا دموعى بينها ... لكنها اختلطت بشكل مشكل (¬3) ومنهم، ومن أشهرهم يوسف بن هارون الرمادي القرطبي المعروف بأبى جنيش، كان من أشهر شعراء الأندلس في وقته، واشتهر بالأخص بشعره ¬_______ (¬1) جذوة المقتبس رقم 144. وبغية الملتمس رقم 276، والمقتبس، قطعة أكاديمية التاريخ ص 54 و60. (¬2) جذوة المقتبس رقم 38، والمقتبس - قطعة أكاديمية التاريخ ص 94. (¬3) جذوة المقتبس رقم 907، وبغية الملتمس رقم 1494.

الهجائي، وكان سريع البديهة مشهوراً عند العامة والخاصة، لسلوكه في فنون مختلفة من المنظوم. ومدح الرمادي الحكم المستنصر، ولكنه وقع تحت طائلة غضبه لما صدر منه من شعر قاذف في حقه، وأمر باعتقاله مع باقي الشعراء الهجائيين، حماية للناس من ألسنتهم، وزج الرمادي إلى السجن مدة، وكتب خلال اعتقاله كتاباً سماه " كتاب الطير " وصف فيه كل طائر معروف. ثم عفا عنه الحكم وأطلقه مع باقي إخوانه. وتوفي الرمادي فقيراً معدماً أيام الفتنة في سنة 403 هـ. ومن شعره قوله: لا تنكروا غرر الدموع فكل ما ... ينحل من جسمي يصير دموعا والعبد قد يعصى وأحلف أنني ... ما كنت إلا سامعاً ومطيعا قولوا لمن أخذ الفؤاد مسلماً ... يمنن علي برده مصدوعا (¬1) ونبغ في تلك الفترة عالم من أعظم علماء اللغة في الأندلس، هو أبو بكر محمد ابن الحسن الزبيدي النحوي الإشبيلي. وقد وضع في اللغة والنحو عدة كتب مشهورة منها " الواضح " و" لحن العامة " " وأخبار النحويين "، كما وضع مختصراً لكتاب " العين "، إلى غير ذلك. وكان في نفس الوقت أديباً بارعاً، وشاعراً محسناً، وقد أورد لنا الحميدي شيئاً من نظمه، وندبه الخليفة الحكم، حسبما أسلفنا في موضعه لتدريس اللغة لولده هشام، وألزمه بالبقاء في قرطبة، ولم يأذن له بالرجوع إلى وطنه إشبيلية. وتوفي الزبيدي قرابة سنة 380 هـ (¬2). وكان الخليفة الحكم المستنصر نفسه، فوق تمكنه من العلوم الشرعية وتحقيق الأنساب، أديباً ينظم الشعر الرائق. وقد أوردنا من قبل في موضعه شيئاً من نظمه. ثم كان الانقلاب العظيم، في مصاير الخلافة الأموية، وتغلب محمد بن أبي عامر أو الحاجب المنصور على الدولة، وكان من حسن الطالع أن المنصور بنشأته وخلاله العلمية اللامعة، كان من أعظم رواد الحركة الفكرية، وكان المنصور عالماً متمكناً من الشريعة والأدب، بارعاً في النثر والنظم، وقد ذكرنا فيما تقدم شيئاً من نثره ونظمه. وكان يعشق مجالس العلماء والأدباء، حتى أنه كان خلال الغزو، يصطحب معه طائفة من الكتاب والشعراء، ينتظمون في مجلسه خلال ¬_______ (¬1) الصلة لابن بشكوال رقم 1491، وجذوة المقتبس رقم 878. (¬2) جذوة المقتبس رقم 34.

السير، وكان شاعره الأثير أبو العلاء صاعد بن حسن البغدادي المتوفى سنة 417 هـ، وكان قد وفد من المشرق على الأندلس، في أوائل عهد المنصور، وكان عالماً باللغة والأدب والتواريخ، فقربه المنصور، وأغدق عليه عطفه، وجمع له صاعد كتاباً سماه " بالفصوص في الآداب والأشعار والأخبار " فأثابه عنه المنصور بخمسة آلاف دينار، وأمر أن يقرأه على الناس بمسجد الزاهرة (¬1). بيد أن المنصور، بالرغم من شغفه بالعلم والأدب، لم يبد تسامحاً إزاء الفلسفة والفلاسفة، أو بعبارة أخرى إزاء الأفكار الحرة. وقد كانت هذه النزعة الضيقة الأفق، تمثل نفس التيار الذي يندفع فيه كل حاكم مطلق. وقد رأينا فيما تقدم كيف طورد عباس بن فرناس، في عهد عبد الرحمن بن الحكم، واتهم بالزندقة لما أبداه من براعة علمية وفنية خارقة، وكيف طورد تلاميذ ابن مسرة وطوردت تعاليمه في عهد الناصر، وأصدر الناصر منشوره بتكفيره وتكفير تلاميذه، وقد استمر هذا التيار الرجعي فيما بعد في عهد الطوائف، حيث أحرقت كتب حزم، وفيما تلا بعد ذلك من عهود، وذلك حسبما نذكره في موضعه. وكان من أعظم شعراء الأندلس في عصر المنصور أبو عمر أحمد بن محمد ابن درّاج القسطلي. وكان كاتباً بليغاً من كتاب ديوان الإنشاء، وشاعراً لامعاً في نفس الوقت. وقد نبغ في ميدان الشعر نبوغاً جعله عمدة شعراء عصره. وكان من شعراء المنصور المقربين، وله فيه مدائح رائعة، نقلنا بعضها فيما تقدم، ولما توفي المنصور في سنة 392 هـ، تجول ابن دراج في أنحاء الأندلس، ومدح بعض أمراء الطوائف، مثل خيران العامري صاحب ألمرية، ومبارك ومظفر صاحبا بلنسية، والمنذر بن هود صاحب سرقسطة. وقد قال العلامة ابن حزم في حقه، إنه لم يكن بالأندلس أشعر من ابن دراج، وتوفي ابن دراج في سنة 420 هـ (1029 م) (¬2). وكان من أكابر الفقهاء والحفاظ في عصر المنصور، عبد الرحمن بن فطيس قاضي الجماعة بقرطبة، وكان من أئمة المحدثين وكبار العلماء، حافظاً متمكناً من الحديث، عارفاً بأسماء الرجال، وله مشاركة في مختلف العلوم، وتقدم في ¬_______ (¬1) كتاب الصلة لابن بشكوال (مصر) رقم 540. (¬2) راجع جذوة المقتبس للحميدي رقم 186، وبغية الملتمس للضبي رقم 342.

معرفة الآثار والسير والأخبار، وكان جمّاعة للكتب، وقد جمع منها ما لم يجمعه أحد من أهل عصره بالأندلس. تقلد قضاء الجماعة بقرطبة سنة 394 هـ، مقروناً بولاية الصلاة والخطبة، وذلك إلى جانب عمله في الوزارة، وذلك أيام المظفر عبد الملك المنصور، وكان مشهوراً في أحكامه بالنزاهة والصلابة في الحق، ونصرة المظلوم، وله مؤلفات كثيرة منها كتاب " أسباب نزول القرآن " و" كتاب في فضائل الصحابة " و" أعلام النبوة ودلالات الرسالة " و" مسند حديث محمد بن فطيس " وغيرها، وتوفي ابن فطيس أثناء الفتنة البربرية في سنة 402 هـ (¬1). * * * ولما انقضى عهد الدولة العامرية، وانهارت الخلافة الأموية، واضطرمت الفتنة بالأندلس، انكمشت الحركة الفكرية، وشغلت الأمة الأندلسية بما دهاها من أمر الفتن المتوالية، وتعاقب الرياسات، ومع ذلك ففي غضون الفتنة، نجد من الخلفاء من يتذوق الشعر وينظمه. فقد كان الخليفة سليمان المستعين، أديباً متمكناً، وشاعراً مطبوعاً، أشاد ابن بسام بأدبه وشاعريته. وقد أوردنا له فيما تقدم قصيدته الرائعة التي يعارض فيها شعر الخليفة الرشيد. وكذلك كان الخليفة المستظهر أديباً شاعراً من الطراز الأول، وقد نوه ابن بسام بمواهبه الأدبية، وأورد له طائفة من القصائد الجيدة. وحتى في ظل الخلافة الحمودية البربرية، كان للأدب والشعر دولة ومكانة، وكان الخليفة العالي خليفة مالقة أديباً ينظم الشعر. وكان من شعراء دولته الشاعر الكبير، عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني، وكان أديباً بارعاً، وشاعراً متقناً، وهو الذي مدح العالي بقصيدته الشهيرة التي مطلعها: البرق لائح من أندرين ... ذرفت عيناك بالماء المعين ونكتفي بتلك الصورة الموجزة، عن سير الحركة الفكرية الأندلسية، في عهد الإمارة، وعهد الخلافة. وقد ذكرنا فيما تقدم أثناء استعراضنا لتاريخ هذين العهدين كثيراً من تفاصيلها، وأشرنا إلى كثير من أعلام الفكر والأدب، ممن لم نر أن نعود إلى ذكره في هذا الفصل. ¬_______ (¬1) الصلة لابن بشكوال رقم 682.

الوثائق والملحقات

وثائق تاريخية - 1 - كتاب الخليفة الناصر لدين الله بشأن حركة ابن مسرة (منقول عن السفر الخامس من كتاب " المقتبس " لابن حيان، وهو المخطوط المحفوظ بالخزانة الملكية بالرباط لوحات 13 و14 و15). " وأنفذ الخليفة الناصر لدين الله إلى آفاق مملكته، شأن هؤلاء المبتدعة (يعني تلاميذ ابن مسرة) كتاباً طويلا قرىء عليهم بأمصارهم، من إنشاء الوزير الكاتب عبد الرحمن بن عبد الله الزجّالي، نسخته: " بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فإن الله تعالى جده، وعز ذكره، جعل دين الإسلام أفضل الأديان، فأظهره وأعلاه، ولم يقبل من عباده غيره، ولا رضى منهم سواه، فقال في محكم تنزيله: " ومن يتبع غير الإسلام دينا، فلن يقبل منه ... " الآية، وقضى في محتوم أمره، ونفاذ حكمه، أن تنسخ به الديانات، ويختتم برسالته الرسالات، فبعث محمداً خاتم النبيين، وأكرم الأكرمين، وأعز الخلايق على رب العالمين، بأن كتب الصلاة والسلام عليه في عرشه قبل أن يخلقه، واصطفاه لأمانته قبل أن يكونه، وأرسله بأفضل دين سماه حنيفاً إلى خير أمة اختارها ... كما قال عز من قائل، إذ عرّفنا فضل ما هدانا إليه من الدين، وكرمنا به على سائر الأمم: " كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر ... " الآية. فله جل جلاله، وتقدست أسماؤه، الشكر على خصايص هذه الفضيلة، والحمد بالمنة الجليلة، فقد استنقذ من الغواية وهدى، فأحسن الهداية، وأبان الحجة، وكفانا بواضح المناهج مؤنة الفكرة، ونظم زمام الأمة، وجمع وجوه السعادة العاجلة، النجاة الآجلة في تأليف الجماعة، واجتبا فيهم رعاية الفرقة، حيث يقول عز وجهه، لنبيه صلى الله عليه وسلم .. به وبعباده المخصوص بهداه، ورأفة بسطها على خير .. وإعلاما لهم ... بتواصل الدين من قبله لأنبيائه ... وكراهته لاختلافهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً، والذي أوحينا

إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ... " الآية. فخوف وحذر، ونهى عن افتراق الكلمة، ونبه على البعد، ونفى الله الخبيث عنها، وفضلها على ساير البلدان، واستقر فيها الدين، كهيئته يوم أكمله الله لعباده. ولما استوسقت الطاعة، وشملت النعمة، وعم الأقطار، بعدل أمير المؤمنين، السكون والدعة، طلعت فرقة لا تبتغي خيراً، ولا تأتمر رشداً، من طغام السواد، ومن ضعف آرايهم، ومن خشونة الأوغاد، كتباً لم يعرفوها، ضلت فيها حلومهم، وقصرت عنها عقولهم، وظنوا أنهم فهموا ما جهلوا، وتفقهوا فيما لم يدركوا، واستولى عليهم الخذلان، وأحال عليهم بخيله ورجله الشيطان، فزينوا لمن لا تحصيل لهم، ولقوم آمنين لا علم عندهم، فقالوا بخلق القرآن، واستيئسوا، وآيسوا من روح الله، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وأكثروا الجدل في آيات الله، وحرموا التأويل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبريت منهم الذمة بقوله تقدست أسماؤه: " ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون، الذين كذبوا بالكتاب، وما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون، إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون. في الجحيم ثم في النار يُسجرون. فهذا أبلغ الوعيد، وأفضع النكال، لمن جادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ثاني عطفه: ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق ... " ثم تجاوزوا في البهتان، وسدوا على أنفسهم ألوان الغفران، فأكذبوا التوبة، وأبطلوا الشفاعة، ونالوا محكم التنزيل، وغامض متن التأويل، بتقدير عقولهم: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم، يقولون آمنا به، كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب. فصاروا بجهل الآثار، وسوء حمل الأخبار إلى القدح في الحديث، وترك نجح السبيل، فأساءوا الفهم عن العوام، وأقدموا بمكروه القول في السلف الصالح، واستبدلوا على نقلة الحديث، ووضعوا من الكتب لوضعها، وتابعوا شهواتهم فيها، وتتابعوا فيما ... وورطهم، ورأوا لتخضع وحشة بحثها لازم الضلالة، وداعية الهلكة، والشذوذ عن مذهب الجماعة، من غير نظر نافذ في دين، ولا رسوخ في علم، حتى تركوا رد السلام على المسلمين، وهي التحية التي نسخت تحية الجاهلين. خلافاً على أدب الله تعالى، وقوله جل جلاله: وإذا حييتم

بتحية، فحيوا بأحسن منها أو ردوها، وقالوا بالاعتزال عن العامة وشدوا ... وكشفوا بتكررهم الذين يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، فلجوا في جهالتهم، وتاهوا في غيهم، ونكسوا على رؤوسم، حقداً على الأمة الحنيفة، واعتقاداً لبغضتها، واستحلالا لدمايها، وزرعاً إلى انتهاك حرمها، وسبي ذراريها، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، لولا أن سيف أمير المؤمنين من ورائهم، ونظره محيط. ولما صار غيهم فاشياً، وجهلهم شايعاً، واتصل بأمير المؤمنين من قدحهم في الديانة، وخروجهم عن الجادة، فأشغل نفسه، وأقض مضجعه، وأسهد ليله، أغلظ أمير المؤمنين في الأخذ فوق أيديهم، وأوعز إيعازاً شديداً، وأنذر إنذاراً فظيعاً، وعهد عهداً مؤكداً شافياً كافياً، نظر به لوجهه تبارك اسمه، وقدم فيه بين يدى العقاب الشديد، وأمر بقراءة كتابه هذا على المنبر الأعظم بحضرته، ليفزع قلب الجاهل، ويفت كبد المستهتر الحاير، وينقض عزم العاند المعاجل، ويضطر الغواة إلى الإثابة الصحيحة، التي يتقبلها الله منهم، أو يكشف عن الأذهان سراريهم فيكون عليهم شهيداً، ويأتيهم عذاب غير مردود. ورأى أمير المؤمنين أن يشمل بنظره أقطار كوره، ويرسله في بدوه وحضره، وأن ينفذ عهوده إليك، وإلى ساير قواده، وجميع عماله بها، يقرأ على منابر المسلمين، ولا يحرم القاصي ما عم الداني من تطهير هذا الرجز وتمحيصه، وكفاية المسلمين شبهته وفتنته، فلم يحل الديار، ولا تعقب الآثار، ولا استحق البلا على قوم، ولا أهلك الله أمة من الأمم، إلا بمثل ما تكشف هذه الطغمة الخبيثة، من التبديل للسنة، والاعتداء في القرآن العظيم، وأحاديث الرسول الأمين، صلوات الله عليه وسلم، هذا عند وروده عليك في قبلك، ونشره في سماع رعيتك، وتتبع هذه الطايفة بجميع أعمالك، وابثث فيهم عيونك، وطالب فيهم غورهم جهدك، فمن تحلى منهم بما انتسب إليهم، وقامت عليه البينات بذلك عندك، فاكتب إلى أمير المؤمنين بأسمائهم ومواضعهم، وأسماء الشهود عليهم، ونصوص شهاداتهم، لنعهد باستجلابهم إلى باب سدته، لينكلوا بحضرته، فيذهب غيظ نفسه، ويشفي حنين صدره، وإياك أن تهون من أهل الريبة، وتتخطاهم إلى ذوي السلامة والأحوال الصالحة، فإن فرطت في أحد الأمرين أو كليهما. فقد برىء الله منك، وأحل دمك، ومالك، فاعلمه، واعتد به إن شاء الله تعالى ".

- 2 - كتاب الخليفة الناصر لدين الله عن غزوة الخندق (منقول من السفر الخامس من كتاب " المقتبس " لابن حيان، وهو المخطوط المحفوظ بالخزانة الملكية بالرباط، في حوادث سنة 327 هـ). قال ابن حيان: وأما لفظ كتاب الفتح الوارد من قبل الناصر لدين الله إلى الحضرة بخبر هذه الغزوة من إنشاء عيسى بن فطيس الكاتب، فإن الفصل الذي رفع فيه خبر هذه الوقعة، وقع كما أثبته هاهنا: " واستعزم الله أمير المؤمنين ليلته، واستخاره عن رحمته في النهوض إلى مدينة شنت مانكش دار الكفرة ومجمع النصرانية، التي إليها استركن عدو الله، وضاقت الحيل عليهم، ووثقوا بحصانته، ليعلمهم أن كلمة الله هي إظهار دينه، ونصر أوليائه، وإعزاز خلفائه، في مشارق الأرض ومغاربها، ولو كره المشركون، فضم صاحب المقدمة عمال الثغور عندهم وفرسانهم وخيلهم، واكتنف الجمع في مجنبتي العسكر مع من والاهم، وجرد الرجالة من الخيول بأسلحتهم، وصمد لجمع المشركين، فاستقبلهم بنية صادقة، ونفس صابرة، وجموع كثيفة، وكتايب تملأ الفضا، ومغانب تضيق عنها الشعاب، ويصير في سهل الأرض كالآكام، تتألق عليهم سوابغ الدروع، فإذا تداعوا، قلت موج تراكم، وإذا وقفوا فكأنما النقع عليهم ليل مظلم. فلما قربت العساكر من محل الخنازير، ثابوا فيما بينهم، وثاروا إلى خيولهم، وعلوا الشراقين، ينظرون إلى كتايب دين الله، بقلوب قد خلعها الذعر، وقبضهم عن التقدم الوجل، وجعلوا بينهم وبين المسلمين وادي بشررقه، ثقة بوعورته، وقلة مخاوضه، فلم ترعهم إلا مقدمة الجيش وراءه، قد سهل الله عليهم جوازه، وتبعتهم الأثقال، وتحيز أمير المؤمنين كدية سامية، يتطلع منها على عسكر المسلمين، فأمر بالاضطراب فيها للعسكر، وتقدمت الخيول بين يديه، وقد تلاحقت جموع الكفرة، وقدموا صلبانهم، ووثقوا بشيطانهم الذي غرهم. وكان المسلمون على نشطة إلى لقايهم، فلم ينتظر أولهم إلى أن توافي آخرهم، ولا فارسهم أن يقتعد براجلهم، وتخطوا

الرماح إلى السيوف، والطعن إلى الضرب، وكروا في حومة المنايا، كرّ من يحمي حليله، ويخشى بعد ساعة أن تسبى ذريته، فلم ير المسلمون حرباً مثلها، ولا شهدوا يوم وغى أطول من يومهم ذاك. ونصر الله تعالى يهون عليهم ما هم فيه، حتى فضوا جموع المشركين (لوحة 143 أ)، وزلزلوا ردؤهم التي كانت أكاليل الجبال، وردم الشعاب، وضمهم إلى معسكرهم، وأثارت سنابك الخيل من القتام، ما غيب من كان في القلب عمن يليه من يمين الحرب ويسارها. وكان محمد بن هاشم في وقدتها حاثاً سعيره قد طال به مدامها، واستدارت حوله رحامها، فكبا به فرسه، ولم يعلم أحد بمصرعه، فصار في أيدي الخنازير أسيراً، فاستشفوا به الحياة. بعد اليأس منها، فجالدوا بنفوس قد عاودتها رمقها، وانحاز المسلمون إلى معسكرهم، قد قتلوا من أعلام المشركين وقوامسهم وأهل البأس من فرسان الحرب، ومن صبر لوقع السيف، فكانت مصيبتهم بمن قتل منهم عظيمة، فلما أصبح أمير المؤمنين لمحلته، أمر بحمل من عقر فرسه، وصلة من أغنى في حربه، وتعرض المشركون للحرب تعرض من قد تنخل لعدو قد أصابهم، ونكايته قد فلقت قلوبهم. فلما كان في اليوم الثالث من احتلاله، عهد أمير المؤمنين إلى صاحب العسكر بمصاحبتهم بالحرب، وقد تلاحقت بهم المدود من أقصى بنبلونة وألبة والقلاع، وأهل قشتيلة، إلى مشركي قلمرية، وكل صنف من أصناف العجم معهم، وهتف على المسلمين بالخروج تحت راياتهم، والتأهب للقاء عدوهم، وأغدوا في نهوضهم، ونزل صاحب العسكر، فرتب تعيينهم، فكثف الردوء، وضم إليها الرجال، وألزم القلب بنفسه، وميز فيه خيل الميمنة والميسرة، وقدم إليهم المقاتلة، وأقام بين يديه جملة الخيل عدة، فإذا رأى في جهة من جهات الحرب خللا سده واستدركه، أو فتقاً رتقه، حتى كانت أيدي المسلمين في الماقط عالية، فتلظت الحرب واحتدمت، وكأن المنايا إنما قصدت فيها أعلام الكفرة وقوامسهم، فصرع قومس غرماج، وابن أخي الخنزير ابن فرذلند، وشيخ النصرانية وعميدها ابن دخبر، إلى العدد الجم من فرسانهم، وأهل الصبر منهم، وانجلت الحرب عن هزيمتهم، وانكشاف أجبل قد كانوا علوها، وسدوا بالخيل والرجال ما بينها، وظنوا أن لا غالب لهم، فزلزلوا زلزالا شديداً، وانصرف المسلمون بعد الظفر والسلامة في المنقلب،

فباتوا بأنعم بال، وأسكن حال. فلما ظن أعداء الله أن قد ملوا حربهم، وتجددت لهم مدودهم، رفعوا معسكرهم، وقدموا صلبانهم، وخرجوا بفارسهم وراجلهم فألقوا إلى ما يلي منهم العسكر، سراع خيولهم، فبادر المسلمون إليهم تبادر الأسود الضارة، فغادرو موقفهم، وجالدوا بسيوفهم، حتى انفرج الموقف عن قتل عظيم من عظمائهم، وأعولوا عليه، واستداروا حواليه، وانصرفوا قد أذلهم الله، ووهنهم، وهون عليهم جمعهم، ووفور مددهم، في ضبط المعيشة، وقلة التبسط، ومصابحة الحرب ومماساتها، حتى كأنهم أهل حصن حوصروا فيه، أو فل جيش لا يستطيعون الرجوع إليه. وأقام أمير المؤمنين ومن معه من جيوشه وحشده، وأهل البصاير والحفايظ، وبلغ أمير المؤمنين أقصى أمل من إذلال جميع المشركين، والاحتلال بساحتهم، وانحياز طاغيتهم في أعلى شاهق، يرجو النجاة بنفسه، فأمر بالرحيل وقد ضاعف النظر، والعدو في ضبط ساقة جيشه لما توقع خروج الكفرة في أثره. وأصبح منتقلا، فما أقدم أعداء الله أن ينظروا من الجيش إلا من بعد على رأس جبل، ونهض يطأ بلادهم وطأة متثاقل، حتى انصرف إلى نهر دويرة، واستقبل عمارته من حصن مانكش التي اتصلت بنكاية أهله، فلم يدع في جليقية حصناً إلا هدمه، ولا معاشاً إلا انتسفه، حتى انتهى إلى مدينة روضة، وهي خالية على عروشها، فأقام على هدمها، وهدم حصن دبيلش معها، يومين كانا أطول على أعداء الله من عامين، لما غير فيهما من نعمهم، وهدم من مساكنهم، وقطع من شجرهم. وكان أمير المؤمنين يَرَ التقدم على نهر دويرة إلى شنت إشتيبن وغرماج لنقص الزروع لديه وضيق (143 ب) العلف بإفساده. فرفع إليه من حضره من أهل مدينة الفرج وحصونها، يشكون ما يلقونه من مشركي وادي أبينه، ومعاقلها، وترددوا عليه ضارعين إليه، أن يجعل ممر الجيش المؤيد على حصونهم وعمارتهم، وذكروا أن ذلك أنفع لهم ولأهل الثغور معهم، من الإيغال في بلد المشركين، ونكاية من لا ينالهم بغارة، ولا ينهض إليهم بقوة، فصرف الجيوش عند ذلك إلى وادي أبينه، فلم يدع فيها حصناً إلا هدم، ولا قرية إلا هدمت، ولا معاشاً إلا استقصى جميعه. فلما صار في آخره ولم يبق موضع يقوم الجيش بالتردد عليه، أمر الأدلاء بالكشف عن أفضل الطرق إلى حصن أنتيشه، وأرفقها بالمسلمين في منصرفهم برازح ظهرهم، وأحوط عليهم في

طريقهم، وأجمعوا على قصد حصن قشترب، وأيأسوا من الخروج على غيره، فلما استقبل أمير المؤمنين لامه، وقطع بعض محلته، استقبل شَعْراء لا يتخللها المتفرد بحمده، ولا يتخلص منها المخف، لو لم يكن أحد يعترضه. ثم أشرف على خنادق قفرة ومهاو تتقاذفه، وأجراف منقطعة قد عرفها المشركون وقدموا إليها، وألقوا إلى ساقة الجيش فرسانهم، فدارت عليهم الحرب، وصرع فيها من جلة فرسانهم، ومتقدمي رجالهم جملة، لو أصيبت بحيث يتراء الجمعان لكانت سبب هزيمتهم، ولكنهم وثقوا بالوعد، وانتظروا تقدم الحماة وترادف الأثقال، فحامى أمير المؤمنين برجاله وخاصته عن المسلمين ساعات من النهار، حتى تقدم أكثرهم، وجازت الخندق لقتالهم، إلا من ضعفت دابته، ْأو ضعفت تعبئته عن استنفارها. فلما رأوا الخلل تصايحوا من قنن الجبال، وانحطوا من أعاليها انحطاط الأوعال، فأصابوا من الأمتعة والدواب المثقلة، ما لو أصاروا مثله في مجال حرب أو سهل من الأرض، لما أنكر مثله عند مقارعة الرجال، وتصرف الأحوال. وحامى صاحب العسكر عن كل من أجاز الخندق وخلص من مضايقه، حتى أسهلوا، واجتمع لأمير المؤمنين جيوشه وانتظمت جموعه، وسلم الله رجاله، فلم يصب منهم أحد. وفي ذلك دليل للسامع عن الموقعة أنها لم تدر بغلبة، ولا ظفر المشركون أظفروا به فيها عن مساواة ولا كثرة، ولكن ضيق المسالك، ووعر الطريق، وسوء فهم الدليل، خلى لما جلبه إلى أقدار الله تعالى التي لا تصرف، ومحنه التي لم يزل يمتحن بها أولياءه، ليعظهم، ويبتلي عبيده ليرهبهم، وأمير المؤمنين، شاكر لله تعالى على عظيم نعمه، وواقف على تصرف محنته، مستسهل ما اختص به في حب طاعته، ضارع إلى الله في التقبل لقوله وفعله. وكتابه إليك، وهو قافل بالمسلمين على أحسن أحوالهم، وأسهل طريقهم، وأجمعه بمعايشهم، إن شاء الله. فأمر بقراءة كتاب أمير المؤمنين على الناس قبلك أثر صلاة الجمعة ليشكرو الله على ما أنعم به من نصر إمامهم، وسلامة إخوانهم، والصنيع الذي عمهم، فإنه يحب الشاكرين، ويزيد الحامدين. واعهد نسخه إلى عمال الكور حولك إن شاء الله تعالى، والله المستعان. وكتب يوم الإثنين لثمان خلون من ذي القعدة سنة سبع وعشرين وثلاث ماية ".

ثبت المراجع

ثبت المراجع 1 - مراجع أندلسية وإسلامية عامة تاريخ ابن خلدون المسمى " كتاب العبر " (بولاق). تاريخ الكامل لابن الأثير (الطبعة الأهلية 1303 هـ). تاريخ الطبري المسمى " تاريخ الأمم والملوك " (الطبعة الأهلية). تاريخ أبي الفدا المسمى " المختصر في أخبار البشر " (الطبعة الأهلية). فتوح البلدان للبلاذري (القاهرة 1932). مروج الذهب للمسعودي (بولاق). نهاية الأرب للنويري (القسم التاريخي ومعظمه ما زال مخطوطاً). وفيات الأعيان لابن خلكان (بولاق). كتاب الإمامة والسياسة المنسوب لابن قتيبة (القاهرة 1325 هـ). كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار لتقي الدين المقريزي (الطبعة الأهلية 1324 هـ). النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي (طبعة دار الكتب). فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم المصري (طبع لجنة ذكرى جب). يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للثعالبي (القاهرة 1947). نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري (القاهرة 1302 هـ). أخبار مجموعة في فتح الأندلس لمؤلف مجهول (مدريد 1867). تاريخ افتتاح الأندلس لأبي بكر بن القوطية (مدريد 1868). البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب لابن عذاري المراكشي (الجزء الأول الخاص بإفريقية والثاني الخاص بالأندلس المنشوران بعناية العلامة دوزي (ليدن 1848 - 1849) والثالث المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال. بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس لابن عميرة الضبي (ضمن المكتبة الأندلسية). كتاب الصلة لابن بشكوال (ضمن المكتبة الأندلسية، والقاهرة سنة 1955) قضاة قرطبة لأبى عبد الله الخشني المنشور بعناية الأستاذ ربيرا (مدريد 1914).

العصر الثاني: دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي

دولة الإسلام في الأندلس تأليف: محمَّد عبد الله عِنَانْ العصر الثاني دُوَل الطَّوَائِف مُنْذ قيامِهَا حَتّى الفتحْ المرابِطي

_ الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة الطبعة: الرابعة، 1417 هـ - 1997 م

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الرابعة 1417 هـ = 1997 م رقم الإيداع: 8988/ 90 الترقيم الدولى: 4 - 082 - 505 - 977 مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر 68 شارع العباسية. القاهرة. ت: 4827851

مقدمة الطبعة الأولى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة الطبعة الأولى إن عصر الطوائف من بين عصور التاريخ الأندلسي، أكثرها تشعباً وأوفرها تبايناً واضطراباً، لا تكاد تجمع بين وحداته المتناثرة جامعة مشتركة، ولكل وحدة منها ظروفها وسيرتها الخاصة، ومن ثم كانت الإحاطة بأحداث هذا العصر، وتنسيقها وربط حلقاتها، واستخراج خواصها، من أشق المهام التاريخية. وهذا المجلد من " دولة الإسلام في الأندلس " يتضمن تاريخ هذا العصر المضطرب - عصر الطوائف -، وهو يكون " العصر الثاني " من تاريخ الأندلس. وإنه ليسعدني أن أضعه اليوم بين أيدي القراء، بعد هذه الأعوام العديدة، التي انقضت منذ ظهور العصر الأول. على أن هذه الأعوام لم تذهب بحمد الله سدى، فقد أخرج خلالها العصر الرابع والأخير من " دولة الإسلام في الأندلس " باسم " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، ولم يبق علينا لاستكمال هذه الموسوعة من التاريخ الأندلسي إلا أن ننجز العصر الثالث منها، وهو المتضمن " تاريخ الأندلس في عصر المرابطين والموحدين ". ويشغل عصر الطوائف من تاريخ اسبانيا المسلمة زهاء سبعين أو ثمانين عاماً، منذ انهيار الخلافة الأندلسية، على إثر انهيار الدولة العامرية (سنة 399 هـ - 1009 م) وتفكك الدولة الأندلسية الكبرى، وانقسامها إلى وحدات متعددة، تقوم في كل وحدة منها دولة أو مملكة من ممالك "الطوائف"، تزعم لنفسها الاستقلال والرياسة المطلقة، ولا تربطها بجاراتها أو زميلاتها، أية رابطة، إلا أن تكون المنافسة، أو الحرب الأهلية في سبيل الغنم والتوسع. وهذا البحر الخضم من المنافسات والمنازعات والحروب الأهلية الإنتحارية، هو قوام عصر الطوائف. وقد مضينا في تتبع أحداث هذه الحقبة المؤلمة من تاريخ الأندلس، حتى مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة، استجابة لصريخ الطوائف، ونصرة للأندلس، وإنقاذاً لها من خطر الفناء الداهم، الذي لاح لها قوياً منذراً، ولاسيما بعد سقوط

طليطلة في أيدي النصارى، ثم تحول حملات الإنقاذ المرابطية بعد ذلك إلى حملات غازية، واستيلاء المرابطين على الأندلس تباعاً، وضمها إلى الإمبراطورية المغربية الكبرى، وذلك فيما بين سنتي 483 - 502 هـ (1090 - 1108 م). وقد راعينا في كتابة تاريخ هذا العصر، أن نتناول ممالك الطوائف، كل على حدتها، وأن نستكمل سيرتها منذ قيامها حتى مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة، ثم سقوطها في أيديهم، ورأينا أن هذه الطريقة تحقق من الدقة والوضوح والاستيعاب، ما لا يحققه الأسلوب المشترك، الذي سار على نهجه بعض الكتاب الغربيين. وقد اقتضت هذه الطريقة، في بعض الأحيان، شيئاً من التكرار، في هذا الفصل أو ذاك، ولكنه تكرار بسيط وغير ممل، فضلا عن ضرورته لاستكمال السياق. وأود أن أذكر هنا أنني قد زرت سائر قواعد الطوائف ومدنها، خلال رحلاتي المتوالية في شبه الجزيرة الإسبانية، ودرست مواقعها وخواصها ومواصلاتها. وقد كان لهذه الدراسة الإقليمية، أكبر الأثر في تيسير فهم طبيعة الحروب الأهلية التي كانت تقوم بين ممالك الطوائف، ودوافعها الجغرافية، وتحديد مواقعها، وكذلك في تيسير مهمة الكتابة عنها، واستيعاب بواعثها وتفاصيلها. وقد رجعت في كتابة هذا القسم من تاريخ الأندلس إلى مادة غزيرة منوعة. ومن حسن الحظ أن قد انتهت إلينا من كتابات المعاصرين عدة آثار هامة، في مقدمتها تاريخ ابن حيان معاصر فتنة الطوائف ومؤرخها قبل كل شىء؛ وإذا لم يكن هذا التاريخ قد وصل إلينا كله بالذات، فإن ما نقل إلينا منه عن طريق الكتاب اللاحقين، ولاسيما ابن بسام وابن عذاري يحمل إلينا منه مادة قيمة. وكذلك الفيلسوف ابن حزم، وهو مثل ابن حيان معاصر للفتنة، ومتتبع لأدوارها، ودارس لظواهرها وتطوراتها، وقد انتهت إلينا منه نبذ تاريخية، وملاحظات نقدية عديدة عن خواص عصر الطوائف، تمتاز بدقتها وعميق نظراتها. ويلحق بهذين الكاتبين المعاصرين اثنان آخران عاشا في أواخر عصر الطوائف، وشهدا خواتيمه، هما ابن بسام الشنتريني، والفتح بن خاقان. ويقدم لنا ابن بسام في مؤلفه الجامع "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، فضلا عما ينقله إلينا من الشذور التاريخية العديدة عن ابن حيان وغيره، وما يقدمه إلينا من نبذ تاريخية بقلمه، أروع صور لتاريخ عصر الطوائف الأدبي والاجتماعي، ومجموعة حافلة

من تراجم أمرائه وأعيانه ووزرائه وكتابه وشعرائه، ومختارات عديدة من رسائلهم، ومنثورهم ومنظومهم. وقد كان كتاب "الذخيرة" سواء بما نشر منه، أو بأجزائه المخطوطة، من أقيم مصادرنا وأغزرها، ولا سيما قسمه الثالث، وهو المتعلق "بالجانب الشرقي من جزيرة الأندلس". قد رجعنا في هذا القسم - وهو ما يزال مخطوطاً - إلى نسخته المحفوظة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة جاينجوس). أما الفتح بن خاقان، فيقدم لنا في كتابه "قلائد العقيان" تراجم طائفة كبيرة من أمراء عصر الطوائف ووزرائه وفقهائه، وهو يقدمها إلينا في أسلوب مسجع متكلف، بيد أنه ينطوي من آن لآخر، على بعض المعلومات والحقائق التاريخية؛ كما يقدم إلينا في كتابه "المطمح" بعض تراجم أخرى من تراجم رجالات الطوائف. ونكتفي فيما يتعلق بالمصادر، بهذه الإشارة إلى المصادر المعاصرة. وأما المصادر العديدة الأخرى، التي رجعنا إليها، من عربية وأجنبية، ومن مخطوطة ومطبوعة، فقد سجلناها في أماكنها، ثم أثبتناها مجتمعة في نهاية الكتاب. ونود أن نشير بهذه المناسبة إلى أنه قد أتيح لنا خلال بحوثنا بمكتبة الإسكوريال، أن نراجع بعض المصادر المخطوطة، وفي مقدمتها كتاب الحلة السيراء لابن الأبار، وقد راجعنا فيه سائر التراجم المخطوطة التي حذفها دوزي من النسخة المطبوعة، وضمنها مصنفه عن بني عباد Historia Abbadidarum، كما أتيح لنا أن نقف على بعض النصوص والوئائق الهامة، وذلك بالأخص في مجموعتين مخطوطتين، تحمل أولاهما رقم 488 الغزيري، وهي مجموعة ناقصة من أولها وليس لها عنوان معين، والثانية رقم 538 الغزيري وعنوانها "مجموعة رسائل تاريخية وأدبية". وقد انتفعنا بالأخص في المجموعة الأولى بعدة رسائل مرابطية هامة وردت بها، وفي مقدمتها رسالة يوسف بن تاشفين عن موقعة الزلاّقة، وكذلك بعض رسائل أخرى تتعلق بالطوائف، وبها تصحيحات لبعض الوقائع والحوادث التاريخية. وقد أثبتنا بعض هذه الرسائل في نهاية الكتاب في باب الوثائق. وقد عنيت وفقاً لما سرت عليه في العصر الأول من " دولة الإسلام في الأندلس " بكتابة تاريخ اسبانيا النصرانية، خصوصاً وقد اجتازت في عصر الطوائف، عدة تطورات هامة، وشغلت مركز الصدارة والغلبة، وبدأت تنفذ

سياسة " الإسترداد " La Reconquista بقوة، ولاسيما بعد استيلائها على مدينة طليطلة. أولى القواعد الأندلسية العظيمة الذاهبة. كما عنيت بأن أثبت بعض الخرائط التاريخية الموضحة للتطورات الجغرافية، التي جازتها شبه الجزيرة الإسبانية في عصر الطوائف، وخريطة للإمبراطورية المرابطية الكبرى بعد افتتاح الأندلس. وإني لأرجو وأنا أقدم إلى قراء العربية هذا العصر الجديد من " دولة الإسلام في الأندلس ". أن يتاح لى أن أنجز بعون الله في المستقبل القريب. عصره الثالث، وهو عصر المرابطين والموحدين، وبذلك تكمل هذه الموسوعة التاريخية الأندلسية بسائر عصورها (¬1). القاهرة في ربيع الأول سنة 1380 الموافق سبتمبر سنة 1960 محمد عبد الله عنان ¬_______ (¬1) وقد ظهر كتاب " عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس " بالفعل في مجلدين كبيرين (سنة 1965)، وبذلك تمت الموسوعة الأندلسية بسائر عصورها.

تصدير

تصدير مضت عدة أعوام منذ صدرت الطبعة الأولى من كتاب "دول الطوائف" في سنة 1960 متضمناً للعصر الثاني من "دولة الإسلام في الأندلس"، وشغلت خلال هذه الأعوام بإخراج العصر الثالث من هذه السلسلة، وهو "عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس" وتمت بظهوره بحمد الله وعونه، موسوعة الأندلس بعصورها الأربعة. واليوم نقدم الطبعة الثانية من "دول الطوائف". وبالرغم من أننا كنا قد استوفينا في الطبعة الأولى، سائر ما قصدنا إليه من استيعاب تاريخ هذه الدويلات الأندلسية، استيعاباً مفصلا ودقيقاً، فإنه عرضت لنا، خلال الأعوام الأخيرة طائفة من التعديلات والإضافات رأيناها جديرة بالتدوين، ومعظمها مستقى من المصادر المخطوطة. وقد تمت هذه الإضافات بالأخص بالنسبة للفصل الثالث من الكتاب الثالث المتعلق بتاريخ مملكة دانية والجزائر، وبالنسبة للفصل المتعلق بخواص الطوائف السياسية والاجتماعية والحضارية (الخاتمة). وقد ألحقنا بباب الوثائق وثيقة جديدة هامة، هي رسالة أبي عامر بن غرسية الشهيرة في تفضيل العجم على العرب، وذلك بعد أن ناقشنا محتوياتها، وأوردنا طائفة من الآراء والتعليقات الخاصة بها، وذلك في موضعها عند الكلام على تاريخ مملكة دانية. وفي اعتقادنا أن الكتاب بصورته الجديدة، وبما أدخل عليه من الزيادات، يلقي أضواء جديدة على تاريخ دول الطوائف، وتاريخ رجالات هذا العصر وأحواله، وكل ضوء يلقي على تاريخ هذا العصر، يمهد لنا السبيل لدراسة العصر اللاحق، وهو عصر الفتح المرابطي والرياسة المرابطية للأندلس. وقد علمت خلال قيامي بإعداد هذه الطبعة، من صديقي العلامة المستشرق الإسباني الكبير الأستاذ أمبروسيو هويثي ميرانده، أنه يعتزم أن يترجم هذا الكتاب

إلى اللغة الإسبانية؛ ليتيح للباحثين الإسبان فرصة الاطلاع بلغتهم على النصوص والمصادر العربية، وعلى وجهات النظر الأخرى. لكي تتسم بحوثهم في هذا الميدان بالانصاف وسعة الأفق. واني لأرجو لصديقي العلامة الكبير التوفيق في مهمته الجليلة. كما أرجو أن يجد القراء في هذه الطبعة الجديدة، مزيداً من الضوء على تاريخ الطوائف وأحوال دولهم وعصرهم. القاهرة في رجب سنة 1389 الموافق سبتمبر سنة 1969 محمد عبد الله عنان

صفحتان من القسم الثالث من كتاب الذخيرة لابن بسام المخطوطة المحفوظة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة جاينجوس)

صفحتان من رسالة ابن غرسية الموجودة بالمخطوط رقم 538 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال

تمهيد نذر الانحلال والتفكك

تمهيد نذر الانحلال والتفكك - 1 - في فترة قصيرة لا تتجاوز نصف القرن، تقلبت الأندلس بين مرحلتين متباينتين كل التباين. فهي في منتصف القرن الرابع الهجري وحتى أواخر هذا القرن، تبلغ ذروة القوة والتماسك، في ظل رجال عظام مثل عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر، والحاجب المنصور؛ ثم هي منذ أوائل القرن الخامس، تنحدر فجأة إلى معترك لا مثيل له، من الاضطراب والفتنة والحرب الأهلية المدمرة، لتخرج من هذه الغمار بعد فترة قصيرة، أشلاء لا تربطها أية رابطة مشتركة. وإنه لمنظر مروع مؤس معاً، ذلك الذي تقدمه إلينا الأندلس في تلك الفترة العصيبة من تاريخها، منظر القواعد والمدن الأندلسية، التي كانت من قبل تلتئم في عقد منتظم واسطته مدينة قرطبة العظيمة، وتسطع في ظل حكومة الخلافة القوية، وتلتف حول عرش الخلفاء المؤثل، وهي تغدو حبات متفرقة منفردة حائرة، تقوم في كل منها حكومة محلية هزيلة، على رأسها متغلب من أهل العصبية أو الرياسة، يسيطر على أقدارها لحساب نفسه. ثم هي بعد ذلك كله، تخوض غمار سلسلة لا نهاية لها من الفتن والحروب الأهلية الصغيرة، وتنسى في خلال هذه الفترة الخطيرة المؤسية من حياتها أو تتناسى، قضية الأندلس الكبرى، قضية الحياة والموت، أو بعبارة أخرى قضية الصراع ضد العدو الخالد - أعني اسبانيا النصرانية -. بيد أن انتثار شمل الأندلس على هذا النحو لم يكن سوى نتيجة طبيعية للعوامل السياسية والاجتماعية التي توالت في الحقبة السابقة. بل نستطيع أن نرجع هذه العوامل إلى بداية قيام الدولة الأموية ذاتها، أعني إلى عهد عبد الرحمن الداخل. فقد رأينا هذا الزعيم القوي, بعد أن استولى على تراث الأندلس، واستتب له الأمر، يعمل بكل ما وسع للاستئثار بالسلطة، وإخماد النزعة القبلية، وتحطيم الزعامات والرياسات العربية المحلية. وقد حذا خلفاؤه من أمراء بني أمية حذوه

في تتبع العصبية العربية والقضاء عليها. وقد بلغ هذا الصراع بين السلطة المركزية، وبين المنتزين عليها، ذروته في أواخر القرن الثالث الهجري، إبان اضطرام الفتنة الكبرى، وتفاقم ثورة المولدين والعرب، في عهد الأمير عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن (275 - 300 هـ)، حينما اندلع لهيب الثورة، في كل ناحية من نواحي الأندلس، وظهر الزعماء العرب والبربر في معظم النواحي، واستقلت معظم الكور والمدن الكبيرة عن قرطبة. وقد استطاع عبد الله أن يخمد الثورة في كثير من النواحي، وأن ينقذ سلطان بني أمية من الخطر الداهم، ثم جاء من بعده عبد الرحمن الناصر، فأتم المهمة، وقضى على جذور الفتنة من أساسها، وعمل على تدعيم سلطانه بكل الوسائل، فاشتد في مطاردة القبائل والأسر العربية ذات البأس والعصبية، وقضى على رياستها وزعامتها المحلية، ومال إلى اصطناع الموالي والصقالبة، وأولاهم النفوذ والثقة، فاستأثروا في عهده بأرفع المناصب في القصر وفي الحكومة والجيش، وكان من جراء ذلك أن انصرفت القبائل العربية عن الولاء له، وكان تخاذلها في نصرته يوم موقعة الخندق الشهيرة (327 هـ)، يرجع من وجوه كثيرة، إلى سخط الزعماء العرب لسياسته، في إذلالهم وسحق نفوذهم ومكانتهم. ولم يحد المنصور بن أبي عامر، حين استولى على السلطان، عن هذه السياسة في تدعيم الحكومة المركزية، وسحق كل سلطة محلية. وبالرغم من أنه ينتمي إلى بيت من أكرم البيوتات العربية، فإنه عمل على سحق العصبية العربية، وعمل في نفس الوقت على سحق عصبية الفتيان الصقالبة، ولم يستبق منهم إلا أقلية مخلصة. وآثر أن يعتمد في الجملة على ولاء البربر، فكان منهم معظم قادة الجيش، وكان منهم خلفاء المنصور وعماله في المغرب. وفضلا عن ذلك فقد كان من جراء نظام الطغيان المطلق الذي فرضه المنصور على الأندلس، قرابة ثلاثين عاماً، أن توارت معظم الزعامات والعناصر النابهة في المجتمع الأندلسي من الميدان، ولكنها لبثت في مكانها وعزلتها، ترقب فرص الظهور والعمل. ومن جهة أخرى فقد كان هذا النظام المطلق، الذي فرضه المنصور على الأمة الأندلسية، يخفي في ثنياته كثيراً من عوامل الهدم والانتقاض. فقد كانت سائر العناصر التي تعاونت في إقامته وتدعيمه، يتربص بعضها ببعض، ويخشى كل منها على مركزه وسلطانه. وكانت ثمة معارك خفية تجري بين البربر

وخصومهم من الصقالبة، في القصر وفي الحكومة. وكان بنو أمية يميلون إلى الصقالبة مواليهم القدماء، ويكرهون البربر، إذ كانوا سنداً للمنصور في استلاب سلطانهم، وكانت البطون العربية تكره هؤلاء وهؤلاء، ولكنها ترى في البربر خصمها الأساسي، وهو من آثار الخصومة القديمة، التي لبثت تضطرم بين العنصرين منذ عصر الفتح. وهكذا اجتمعت هذه العوامل لتحدث أثرها في الوقت الملائم، واجتمعت في ظلها العناصر الناقمة من سائر الطبقات. فلما وقع الانفجار، وانهارت دعائم الطغيان العامري، ظهرت في ميدان النضال ثلاث قوى: بنو أمية يلتفون حول علم خلافتهم وتراث بيتهم المغصوب. وطوائف البربر تحاول الاحتفاظ برياستها وامتيازاتها. والأسر العربية التي اضطهدت وأبعدت عن الميدان، تحاول استرداد مكانتها وزعامتها القديمة. وظهرت إلى جانب هذه القوى الثلاث، طائفة أقل شأناً، ولكنها استطاعت أن تنتزع نصيبها من أسلاب السلطة، وهي طائفة الفتيان الصقالبة أو الفتيان العامريين. ولم يصمد بنو أمية في ميدان النضال طويلا. ذلك أنه لم تكن لهم، بعد العوامل الأدبية، التي جمعت بعض طوائف الشعب تحت لوائهم، قوة مادية يعتد بها، ومن ثم فإنه لم تمض بضعة أعوام (399 - 407 هـ) تولى الخلافة خلالها محمد ابن هشام المهدي، فسليمان المستعين، فهشام المؤيد، ثم سليمان للمرة الثانية، حتى استطاع بنو حمود البربر أن ينتزعوا الخلافة، وأن يتزعموا حكومة قرطبة لفترة قصيرة. ثم تطورت الحوادث بسرعة، وعاد بنو أمية فاستردوا الخلافة، وحكموا في قرطبة عدة أعوام أخرى (414 - 422 هـ)، وتولى الخلافة منهم المرتضى. فالمستظهر. فالمستكفي بالله. فهشام المعتد بالله، وهو آخرهم. وبخلعه في أواخر سنة 422 هـ (1031 م) تختتم الدولة الأموية رياستها في الأندلس بصورة نهائية، بعد أن دامت منذ قيام عبد الرحمن الداخل في سنة 138 هـ (756 م) مائتين وأربعة وثمانين عاماً. وهكذا اختفت القوة الأولى - أعني بني أمية - من ميدان النضال بسرعة، وقد كان واضحاً منذ البداية، أنها لم تكن قوة ذات شأن، ولم تكن سوى رمز تحيط به هالة باهتة من الجلال القديم، ومن الاعتبارات الشرعية والأدبية. ولم تحقق ظفرها القصير المضطرب، إلا بالاعتماد على قوى وعناصر أخرى، ذات

ولاء مريب قلَّب. وتركت بعد اختفائها من الميَدان القوتين الأخريين، وهما البربر والعصبية العربية، وجهاً لوجه. واستطاع البربر بزعامة بني حمود، أن يسيطروا زهاء ثلث قرن، على المثلث الجنوبي في شبه الجزيرة الإسبانية، وأن يقيموا لهم ملكاً وخلافة، آناً بقرطبة وإشبيلية، ثم بمالقة والجزيرة. وكانت إمارة باديس بن حبوس الصنهاجي بغرناطة، تحمي الجناح الشمالي الغربي، لتلك الخلافة البربرية، فلما انتهت دولة بني حمود سنة 449 هـ (1057 م) كان البربر أثناء ذلك، وبعد أن خسروا معركة قرطبة، قد بسطوا سلطانهم على معظم القواعد الواقعة جنوبي نهر الوادي الكبير، وامتداده لنهر شنيل، مثل قرمونة وإستجة ومورور، وأركش، ورندة، ومالقة، وأن ينتزعوا الرياسة في نفس الوقت، في بعض المناطق الشرقية والغربية الشمالية، على نحو ما نفصل بعد. وأسفر النضال بين هذه القوى الخصيمة، بعد فوز البربر برياسة المناطق التي سبق ذكرها، عن فوز الأسر العربية، بمعظم القواعد الأندلسية الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية وسرقسطة وبلنسية ومرسية وألمرية. واستطاع الفتيان العامريون أن يبسطوا سلطانهم على معظم المناطق الشرقية وعلى ألمرية لفترة قصيرة. - 2 - وأضحت الأندلس في أواخر النصف الأول من القرن الخامس الهجري، تقدم إلينا ذلك المنظر المدهش الذي أشرنا إليه فيما تقدم: منظر الصرح الشامخ، الذي انهارت أسسه، وتصدع بنيانه، وقد اقتصت أطرافها، وتناثرت أشلاؤها، وتعددت الرياسات في أنحائها، لا تربطها رابطة، ولا تجمع كلمتها مصلحة مشتركة؛ لكن تفرق بينها بالعكس، منافسات وأطماع شخصية وضيعة، وتضطرم بينها حروب أهلية صغيرة، والأندلس خلال ذلك كله تفقد مواردها وقواها القديمة تباعاً، ويحدق بها خطر الفناء من كل صوب. هذه الدول الصغيرة، المتخاصمة المتنابذة، التي قامت على أنقاض الدولة الأندلسية الكبرى، تعرف بدول الطوائف، ويعرف رؤساؤها بملوك الطوائف وهم ما بين وزير سابق، وقائد من ذوي النفوذ والصحب، وحاكم لإحدى المدن، وشيخ للقضاء، وزعيم من ذوي المال والحسب. وقد ظهروا جميعاً إبان

الفتنة، وبسط كل سلطانه، على ما أتيح له من المدن والأراضي، وأخذ يعمل على تدعيم ذلك السلطان وتوسيعه، وتأسيس الملك لبنيه. وليس أبلغ تعبيراً في وصف حال الأندلس عقب الفتنة وقيام دول الطوائف من تلك النبذة التي يقدمها إلينا ابن الخطيب حين يقول: وذهب أهل الأندلس من الانشقاق والانشعاب والافتراق، إلى حيث لم يذهب كثير من أهل الأقطار، مع امتيازها بالمحل القريب، والخطة المجاورة لعبّاد الصليب، ليس لأحدهم في الخلافة إرث، ولا في الإمارة سبب، ولا في الفروسية نسب، ولا في شروط الإمامة مكتسب. اقتطعوا الأقطار، واقتسموا المدائن الكبار، وجبوا العمالات والأمصار، وجندوا الجنود، وقدموا القضاة، وانتحلوا الألقاب، وكتبت عنهم الكتاب الأعلام، وأنشدهم الشعراء، ودونت بأسمائهم الدواوين، وشهدت بوجوب حقهم الشهود، ووقفت بأبوابهم العلماء، وتوسلت إليهم الفضلاء، وهم ما بين محبوب، وبربري مجلوب، ومجند غير محبوب، وغفل ليس في السراة بمحسوب، ما منهم من يرضى أن يسمى ثائراً، ولا لحزب الحق مغايراً، وقصارى أحدهم يقول: "أقيم على ما بيدي، حتى يتعين من يستحق الخروج به إليه"، ولو جاءه عمر بن عبد العزيز لم يقبل عليه، ولا لقي خيراً لديه. ولكنهم استوفوا في ذلك آجالا وأعماراً، وخلفوا آثاراً، وإن كانوا لم يبالوا اغترارا، من معتمد ومعتضد ومرتضى وموفق ومستكف ومستظهر ومستعين ومنصور وناصر ومتوكل، كما قال الشاعر: مما يزهدني في أرض أندلس ... ألقاب معتضد فيها ومعتمد ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صَوْرَة الأسد (¬1) وما أشار به ابن حيان، معاصر الفتنة التي أسفرت عن قيام دولهم ومؤرخها. إلى تلك الفتنة، وإلى هاته الدول بأسلوبه القوي اللاذع، إذ يقول في مقدمة تاريخه الكبير: " فركبت سنن من تقدمني، فيما جمعت من أخبار ملوك هذه الفتنة البربرية، ونظمته وكشفت عنه، وأوعيت فيه ذكر دولهم المضطربة، وسياستهم المنفرة، ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام (طبع بيروت) ص 144. وقائل هذين البيتين هو أبو الحسن بن رشيق القيرواني. وتروي الشطرة الثانية من البيت الأول بصورة أخرى هي: " أسماء مقتدر فيها ومعتضد " (المعجب للمراكشي ص 4).

وأسباب كبار الأمراء المنتزين في البلاد عليهم، وسبب انتقاض دولهم، حال فحال بأيديهم، ومشهور سيرتهم وأخبارهم، وما جرى في مددهم وأعصارهم، من الحروب والطوائل، والوقائع والملاحم، إلى ذكر مقاتل الأعلام والفرسان، ووفاة العلماء والأشراف، حسب ما انتهت إليه معرفتي ونالته طاقتي " (¬1). ونستطيع القول بأن تمزق الأندلس على هذا النحو، كان ضربة، لم تنهض الأندلس من آثارها قط، بل كان بداية عهد الانحلال الطويل الذي لبثت تتقلب فيه بعد ذلك زهاء أربعة قرون أخرى. وبالرغم من أن عهد الطوائف الحقيقي لم يطل أكثر من سبعين عاماً، وبالرغم من أن الأندلس، قد التأم شملها بعد ذلك في ظل المرابطين ثم الموحدين من بعدهم، وبالرغم من أنها استطاعت أن تسترد تفوقها العسكري القديم في شبه الجزيرة الإسبانية في فترات قصيرة: بالرغم من ذلك كله، فإن الأندلس لم تستطع أن تسترد وحدتها الإقليمية القديمة، ولا تماسكها القديم قط، بل لبثت بالعكس، خلال صراعها الطويل مع اسبانيا النصرانية، تفقد قواها ومواردها تباعاً، وتنكمش رقعتها الإقليمية تدريجياً. حتى إذا كان منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي)، رأينا رقعة الوطن الأندلسي، ترتد إلى ما وراء نهر الوادي الكبير، وتنحصر في مملكة غرناطة الصغيرة، ورأينا قواعد الأندلس القديمة الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية وسرقسطة وبلنسية ومرسية وغيرها، تغدو مدناً إسبانية نصرانية، ويغدو ميزان القوى في شبه الجزيرة الإسبانية بيد مملكة قشتالة الكبرى. - 3 - والواقع أن تاريخ الطوائف، يبدأ منذ سقوط الدولة العامرية، في نهاية المائة الرابعة. ذلك أن قيام الخلافة الأموية، خلال الفترة القصيرة التي عاشتها في أعقاب الفتنة، لم يكن سوى حادثاً محلياً، ولم يتعد أثره الفعلي قرطبة وأرباضها. وقد رأينا كيف استطاعت الدولة الحمُّودية، أن تقيم سلطانها في نفس الوقت في قرطبة وإشبيلية ثم مالقة والجزيرة، وكيف قامت كذلك دولة بني مناد البربرية في غرناطة، وسيطرت عناصر أخرى من البربر، في معظم القواعد الأندلسية الواقعة جنوبي الوادي الكبير. وإلى جانب هذه الدول البربرية، التي قامت منذ أوائل المائة ¬_______ (¬1) نقله ابن بسام في الذخيرة (القسم الأول - المجلد الثاني ص 88).

الخامسة، كانت ثمة دول أو دويلات عديدة أخرى، تتكون تباعاً في معظم قواعد الأندلس الأخرى الشرقية والغربية والوسطى، في الوقت الذي كانت تقوم فيه خلافة قرطبة، بيد أنها لم تنزع ولاءها الرسمي للحكومة المركزية، ولم تتخذ طابعاً واضحاً من الاستقلال المحلي، إلا بعد سقوط الخلافة النهائي. ونحن إذا ألقينا نظرة على الخريطة، ألفينا رقعة الوطن الأندلسي الكبرى، وقد انقسمت عقب الفتنة من الناحية الإقليمية إلى ست مناطق رئيسية: الأولى منطقة العاصمة القديمة قرطبة وما إليها من المدن والأراضي الوسطى، والثانية منطقة طليطلة أو الثغر الأوسط، والثالثة إشبيلية وغربي الأندلس وما إليها من الأراضي حتى المحيط الأطلنطي، والرابعة غرناطة وريُّه والفرنتيرة، والخامسة منطقة شرقي الأندلس أو منطقة بلنسية وما إليها شمالاً وجنوباً، والسادسة منطقة سرقسطة والثغر الأعلى. وهذا كله إلى عدد كبير من المدن والقواعد الأندلسية التي استقلت بنفسها، واعتبرت إمارات قائمة بذاتها داخل منطقة، أو أخرى، ثم اختفت تباعاً بالانضمام أو الخضوع إلى إحدى الإمارات الأخرى. وهكذا نجد أن كل منطقة من المناطق المشار إليها، تضم من الناحية الإقليمية إمارة أو أكثر من إمارات الطوائف، وتختلف من حيث الرقعة، والأهمية السياسية، والعسكرية، والاجتماعية. وإذا لم تكن قرطبة، من حيث رقعتها الإقليمية، ومواردها الاقتصادية والعسكرية، أهم دول الطوائف، فقد كانت من الناحية الأدبية بين دول الطوائف ذات أهمية خاصة، نظراً إلى كونها كانت مقر الخلافة، وقاعدة الحكومة المركزية، وفي وسعها من الناحية الأدبية أيضاً، أن تدعى الولاية - الاسمية على الأقل - على باقي الإمارات والمدن الأندلسية الأخرى، وهو ما ادعته حكومة قرطبة المحلية بالفعل. ومن ثم فقد رأينا لهذه الاعتبارات الأدبية والتاريخية، أن نبدأ الحديث عن دول الطوائف بالكلام عن إمارة قرطبة.

الكتاب الأول قرطبة ودول الطوائف فى الأندلس الغربية والوسطى

الكِتابُ الأوّل قرطبة ودول الطوائفْ في الأندلس الغربية والوسطى

الفصل الأول دولة بنى جهور فى قرطبة

الفصل الأوّل دولة بني جهور في قرطبة نهاية الخلافة الأموية، أبو الحزم بن جهور واختياره لرياسة الحكومة. نشأته ونباهة بيته. ولايته قرطبة. حكومة الجماعة. أوضاعها ورسومها. مثيلاتها في الجمهوريات الإيطالية، سياسة ابن جهور وإجراءاته الإدارية والمالية. موقفه من أسطورة ظُهور هشام المؤيد. وفاته وقيام ولده أبي الوليد مكانه. وزراؤه. ابن حيان وابن زيدون. محنة ابن زيدون وفراره. ابن السقاء يتولى الأمور. مصرعه. الخلاف بين عبد الملك وعبد الرحمن ولدى أبي الوليد. المأمون بن ذى النون يحاول غزو قرطبة. استنصار عبد الملك بابن عباد. غدر ابن عباد واستيلاء جنده على المدينة. نهاية الدولة الجهورية. موقف المؤرخ ابن حيان وتعليق ابن بسام عليه. تحدثنا فيما تقدم، في الفصل الثاني من الكتاب الرابع من " دولة الإسلام في الأندلس "، عما حدث من تقلب خلافة قرطبة بين أعقاب بني أمية، وبين المتغلبين من بني حمود، وكيف أنه عندما غادر علي بن حمود قرطبة في المحرم سنة 417 هـ إلى مالقة، ثار القرطبيون وفتكوا بالحامية البربرية، وأجمعوا على رد الأمر لبني أمية، وكان عميدهم في ذلك الوزير أبو الحزم جَهْور بن محمد بن جهور. وفي ظل هذا التحول، بويع بالخلافة هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر (ربيع الأول 418 هـ)، وتلقب بالمعتد بالله، وقدم من منفاه في ألبونت إلى قرطبة في أواخر سنة 420 هـ، ولبث في الخلافة زهاء عامين، أساء فيهما السيرة حتى سخط عليه أهل قرطبة وقرروا خلعه، فغادر المدينة ناجياً بنفسه وولده (ذو القعدة 422 هـ). وأجمع القرطبيون بعد فشل هذه التجربة الأخيرة، على إلغاء الخلافة والتخلص نهائياً من بني أمية، وإجلائهم جميعاً عن المدينة، وكان عميدهم ورائدهم في ذلك هو أيضاً أبو الحزم بن جهور، وكان هذا الوزير القوي النابه، يستأثر نظراً لماضيه التالد، ورفيع مكانته، ووفرة حزمه ونضجه، بمحبة الشعب وثقته وتأييده. وغدت قرطبة على أثر ذلك دون خلافة ودون حكومة. وكانت الأنظار كلها تتطلع إلى ذلك الزعيم، الذي عاون غير مرة برأيه وحسن تدبيره، في

مواجهة الأزمات وصون المدينة من شر الدمار والفوضى، ليتولى الحكم وتدبير الأمور في تلك الآونة العصيبة. وهكذا اختير ابن جهور، بإجماع الرأي، للاضطلاع بتلك المهمة الدقيقة. وينتمي ابن جهور إلى بيت من أعرق بيوتات الموالي الأندلسية. وهو أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور بن عبيد الله بن أحمد بن محمد، وكان جدهم الداخل إلى الأندلس، يوسف بن بخت بن أبي عبدة الفارسي، مولى عبد الملك بن مروان. دخل في كنف الطالعة البلجية، وكان من أنصار عبد الرحمن الداخل، ثم ولاه عبد الرحمن حجابته، ثم تولى القيادة في عهد ولده هشام. وتولى أبناؤه بعد ذلك مناصب الوزارة والقيادة تباعاً في ظل أمراء بني أمية وخلفائهم. فتولى حفيده عبد الملك بن جهور الوزارة للأمير عبد الله بن محمد، ثم كان من وزراء الناصر لدين الله. وتولى ولده جهور بن عبد الملك البختي أيضاً الوزارة في عهد الناصر. ووليها كذلك في أواخر عهد الناصر، ولداه مروان بن جهور بن عبد الملك، ومحمد بن جهور بن عبد الملك. ومحمد هذا، هو أبو الوليد، هو والد أبي الحزم جهور، وقد تولى الوزارة أيضاً، في عهد المنصور بن أبي عامر. ثم تولى ولده أبو الحزم جهور الكتابة لعبد الرحمن المنصور في نهاية المائة الرابعة، حتى كانت الفتنة وانهيار الدولة العامرية، عاصر الحوادث والانقلابات العاصفة، التي شهدتها عاصمة الخلافة من ذلك الحين. وتولى خلال ذلك الوزارة لعلي بن حمود مؤسس الدولة الحمودية. وقد نقم عليه واعتقله وصادر أمواله. ولما ثار أهل قرطبة بعد ذلك ببني حمود وأنصارهم من البربر، كان عميدهم في ذلك حسبما تقدم هو أبو الحزم جهور. وكان جهور خلال ذلك كله يتمتع بمكانة بارزة في الزعامة الشعبية، حتى غدا في نهاية الأمر "شيخ الجماعة"، وزعيم المدينة الحقيقي. وكان كثيراً ما يؤثر برأيه في تطور الشئون والأحوال، في تلك الأعوام الأخيرة، التي كانت تحتضر فيها خلافة قرطبة، وتسير سراعاً إلى نهايتها المحتومة. وألفى جهور نفسه، بعد أن أجمع الشعب على اختياره، رئيساً لحكومة قرطبة الجديدة. وكانت هذه الحكومة التي قامت على أنقاض الخلافة الأموية، تبسط سلطانها على رقعة متوسطة من الأندلس، تمتد شمالا حتى جبل الشارّات (سيرا مورينا)، وشرقاً حتى منابع نهر الوادي الكبير. وغرباً حتى قرب إستجة

وجنوباً حتى حدود ولاية غرناطة، وتشمل من المدن عدا قرطبة، جيان وأبَّدَة وبيّاسة والمدور وأرجونة وأندوجر. بيد أن جهور كان رئيس حكومة من نوع خاص، فإنه لم ينفرد بالرياسة ولم يستأثر بتدبير الأمور والبت فيها، ولكنه جمع حوله صفوة الزعماء والقادة، يتحدث باسمهم، أو باسم "الجماعة"، ويرجع إليهم في الأمور، ويصدر القرارات باسمهم؛ فإذا طُلب منه مال أو مضاء أمر من الأمور، قال ليس لي عطاء ولا منع إنما هو "للجماعة"، وأنا أمينهم، وإذا رابه أمر عظيم، أو اعتزم تدبير مسألة كبيرة، استدعاهم وشاورهم، وإذا خوطب بكتاب، لا ينظر فيه إلا أن يكون باسم الوزراء وهكذا كان جهور يتحدث في كل أمر، ويمضي كل أمر لا باسمه، ولكن باسم الجماعة. وقرن جهور ذلك كله بإجراء بارع آخر، هو أنه لم يفارق رسم الوزارة ولم ينتقل من داره إلى قصور الخلفاء، واكتفى بأن رتب عليها الحجاب والحشم، على ما كانت عليه أيام الخلافة، وجعل نفسه ممسكاً للوضع إلى أن يجىء مستحق يتفق عليه فيسلم إليه، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجال رتبهم لذلك وهو المشرف عليه (¬1)، ولم يتخذ أي عنوان أو إجراء يبرز رياسته، أو يحيط نفسه بأي مظهر من مظاهر الأبهة والفخامة، بل لبث على سابق رسمه، من الانزواء والتواضع، والقناعة وخفض الجناح، ومعاملة الجميع بالرفق والحسنى. وقد عُرفت هذه الحكومة الفريدة في صحف التاريخ الإسلامي "بحكومة الجماعة". وسواء أكان الباعث لدى الوزير جمهور في إقامتها على هذا النحو، يرجع إلى ضرب من بعد النظر والدهاء البارع، يحاول به جمع الكلمة، واتقاء منافسة الزعماء الأقوياء، أم كان راجعاً حقاً إلى محبته للشورى والتضامن؛ فإنها كانت بلا ريب نموذجاً بديعاً من حكم الشورى أو حكم الأقلية الأرستقراطية، في عصر سادت فيه نزعة الرياسة الفردية والحكم المطلق. وكان من أبرز مزاياها أن يستطيع الرئيس أن يتنصل من المسؤولية، وأن يستظل بلواء الجماعة، إذا ما ساءت الأمور، وأن يحرز الثناء وجميل الذكر، إذا حسنت العواقب. ويمكننا أن نتبين ملامح هذا النوع من حكم "الجماعة" أو حكم الأقلية الأرستقراطية الذي ابتدعه أبو الحزم بن جهور، في بعض الحكومات التي قامت ¬_______ (¬1) راجع جذوة المقتبس للحميدي (مصر) ص 27.

فيما بعد، في بعض الولايات الإيطالية أيام عصر الإحياء مثل حكومة "الكوموني" في جنوة، وحكومة "السنيوريا" في فلورنس أيام حكم آل مديتشى. وقد كان هذا النظام في الواقع أقرب النظم إلى حكومة الجماعة، فقد كان آل مديتشي، يحكمون وفق إرادتهم حكماً مطلقاً، ولكن يحتجبون في نفس الوقت وراء هيئة منتخبة من النبلاء أو الزعماء الذين يعملون بوحيهم تسمى Balie أو Signoria أي جماعة الحكام أو السادة. ولسنا نود أن نقول إن هذه الحكومات الإيطالية، كانت مأخوذة أو مقتبسة من حكومة الجماعة القرطبية، فليس ثمة دليل على ذلك، ولكنا نود أن نقول إنها قامت في طروف مشابهة، ولمثل البواعث التي أوحت بقيامها في قرطبة. وسلك جهور في حكومته مسلك الأصالة والحزم، وكان أول همه أن يقمع الشغب، وأن يوطد دعائم النظام والأمن، فصانع زعماء البربر واستمالهم بالرفق وخفض الجناح، اتقاء لدسائسهم وتهدئة لثورات أطماعهم، فحصل على محبتهم وسلمهم، وجعل أهل الأسواق جنداً، وفرق السلاح فيهم، وفي البيوت، حتى إذا دهم أمر في الليل أو النهار، استطاع أهل المدينة الدفاع عن أنفسهم، وأصلح القضاء، وعمل على ضبط العدالة بين الناس، وقضى على كل مظاهر البذخ والإسراف، وخفف أعباء المكوس، وعمل على حفظ الأموال العامة، ولاسيما الأموال السلطانية، حيث عهد بتحصيلها وحفظها، إلى رجال ثقاة يشرف عليهم بنفسه، وعمل على تشجيع المعاملات والتجارة، ومن ذلك أن فرق الأموال على التجار لتكون بيدهم ديناً عليهم، يستغلونها ويحصلون على ربحها فقط، وتحفظ لديهم، ويحاسبون عليها من وقت إلى آخر. وكان من نتائج هذه الإجراءات، أن حل الرخاء مكان الكساد، وازدهرت الأسواق وتحسنت الأسعار وغلت الدور، ونمت الموارد. ويبدي ابن حيان، وقد كان من شهود هذا التحول، دهشته من تحقق الأمن والنظام والرخاء على هذا النحو في قوله: "فعجب ذو التحصيل للذي أرى الله في صلاح الناس من القوة، ولما تعتدل حال، أو يهلك عدو، أو تقو جباية، وأمر الله تعالى بين الكاف والنون ". ومع ذلك فإن ابن حيان يلاحظ أن جهوراً لم يفته خلال ذلك كله أن يستغل الظروف، وأن يعمل على جمع المال "حتى تضاعف ثراؤه وصار لا تقع العين على أغنى منه"، وإن كان

يقرن ذلك "بالبخل الشديد، والمنع الخالص، الذي لولاهما ما وجد عائبه فيه طعناً، ولكمل لو أن بشراً يكمل" (¬1). واستمرت حكومة الجماعة هذه برياسة أبي الحزم جهور تدبر الأمور في قرطبة وأراضيها، زهاء اثنتى عشرة عاماً، وقد سادت بها السكينة والدعة والأمن، وجهور لا يتحول عن خطته في التزام المسالمة والتواضع والتقشف، والشعب القرطبي يؤيده بطاعته ومحبته. وكانت قرطبة في أيامه ملاذ الزعماء اللاجئين والرؤساء المخلوعين، وكان من هؤلاء عبد الله بن سابور صاحب أشبونة من أعمال الغرب، حينما انتزعها منه ابن الأفطس صاحب بطليوس، فإنه لجأ إلى قرطبة، وأقام بها آمناً في كنف جهور، وكذلك عبد العزيز البكرى صاحب ولبة وجزيرة شلطيش، فإنه التجأ إليها فيما بعد، حينما حاصره ابن عباد ونزعه سلطانه، والتجأ إليها كذلك القاسم بن حمود صاحب الجزيرة الخضراء حين استولى عليها ابن عباد (¬2). وكان للرئيس جهور موقف خاص من أسطورة ظهور هشام المؤيد بالله وإعلانها على يد القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية. ذلك أن ابن عباد، حينما شعر بخطورة مطامع بني حمود في رياسة جنوبي الاندلس، واتشاحهم بثوب الخلافة، وحينما أرهقه يحيى بن علي بن حمود (المعتلي) بغاراته المتوالية، رأى أن يدحض دعاوي أولئك الحمُّوديين، فأعلن في سنة 426 هـ، أن الخليفة هشام المؤيد، حي لم يمت، وأظهر بالفعل شخصاً يشبه هشاماً كل الشبه، وبايعه بالخلافة ودعا الناس للدخول في طاعته، وبعث بذلك إلى رؤساء الأندلس، فاستجاب بعضهم للدعوة، وكان منهم عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، ومجاهد العامري صإحب دانية والجزائر الشرقية، والوزير أبو الحزم بن جهور رئيس قرطبة. وعقدت البيعة في قرطبة بالفعل لهشام المؤيد. والظاهر أن جهوراً لم يكن يؤمن حقاً بصحة هذه الدعوى، ولكنه استجاب لها، وأقرها لنفس البواعث التي حملت ابن عباد على انتحالها، وهو العمل على دفع خطر الحموديين. ويقال إن جهوراً فوق ذلك، قد اصطنع شهادات لتأييد صحتها. بيد أنه ندم على ذلك فيما بعد، حينما طلب إليه ابن عباد أن يدخل في طاعته، وأعلن تبرؤه من ذلك الدعى (¬3). ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الأول - المجلد الثاني ص 116 و 117. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 213 و 237 و 340. (¬3) البيان المغرب ج 3 ص 190 و 198 و 210.

وتوفي الرئيس أبو الحزم جهور بن محمد في المحرم سنة 435 هـ (1044 م) وقرطبة رافلة في حلل السلم والرخاء. فخلفه في الرياسة ابنه أبو الوليد محمد ابن جهور، فحاول في البداية أن يقتفي سياسة أبيه، وأقر الحكام وأرباب المراتب في مناصبهم، وكان من معاونيه في ديوان السلطان المؤرخ الكبير أبو مروان بن حيان حسبما يذكر لنا في حديثه عن الدولة الجَهْورية، وكان من محاسن الدولة الجهورية أيضاً، أن وزر لها الكاتب والشاعر الكبير أبو الوليد بن زيدون. وكان في بداية عهده بالخدمة قد وقع له حادث اصطدم فيه بأحد حكام قرطبة، فقضي عليه بالسجن، فاستغاث بأبي الوليد في حياة والده أبي الحزم، فشفع له وأقاله من عثرته. فلما ولي أبو الوليد الأمر بعد والده قرب إليه الشاعر، وعهد إليه بالنظر على أهل الذمة لبعض الأمور العارضة. ثم رفع مكانته وضاعف جرايته, وعهد إليه بالسفارة بينه وبين رؤساء الأندلس، والترسل إليهم. فلمع في منصبه، واشتهر ببارع رسائله ومحاوراته، كما اشتهر بروائع نظمه. والظاهر أن ابن زيدون كان يحيا حياة مضطربة تثير من حوله الشبهات، فهو من جهة قد هام بحب ولاّدة ابنة الخليفة الأموي السابق المستكفي، وكانت قد ظهرت في مجتمع قرطبة ببهوها الأدبي، الذي يزينه جمالها وشعرها الرائق، وأحدث هيامه بها وشعره المتيم فيها، حول سيرته الوزارية نوعاً من الفضيحة الغرامية، ومن جهة أخرى فإنه يبدو أن خصوم ابن زيدون في الحكومة وفي المجتمع، قد استطاعوا أن يصوروه لدى بني جهور، رجلا ناقص الولاء بجيش بمشاريع لا تتفق مع أهدافهم، وعلى أي حال فقد سخط الوزير أبو الوليد على وزيره الشاعر وألقاه إلى السجن. وأنفق ابن زيدون في ظلمات السجن عاماً وبعض عام، وهو يستعطف الوزير بقصائد ورسائل تذيب الجماد دون أن يتأثر بها. وفي النهاية حزم أمره على الفرار، وفر من سجنه بمعاونة بعض أصدقائه الأوفياء، وقصد إلى إشبيلية سنهّ (441 هـ - 1049 م) والتجأ إلى أميرها المعتضد بن عباد، فولاه وزارته. وألقى إليه مقاليد الأمور، حسبما نذكر بعد في موضعه (¬1). ¬_______ (¬1) إعتاب الكتاب لابن الأبار (مخطوط الإسكوريال) لوحة 59 و 61. وراجع الذخيرة المجلد الأول من القسم الأول ص (290 و 291 و 357) حيث يورد أقوال ابن حيان في علاقة ابن زيدون بدولة الجهاورة وهي أقوال غامضة لا نتضح منها حقيقة أدوار هذه العلاقة. ولم يشر ابن حيان من جهة أخرى إلى نكبة ابن زيدون التي ألقى بسببها إلى السجن ولا إلى فراره. ولكن الفتح يشير إلى ذلك صراحة في القلائد (ص 71) وقد أورد ابن بسام كثيراً من قصائده التي وجهها في سجنه إلى ابن جهور.

وكان ابن زيدون أيام تمتعه بثقة بني جهور. قد أنشأ في مديحهم عدد من غرر قصائده، ومنها الأبيات الآتية: لولا بنو جهور ما أشرقت بهم ... غيد السوالف في أجيادها تلمع قوم متى تحتفل في وصف سؤددهم ... لا يأخذ الوصف إلا بعض ما يدع أبو الوليد قد استوفى في مناقبهم ... فللتفاريق منها فيه مجتمع من مهذب أخلصته أوّليته ... كالسيف بالغ في أخلاصه الصنع إن السيوف إذا طاب جوهرها ... في أول الطبع لم يعلق بها الطبع واستمرت الأحوال على انتظامها حيناً، ولكن أبا الوليد ما لبث أن تنكب عن سياسة أبيه، فقدّم على الناس ولده عبد الملك، وأخذ عليهم العهد له، فأساء عبد الملك السيرة، واستبد بالسلطة. وأفسح المجال للأوغاد، وأهمل الشئون، وتسمى بذي السيادتين المنصور بالله. الظافر بفضل الله. وخطب له على المنابر، وذلك خلافاً لما جرى عليه أبوه وجده من قبل، من الاعتصام بالحلم والتواضع، والزهد في مظاهر السلطان. وفي سنة 440 هـ، فوض عبد الملك النظر في الأمور إلى وزير أبيه إبراهيم بن يحيى المعروف بابن السقاء، فضبطها وأصلحها، وعمل على تهدئة الأحوال، وتوطيد الأمن والنظام، واستمر ابن السقاء في النظر مدة طويلة. وكان المعتضد ابن عباد أمير إشبيلية يشعر بأن استمرار هذا الوزير القوي على هذا النحو في رياسة حكومة قرطبة، يحول دون تحقيق مشاريعه في الاستيلاء عليها، فسعى لدي عبد الملك في حق ابن السقاء، وحذره من أطماعه واستئثاره بالسلطة وأغراه بقتله، وكان عبد الملك سيىء الرأي والتقدير، فاستمع لتحريض ابن عباد، وقتل وزيره في كمين دبره (455 هـ - 1063 م) (¬1). وهنا بدأت عوامل الفساد تدب إلى جهاز الحكم، وزاد في سوء الحال ما حدث من التنافس بين عبد الملك وأخيه الأكبر عبد الرحمن. وكان أبو الوليد يؤثر ولده الأصغر عبد الملك بمحبته، وكان عبد الرحمن من جانبه يدعي أنه أحق بالولاية من أخيه، فوقع التنافس بين الأخوين، وأخذ كل منهما يستميل طائفة من الجند. ويؤلف الأحزاب لمناصرته، فلما تفاقم الأمر. وخشي أبو الوليد العواقب، عمد ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 232 و 251 و 256، وأعمال الأعلام ص 149. (2) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 118.

خريطة: دول الطوائف والممالك الإسبانية النصرانية بعد انهيار الخلافة أواخر القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي).

إلى تقسيم السلطة بين ولديه، فخص أكبرهما عبد الرحمن بالنظر في أمر الجباية، والإشراف على أهل الخدمة، وفي التوقيع في الصكوك السلطانية، والدخل والخرج وجميع أبواب النفقات؛ وخص عبد الملك بالنظر في شئون الجند، والإشراف على أعطيتهم، وتجريدهم في البعوث وجميع ما يخصهم، وارتضى الأخوان هذا الحل. بيد أن عبد الملك لم يلبث أن غلب على أخيه عبد الرحمن، وسجنه في منزله واستبد بالأمر دونه؛ وخلا الجو لعبد الملك، وأطلق العنان لسلطانه وأهوائه، واستولى صحبه من الأوغاد والسفلة، على أزمة الحكم، وبدأ الشعب القرطبي ينصرف عن آل جهور. كل ذلك والرئيس الشيخ أبو الوليد ملتزم داره لشلل أقعده. وكان عبد الملك يعتمد في مشاريعه وتحقيق خططه، على مصادقة ابن عباد وتشجيعه، وقد زاره في إشبيلية، فبالغ ابن عباد في إكرامه والتودد إليه، وكان عبد الملك يظن أنه يستطيع الاعتماد على صداقته ومحالفته، ضد أطماع بني ذى النون أصحاب طليطلة، ومشاريعهم للاستيلاء على قرطبة، ولم يكن يدور بخلده أن بني عباد يضمرون ضده مثل هذه المشاريع. وأخيراً تكشفت الأمور، وخرج المأمون يحيى بن ذى النون في قواته من طليطلة، قاصداً غزو قرطبة، واستولى في طريقه على حصن المدوّر الواقع غربي قرطبة. وكان المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية قد توفي سنة 461 هـ، وخلفه ولده المعتمد، فسار على سياسة أبيه من إبداء المودة والتحالف لبني جهور. فلما شعر عبد الملك بالخطر الداهم، استغاث بحليفه ابن عباد، فبعث إليه المعتمد بالمدد من الفرسان تحت إمرة قائديه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، فنزلا بالربض الشرقي من قرطبة. وأشرف ابن ذى النون بجنده على المدينة، فألفاها قد استعدت لقتاله بقوات لا قبل له بها، فارتد أدراجه محنقاً، بعد قتال يسير. وكان قد وقع الاتصال أثناء ذلك بين قائدي جيش إشبيلية وبين بعض الناقمين من زعماء قرطبة. في التخلص من بني جهور، والانضواء تحت ظل بني عباد، والظاهر أيضاً أن كانت لدي القائدين أوامر سرية بتدبير الخطة للاستيلاء على المدينة، وعلى أي حال فإنه ما كاد ابن ذى النون يرتد بقواته، حتى تظاهر القائدان بأنهما يزمعان العودة، وسارا في بعض قواتهما إلى وداع عبد الملك بباب المدينة، وعندئذ

اقتحم العباديون الأبواب وملكوها، ودخلوا المدينة واحتلوها، وعاثوا في أنحائها نهباً وهتكاً وسبياً، وكان ذلك في شعبان سنة 462 هـ (1070 م). وأدرك عبد الملك مبلغ خديعته، وأيقن أن النهاية قد حلت، فطلب الأمان لنفسه وذويه، فاعتقل وأخوه عبد الرحمن وسائر الأهل والولد، وأرسلوا في الحال إلى إشبيلية، ثم اعتقل أبوهما، الشيخ المريض المقعد أبو الوليد بن جهور ومن معه، ونفي الجميع إلى جزيرة شلطيش، الواقعة في مصب نهر أراد تجاه ولبة، وهناك توفي ابن جهور الشيخ لأربعين يوماً فقط من نكبته وسقوط دولته. وهكذا انتهت دولة بني جهور بقرطبة، بعد أن لبثت أربعين عاماً. وكانت أول دولة تسقط من بين دول الطوائف الرئيسية. وكانت دولة نموذجية، ولاسيما في عهد مؤسسها الوزير أبي الحزم بن جهور. وكانت تتمتع بين دول الطوائف بمركز أدبي خاص، وتتخذ في أحيان كثيرة مركز الوسيط والحكم، وتعمل بهيبتها وهيبة رئيسها الوزير المحنك، على فض المنازعات وإقرار السلم بين الأمراء. ومن ذلك ما بذله أبو الحزم من المساعي المتكررة لحسم النزاع بين المعتضد ابن عباد والمظفر بن الأفطس، حينما نشب القتال بينهما بشأن لبلة التي هاجمها ابن عباد، واستغاث صاحبها ابن يحيى بصديقه المظفر، وقد كاد الأمر بينهما يتطور إلى فتنة هوجاء لولا تدخل أبي الحزم ونصحه المتكرر (¬1). وندب المعتمد بن عباد ولده الفتى عباداً الملقب بالظافر وسراج الدولة لحكم قرطبة، التي يتصل تاريخها من ذلك الحين بتاريخ مملكة إشبيلية. وقد تناول ابن حيان، وكان حسبما تقدم من وزراء عبد الملك بن جهور، وشهد بنفسه سائر هذه الحوادث، مأساة سقوط الدولة الجهورية، في كتاب خاص سماه "البطشة الكبرى" يمتاز بقوته وبلاغته (¬2). ولما فشل مشروع المأمون بن ذى النون في افتتاح قرطبة، واستولت عليها ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 151: والبيان المغرب ج 3 ص 210. وراجع في أخبار دولة بني جهور: الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 114 - 126، والبيان المغرب ج 3 ص 185 - 187 و 209 و 210 و 259 - 261، وأعمال الأعلام ص 145 - 151، والحلة السيراء (ليدن) ص 168 - 170، وابن خلدون ج 4 ص 159. (¬2) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 129، وأعمال الأعلام ص 151.

جنود ابن عباد، وتولى حكمها ولده سراج الدولة، وجه ابن حيان إلى المعتمد رسالة تهنئة يقول فيها: " لو أن فتحاً اعتلى عن تهنئة ممنوحة بارتفاع قدر، أو جلالة صنع، أو فرط انتقام مستأصل، أو تنزل حكم من الرحمن فاصل، لكان فتحه هذا لك، على عدو أسود الكيد، مظاهر البغي على الحسد، طالما استحييته لا من خجل، وتنكبته لا عن وهل، فأبى رأيه الفائل، وجده العاثر، وحينه المجلوب، وضربه المكبوب، الا اكتساب العار، ومماتنة محصد الأقدار ". ثم يحمل ابن حيان بعد ذلك على المأمون بن ذى النون، وينوه بتوفيق ابن عباد ويمنه في هزيمته ورد مكيدته، وذلك في عبارات ملتهبة لاذعة (¬1). وإنه لمما يلفت النظر في ذلك حقاً أن ابن حيان، يهدي مؤلفه التاريخي العظيم في مقدمته إلى المأمون بن ذى النون، ويصفه "بالأمير المؤثل الإمارة ذي المجدين، الكريم الطرفين" (¬2). وقد انتهز ابن بسام هذه الفرصة للحملة على ابن حيان، والتنويه بمواقفه المتناقضة في تاريخه لملوك الطوائف. وفي رأيه أن هذا التاريخ، بالرغم مما لقيه لدى بعض أولئك الملوك من ترحاب وتقدير، وما أجزلوه عنه من صلات، فإن ابن حيان "قد أخطأ التوفيق، وما أصاب"، إذ جاءت معظم أقواله كالسهام المرسلة، من قدح مغرض في الأحساب والأعراض، وطمس للمعالم والأنوار، وأنه قد ارتكب بذلك إثماً وظلماً، وإن كان قد سلم من لسانه "أمير بلده، وأكبر أهل زمانه " أبو الحزم بن جهور، وابنه من بعده، فقد جرى لهما "بأيمن طائر، ولم يعرض لذكرهما إلا بخير" (¬3). ¬_______ (¬1) تراجع هذه الرسالة في الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 89 - 91. (¬2) الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 88. (¬3) الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 84 و 85 و 113 و 114.

الفصل الثانى بنو عباد ومملكة إشبيلية

الفصل الثاني بنو عباد ومملكة إشبيلية القسم الأول ظهور القاضي ابن عباد في إشبيلية. بنو عباد وأصلهم ونشأتهم. القاضي اسماعيل بن عباد ينتزع الرياسة في إشبيلية. بنو حمود وسلطانهم على إشبيلية. صد المستعلي بن حمود عن دخولها. تقديم القاضي ابن عباد عليها. حكمه وأهباته. ولده أبو القاسم محمد. الخلاف بين أبي القاسم بن عباد وابن الأفطس والحرب بينهما. البرزالي صاحب قرمونة. تعليق ابن حيان على عصابات البربر. استيلاء المعتلي ابن حمود على قرمونة. إعلان القاسم بن عباد ظهور هشام المؤيد. قصة هشام والغموض حول مصيره. استرداد ابن عباد لقرمونة ومصرع المعتلي. استيلاؤه عليها وعلى إستجه. الحرب بين ابن عباد والبربر. هزيمة جند ابن عباد ومصرع ولده اسماعيل. وفاة أبي القاسم محمد بن عباد، وقيام ولده المعتمد مكانه. المعتضد بن عباد حسبما يصوره ابن حيان. حملة ابن بسام عليه. قسوته وصرامته. إمارات الطوائف في غربي الأندلس. إمارة لبلة ومهاجمة المعتضد لها. تدخل ابن الأفطس والحرب بينه وبين المعتضد. استيلاء المعتضد على لبلة. لبلة وأسوارها الأندلسية. إمارة ولبة وجزيرة شلطيش. استيلاء المعتضد عليها. استيلاؤه على شنتمرية الغرب. استيلاؤه على باجة. إمارة شلب واستيلاؤه عليها. الإمارات البربرية. خطة ابن عباد في الاستيلاء عليها. كمين المعتضد للأمراء البربر وإهلاكهم. استيلاؤه عل أركش ومورور. استيلاؤه على رندة ثم قرمونة. استيلاؤه على الجزيرة الخضراء. اتساع مملكة إشبيلية. ضغط ملك قشتالة على الطوائف. المعتضد وزملاؤه يؤدون له الجزية. خروج اسماعيل بن المعتضد على أبيه. اعتقاله وإعدامه. رسالة المعتضد عن الحادث لرؤساء الأندلس. قطع المعتضد الدعوة لهشام المؤيد. تهكم ابن حيان على قصة هشام. شخصية المعتضد وخلاله وسياسته. قسوته المروعة. قصة الرؤوس المحنطة. قصور بني عباد. صفة المعتضد. شغفه بالنساء. أدبه وشاعريته. وزراؤه وكتابه الأعلام. ابن زيدون وابن عبد البر والبزلياني. وزيره ششقند. كانت مملكة إشبيلية أو غربي الأندلس، من حيث الرقعة الإقليمية، والزعامة السياسية، والقوة العسكرية، أهم دول الطوائف وأعظمها شأناً، وفضلا عن هذا التفوق الإقليمي والسياسيي، فقد سطعت مملكة إشبيلية بين دول الطوائف زهاء نصف قرن، بفخامة بلاطها، وروعة رسومها، وكان للأدب والشعر بها دولة زاهرة، طبعت هذه الحقبة القصيرة من تاريخها، بطابعها الخالد.

وإذا كنا سوف نخص مملكة إشبيلية بالحديث فيما يلي، فإن هذا الحديث سوف يكون مشعباً متعدد النواحي، وسوف يمتد إلى إمارات ودول أخرى، ليس فقط داخل منطقة الغرب أو غربي الأندلس، التي كانت تسيطر عليها مملكة إشبيلية، ولكن إلى مناطق وممالك رئيسية أخرى. - 1 - بدأت جذور مملكة إشبيلية مبكرة، منذ انهيار الدولة العامرية في نهاية المائة الرابعة. وفي الوقت الذي كانت تضطرم فيه عاصمة الخلافة قرطبة، بالفتن والانقلابات المتعاقبة، كان قاضي إشبيلية أبو الوليد اسماعيل بن عباد، يعمل في هدوء وصمت، على جمع خيوط الرياسة في يده، وعلى الاستئثار بحكم المدينة العظيمة، التي تركت كباقي القواعد الأخرى لمصيرها. كان اسماعيل بن عباد يتولى خطة القضاء بإشبيلية منذ أيام المنصور بن أبي عامر، وكان فضلا عما يمتاز به من العلم والحكمة والورع، ينتمي إلى بيت من أعظم البيوتات العربية الأندلسية. فلما وقعت الفتنة وسادت الفوضى كل ناحية من نواحي الأندلس، استمر إسماعيل في خطة القضاء، وأخذ في نفس الوقت يعمل على حفظ النظام، وضبط الأمور في المدينة. وكان علي بن حمود حينما دخل قرطبة وتولي الحكم بها سنة 407 هـ، تولي أخوه القاسم حكم إشبيلية، وبقي ابن عباد على حاله في منصب القضاء. ولما قتل علي بن حمود، تولي أخوه القاسم مكانه في الخلافة في قرطبة، وخلا الجو ثانية لابن عباد. وكان في خلال الفترة التي كانت فيها خلافة الحموديين تتردد بين قرطبة وإشبيلية، وما تخللها من الأحداث المتوالية، يعمل على توطيد مركزه وتدعيم رياسته، ويعمل بالأخص على حماية المدينة من أطماع البربر وعيثهم، ويجمع حوله كلمة الزعماء حتى لا تغدو إشبيلية كما غدت قرطبة مسرحاً للفتنة، ومرتعاً لأطماع البربر. وقد وفق في خطته كما سنرى أعظم توفيق. ويجدر بنا قبل أن نتحدث عن عهد بني عباد أمراء إشبيلية، أن نذكر كلمة عن أصلهم، وأوّليتهم. كان بنو عباد، وفقاً لأقوال علماء النسب، ينتمون إلى لخم. ومؤسس دولتهم ومنشىء مجدهم، هو القاضي أبو القاسم محمد بن اسماعيل بن قريش بن عباد

ابن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عِطاف بن نعيم. وعطاف هو جدهم الداخل إلى الأندلس في طالعة بَلْج بن بشر القشيري. وأصله من أهل حمص الشام، لخمي النسب صريحاً. ولما دخل إلى الأندلس نزل بقرية "يومين" بقرب بلدة طشانة Tocina من أعمال إشبيلية، وهي واقعة على ضفة نهر الوادي الكبير. ونحن نعرف أن جند الشام قد نزلوا لأول الفتح بإشبيلية أو حمص كما سموها يومئذ، نظراً لما بينها وبين حمص الشام من شبه قوي في الطبيعة والإقليم. وفي رواية أخرى أن بني عباد هم من ولد النعمان بن المنذر بن ماء السماء، وبذلك كانوا يفخرون ويمدحون، وهذا ما يؤيده قول شاعرهم ابن اللبانة: من بني المنذر بن ما السماء وهو انتساب زاد في فخره بنو عباد نبتة لم تلد سواها المعالي ... والمعالي قليلة الأولاد وتألق نجم بني عباد، في أعقاب الفتنة، على يد جدهم أبي الوليد اسماعيل قاضي إشبيلية، وكان قد تقلب قبل انهيارالخلافة في عدة من الوظائف الكبرى، فولى الشرطة لهشام المؤيد، ثم ولي خطة الإمامة والخطابة بالجامع الأعظم، ثم ولي قضاء إشبيلية. ولما اضطرمت الفتنة، وتجهمت الظروف، استطاع بحزمه ودهائه، ووجاهته وبذله، أن يستغل ظروف الفتنة على أكمل وجه، وأن يجمع في يده أزمة الرياسة والحكم شيئاً فشيئاً، معتمداً في ذلك على عراقة بيته، ورفيع مكانته، وواسع ثرائه، ومعاونة الزعماء والأكابر الذين استمالهم إلى جانبه، بلينه وجوده ولباقته؛ ويصفه ابن حيان بأنه " رجل الغرب (أي غربي الأندلس) قاطبة، المتصل الرياسة في الجماعة والفتنة "، وينوه بوفور عقله وسبوغ علمه، وركانته ودهائه وبعد نظره، ويقول لنا إنه كان " أيسر من بالأندلس وقته، ينفق من ماله وغلاته، لم يجمع درهماً قط من مال السلطان ولا خدمه ". ولما شعر القاضي ابن عباد بأنه حقق بغيته، من توطيد قدمه في الرياسة، وأثقلته السنون، وكف بصره أو كاد، ندب ولده أبا القاسم محمد ليشغل مكانه خطة القضاء. وكان سلطان بني حمود ما يزال ثمة يتردد بين قرطبة وإشبيلية، ويخفق علم خلافتهم هنا وهناك. وقد رأينا أن القاسم بن حمود قد تولى الخلافة في قرطبة عقب مقتل أخيه علي (أواخر سنة 408 هـ). وفي أوائل سنة 412 هـ، ثار عليه ابن أخيه يحيى بن علي، وزحف بقواته على قرطبة، فغادرها القاسم في نفر من صحبه، وقصد إلى إشبيلية، وهناك تسمى بالخلافة وتلقب بالمستعلي.

بيد أنه ما لبث أن استدعى ثانية إلى قرطبة، على أثر خلع ابن أخيه يحيى، وهنالك جددت له البيعة (ذو الحجة سنة 413 هـ). وكان المستعلي حينما استقر بإشبيلية قد اصطنع أبا القاسم بن عباد بعد موت أبيه اسماعيل، وقربه إليه، وأقره في ولاية القضاء. وكان أبو القاسم يشعر من جانبه أن استمرار سلطان الحمّوديين، يهدد رياستهم وينذر بالقضاء عليها. فلما استدعى المستعلي ليتولى الخلافة ثانية في قرطبة، اجتمع رأي أهل إشبيلية على ثلاثة من الزعماء هم القاضي اسماعيل بن عباد، والفقيه أبو عبد الله الزبيدي، والوزير أبو محمد عبد الله بن مريم، يتولون حكمها وضبط الشئون فيها، فكانوا يحكمون بالنهار في القصر، وتنفذ الكتب تحت أختامهم الثلاثة، ومع ذلك فقد كان القاضي ابن عباد، بمركزه ووفرة ثرائه ووجاهته، أقواهم سلطاناً، وأعلاهم يداً. فعكف على العمل على توطيد سلطانه، وعلى إضعاف سلطة البربر في المدينة. ولما عاد المستعلي بعد قليل لاجئاً مع فلوله إلى إشبيلية، بعد أن خلعه القرطبيون، وطلب أن تخلي له ولأصحابه الدور، اتفق زعماء المدينة، وعلى رأسهم أبو القاسم على إغلاق أبوابها، وصد المستعلي وصحبه البربر عن الدخول إليها، وأخرج من كان بها من ولد المستعلي وأهله، ومن زعماء البربر وأكابرهم. واتفق أهل إشبيلية، اتقاء لعدوان المستعلي وأشياعه من البربر، على أن يؤدوا له قدراً من المال، وينصرف عنهم، وتكون له الخطبة والدعوة، ولا يدخل بلدهم، ولكن يقدم عليهم من حكمهم ويفصل بينهم، فقدم عليهم القاضي أبا القاسم بن عباد، ورضى به الناس، وبذا انفرد ابن عباد أيضاً بالرياسة الشرعية، وقد كان منفرداً بها من الناحية الفعلية؛ وكان ذلك في أواخر سنة 414 هـ (1023 م) وبذلك انتهت رياسة البربر في إشبيلية، كما انتهت من قبل في قرطبة (¬1). ¬_______ (¬1) راجع في أصل بني عباد وظهورهم: ابن الأبار في الحلة السيراء (مخطوط الإسكوريال رقم 1654) لوحة 65 أ، ونقله دوزي في كتابه: Scriptorum Arabum Loci de Abbaditis ( الكتابات العربية المتعلقة ببني عباد)، والمسمى أيضاً Historia Abbadidarum ( تاريخ بني عباد) (ليدن سنة 1846 - 1863 في ثلاثة مجلدات) ج 1 ص 220 و 221. وراجع الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 34 - 38. وراجع أيضاً جمهرة أنساب العرب لابن حزم (القاهرة) ص 398، والبيان المغرب ج 3 ص 194 - 196 و 314 و 315، وأعمال الأعلام لابن الخطيب (طبع بيروت) ص 152 و 153. ونود أن نلاحظ بهذه المناسبة أن العلامة رينهارت دوزي قد عمد إلى تمزيق كتاب "الحلة السيراء"، فاستخرج منه تراجم عديدة نشرها في كتابه Hist. Abbadidarum ( تاريخ بني عباد)، ونشر بعضها في كتابه: Recherches، ثم نشر معظم ما تبقى بعد ذلك من التراجم في مجلد =

ونظم ذو الوزارتين أبو القاسم بن عباد حكم المدينة، بعد أن غدا قاضيها وحاكمها السياسي معاً، معتمداً في ذلك على تأييد زعماء البيوتات العربية ومعاونتهم، وعلى تأييد الشعب والتفافه من حوله. وكان بالرغم من استئثاره بالسلطة، يبدي في أحكامه وتصرفاته كثيراً من اللين والرفق، وكان يعمل في هدوء وأناة على التخلص من سائر منافسيه، والقضاء عليهم واحداً بعد الآخر. وعمد في نفس الوقت إلى شراء العبيد، وحشد الرجال، واقتناء السلاح، ولم يكن يخفي عليه أن الحموديين، وشيعتهم من البربر يتربصون به، ويطمحون إلى امتلاك إشبيلية. وكان بنو حمود من جانبهم يخشون بأسه وأطماعه على مملكتهم، ومن جهة أخرى فإن أطماع ابن عباد لم تكن تقف عند حكم إشبيلية وحدها، بل كانت تتجه إلى التوسع، ولاسيما في ناحية الغرب، التي كانت بطبيعتها الإقليمية تتبع إشبيلية، وكانت من جهة أخرى خالية من المنافسين الأقوياء. وكان أول صدام عسكري خطير اشترك فيه أبو القاسم بن عباد، قتاله مع بني الأفطس أصحاب بَطَلْيوس، وهم جيرانه من الشمال. ومما يجدر ذكره أن ابن عباد مع خصومته للبربر، كان يعتمد على محالفة محمد بن عبد الله البرزالي البربري صاحب قرمونة، أولا لأن قرمونة كانت حصن إشبيلية من الشرق، وثانياً لأن البرزالي كان يخشى سطوة بني حمود وأطماعهم في المدينة، ومن ثم فقد كانت تجمعه مع ابن عباد مصلحة جوهرية مشتركة؛ ولما وقعت الخصومة بن ابن عباد، والمنصور بن الأفطس صاحب بطليوس، بشأن الاستيلاء على مدينة باجة، التي وقع الخلاف بين أهلها على الرياسة، بعث ابن عباد لقتاله ولده اسماعيل ¬_______ = بعنوان: Extraits de l'Ouvrage intitulé Al - Hollato, S'Syiara. " نبذ من الكتاب المسمى الحلة السيراء " (ليدن 1847 - 1851) باعتباره يضم تراجم " الإسبانيين " أي الأندلسيين وليس المغاربة. ولم يكتف دوزي بذلك، بل عمد إلى تمزيق كثير من التراجم، فنشر أقساماً منها في Hist. Abbad. وكذلك في Recherches، ونشر باقيها في المجموعة المشار إليها. وفي اعتقادنا أن ذلك لم يكن عملا سليماً من الناحية العلمية، إذ ترتب عليه تمزيق الكتاب وبعثرة محتوياته ومن ثم فقد اضطررنا في الطبعة الأولى أن نرجع أحياناً إلى الأصل المخطوط، وأحياناً إلى أجزائه المطبوعة المبعثرة هنا وهناك. هذا ومما يدعو إلى الغبطة أن كتاب الحلة السيراء قد صدر أخيراً في طبعة كاملة محققة في مجلدين كبيرين (القاهرة سنة 1964) بعناية الدكتور حسين مؤنس مدير معهد الدراسات الإسلامية بمدريد. ومن ثم فقد رأينا أن نرد المراجع التي أثبتناها مخطوطة في الطبعة الأولى، خلال الكتاب، إلى هذه الطبعة الجديدة المطبوعة.

على رأس نخبة من جنده، واشترك معه البرزالي بقواته، وحاصرت القوات المشتركة مدينة باجة التي احتلتها قوات ابن الأفطس، وقتلت وأسرت معظمهم، وكان بين الأسرى ولد ابن الأفطس، فاعتقل لدى البرزالي حيناً بقرمونة ثم أطلق سراحه، وكذلك كان منهم أخ لابن طيفور صاحب ميرتُلَة وقد صلب بإشبيلية (421 هـ). ثم عادت الحرب فاضطرمت بين الفريقين بعد ذلك بأربعة أعوام. وكان ابن الأفطس وهو من الأصول البربرية، يعتمد أيضاً في جيشه على فريق من البربر؛ وسارت قوات إشبيلية بقيادة إسماعيل بن عباد شمالا إلى أراضي ابن الأفطس وتوغلت فيها، ولكنه حين العودة فاجأته قوات كثيفة لابن الأفطس، ومزقت عسكره، ففر مع فلوله إلى مدينة أشبونة، وامتنع بها حيناً، وكانت هزيمة ساحقة لبني عباد (425 هـ - 1034 م). وكان محمد بن عبد الله البرزالي صاحب قرمونة، من أكبر محرضي ابن عباد ومعاونيه في تلك المعارك. ويصفه ابن حيان "بقطب رحي الفتنة" وينوه بفتكه وعيثه وقبح آثاره في تلك المنطقة، وأنه كان من خصوم الخلافة، لا يروم قيامها بقرطبة بأي وجه "رسوخاً في الخارجية ودفعاً لأمر الله"، وأنه كان يقطع السبل على قرطبة، ويضيق عليها الحصار، حتى اضطر وزراء قرطبة إلى الاستعانة ضده بفريق من بربر بني برزال بشذونة، واعتضدوا بهم مدة. واعتضد ابن الأفطس بطائفة أخرى منهم. ويقول ابن حيان معلقاً على تلك الحالة في تسرب البربر إلى سائر الجهات: "فكان في كل بلد جملة منها، سالت عن أهل البلاد سيول بها، وخلطوا الشر بين رؤسائها، واستخرجوا بذلك، ما أظهروه من دنانيرهم وخلعهم، وجاحوا ذات أيديهم وعلموهم كيف يوكل الكتف، فطال العجب عندنا بقرطبة وغيرها من صعاليك، قليل عددهم، منقطع مددهم، اقتسموا قواعد الأرض في وقت معاً، مضربين بين ملوكها، راتعين في كلاها، باقرين على فلذتها، حلوا محل الملح في الطعام ببأسهم الشديد، وقاموا مقام الفولاذ في الحديد، فلا يقتل الأعداء إلا بهم، ولا تعمر الأرض إلا في جوارهم، فطائفة عند ابن الأفطس تقاوم أصحابها قبل ابن عباد، وطائفة عندنا بقرطبة تحيز أهلها عن الأضداد، فسبحان الذي أظهرهم، ومكن في الأرض لهم، إلى وقت وميعاد " (¬1). ¬_______ (¬1) نقلها دوزي عن الذخيرة: راجع: Historia Abbadidarum V. I. p. 221.

وكان من أشهر أعمال القاضي ابن عباد في تلك الفترة، إعلانه لظهور هشام ْالمؤيد، وإقامته خليفة بإشبيلية، وكان يحيى بن حمود الملقب بالمعتلي، قد استقر في مالقة حسبما أسلفنا، وجعلها مقر ملكه، وبسط حكمه على معظم قواعد الأندلس الغربية الجنوبية. وكان يخشى مشاريع ابن عباد، ويرى فيه خصمه الحقيقي. فلما توثقت عري التحالف بين البرزالي صاحب قرمونة وابن عباد، أخذ يتوجس شراً، ومن ثم فقد انتهز أول فرصة، وسار إلى قَرْمونة، وانتزعها من يد صاحبها محمد بن عبد الله البرزالي، فلجأ محمد إلى إشبيلية واستغاث بحليفه ابن عباد. ولما شعر ابن عباد بخطورة الموقف، وأخذ يحيى المعتلي يرهقه بغاراته المتوالية على أراضي إشبيلية، ويردد النذير بوجوب استردادها باعتبارها من أملاك الحمّوديين، أعلن ذات يوم أن هشاماً المؤيد قد ظهر، وأنه كان مختفياً ولم يمت (أواخر 426 هـ - 1035 م)، وذلك لكي يدحض دعوى الحموديين في الخلافة بظهور الخليفة الشرعي. وقد ساقت إلينا التواريخ المعاصرة تفاصيل هذه القصة أو بالحري هذه الأسطورة. ونحن نعرف مما تقدم أن سليمان المستعين حينما دخل قصر قرطبة في أواخر سنة 403 هـ، قبض على هشام المؤيد وأخفاه. وأن الرواية تختلف بعد ذلك في مصيره، فيقال إنه قتل بعد ذلك بيد محمد بن سليمان، ويقال من جهة أخرى، إنه فر من محبسه، وعاش حيناً في ألمرية حتى توفي. وعلى أي حال فقد استمر هذا الغموض الذي يحيط بمصير هشام مدة طويلة، ومختلف الروايات والقصص تنسج من حوله، يذيعها بنو عمه المروانية، وفتيان القصر وجواريه السابقين، ومؤداها أن هشاماً لم يمت، وأنه مختف وسوف يظهر في الوقت المناسب. وعلى أساس هذه الروايات، أظهر ابن عباد شخصاً زعم أنه هشام المؤيد، وجمع حوله نفراً من خدم القصر السابقين، فأيدوا روايته وشهدوا بصدق زعمه، ويقال إن هذا الشخص كان بالفعل يشبه هشاماً شبهاً كبيراً. وكان هذا الرجل يعمل مؤذناً بمسجد في قرية من قرى إشبيلية، فاستقبل عند خروجه من المسجد، وألبس الثياب الخلافية، وقبل ابن عباد وولده وصحبه الأرض بين يديه، وخوطب بألقاب الخلافة، ثم أخذ إلى القصر، حيث أقبل الناس أفواجاً لبيعته، وهو يخاطبهم من وراء حجاب، ويخبرهم بأنه قد عهد بحجابته إلى إسماعيل بن عباد. ويقول لنا ابن القطان إن هذا الدعي كان يسمي خلف الحصري، وإنه كان يشبه هشاماً، وإنه حينما أتى به إلى إشبيلية، نودي في

الناس، أن اشكروا الله على ما أنعم عليكم به، فهذا مولاكم أمير المؤمنين هشام قد صرفه الله عليكم، وجعل الخلافة ببلدكم لمكانه فيكم، ونقلها من قرطبة إليكم، فاشكروا الله على ذلك (¬1). وذاعت قصة ظهور هشام في سائر الأنحاء، وبعث ابن عباد بكتبه إلى سائر قواعد الأندلس، يطلب من رؤسائها الاعتراف والبيعة لهشام المؤيد. فلم يعترف بها سوى بعض الفتيان العامريين السابقين، واعترف بها الوزير أبو الحزم بن جهور لنفس البواعث، التي حملت ابن عباد على اختراعها، وهو العمل على دفع دعاوي الحموديين ومطامعهم حسبما سبقت الإشارة إليه. ويندد الفيلسوف ابن حزم بقصة هذا الخليفة المزعوم، ويصفها بأنها "أخلوقة لم يقع في الدهر مثلها". ثم يقول إنها لفضيحة لم يقع في العالم إلى يومنا مثلها، أن يقوم أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، كلهم يتسمى بإمرة أمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمن واحد، وهم: خلف الحصري بإشبيلية على أنه هشام بن الحكم، ومحمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة، ومحمد بن إدريس بن علي بن حمود بمالقة، وإدريس بن يحيى بن حمود بببشتر (¬2). وعلى إثر ذلك استعد ابن عباد لاسترداد قَرْمونة من يد يحيى المعتلي، فسير بعض قواته مع ولده إسماعيل، ومعها طائفة من البربر المتحالفين معه. فطوق قسم منها المدينة ليلا، وكمن القسم الثاني في أماكن مستترة. وكان يحيى المعتلي داخل المدينة، وهو عاكف على لهوه وشرابه، فلما وقف على الخبر. خرج مع قواته وهو ثمل، واشتبك مع المهاجمين في معركة حامية، وعندئذ ظهرت قوات ابن عباد من مكمنها وأطبقت عليه، فمزقت قواته وقتل خلال المعركة، واحتز رأسه وحمل إلى القاضي ابن عباد (المحرم سنة 427 هـ) ورد ابن عباد قرمونة إلى صاحبها السابق، حليفه محمد بن عبد الله البرزالي. بيد أنه لم تمض على ذلك أعوام قلائل حتى ساء التفاهم بين ابن عباد والبرزالي. وكان ابن عباد يرى أن قرمونة، وهي حصن إشبيلية من الشرق يجب أن تكون في حوزته، فسير ولده إسماعيل في حملة قوية إلى قرمونة فاستولى عليها. ثم استولى بعد ذلك على مدينة إستجة الواقعة في شرقها وكذلك على مدينة أشونة الواقعة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 199 و 200، وأعمال الأعلام ص 154. (¬2) نقط العروس لابن حزم (المنشور بمجلة كلية الآداب ديسمبر 1951) ص 83 و 84.

جنوبي إستجة، فاستغاث البرزالي بزملائه من الزعماء البربر، وهرع إلى نصرته إدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، وكان كلاهما يتوجس من مشاريع ابن عباد وأطماعه، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية عدة معارك عنيفة، واستطاع البربر أن يخترقوا أراضي إشبيلية حتى قلعة جابر (¬1) حصنها من الشرق، وانتهى الأمر بأن هزم الإشبيليون، وقتل أميرهم إسماعيل ابن عباد، واحتز رأسه وحمل إلى باديس، وذلك أسوة بما حدث ليحيى المعتلي، وكان ذلك في أوائل المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م) (¬2). فكان لتلك النكبة أسوأ وقع في نفس القاضي ابن عباد، فندب ولده الثاني عباداً لتدبير الشئون، وقيادة الجيش، فأبدى قوة وحزماً، ولبث زهاء عامين مضطلعاً بمهمته، حتى توفي أبوه في نهاية جمادى الأولى سنة 433 هـ (يناير 1042 م). وكان القاضي ابن عباد عالماً أديباً، وشاعراً مطبوعاً، ومن قوله في الفخر: ولابد يوماً أن أسود على الوري ... ولو رد عمرو للزمان وعامر فما المجد إلا في ضلوعي كامن ... ولا الجود إلا في يميني ثابر يجيش العلي بين جنبي جايل ... وبحر الندى أسير كفي زاخر ويمكننا أن نعتبر القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد، مؤسس دولة بني عباد الحقيقي، ومنشىء ملكهم ورسوم مملكتهم، وعلى يده اتخذ سلطان بني عباد ألوانه الملوكية المدعمة بالقوى العسكرية، وإن لم يصل بعد إلى غايته من الروعة والضخامة، وأصبح ملوكية وراثية راسخة، بعد أن كان يتخذ فقط صورة الزعامة، والرياسة القبلية. - 2 - فولى الأمر من بعده ولده أبو عمرو عباد بن محمد بن إسماعيل، وتلقب أولا بفخر الدولة، ثم بالمعتضد بالله، وكان يوم ولايته فتى في السادسة والعشرين، وكان مولده في صفر سنة 407 هـ (1016 م). وقد أجمعت الروايات المعاصرة والقريبة من العصر، على الإشادة بخلال المعتضد الباهرة، وصفاته المثيرة معاً. ويصفه ابن حيان، وهو معاصره، ومتتبع لأحداث حياته وحروبه، بأنه "زعيم جماعة أمراء الأندلس في وقته، أسد الملوك، وشهاب الفتنة، وداحض العار، ومدرك الأوتار، ¬_______ (¬1) هي بالإسبانية Alcalà de Guadaira، وما تزال أطلالها قائمة حتى اليوم. (¬2) جذوة المقتبس ص 29 و 30.

وذو الأنباء البديعة، والجرائر الشنيعة، والوقائع المثيرة، والهمم العلية، والسطوة الأبية". وابن حيان أميل إلى تزكية المعتضد منه إلى الحكم عليه، حسبما يبدو ذلك من قوله "فلقد حمل عليه على ممر الأيام في باب فرط القسوة، وتجاوز الحدود والابلاغ في المثلة، والأخذ بالظنة، والإحتقار للذمة، حكايات شنيعة لم يبد في أكثرها للعالم بصدقها دليل يقوم عليها، فالقول ينساق في ذكرها، ومهما برىء من مغيبها فلم يبرأ من فظاعة السطوة، وشدة القسوة، وسوء الاتهام على الطاعة، سجايا من جبلَّته لم يحاش فيهن ذو رحم واشجة". بيد أن ابن بسام، وقد عاش قريباً من عصر المعتضد، يبدو أشد قسوة في الحكم عليه إذ يصفه فيما يلى: "قطب رحى الفتنة، ومنتهى غاية المحنة، من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا سلم عليه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض، وأسد فرس الطلى وهو رابض، متهور تتحاماه الدهاة، وجبان لا تأمنه الكماة، متعسف اهتدى، ومنبت قطع فما أبقى، ثار والناس حرب، وكل شىء عليه ألب، فكفى أقرانه وهم غير واحد، وضبط شأنه بين قائم وقاعد، حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده، حربه سم لا يبطىء، وسهم لا يخطىء، وسلمه شر غير مأمون، ومتاع إلى أدنى حين " (¬1). وافتتح المعتضد عهده بأمور كشفت عن صرامته وعنف وسائله، منها قتل حبيب وزير أبيه، ومنها اضطهاد الزعماء القدماء ونكبتهم، وقد كان في مقدمة هؤلاء الفقيه أبو عبد الله الزبيدي، وأبو محمد عبد الله بن مريم زميلا جده القاضي ابن عباد في الرياسة، وذلك حتى لا يقوم لأحد من ذوي العصبيات القوية قائمة. ثم وضع خطته الشاملة للاستيلاء على قواعد الغرب من أمرائها الأصاغر، حتى يخلص الغرب كله من الوادي الكبير إلى المحيط لسلطان بني عباد. إمارات غربي الأندلس وكانت أولى هذه القواعد مدينة لبلة الواقعة غربي إشبيلية، وشمال شرقي ثغر ولبة، وكان قد ثار بها أيام الفتنة، أبو العباس أحمد بن يحيى اليحصبي المعروف باللبلي، أحد كبرائها، وضبطها، وبايعه أهلها (سنة 414 هـ) وبسط سلطانه ¬_______ (¬1) أورده ابن بسام في ترجمة المعتضد في الذخيرة، وأورده دوزي في Historia Abbadidarum, V.I.p. 241 & 242. وأورده ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 40 و 41.

على ما حولها من الأراضي ومنها "جبل العيون" (¬1)، واستمر في حكم دولته الصغيرة زهاء عشرين عاماً، ثم توفي سنة 434 هـ، وأوصى بالحكم من بعده لأخيه أبي عبد الله محمد بن يحيى اليحصبي الملقب بعز الدولة، فمضى في حكمها على ما كان عليه من النظام والرخاء والأمن، حتى بدأ المعتضد بن عباد يرهقه بمطالبه وغاراته، ثم كشف المعتضد القناع، وهاجم لَبلة بقواته. فاستغاث ابن يحيى بصديقه المظفر ابن الأفطس صاحب بطليوس، فلبى نداءه وسار إلى نجدته بقواته، وحرك في نفس الوقت بعض حلفائه البربر إلى مهاجمة إشبيلية. ولما وقف الوزير أبو الوليد بن جهور على تلك الحركة أهمته، وتوجس من عواقبها، فأرسل إلى الزعماء المتخاصمين رسله ينصحهم بوجوب التريث، والتمسك بأهداب التفاهم والسلم، ويحذرهم من عواقب الفتنة، فلم يصغ إليه أحد منهم، وبادر المعتضد، في الوقت الذي سارت فيه قوات ابن الأفطس إلى إنجاد ابن يحيى، فأرسل قواته لمهاجمة أراضي ابن الأفطس، فعاثت فيها وخربتها، ثم سار المعتضد بنفسه إلى لبلة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة، هزم فيها ابن الأفطس أولا، ثم دارت الدائرة بعد ذلك على المعتضد، وقتل عدد كبير من جنده (439 هـ - 1047 م). وسارت بعض طوائف البربر في نفس الوقت، وعاثت في شرقي إشبيلية، وقطعت الطرق، وفتكت بالسابلة، وساءت الأحوال في المنطقة كلها. والظاهر أن ابن يحيى رأى في النهاية أن يتفاهم مع المعتضد بعد الذي نزل ببلاده من الخراب والعيث، فعقد معه الصلح. ولكن ذلك لم يرض المظفر بن الأفطس، فأبى أن يرد إلى ابن يحيى ودائعه وأمواله، التي أودعها عنده حينما هاجمه المعتضد، ثم أرسل قواته لمهاجمة لبلة، فاستغاث ابن يحيى بالمعتضد فأرسل إليه الأمداد، واستمرت المعارك بين الفريقين حيناً. تم عادت الحرب فاضطرمت بين المعتضد وابن الأفطس في سنة 442 هـ (1050 م) وعاث المعتضد في أراضي ابن الأفطس، وافتتح منها عدة حصون ضمها إلى مملكته، وأتلف الزروع وخرب كثيراً من القرى، وقتل الكثير من جند ابن الأفطس، ونضبت موارده، فانتهى إلى الاعتصام بحاضرته بطليوس وذلك على ما نفصله فيما بعد في أخبار مملكة بطليوس. وأخيراً تدخل الوزير ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Gibraléon

ابن جهور بين الفريقين، واستمر في مساعيه الحثيثة حتى عقد الصلح بين المعتضد وابن الأفطس في ربيع الأول سنة 443 هـ (1051 م). والتفت المعتضد بعد ذلك إلى لَبلة فضيق الخناق عليها، وفي النهاية اضطر أميرها عز الدولة أن يتنازل عن حكمها لابن أخيه أبي نصر فتح بن خلف اليحصبي الملقب بناصر الدولة، على أن يعقد السلم مع المعتضد، وأن يؤدي له جزية سنوية. وانتقل بأهله وأمواله إلى قرطبة، ليعيش هناك في كنف الوزير أبي الوليد بن جهور وذلك في أواخر سنة 443 هـ. على أن المعتضد لم يقنع بهذا الحل، ولم يمض سوى القليل حتى نقض السلم المعقود، وبعث قواته فهاجمت لبلة، واضطر ناصر الدولة أن يدافع عن نفسه، واستمرت الحرب بينهما حيناً، حتى خربت بسائط لبلة وقتل كثير من جندها، وسبى كثير من أهلها، وذلك بالرغم مما بذله ناصر الدولة من جهود يائسة للدفاع عن ملكه، وما قام به من غارات متعددة على أراضي إشبيلية. وفي النهاية اضطر ناصر الدولة أن ينزل على حكم القوة القاهرة، وأن يسلم لبلة إلى خصمه القوى، وأن يغادرها إلى قرطبة، ليعيش هناك إلى جانب عمه. وكان سقوط لبلة في يد المعتضد بن عباد سنة 445 هـ (1053 م) (¬1). هذا وربما كانت لبلة هي الوحيدة بين مدن الأندلس المسلمة، التي ما زالت تحتفظ حتى اليوم بأسوارها الأندلسية كاملة. وقد زرناها وشهدنا أسوارها العتيقة الضخمة التي تحيط بها من كل ناحية إلا من ناحيتها الشرقية على النهر المسمى "النهر الأحمر" Rio Tinto. وتمثل هذه الأسوار، التي جددها الموحدون في القرن الثاني عشر، منعة لبلة الأندلسية وموقعها الحصين فوق الربوة العالية التي تحتلها، وهو منظر رائع حقاً لا يدانيه في روعته سوى أسوار مدينة آبلة الرومانية العربية. وثمة خاصة أخرى تمتاز بها لبلة، وهي أنه لم يطرأ علي خططها الأندلسية القديمة كثير من التغيير، فهي ما زالت تحتفظ داخل الأسوار بطابعها الأندلسي المحض. وعنى المعتضد في الوقت نفسه بالاستيلاء على إمارتين صغيرتين أخريين من ¬_______ (¬1) راجع ما نقله ابن بسام في الذخيرة (عن ابن حيان) في دوزي: Historia Abbadi- darum V.I.p. 244-252. , والبيان المغرب ج 3 ص 209 و 210 و 211 و 234 و 240 و299 و 300 و 301، وأعمال الأعلام ص 156، وابن حيان (نقله ابن بسام في الذخيرة) القسم الأول المجلد الأول ص 360.

إمارات ولاية الغرب، أولهما إمارة ولبة وجزيرة شلطيش، الواقعة جنوب غربي لبلة، وإمارة شنتمرية الغرب في غربها. فأما إمارة ولبة وجزيرة شلطيش الواقعة تجاهها في المحيط في مصب نهر أوديل فقد آلت في أعقاب الفتنة إلى أبي زيد عبد العزيز البكري - كبير زعمائها - وبويع بها في سنة 403 هـ، واستمر مضطلعاً بحكمها مدة طويلة، والسلام يرفرف على أرجائها. فلما قوي سلطان بني عباد بإشبيلية، واتجهت أطماعهم إلى الاستيلاء على إمارات الغرب، أخذ المعتضد يضيق الخناق على ثغر ولبة، ويرهقه بغاراته، ويقطع السبل إليه. فساءت أحوال الإمارة الصغيرة، ولم يجد البكري سبيلا إلا مفاوضة ابن عباد في عقد الصلح على أن يسلم إليه ثغر ولبة، ويكتفي هو بجزيرة شلطيش، فوافق ابن عباد على ذلك، ولكنه ما لبث أن أخذ في مضايقة البكري في جزيرته، وفرض عليه نوعاً من الحصار. وعندئذ اضطر البكري أن يفاوضه مرة أخرى في التنازل عن جزيرة شلطيش، وانتهى إلى أن باعه أملاكه وسفنه وأثقاله بعشرة آلاف مثقال من الذهب، وغادر الجزيرة، بأهله وأمواله، إلى قرطبة ليعيش هناك في كنف ابن جهور أسوة بزميله ابن يحيى أمير لبلة (443 هـ 1051 م). وفي رواية أخرى أن البكري سار إلى إشبيلية وعاش بها في كنف ابن عباد إلى أن توفي بها في سنة 450 هـ. بيد أننا نؤثر الرواية الأولى وهي رواية ابن حيان، معاصر هذه الحوادث ومدونها بطريق العلم والتحقيق (¬1). هذا وقد اختفت جزيرة شلطيش من مصب نهر أوديل ولم يبق لها اليوم وجود. وأما إمارة شنتمرية الغرب الصغيرة الواقعة على المحيط في جنوبي البرتغال، فقد بويع بها أبو عبد الله محمد بن سعيد بن هارون سنة 433 هـ خلفاً لأبيه سعيد ابن هارون، ولبث في حكمها بضعة أعوام إلى أن بدأ المعتضد في مضايقته ومحاربته. وألفى ابن هارون أن لا قبل له بمقاومة هذا الأمير الباغي، فنزل له عن ثغره، وخرج بأهله وصحبه إلى إشبيلية (443 هـ - 1051 م) وهناك توفي بعد أشهر قلائل. وقيل إن خروج ابن هارون من شنتمرية كان في سنة 449 هـ (¬2). وتقوم اليوم مدينة فارو البرتغالية فوق موقع شنتمرية الأندلسية. ولم يبق من إمارات الغرب بعد ذلك سوى إمارة شلب، وكانت في الواقع ¬_______ (¬1) ابن حيان، ونقله دوزي في: Hist.Abbadidarum V.I.p. 252-253 (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 205 و 298، 299.

أهم إمارات الغرب بعد إشبيلية، وكانت تشمل فضلا عن كورة شِلْب (¬1)، وهي الواقعة في قاصية جنوبي البرتغال، كورة باجة. وكان الحاجب عيسى بن محمد قد تغلب في أعقاب الفتنة على هذه المنطقة النائية، وأقام بها دولة، واستمر مسيطراً عليها حتى توفي في سنة 432 هـ. فخلفه في حكمها ولده محمد بن عيسى الملقب بعميد الدولة، واضطر اتقاء لعدوان ابن عباد أن ينزل له عند مدينة باجة وأن يكتفي بحكم شلب. وكان ابن عباد قد استولى قبل ذلك على ميرتلة قاعدتها الجنوبية من يد صاحبها ابن طيفور في سنة 436 هـ، وأصبحت باجة تحت رحمته. واستمر عميد الدولة في حكم شلب حتى توفي سنة 440 هـ. وعندئذ ثار بها القاضي عيسى بن أبي بكر بن مُزَين فبايعه أهلها، وبسط حكمه عليها، وتلقب بالمظفر واستمر حكمه خمسة أعوام، وابن عباد دائب على مهاجمته وشن الغارات عليه، وهو يرده ما استطاع، حتى قتل في أواخر سنة 445 هـ، مدافعاً عن مدينته. فخلفه ولده محمد بن عيسى وتلقب بالناصر، وحكم حتى توفي سنة 450 هـ، فخلفه ولده عيسى وتلقب بالمظفر، وسار في الحكم على نهج أبيه وجده، من ضبط الأمور، وإقامة العدل. بيد أن المعتضد ما لبث أن كرر حملاته على شلب، ثم ضرب الحصار حولها، وقطع عنها سائر الأمداد، حتى اشتد الأمر على أهلها، وانتهى بأن اقتحمها بعد أن هدم أسوارها، ودخل القصر وقتل عيسى المظفر، وذلك في شوال سنة 455 هـ (1063 م)، وبذلك انتهت دولة بني مُزَين (¬2). الإمارات البربرية وهكذا استطاع المعتضد بن عباد، في نحو عشرين عاماً، أن يقضي على سائر إمارات الغرب الصغيرة، وأن يبسط سلطانه عليها، وأصبحت مملكة بني عباد، تشمل سائر الأراضي الممتدة من شاطىء نهر الوادي الكبير غرباً حتى المحيط الأطلنطي، هذا عدا رقعة تقع شرقي الوادي الكبير. على أن المعتضد لم يقنع بهذا التوسع الكبير في اتجاه الغرب، وإنما كان يضع الخطط في نفس الوقت للقضاء على الإمارات البربرية الصغيرة القائمة في شرقي الوادي الكبير في جنوبي الأندلس، حتى يقضي على خططهم وأطماعهم، وحتى يؤمن جناحه الدفاعي في تلك الناحية، ويغدو حراً في العمل والحركة في اتجاه الشمال والشرق. ¬_______ (¬1) وهي بالبرتغالية Silves (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 192 و 296 - 298. والحلة السيراء لابن الأبار ص 186.

وكانت هذه الإمارات البربرية التي استولى عليها وضبطها الزعماء البربر، المتخلفون من عصبة المنصور بن أبي عامر، فضلا عن مملكة بني حمود في مالقة والجزيرة، ومملكة باديس بن حبوس في غرناطة، تنحصر في أربعة وهي إمارة بني يفرن في رندة، وإمارة بني دمَّر في مورور، وإمارة بني خزرون في شذونة وأركش، وإمارة بني برزال في قرمونة. وكان بنو عباد في بداية أمرهم، يخطبون ود هؤلاء الزعماء البربر، ويعتمدون أحياناً على محالفتهم كما حدث عندما تحالف القاضي ابن عباد مع أمير قرمونة على قتال بني الأفطس، ثم على قتال يحيى بن حمود فيما بعد. ثم كان بين أبي نور هلال بن أبي قرة اليفرني صاحب رندة، وبين المعتضد بن عباد صداقة ومودة وثيقة العري، وكان المعتضد يبعث إليه، وإلى باقي الأمراء البربر، بالهدايا والصلات الجزيلة، وكل ذلك لكي يكسب حيادهم ومودتهم، وهو في أعماق نفسه يضمر لهم غاية الكيد والشر، ويتحين الفرص للإيقاع بهم. وفي سنة 445 هـ، دبر المعتضد كمينه لأولئك الأمراء، فدعاهم إلى زيارته يإشبيلية، فلبى الدعوة ثلاثة منهم هم أبو نور بن أبي قرة صاحب رندة، ومحمد بن نوح الدمَّري صاحب مورور، وعبدون بن خزرون صاحب أركش، وقد ساروا إلى إشبيلية في أحسن زي، وأفخم مظهر، ومعهم نحو مائتي فارس من رؤساء قبائلهم. فاستقبلهم المعتضد أحسن استقبال، وأنزل الأمراء بقصر من قصوره، وفي اليوم الثالث استدعاهم إلى مجلسه، وأخذت يؤنبهم على تقصيرهم في محاربة أعدائه، ولما هموا بالرد أمر بالقبض عليهم، وتكبيلهم بالأغلال، ووضعهم في السجن فرادى، واستولى على سائر متاعهم وخيلهم وسلاحهم؛ وبعد مدة من اعتقالهم، أمر بادخالهم في الحمام، وبناء منافذه، وإضرام النار فيه حتى هلكوا، ويقال إنه أطلق ابن أبي قرة، وهلك صاحباه فقط في الحمام، وهما محمد بن نوح، وعبدون بن خزرون. وكان لغدر ابن عباد بالزعماء البربر على هذا النحو، أسوأ وقع في القبائل البربرية، وفي إذكاء سخطها على ابن عباد وتوجسها منه ومن مشاريعه. واستمر المعتضد بعد ذلك في سعيه للاستيلاء على أملاك أولئك الأمراء؛ فأما أركش فقد حل في حكمها محمد بن خزرون مكان أخيه عبدون، فابتنى

ابن عباد قلعة حصينة على مقربة منها، وأخذ رجاله يغيرون منها على أركش ويرهقون أهلها، فسار بنو يرنِّيان، وهو اسم قبيلة البربر النازلة بها، إلى كبيرهم باديس في غرناطة، واتفقوا معه على أن يسلموه أركش على أن يفسح لهم مقاماً في مملكته ينزلون به، وخرجوا من أركش بأموالهم ومتاعهم وحريمهم، وسلموها إلى جند باديس، فلما بعدوا عنها بمسافة نحو عشرين ميلا، تعرضت لهم جند ابن عباد ووقع القتال بينهم وبينه، ودافع البربر عن أنفسهم دفاعاً شديداً، حتى أبيد أكثرهم، وقتل زعيمهم محمد بن خزرون، وقتل قائد باديس الذي كان معهم، وملك ابن عباد أركش وشذونة وسائر هذه المنطقة، وكان ذلك في أواخرسنة 458 هـ (1066 م) (¬1). وأما مورور أو مورون، وهي منزل بني دمَّر، فإنه بعد أن هلك أميرها محمد بن نوح في سنة 445 هـ، أو على قول آخر في سنة 449 هـ، في حبس ابن عباد، خلفه ولده مناد بن محمد بن نوح الملقب بعماد الدولة، وضبط مورور وحسنت سيرته، وقصد إليه البربر من إشبيلية ومن إستجة وغيرهما، فكثر جمعه، هذا والمعتضد يتربص الفرصة للإيقاع به، ويرسل جنده للإغارة عليه، وانتساف زروعه، وحرق قراه، وأخيراً حاصرت جند ابن عباد مورور حصاراً شديداً، وضيقت عليها المسالك، حتى اضطر عماد الدولة أن يذعن إلى التسليم، على أن يعيش في إشبيلية، في كنف المعتمد وتحت حمايته، فأجابه المعتضد إلى طلبه، وسلم إليه المدينة (458 هـ) وقصد إلى إشبيلية بأهله وماله، وعاش بها حتى توفي في سنة 468 هـ (¬2). وأما رندة، وهي أهم هذه الإمارات الجنوبية وأمنعها، فكانت منزل بني يفرن. ولما وقع أميرها أبو نور هلال بن أبي قرة اليفرني في اعتقال المعتضد سنة 445 هـ، قام ولده باديس مكانه في رندة، ولكنه كان فاجراً سفاكاً، فسطا على الأموال والأعراض، وعاث رجاله في المدينة سبياً ونهباً، ولم يعف عن الاعتداء على أقرب الناس إليه. فلما أفرج عن أبيه، عاد إلى رندة، وقتل ولده الفاسق (449 هـ)، ولكنه لم يعش بعده سوى أشهر قلائل وتوفي في نفس العام، فخلفه ولده أبو نصر فتوح، وبويع له في رندة، وفي سائر بلاد ريُّه، وكان ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 294. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 295 و 296.

محسناً عادلا، ولكنه كان شغوفاً بالشراب، مخلداً إلى الراحة، فدس عليه المعتضد رجلا من أقرب صحبه يدعى ابن يعقوب، فهجم عليه في أصحابه ذات يوم، وهو يصيح بشعار ابن عباد، فألقى أبو نصر نفسه من أعلى القصبة فمات، ولم يبد أهل المدينة أية مقاومة، وخلصت رندة وأعمالها على هذا النحو، إلى المعتضد، وذلك في سنة 457 هـ (1065 م) (¬1). وأما قَرْمونة فكانت حسبما تقدم في يد بني برزال. وتقع قرمونة على مقربة من شمالي شرقي إشبيلية، وتعتبر لمنعتها الفائقة حصن إشبيلية من الشرق، وما يزال يقوم بها حتى اليوم، بابها الغربي المواجه لطريق إشبيلية، والمسمى حتى اليوم باسمه الأندلسي باب إشبيلية، وهو يعتبر بعقده الشاهق وواجهته العظيمة، من أمنع الأبواب الأندلسية الباقية. وكان أمير قرمونة أيام القاضي ابن عباد، محمد بن عبد الله البرزالي، الذي سبق أن أشرنا إلى قصة تحالفه مع ابن عباد ضد بني الأفطس وضد يحيى بن حمود. واستمر في حكم قرمونة وأعمالها مثل إستجة ومرشانة حتى توفي سنة 434 هـ، فخلفه ولده عزيز الملقب بالمستظهر، وانتظمت الأحوال وعم السلم والرخاء في عهده، إلى أن بدأ المعتضد في مضايقته وغزو أراضيه. ولم تزل الحرب بينهما بضعة أعوام حتى خربت البلاد، وفنى كثير من البربر، واضطر المستظهر أن يذعن إلى التسليم، فخرج من قرمونة وسلمها إلى ابن عباد، وذلك في سنة 459 هـ (1067 م)، وتوفي بعد قليل في إشبيلية (¬2). هذا وسوف نعود إلى تناول هذه الإمارات البربرية في فصل خاص بها. وكان المعتضد قد استولى قبل ذلك على الجزيرة الخضراء. وكان أميرها القاسم بن محمد بن حمود، قد خلف أباه في حكمها في سنة 440 هـ، وكان المعتضد يسعى إلى القضاء على سلطان الحمُّوديين وخلافتهم. ومن جهة أخرى فقد كان يهمه الاستيلاء على الجزيرة، وهي باب الأندلس من الجنوب، فبعث قواته إليها فطوقتها من البر والبحر، وضيقت عليها الحصار، حتى اضطر القاسم إلى طلب الأمان والتسليم إلى قائد المعتضد عبد الله بن سلام، فأجابه إلى مطلبه. وخرج ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 208 و 312 و 313. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 312.

القاسم بأهله وأمواله في مركب أعده له ابن سلام، وسار إلى ألمرية حيث التجأ إلى أميرها المعتصم بن صمادح، وعاش بها حتى توفي. وكان استيلاء ابن عباد على الجزيرة الخضراء في سنة 446 هـ (1054 م) (¬1). وهكذا أضحت مملكة إشبيلية أو مملكة بني عباد تضم من أراضي الأندلس القديمة رقعة شاسعة تشمل المثلث الجنوبي من شبه الجزيرة، وأرض الفرنتيرة شمالا حتى شواطىء الوادي الكبير، ثم تمتد بعد ذلك من عند منحنى الوادي الكبير، غرباً حتى جنوبي البرتغال وشاطىء المحيط الأطلنطي، وبذلك أضحت أعظم ممالك الطوائف، وأغناها من حيث الموارد الطبيعية، وأقواها من حيث الطاقة الحربية. ولم يكن يغشى هذه المكانة التي بلغتها إشبيلية من الضخامة والقوة والغنى، سوى ناحية قاتمة واحدة، هي موقفها من ملك قشتالة فرناندو الأول (¬2). ذلك أن هذا الملك القوي كان يطمح إلى أن يبسط سيادته على اسبانيا كلها، وكان يرى في ممالك الطوائف، وما يسودها من الخلاف والتفرق، فرائس هينة. ففي سنة 1062 م (454 هـ)، خرج من قشتالة بجيش كبير من الفرسان والرماة، وغزا مملكة طليطلة، وعاث فيها وخرب سهولها وزورعها، حتى اضطر ملكها المأمون ابن ذى النون، أن يطلب الصلح، وأن يتعهد بدفع الجزية. وفي العام التالي، سنة 1063 م (455 هـ) عاد فغزا أراضي مملكتي بطليوس وإشبيلية، واضطر المعتضد بن عباد، أن يحذو حذو المأمون، في طلب الصلح والتعهد بدفع الجزية، وقصد المعتضد بنفسه إلى معسكر ملك قشتالة، وقدم إليه عهوده شخصياً، وطلب إليه ملك قشتالة بهذه المناسبة أن يسلمه رفات القديسة "خوستا" شهيدة إشبيلية، فوعده بتحقيق رغبته. ولما توفي فرناندو بعد ذلك بثلاثة أعوام وخلفه ولده سانشو (شانجه) في حكم مملكة جليقية، كان المعتضد يؤدي إليه الجزية أسوة بأبيه، واستمر في تأديتها حتى وفاته (¬3). - 3 - وحدثت خلال هذه الفترة التي قضاها المعتضد بن عباد في افتتاح الإمارات ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 242 و243. (¬2) ويسمى في الرواية العربية فرذلند أو فرانده. (¬3) راجع: R. Menendez Pidal: La Espana del Cid, p. 135 & 140.

الغربية، والإمارات البربرية، عدة حوادث داخلية هامة، كان في مقدمتها بطش المعتضد بولده اسماعيل. وقد ساق إلينا ابن حيان قصة هذه المأساة، وكان معاصراً لها، متتبعاً لحوادثها، في خبر طويل، خلاصته أنه في سنة 450 هـ، تواترت الأنباء في قرطبة بأن المعتضد قد دبر نزول قواته بمدينة الزهراء ضاحية قرطبة الغربية تمهيداً لافتتاحها، وندب ولده وولي عهده إسماعيل الملقب بالمنصور للقيام بهذه المهمة. ولكن إسماعيل لم يشأ أن يقوم بهذه المهمة، لأنه وفقاً لبعض الروايات كان يحقد على أبيه ويستوحش منه لأسباب خاصة، أو لأنه وفقاً لرواية أخرى كان يرى أن مهاجمة قرطبة على هذا النحو مغامرة خطيرة يرجح فشلها، ولاسيما لما كان بين آل جهور سادة قرطبة، وبين باديس أمير غرناطة من محالفة وثيقة العرى. ومن ثم فقد راجع إسماعيل أباه وحذره من العواقب، فأغلظ له أبوه في القول، وألزمه المسير، وأنذره بالقتل إذا نكل، فعندئذ ثارت نفس إسماعيل، وعول على الفرار مع بعض خواصه. ويقال إن الذي شجعه على ذلك وزير أبيه وكاتبه، أبو عبد الله محمد بن أحمد البزلياني، حينما شكا إليه ما يلقاه من غلظة والده وقسوته، فحسن له العقوق والعصيان، والسير إلى أطراف المملكة، حيث ينفرد بنفسه، وعندئذ دبر إسماعيل أمره، وانتهز فرصة غياب أبيه إلى مكان متنزهه في حصن الزاهر، في الضفة الأخرى من النهر، فحزم قدراً كبيراً من المال والذخائر والمتاع، وأخذ أمه وحرمه، وخرج من إشبيلية تحت جنح الليل، ومعه الوزير البزلياني، وثلة من نحو ثلاثين فارساً، وسار في طريق الجزيرة الخضراء، وعلم أبوه بالخبر بعد وقت، فبادر بإخراج عدة من فرسانه في أثره، وبعث ينذر قواد الحصون. وكان إسماعيل قد وصل خلال ذلك إلى قلعة من قلاع كورة شذونة، وطلب إلى حاكمها ابن أبي حصاد، أن يجيره، فاستقبله وأنزله بالقلعة هو ومن معه، وبادر فكتب إلى المعتضد بحصول إسماعيل في يده، وأنه نادم على ما فعل، ورجاه في العفو عنه، فسر المعتضد، واستجاب إسماعيل لدعوة أبيه إليه بالعودة، ودخل إشبيلية بسائر ماله ومتاعه، فاعتقله أبوه في بعض الدور، واسترد المال والمتاع، وعجل بإعدام الوزير البزلياني لفرط حنقه عليه، وقتل معه نفراً من خواص إسماعيل، فلم يشك إسماعيل عندئذ في مصيره. ودبر مع بعض الموكلين به مؤامرة لدخول القصر والفتك بأبيه والجلوس مكانه، واستطاع بالفعل أن يدخل

القصر ليلا مع بعض أعوانه، ولكنه سقط مرة أخرى في يد أبيه الساهر الحذر. وعندئذ قرر المعتضد قتل ولده، وقتله بنفسه، وأخفى جثته، فلم يقف أحد على أثره، وعذب شركاءه أشنع عذاب، وقطع أطرافهم، ثم أعدمهم، وأعدم كذلك نفراً من حرمه ونسائه، حتى قطع دابر كل من كانت له بولده علاقة أو صلة، وكانت مأساة مروعة، وكان لها في قواعد الأندلس أعمق صدى (¬1). وقد أورد لنا ابن بسام في الذخيرة صورة كتاب أمر المعتضد بكتابته عن المأساة إلى رؤساء الأندلس يصف فيه أطوار الحادث ويبرر تصرفه في إزهاق ولده "الخائن الغادر" حسبما يصفه. وقام بإنشاء هذه الرسالة ابن عبد البر كاتب المعتضد، وذلك ارتجالا، بين يدي المعتضد، وبمحضر من الوزراء والكتاب، فجاءت قطعة من البلاغة الرفيعة، وإليك بعض ما ورد فيها: " إن الغوى اللعين، العاق الشاق، إسماعيل ابنى بالولاد، لا بالوداد، ونجلى بالمناسب لا بالمذاهب، كنت قد ملت بهواى إليه، وقدمته على من هو أسنى منه، وحبك الشىء يعمي ويصم، والهوا يطمس عين الرائي، إذ يلم، فآثرته بأرفع الأسماء والأحوال، ووسعت عليه في خطيرات الذخائر والأموال، وأخضعت له أكابر رقاب الجند ووجوه الرجال، ودربته في مباشرة الحروب، وأجريته على مقارعة الخطوب، ولم يكن مما أحسبه أني إنما أشحذ على نفسي منه الشفرة، وأوفد بالتدريب والتخريج تحت حصى الجمرة، وما كنت خصصته بالإيثار، واستعملته بالمكافحة والقرار، إلا لجزالة كنت أتوسمها فيه، كانت عيني بها قريرة، وشهامة كنت أتوهمها فيه كانت نفسي بها مسرورة، فإذا الجزالة جهالة، والشهامة شرة وكهامة، وقد تفتن الآباء بالأبناء، وينطوي عنهم ما ينطوون عليه من الأسواء، مع أن الآراء قد تنشأ وتحدث، والنفوس قد تطيب وتخبث، بقرين يصلح أو يفسد، وخليط يغوي أو يرشد، كما أن داء العر قد يعدي، كذلك قرين السوء قد يردي، ومن اتخذ الغاوي خديناً، عاد غاوياً ظنيناً، ومن يكن الشيطان له قريناً، فساء قرينا". ويصف الكتاب بعد ذلك أدوار المؤامرة التي دبرها إسماعيل منذ فراره وعوده، وعفو والده عنه، ويقول "فإذا به كالحية لا تغنى مداراتها، والعقرب لا تسالم ¬_______ (¬1) راجع رواية ابن حيان في دوزي Historia Abbadidarum, V.I.p. 256-259 وكذلك البيان المغرب ج 3 ص 244 و 248 و 249.

شباتها، وكأنه قد استصغر ما أتى، واستحقر ما جنى، فزرا وسرا ما صارت به الصغرى، التي كانت العظمى". ثم يصف ائتماره بأبيه وتسوره القصر ليلا، وفشل المؤامرة، والقبض على المتآمرين، "حتى أظفر الله بهم، وأقيمت حدود الله تعالى على الجميع منهم، وأنفذت حكم العدل فيهم ". ثم يحاول أن يبرر تصرفه فيما يلي: "فاعجب يا سيدي لأبناء الزمن، وأنباء الفتن، وانقلاب عين الإبن المقرب الودود، إلى حال الواتر المحسود، والثائر الحقود، واعتبر في ورد المساءة، من موطن المسرة، وطلوع المحنة. وقد أربت هذه الحال على كل ما جر عليه عقوق من الأبناء والبنين، من السلف المتقدمين، فلم يكن أكثر مما وجدناه من ذلك في الأخبار والآثار، استيحاشاً وشروداً، ونبوا ونددوا، إلا ما شذ لأحد ملوك الفرس، وآخر من بني العباس. وجمع هذا اللعين في إرادته ومحاولته، بين الشاذ والنادر، والمنكر الدائر، وزاد إلى استيحاشه الذم، التعرض لإباحة الحرم، وإلى ما رام من إتلاف المهجات، السافح فيها كان يجري على العورات المصونات، وهو زمان فتنة، وشمول إحنة ودمنة، والناس بأزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وأصدق من هذا قوله تعالى: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم، فاحذروهم " نفثت يا سيدي نفثة مصدور، وأطلت في الشرح والتفسير، خروجاً إليك عن هذا الخطب الخطير، والملم الكبير، وهو خبر فيه معتبر " (¬1). ونحن نعرف أن فتك المعتضد بن عباد بولده لم يكن هو أول مثل من نوعه في تاريخ الأندلس. فقبل سبعين عاماً، قتل المنصور بن أبي عامر ولده عبد الله، ومن قبل ذلك قتل الناصر لدين الله ولده عبد الله أيضاً، وكلاهما في مثل هذه الظروف، ولمثل هذه الأسباب، أعني لتطلعه إلى انتزاع السلطان من يد أبيه، وائتماره بحياته. بيد أن المعتضد هو أول أمير من هؤلاء يعني بشرح موقفه وظروفه، وتبرير تصرفه الدموي، في هذه الوثيقة أو هذه الرسالة، التي وجهها إلى زملائه أمراء الأندلس. وقد كان من الطبيعي أن يتوجس أمير مستبد، صارم عنيف الأهواء، مثل المعتضد بن عباد، ¬_______ (¬1) راجع دوزي Historia Abbadidarum, V.I.p. 253-256 , والبيان المغرب ج 3 ص 245 و 248.

من تصرف ولده الحاقد الناقم، المتربص به، ولاسيما إذا صحت الوقائع التي تسوقها إلينا الرواية المعاصرة عن ائتماره بأبيه، وتسوره القصر ليلا للفتك به، وهي رواية مؤرخ معاصر محايد معاً، هو ابن حيان القرطبي. وفي سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، قطع المعتضد بن عباد الدعوة لهشام المؤيد في سائر أنحاء مملكة إشبيلية، وقد كان يدعي له بها منذ نحو خمسة وعشرين عاماً، أعني منذ زعم القاضي ابن عباد في سنة 426 هـ، أنه عثر بهشام المؤيد حياً، وبايعه ودعا له. وقيل في ذلك إن المعتضد دعا وجوه دولته إلى مجلسه، ونعى لهم هشاماً، وأنه قد مات بالفعل قبل ذلك من علة مزمنة، ولكن لم يعلن وفاته يومئذ، لاشتداد الفتنة، واضطرام النضال بينه وبين الأمراء المتألبين عليه، فلما سكنت الفتنة وجب التصريح بالحق. ومن ذلك الحين يصبح هشام في ذمة التاريخ، وينقطع ذكره بصفة نهائية. ويعلق ابن حيان على ذلك متهكماً في قوله: "وصارت هذه الميتة لحامل هذا الاسم الميتة الثالثة، وعساها أن تكون إن شاء الله الصادقة، فكم قتل وكم مات، ثم انتفض من التراب، ومزق الكفن قبل نفخة الصور ". وقد قال بعضم في ذلك: ذاك الذي مات مراراً ودفن ... فانتفض الترب ومُزق الكفن فقد أعلنت وفاته لأول مرة على يد منتزع عرشه محمد بن هشام المهدي، ودفن بمحضر من العلماء والفقهاء في شعبان سنة 399 هـ، ونشر بعد نحو عام على يد الفتى واضح، وتولى الخلافة؛ وتوفي للمرة الثانية قتيلا بيد سليمان المستعين أو ولده محمد بن سليمان في سنة 403 هـ، ودفن خفية؛ ولما دخل علي بن حمود قرطبة، وكان الاعتقاد سائداً بأن هشاماً لم يمت وأنه قد اختفى، ولم يجد هشاماً بعد البحث عنه، أعلن وفاته ودعا لنفسه بالخلافة (407 هـ). ثم جاء القاضي ابن عباد بعد ذلك في سنة 426 هـ، فأعلن ظهور هشام، ودعا له، احتماء بظل الخلافة، ودفعاً لدعاوي بني حمود (¬1). - 4 - وقد أشرنا من قبل في بداية حديثنا عن المعتضد بن عباد إلى ما نسب إليه من ¬_______ (¬1) راجع رواية ابن حيان وتعليقاته على ذلك في دوزي: Historia Abbadidarum V.I.p, 250 , والبيان المغرب ج 3 ص 249.

الصفات الباهرة المثيرة معاً، ونود هنا أن نستعرض في شىء من التفصيل خواص هذه الشخصية القوية العنيفة. كان المعتضد بن عباد، بلا مراء، أعظم ملوك الطوائف في عصره، وأوفرهم عزماً ودهاء، وأبعدهم مطامع. وتقدمه إلينا الروايات المعاصرة في صور قاتمة، يتجلى فيها عنفه، وقسوته وغدره، والتجاؤه إلى أي الوسائل لتحقيق غاياته، مهما كانت مجافية لمبادىء الأخلاق والشهامة والفروسية. وقد رأينا فيما تقدم في تطبيق سياسته، وفي حروبه، وفي تصرفاته، ما يؤيد هذه الصفات المثيرة. ويقول لنا ابن حيان إن المعتضد كان يتخذ سيرة سميه الخليفة المعتضد بالله العباسي قدوة له (¬1)، ويهتدي بأخباره السياسية "التي أضحت عند أهل النظر أمثلة هادية إلى الاحتواء على أمد الرياسة، في صلابة العصا، وشناعة السطا، فجاء منها بمهولات تذعر من سمع بها، فضلا عمن عاينها". ثم يستدرك فيقول: "نسبوا إلى هذا الأمير الشهم عباد أمثالها من غير دلالة" (¬2). وقد رأينا فيما تقدم أن ابن حيان يميل أحياناً إلى الدفاع عن المعتضد، بالرغم مما يقصه من أخبار بطشه وقسوته المروعة. وقد أنفق المعتضد بن عباد معظم حكمه في محاربة جيرانه من أمراء الطوائف، وكشف في محاربتهم عن قوة عزمه، وضخامة عدته، وإحكام خططه، ولكنه كشف في نفس الوقت عن قسوته وغدره، وروعة وسائله، وعلى أي حال فقد استطاع المعتضد بهذه الوسائل المثيرة أن يحقق أطماعه، وأن ينشىء مملكة إشبيلية الكبرى، أعظم ممالك الطوائف، وأن يوطد بها ملك أسرته، وأن يسبغ عليها نوعاً من الزعامة السياسية والأدبية لاسبانيا المسلمة كلها. ويبدي ابن حيان حماسة في وصف سياسة المعتضد إذ يقول: "وسياسته أعيت على أنداده من أملاك الأندلس، فخرج منهم رجالا مساعير حرب أباد بهم أقتاله، ومن نادر أخباره المتناهية الغرابة، أن نال بغيته، وأهلك تلك الأمم العاتية، وإنه لغائب عن مشاهدتها، مترفه عن مكابدتها، مدبر فوق أريكته، منفذ ¬_______ (¬1) قال ابن الأثير في وصف الخليفة المعتضد العباسي ما يأتي: " وكان شهماً شجاعاً مقداماً ذا عزم، وكان فيه شح، وكان مهيباً عند أصحابه، يتقون سطوته، ويكفون عن الظلم خوفاً منه " (ج 7 ص 169 و 170). (¬2) ابن حيان، ونقله دوزي في Hist. Abbadidarum V.I.p, 243

لحيلها، من جوف قصره، ما مشى إلى عدو أو مغلوب من أقتاله غير مرة أو مرتين، ثم لزم عريسته يدبر داخلها أموره، جرد نهاره لإبرام التدبير، وأخلص ليله لتملي السرور، ... وهو واصل نعم ليله، بإجابة كيده، ومبتدع نشاط لهوه بقوة أيده، له في كل شىء شوين، وعلى كل قلب سمع وعين. ما أن سبر أحد من دهاة رجاله غوره، ولا أدرك قعره، ولا أمن مكره، لم يزل هذا دأبه منذ ابتدائه إلى انتهائه" (¬1). وقال ابن القطان: "كان ذا سطوة كالمعتضد العباسي ببغداد، وكان ذا سياسة ورأي يدبر ملكه من داره. وكان يغلب عليه الجود، فلم يعلم في نظرائه أبذل منه للمال" (¬2). ووصفه ابن الخطيب بأنه: "كان شديد الجرأة، قوي المنة، عظيم الجلادة، مستهيناً بالدماء" (¬3). وقد انتهت إلينا عن قسوة المعتضد بن عباد قصة مروعة، هي قصة حديقة الرؤوس المحنطة، رؤوس أعدائه الذين سقطوا في ساحة الحرب، أو قتلوا غيلة، وحملت إليه رؤوسهم. ويقول لنا ابن حيان، إن المعتضد كان له بهذه الحديقة التي تملأ قلوب البشر ذعراً، مباهاة أكرم لديه من خزانة جواهر مكنونة، وقد أودعها هام الملوك الذين أبادهم بسيفه، منها رأس محمد بن عبد الله البرزالي، ورؤوس الحجاب ابن خزرون، وابن نوح، وغيرهم ممن قرن رؤوسهم برأس إمامهم الخليفة يحيى بن علي بن حمود، فخص رؤوسهم بالصون بعد إزالة جسومهم الممزقة، وبالغ في تطييبها وتنظيفها، وأودعها المصاون الحافظة لها، فبقيت عنده ثارية تجيب سائلها اعتباراً. ثم يقول لنا إن هذه الرؤوس الفانية كانت تحمل إلى المعتضد في ليالي أنسه وسروره، يشاهدها وهو يترع كؤوس الزاح، فترتاح نفسه لمعاينتها، والخلق يذعرون من التماحها (¬4). ويضيف ¬_______ (¬1) ابن حيان، ونقله دوزي في: Hist. Abbad. V.I.p. 243-244 (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 284. (¬3) أعمال الأعلام ص 156. (¬4) ابن حيان ونقله دوزي في Hist, Abbadidarum, V.I, p. 243-244 , والبيان المغرب ج 3 ص 205 و 256.

ابن بسام إلى ذلك أنه لما افتتحت اشبيلية، وخلع المعتمد بن عباد، عثر المرابطون بهذه الرؤوس في جوالق وأوعية، ظن في البداية أن بها أموال أو جواهر، فهالهم الأمر، وسلم كل رأس منها لمن بقي من عقب أصحابها (¬1). على أن هذه النواحي القاتمة لم تكن كل شىء في شخصية المعتضد، فقد كانت ثمة في هذه الشخصية نواح أخرى لامعة عنى ابن حيان أيضاً بالإشارة إليها. من ذلك ما سمت إليه همته من إنشاء القصور الباذخة، والرباع العظيمة المغلة، وما عنى به من تنظيم بلاط بني عباد، وتجهيزه بالعدد والمظاهر الملوكية الفخمة، ونفيس المتاع والرياش، حتى غدا أعظم وأفخم بلاط بين قصور الطوائف. وقد اشتهرت قصور بني عباد في التاريخ والشعر، وقد كانت منها بمدينة إشبيلية قاعدة ملكهم عدة، منها قصر الإمارة وهو "القصر المبارك"، وقد كان يقع في شرقي نهر الوادي الكبير، في المكان الذي يشغله اليوم قصر إشبيلية الشهير El Alcàzar. والظاهر أنه كان من إنشاء المعتضد بن عباد، أو أنه هو الذي زاد فيه وأسبغ عليه رونقه وفخامته التي اشتهر بها. وقد كان ثمة أيضاً قصر الزاهي، وهو القصر الذي كان يتخذه المعتضد، ومن بعده ولده المعتمد، مكاناً للهو والقصف، وقد كان يقع على الضفة الأخرى من النهر، وتحيط به حدائق غناء (¬2). وقد ذكر لنا ابن زيدون في شعره، وذكر لنا المقري أسماء قصور أخرى تتصل بعصر المعتضد، وهي على الأغلب من إنشائه، ومن ثم فإنا نرجىء ذكرها إلى موضعها. وقد اقتنى المعتضد كثيراً من الجياد الصافنات، والغلمان والحشم، وأنشأ له جيشاً منتخباً من أبرع الفرسان والمقاتلة، وبذل لهم الصلات الوفيرة، فكان له ما شاء من التفوق العسكري على أنداده وخصومه، وكان جواداً "يباري جوده السحاب". وأما عن شخص المعتضد، فقد ترك لنا عنه معاصره ابن حيان تلك الصورة الرائعة، قال: " وكان عباد قد أوتي من جمال الصورة، وتمام الخلقة، وفخامة الهيئة، وسباطة البيان، وثقوب الذهن، وحضور الخاطر، ما فاق ¬_______ (¬1) ابن بسام في الذخيرة ونقله نفس المصدر ص 240. والبيان المغرب ج 3 ص 205 و206. (¬2) قلائد العقيان ص 24.

به أيضاً على نظرائه ". وقد اشتهر المعتضد بشغفه بالنساء، فكان إلى جانب زوجه الحسناء الأثيرة لديه، إبنة مجاهد العامري، وأخت ولده على إقبال الدولة صاحب دانية، يقتني في قصوره الفخمة، عدداً كبيراً من الجواري البارعات في الحسن والسحر، من سائر الأجناس والملل، بلغ عددهن حسبما قيل، نحواً من السبعين، وكان له من الولد الذكور نحو العشرين، وكذلك مثلهم من الإناث (¬1). بقيت من صفات المعتضد، خلة لامعة، تبعث إلى الإعجاب والعطف في تلك الشخصية التي لا توحي معظم صفاتها إلا شعور المقت والروع، تلك هي أدبه الرفيع ونظمه الرائق. وهنا أيضاً نستعير قلم ابن حيان إذ يقول: "ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان، أدنى نظر، بأذكى طبع حصل منه لثقوب ذهنه، على قطعة وافرة علقها من غير تعهد لها، ولا إمعان في غمارها، ولا إكثار من مطالعتها، ولا منافسة في اقتناء صحائفها، أعطته سجيته على ذلك ما شاء من تحبير الكلام، وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة، في معان أمدته فيها الطبيعة، وبلغ فيها الإرادة، واقتبسها الأدباء للبراعة" (¬2). وقال الحميدي: "كان أبو عمرو بن عباد صاحب إشبيلية، من أهل الأدب البارع، والشعر الرائع، والمحبة لذوي المعارف. وقد رأيت له سفراً صغيراً في نحو ستين ورقة من شعر نفسه" (¬3). وقال ابن القطان: "وكان لأهل الأدب عنده سوق نافقة، وله في ذلك همة عالية، ألف له الأعلم أديب عصره، ولغوي زمانه، شرح الأشعار الستة، وشرح الحماسة، وألف له غيره دواوين وتصانيف لم تخرج إلى الناس" (¬4). والأدب والشعر من محاسن الأسرة العبادية ومآثرها العريقة، فقد نبغ معظم رجالاتها في النثر والنظم، ولم تكن براعة المعتضد في الشعر إلا قبساً من تراث أسرته؛ ولقد بلغ ولده المعتمد، فيما بعد، في عالم الشعر أسمى مراتبه، وكان من أعظم شعراء الأندلس في عصره. وذكر لنا ابن بسام أن شعر المعتضد قد جمع بعناية ولد أخيه اسماعيل في ديوان أطلع عليه (¬5)، واختار منه ما اختار في الذخيرة ¬_______ (¬1) ابن حيان، ونقله دوزي في المصدر السابق ص 245. وفي الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43. (¬2) ابن حيان، ونقله دوزي في المصدر السابق ص 245. وفي الحلة السيراء ج 2 ص 42. (¬3) في جذوة المقتبس رقم 672. ونقله البيان المغرب ج 3 ص 285. (¬4) البيان المغرب ج 3 ص 284. (¬5) وهذا ما ذكره أيضاً ابن الأبار في الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43.

من المقطوعات. وهذه المقطوعات منوعة بين الفخر والغزل والوصف وغيرها، وكلها تدل على افتنان المعتضد، ومقدرته الشعرية الممتازة. فمن قوله في الفخر: حميت ذمار المجد بالبيض والسمر ... وقصرت أعمار العداة على قسر ووسعت سبل الجود طبعاً وصنعة ... لأشياء في العلياء ضاق بها صدري فلا مجد للإنسان ما كان ضده ... يشاركه في الدهر بالنهي والأمر ومن قوله حين استولى على رندة، وهو مما يتفق مع عنفه وصرامته: لقد حصلت يا رندة ... فصرت لملكنا عقدة سأفني مدة الأعداء ... إن طالت بي المدة وتبلى بي ضلالتهم ... ليزداد الهوى جدة فكم من عدة قتلـ ... ـت منهم بعدها عدة نظمت رؤسهم عقدا ... فحلت لبة السدة (¬1) وربما كان لهذه السجية الأدبية أكبر أثر في أن المعتضد قد نظم في سلك وزرائه جماعة من أعظم شعراء العصر وكتابه. وكان في مقدمة هؤلاء أبو الوليد بن زيدون إمام الشعر وقطبه، وكان قد انتظم من قبل في وزارة بني جهور بقرطبة، ثم ساءت أحواله فغادر قرطبة إلى إشبيلية في سنة 441 هـ، فأكرم المعتضد وفادته، وعينه في وزارته، وغمره بثقته وعطفه، وما زال متمتعاً برفيع مكانه ونفوذه حتى وفاة المعتضد. بيد أنه يبدو أنه لم يكن مطمئناً على نفسه في خدمة هذا الطاغية الخطر، حتى أنه لما توفي المعتضد نظم هذين البيتين ابتهاجاً بذهابه، ولم يظهرهما يومئذ "لأنه كان غير مأمون على الدماء، ولا حافظاً لحرية الأولياء". ْلقد سرني أن النعي موكل ... بطاغية قد حم منه حمام تجانب صوب الغيث عن ذلك الصدا ... ومر عليه المزن وهو جهام (¬2) ومنهم أبو محمد عبد الله بن يوسف بن عبد البر ولد أبي عمر، صاحب كتاب "بهجة الجالس وأنس المجالس". نظمه المعتضد في سلك وزرائه، وكان كاتبه ¬_______ (¬1) تراجع مقطوعات أخرى من شعر المعتضد فيما أورده ابن بسام في الذخيرة ونقله دوزي في: Hist. Abbadidarum V.II.p. 48-60. وكذلك في الحلة السيراء (1964) ج 2 ص 43 - 49. (¬2) راجع ما أورده ابن بسام، ونقله دوزي في Hist. Abbadidarum, V.II.p. 48 وراجع قلائد العقيان ص 71.

ولسانه لدى الرؤساء، وقد اشتهر برائق نثره وروعة أسلوبه. وقد رأينا نموذجاً من نثره فيما اخترناه من مقتطفات رسالته، عن مصرع إسماعيل ابن المعتضد. بيد أنه لم يكن أيضاً سعيداً ولامطمئناً، لخوفه المستمر من أن يبطش به المعتضد، ومن ثم فقد عول في النهاية على الفرار، وغادر إشبيلية ناجياً بنفسه (¬1). ومنهم أيضاً الكاتب البارع أبو عبد الله البزلياني الذي يصفه ابن بسام بأنه "أحد شيوخ الكتاب، وجهابذة أهل الأدب". وقد رأينا كيف ساق سوء الطالع هذا الوزير الكاتب إلى الاشتراك مع إسماعيل ولد المعتضد في مؤامرته وفراره، وكيف قبض عليه المعتضد وأعدمه لفوره. ومما هو جدير بالذكر أنه كان بين وزراء المعتضد أو معاونيه، رجل من النصارى المستعربين، هو سسنندو دافيدس (أوششنند) الذي اشتهر فيما بعد في قصور الطوائف. وأصله من مقاطعة بيرة في شمالي البرتغال، وأسر حدثاً في غارة قام بها القاضي ابن عباد في منطقة قُلُمرية، ثم أخذ إلى إشبيلية وربى مع "فتيان" القصر، واشتغل في شئون الخاص. ولما تولى المعتضد، قدر مواهبه، ومعرفته بشئون الجزيرة، فنظمه بين وزرائه أو معاونيه، فنال ثقته، وتمكن نفوذه، وعلت مكانته في البلاط العبادي بسرعة. ولكنه لم يلبث أن تعرض لخصومة بعض رجال البلاط وسعايتهم، فخشى العاقبة، وفر من إشبيلية إلى الشمال، ولجأ إلى بلاط فرناندو ملك قشتالة، فرحب به، ونظمه بين مستشاريه، وكان له فيما بعد أكبر أثر في تكييف سياسته نحو ملوك الطوائف (¬2). وتوفي المعتضد بن عباد في الثاني من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة (مارس 1069 م). ويقول لنا ابن حيان إن وفاته كانت بسبب ذبحة قصيرة الأمد، ترتبت على الإجهاد، وكانت شبه البغت. وكانت ولايته زهاء ثمانية وعشرين عاماً. ¬_______ (¬1) راجع قلائد العقيان ص 181 و 183. (¬2) الذخيرة، القسم الرابع المجلد الأول ص 129 وكذلك: Isidro de las Cagigas Los Mozarabes (Madrid 1947) p. 456-456.

الفصل الثالث بنو عباد ومملكة إشبيلية

الفصل الثالِث بنو عباد ومملكة إشبيلية القسم الثاني المعتمد بن عباد. شخصيته وخلاله. ذكرياته بشلب. استيلاؤه على قرطبة. النضال بين بني عباد والبربر. عوامل الخصومة بينهما. محاربة المعتمد لغرناطة واستيلاؤه على جيان. اتفاقه مع ألفونسو السادس على فتح غرناطة. الوزير ابن عمار. نشأته وشاعريته. مقدرته ودهاؤه. سعيه إلى فتح مرسية. اتفاقه مع أمير برشلونة على غزوها. فشل هذه المحاولة. استعانته بابن رشيق في فتحها. محاولته الاستقلال بحكمها. تغلب ابن رشيق عليها. فرار ابن عمار والتجاؤه إلى بني هود. محاولته فتح حصن شقورة. سقوطه في يد صاحب الحصن. تسليمه لابن عباد. اعتماد الرميكية وابن عباد. تغدو ملكة إشبيلية. الوحشة بينها وبين ابن عمار. هجاء ابن عمار للمعتمد. والرميكية. استعطاف ابن عمار للمعتمد وشعره في ذلك. قسوة المعتمد وقتله لوزيره. تعليقات على الحادث. ابن عمار وعبقريته. مقدرته الأدبية والنثرية. غزو المعتمد لأراضي طليطلة. يؤدي الجزية لملك قشتالة. يعقد حلفاً معه. موضوع هذا الحلف. مطالبة ألفونسو للمعتمد بالجزية. والخلاف على قيمتها. تنكيل ابن عباد برسل ألفونسو. غزو ألفونسو لأراضي إشبيلية. خطته في إضعاف الطوائف والقضاء عليهم. إدراك المعتمد لخطته وتفكيره في الاستعانة بالمرابطين. وعيد ألفونسو له ورد المعتمد عليه. ذيوع فكرة استدعاء المرابطين بين أمراء الأندلس وشعوبها. سفارة أمراء الأندلس لعاهل المرابطين. الإتجاهات المختلفة والآراء المعارضة. ما ينسب لابن عباد من رسائل وجهها إلى أمير المسلمين. استجابة أمير المسلمين لنداء الأندلس. عبوره إلى شبه الجزيرة الإسبانية. - 1 - لما توفي المعتمد بن عباد، خلفه يوم وفاته ولده، محمد بن عباد، الملقب بالظافر، والمؤيد بالله، والمعتمد على الله، وهو اللقب الذي غلب عليه واشتهر به طول حياته. وكان المعتمد يوم جلوسه على عرش مملكة إشبيلية، فتى في الثلاثين من عمره، وكان مولده بمدينة باجة في سنة 431 هـ (1040 م) وقيل بل في ربيع الأول سنة 432 هـ (¬1). وكان مثل أبيه، في حسن القوام، وروعة المظهر، وعنفوان ¬_______ (¬1) يقول بالرواية الأولى النويري، وبالرواية الثانية ابن زيدون وابن اللبانة شاعرا المعتمد. راجع دوزي: Historia Abbadidarum V.II,p, 61 & 131 , وكذلك ابن الأبار في الحلة السيراء ج 2 ص 53.

الصبا، ولكن لم يكن مثله في الصرامة والقسوة والاستهتار بالدماء، بل كان بالعكس وديعاً، يعف عن الدماء، بعيداً عن قبول السعايات. ويقول لنا ابن الأبار في وصف المعتمد ما يأتي: " وكان المعتمد من الملوك الفضلاء، والشجعان العقلاء، والأجواد الأسخياء المأمونين، عفيف السيف والذيل مخالفاً لأبيه في القهر والسفك، والأخذ بأدنى سعاية، رد جماعة ممن نفى أبوه، وسكن وما نفر، وأحسن السيرة، وملك فأسجح، إلا أنه كان موالعاً بالخمر، منغمساً في اللذات، عاكفاً على البطالة، مخلداً إلى الراحة، فكان ذلك سبب عطبه، وأصل هلاكه " (¬1). وقد خاض المعتمد مثل أبيه، سلسلة طويلة من الحروب والأحداث، وتقلب في غمار الخطوب والجدود، وكان عهده عهد الحسم في تاريخ دول الطوائف، وفي تاريخ الأندلس قاطبة؛ ولكنه لم يشتهر في ميدان الحرب والسياسة، قدر ما اشتهر في ميدان الأدب والشعر، والفروسية، والجود، ومهما كانت وجوه الضعف الشخصية التي كان ينطوي عليها، من عكوف على الشراب، وانغماس في مجالي اللهو والترف، ومهما كانت أخطاؤه السياسية الفادحة، التي ترتبت عليها محنة الأندلس، ثم محنته الخاصة: مهما كان من هذه الصفات القاتمة فإن شخصية المعتمد بن عباد، تبرز لنا من خلال هذه الغمار، ومن الناحية الأخرى، مشرقة وضاءة، تتوجها عبقريته الأدبية والشعرية، وتزينها صفاته الإنسانية الرقيقة وتطبعها محنته المؤلمة، بالرغم من كل أوزاره وأخطائه، بطابع الاستشهاد المؤثر. وكان المعتمد أثناء حياة أبيه المعتضد، والياً لمدينة شلب، وليها عقب استيلاء بني عباد عليها في سنة 455 هـ (1063 م)، وكان يعاونه خلال تلك الفترة في إدارة ولاية شلب وزيره أو أمينه أبو بكر بن عمار، الذي تولى وزارته بإشبيلية فيما بعد، واشتهر ذكره، واضطلع له بأخطر المهام السياسية والعسكرية. وقد تركت حياة المعتمد في شلب، تلك المدينة البرتغالية الجميلة النائية، وهو يومئذ في عنفوان فتوته، يتقلب خلالها في مجالي اللهو والأنس، في نفسه ذكريات لا تمحى، صورها لنا فيما بعد، في بعض قصائده. ومن ذلك قوله مخاطباً وزيره ابن عمار حين وجهه إلى شلب ليتفقد أعمالها: ألا حب أوطانب بشلب أبا بكر ... وسلهن هل عهد الوصال كما أدري ¬_______ (¬1) في الحلة السيراء ج 2 ص 54.

وسلم على قصر الشراجيب من فتى ... له أبداً شوق إلى ذلك القصر منازل آساد وبيض نواعم ... فناهيك من غيل وناهيك من خدر فكم ليلة قد بت أنعم جنحها ... بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر وبيض وسمر فاعلات بمهجتي ... فعال الصفاح البيض والأسُل السمر وليل بسدِّ النهر لهواً قطعته ... بذات سور مثل منعطف البدر نضت بردَها عن غصن بان منعم ... نضير كما انشقت الكمام عن الزهر وباتت تسقينى المدام بلحظها ... فمن كأسها حينا وحيناً من الثغر وكان أول عمل قام به المعتمد عقب ولايته، هو تدخله في حوادث قرطبة، حينما هددها المأمون بن ذى النون بقواته، فبعث إليه عبد الملك بن جَهْور يستنجد به، فوجه إليه الأمداد مع قائديه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، وانتهى الأمر باستيلاء قوات إشبيلية على قرطبة، وفقاً لخطة سرية وضعت من قبل، وبالقضاء على دولة بني جهور، وضم قرطبة إلى مملكة إشبيلية (462 هـ - 1070 م). وندب المعتمد ولده عباداً الملقب بسراج الدولة لحكم المدينة. وقد فصلنا عند الكلام عن دولة بني ذى النون، كيف دبر المأمون بن ذى النون استرداد قرطبة على يد ابن عكاشة، وكيف قتل سراج الدولة ولد المعتمد مدافعاً عنها، ثم دخلها المأمون في سنة 467 هـ (1075 م) ثم توفي بها بعد ذلك بأشهر قلائل، وأخيراً كيف عاد المعتمد، فسار على أثر ذلك إلى قرطبة في قواته، واستولى عليها، وقتل ابن عكاشة انتقاماً لولده، وبذلك عادت قرطبة إلى مملكة إشبيلية. على أن أهم ما شغل به المعتمد، في تلك الفترة الأولى من ولايته، هو النضال ضد مملكة غرناطة البربرية. ونحن نعرف أن الخصومة بين بني عباد وبين الإمارات البربرية قد بدأت في عصر مبكر، وقد فصلنا من قبل كيف اشتبك القاضي ابن عباد مع يحيى بن حمود المعتلي حول قرمونة، في معركة دموية قتل فيها المعتلي، واستولى ابن عباد على قرمونة، وأعطاها لصاحبها البرزالي حليفه يومئذ، وكيف نشبت الخصومة فيما بعد بين ابن عباد والبرزالي، فلما أراد ابن عباد استرداد قرمونة باعتبارها حصن إشبيلية من الشرق، وسير إليها قواته، استغاث البرزالي بإدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية معارك طاحنة هزم فيها الإشبيليون، وقتل أميرهم إسماعيل بن عباد، وذلك في أوائل سنة 431 هـ.

ولما تولى المعتضد بن عباد، عقب وفاة والده القاضي محمد بن اسماعيل ابن عباد في سنة 433 هـ، كان من أبرز أعماله القضاء على مختلف الولايات البربرية الشرقية، والجنوبية الشرقية، وهي مورون وأركش ورندة. واستولى على الجزيرة الخضراء من يد أميرها القاسم بن حمود (446 هـ)، ثم استولى على قرمونة وأعمالها في سنة 459 هـ (1067 م). وبذلك تم القضاء على سائر الإمارات البربرية المتاخمة لإشبيلية من الشرق والجنوب الشرقي، وتم تأمين جناحها الدفاعي من هذه الناحية، ولم يبق في جنوبي الأندلس من الإمارات البربرية. سوى مملكة باديس في غرناطة ومالقة. وحاول المعتضد في نفس الوقت أن ينتزع مالقة من باديس، وسير إليها قواته بالفعل تحت إمرة ولديه جابر والمعتمد، وكادت مالقة تسقط بالفعل في أيدي المهاجمين، ولكن باديس قدم في قواته مسرعاً، فانقلبت الآية وهزم جند إشبيلية هزيمة شديدة، وفشلت المحاولة (458 هـ) (¬1). وكان المعتمد بن عباد يتابع سياسة أبيه وجده في التوجس من البربر والقضاء على سلطانهم. وكان يخشى أن تغدو مملكة غرناطة البربرية، مهبطاً للقبائل والقوات البربرية، التي تفد من وراء البحر باحثة عن طالعها وأرزاقها. هذا من ناحية العوامل المادية، وأما من ناحية العوامل الأدبية، فنستطيع أن نشير بهذه المناسبة، إلى ما كان بين العرب والبربر من خصومة قديمة مؤثلة ترجع إلى عصر الفتح ذاته، وقد شرحنا عوامل هذه الخصومة في "العصر الأول" من كتابنا. ونزيد هنا أن بني عباد، كانوا حسبما أشرنا من قبل، ينتمون إلى لخم، من أكرم وأشرف القبائل العربية، وكانوا من أهل العلم والأدب المؤثل، حماة للعلوم والآداب والفنون، يغص بلاطهم بأقطاب العصر وشعرائه، وتتمتع في ظلهم مملكة إشبيلية بحضارة زاهرة، وثقافة رفيعة. أما القبائل البربرية فلم تكن راسخة في تعاليم الإسلام، وكانت بعيدة عن العربية وثقافتها وتراثها، يؤثرون التمسك بعجمتهم وبداوتهم، وكانت قصورهم عاطلة عن ذلك الجو الفكري والأدبي، الذي تزدان به قصور الأصول العربية، وكان هذا التباين يبدو بالأخص بين بلاط غرناطة البربري، وبين بلاط إشبيلية العربي. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 274 و 275.

اجتمعت هذه العوامل المادية والأدبية، لتذكى ضرام النضال بين مملكة غرناطة، حصن البربر في الجنوب، وبين مملكة إشبيلية. وكانت مملكة غرناطة قد بلغت ذروة قوتها في عهد ملكها باديس بن حبوس الصِّنهاجي، وكان باديس قد رشح ولده بُلُقِّين للأمر من بعده ولقبه سيف الدولة، ولكنه توفي بالسم في حادث غامض. وفي خلال ذلك كان النضال مستمراً بين المعتضد بن عباد وبين البربر، وقوة باديس تضعف شيئاً فشيئاً. فلما توفي باديس في سنة 465 هـ (1073 م)، خلفه في حكم غرناطة حفيده عبد الله بن بُلُقِّين، وفي حكم مالقة حفيده تميم، ولم يمض على وفاته سوى عام، حتى سار المعتمد بن عباد في قواته إلى جيان، أهم قواعد مملكة غرناطة الشمالية واستولى عليها (466 هـ - 1074 م) ولم يبق من مملكة غرناطة سوى العاصمة ورباضها. وعندئذ فكر أمير غرناطة في الإستعانة بالنصارى، وتوصل بواسطة المأمون بن ذى النون، إلى أن يعقد مع ألفونسو السادس ملك قشتالة، معاهدة صداقة وتحالف، يتعهد فيها بدفع الجزية. وحدث في نفس الوقت أن ظفر المأمون بن ذى النون، بانتزاع قرطبة من ابن عباد (467 هـ)، فكانت هزيمة المعتمد، سبباً في انقشاع الخطر نوعاً عن غرناطة. وخرج عبد الله بن بُلُقِّين بعد ذلك في قواته ومعه سرية من حلفائه النصارى، وأغار على أراضي ابن عباد، وعاث فيها، واستطاع أن يسترد حصن قبرة القريب من جيان (¬1). بيد أن المعتمد لم يقف مكتوفاً إزاء هذه الحركة، فاتجه بدوره إلى النصارى، وأرسل وزيره الشهير أبا بكر بن عمار إلى ملك قشتالة ألفونسو السادس، فعقد معه حلفاً دفع مقابل عقده خمسين ألف دينار. ويقضي هذا الحلف بأن يتعاون المعتمد وألفونسو السادس، على افتتاح غرناطة، وأن تكون المدينة ذاتها للمعتمد، وأن تكون ذخائر القلعة الحمراء لألفونسو. وظهر أثر هذه المعاهدة على الفور، إذ عمد النصارى إلى تخريب بسائط غرناطة، ولاسيما أراضي مرجها الشهير La Vega (¬2) . ¬_______ (¬1) R. Menendez Pidal: La Espana del Cid, p, 257 & 260. (¬2) R. M. Pidal: ibid ; p, 257

ولا بد لنا قبل أن نمضي في تتبع أخبار المعتمد، أن نتحدث عن الوزير ابن عمار، وهو الذي اضطلع بأخطر دور في تنفيذ مشاريع المعتمد. فهو أبو بكر محمد بن عمار بن الحسين بن عمار المهري، وأصله من قرية من أرباض شلب تسمى "شنبوس" (¬1)، ولد بها سنة 422 هـ (1031 م)، في أسرة متواضعة لم يكن لها في الظهور شأن، ووفد على مدينة شلب فنشأ بها وتلقى دراسته الأولى، ثم رحل إلى قرطبة، فأكمل دراسته على جماعة من شيوخ العصر، وبرع في الأدب، ونظم الشعر فتى، واتخذه وسيلة للتكسب، فكان يمدح كل من وصله، مهما كانت مكانته أو مركزه. ثم قصد إشبيلية ومدح المعتضد، فنظمه في سلك شعرائه وأمنائه، ولما ندب المعتضد ولده المعتمد لحكم شلب على أثر افتتاحها، اتصل به ابن عمار وألفى المعتمد في صفاته وأدبه ورقيق نظمه ما حببه إليه، فعهد إليه بوزارته، وتوثقت بينهما علائق المودة والصفاء، حتى غدا أثير المعتمد، ينظمه في مجالس أنسه، ولا يصبر على فراقه، وكانت براعة ابن عمار في النظم هي أحب صفاته لأميره الشاعر. ولما توفي المعتضد، وخلفه ولده المعتمد في الملك، عين ابن عمار أولا والياً لبلده شلب، ولكن مقامه بها لم يطل، إذ لم يصبر المعتمد على فراقه، فاستدعاه إلى إشبيلية وولاه وزارته. فظهر ابن عمار يومئذ بمقدرته ودهائه، فكان المعتمد يعهد إليه بمهام الأمور ويندبه إلى سفاراته، وتنفيذ مشاريعه الخطيرة، فيؤديها ابن عمار على أحسن وجه. واستمر ابن عمار على حظوته ومكانته لدى المعتمد أعواماً طويلة، إلى أن فسد الجو بينهما، بتدخل اعتماد الرميكية زوجة المعتمد، فكان ذلك إيذاناً بنكبته على ما نذكره بعد. وكان من أهم المشاريع التي اضطلع بها ابن عمار يومئذ، استيلاؤه على مدينة مرسية باسم ابن عباد. وهنالك ما يدل على أن مملكة إشبيلية كانت تمتد في ذلك الوقت حتى لورقة وشقورة (¬2) على مقربة من مرسية. وكانت مرسية بعد أن غادرها خيران العامري، قد تغلب عليها أبو بكر بن طاهر، ثم ولده أبو عبد الرحمن بن طاهر من أعيانها، ولكنه لم يوفق إلى إخماد العناصر الناقمة، فكتب بعض هؤلاء إلى المعتمد بن عباد يستدعونه لفتحها، وشرحوا له ضعف ابن طاهر وقلة أهباته الدفاعية، فعهد المعتمد إلى ابن عمار بوضع الخطة اللازمة لتحقيق ¬_______ (¬1) وهي اليوم بلدة Estombar البرتغالية الواقعة جنوبي شلب. (¬2) قلائد العقيان ص 9، ودوزي في: Hist. Abbadidarum, V, II, p, 86

هذه الغاية، فسار ابن عمار، وعقد مع الكونت رامون برنجار أمير برشلونة صفقة، يتعهد فيها بأن يعاونه بفرسانه على فتح مرسية، مقابل عشرة آلاف مثقال من الذهب تدفع إليه، واتفق الطرفان، أن يقدم كل منهما رهينة إلى الآخر ضماناً بالوفاء، فقدم المعتمد ولده الرشيد، وقدم الكونت ابن أخيه، وبعث المعتمد بقواته، وعلى رأسها ابن عمار. ولحقت بها قوات الكونت، وحاصرت القوات المتحالفة مدينة مرسية، ولكن ابن عباد تأخر في أداء المال، واعتقد الكونت أنه قد غرر به، فقبض على ابن عمار وعلى الرشيد، وارتد بقواته عن المدينة. وعلم ابن عباد بالأمر، وهو على رأس قواته على ضفاف نهر الوادي الكبير على مقربة من شقّورة، وبادر بأداء المال، وبعث معه رهينة الكونت، وأفرج عن الرشيد وابن عمار، وأخفقت هذه الحملة الأولى في فتح مرسية، وجهز المعتمد بإشارة وزيره حملة أخرى على رأسها ابن عمار، واتصل ابن عمار في طريقه بقائد حصن بَلج أو بُليج، Vélez Rubio وهو يومئذ عبد الرحمن بن رشيق، فسار معه، وندبه للقيادة، وحاصر ابن رشيق مرسية، واستمر في إرهاقها، وفي تحريض أهلها على القيام ضد ابن طاهر، حتى تم له الأمر، وفتحت المدينة أبوابها بطريق الخيانة، ودخلها جند ابن عباد، وقبض على ابن طاهر، واعتقل حتى أذن ابن عباد بتسريحه، فلحق ببلنسية، وكان افتتاح مرسية على هذا النحو في سنة 471 هـ (1078) (¬1). على أن الأمر لم يقف عند ذلك الحد. ذلك أن ابن عمار سولت له نفسه، أن يستقل بحكم هذه المدينة النائية، بعيداً عن سلطان مليكه، وعمد بالفعل إلى حكمها حكم أمير مستقل، وتجاهل أوامر ابن عباد ورغباته، وأخذ يدس الدسائس بين أمراء هذه الناحية، ولكن هذه المغامرة لم يطل أمدها؛ ذلك أن ابن رشيق، وهو فاتح المدينة الحقيقي، كان يتربص بابن عمار، ويتحين فرصته، وفي ذات يوم غادر ابن عمار مرسية لتفقد بعض الحصون الخارجية، فوثب ابن رشيق واستولى على المدينة، وأغلق أبوابها في وجه ابن عمار، فكانت تلك الضربة خير جزاء له على خيانته. ¬_______ (¬1) راجع في فتح مرسية: أعمال الأعلام ص 160، والمراكشي في المعجب ص 65، ودوزي عن الشلبي في: Hist.Abbadidarum, V. II. p,86-87. وكذلك: R.Menendez Pidal: Piles Ibars: Murcia Arabe, V.I.p. 189-191, La Espana del Cid p. 259 & 281

ولم ير ابن عمار أمامه سوى الفرار، فسار صوب الشرق وقضى وقتاً قصيراً في بلاط ألفونسو السادس، فلم يلق منه عوناً، ثم قصد إلى سرقسطة، والتجأ إلى أميرها المقتدر بن هود، فأكرم وفادته، واستخدمه في شئونه، ولكنه توفي بعد قليل في سنة 475 هـ (أواخر 1081 م) وقسمت مملكته بين أولاده، فاختص المؤتمن بسرقسطة، وبقي ابن عمار معه على ما كان عليه. ولم يطل مكث ابن عمار حتى أغراه على سجيته، بفتح حصن شَقُورة، وهو يومئذ من أعمال دانية، وقصد ابن عمار إلى ذلك الحصن، في جماعة قليلة من أصحابه، وكان حاكمه رجل وافر الدهاء يدعى ابن مبارك، فدعا ابن عمار وصحبه إلى الدخول، وهش لاستقباله، فخدع ابن عمار بموقفه، وما كاد يستقر في الحصن، حتى هوجم وقبض عليه، ووضعت في يده الأغلال، وزج إلى ظلام السجن، وكان ذلك في ربيع الأول سنة 477 هـ (يوليه 1084 م). ووقف ابن عباد على ذلك الخبر، فبعث إلى ابن مبارك يطلب إليه تسليم ابن عمار وبعث إليه مالا وخيلا، فاستجاب لدعوته، وسلم ابن عمار لرسله، وعلى رأسهم ولده يزيد الراضي، فأخذ أولا إلى قرطبة حيث كان المعتمد يومئذ، وأدخل إليها مكبولا في هيئة زرية، وقده احتشد الألوف من أهلها لرؤيته، وقد كانت تهتز لموكبه حين كان يدخلها أيام عزه. ثم أخذ بعد أيام قلائل إلى إشبيلية، فأودعه المعتمد مكاناً خاملا في قصره، وكان يستحضره من آن لآخر، ويبالغ في عتبه وتأنيبه، وابن عمار يمعن في استعطافه واسترحامه. ويقال إن المعتمد تأثر في النهاية بمحنته، ووعده بصفحه، ولكن عاد فنقم عليه لأنه نقل إلى بعضهم ذلك الوعد، أو على قول راجح، لأن خصوم ابن عمار الساعين في هلاكه، وفي مقدمتهم الوزير أبو بكر بن زيدون وهو ولد الشاعر، ضاعفوا سعايتهم، وأبرزوا للمعتمد؛ أبياتاً بخط ابن عمار، نظمها أيام أن كان بمرسية، وفيها يتعرض بالهجو اللاذع لبني عباد، ولاعتماد الرُّميكية زوجة المعتمد (¬1). وقد أشرنا من قبل إلى ما كان بين اعتماد الرميكية، وبين ابن عمار من ¬_______ (¬1) راجع دوزي: Hist.Abbadidarum, V.II, p. 90,91,100-104، وابن الأبار في الحلة السيراء ج 2 ص 150 و 151، وأعمال الأعلام ص 160 و 161، والمراكشي في المعجب ص 66، وقلائد العقيان ص 83 و 90 و 91 و 97 وكذلك R. Menendez Pidal: La Espana del Cid. p. 289

وحشة كانت تزداد على مر الأيام. وكانت الرميكية، وهي ملكة إشبيلية الأثيرة، تحتل مكانة بارزة في حياة المعتمد، وفي بلاط إشبيلية. ولزواج المعتمد بهذه المرأة الموهوبة اللامعة، التي شاطرته أيام عزه ومجده وأيام محنته، وأنجبت له أولاده الملوك، قصة تتردد بين التاريخ والأسطورة. فأما التاريخ فتقول لنا الرواية، إن المعتمد حينما كان ولياً للعهد، أيام والده المعتضد، رأى اعتماداً ذات يوم صحبة مولاها رُميك وهو من وجهاء إشبيلية، فراقت لديه، فاشتراها منه وهام بها حباً، وتزوجها. بيد أن هناك رواية أخرى أكثر طرافة، وأقرب إلى لون الأسطورة، وهي أن المعتمد كان يتنزه ذات يوم مع وزيره ابن عمار في نهر إشبيلية، وهو نهر الوادي الكبير، وهما يتبادلان طرائف الشعر، وكانت الريح قد جعلت ماء النهر أشبه بالزرد، فنظم المعتمد هذه الشطرة: "صنع الريح من الماء زرد" وطلب إلى ابن عمار أن يكملها، فعجز الوزير الشاعر، وكانت ترقبهما فتاة حسناء ممن يغسلن ثيابهن في النهر، فردت على الفور: "أي درع لقتال لو جمد" فدهش المعتمد، وأعجب ببراعة الفتاة وسرعة خاطرها، كما أعجب بحسنها وخفة روحها، وسألها إن كان لها زوج، فأجابت بالنفي، فعندئذ استدعاها إلى قصره وتزوجها (¬1). وهكذا شاء القدر أن تغدو اعتماد الرميكية زوجة للمعتمد بن عباد، وأن تغدو سيدة قصر إشبيلية. ولما تولى المعتمد الملك، كانت الرميكية تحتل مكانة بارزة في البلاط، وفي الشئون، وكانت لسمو مكانتها، وتمكن نفوذها يطلق عليها لقب "السيدة الكبرى" (¬2)، وكانت تشاطر زوجها هوى الشعر ونظمه، وكانت تعيش في هذا الأفق الأدبي الرفيع الذي يسيطر على بلاط إشبيلية، ويجتمع في ظله أعظم شعراء العصر، وتشترك في كثير من الأحيان في مجالس الشعر والأدب، التي كان يشغف بعقدها المعتمد، وتزدان في أحيان كثيرة بحضور زوجه الحسناء الساحرة؛ وكانت اعتماد فوق ذلك بنفوذها وحظوتها لدى المعتمد تشترك في توجيه الشئون. وكان الوزير ابن عمار، وهو يومئذ في إبان مجده ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 451. (¬2) المعجب ص 77. وكان هذا اللقب يطلق على والدة المعتمد ابنة مجاهد العامري.

ونفوذه، من أساطين هذه المجالس الأدبية، وكان يستأثر لدى المعتمد بثقته ويملك عليه كل حبه وعطفه، وكانت الرُّميكية تنظر إلى مكانته وتمكن نفوذه بعين السخط، وكان ابن عمار من جانبه يحقد عليها ويخشى بأسها وسعايتها؛ واستمرت معركة الدسائس والمنافسة حيناً بين اعتماد وابن عمار، لتسفر عن نتيجتها الطبيعية، وهي هزيمة الوزير وتغير مليكه عليه. ويقال إن الأبيات الطاعنة التي نسبت إلى ابن عمار، قد نظمها في ذلك الوقت سراً في هجو الرميكية، ونمى خبرها إلى المعتمد، ويقال من جهة أخرى إن ابن عمار نظمها أيام وجوده في مرسية، ونجح خصمه أبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية في الحصول على أصولها مكتوبة بخطه وبعثها إلى المعتمد. وقد أورد لنا ابن الأبار في ترجمته لابن عمار، تلك القصيدة التي قيل إنها كانت سبباً في نكبة ابن عمار ومصرعه ومطلعها: ألا حى بالغرب حياً حلالا ... أناخوا جمالا وحازوا جمَالا وعرِّج بيومين أم القرى ... ونم فعسى أن تراها خيالا لتسأل عن ساكنيها الرماد .. . ولم تر للنار فيها اشتعالا ويومين قرية من قرى إشبيلية ومنها كانت أوّلية بني عباد. ومنها في هجو الرميكية: تخيرتها من بنات الهجين ... رميكية ما تساوي عقالا فجاءت بكل قصير العذار ... لئيم النجادين عمًّا وخالا قصار القدود ولكنهم ... أقاموا عليها قروناً طوالا ثم يشير إلى أيام شبابه مع المعتمد إشارات بذيئة ويخاطبه بقوله: سأكشف عرضك شيئاً فشيئاً ... وأهتك سترك حالا فحالا (¬1) وعلى أي حال فقد اجتمعت العوامل السياسية والشخصية، لتؤكد محنة ابن عمار. وقد وجه ابن عمار من سجنه إلى المعتمد قصائد في الاستعطاف تذيب الجماد، أو على قول ابن الخطيب "تعالج بمرامها جراح القلوب، وتُعَفِّى على هضبات الذنوب، لولا ما فرغ عنه من القدر المكتوب، والأجل المحسوب"، ومن أشهرها تلك القصيدة المؤثرة التي تهز أوتار القلوب، والتي مطلعها: ¬_______ (¬1) الحلة السيراء (مخطوط الإسكوريال) لوحة 74 و 102، وراجع دوزي: Hist. Abbadidarum V. II. p. 117. وكذلك نفح الطيب ج 2 ص 451 و 452.

سجاياك إن عافيت أندى وأسمح ... وعذرك إن عاقبت أجلي وأوضح وإن كان بين الخطتين مزية ... فأنت إلى الأدنى من الله تجنح حنانيك في أخذي برأيك لاتطع ... عداي ولو أثنوا عليك وأفصحوا ومنها: أقلني بما بيني وبينك من رضى ... له نحو روح الله باب مفتح وعفِّ على آثار جرم سلكتها ... بهبة رحمي منك تمحو وتصفح ولا تلتفت قول الوشاة وزورهم ... كل إناء بالذي فيه يرشح ومنها: ْإلا إن بطشاً للمؤيد يرتمي ... ولكن حلماً للمؤيد يرجح وبين ضلوعي من هواة تميمة ... ستشفع لو أن الحمام مجلح سلام عليه كيف داربه الهوي ... إلى فيدنو أو على فينزح ليهنئه إن مت السلوُّ فإنني ... أموت ولي شوق إليه مبرِّح (¬1) على أن تضرع ابن عمار لم يؤثر في مليكه الصارم، ولم تجد الرحمة سبيلا إلى قلبه؛ ويقال إنه مما قضى على عطف المعتمد، وحفزه إلى التعجيل بالقضاء على وزيره، هو أن ابن عمار، حينما وعده المعتمد بصفحه، حدّث بذلك ولده الرشيد، وذاعت القصة بعد ذلك، ونقلها أبو بكر بن زيدون عدو ابن عمار الألد إلى المعتمد، فاضطرم سخطاً على ابن عمار، ونهض من فوره، وفي يده طبرزين (¬2) كان قد أهداه إليه ألفونسو ملك قشتالة، وذهب إلى حيث كان ابن عمار يرسف في أغلاله، ففزع ابن عمار لرؤيته، وارتمى على رجليه يقبلهما ويبللهما بدموعه، ولكن المعتمد أخذ يضربه بتلك الآلة حتى أجهز عليه، ولم يتركه إلا جثة هامدة تضرجها الدماء، ثم أمر به فغسل وكفن، ودفن في ركن من " القصر المبارك ". وكان مصرع ابن عمار على هذا النحو المؤسى في أواخر سنة 477 هـ (أوائل 1085 م) (¬3). ¬_______ (¬1) وردت هذه القصيدة في قلائد العقيان ص 98، وأعمال الأعلام ص 161، وفي المعجب ص 67 و 68. (¬2) هو آلة أشبه بالبلطة. (¬3) راجع دوزي: Hist. Abbadidarum, V. II. p. 118-119. , والمعجب ص 68 و69. ويقول لنا المراكشي إن مصرع ابن عمار وقع في سنة 479 هـ. وراجع ترجمة ابن عمار وأحداث حياته كلها مفصلة في الحلة السيراء ج 2 ص 131 - 165. ونقلها دوزي بنصها في: Hist. Abbad.. ( ص 88 - 123).

وهكذا قتل المعتمد بن عباد بيده، وزيره الشاعر المبرز، رفيق صباه، ويده اليمنى في كثير من المشاريع الخطيرة، في بادرة من الحقد المضطرم، والقسوة التي لا تخبو، وكانت هذه الضربة الدموية من أفدح أخطائه؛ ويقال إن المعتمد ندم فيما بعد على تسرعه، ونغصت عليه هذه الفعلة صفاء حياته. ويحاول الأمير عبد الله بن بُلُقِّين أمير غرناطة وهو معاصر للحادث وعليم بظروفه، أن يوضح لنا سبب حقد المعتمد على وزيره في الفقرة الآتية: " وكانت العداوة الواقعة بينه (أي ابن عمار) وبين المعتمد على يد الرشيد ابنه، فإنه بفسوقه كان يتكبر على أولاده، ويضيق عليهم، ويسىء الصنيعة مع من يجب عليه إكرامه من قرابة سلطانه، والمعتمد في هذا كله يصبر له، ولأنه قد استمال النصارى، واندخل معهم بحيلته، فمتى ما دهم أمر من قبلهم، وجهه إليهم، فيتجلى من أمرهم ما يضيق الصدر به، وكل ذلك بأموال رئيسه وسعادة أيامه، وهو بجهله يعتقد أن ذلك لا يتهيأ إلا بسببه، ويرد الخمس كله إلى نفسه؛ وكانت هذه المعاني مما أحنق عليه المعتمد، حتى عقب عليه بما كان جديراً به، وأمكنه الله منه، وجازاه بما لم يكن له منه بد، ولا رآه لغيره أهلا " (¬1). ويعلق ابن الخطيب، على ذلك وقد كان أيضاً من الوزراء الذين عرفوا نزعات الملوك ونقمتهم بقوله: "وسبحان الذي جعل نفوس أكثر الملوك تنقاد في أزمة حب التشقي، وطلب الإنصاف، فلا تتوقف في مطاوعته، وذلك لأنها نفوس غير مقهورة بالرياضة والملكات، ولا مرغمة بفراق الشهوات، إلا القليل النادر، ممن كانت نفسه متصفة بالرحمة في أصل جبلتها، فهي ساكنة الفورة" (¬2). وكان ابن عمار من أعظم رجالات الأندلس في عهد الطوائف، فكان وزيراً نابهاً، وقائداً مجرباً يقود الحملات العسكرية الناجحة، وسياسياً بارعاً، ومفاوضاً لا نظير له، يعقد الصلات البعيدة المنال، ويذلل المشكلات الصعبة، وقد ذاع صيته في سائر بلاد الأندلس، وكذلك في ممالك اسبانيا النصرانية، حتى كان ألفونسو السادس ملك قشتالة، إذا ذكر عنده ابن عمار، قال "هو رجل الجزيرة" (¬3). بيد أنه كان في نفس الوقت، سياسياً مغامراً، قليل الولاء ¬_______ (¬1) كتاب البيان أو مذكرات الأمير عبد الله المنشورة بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (القاهرة 1955) ص 81. (¬2) أعمال الأعلام ص 162. (¬3) المعجب ص 63.

والوفاء، مكيافيلِّيا، يسعى إلى تحقيق غايته بأي الوسائل، دون اعتبار لخلق أو مبدأ. وكانت مواهبه الأدبية والشعرية، ألمع ما في خلاله، وقد كان ابن عمار بلا ريب من أعظم شعراء الأندلس في عصره، وكان هذا العصر الذي سطعت فيه قصور الطوائف عصراً، اجتمع فيه بالأندلس من أكابر الشعراء، جمهرة لم تجتمع في أي عصر آخر، ويكفي أن نذكر من هؤلاء بنو عباد، وفي مقدمتهم المعتمد، وابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، وأبو بكر بن اللبانة، والمعتصم ابن صمادح وولده رفيع الدولة، وبنو القبطرنة، وابن عبدون. وكان ابن عمار في طليعة هذه الجمهرة الشاعرة، وقد ملأ الأندلس بروائع شعره، كما ملأها بذكر أعماله ومغامراته. وقد جمع شعر ابن عمار، ورتبه في ديوان خاص، أبو الطاهر محمد بن يوسف التميمي (¬1)، وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة طائفة كبيرة من أخبار ابن عمار، كما وضع تأليفاً خاصاً في تاريخه (¬2)، وكذلك وضع أبو بكر ابن قاسم الشلبي مجموعاً في تاريخ ابن عمار (¬3). وهذه العناية بسيرة ابن عمار وتراثه الشعري من معاصريه، ومن إليهم، تنبي عن أهمية هذه الشخصية البارزة في تاريخ الطوائف، وعن رفيع مكانتها السياسية والأدبية. - 2 - إلى ذلك الحين استطاع المعتمد بن عباد أن يؤسس أعظم مملكة للطوائف، تمتد في قلب النصف الجنوبي من شبه الجزيرة، من غرب ولاية تدمير شرقاً، حتى المحيط الأطلنطي، ومن ضفاف وادي يانة جنوباً حتى أرض الفرنتيرة. وكان المعتمد قد استطاع في الواقع في أواخر أيام الملك العاجز الضعيف القادر ابن ذى النون، أن يستولي على معظم أراضي مملكة طليطلة الجنوبية الشرقية، من المعدن شرقاً حتى مدينة قونقة. ولعل المعتمد كان يفكر في غزوات وفتوح أخرى، ينتزع فيها ما استطاع من أراضي جيرانه، لولا أن أيقظه سقوط طليطلة من غمار أحلامه وأطماعه. أجل، لم يكن خافياً على المعتمد، وعلى أمراء ¬_______ (¬1) دوزي: Hist.Abbadidarum, V.II.p. 89 (¬2) دوزي: Hist.Abbadidarum, V.II.p. 105 (¬3) الحلة السيراء ج 2 ص 173.

الطوائف جميعاً، أن مملكة طليطلة كانت بظروفها وارتماء ملكها الضعيف في أحضان النصارى، صائرة حتماً إلى الفناء، وأن عاصمتها التالدة - طليطلة - سوف تسقط حتماً في يد ملك قشتالة، وكان ابن عباد يشهد تطور هذه المأساة جامداً، بما ينسب إليه من عهود قطعها في ذلك لملك قشتالة. وربما كان هذا التصرف من المعتمد نحو قضية طليطلة من بين أخطائه السياسية العديدة، أخطرها جريرة، وأبلغها دلالة على استهتاره وتهاونه نحو أمته ودينه. ولكن طليطلة ما كادت تسقط في أيدي القشتاليين، حتى أدرك المعتمد فداحة الخطأ الذي ارتكبه في سياسته، وشعر أن هذه النكبة، ليست إلا نذيراً قوياً له، ولسائر ملوك الطوائف. وقد سبق أن ذكرنا فيما تقدم أن المعتضد بن عباد تعهد بأداء الجزية لفرناندو ملك قشتالة منذ سنة 455 هـ (1063 م)، وأنه كان يؤدي إليه هذه الجزية بانتظام حتى وفاته في سنة 1065 م، ثم بعد ذلك إلى ولده سانشو ملك جلِّيقية. ولما استطاع ألفونسو التغلب على أخويه، وأضحى ملكاً لقشتالة، كان المعتمد ابن عباد يؤدي إليه الجزية التي كان يدفعها أبوه. وكان ألفونسو يرسل في كل عام رسله لقبضها من المعتمد. ومما هو جدير بالذكر أن رسول ألفونسو إلى المعتمد بقبض الجزية في سنة 472 هـ (1079 م) لم يكن سوى الفارس القشتالي الشهير ردريجو بيبار الملقب بالسيد الكمبيادور، أو السيد الكنبيطور كما تسميه الرواية العربية. ولما وفد السيد عندئذ إلى إشبيلية، كانت قوات ملك غرناطة البربرية تغير على أراضي إشبيلية مع سرية من الفرسان النصارى، فطلب السيد من مواطنيه الكف عن هذا العدوان تحقيقاً لمقتضيات الصداقة والرعاية، التي يكنها الملك ألفونسو لصديقه ملك إشبيلية، ولما لم يصغ المغيرون إليه خرج إلى قتالهم في بعض القوات القليلة التي كانت معه، واستطاع أن يوقع بهم الهزيمة، فسر المعتمد من تصرفه، وأدى إليه عدا الجزية، طائفة كبيرة من التحف والهدايا برسم ملك قشتالة (¬1). وهكذا فإن المعتمد، على الرغم من ضخامة ملكه، واتساع موارده، لم يستطع أن ينجو من ذلك النير المرهق، الذي استطاع ألفونسو السادس أن يفرضه على سائر ملوك الطوائف، ونعنى تأدية الجزية، بل يبدو أن المعتمد رأى فوق ذلك، أنه لن ¬_______ (¬1) R.Menendez, Pidal: La Espana del Cid. p. 250,259-261

يستطيع أن يمضي في حكم مملكته آمناً إلا بتوثيق أواصر المودة مع ألفونسو ومحالفته. وتقدم إلينا الرواية القشتالية موضوع ذلك الحلف ولكنها لا تقدم إلينا تاريخه، وتقول لنا إن الوزير ابن عمار ذهب إلى ليون وتولى المفاوضة في عقده. وخلاصة ما تم الاتفاق عليه، هو أن يقوم ملك قشتالة بمعاونة المعتمد في حروبه ضد سائر أعدائه من الأمراء المسلمين، وأن يؤدي إليه المعتمد جزية سنوية كبيرة، وأن يقوم بغزو أراضي مملكة طليطلة الجنوبية، وأن يسلم منها إلى ملك قشتالة الأراضي الواقعة شمال جبال سيرا مورينا (جبل الشارّات). وتزيد الروايات القشتالية على ذلك بأن المعتمد قدم في هذه المناسبة (أو في مناسبة لاحقة) إحدى بناته لتحكون زوجة أو حظية لملك قشتالة، وهي التي تعرفها الروايات القشتالية باسم " زائده "، وهي قصة سوف نتناولها في موضعها المناسب (¬1). بيد أن الأمور لم تسر حسبما كان يرجو المعتمد، ففي سنة 475 هـ (1082 م) وجه ألفونسو السادس سفارته المعتادة إلى المعتمد بطلب الجزية، وعلى رأسها يهودي يدعى ابن شاليب، وعسكر رسل ملك قشتالة في ظاهر المدينة، فأرسل إليهم المعتمد المال مع بعض أشياخ المدينة، وفي مقدمتهم الوزير ابن زيدون. فلما شاهد ابن شاليب المال والسبائك، رفض تسلمها بغلظة، بحجة أنها من عيار زائف، وهدد بأنه إذا لم يقدم له المال من عيار حسن، فسوف تحتل مدائن مملكة إشبيلية، حتى يتم الدفع على الوجه المرغوب. فلما وقف المعتمد على ذلك بعث رجاله فقبضوا على ابن شاليب، ومن معه من الفرسان القشتاليين، وأمر باليهودي، فصلب، وألقى الفرسان النصارى إلى السجن. ولما علم ملك قشتالة بما وقع لسفرائه، اضطر أن يعيد حصن المدوّر القريب من قرطبة إلى المعتمد، ثمناً لإطلاق سراحهم، بيد أنه أقسم أن ينتقم من المعتمد، أروع انتقام، وأن يخرب أراضي مملكة إشبيلية كلها حتى المجاز، ثم بادر تنفيذاً لوعيده، فحشد جيشاً ضخماً من الجلالقة، والقشتاليين، والبشكنس، وبعث سرياته فعاثت في أحواز باجة ولبلة، وسار هو إلى أراضي إشبيلية، وهو يحرق القرى، وينتسف الزروع، ويسبي كل من وقع في يده من المسلمين، ثم حاصر إشبيلية نفسها مدى ثلاثة أيام، ثم عاث في أراضي شذونة، وانحدر جنوباً، وهو يخرب كل ¬_______ (¬1) Modesto Lafuente: Historia General de Espana (Madrid 1881) V. II p. 404

ما يقع في طريقه، حتى وصل إلى مدينة طريف، فوقف على شاطىء الزقاق، والموج يضرب قوائم فرسه، والمعتمد طيلة هذه العاصفة الهوجاء يلتزم الدفاع (¬1) وكانت خطة ألفونسو السادس في إضعاف ملوك الطوائف، تقوم أولا على استصفاء أموالهم باقتضاء الجزية، وقد انتهى إلى أن فرض الجزية عليهم جميعاً، ثم على تخريب أراضيهم، وانتساف زروعم وأقواتهم ومحاصيلهم، بالغارات المخربة الناهبة، وأخيراً على اقتطاع حصونهم وأرضيهم كلما سنحت الفرص، وقد نجحت خطته في ذلك كل النجاح، وبدا ضعف ملوك الطوائف إزاء قوته وعدوانه المنظم، واضحاً ملموساً. وكان لاعتداده بقوته وسلطانه، ويقينه من تفرق الطوائف وتخاذلهم، يخاطبهم بلغة السيد، ويتسمى في خطاباته إليهم بالإمبراطور ملك الملتين، ويجاهر باحتقارهم، والاستهانة بهم. ومما يروى في ذلك، أنه قال لسفير المعتمد إليه، وهو يهودي يدعى بابن مشعل "كيف أترك قوماً مجانين. تسمى كل واحد منهم باسم خلفائهم وملوكهم وأمرائهم، المعتضد، والمعتمد، والمعتصم، والمتوكل، والمستعين، والمقتدر، والأمين، والمأمون، وكل واحد منهم لا يسل في الذب عن نفسه سيفاً، ولا يرفع عن رعيته ضيماً ولا حيفاً، قد أظهروا الفسوق والعصيان، واعتكفوا على المغانى والعيدان، وكيف يحل البشر أن يقر منهم على رعيته أحداً، وأن يدعها بين أيديهم سُداً" (¬2). وهنا أدرك المعتمد، فداحة الأخطاء التي تردى فيها بمصانعة ألفونسو ومحالفته واستعدائه على زملائه أمراء الطوائف، ولاحت له طوالع المصير المروع الذي سوف ينحدر إليه، إذا لم تتداركه يد العناية بعون أو نجدة غير منتظرة، والظاهر أنه فكر عندئذ ولأول مرة، أن يستنصر بإخوانه المسلمين فيما وراء البحر، في عدوة المغرب، فكتب إلى عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين ينبئة بما آلت إليه أحوال الأندلس من الخطورة، وما رزئت به من فقد قواعدها وثغورها، ويلتمس إليه الإنجاد والعون (¬3). وقد تطورت هذه الفكرة فيما بعد إلى خطة عملية التف حولها سائر ملوك الطوائف وشعب الأندلس كله حسبما نوضح في موضعه. ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 25 و 26. ودوزي Hist.Abbadidarum V. II. p. 174, 187, 188-231. وراجع ابن خلدون ج 6 ص 186. (¬2) دوزي عن كتاب "الاكتفاء" في Hist. Abbadidarum: V II. p. 20. وراجع R. Menendez Pidal: La Espana del Cid, p. 259, 318 & 319 (¬3) روض القرطاس (طبعة أبسالة 1843) ص 92.

وكان استيلاء ألفونسو السادس على طليطلة معقد نجاحه، وذروة ظفره، فما كاد يدخل عاصمة القوط القديمة، حتى لاح له أن نهاية الطوائف كلها قد دنت، وأنه سوف يتبع نصراً بنصر، ويلتهم مدينة بعد أخرى، ومن ثم فقد بدأ يضع خطته لتنفيذ الخطوة التالية، وذلك بالاستيلاء على مملكة إشبيلية، أهم دول الطوائف، وأقواها يومئذ. فوجه إلى المعتمد بن عباد، رسالة ملؤها الوعيد والنذير، يطالبه بتسليم أعماله، ويحذره من مثل طليطلة ومحنتها، وهي فيما يبدو من إنشاء بعض النصارى المعاهدين أو اليهود الذين يخدمون في بلاط قشتالة، وقد نقل إلينا صاحب الحلل الموشية، نص هذه الرسالة، كما نقل إلينا رد المعتمد عليها، وإليك نص هاتين الرسالتين، اللتين تنمان عن روح العصر، وأساليبه: قال ألفونسو في رسالته: " من الإنبيطور ذي الملتين، الملك المفضل، أذفنش بن شانجه، إلى المعتمد بالله، سدد الله آراءه وبصره مقاصد الرشاد، سلام عليك من مشيد ملك شرفته القنى، ونبتت في ربعه المنى، باغترار الرمح بعامله، والسيف بساعد حامله، وقد أبصرتم بطليطلة نزال أقطارها، وما حاق بأهلها حين حصارها. فأسلمتم إخوانكم، وعطلتم بالدعة زمانكم، والحذر من أيقظ باله، قبل الوقوع في الحبالة، ولولا عهد سلف، بيننا نحفظ ذمامه، ونسعى بنور الوفاء أمامه، لنهض بنا نحوكم ناهض العزم ورائده، ووصل رسول الغزو ووارده، لكن الأقدار تقطع بالأعذار، ولا يعجل إلا من خاف الفوت فيما يرومه، وخشي الغلبة على ما يسومه، وقد حملنا الرسالة إليك القرمط ألبرهانس؛ وعنده من التسديد الذي تلقى بأمثالك، والعقل الذي تدبر بلادك به ورجالك، مما أوجب استنابته فيما يدق ويجل، وفيما يصلح لا فيما يخل، وأنت عندما تأتيه من آرائك، والنظر بعد هذا من ورائك، والسلام عليك، يسعى بيمينك وبين يديك ". وأجاب المعتمد على رسالة ملك النصارى بالرسالة الآتية: " من الملك المنصور بفضل الله المعتمد على الله، محمد بن المعتضد بالله أبي عمر وابن عباد، إلى الطاغية الباغية أذفنش بن شانجه، الذي لقب نفسه بملك الملوك وسماها بذي الملتين، قطع الله بدعواه، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد فإن أول ما يبدأ من دعواه أنه ذو الملتين، والمسلمون أحق بهذا الاسم، لأن الذي تملكوه من أمصار البلاد، وعظيم

الاستعداد، ومجبى المملكة، لا تبلغه قدرتكم، ولا تعرفه ملتكم، وانما كانت سنة سعد، أيقظ منها مناديك، وأغفل من النظر السديد جميل مباديك، فركبنا مركب عجز نسخه الكيس، وعاطيناك في كؤوس دعة، قلت في أثنائها ليس، ولم تستح أن تأمر بتسليم البلاد لرجالك، وإنا لنعجب من استعجالك برأي لم تحكم أنحاؤه، ولا حسن انتحاؤه، وإعجابك بصنع وافقتك فيه الأقدار، واغتررت بنفسك أسوأ الاغترار، وتعلم أنا في العدد والعديد، والنظر السديد، ولدينا من كماة الفرسان، وحيل الإنسان، وحماة الشجعان، يوم تلتقي الجمعان، رجال تدرعوا الصبر، وكرهوا القبر، تسيل نفوسهم على حد الشفار، وينعاهم المنام في القفار، يريدون رحى النون بحركات العزائم، ويشفون من خيط الجنون بخواتم العزائم، قد أعدوا لك ولقومك جلاداً رتبه الاتفاق، وشفاراً حداداً شحذها الإصفاق، وقد يأتي المحبوب من المكروه، والندم من عجلة الشروه، نبهت من غفلة طال زمانها، وأيقظت من نومة تجدد إيمانها، ومتى كانت لأسلافك الأقدمين مع أسلافنا الأكرمين، يد صاعدة أو وقفة متساعدة، إلا ذل تعلم مقداره، وتتحقق مثاره، والذي جرأك على طلب ما لا تدركه قوم كالحمر، لا يقاتلونكم جميعاً، إلا في قرى محصنة، أو من وراء جدر، ظنوا المعاقل تعقل، والدول لا تنتقل، وكان بيننا وبينك من المسالمة، ما أوجب القعود عن نصرتهم، وتدبير أمرهم، ونسأل الله المغفرة فيما أتيناه في أنفسنا؛ وفيهم من ترك الحزم وإسلامهم لأعاديهم، والحمد لله الذي جعل عقوبتنا، توبيخك وتقريعك، بما الموت دونه، وبالله نستعين عليك، ولا نستبطىء في مسيرنا إليك، والله ينصر دينه، والسلام على من علم الحق فاتبعه، واجتنب الباطل وخدعه " (¬1). - 3 - وعلى أثر هذا النذير، جد المعتمد في حشد رجاله، وتقوية جيشه، وإصلاح حصونه، واتخاذ كل ما يستطاع من الأهبات الدفاعية. على أنه كان يوقن، كما ¬_______ (¬1) أورد نص هاتين الرسالتين صاحب "الحلل الموشية". وقد اعتمدنا في نقلهما على النص الذي نقله دوزي عن مخطوطات باريس، وليدن، وجاينجوس (مدريد)، وهو فيما يبدو أصح وأدق من النص الذي ورد في طبعة تونس. راجع: Hist. Abbadidarum, V. II. p. 185, 186 & 187 وفي طبعة تونس (ص 23 - 25).

يوقن زملاؤه ملوك الطوائف، أن ملك قشتالة يعتزم العمل على إبادتهم جميعاً، وأنهم بقواتهم ومواردهم المحدودة، وصفوفهم الممزقة، لن يستطيعوا له دفعاً. في هذه الآونة العصيبة، قرر المعتمد أن ينفذ فكرته في الاستنصار بإخوانه فيما وراء البحر، في عدوة المغرب، وهم يومئذ المرابطون، وعاهلهم يوسف ابن تاشفين. وكانت هذه الفكرة قد خطرت لأكثر من أمير من أمراء الطوائف، وخطرت لكثيرين من زعماء الأندلس وعلمائها. ويقول لنا الأمير عبد الله بن بلقِّين إن أخاه تميماً أمير مالقة، كان أول من فكر في الاستنصار بالمرابطين لينتقم منه (¬1)، ولكن فكرة الاستنصار بالمرابطين لمقاتلة النصارى كانت أعم وأخطر، وكانت قد شاعت في الأندلس على أثر سقوط طليطلة، وما أشاعته تلك النكبة في الناس من ذعر ويأس، وذاعت بعد الأمراء، بين سائر الزعماء والفقهاء وطبقات الكافة. وعقد عندئذ في قرطبة اجتماع كبير من الزعماء والفقهاء، واجتمع رأيهم على وجوب الاستنصار بالمرابطين، وقدم ابن عباد على أثر ذلك إلى المدينة، وأقر ما ارتأته "الجماعة". وانضم إلى المعتمد في ذلك عدة من زملائه رؤساء الطوائف، ولاسيما أميرى بطليوس وغرناطة. واتفق الرأي على أن ترسل إلى عاهل المرابطين سفارة مشتركة من قضاة قرطبة وبطليوس وغرناطة، ومعهم أبو بكر بن القصيرة الكاتب (وفي رواية أخرى الوزير أبو بكر بن زيدون). وهنا تختلف الرواية في التفاصيل فتقول إحداها إن سفارة الأندلس عبرت البحر، ولقيت أمير المسلمين بسبتة، وكان قد وصل إليها إثر افتتاح جيشه لها، من يد واليها يحيى بن سكوت البرغواطي، وشرح له السفراء ما يلقاه أهل الأندلس من الإرهاق والذلة على يد النصارى، وما يهددهم به ملك قشتالة من أخذ بلادهم، وإبادتهم، وأنهم يعتمدون على نصرته وحسن بلائه، في دفع هذا الخطر عن الأندلس المسلمة. وفي رواية أخرى أن المعتمد بن عباد نفسه، قد عبر البحر في جماعة من الزعماء، وسار إلى سبتة أو إلى فاس لمقابلة أمير المسلمين، وأنه هو الذي استنصره بنفسه للجهاد وإنقاذ الأندلس (¬2). ¬_______ (¬1) مذكرات الأمير عبد الله ص 102. (¬2) راجع في ذلك ما نقله دوزي عن النويرى: Hist. Abbadidarum: V. II. p. 143. وما ورد في الإستقصاء للسلاوي ج 1 ص 111، ومذكرات الأمير عبد الله ص 102، وابن خلدون ج 6 ص 186. وقد أشار ابن الأبار إلى ذلك أيضاً (الحلة السيراء ج 2 ص 186).

ومن جهة أخرى، فإنه يقال لنا إن المعتمد كان يعارضه في هذا الاتجاه ولده الرشيد وجماعة من زعماء إشبيلية، وأنه حين خاطب الزعماء في أمر استدعاء المرابطين أشاروا عليه بأن الأفضل، أن يسعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة، وأن يعقد معه الصلح والمهادنة، بأي وسيلة، وكيفما كان الأمر. ولما خلا بولده الرشيد، أفضى إليه بمخاوفه من سطوة ملك قشتالة، وأنه بعد أن استولى على طليطلة وعادت دار كفر، قد رفع رأسه، وأخذ يتجه إلى أخذ إشبيلية، وأنهم في هذه الجزيرة لا ناصر لهم، وليس في ملوك الطوائف نفع ولا عون يرتجى، وأنه لا مناص من استدعاء المرابطين لردع ملك قشتالة، فاعترض الرشيد على رأيه وقال له: "يا أبت أتدخل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدد شملنا"، فقال المعتمد لولده: "أي بني والله لا يسمع عني أبداً أني أعدت الأندلس دار كفر ولا تركتها للنصارى، فتقوم اللعنة علي في الإسلام؛ مثلما قامت على غيري. حرز الجمال عندي والله خير من حرز الخنازير". وانتهى الرشيد بأن فوض لأبيه الرأي فيما يحب عمله (¬1). وأما عن أمراء الأندلس، فقد كان يتفق في الرأي مع المعتمد، على استدعاء المرابطين حسبما رأينا، عبد الله بن بلقين أمير غرناطة، وقد أوفد رسله مع رسل ابن عباد إلى أمير المسلمين، وكذلك عمر المتوكل أمير بطليوس، فقد كان في مقدمة المؤيدين، لوقوع بلاده في منطقة الخطر، ولاشتداد ملك قشتالة في إرهاقه. وأما ابن صمادح أمير ألمرية، فلم يكن من المتحمسين لهذا الاستدعاء (¬2)، وكانت ثمة آراء معارضة أخرى، شعارها التوجس من مقدم المرابطين وأطماعهم. وقد أورد لنا صاحب الحلل الموشية نصوص رسائل، قيل أن المعتمد بن عباد بعثها إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، بعضها من إنشائه، وبعضها من إنشاء وزرائه، ومنها رسالة مؤرخة في جمادى الأولى سنة 478 هـ، أعني بعد سقوط طليطلة بأشهر قلائل، وفيها يصف له حال الأندلس، وما أصاب أهلها من الخلاف والتمزق، وما دهاها من عدوان النصارى وإرهاقهم. بيد أنه قد ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 27 و 28 ونقلت في دوزي: Hist. Abbadidarum: V. II. p. 188-189 (¬2) راجع مذكرات الأمير عبد الله ص 103 و 104.

وردت من بينها رسالة، نشك كل الشك في أنها صادرة من المعتمد بن عباد إلى يوسف بن تاشفين، لأنها قد صدرت بنصها، بعد ذلك بنحو قرنين من محمد الفقيه (ابن الأحمر) ملك غرناطة، إلى السلطان أبي يوسف المريني ملك المغرب، يستنصره ويستنجد به على النصارى (¬1). وقد تتبعنا هنا فكرة استنصار الأندلس بالمرابطين بالأخص من ناحية ارتباطها بالمعتمد بن عباد وسياسته. وسوف نعود إلى تتبع مراحلها من الناحية الأخرى، ناحية ارتباطها بتاريخ المرابطين. وعلى أي حال فقد استجاب زعيم المرابطين، بعد مشاورات ومباحثات طويلة مع الزعماء والفقهاء، لدعوة أمراء الأندلس، واعتبر الصريخ، دعوة إلى المشاركة في الجهاد، والذود عن الدين المشترك، بيد أنه عملا بنصح وزيره عبد الرحمن بن أسبط، وهو أندلسي من أهل ألمريه، خبير بشئون الجزيرة، اشترط لإجابة الدعوة، وعبوره إلى الأندلس، أن يسلم إليه ثغر الجزيرة الخضراء، ليكون قاعدة لعبوره في الذهاب والإياب، فنزل المعتمد عند هذه الرغبة بالرغم من معارضة ولده الرشيد، وكان حاكم الجزيرة يومئذ هو ولده يزيد الراضي، فأمره باخلائها والانتقال عنها، لكي تحتلها جنود أمير المسلمين (¬2). وفي تلك الأثناء كان زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين يحشد جنده وعدده، ويرسلها تباعاً إلى الشمال. فلما تكاملت الحشود، بعث يوسف بقوة من الفرسان تحت إمرة قائده داود بن عائشة، فعبرت البحر، واحتلت ثغر الجزيرة الخضراء وفقاً لما تعهد به المعتمد. وفي شهر ربيع الآخر سنة 479 هـ (أغسطس 1086 م) بدأت الجيوش المرابطية وعلى رأسها زعيمها البطل الشيخ، تعبر البحر من سبتة تباعاً إلى ثغر الجزيرة، وما كادت السفن تتوسط ماء المضيق (مضيق جبل طارق) تتقدمها سفينة يوسف، حتى نهض الزعيم المرابطي، وبسط يديه نحو السماء ¬_______ (¬1) راجع الحلل الموشية ص 30 و 31، ودوزي Hist. Abbad. V. II. p. 190-191. وقد وردت الرسالة بنفسها منسوبة إلى محمد بن الأحمر في "الذخيرة السنية" ص 159 - 161. وراجع نهاية الأندلس لمحمد عبد الله عنان الطبعة الثالثة ص 98. (¬2) الحلل الموشية ص 32 و 33. وكذلك في دوزي Hist. Abb. V. II. p. 192-193، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 159.

قائلا: "اللهم إن كنت تعلم أن في جوازي هذا خيراً وصلاحاً للمسلمين، فسهل علي جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه علي حتى لا أجوزه". ويروى أن البحر قد هدأ على أثر هذا الدعاء، وسارت السفن في ريح طيبة، حتى رست على الشاطىء، وما كاد يوسف يعبر إلى أرض الأندلس، حتى صلى لله شكراً (¬1)، ثم نزل بالجزيرة الخضراء، وشرع في تحصينها وإصلاح خططها. هذا وسوف نتتبع ما تلا ذلك من الحوادث فيما سيأتي بعد، في حديثنا عن موقعة الزلاّقة. ¬_______ (¬1) راجع روض القرطاس ص 93. وهذا ما رواه يوسف نفسه في رسالته التي بعث بها عقب انتصاره في موقعة الزلاقة، إلى المعز بن باديس أمير تونس والتي، نشرناها في آخر الكتاب.

الفصل الرابع بنو الأفطس ومملكة بطليوس

الفصل الرّابع بنو الأفطس ومملكة بطليوس مملكة بطليوس. الفتى سابور الفارسي وتغلبه على تلك المنطقة. وزيره عبد الله بن مسلمة يخلفه في الحكم. بنو الأفطس وأصلهم. ابن الأفطس وابن عباد. الحرب بينهما حول باجة وبعدها. انشغال ابن عباد بقتال البربر. الثورة في أشبونة وإخمادها. المظفر بن الأفطس. حروبه مع المعتضد بن عباد. موقعة يابرة وهزيمة المظفر. توسط ابن جهور وعقد الصلح بين الفريقين. غزو ملك قشتالة لشمالي مملكة بطليوس. استيلاؤه على بازو ومليقة. غزوه لمدينة شنترين. إذعان المظفر لدفع الجزية. مسير فرناندو لفتح قلمرية. اقتحامها وأسر حاميتها. وفاة فرناندو ملك قشتالة. وفاة المظفر. مقدرته الشعرية والأدبية. المنصور بن الأفطس. وفاته وقيام أخيه عمر المتوكل مكانه. المتوكل وشهرته في عالم الشعر والأدب. وزراؤه الشعراء. سيادة الأمن والرخاء في عهده. وزيره ابن الحضرمي. طغيانه وعزله. حوادث مملكة طليطلة. اضطلاع المتوكل بحكمها. محاولة المتوكل إنجاد طليطلة. سقوط طليطلة. تجبر ألفونسو ووعيده. رد المتوكل عليه. اتفاق ملوك الطوائف على استدعاء المرابطين. كان يجاور مملكة إشبيلية من الشمال، مملكة بطليوس، تفصلها عنها جبال الشارّات الكبرى (سيرّا مورينا). وكانت مملكة بَطَلْيوس، تشمل رقعة كبيرة تمتد من غرب مملكة طليطلة، عند مثلث نهر وادي يانة، غرباً حتى المحيط الأطلنطي، وتشمل أراضي البرتغال (¬1) كلها تقريباً حتى مدينة باجة في الجنوب، وكانت العاصمة بطليوس تتوسط هذه الرقعة الكبيرة التي تشمل عدا العاصمة، عدة مدن هامة أخرى مثل ماردة، ويابرة، وأشبونة، وشنترين، وشنترة، وقُلُمرية، وبازو، وغيرها. كان بنو مسلمة، أو بنو الأفطس، كما اشتهر اسمهم، سادة هذه المملكة الشاسعة، حكموها نيفاً وسبعين عاماً، وسطع بلاطهم أيام الطوائف. وكان استيلاؤهم على حكمها من المصادفات المحضة. ذلك أن هذه المنطقة، وهي النصف الشمالي، من ولاية الغرب الأندلسية، كان يحكمها عند اضطرام الفتنة، واليها الفتى سابور الفارسي، أحد صبيان فائق الخادم مولى الحكم المستنصر، وقد استبد بحكمها ¬_______ (¬1) ويسميها ابن الخطيب أرض "برتقال" (أعمال الأعلام ص 183).

منذ انهيار الخلافة، واستمر قائماً بأمرها ثلاث عشرة عاماً. وكان فارساً شجاعاً، ولكن عاطلا عن المعرفة والخبرة بشئون الحكم، فكان يعاونه في تدبير الشئون وزيره عبد الله بن محمد بن مسلمة، وكان من قبل والياً لماردة، وكان هو الحاكم الحقيقي. وتوفي سابور في سنة 413 هـ (1022 م)، وترك ولدين حدثين هما عبد الملك وعبد العزيز، وأوصى أن يستمر وزيره في الحكم، حتى يبلغا أشدهما. فاستولى عبد الله على الأمور وضبط المملكة، واحتوى على تراث سابور لنفسه، وتلقب بالمنصور، وأضحى سيد المملكة الحقيقي. وينتمي أبو محمد عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، إلى قبيلة من قبائل مكناسة المغربية، وأصله من بلدة فحص البلوط من ولاية قرطبة، من أسرة متواضعة لم يكن لها نصيب في النباهة والمعرفة. بيد أن بني الأفطس كانوا بالرغم من ذلك يرجعون نسبتهم إلى تجيب، وقد مدحتهم الشعراء بهذا الصفة، وهذا ما يثير تعجب ابن حيان، وما يصفه " بالغريب النادر " (¬1). وكان عبد الله بن الأفطس مع ذلك رجلا كثير المعرفة والدهاء، بعيد النظر، وافر الحزم والسياسة، فلما استولى على حكم هذه المنطقة الشاسعة بعد وفاة سابور، أبدى في ضبطها وإدارتها مقدرة وبراعة. بيد أنه كان يرقب حركات جاره من الجنوب القاضي أبى القاسم بن عباد ونمو قوته، في حذر وتوجس. ذلك أنه كان بالرغم من مناعة حاضرته بطليوس، ومناعة أسوارها وقصبتها الضخمة، فإن اتساع رقعة مملكته، وتباعد قواعدها الأخرى في الجنوب والشرق، كان يجعل من الصعب عليه الدفاع عنها إزاء أطماع جاره القوي. وسرعان ما بدأت تتحقق مخاوفه. ذلك أن القاضي ابن عباد انتهز قيام ثورة محلية في مدينة باجة، وقعت بين أهلها بسبب الرياسة، وسير إليها حملة بقيادة ولده إسماعيل، ومعه قوة من جند حليفه البرزالي صاحب قرمونة. وكان ابن الأفطس قد استطاع خلال تلك الفترة أن يحتل باجة بجنده، إذ هي أقرب إليه، وأكثر اتصالا بمنطقته من منطقة بني عباد، فهاجمت قوات إشبيلية المشتركة مدينة باجة، وحاصرت قوات ابن الأفطس، ووقع بينهما قتال عنيف انتهى بتمزيق قوات ابن الأفطس وأسر معظمها، وكان محمد بن الأفطس ولد المنصور بين الأسرى، فاعتقل حيناً لدى ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء (المخطوط) لوحة 85 أ. وفي المطبوع ج 2 ص 97.

البرزالي في قرمونة حتى أطلق سراحه (سنة 421 هـ)، وعاد إلى بطليوس وقد صقلته المحنة، وشحذت عزمه، لمقاومة بني عباد ومحاربتهم. ثم عادت الحرب فاضطرمت بعد ذلك ببضعة أعوام بين ابن عباد وابن الأفطس، ذلك أن حملة جديدة بقيادة إسماعيل بن عباد، توغلت شمالا في أراضي ابن الأفطس وعاثت فيها، وعندما سار في طريق العودة، خرج عليه ابن الأفطس في قوة كثيفة، وطارده بشدة، ففر إسماعيل في قلة من فلوله، وأسر معظم عسكره، وفتك ابن الأفطس بهم كما فتك النصارى بكثير منهم، وكانت محنة شنيعة لبني عباد (425 هـ - 1034 م). وشغل أبو القاسم بن عباد في الأعوام التالية، عن محاربة الأفطس بمحاربة البربر، فاشتبك أولا مع يحيى المعتلي، وانتزع منه قرمونة (427 هـ)، ليردها إلى صاحبها حليفه محمد بن عبد الله البرزالي. بيد أنه عاد فسير قواته إلى قرمونة واستولى عليها. وعندئذ هرع البربر لنصرة البرزالي، وفي مقدمتهم إدريس المتأيد صاحب مالقة، وباديس بن حبوس صاحب غرناطة، ووقعت بين البربر وجند إشبيلية موقعة دموية، هزم فيها الإشبيليون وقتل أميرهم إسماعيل بن عباد (431 هـ) وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في أخبار الدولة العبادية. وأما ابن الأفطس، فقد شغل بقيام الثورة في أشبونة. أقصى ثغور مملكته. ذلك أن عبد الملك وعبد العزيز ابنى سابور، حينما توفي والدهما، واستولى ابن الأفطس على تراثه، غادرا بطليوس ولجآ إلى ثغر أشبونة، ثم ثار عبد العزيز واستولى على حكم المدينة، واستمر في حكمها بضعة أعوام. ولما توفي حل أخوه عبد الملك مكانه، ولكنه كان سيىء الحكم والإدارة، فاختل النظام، وغلبت الفوضى، وكتب أهل أشبونة سراً إلى ابن الأفطس، أن يرسل إليهم والياً من عنده، فسير إليهم ولده محمداً في قوة كثيفة، ودخل محمد أشبونة دون صعوبة، ورأى عبد الملك بن سابور أن يذعن إلى التسليم، على أن يؤمن في نفسه وأهله وماله؛ فمنح ما طلب، وسمح له بأن يسير إلى حيث شاء، فقصد إلى مدينة قرطبة، واستأذن الوزير ابن جهور في الالتجاء إليها، فأذن له ودخلها بأهله وأمواله، ونزل دار أبيه سابور، وعاش هناك حتى توفي (¬1). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 237.

وكان عبد الله بن الأفطس المنصور، خلال ذلك يمضي في تنظيم مملكته الشاسعة وفي تحصينها، وفي تقوية جيوشه وأهباته، وذلك كله توقعاً لعدوان بني عباد، ولاسيما بعد أن خلف المعتضد بن عباد أباه القاضي أبا القاسم في الحكم، وظهرت إمارات توثبه ونياته العدوانية. ثم توفي المنصور في جمادى الأولى سنة 437 هـ (1045 م). فخلفه ولده محمد بن عبد الله بن الأفطس وتلقب بالمظفر. وكان عالماً وفارساً شجاعاً، وقد عركته خطوب الحرب والأسر الذي عاناه. فسار في الحكم سيرة أبيه من العمل على ضبط النظام، والدفاع عن الثغور. وكان مثل أبيه يرى في بني عباد خصومه الأوائل، ويعمل على تقوية أهباته الدفاعية لاتقاء عدوانهم. وقد رأينا فيما تقدم، كيف دبر المعتضد بن عباد خطته للاستيلاء على إمارات الغرب الصغرى، وبدأ في ذلك بمهاجمة مدينة لبلة، وكيف أن المظفر بن الأفطس هرع إلى نجدة صاحبها ابن يحيى، وبعث بعض قواته من البربر لمهاجمة إشبيلية، وكيف حاول الوزير ابن جهور عبثاً أن يحول بتدخله، ونصحه للفريقين، دون نشوب الحرب بينهما. وهكذا اضطرم القتال بين المعتضد وابن الأفطس، وعاث كل منهما في أراضي الآخر، وهزم ابن الأفطس أولا، ولكنه استأنف الكرة، واستطاع أن يوقع بالمعتضد هزيمة شديدة قتل فيها كثير من جنده (439 هـ - 1047 م). ثم تطورت الحوادث وساء التفاهم بين ابن عباد وابن الأفطس، حيث أبى أن يرد إلى حليفه القديم، ما ائتمنه عليه من أمواله وذخائره أيام الحرب، ولم يكتف ابن الأفطس بذلك بل أرسل قواته من الفرسان لمهاجمة لبلة، فاستغاث ابن يحيى بالمعتضد، فلبى دعوته وأرسل قواته، فاشتبكت مع خيل ابن الأفطس فمزقتهم وأفنتهم، واحتزت من رؤوسهم، نحو مائة وخمسين. وجهز المعتضد بعد ذلك قوة كبيرة على رأسها ولده إسماعيل ووزيره ابن سلام، وعبرت القوات العبادية نهر وادي يانة، وتوغلت في أراضي ابن الأفطس شمالا، حتى مدينة يابُرة، وحشد ابن الأفطس في الوقت نفسه سائر قواته، واستعان بقوة بعثها إليه حليفه إسحق بن عبد الله البرزالي تحت قيادة ولده المعز، والتقى الفريقان دون أهبة ولا نظام على مقربة من يابرة، فهزم ابن الأفطس وفشا القتل في جنده، وقتل المعز بن إسحق، وحز رأسه وأرسل إلى إشبيلية، وقتل عم لابن الأفطس

وأرسل رأسه كذلك، ولجأ ابن الأفطس في بقية فرسانه إلى يابرة، تحت كنف صاحبها عبيد الله الخراز. وكانت موقعة دموية شنيعة قدر فيها عدد القتلى بأكثر من ثلاثة آلاف، وكان وقوعها في سنة 442 هـ (1050 م). واستمرت الحرب بين الفريقين بعد ذلك عدة شهور أخرى، استطاع المعتضد خلالها أن يوقع بقوات ابن الأفطس غير مرة وأن يعيث في أراضيه، وأن يفتح منها عدة حصون. وتفاقمت الحال، بما أصاب مملكة بطليوس من تخريب الزروع، وهلاك الأقوات ونضوب الموارد، ووقوع القحط، واضطر المظفر بن الأفطس في النهاية، أن يعتصم بقاعدته بطليوس، بعد ما نكل سائر أصدقائه عن معونته. ولم ينقذه من عدوان المعتضد سوى تدخل الوزير أبى الوليد ابن جهور، حيث لبث موالياً لسعيه في درء الفتنة، وحقن الدماء، حتى كلل سعيه في النهاية بالنجاح، وعقد الصلح بين المعتضد بن عباد والمظفر بن الأفطس في ربيع الأول سنة 443 هـ (1051 م) (¬1). وكان المظفر في نفس الوقت عرضة لمضايقة المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة وعدوانه. وقد أغار المأمون مراراً على أراضي ابن الأفطس، ووقعت بينهما معارك محلية كثيرة. ولم نعثر على تاريخ هذه المعارك بطريقة قاطعة. ولكن الظاهر أنها وقعت بعد الصلح بين ابن عباد وابن الأفطس، أعني بعد سنة 443 هـ (¬2). على أن المظفر ما كاد يفيق من تلك الحروب المدمرة، حتى بدأت الحوادث والأزمات الخطيرة في أطراف مملكته الغربية والشمالية. وكان خصومه في تلك المرة هم النصارى، جيرانه من الشمال. وكان فرناندو الأول (فرديناند أو فرذلند) ولد سانشو الكبير، بعد أن استتب له ملك قشتالة وليون، يرقب تطور الحوادث لدى جيرانه المسلمين باهتمام، ويتحين فرص العمل، وكانت أطراف مملكة بطليوس الشمالية الواقعة فيما بين نهر التاجُه ونهر دويرة، تشمل منطقة نائية مجردة من وسائل الدفاع القوية، وتكاد تكون قواعدها المنعزلة المستقلة معتمدة في الدفاع على نفسها. فاتجهت أنظار فرناندو، إلى تلك المنطقة، ولم يلبث أن اخترقها بقواته وذلك في سنة 449 هـ (1057 م) واستولى أولا على مدينتي لاميجو (مليقة) ¬_______ (¬1) راجع ما نقل في الذخيرة عن ابن حيان، المجلد الأول القسم الأول ص 361 - 365، والبيان المغرب ج 3 ص 211 - 213 و 334 و 235. (¬2) راجع البيان المغرب ج 3 ص 282 و 283.

وبازو الواقعتين في شمال البرتغال، واللتين عمرهما المسلمون منذ أيام المنصور؛ ولم يلق الغزاة دفاعاً يذكر، ولم يتحرك ابن الأفطس ليقينه من عقم المحاولة. واسترق فرناندو، سكان المدينتين الإسلاميتين، وأسكن بهما النصارى. ولم تمض بضعة أعوام أخرى حتى بعث فرناندو بحملة قوية إلى تلك المنطقة تقدر بعشرة آلاف فارس، وكان ابن الأفطس قد رفض أداء الجزية لملك قشتالة، فسارت قوة من الفرسان النصارى جنوباً، صوب مدينة شنترين الواقعة على نهر التاجُه، وهي من أهم قواعد مملكة بطليوس البرتغالية، وكان ابن الأفطس على علم بتحرك النصارى، فهرعت قواته إلى شنترين قبل أن يصلوا إليها. ولما أشرف عليها النصارى بعث قائدهم " القومس " إلى ابن الأفطس للمفاوضة، فاجتمع الاثنان في نهر التاجُه، وانتهت المفاوضة بينهما على عقد الهدنة، وعلى أن يدفع ابن الأفطس لملك قشتالة جزية سنوية مقدارها خمسة ألاف دينار. على أن أعظم خطب نزل بالمسلمين وبمملكة بطليوس يومئذ, هو فقد مدينة قُلُمرية أعظم مدن البرتغال الشمالية، وكان قد افتتحها المنصور بن أبي عامر منذ ثمانين عاماً في سنة 375 هـ. وكانت يومئذ تحت حكم مولى من موالي ابن الأفطس يدعى راندة، ولديه للدفاع عن المدينة نحو خمسة آلاف جندي. ويقال إن الذي أشار على فرناندو بغزو قلمرية هو مستشاره المستعرب سسنندو الذي سبق ذكره، وكان في الأصل من أهل هذه الناحية. وسار فرناندو بنفسه إلى قلمرية في قوات كثيفة وضرب حولها الحصار، واستمر الحصار زهاء ستة أشهر، والضيق يشتد بالمدينة المحصورة يوماً عن يوم. وفي النهاية تفاهم راندة مع فرناندو سراً على أن يخرج من المدينة آمناً على نفسه وأهله، وأصبح أهل المدينة فلم يجدوا قائدهم, فعرضوا التسليم على أن يمنحوا الأمان، فرفض فرناندو واستمر في الحصار، حتى فتك الضيق ونفاد الأقوات بالحامية وأهل المدينة، وأخيراً اقتحم النصارى المدينة عنوة، فسلمت الحامية، واعتبر جنودها أسرى، وسبى الكثير من أهلها نساء ورجالا. وخرج منها من استطاع منهم تاركين متاعهم وأموالم، ووقعت هذه الحادثة بالمسلمين في سنة 456 هـ (1064 م). وعين فرناندو مستشاره سسنندو حاكماً لقلمرية وأعمالها، ومنحه عندئذ لقب " الكونت " أو " الوزير ". ثم عمد فرناندو بعد ذلك إلى إخراج السكان المسلمين من سائر الأراضي الواقعة

بين نهري دويرة ومنيو (منديجو) وذلك تنفيذاً لخطته في إجلاء المسلمين عن الأراضي المتاخمة لمملكته شيئاً فشيئاً. ولما سقطت قلمرية في يد العدو، قصد واليها السابق راندة إلى بطليوس، وكان قد لجأ إلى المعسكر النصراني، ثم غادره طمعاً في عفو سيده، فاستقبله ابن الأفطس بجفاء وأنبه على شنيع مسلكه، ثم أمر بضرب عنقه جزاء خيانته (¬1). هذا وسوف نعود إلى تفصيل حوادث سقوط قلمرية في أخبار فرناندو ملك قشتالة. وهدأ ضغط النصارى على أراضي ابن الأفطس بوفاة فرناندو ملك قشتالة بعد ذلك بنحو عامين في سنة 1065 م. ووقعت بين أبنائه الثلاثة حرب استمرت بضعة أعوام، شغل خلالها النصارى عن عدوانهم على أراضي المسلمين. ولما خلص عرش قشتالة وليون بعد ذلك إلى ولده ألفونسو، تحولت دفة هذا العدوان إلى مملكتي طليطلة، وإشبيلية، حسبما نفصل بعد. وتوفي المظفر بن الأفطس في سنة 461 هـ (1068 م)، فخلفه ولده يحيى الملقب بالمنصور. ولابد لنا قبل أن نترك الكلام على المظفر بن الأفطس، أن نذكر ذلك الجانب اللامع الوضاء في حياته، ونعني الناحية الفكرية. فقد كان المظفر من أعلم أهل عصره، وكان شغوفاً بالشعر والأدب، وكان ينكر الشعر على قائله في زمانه، ويقول: " من لم يكن شعره مثل شعر المتنبي أو المعري فليسكت "، ولا يرضى بدون ذلك. وقد اشتهر في عالم الأدب بكتابه الضخم الموسوم "بالمظفري" نسبة إلى اسمه، وهو موسوعة أدبية وتاريخية عظيمة تحتوي على كثير من الأخبار والسير والنبذ المختارة، والطرائف المستملحة، والغرائب الملوكية، والنوادر اللغوية. وأنفق المظفر في تصنيفه أعواماً، وانتفع في تصنيفه بسائر ما تحتويه خزائنه الزاخرة بنفائس الكتب، ولم يستعن في وضعه إلا بكاتبه أبي عثمان سعيد بن خيره. وقيل إن "المظفري" كان يحتوي على خمسين مجلداً، وقيل بل على عشرة أجزاء ضخمة وقد لبث هذا المصنف الكبير عصوراً، معروفاً متداولا، تذكره التواريخ ¬_______ (¬1) راجع في سقوط قلمريه وما تقدمه من حوادث: البيان المغرب ج 3 ص 238 و 239، وأعمال الأعلام ص 184، ودوزي في Hist. des Musulmans d'Espagne, V. III. p. 67-77

الأندلسية، بيد أنه قد غاض ودثر في النهاية، ولم تصل إلينا منه سوى شذور قليلة (¬1). وما كاد المنصور بن الأفطس يبدأ حكمه حتى ثار به أخوه عمر، وكان يرى نفسه أحق منه بالملك والحكم. وكان عند وفاة والده المظفر حاكماً لمدينة يابرة وما إليها، فنهض لمناوأة أخيه. واستمر النزاع بينهما بضعة أعوام حتى تفاقم. ولجأ عمر إلى معاونة المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة، واتجه المنصور إلى معاونة المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، واضطرمت الفتنة، وكادت تدمر كل شىء، لولا أن توفي يحيى المنصور فجأة سنة 464 هـ (1072 م)، فخمدت الفتنة ودخل عمر بطليوس، وتولى الحكم مكان أخيه دون منازع، وتلقب بالمتوكل على الله، وندب ابنه العباس حاكماً ليابرة. وكان المتوكل بن الأفطس من أشهر ملوك الطوائف وأبقاهم ذكراً، وهو لم يشتهر بحروبه وأعماله السياسية، وإنما اشتهر بعلمه وأدبه وشعره، وبلاطه الزاهر، الذي كان جامعة أدبية أكثر منه قصراً ملوكياً. وقد وصفه لنا معاصره الفتح بن خاقان في تلك العبارات الشعرية: " ملك جند الكتائب والجنود، وعقد الألوية والبنود، وأمر الأيام فائتمرت، وطافت بكعبته الآمال واعتمرت إلى لسن وفصاحة، ورحب جناب للوافد وساحة، ونظم يزري بالدر النظيم، ونثر تسري رقته سري النسيم، وأيام كأنها من حسنها جمع، وليال كان فيها على الأنس حضور مجتمع، راقت إشراقاً وتبلجاً، وسالت مكارمه أنهاراً وخلجاً " (¬2). وقال ابن الخطيب: " وكان المتوكل ملكاً عالي القدر، مشهور الفضل، مثلا في الجلالة والسرو، من أهل الرأي والحزم والبلاغة، وكانت مدينة بطليوس في مدته دار أدب وشعر ونحو وعلم ". ونقل إلينا ابن الخطيب تلك التحفة الأدبية من نظم المتوكل، رواها وزيره أبو طالب ابن غانم قال: كتب إلى المتوكل بهذين البيتين في ورقة كرنب من بعض البساتين: انهض أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا فنحن عقد بغير وسطى ... ما لم تكن حاضراً لدينا (¬3) ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 236، 237، وأعمال الأعلام ص 183، 184 والمعجب لعبد الواحد المراكشي ص 41، 42. (¬2) قلائد العقيان ص 36. (¬3) أعمال الأعلام ص 185.

وحسبك أن تعلم أنه كان من بين وزراء المتوكل، الكاتب والشاعر الكبير أبو محمد عبد المجيد بن عبدون "عظيم ملكهم، ونظيم سلكهم" حسبما يصفه صاحب القلائد، وصاحب مرثيتهم الرائعة التي نشير إليها فيما بعد، وهو من أبناء مدينة يابرة، وبنو القبطرنة وهم الشاعر المبدع أبو بكر بن عبد العزيز البطليوسي، وأخواه أبو محمد وأبو الحسن، وكلاهما أيضاً شاعر رائق النظم. وفي عهد المتوكل على الله تمتعت مملكة بطليوس بفترة من السلام والأمن والرخاء، وسطع بلاطها في ظل أميرها الحكيم العالم. والواقع أن مملكة بطليوس كانت بالرغم مما نزل بها من الأحداث والخطوب، في عهد المظفر بن الأفطس، تتفوق من حيث انتظام الأحوال وسيادة الأمن والرخاء، على كثير من دول الطوائف الأخرى. وفي ذلك يقول المؤرخ " وكانت أيام بني المظفر (يقصد بني الأفطس) بمغرب الأندلس أعياداً ومواسم، وكانوا ملجأ لأهل الأدب، خلدت فيهم، ولهم قصائد شادت مآثرهم، وأبقت على غابر الدهر حميد ذكرهم " (¬1). وكان معاونه في الحكم الوزير ابن الحضرمي، قد أساء السيرة، وتجبر وطغى وتعسف في معاملة الناس فأقاله، وأبعده عن خدمته. فكتب إليه الوزير يستعطفه فراجعه المتوكل بخطاب جاء فيه: " ياسيدي وأكرم عددي، الشاكي ما جنته يده لا يدي، ومن أسأل الله التوفيق في ذاته إذ حرمه في ذاتي ... نعم فإني رأيت الأمر قد ضاع، والإهمال قد انتشر وذاع، فأشفقت من التلف، وعدلت إلى ما يعقب إن شاء الله الخلف، وأقبلت استدفع من مواقع أنسي، وأشاهد ما ضيعته بنفسي، فم أر إلا لججاً قد توسطتها، وغمرات قد تورطتها، فشمرت عن الساق للجتها، وخدمت النفس بمهجتها، حتى خضت البحر الذي أدخلني فيه رأيك، ووطئت الساحل الذي كان يبعدني عنه سعيك .... وقد أطمعت في العدو لبست لأهل دهري الاستكبار والعتو، واستهنت بجيرانك، وتوهمت أن المروءة في التزام زهوك، وتعظيم شأنك، حتى أخرجت النفوس علي وعليك، فانجذب مكروه ذلك إليك، ومع ذلك فليس لك عندي إلا حفظ الحاشية وإكرام الغاشية " (¬2). ووقعت أيام المتوكل في جارته مملكة طليطلة أحداث كان لها صدى في مملكته. ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 42. (¬2) قلائد العقيان ص 41.

ذلك أن يحيى بن ذى النون صاحب طليطلة الملقب بالقادر بالله، كان أميراً ضعيفاً سيىء الخلال، وكانت تناهضه عصبة قوية من الأعيان. وفي سنة 472 هـ ْقامت ثورة في طليطلة أضرمها أولئك الخصوم الناقمون، وحاولوا الاعتداء عليه، ففر من المدينة ناجياً بنفسه، ولجأ إلى بعض حصونه الخارجية، وخشي أعيان المدينة انهيار النظام، وذيوع الفوضى، فاتجهوا إلى المتوكل، واستدعوه لضبط المدينة، فأجابهم كارهاً، وغادر بطليوس إلى طليطلة، وأقام بها زهاء عشرة أشهر يدبر شئونها، حتى تهيأت لأميرها المنفي سبل العودة، فغادرها المتوكل، وقد حصل من أسلاب ابن ذى النون وذخائره على قسط وافر (¬1). وكان ألفونسو السادس خلال ذلك يشدد الضغط على مملكة طليطلة، ويرهقها بغاراته المتوالية، وينتسف زروعها وأقواتها، تمهيداً لمشروعه الضخم في الاستيلاء عليها. وكان القادر بن ذى النون يدافع العدو ما استطاع، ويتطلع حوله للاستنجاد بجيرانه المسلمين، فلا يجد سميعاً أو منجداً. ولم يتقدم لإغاثته سوى المتوكل بن الأفطس، فقد سار بجنده لمدافعة جند قشتالة. بيد أن ألفونسو السادس لم يشأ الدخول في معارك عقيمة، وآثر الانسحاب مؤقتاً، حتى تحين الفرصة المنشودة. بيد أنه لم تمض على ذلك بضعة أعوام، حتى حلت النكبة بمملكة بني ذى النون، واستولى ألفونسو السادس ملك قشتالة على طليطلة، وذلك في المحرم من سنة 478 هـ (1085 م) حسبما نفصل في موضعه. وشعر ملك قشتالة على أثر إنزال هذه الضربة الفادحة بالمسلمين، أنه أضحى قادراً على تحدي دول الطوائف جميعاً، والقضاء عليها، واحدة بعد أخرى. وكان من أثر ذلك أن أرسل إلى المتوكل يطلب إليه تسليم بعض قلاعه وحصونه، وأن يؤدي الجزية، ويتوعده بشر العواقب إذا رفض، ولم يك ثمة شك في خطورة هذا الوعيد، بعد أن سقطت طليطلة حصن الأندلس على نهر التاجُه، وعبر النصارى نهر التاجُه لأول مرة، ومع ذلك أبي المتوكل أن يستجيب إلى الوعيد، ورد على ملك قشتالة برسالة قوية حازمة، تفيض شجاعة وإباء ونبلا يقول فيها: " وصل إلينا من عظيم الروم كتاب مدع في المقادير وأحكام العزيز القدير، يرعد ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 180.

ويبرق، ويجمع تارة ثم يفرق، ويلدد بجنوده الوافرة، وأحواله المتظافرة، ولو علم أن لله جنوداً أعز بهم الإسلام، وأظهر بهم دين نبينا محمد عليه السلام أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون ... أما تعييرك للمسلمين فيما وهي من أحوالهم، فبالذنوب المركوبة، ولو اتفقت كلمتنا مع سائرنا من الأملاك، علمت أي مصاب أذقناك، كما كانت آباؤك تتجرعه، فلم نزل نذيقها من الحمام ضروب الآلام شؤماً تراه وتسمعه، وإذا المال تتورعه. وبالأمس كانت قطيعة المنصور على سلفك، أهدى ابنته إليه مع الذخائر التي كانت تفد كل عام عليه، وأما نحن إن قلت أعدادنا، وعدم من المخلوقين استمدادنا، فما بيننا وبينك بحر نخوضه، ولا صعب نروضه، إلا السيوف تشهد بحدها رقاب قومك، وجلاد تبصره في ليلك ويومك، وبالله تعالى وملائكته المسومين، فنقوى عليك ونستعين ... وما تتربصون بنا إحدي الحسنيين، نصر عليكم فيالها من نعمة ومنة، أو شهادة في سبيل الله، فيالها من جنة، وفي الله العوض مما به هددت، وفرج يفتر بما مددت، ويقطع بك فيما أعددت " (¬1). وندب المتوكل قاضيه العلامة والفقيه الأجل، أبا الوليد الباجي، ليطوف بحواضر الأندلس، ويتصل بالرؤساء، ويدعوهم إلى لم الشعث، وتوحيد الكلمة ومدافعة العدو، فقام بالمهمة، واتصل بسائر الرؤساء، ولم يدخر وسعاً في نصحهم ووعظهم (¬2). ومع ذلك فإن المتوكل لم يجد من زملائه المسلمين من يستنصر به، وقد روعهم جميعاً ما حل في طليطلة، وكان ملك قشتالة قد استولى منذ سنة 1080 م (473 هـ) على مدينة قورية وقلاعها، وهي من أطراف مملكة بطليوس الشمالية وحصنها على ْنهر التاجه، وأضحى السبيل بذلك أمامه ممهداً لكي يجتاح أراضيها بسهولة. وكان المعتمد بن عباد قد تلقى منه مثل المطالب والنذر التي تلقاها المتوكل، ورد عليه بمثل رد المتوكل أو أشد. وكان أن تطورت الحوادث بسرعة، واعتبر ملوك الطوائف بالخطب الداهم، وانتهى بهم الأمر إلى ذلك القرار الخطير، الذي شاء القدر أن يكون نقطة تحول في حياة الأندلس وفي تاريخها، ونعني استدعاء المرابطين. ¬_______ (¬1) تراجع هذه الرسالة في الحلل الموشية (تونس 1329 هـ) ص 20 - 22. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 98.

وقد كان عمر المتوكل، إلى جانب زميله المعتمد بن عباد، وكلاهما يومئذ هدف لأخطر عدوان مباشر من جانب ملك قشتالة، في مقدمة المؤيدين لهذه الخطوة، وقد كتب إلى أمير المسلمين، كما كتب المعتمد، يلتمس عونه وغوثه. والظاهر أن المتوكل وجه صريخه لأمير المسلمين قبل سقوط طليطلة، حسبما يبدو ذلك من رواية صاحب الحلل الموشية (¬1)، وقد انتهت إلينا من قلم هذ الأمير العالم تلك الرسالة البليغة المؤثرة يصف فيها لأمير المسلمين محنة الأندلس، وما دهاها من التفرق والانحلال، ويستنصره إلى الجهاد، والإنجاد العاجل: " لما كان نور الهدى، أيدك الله، دليلك، وسبيل الخير سبيلك، ووضحت في الصلاح معالمك، ووقفت على الجهاد عزائمك، وصح العلم بأنك لدعوة الإسلام أعز ناصر، وعلى غزو الشرك أقدر قادر، وجب أن تستدعي، لما أعضل الداء، وتستغاث لما أحاط بالجزيرة من البلاء، فقد كانت طوائف العدو المطيف بأنحائها "أهلكهم الله" (¬2)، عند إفراط تسلطها واعتدائها (¬3)، وشدة كلبها واستشرائها، تلاطف بالاحتيال، وتستنزل بالأموال، ويخرج لها عن كل ذخيرة، وتسترضى بكل خطيرة (¬4)، ولم يزل دأبها التشطط والعناد، ودأبنا الإذعان والانقياد، حتى نفد (¬5) الطارف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، وأيقنوا الآن بضعف المنن، وقويت أطماعهم في افتتاح المدن، واضطرمت في كل جهة نارهم، ورويت من دماء المسلمين أسنتهم وشفارهم، ومن أخطأه القتل منهم، فإنما هم بأيديهم أسارا وسبايا، يمتحنونهم بأنواع المحن والبلايا، وقد هموا بما أرادوه من التوثب، وأشرفوا على ما أملوه من التغلب، فيالله وياللمسلمين، أبسطوا هكذا بالحق الإفك، ويغلب التوحيد الشرك، ويظهر على الإيمان الكفر، ولا يكشف هذه البلية النصر، ألا ناصر لهذا الدين المهتضم، ألا حامي لما استبيح من الحرم، وأنا لله على ما لحق عرشه من ثل، وعزه من ذل، فإنها الرزية التي ليس فيها عزاء، والبلية التي ليس مثلها بلاء. ومن قبل هذا ما كنت خاطبتك، أعزك الله، بالنازلة في مدينة قورية، أعادها الله، وأنها مؤذنة للجزيرة بالخلا، ومن فيها من المسلمين بالجلا، ثم مازال ذلك التخاذل يتزايد، والتدابر يتساند، حتى تخلصت ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 20. (¬2) الزيادة من البيان المغرب (الأوراق المخطوطة). (¬3) البيان المغرب "واعتزازها". (¬4) البيان المغرب "نفيسة". (¬5) البيان المغرب "استصفى".

القضية، وتضاعفت البلية، وتحصلت في يد العدو مدينة سُرية، وعليها قلعة تجاوزت حد القلاع، في الحصانة والامتناع، وهي من المدينة كنقطة الدائرة "وواسطة القلادة" تدركها من جميع نواحيها، ويستوي في الأرض بها قاصيها ودانيها، وما هو إلا نفس خافت، وزمر داهق، استولى عليه عدو مشرك، وطاغية منافق، إن لم تبادروا بجماعتكم عجالا، وتتداركوها ركباناً ورجالا، وتنفروا نحوها خفافاً وثقالا، وما أحضكم على الجهاد بما في كتاب الله، فإنكم له أتلى، ولا بما في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنكم إلى معرفته أهدى، وكتابي إليكم هذا يحمله الشيخ الفقيه الواعظ، يفصلها ويشرحها، ومشتمل على نكتة هو يبينها ويوضحها، فإنه لما توجه نحوك احتساباً، وتكلف المشقة إليك طالباً ثواباً، عولت على بيانه، ووثقت بفصاحة لسانه والسلام " (¬1). والظاهر أن المتوكل، تلقى كما تلقى ابن عباد من أمير المسلمين، كتاباً يعده فيه بالجواز والإنجاد. ونحن نقف في سرد أخبار المتوكل ومملكة بطليوس عند ذلك الحد، إذ هي تندمج عندئذ في تيار الحوادث العامة، الذي جرف الأندلس وملوك الطوائف جميعاً، وهو ما سنعني بتفصيله في موضعه. ¬_______ (¬1) البيان المغرب - في الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها في مكتبة القرويين.

الفصل الخامس مملكة بنى ذى النون فى طليطلة

الفصل الخامِسُ مملكة بني ذى النون في طليطلة مملكة طليطلة وأهمية موقعها. بنو ذى النون. أصلهم وظهورهم. عبد الرحمن بن ذى النون وولده إسماعيل. أحوال طليطلة عقب الفتنة. استدعاء أهلها لإسماعيل. ولايته لطليطلة، وتلقبه بالظافر. كبير الجماعة أبو بكر الحديدي. وفاة إسماعيل وقيام ولده المأمون. الحرب بين المأمون وابن هود. هزيمة المأمون وارتداده. استعانته بفرناندو ملك قشتالة. عيث النصارى في أراضي ابن هود. التحالف بين المأمون وابن عباد. استعانة ابن هود بملك قشتالة وعيثه في أراضي طليطلة. تحالف المأمون مع غرسية ملك نافار. عيث النصارى في أراضي طليطلة وسرقسطة. سعي أهل طليطلة للصلح. مهاجمة ابن هود لمدينة سالم. غزو القشتاليين لأراضي طليطلة. غزو النافاريين لأراضي سرقسطة. وفاة ابن هود وانتهاء الفتنة. النزاع بين المأمون وبين ابن الأفطس. إغارة ملك قشتالة على أراضي طليطلة. تعهد المأمون له بالجزية. استيلاء المأمون على بلنسية. مختلف الروايات في ذلك. وفاة فرناندو ملك قشتالة والنزاع بين أولاده. فرار ألفونسو. التجاؤه إلى المأمون. محاولة المأمون غزو قرطبة وفشله. مؤامرة ابن عكاشة. استيلاؤه على قرطبة واستدعاؤه للمأمون. مقتل سراج الدولة ابن المعتمد. دخول المأمون قرطبة ثم وفاته. زحف ابن عباد على قرطبة واقتحامه إياها. مصرع ابن عكاشة. المأمون وخلاله. ثراؤه وقصوره الباذخة. ما ينسب إليه من البخل. ابن حيان يهدي إليه كتابه. يحيى القادر حفيد المأمون وخلفه. الوزيران ابن الفرج وابن الحديدي. بطش القادر بابن الحديدي. القلاقل والمؤامرات ضد القادر. ضغط ابن هود عليه. يلتمس حماية ملك قشتالة ويعترف بطاعته. الثورة في طليطلة وفرار القادر. المتوكل بن الأفطس يتولى حكم طليطلة. استعانة القادر بألفونسو واسترداده لعرشه. مشروع ألفونسو لغزو طليطلة. المعتمد بن عباد يعقد حلفاً مع ألفونسو خضوع ملوك الطوائف لملك قشتالة. اختلاف أهل طليطلة. الحزب الموالي للنصارى. تخريب ألفونسو لأراضي طليطلة. انصراف ملوك الطوائف عن غوثها. أبو الوليد الباجي ودعايته. عمر المتوكل يحاول إنجادها. حصار ألفونسو لطليطلة. القادر وموقفه المريب. تفاقم الخطب. محاولة أهل المدينة التفاهم مع ألفونسو. إصرار ألفونسو على التسليم. عروض التسليم وشروطه. ألفونسو السادس يدخل طليطلة. مغادرة القادر إياها. سقوط طليطلة وآثاره المادية والأدبية. طليطلة حاضرة قشتالة. أثر النكبة في موقف الطوائف. فجيعة الشعر الأندلسي. لم تكن أهمية مملكة بني ذى النون في طليطلة وأعمالها، في ضخامة رقعتها، وإن كانت أيضاً من أكبر دول الطوائف رقعة، ولكن في موقعها الحربي (الاستراتيجي) على مشارف الأندلس الشمالية الوسطى. ونحن نعرف أن طليطلة وأعمالها، كانت منذ قيام الدولة الإسلامية بالاندلس تعرف بالثغر الأوسط

لمتاخمة حدودها للممالك الإسبانية النصرانية، واعتبارها بذلك حاجز الدولة الإسلامية وجناحها الشمالي الأوسط، ضد عدوان النصارى. ولم يتغير هذا الوضع بقيام دولة بني ذى النون، على أثر انهيار الخلافة، وتمزق الأندلس، في تلك المنطقة، ومن ثم كانت أهمية مملكة طليطلة. وكانت هذه المملكة تشمل رقعة كبيرة في قلب الأندلس، تمتد شرقي مملكة بطليوس، من قورية وتَرجالُه نحو الشمال الشرقي، حتى قلعة أيوب وشنتمرية الشرق، جنوب غربي مملكة بني هود في الثغر الأعلى، وتمتد شمالا بشرق فيما وراء نهر التاجُه متاخمة لقشتالة القديمة، وجنوباً بغرب حتى حدود مملكة قرطبة، عند مدينتي المعدن والمدور، وتتوسطها عاصمتها طليطلة. ومن أعمالها مدينة سالم ووادي الحجارة وقونقة ووبذة وإقليش ومورة وطلبيرة وترجالُه وغيرها. كانت هذه المنطقة الشاسعة الهامة وقت الفتنة غنماً لبني ذى النون، أقاموا بها مملكة لامعة زاهية، ولكن سيئة الطالع، قصيرة الأمد. وقد كان بنو ذى النون من أصول البربر، من قبائل هوارة، ويقال إن أصل لقبهم هو زنون، فتطور بمضي الزمن إلى رسمه المعروف، أعني ذى النون، وقد ظهروا وفقاً لأقوال الرواية، منذ أيام الدولة الأموية، حيث كان جدهم الأعلى ذو النون بن سليمان حاكماً لحصن إقليش، منذ أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن. وظهر جدهم ذو النون هذا، ونال عطف الأمير محمد عن طريق حادث عارض، خلاصته أن الأمير محمدا، عند اجتيازه في بعض غزواته لأرض شنت برية (¬1)، موطن ذى النون اعتل له خصي من أكابر خصيانه، وهو في طريق العودة من غزاته، فتركه عند ذى النون حتى يبرأ من علته أو يموت، فاعتنى به ذو النون عناية فائقة حتى برىء، ثم أخذه بنفسه إلى قرطبة، فسر الأمير محمد بمروءته، وكافأه على صنيعه بأن أهدى له سجلا بولايته على ناحيته، واعتباره زعيم قومه، وارتهن بعض أولاده كفالة بحسن طاعته، ومن ذلك الحين يظهر اسم بني ذى النون على مسرح الحوادث. ومنها أن موسى بن ذى النون، اشترك أيام الفتنة في الخلاف ¬_______ (¬1) شنت برية وبالإسبانية Santaver، هي بلدة حصينة كانت تقع شمالي غرب قونقة، وجنوبي شرقي وادي الحجارة على مقربة من منابع نهر التاجه، وقد كانت قاعدة للكورة الأندلسية التي تسمى بهذا الاسم، والتي تشغل منطقة قونقة وإقليش حتى شرقي طليطلة.

وخرج عن الطاعة، وذلك في سنة 260 هـ، وأخضعه الأمير محمد (¬1). ومن ذلك أيضاً أن ابنه الفتح بن موسى، خرج في مستهل عهد الناصر بقلعة رباح وأحوازها، فبعث إليه الناصر بحملة طاردته وانتهت بإخضاعه. ويقول لنا ابن الخطيب إن بني ذى النون لم يكن لهم رياسة ولا نباهة إلا في دولة المنصور بن أبي عامر، ولكن ابن حيان يذكر لنا من جهة أخرى "أنه في شهر جمادى الأولى سنة 363. هـ في عهد الحكم المستنصر بالله سجل لمطرف بن اسماعيل ابن عامر ذى النون على وبذة" (¬2) وحصنه، وأضيفت إليه أكثر حصون شنت برية وقراها (¬3). ويقع حصن وبذة هذا على مقربة من شمال حصن إقليش معقل بني ذى النون فيما بعد. وعلى أي حال ففي أيام المنصور، ظهر عبد الرحمن ابن ذى النون وولده إسماعيل، وخدم في ظل المنصور، والظاهر أن عبد الرحمن هذا هو ولد مطرف بن إسماعيل بن ذى النون السابق ذكره. فلما انقرضت الدولة العامرية، لحق بالثغر، واجتمع إليه بنو عمه، ومنحه سليمان الظافر حكم إقليش. ولما مات الفتى واضح العامري حاكم قلعة قونقة، استولى عليها إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذى النون، وضبطها حتى يجىء بزعمه من يولي عليها. وأخذ إسماعيل يستولي على الأنحاء المجاورة شيئاً فشيئاً، حتى بسط حكمه على كورة شنتبرية كلها. وأولاه سليمان الظافر عطفه، فمنحه رتبة الوزارة، ولقبه بناصر الدولة. ونحن نعرف أن البربر كان لهم في أيام سليمان الغلبة والكلمة العليا، فلما اضطرمت الفتنة وانهارت السلطة المركزية، أعلن إسماعيل استقلاله بما في يده من الأراضي، وجبي الأموال، واتسعت أعماله. وينوه ابن حيان، ببخله وإمساكه في النفقة، ثم يصفه فيما يلي: " ولم يرغب في صنيعة، ولا سارع إلى حسنة، ولا جاد بمعروف، ولا عرّج عليه أديب ولا شاعر، ولا امتدحه ناظم ولا ناثر، ولا استخرج من يده درهم في حق ولا باطل، ولا حظى أحد منه بطائل، وكان ¬_______ (¬1) نقل إلينا ابن حيان هذه المعلومات عن عيسى بن أحمد الرازي، ووردت في القطعة المخطوطة من تاريخ ابن حيان المحفوظة بمكتبة جامع القرويين (لوحة 272 ب). (¬2) وهي بالإسبانية Huete (¬3) ورد ذلك في المقتبس لابن حيان - قطعة مكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد المنشورة بعناية الأستاذ عبد الرحمن الحجي (بيروت 1965) ص 150.

مع ذلك سعيد الجد، تنقاد إليه دنياه، وتصحبه سعادته، فينال صعاب الأمور بأهون سعيه، وهو كان فرط الملوك في إيثار الفرقة، فاقتدى به من بعده، وأموا في الخلافة نهجه، فصار جرثومة النفاق، ومنه تفجر ينبوع الفتن والمحن " وهكذا كان مؤسس مملكة بني ذى النون (¬1). وكانت طليطلة حينما اضطرمت الفتنة، وانهار سلطان الحكومة المركزية، قد قام بالأمر فيها وضبطها قاضيها أبو بكر يعيش بن محمد بن يعيش الأسدي. بيد أنه يبدو أنه لم يكن منفرداً بالرياسة، وأنه كان يحكم معه جماعة من الرؤساء على نحو ما كانت الجماعة في بدايتها بقرطبة، وكان من هؤلاء ابن مسرّة، وعبد الرحمن ابن متيوه. ثم وقع الخلاف بين الجماعة، وعزل القاضي ابن يعيش، وسار إلى قلعة أيوب وتوفي بها في سنة 418 هـ (¬2). ولما توفي عبد الرحمن بن متيوه، خلفه في الحكم ولده عبد الملك، وأساء السيرة، واضطربت الأمور، فرأى أهل طليطلة أن يتخلصوا من أولئك الزعماء جملة، وبعثوا رسلهم إلى عبد الرحمن ابن ذى النون في شنتبرية يستدعونه لتولي الرياسة، فوجه إليهم ولده إسماعيل، وكان ذلك في سنة 427 هـ (1036 م). وهكذا تولى إسماعيل بن ذى النون حكم طليطلة وأعمالها، وتلقب بالظافر وامتدت رياسته شرقاً حتى قونقة وجنجالة، واعتمد في تدبير الأمور على كبير الجماعة بطليطلة أبي بكر بن الحديدي، وكان عالماً وافر العقل والدهاء، يحظى بتأييد الكثرة الغالبة من أهل المدينة، فكان إسماعيل لا يقطع أمراً دون رأيه ومشورته. ولم يطل أمد اسماعيل في الملك أكثر من بضعة أعوام، إذ توفي في سنة 435 هـ (1043 م). وفي عهده ذاعت قصة ظهور هشام المؤيد، وكان هشام المزعوم هذا بقلعة رباح من أعمال مملكته، فأخرج منها وأخذ إلى إشبيلية، حيث أظهره القاضي ابن عباد، وأخذ له البيعة وأعلن خلافته، حسبما ذكرنا ذلك في موضعه. فخلفه ولده يحيى بن إسماعيل، وتلقب بالمأمون، وسار على سنة أبيه في ¬_______ (¬1) راجع في أصل بني ذى النون ونشأتهم: الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 110 و111، وأعمال الأعلام ص 176 و 177، وابن خلدون ج 4 ص 161. (¬2) ابن بشكوال في الصلة رقم 1520.

تقديم وزيره ابن الحديدي، والاعتماد على رأيه في مهام الشئون. وكان ثمة إلى جانب ابن الحديدي ثلاثة وزراء آخرين، أوصى أبوه إسماعيل بأن يشركهم في رأيه، ويعتمد على عونهم، وهم الحاج بن محقور، وابن لبون، وابن سعيد ابن الفرج (¬1). وفي عهد المأمون اتسعت حدود مملكة طليطلة، وترامت شرقاً حتى بلنسية، وأضحت من أعظم دول الطوائف رقعة وموارد، وساد بها الأمن والرخاء. بيد أن عهد المأمون الذي استطال ثلاثة وثلاثين عاماً، كان في الوقت نفسه مليئاً بالحروب والخصومات، التي اضطرمت بين المأمون، وبين منافسيه القويين ابن هود صاحب سرقسطة والثغر الأعلى، وابن عباد صاحب إشبيلية. ووقع النزاع بادئ بدء بين المأمون، وبين ابن هود جاره من الناحية الشمالية الشرقية. وكانت سلسلة المدن والقلاع الحصينة التي تمتد بين الثغر الأعلى، وبين مملكة طليطلة، منذ قلعة أيوب حتى وادي الحجارة، موضع الاحتكاك بين الفريقين، وكانت مدينة وادي الحجارة بالأخص مثار نزاع بينهما، وبالرغم من أنها كانت من أعمال مملكة طليطلة، إلا أن فريقاً من أهلها كانوا ينزعون إلى الانضواء تحت سلطان سليمان بن هود صاحب سرقسطة، وكان سليمان يعمل على بث الاضطراب فيها، على يد رسله وأعوانه، فلما نضجت دعوته أرسل إليها قوة من جيشه بقيادة ولده وولي عهده أحمد فنازلتها، ثم دخلتها بمعاونة بعض أهلها الضالعين معه، (436 هـ - 1044 م). وما كاد المأمون بن ذى النون يقف على هذا الاعتداء، حتى هرع في قواته إلى وادي الحجارة، ونشبت بينه وبين أحمد بن هود معارك كانت الغلبة فيها لابن هود، فارتد بقواته، وابن هود يطارده حتى حصره في مدينة طلبيرة، الواقعة على نهر التاجه غربي طليطلة، وشدد ابن هود في الضغط على المأمون ومضايقته، ثم كتب إلى أبيه يخبره بما تهيأ له، فكتب إليه أبوه أن يرفع الحصار عن طلبيرة، وأن يترك المأمون وشأنه، فصدع بالأمر، وارتد بقواته عائداً إلى سرقسطة، ونجا المأمون من مأزق شديد الحرج. ولم يشأ المأمون أن يقف عند هذا الحد، بل صمم على متابعة الحرب والانتقام من ابن هود، ففاوض فرناندو الأول ملك قشتالة، وطلب عونه، وتعهد ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 177، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 113.

بأن يقر بسيادته، وأن يؤدى له الجزية (¬1)، فاستجاب فرناندو لدعوته، وبعث سريات من جنده، فعاثت في أراضي ابن هود المتاخمة لقشتالة، وأمعنت فيها تخريباً، وكان ذلك في أوان الصيف والزروع على وشك الحصاد، فقام الجند النصارى بحصدها، ونقلها إلى بلادهم، وجردت المنطقة من سائر الزروع والأقوات، وقتل النصارى، وسبوا ما استطاعوا، ثم عادوا إلى بلادهم، كل ذلك وابن هود ممتنع في حصونه مجتنب للاشتباك مع المعتدين، وانتهز المأمون هذه الفرصة، فأغار بدوره على أراضي ابن هود المتاخمة له وعاث فيها. ورأى المأمون في نفس الوقت أن يقوي أواصر الصداقة مع المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، طمعاً في عونه ونصرته على ابن هود، فوعده ابن عباد بما طلب، وأسفرت المفاوضات بينهما، عن اعتراف المأمون بالدعوة الهشامية، التي احتضنها ابن عباد، ورفضها في البداية إسماعيل بن ذى النون، وأخذت البيعة لهشام المؤيد في طليطلة، ودعى له على منابرها (¬2). بيد أن ابن عباد ما لبث أن شغل بحروبه مع ابن الأفطس، ولم ينل المأمون من عونه شيئاً. وأما ابن هود فإنه ما لبث أن انحدر إلى نفس الطريق الذي انحدر إليه المأمون وسعى بدوره إلى محالفة النصارى، واستعدائهم على خصمه ابن ذى النون، وبعث إلى فرناندو أموالا وتحفاً طائلة، على أن يغير على أراضي ابن ذى النون، فاستجاب فرناندو إلى دعوته، وبعث سرياته فاخترقت أراضي طليطلة شمالا، حتى وادي الحجارة. وقلعة النهر (قلعة هنارس)، وأمعنت فيها عيثاً وتخريباً، فاستشاط المأمون غيظاً، والتمس محالفة غرسية ملك نافار أخى فرناندو ملك قشتالة، وبعث إليه بالأموال والتحف، فأغار بقواته على أراضي ابن هود المتاخمة له، فيما بين تطيلة ووشقة وعاث فيها، وافتتح منها قلعة قلهرّة (437 هـ - 1045 م)، وكانت مما افتتحه المنصور بن أبي عامر من أعمال نافار الجنوبية، وقام فرناندو ملك قشتالة مرة أخرى بالإغارة على أحواز طليطلة وتخريبها. وهكذا استباح النصارى أراضي المملكتين الإسلاميتين، بمساعي ابن هود وابن ذى النون الذميمة، وانهارت فيها خطوط الدفاع، وساءت أحوال المسلمين إلى ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 278، وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas, p.53 (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 220.

أبعد حد. واضطر أهل طليطلة أن يبعثوا إلى سليمان بن هود بعض كبرائهم، سعياً إلى طلب الصلح والمهادنة، فقصدوا إليه في سرقسطة فناشدوه السلم، وحذروه من العواقب، ومما تهيأ للنصارى من الظفر، فتظاهر بالقبول، وكذلك أبدى ابن ذى النون ميله إلى المهادنة والصلح، وصرف حلفاءه النصارى إلى بلادهم. على أن ابن هود لم يكف عن خطته، فخرج بقواته مع سرية من حلفائه النصارى وهاجم مدينة سالم، وهي نهاية أعمال طليطلة المتاخمة له، وقتل معظم المدافعين عنها، ثم استولى على سائر الحصون التي كان قد انتزعها منه المأمون، وكان معه في تلك الغزوة، عبد الرحمن بن إسماعيل بن ذى النون، أخو المأمون الثائر عليه يدله على عوراته وثغراته. وهرع المأمون بقواته إلى مدينة سالم للدفاع عنها، وانتهز النصارى من حلفاء ابن هود هذه الفرصة، فعاثوا في أراضي طليطلة كرة أخرى، واشتد الخراب والكرب بأهل طليطلة، فبعثوا إلى فرناندو يسألونه الصلح والمهادنة، فطلب منهم أموالا كثيرة، واشترط شروطاً فادحة، عجزوا عن قبولها، وبعثوا يقولون له، لو كانت لدينا هذه الأموال، لأنفقناها على البربر، واستدعيناهم للدفاع عنا، فرد عليهم فرناندو بما يأتي، وهي أقوال تمثل سياسة اسبانيا النصرانية نحو الأندلس أصدق تمثيل: " أما استدعاؤكم البرابرة، فأمر تكثرون به علينا، وتهددونا به، ولا تقدرون عليه، مع عداوتهم لكم، ونحن قد صمدنا إليكم ما نبالي من أتانا منكم، فإنما نطلب بلادنا التي غلبتمونا عليها قديماً في أول أمركم، فقد سكنتموها ما قضي لكم، وقد نصرنا الآن عليكم برداءتكم، فارحلوا إلى عدوتكم، واتركوا لنا بلادنا فلا خير لكم في سكناكم معنا بعد اليوم، ولن نرجع عنكم، أو يحكم الله بيننا وبينكم " (¬1). وفي الوقت نفسه كانت قوات غرسية ملك نافار، حليف ابن ذى النون، تغير على أراضي ابن هود، وتعيث فيها. وهكذا استمرت الفتنة والنضال بين "هذين الأميرين المشئومين على المسلمين" ثلاثة أعوام من سنة 435 إلى آخر سنة 438 هـ، ولم تنقطع إلا بموت سليمان بن هود في العام ذاته، وكانت فتنة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 282.

وضيعة كبيرة، ونموذجاً صارخاً لتلك الحروب والمنافسات الإنتحارية المدمرة التي انحدر إليها ملوك الطوائف (¬1). وتنفس المأمون بن ذى النون الصعداء لوفاة خصمه الألد، وهدأت الأمور في الثغر الأعلى، إذ قسمت مملكة ابن هود بين أولاده الخمسة كما سيجىء، بيد أن المأمون لم يلتزم السلم والهدوء طويلا، بل اتجه إلى مخاصمة بني الأفطس جيرانه من الغرب، ونشبت بينه وبين المظفر ابن الأفطس صاحب بطليوس سلسلة من المعارك المحلية، لم تسفر عن أية نتائج ذات شأن. وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن هذه المعارك، قد نشبت بين الفريقين على الأرجح بعد سنة 443 هـ (1051 م). وكان فرناندو ملك قشتالة، قد عاد في تلك الآونة إلى الإغارة على أراضي مملكة طليطلة، ولكن في تلك المرة لحسابه الخاص، وكان هذا الملك القوي، يطمح إلى إخضاع ممالك الطوائف الضعيفة المتخاصمة، أو على الأقل إلى أن يرهقها بمطالبه في أداء الجزية، ثم يتوصل باستصفاء أموالها إلى إضعافها. ففي سنة 1062 م (454 هـ) خرج في جيش قوي من الفرسان والرماة، وانقض على أراضي مملكة طليطلة الشمالية، فخربها وعاث فيها عيثاً شديداً، ولم يجد المأمون في النهاية بداً من أن يذعن إلى طلب الصلح، وأن يتعهد بأداء الجزية. وكان من أهم أعمال المأمون بعد ذلك، استيلاؤه على بلنسية وأعمالها. وكانت بلنسية يومئذ تحت حكم عبد الملك بن عبد العزيز بن أبي عامر، وهو حفيد للمنصور وكان قد ولي حكمها على أثر وفاة أبيه عبد العزيز في آخر سنة 452 هـ، وكان صهراً للمأمون بن ذى النون، تزوج ابنته عقب وفاة أخيه زوجها الأول، فأهانها وأساء عشرتها، لما كان عليه من ذميم الصفات، والخلاعة، والانهماك في الشراب، والانحطاط في مهاوي اللذات الوضيعة. فحقد عليه المأمون وأضمر له الشر، وكانت ثمة أسباب سياسية أخرى لغضب المأمون على صهره، خلاصتها أنه طلب إليه أن يعاونه بالجند فاعتذر عبد الملك بأنه لا يستطيع بذل مثل هذه المعاونة، نظراً لتحالف الفتيان العامريين أمراء قسطلونة وشاطبة ومربيطر ضده، وتربصهم به. فاعتزم المأمون أمره ضد صهره، وهنالك في استيلاء ¬_______ (¬1) راجع في حروب المأمون وابن هود، البيان المغرب ج 3 ص 278 - 282، وأعمال الأعلام ص 178. وراجع دوزي: Hist. des Musulmans d'Espagne V.III.p. 74-75

المأمون على بلنسية روايتان الأولى، أنه قدم إلى بلنسية زائراً لصهره، فاستقبله عبد الملك هو وغلمانه وعبيده بقصره، فأقام لديه أياماً، ثم دبر له في ذات ليلة كميناً، فقبض عليه وعلى ابنه، وأخرجهما ليلا إلى بلدة شنت برية، واستولى بذلك على بلنسية بأيسر أمر. وأما الرواية الثانية فتقول لنا إن المأمون استعد سراً لغزو بلنسية، واستعان بفرقة من الجند النصارى أمده بها حليفه فرناندو الأول صاحب السيادة الاسمية عليه، وأن القوات المتحالفة دهمت بلنسية، والبلنسيون مثل أميرهم غافلون غارقون في اللهو واللعب، فلم يستطع البلنسيون دفاعاً، ومزقت قواتهم، وقتل منهم عدد جم، وأسر عبد الملك بن أبي عامر وآله، ولم ينقذ حياته سوى تدخل زوجه ابنة المأمون. وتسمي الرواية هذه الموقعة بموقعة بطرنة، وهي بلدة من ضواحي بلنسية، وتنسب وقوعها إلى سنة 455 هـ أو 457 هـ أو 458 هـ، بيد أن المرجح أنها وقعت في ذي الحجة سنة 457 هـ (أكتوبر سنة 1065 م). وتختلف الرواية في مصير عبد الملك بن أبي عامر، فيقال إن صهره المأمون اعتقله في شنت برية أو قلعة إقليش، أو قلعة قونقة (¬1). ولم يمض قليل على ذلك حتى توفي فرناندو ملك قشتالة (ديسمبر 1065)، وثارت بين أولاده الثلاثة سانشو ملك قشتالة، وألفونسو ملك ليون، وغرسية ملك جليقية، حرب أهلية استمرت أعواماً، وانتهت مرحلتها الأولى في سنة 1071 م، بانتصار سانشو واغتصابه ملك أخويه، والتجأ غرسية إلى حماية ابن عباد ملك إشبيلية، والتجأ ألفونسو إلى حماية المأمون بن ذى النون، وعاش في بلاط طليطلة زهاء تسعة أشهر معززاً مكرماً، حتى توفي أخوه سانشو قتيلا تحت أسوار سمورة، حينما أراد انتزاعها من يد أخته أوراكا، فغادر طليطلة إلى ليون واسترد عرشه. ويقال إنه حينما وصل إليه نبأ وفاة أخيه وهو بطليطلة أخفاه، وأراد أن يغادرها سراً، ففطن المأمون إلى ذلك، وحاول اعتقاله، ولكنه استطاع الفرار. وعلى أي حال، فإن ألفونسو، استطاع خلال إقامته بطليطلة في ضيافة صديقه وحاميه المأمون، أن يدرس أحوالها وأحوال بلاطها، ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 252 و 253 و 261 و 267 و 303، ودوزي: Hist. des Musulmans d'Espagne V.III.p. 79 , وراجع أيضاً اشباخ: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين (الطبعة الثانية سنة 1958) ص 49.

ومواطن ضعفها، وأن يستغل ذلك فيما بعد، في تدبير القضاء على مملكة المحسن إليه (¬1). وقد أشرنا من قبل عند الكلام على دولة بني جهور بقرطبة، إلى ما حدث من محاولة المأمون بن ذى النون غزو قرطبة، وانتزاعها من يد الجهاورة، وكيف استغاث عبد الملك بن جهور بصديقه ابن عباد، فبعث إليه بالمدد تحت إمرة قائديه خلف بن نجاح ومحمد بن مرتين، ورد المأمون عن المدينة، ولكن قوات ابن عباد استولت عليها بطريقة غادرة، وفقاً لخطة سرية وضعها المعتمد ابن عباد من قبل، وانتهى الأمر بالقضاء على دولة الجهاورة (462 هـ - 1070 م) وندب المعتمد لحكمها ولده الحاجب سراج الدولة عباداً بن محمد بن عباد، وأبقى معه حامية بقيادة ابن مرتين. ولكن المأمون بن ذى النون لم يقف عند هذا الحد، ولبث يتحين الفرصة لتنفيذ مشروعه في الاستيلاء على قرطبة، وهنا لجأ إلى سلاح التآمر والدس، فاتصل برجل من رجاله يدعى حكم بن عكاشة، وكان مغامراً وافر الجرأة، وكان من قبل من معاوني ابن السقاء، وزير بني جهور، فلما قتل ابن السقاء، قبض عليه فيمن قبض عليهم، وزج إلى السجن، ففر من محبسه ولحق بالمأمون ابن ذى النون، فاستخدمه وولاه أحد الحصون القريبة من قرطبة، وكان "شهماً صارماً". وتفاهم المأمون مع ابن عكاشة، على تدبير مؤامرة للفتك بالعباديين وأميرهم، والاستيلاء على قرطبة. فوضع ابن عكاشة خطته، ولبث يدبر أمره، ويحشد إلى جانبه من استطاع من المغامرين، وفي ذات ليلة دخل المدينة في جمع من شيعته بواسطة رجال من أنصاره فتحوا له الأبواب، ولم يفطن قائد العباديين ابن مرتين إلى ما يحدث من حوله، وكان رجلا متهاوناً، عاكفاً على لهوه وشرابه. وقصد المغيرون دار ابن جهور حيث كان يقيم سراج الدولة، ودهموه على غرة، فلقيهم في نفر من رجاله، وقتل مدافعاً عن نفسه. ثم قصدوا بعد ذلك إلى دار ابن مرتين، وكان منكباً على لهوه، فلما وقف على الخبر، فر تحت جنح الظلام، ولكنه أخذ بعد أيام قلائل وقتل. وفي صباح اليوم التالي ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب ج 2 ص 232، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 124، وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas p. 53

كانت خطة ابن عكاشة قد كللت بالنجاح، فبسط حكمه على المدينة، وانضم إليه كثيرون من الدهماء، ودعا الناس إلى بيعة المأمون بن ذى النون وطاعته، وبعث إليه برأس سراج الدولة. وكان المأمون يقيم يومئذ في بلنسية، فقدم على عجل، ودخل قرطبة في موكب عظيم، وذلك في أواخر جمادى الآخرة سنة 467 هـ (1075 م). ولكنه لم يلبث طويلا حتى مرض وتوفي بعد ذلك بأشهر قلائل، في أواخر ذي القعدة من نفس العام. واحتمل جثمانه إلى طليطلة ودفن بها. ويقال إنه توفي مسموماً. وتولى ابن عكاشة من بعده حكم قرطبة، نائباً عن يحيى القادر بن ذى النون حفيد المأمون وخلفه في حكم طليطلة. وكانت وفاة المأمون إيذاناً بتطور الحوادث. ذلك أن المعتمد بن عباد، مذ قتل ولده وضاعت قرطبة، كان يضطرم رغبة في استرداد المدينة والانتقام لولده، وكان جماعة من أهل قرطبة قد بعثوا إليه يدعونه للقدوم، فما كاد المأمون يختفي من الميدان، حتى زحف على قرطبة في قواته، وأدرك ابن عكاشة أن لا طاقة له بالمقاومة، ففر من المدينة، ودخلها جند ابن عباد على الأثر، وبعث المعتمد في أثر ابن عكاشة سرية من الفرسان طاردته حتى ظفرت به وقتلته، وجىء به فصلب مع كلب إمعاناً في الزراية به، وفر ولده حريز بن عكاشة إلى طليطلة، فولاه يحيى بن ذى النون حاكماً لقلعة رباح (¬1)، وكان حريز هذا شاعراً مطبوعاً ذكره الفتح في " مطمح الأنفس " (¬2). وكان المأمون بن ذى النون من أعظم ملوك الطوائف، وأطولهم عهداً، إذ حكم ثلاثة وثلاثين عاماً، وامتدت رقعة مملكة طليطلة في عهده حتى وصلت شرقاً إلى بلنسية، وازدهرت وعمها الرخاء. وجمع المأمون ثروات طائلة، وابتنى بعاصمته قصوراً باذخة اشتهرت في ذلك العصر بروعتها وفخامتها. وكان منها مجلسه الشهير المسمى " المكرم " كان آية في الروعة والبهاء. وقد نقل إلينا ابن حيان عن ابن جابر، وقد كان من شهوده في حفلة من حفلات المأمون الباذخة، بعض أوصافه. قال: " وكنت ممن أذهلته فتنة ذلك المجلس، وأغرب ما قيد لحظي ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 158 و 159، وابن خلدون ج 4 ص 161، وراجع دوزي: Hist.Abbadidarum V.II.p. 122-126 (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 196. والقاهرة ج 2 ص 179.

من بهي زخرفه، الذي كاد يحبس عيني عن الترقي عنه، إلى ما فوقه، إزاره الرائع الدائر بأسِّه حيث دار، وهو متخذ من رفيع المرمر الأبيض المسنون، الزارية صفحاته بالعاج في صدق الملاسة، ونصاعة التلوين، قد خرمت في جثمانه صور البهائم وأطيار وأشجار ذات ثمار، وقد تعلق كثير من تلك التماثيل المصورة بما فيها من أفنان أشجار وأشكال الثمر. وكل صورة منها منفردة عن صاحبتها، متميزة من شكلها، تكاد تقيد البصر عن التعلي إلى ما فوقها. قد فصل هذا الإزار عما فوقه كتاب نقش عريض التقدير، مخرم محفور، دائر بالمجلس الجليل من داخله، مرقوم كله بأشعار حسان، قد تخيرت في أماديح مخترعه المأمون. وفوق هذا الكتاب الفاصل في هذا المجلس، بحور منتظمة من الزجاج الملون الملبس بالذهب الإبريز، وقد أجريت فيه أشكال حيوان وأطيار، وصور أنعام وأشجار، يذهل الألباب ويقيد الأبصار. وأرض هذه البحار مدحوة من أوراق الذهب الإبريز، مصورة بأمثال تلك التصاوير من الحيوان والأشجار بأتقن تصوير، وأبدع تقدير ". ثم قال: " ولهذه الدار بحيرتان، قد نصت على أركانهما صور أسود مصنوعة من الذهب الإبريز، أحكم صياغة تتخيل لمتأملها، كالحة الوجوه، فاغرة الشدوق، ينساب من أفواهها نحو البحيرتين الماء، هوناً كرشيش القطر أو سحالة اللجين. وقد وضع في قعر كل بحيرة منها حوض رخام يسمى المذبح، محفور من رفيع المرمر، كبير الجرم، غريب الشكل، بديع النقش، قد أبرزت في جنباته، صور حيوان وأطيار وأشجار ... ". وذكر ابن بدرون أن المأمون يحيى بن ذى النون صاحب طليطلة، بنى بها قصراً تأنق في بنائه، وأنفق فيه مالا كثيراً، وصنع فيه بحيرة، وبنى في وسطها قبة، وسيق الماء إلى رأس القبة على تدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل على القبة حواليها محيطاً بها، متصلا بعضه ببعض، فكانت القبة في غلالة من ماء سكب لا يفتر، والمأمون قاعد فيها لا يمسه من الماء شىء، ولو شاء أن يوقد فيها الشمع لفعل (¬1). ¬_______ (¬1) نقله نفح الطيب ج 2 ص 523. وراجع " سراج الملوك " للطرطوشي (القاهرة) ص 45.

ونقل إلينا ابن حيان أيضاً، عن ابن جابر أوصاف ذلك الحفل الباهر الذي أقامه المأمون، احتفالا بختان حفيده يحيى، الذي تولى الحكم فيما بعد باسم القادر، وفيه من صور البذخ والإغداق والسعة ما ينم عن الغنى الطائل، الذي حققه بنو ذو النون، واتسم به بلاطهم. بيد أن المأمون كان بالرغم من ذلك ينسب إلى التقتير والشح، وكان قليل من الشعراء يقصدون إليه للمديح " لقلة نائله، وتفاهة طائله " على حد قول ابن بسام (¬1). والواقع أنه لم يكن ببلاط بني ذى النون للشعر والأدب دولة زاهرة، كما كان الشأن في إشبيلية وألمرية وبطليوس. بيد أننا نجد مع ذلك أكابر شعراء العصر وعلمائه يعيشون في ظل المأمون، وكان من هؤلاء شاعره ابن أرفع رأس، صاحب الموشحات المشهورة، والعلامة الرياضي ابن سعيد مؤلف تاريخ العلوم المسمى "طبقات الأمم"، وكان يلقي دروسه في المسجد الجامع، والعلامة النباتي ابن بصّال الطليطلي. وقد رأينا فيما تقدم كيف ينوه ابن حيان أيضاً، بما جبل عليه مؤسس دولة بني ذى النون اسماعيل، من البخل والتقتير، ومع ذلك فإنه مما يلفت النظر حقاً، أن ابن حيان لم يجد من يهدي إليه مؤلفه التاريخي الضخم، سوى المأمون بن ذى النون، إذ يقول لنا في مقدمته إنه كان بعد تأليفه ينوي الاستئثار به لنفسه، وأن يخبئه لولده ضناً بفوائده الجمة على من تنكب إخماده به إلى ذمه ومنقصته، ثم يقول: " إلى أن رأيت زفافه إلى ذى خطبة سنية، أتتني على بعد الدار، أكرم خاطب، وأسنى ذى همة، الأمير المؤثل الإمارة، المأمون ذى المجدين، الكريم الطرفين يحيى بن ذى النون " (¬2). - 2 - وخلف المأمون حفيده يحيى بن ذى النون الملقب بالقادر. ذلك أن هشاماً ولد المأمون، توفي قبل وفاته أو أنه قد حكم بضعة أشهر فقط ثم توفي (¬3). وكان القادر ¬_______ (¬1) راجع ما نقله ابن بسام في الذخيرة عن ابن حيان، في أوصاف الحفلات والقصور المأمونية، القسم الرابع المجلد الأول ص 99 - 104 و 114. (¬2) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 88. (¬3) راجع ابن خلدون ج 4 ص 161، وأعمال الأعلام ص 171. وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas (Cit.Cronica General p. 54,nota)

فتى حدثاً، قليل الخبرة والتجارب قد ربي في أحجار النساء، ونشأ بين الخصيان والغانيات، فغلب على أمره العبيد والموالي. وكان يحكم مملكة عظيمة ولكن مفككة. وكان المأمون قد قسم الأعمال بين وزيريه الأثيرين، وهما ابن الفرج والفقيه أبو بكر بن الحديدي، وكان الأول يختص بتدبير الأجناد، والنظر في طبقات القواد، والشئون السلطانية، والأعمال الديوانية، ويختص الثاني بالنظر في الشئون المالية وشئون الرعية، وإبداء الرأي والمشورة. وأوصى المأمون قبل وفاته حفيده، بأنه متى اضطلع بالحكم، أن يعتمد على عون ابن الحديدي ونصحه، وأن يأخذ رأيه في كل أمر، واتخذ العهود الوثيقة على ابن الحديدي، أن يخلص النصح لحفيده، وأن يشد أزره بكل ما وسع. بيد أنه لم يمض سوى قليل، حتى بدأ نفر من خاصة القادر يسعون لديه في حق ابن الحديدي، ويوغرون صدره عليه، ويقنعونه بأنه لا يمكن أن يحكم بصورة حقيقية، حتى يتخلص من نير ابن الحديدي وطغيانه؛ وكان المأمون قد قبض من قبل بإيعاز ابن الحديدي على جماعة من أعيان طليطلة، واعتقلهم بالمعتقل خشية انتقاضهم فرأى القادر بعد أن استقرت لديه فكرة التخلص من ابن الحديدي، أن يستظهر بهم عليه، فأطلقهم واستدعاهم إلى مجلسه، فلما حضر ابن الحديدي ورآهم، استشعر الخطر، وحاول أن يلوذ بحماية القادر، فغادر القادر المكان، وفتك الحضور بابن الحديدي، ونهبت دوره، وكان ذلك في أوائل المحرم سنة 468 هـ (1076 م). ولم يلبث القادر أن أدرك سقطته؛ وأخذ يجني ثمار جريمته. فقد وهم أنه تخلص من نير ابن الحديدي، ولكنه وقع في براثن تلك الطغمة التي آزرته في الجريمة، وبدأ أولئك الأعيان الحاقدون، خصوم جده القدماء، يحيكون له الدسائس، ويضعون الصعاب في طريقه، ويثيرون الشعب ضده، حتى ضعف سلطانه، وبدأت أعراض الثورة تبدو في النواحي. وكان ابن هود صاحب سرقسطة، يرهقه بمطالبه وغاراته، ويستعين ضده بالجند النصارى، حتى انتهى بأن انتزع منه مدينة شنتبرية. ومن جهة أخرى فقد ثار أبو بكر بن عبد العزيز ببلنسية وخلع طاعة بني ذى النون، ونادى بنفسه أميراً مستقلا، فداخله ابن هود وخطب إليه ابنته أملا في أن يستطيع بذلك التغلب على بلنسية. وكادت مدينة

قونقة تسقط في يد سانشو راميرز ملك أراجون، لولا أن افتداها أهلها بمبلغ كبير من المال. وحاول القادر أن يرد خصومه، فبعث جنده تحت إمرة الفتى بشير لمقاتلة ابن هود وراميرز، ولكنهما انصرفا دون قتال. وعندئذ اضطر القادر أن يتجه ببصره إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، وأن يلتمس عونه وحمايته. وكان المأمون قد اعترف بطاعته من قبل، وقبل تأدية الجزية. وحذا القادر بالطبع حذوه، ولكن ملك قشتالة أخذ عندئذ يشتط في مطالبه، ويطالب القادر بالمال تباعاً، وبتسليم بعض حصونه القريبة من الحدود، وقد تسلم منها بالفعل حصون سرية وفتورية وقنالش، كل ذلك والقادر عاجز عن رده، مرغم على إرضائه، حتى كادت خزائنه تنضب، وكان خصومه في الداخل من جهة أخرى يدبرون السعي لإسقاطه. وأخيراً اضطرمت طليطلة بالثورة، فاضطر القادر أن يلوذ بالفرار، وأن يلجأ مع أهله وولده إلى حصن من حصونه الشرقية، هو حصن وبذة (472 هـ) وألفى أهل طليطلة أنفسهم بلا أمير، ولا حكومة تقي المدينة شر الفوضى، فرأى الجماعة منهم أن يستدعوا المتوكل بن الأفطس أمير بطليوس، ليتولى أمرهم، وقبل المتوكل هذه المهمة كارهاً، وقدم إلى طليطلة، وقام بالأمر فيها. وفي تلك الأثناء سار القادر بن ذى النون من ملجئه إلى مدينة قونقة، وكتب إلى ألفونسو ملك قشتالة يذكره بسالف الود بينه وبين جده المأمون، وما كان للمأمون من فضل في عونه وإغاثته، ويطلب منه العون في محنته. فاستجاب ألفونسو لدعوته، وهو يزمع في قرارة نفسه، أن ينتهز كل فرصة سانحة، وسار معه إلى طليطلة في سَريَّة من فرسانه. وكان المتوكل بن الأفطس خلال ذلك يجد في اقتناص كل ما يستطيع اقتناصه من أسلاب القادر، من أثاث وفراش وآنية وسلاح وكتب وغيرها، حتى بعث منها إلى بطليوس المقادير الجمة. فلما شعر بحركة ألفونسو ومقدم القادر، غادر طليطلة مسرعاً إلى حاضرته، وذلك بعد أن قضي في حكمها زهاء عشرة أشهر، ويقال إن ألفونسو حاصر طليطلة بقواته، واضطر ابن الأفطس أن يغادرها بطريق الفرار (إبريل 1080) (¬1). ¬_______ (¬1) ابن الخزرجي في كتاب الاكتفاء في أخبار الخلفاء، ونقله دوزي في: Hist.Abba-didarum V.II.p. 16

ودخل القادر طليطلة في حمى ألفونسو وجنده النصارى، بعد أن تصدى له أهلها وحاولوا رده بالقوة، فنكلت بهم الجند النصارى، ومزقوهم شر ممزق، وجلس القادر مرة أخرى على عرشه المضطرب الواهي، والفوضى تسود المدينة، وأهلها في كدر ووجوم، يتوقعون من تلك الحال سوء المصير، وكان ذلك في آخر سنة 474 هـ (1081 م) (¬1). - 3 - والواقع أن كل شىء كان ينذر بوقوع النكبة المرتقبة. ذلك أن ألفونسو السادس ملك قشتالة كان يدبر خطته الكبرى للاستيلاء على طليطلة، وكانت وهي في يد ملكها الضعيف المتخاذل، تبدو له ثمرة دانية القطوف، بعد أن غدا القادر في يده شبه أسيره. وتقول لنا الروايات القشتالية إن القادر كان حينما طلب من ألفونسو معاونته على استرداد المدينة، قد تعهد له بأن يحكمها باسمه، وأن يسلمها إليه متى شاء، على أن يعاونه على استرداد بلنسية لتكون مقر إمارته. بيد أن الحوادث التالية، وموقف القادر في الدفاع عن مدينته، يجعلنا نشك في أنه قطع مثل هذا العهد. وعلى أي حال فإن سقوط طليطلة في يد القشتاليين، لم يحدث بدون ممهدات ووقائع عنيفة. وكان ألفونسو إلى جانب خططه العسكرية، قد مهد لمشروعه بأعمال السياسة. وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، لما رأى من استفحال قوة ألفونسو، وتغلبه على سائر ممالك الطوائف المتاخمة لمملكته، قد خشي أن ينساب تيار الغزو إلى أراضيه، ورأى أن عقد المهادنة والصلح مع ملك قشتالة، هو خير ضمان لاتقاء شره، وسلامة مملكته. فبعث وزيره البارع ابن عمار إلى ليون ليفاوض ملك قشتالة، وانتهى ابن عمار إلى أن عقد معه معاهدة، يتعهد فيها ملك قشتالة بأن يعاون ابن عباد بالجند المرتزقة ضد سائر أعدائه من الأمراء المسلمين، ويتعهد ابن عباد مقابل ذلك، بأن يؤدي إلى ملك قشتالة جزية كبيرة، ويتعهد بالأخص بما هو أهم، وهو أن يتركه حراً طليقاً في أعماله ضد طليطلة، وألا يعترض مشروعه في الاستيلاء عليها. وربما كان في الرسالة التي بعث بها المعتمد فيما بعد إلى ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 124 - 127.

ألفونسو السادس ما يؤيد هذه الرواية، حيث يعرب المعتمد عن ندمه لمسالمة ملك قشتالة. وقعوده عن نصرة إخوانه. وتزيد الروايات القشتالية على ذلك أن المعتمد ابن عباد قدم في هذه المناسبة أو في مناسبة لاحقة، إحدى بناته لتكون زوجة أو حظية لملك قشتالة، وهي التي تعرفها التواريخ القشتالية "بزائدة" وذلك لكي يكون مهرها ما استولى عليه من أراضي طليطلة، حتى لا ينزع النصارى منه هذه الأراضي، وهي قصة سوف نتناولها في موضعها، عند الكلام على الفتح المرابطي لمملكة إشبيلية. وفي هذا الوقت كان معظم ملوك الطوائف، قد خضعوا لوعيد ملك قشتالة، وتعهدوا بأن يؤدوا له الجزية، إلا ملك بطليوس الشهم عمر المتوكل، حسبما ذكرنا ذلك في موضعه، فكان ألفونسو السادس بذلك على يقين من أن الجو قد أضحى ممهداً لتنفيذ مشروعه، وأنه لن يجرأ أحد أن يقف في طريقه. وكان مما يقوي أمله أن أهل طليطلة، لم يكونوا على وفاق فيما بين أنفسهم، وأن حزباً قوياً منهم يناصر سياسته وأطماعه، ويشجعه على العمل، وكانت الغزوات والحملات المتوالية، التي شنها ألفونسو على أراضي طليطلة، حتى ذلك الحين، سواء لحسابه الخاص، أو بحجة معاونة القادر ضد الثوار عليه، قد نالت من هاتيك السهول، وخربت كثيراًَ من ربوعها النضرة، وأشاعت فيها الضيق والحاجة، وأخذت العاصمة طليطلة، تتأثر بهذا الضغط على مواردها، بيد أن ألفونسو كان يزمع أن يستمر في حملاته المخربة حتى يتم تجريد المدينة العظمى من سائر مواردها. وقد بدأت هذه الحملات الجديدة منذ سنة 474 هـ (1081 م)، أي مذ عاد القادر إلى عرشه، واستمرت أربع سنوات كاملة، وكانت تنظم بتواطىء الحزب الموالي من أهل طليطلة، وهو الحزب الذي تصفه الرواية القشتالية بالحزب " المدجّني " أي الموالي لملك النصارى، وفي كل عام يجتاح ألفونسو بقواته أراضي طليطلة من سائر جنباتها، ويخرب الضياع، ويقطع الأشجار، ويبيد الزروع، ويسبي الذرية، ولا يجد أمامه من يرده عن ذلك العيث. وكان من الواضح أن هذه الأعمال المدمرة، سوف تنتهي بالقضاء على كل موارد طليطلة، وبتجريدها من وسائل الدفاع، وهو ما كان يرمي إليه ملك النصارى. وكان موقف ملوك الطوائف في تلك الآونة العصيبة من حياة اسبانيا المسلمة،

موقفاً يثير الألم والحسرة معاً. فقد كان أعظمهم وأقواهم المعتمد بن عباد، بعد أن تفاهم مع ألفونسو السادس، على تركه وشأنه في مشاريعه نحو طليطلة، مشغولا بمحاربة عبد الله بن بلقِّين بن باديس صاحب غرناطة. وكان المقتدر بن هود أقوى الأمراء المتاخمين لمملكة طليطلة من ناحية الشمال والشرق، مشغولا بنضاله المستمر ضد هجمات ملك أراجون وأمراء برشلونة. وكانت دول الطوائف الشرقية والجنوبية، بعيدة عن ميدان الخطر، لا تستطيع حتى إذا شاءت، لبعد الشقة، أن تقوم بإنجاد طليطلة بصورة ناجعة. وهكذا عدمت طليطلة كل مصدر للعون الحقيقي، كل ذلك والموقف يتحرج، وألفونسو السادس ماض في غزواته المدمرة، حتى أضحت سهول طليطلة كلها خراباً يباباً. ولم يكن يخفى على عقلاء المسلمين أن الموقف عصيب، وأن سقوط طليطلة إحدى قواعد الأندلس العظمى في يد قشتالة، إنما هو نذير السقوط النهائي، وأن انهيار الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية، إنما هو بداية انهيار الصرح كله، فبادر جماعة منهم إلى الحث على الاتحاد واجتماع الكلمة إزاء الخطر المشترك، ونهض القاضي العلامة أبو الوليد الباجي، بإشارة المتوكل بن الأفطس، حسبما تقدم، فطاف بالولايات والقواعد الأندلسية صائحاً منذراً، محذراً من عواقب التفرق، وهو يهيب بملوك الطوائف وشعوبها، أن يبادروا إلى نجدة طليطلة، مؤكداً أن ملك قشتالة سوف يسحق دول الطوائف كلها، واحدة بعد الأخرى. ولكن جهود أولئك الرسل العقلاء الذين كانوا يستشقون ببصرهم الثاقب، ما يضمره المستقبل من ويل، ذهبت كلها سدى، وغلبت الأطماع والأهواء الشخصية، على كل تفكير سليم ومبدأ حكيم، ولبث ملك إشبيلية وهو أولى وأقرب من تقع عليه تبعة الإنجاد، يشهد تفاقم الخطب جامداً معرضاً، وكل همه أن يحتفظ بما انتزعه من أراضي مملكة طليطلة الجنوبية، ولم يتقدم لإنجاد القادر وإنجاد أهل طليطلة، سوى أمير بطليوس الشهم عمر المتوكل بن الأفطس، فقد نزل إلى ميدان النضال ضد ألفونسو السادس، وحاول مدافعته، فبعث ولده الفضل والي ماردة في جيش قوي، ليحاول رد ألفونسو عن طليطلة. ولكنه لم يستطع مغالبة قوى النصارى المتفوقة عليه في العدد والعدة، فارتد آسفاً بعد أن خاض معارك دامية. وكان المتوكل قد بذل مثل هذه المحاولة قبل ذلك ببضعة أعوام في سنة 471 هـ، وتغلب عليه

أيضاً ألفونسو السادس، وانتزع منه مدينة قورية من أملاكه الشمالية المجاورة لأراضي طليطلة. وهكذا تركت المدينة المنكوبة لمصيرها. وفي خريف سنة 477 هـ (1084 م) اقترب ألفونسو السادس بقواته من المدينة، ونزل بالمنية المسورة الواقعة في منحنى نهر التاجُه، وهي المنية الشهيرة التي كان المأمون بن ذى النون قد زودها بالقصور الفخمة والبساتين اليانعة، وجعل منها جنة يخلد إليها أيام أنسه ولهوه، وهي التي تعرفها الرواية القشتالية ببستان الملك Huerta del Rey. ويقول ابن بسام في وصفها " المنية المسورة، التي كان المأمون يحشد إليها كل حسن، ويباهي بها جنة عدن " (¬1). وضرب ألفونسو الحصار حول طليطلة. ثم دخل الشتاء, وشحت الأقوات، واشتد الأمر بأهل المدينة. وكان موقف القادر بن ذى النون مريباً، ولم يكن دون شك متفقاً في الشعور مع الحزب المناوىء لملك قشتالة المتشدد في مقاومته، وكان جماعة من هؤلاء يعملون بكل ما وسعوا لإطالة أمد المقاومة، عسى أن يمل ملك قشتالة ويخبو عزمه، أو أن يتقدم لإنجادهم أحد. وكان الأمر يشتد بالمدينة المحصورة يوماً عن يوم، حتى تحرج الموقف, واضطر الزعماء والقادة بالاتفاق مع القادر أن يرسلوا إلى ملك قشتالة وفداً للتحدث في أمر الصلح، فأبى أن يستقبلهم، واستقبلهم وزيره سسنندو (ششنند). وكان هذا الوزير في الأصل من النصارى المستعربين، أسر حدثاً وربي في بلاط إشبيلية، وظهر أيام المعتضد بن عباد، وسفر بينه وبين فرناندو ملك قشتالة، ثم نزح إلى جلِّيقية، وخدم فرناندو، ثم من بعده ولده ألفونسو، وكان داهية ذا براعة فائقة، فانتهى بأن وطد صولة ألفونسو لدى معظم ملوك الطوائف، والتزموا بأداء الجزية. فلما قصد إليه وفد طليطلة استمع إليهم، وأبدى أنه لا فائدة من المفاوضة، وأنه لا أمل بأن يتزحزح الملك النصراني عن موقفه قيد شعرة، وأنه لابد من تسليم المدينة. ويقول لنا ابن بسام في هذه المناسبة إن سسنندو أدخل زعماء طليطلة لدى مليكه، وأن ألفونسو حين أفضوا إليه أنهم ينتظرون العون والإنجاد من بعض ملوك الطوائف، أنبهم وسخر منهم، واستدعى من خيامه ¬_______ (¬1) ابن بسام في الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 128. ويقوم اليوم مكانها حصن سان سرفاندو San Servando

سفراء ملوك الطوائف، وقد كانوا جميعاً يومئذ لديه يسعون إلى خطب وده، ويقدمون إليه الأموال، وأن زعماء طليطلة خرجوا من لدنه، يتعثرون في أذيالهم، وقد فقدوا كل أمل وأيقنوا بسوء المصير (¬1). وكان قد مضى على حصار القشتاليين للمدينة يومئذ زهاء تسعة أشهر، وقد تفاقم الخطب، وبلغت الشدة بالمحصورين أقصاها، وتحطمت كل محاولة لعقد الصلح مع ملك قشتالة، سواء من جانب القادر للاعتراف بطاعته والحكم باسمه، أو من جانب زعماء المدينة، ولم تجد صلابة أولئك الذين تمسكوا بالمقاومة والدفاع حتى الموت شيئاً، وغلب صوت العامة الذين أضناهم الجوع والحرمان. ولم تمض ثلاثة أيام على تلك المقابلة، حتى عرضت المدينة التسليم لملك قشتالة. ويلخص الأب ماريانا، وهو من أقدم المؤرخين الذين كتبوا عن سقوط طليطلة شروط التسليم فيما يلي: " أن يسلم القصر وأبواب المدينة والقناطر وحديقة الملك (وقد كانت حديقة نضرة غناء على ضفة التاجه) إلى الملك ألونسو (ألفونسو)، وأن يذهب الملك المسلم حراً إلى مدينة بلنسية وفقاً لرغبته، وأن يسمح بالحرية لمن شاء أن يتبعه من المسلمين، وأن يأخذوا معهم أموالهم. وأما الذين يقيمون في المدينة، فلا تؤخذ منهم أمتعتهم ولا أملاكهم، وأن يبقى المسجد الجامع بأيدي المسلمين يقيمون فيه شعائرهم، وألا تفرض عليهم ضرائب أكثر مما كانوا يدفعونه لملوكهم، وأن تجري عليهم أحكام شريعتهم، وعلى يد قضاتهم المسلمين دون غيرهم، وأن يقسم الطرفان كل وفق تقاليده على احترام هذه العهود، وأخيراً أن يقدم أهل المدينة لفيفاً من أعيانهم كرهائن ". على أن هذا النص الذي يقدمه ماريانا ينقصه شىء من الدقة في بعض تفاصيله. والمتفق عليه، أن شروط تسليم طليطلة قد صيغت على النحو الآتي: أن يؤمن أهل المدينة في النفس والمال، وأن يغادرها من شاء منهم حاملين أموالهم، وأن يسمح لمن عاد منهم باسترداد أملاكهم، وأن يؤدي المقيمون بها إلى ملك قشتالة ما كانوا يؤدونه لملوكهم من الضرائب والمكوس وأن يحتفظ المسلمون إلى الأبد بمسجدهم الجامع، وأن يتمتعوا أحراراً بإقامة شعائرهم وأن يحتفظوا بقضاتهم وشريعتهم، وأن يسلموا إلى ملك قشتالة سائر القلاع ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 129 و 130.

والحصون والقصر الملكي، والمنية المسورة التي كان ينزل بها ملكهم. وأما بالنسبة ْللقادر فقد تكفل ملك قشتالة بأن يمكنه من الاستيلاء على بلنسية، وقيل بل عرض عليه أيضاً أن يحصل له على دانية وشنتمرية الشرق، إذ كان يعرف جيداً أنها إذا خلصت للقادر، فستكون في الواقع ملكاً له ورهن تصرفه، وأن القواعد الشرقية كلها سوف تخضع له عن طريق ملكها الإسمي الضعيف، أعني القادر (¬1). تلك هي الشروط التي اتفق عليها لتسليم طليطلة، وتظاهر ملك قشتالة بقبولها، وتعهد باحترامها وعدم النكث بها. وكان ذلك في اليوم السادس من شهر مايو سنة 1085 م. ومضى على ذلك زهاء أسبوعين آخرين، كان يستعد خلالهما القادر لتهيئة أسباب الرحيل، وإخلاء المدينة. وفي يوم الأحد الخامس والعشرين من مايو (فاتحة شهر صفر سنة 478 هـ) دخل ألفونسو السادس مدينة طليطلة ظافراً، ونزل في الحال بقصرها المشهور، وهو الذي كان ينزل به أيام محنته في ضيافة المأمون، وعهد بحكم المدينة إلى سسنندو، فسلك مع أهلها مسلك المودة واللين، وبذل جهده ليخفف عنهم وقع هذا التبديل في مصايرهم، فاستمال قلوب الكثيرين منهم، وأقبل بعض العامة على التنصر، ونصح سسنندو إلى مليكه أن يلتزم الاعتدال والروية في معاملة المدينة المفتوحة، وأن يقف مؤقتاً عند هذا الحد، وألا يلح على ملوك الطوائف خوفاً من أن تنقلب الآية، فيتجهوا بأبصارهم إلى وجهة أخرى (¬2). واستتبع استيلاء ألفونسو على طليطلة استيلاؤه على سائر أراضي مملكة طليطلة، الباقية بعد الذي استولى عليه منها ابن عباد صاحب إشبيلية، أعني قسمها الواقع شمال نهر التاجه من طلبيرة غرباً حتى وادي الحجارة وشنتبرية شرقاً، وهي تتضمن ثمانين موضعاً بها مساجد، هذا عدا القرى والضياع (¬3). أما الملك المنكود يحيى القادر بن ذى النون، فقد غادر طليطلة بأهله وأمواله، ومعه جماعة كبيرة من الكبراء والأشراف الذين آثروا مغادرة المدينة المفتوحة ¬_______ (¬1) Mariana: Historia General de Espana (Cap. 16) . وكذلك: R. Menendez Pidal: La Espana del Cid (Madrid 1947) p. 306 (¬2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 131. (¬3) كتاب الإكتفاء للخزرجي، ونقله دوزي في: Hist. Abbadidarum V.II.p. 29

قاصداً إلى بلنسية، واستقر أياماً بمحلة ملك قشتالة واضعاً نفسه تحت حمايته، وكان ملك قشتالة قد وعده بأنه إذا تعذر تحقيق غايته في الحصول على بلنسية بطريقة سلمية، فإنه سوف يبعث لمعاونته قائده الشهير ألبرهانيس. وقد ظهر للقادر بالفعل، خلال مسيره من موقف الحصون المختلفة، أنها جميعاً تقف ضده ولم يبق على ولائه منها سوى حصن قونقة، فنزل به القادر وصحبه، حتى تتهيأ له ظروف العمل. وسوف نعود إلى تتبع أخباره فيما بعد. ويصف لنا ابن بسام خروج القادر من طليطلة في تلك العبارات اللاذعة: " وخرج ابن ذى النون خائباً مما تمناه، شرقاً بعقبى ما جناه، والأرض تضج من مقامه وتستأذن في انتقامه، والسماء تود لو لم تُطلع نجماً إلا كدرته عليه حتفاً مبيداً، ولم تنشىء عارضاً، إلا مطرته فيه عذاباً شديداً، واستقر بمحلة أذفنش، مخفور الذمة، مذال الحرمة، ليس دونه باب، ولا دونه حرمه ستر ولا حجاب " (¬1). ويبدي ابن الخطيب شماتته في القادر وفي أهل طليطلة حين يقول: " واقتضاه الطاغية الوعد، وسلبه الله النصر والسعد. وهلكت الذمم، واستؤصلت الرمم، ونفذ عقاب الله في أهلها جاحدي الحقوق، ومتعودي العقوق، ومقيمي أسواق الشقاق والنفاق، والمثل السائر في الآفاق " (¬2). * * * وهكذا سقطت الحاضرة الأندلسية الكبرى، وخرجت من قبضة الإسلام إلى الأبد، وارتدت إلى النصرانية حظيرتها القديمة، بعد أن حكمها الإسلام ثلاثمائة وسبعين عاماً. ومن ذلك الحين تغدو طليطلة حاضرة لمملكة قشتالة، ويغدو " قصرها " منزلا للبلاط القشتالي، بعد أن كان منزلا للولاة المسلمين. وقد كانت بمنعتها المأثورة، وموقعها الدفاعي الفذ، في منحنى نهر التاجه، حصن الأندلس الشمالي، وسدها المنيع الذي يرد عنها عادية النصرانية، فجاء سقوطها ضربة شديدة لمنعة الأندلس وسلامتها. وانقلب ميزان القوى القديم، فبدأت قوى الإسلام تفقد تفوقها في شبه الجزيرة، بعد أن استطاعت أن تحافظ ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 130. (¬2) أعمال الأعلام ص 181.

عليه زهاء أربعة قرون، وأضحى تفوق القوى النصرانية أمراً لا شك فيه. ومن ذلك الحين تدخل سياسة الإسترداد الإسبانية " لاريكونكستا La Reconquista , في طور جديد قوي، وتتقاطر الجيوش القشتالية لأول مرة، منذ الفتح الإسلامي، عبر نهر التاجه، إلى أراضي الأندلس، تحمل إليها أعلام الدمار والموت، وتقتطع أشلاءها تباعاً، في سلسلة لا تنقطع من الغزوات والحروب. وكان لظفر ألفونسو السادس بالاستيلاء على طليطلة، فضلا عن آثاره المادية الخطيرة، وقع أدبي عميق في سائر ممالك اسبانيا النصرانية، فقد كانت طليطلة عاصمة المملكة القوطية القديمة، وكانت إلى جانب ذلك حاضرة اسبانيا الدينية، وقد وطد استيلاء ملك قشتالة عليها، مركز الصدارة الذي يتمتع به بين زملائه ملوك اسبانيا النصرانية، ووطد هيبته الملوكية والإمبراطورية، فأضحوا جميعاً يقرون له بلقب الإمبراطور، الذي اتخذه لنفسه. ومن جهة أخرى، فقد كان لتلك النكبة التي حلت بالإسلام في اسبانيا، أعظم وقع في جنبات الأندلس، وفي سائر أنحاء العالم الإسلامي، وقد ارتاع لها ملوك الطوائف جميعاً، وأدركوا بعد فوات الوقت، أنها نذير بالقضاء عليهم واحداً بعد الآخر، وأدرك المعتمد بن عباد ْبالأخص، وهو أشد ملوك الطوائف مسئولية عما حدث، أنه لن يمضي وقت طويل حتى يواجه نفس الخطر الداهم. بيد أن النكبة كانت في نفس الوقت نقطة تحول عظيم في تفكير أولئك الأمراء المتخاصمين المتنابذين، ملوك الطوائف، وفي روحهم، فجنحوا جميعاً ولأول مرة إلى اجتماع الكلمة، ونبذ الشقاق، واتجهوا بأنظارهم جميعاً، إلى ما وراء البحر يلتمسون غوث إخوانهم في الدين، إلى أولئك البربر المرابطين، الذين كان لتدخلهم في سير الحوادث بالأندلس، أعظم الآثار (¬1). وأذكى رزء الأندلس بفقد طليطلة، فجيعة الشعر الأندلسي، ونظمت في بكائها القصائد الرائعة. وكان من أشهرها هذه القصيدة الرائية الكبرى، التي مطلعها: ¬_______ (¬1) راجع في حوادث سقوط طليطلة: الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 127 - 132، وأعمال الأعلام ص 181، وابن خلدون ج 4 ص 161، ونفح الطيب ج 2 ص 522 و523، وراجع أيضاً R.Menendez Pidal: La Espana del Cid p. 303-307، ودوزي Hist. des Musulmans de l'Espagne, V.III.p.120 et suiv. وكذلك: P.y Vives Los Reyes des Taifas p. 54 & 56

خريطة: دول الطوائف والممالك الإسبانية النصرانيّة عقب سقوط طليطلة 478 هـ - 1085 م.

لثكلك كيف تبتسم الثغور ... سرورا بعد ما يئست ثغور أما وأبي مصاب هد منه ... ثبير الدين فاتصل الثبور ومنها: طليطلة أباح الكفر منها ... حماها إن ذا نبأ كبير فليس مثالها إيوان كسرى .. . ولا منها الخورنق والسدير محصنة محسنة بعيد ... تناولها ومطلبها عسير ألم تك للدين صعباً ... فذلله كما شاء القدير وأخرج أهلها منها جميعاً ... فصاروا حيث شاء بهم مصير وكانت دار إيمان وعلم ... معالمها التي طمست تنير مساجدها كنائس أي قلب ... على هذا يقر ولا يطير فيا أسفاه يا أسفاه حزناً ... يكرر ما تكررت الدهور ومنها: كفى حزناً بأن الناس قالوا ... إلى أين التحول والمسير أنترك دورنا ونفر عنها ... وليس لنا وراء البحر دور ولا ثم الضياع تروق حسناً ... نباكرها فيعجبنا البكور لقد ذهب اليقين فلا يقين ... وغر القوم بالله الغرور فلا دين ولا دنيا ولكن ... غرور بالمعيشة ما غرور رضوا بالرق يالله ماذا ... رآه وما أشار به مشير مضى الإسلام فابك دماً عليه ... فما ينفي الجوى الدمع الغزير ونح واندب رفاقاً في فلاة ... حيارى لا تحط ولا تسير ولا تجنح إلى سلم وحارب ... عسى أن يجبر العظم الكسير (¬1). ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 593 وما بعدها حيث يورد القصيدة بأكملها، وهي في أكثر من سبعين بيتاً.

الكتاب الثانى الدول البربرية فى جنوبي الأندلس

الكِتابُ الثاني الدّول البربريَّة في جنوبيِّ الأندلس

الفصل الأول دولة بنى مناد البربرية فى غرناطة ومالقة

الفصل الأوّل دولة بني مناد البربرية في غرناطة ومالقة البربر ونصيبهم من أنقاض الخلافة. بنو مناد. الخلاف بين باديس المنصور وقومه. هجرة زاوي بن زيري إلى الأندلس. انضواؤهم تحت لواء المنصور. اشتراك البربر في معركة الخلافة. محاصرتهم لقرطبة وظفر مرشحهم سليمان بالخلافة. تفريق سليمان لهم. نزول زاوي وقومه بالبيرة. إنشاء مدينة غرناطة ونزولهم بها. الحرب بين المرتضى وصنهاجة. هزيمة أهل الأندلس ومصرع المرتضى. توجس زيري من البقاء في الأندلس. رحيله إلى إفريقية. استيلاء حبوس بن ماكسن على غرناطة. حكمه وصفاته. ولده باديس يخلفه. ائتمار ابن عمه يدير به. فشل المؤامرة. الخلاف بين باديس وزهير العامري. مسير زهير إلى غرناطة. الحرب بينه وبين باديس. هزيمته ومصرعه. مصرع وزيره ابن عباس. استيلاء باديس على جيان. الحرب بين باديس وابن عباد. تدخل باديس في شئون مالقة ثم استيلاؤه عليها. مهاجمة ابن عباد لمالقة وفشله. استيلاؤه على أركش. الوزير اسماعيل بن نغرالة اليهودي. صفاته وكفاياته. ولده يوسف. بغض بلقين ولد باديس له وسعيه إلى إسقاطه. يوسف يدبر مصرعه بالسم. الخصومة بين يوسف والناية. تغير باديس على يوسف. اتجاه يوسف إلى ابن صمادح. سخط صنهاجة على يوسف وسعيهم إلى إسقاطه. سخط أهل غرناطة على اليهود. قصيدة الإلبيري في التحريض على اليهود. افتضاح مؤامرة يوسف ومصرعه. مذبحة اليهود في غرناطة. استرداد باديس لوادي آش. حوادث جيان. تولي الناية الوزارة. إئتمار الوزراء به ومصرعه. وفاة باديس. أعماله ومنشآته. عمله لتوطيد زعامة البربر. النزعة العنصرية بين البربر وأهل الأندلس. صفات باديس وخلاله. ولاية حفيده عبد الله بن بلقين. استيلاء ابن عباد على جيان. إغارته على غرناطة ورده. تحالف عبد الله مع ألفونسو السادس. اتفاق ابن عباد وألفونسو على فتح غرناطة. فشل المحاولة. تعهد عبد الله بتأدية الجزية لألفونسو. عبد الله والشئون الداخلية. الخلاف بين عبد الله وأخيه تميم صاحب مالقة. الصلح بين عبد الله وابن عباد. سقوط طليطلة وتأثيره. اتفاق عبد الله مع ملوك الطوائف على استدعاء المرابطين. حملة ابن الخطيب على عبد الله. كان انهيار الخلافة الأموية، والسلطة المركزية، وما اقترن بذلك من الفوضى الغامرة، فرصة سانحة لظهور الزعامات البربرية، في ميدان النفوذ والسلطان. وقد ظهر البربر في الواقع، منذ أيام المنصور بن أبي عامر، واحتلوا مراكز الصدارة في الجيوش الأندلسية، واتخذهم المنصور له عضداً وسنداً، وآزر المنصور القبائل الموالية في المغرب لبني أمية، ضد أولياء الدعوة الفاطمية،

وشد أزرهم بالمال والجند، واستطاع أن يجعل من المغرب ولاية أندلسية. فلما انهار صرح الخلافة الأموية، بعد انهيار صرح الدولة العامرية، وتواثب الزعماء والخوارج الطامحون، إلى انتزاع أشلائها، واقتسام سلطانها، استطاع الزعماء البربر أن يظفروا من ذلك بنصيب وافر. فقامت منهم دولة بني حمود في جنوبي الأندلس، وأنشأت خلافة جديدة، أحياناً في قرطبة، وأحياناً في إشبيلية ومالقة، وقامت خلالها ومن بعدها، عدة دول بربرية محلية، في غرناطة، وفي رندة، وفي مورور وشذونة، وفي قرمونة، وقامت دولة بني ذى النون في طليطلة، وحيناً في شرقي الأندلس، وقامت كذلك دولة بربرية صغيرة في أرض السهلة في شنتمرية الشرق، وإذا نحن اعتبرنا دولة بني الأفطس في بَطَلْيوس من الدول البربرية، وإنها لكذلك على أرجح الآراء، استطعنا أن نقدر المدى العظيم، الذي وصل إليه سلطان القبائل البربرية بالأندلس في عصر الطوائف. وقد أتينا فيما تقدم على أخبار دولة بني حمود، وأخبار الدويلات البربربة، التي قامت في المنطقة الوسطى والجنوبية، على أنقاض دولة بني حمود، وبينا كيف استطاع المعتضد بن عباد، أن يقضي على هذه الدويلات واحدة بعد الأخرى، وأن يضمها جميعاً إلى مملكة إشبيلية الكبرى. وبقي علينا أن نتناول في هذا الفصل، أخبار دولة بني مناد في غرناطة، وقد كانت بعد دولة بني حمود، أقوى الدول البربرية في الجنوب. - 1 - إن بني مناد يرجعون في الأصل إلى قبيلة صَنهاجة البربرية الشهيرة، وهي بطن من بطون قبيلة البرانس الكبرى، وكان منزلهم بأواسط المغرب. فلما غلب العبيديون (الفاطميون) على إفريقية، وقامت دولتهم بها، انحاز بني مناد إليهم، وحاربوا إلى جانبهم الخوارج عليهم. وكان زعيمهم زيري بن مناد من أعظم أمراء البربر، وقد حارب قبائل المغرب المخالفة للعبيديين مع جوهر قائدهم، وقتل في بعض المعارك، فخلفه ولده بُلُكِّين. ولما سار المعز لدين الله في سنة 362 هـ إلى مصر، بعد افتتاحها على يد جوهر، اختار بلكين لولاية إفريقية، ثم خلفه على ولايتها ولده المنصور، ثم خلف المنصور ولده باديس. وفي خلال ذلك، كانت المعارك تضطرم في ربوع المغرب باستمرار، بين أمراء صنهاجة هؤلاء،

وبين خصومهم من أمراء زناتة وغيرها، من القبائل الموالية لبني أمية خلفاء قرطبة. وقد تتبعنا فيما تقدم أدوار تلك المعركة، التي نشبت في المغرب، بين الدعوة الفاطمية، وبين الخلافة الأندلسية، منذ أيام الناصر لدين الله، واستعر لظاها بالأخص أيام الحكم المستنصر، ثم المنصور بن أبي عامر، وكانت صنهاجة تحمل دائما، وعلى يد بني مناد ولاة إفريقية، علم الدعوة الفاطمية، وتحمل زناتة وحلفاؤها علم الخلافة الأندلسية. وقد انتهت هذه المعركة أيام المنصور، حسبما رأينا، إلى هزيمة صنهاجة، وتوطيد سلطان الدعوة المروانية بالمغرب. وقد حدث أيام ولاية باديس بن المنصور على إفريقية، حادث كان له فيما بعد أكبر صدى، في حوادث الأندلس. ذلك أن باديس استبد بقومه آل مناد، ووقعت بينه وبين أعمامه وأعمام أبيه، فتن ومعارك، قتل في أثنائها، عم أبيه ماكسن بن زيري بن مناد، فاستوحش الباقون من عاديته، وعولوا على مغادرة إفريقية، وكتب شيخهم زاوي بن زيري إلى المنصور بن أبي عامر، يستأذنه الجواز بقومه إلى الأندلس، للجهاد في سبيل الله، فأذن لهم، وعبر زاوي ابن زيري ومعه أبناء أخيه ماكسن المقتول، حُباسة وحَبُّوس وماكْسَن في أهلهم وأموالهم إلى الأندلس سنة 391 هـ، فأكرمهم المنصور وأنزلهم منزلا حسناً (¬1)، واتخذهم له بطانة وعوناً، ونظمهم مع زناتة، وسائر بطون البربر الأخرى، وقويت شوكتهم في أواخر أيام المنصور، ثم في أيام ولديه عبد الملك، وعبد الرحمن، ورجحت كفتهم في الجيش، وغدوا للدولة عضداً. وقد كان إذن المنصور لزيري وقومه، وهم من صنهاجة ألد خصوم الدعوة المروانية والدولة العامرية، بالجواز إلى الأندلس، عملا من أعمال السياسة المستنيرة، وكان غنماً مادياً وأدبياً للدولة العامرية. ¬_______ (¬1) كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 17، وابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 157 و 158 و 159. ولكن هناك رواية أخرى تقول إن زاوي وقومه وفدوا على عبد الملك المظفر بن المنصور، وأنه هو الذي أذن لهم بالجواز. وهذه هي رواية ابن حيان التي أوردها صاحب الذخيرة (المجلد الأول القسم الرابع ص 61)، ويتابعه فيها صاحب البيان المغرب (ج 3 ص 263) وكذلك ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة) ج 1 ص 440 و 521. وقد أخذنا نحن بالرواية الأولى، أولا لأنها رواية عبد الله بن بلكين، وهو حفيد ماكسن أخى زاوي، وأدرى بتاريخ أسرته، وثانياً لأن ابن خلدون، وهو حجتنا الأولى في تاريخ البربر، يأخذ بها، ويحدد لنا سنة الجواز في سنة 391 هـ، أعني قبل وفاة المنصور بنحو عامين.

بيد أن الدولة العامرية لم تعمر طويلا، فكان السقوط، وكان انهيار السلطة المركزية، وبداية عهد الفتنة والفوضى، وقام محمد بن هشام الملقب بالمهدي، باغتصاب الخلافة من هشام المؤيد سنة 399 هـ (1009 م). ومن ذلك الحين يأخذ البربر بقسط بارز في تلك المعركة المضطرمة المشعبة، التي تدور حول عرش الخلافة. وكان أول باعث لإقحام البربر في تلك المعارك، ما خصهم به المهدي من الاضطهاد وسوء المعاملة، ثم تحريض عامة قرطبة على مطاردتهم، والتف البربر عندئذ حول سليمان بن الحكم خصم المهدي ومنافسه، وتوالت الخطوب والمعارك، وفتك أهل قرطبة خلال ذلك بحباسة بن ماكسن ابن أخى زيري، فازدادوا نقمة واضطراماً، وحاصر البربر قرطبة، وفتكوا بأهلها، ثم دخلوها في مناظر مروعة من العيث والسفك، وانتهى الأمر بجلوس مرشحهم سليمان على عرش الخلافة، وتلقب بالمستعين، وذلك في شوال سنة 403 هـ (مايو سنة 1013 م)، وقبض البربر، وهم الذين عاونوه ونصروه، على سائر السلطات في القصر وفي الحكومة. وعندئذ رأى سليمان المستعين، أن يعمل على تفريق البربر في الكور والثغور، إرضاء لهم من جهة، وتفريقاً لشملهم وإبعاداً لهم عن قرطبة، من جهة أخرى، فأقطع قبيلة صنهاجة وزعماءها بني زيري بن مناد ولاية إلبيرة (غرناطة)، وأقطع بني برزال وبني يفرن ولاية جيَّان، وبني دمّر وإزداجة منطقة مورور وشذونة، وأقطع آل حمود الأدارسة ثغور المغرب، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في مواضعه، في أخبار سقوط الخلافة الأندلسية (¬1). ويقول لنا الأمير عبد الله بن بلكين في مذكراته، إن صنهاجة حينما رأت تفكك الدولة، واستقلال كل أمير ببلده، اعتزموا الرحيل عن الأندلس، ولكن أهل إلبيرة، وقد كانت ولايتهم تتمتع بسعة الرقعة والخصب والنماء، ولم يكن لهم من يدافع عنهم، لجأوا إلى زاوي بن زيري، ودعوه وقومه إلى الإقامة بأرضهم ومشاركتهم في خيراتهم ونعائمهم، والدفاع عنهم، وقبل زيري وقومه دعوتهم، واستبشروا بالنزول في تلك الأرض، وطابت لهم ربوعها، وأجمعوا على الدفاع عنها. ¬_______ (¬1) راجع الفصل الأول من الكتاب الرابع من " دولة الإسلام في الأندلس ".

وأنهم بعد أن نزلوا بأرض إلبيرة، رأوا أنها بموقعها لا تصلح للدفاع، واتفق رأيهم على أن يبتنوا في البسيط الواقع على مقربة منها، في وادي شَنيل المنحدر من جبل شُلَّير (¬1)، وهو البسيط الذي يحجبه الجبل، مدينة جديدة ينزلون بها، وتكون معقلهم، فشرعوا في بنيانها. وهكذا قامت مدينة غَرناطة، وكان قيامها نذيراً بخراب إلبيرة، فعفت منازلها بسرعة، وأسبل عليها النسيان ذيله، وأخذت غرناطة تنمو بسرعة وتحتل مكانها (¬2). استقر بنو مناد إذاً في كورة غرناطة، لكنهم لم يكونوا بمعزل عن حوادث قرطبة. ذلك أن علياً بن حمود الإدريسي، لما استولى على عرش الخلافة في المحرم سنة 407 هـ (يوليه 1016 م)، وقتل سليمان آخر الخلفاء الأمويين بالأندلس، نهض خيران العامري، فأعلن الخلاف، وأعاد الدعوة لبني أمية في شخص عبد الرحمن بن محمد من أحفاد الناصر، ولقبه بالمرتضى، وانضم إليه في تلك الحركة منذر بن يحيى التجيبي أمير الثغر، وعدة من ولاة شرقي الأندلس، وسار في جموع كبيرة لمقاتلة الحمّودبين، ولكنه عرج في جموعه أولا على غرناطة لمقاتلة جيش صَنهاجة القوي، فلقيه أميرها زاوي بن زيري في قواته، ونشبت بينهما معركة شديدة استمرت أياماً، وانتهت بهزيمة أهل الأندلس وتمزيق جموعهم، ومقتل خليفتهم المرتضى، وكان ذلك في سنة 409 هـ (1019 م). على أن هذه المعركة كان لها أثر عميق في نفس زاوي، فبدلا من أن يرى في كسبها دليل التفوق والاستقرار، شعر بالعكس مما آنسه من مرارة القتال وروعته أن هذا النصر إن كان بداية طيبة، فقد تعقبه نكسات ومحن لا يستطيعون الصمود لها، وأن أهل الأندلس لن يتركوا مقارعة البربر، حتى يفوزوا بالقضاء عليهم. وقال زيري لقومه، حسبما يروي لنا الأمير عبد الله: " وقد علمت وأيقنت أنه هذا يكون دأبهم أبداً (أي أهل الأندلس)، وإن كنا قد منحنا الظفر في أول صفقة، لم نأمنهم على أنفسنا وديارنا في كل حين، وهم إن قتل منهم واحد خلفه ألف، مع ميل جنسيتهم من الرعايا إليهم ". وهو ما يورده ابن حيان على لسان زيري على النحو الأتي: " إن انهزام من رأيتموه لم يكن عن قوة منا، إنما جره مع القضاء، غدر ملوكهم لسلطانهم ليهلكوه كما فعلوا. فإني عرفت ذلك من يوم ¬_______ (¬1) هو بالإسبانية Sierra Nevada أو جبل الثلج. (¬2) راجع كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 18 - 22.

نزولهم، ولذلك ما كنت أقوي نفوسكم، وقد نجانا منهم برحمته، ومضى القوم ولم يعدموا إلا رئيسهم، واستخلافه هين عليهم، ولست آمن عودهم جملة إليكم فيما بعد، فلا يكون لنا قوام بهم ". هذا ومن جهة أخرى فقد كان زاوي يخشى من غدر بربر زناتة أعدائهم الحقيقيين، ويخشى بالأخص أن يتحالفوا ضدهم مع أهل الأندلس، فتكون الطامة الكبرى عليهم. وأخيراً فقد كان زاوي يرى بعد وفاة باديس بن المنصور أمير إفريقية، الذي اضطهده وقومه، وولاية ولده الطفل المعز حفيد أخيه بلكين، أن الجو قد تهيأ لعودته، واحتلال مكانته في وطنه. ومن ثم فقد اعتزم زاوي أن يغادر الأندلس إلى إفريقية، وقال لقومه: " فالرأي الخروج عن أرضهم، واغتنام السلامة مع إحراز الغنيمة، والرجوع إلى الحملة التي انفصلنا عنها" (¬1). وهكذا قرر زاوي بن زيري العودة إلى إفريقية بالرغم من معارضة ولده ووجوه قومه. وخرج عن غرناطة في أهله وأمواله، مستخلفاً عليها بعض شيوخ قومه، وركب البحر من المنكب، ومعه الكثير من الأموال والذخائر. وكان خروجه من الأندلس في سنة 410 هـ (1020 م). واستقبله حفيد أخيه المعز ابن باديس صاحب إفريقية وبنو عمه أجمل استقبال، وأنزل في القيروان أجمل منزل، وكان بعد مهلك الشيخة من بني عمه وذوي قرابته زعيم القوم، وكان النساء من محارمهم نحو ألف امرأة لا يحتجبن عنه. بيد أنه لم يلق بالقيروان في ظل المعز، ما كان يؤمل من رياسة وسلطان (¬2). قال ابن الخطيب: " وكان زاوي كبش الحروب، وكاشف الكروب، خدم قومه، شهير الذكر أصيل المجد، المثل المضروب في الدهاء، والرأي، والشجاعة والأنفة والحزم " (¬3). وعلى أثر ارتحال زاوي سعى الفقيه ابن أبي زمنين قاضي غرناطة، في أن يعين لولايتها حبوس بن ماكسن ابن أخى زيري، فلحق به في حصن أشتر على مقربة ¬_______ (¬1) راجع التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 24 و 25، والذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 402 و 403، والبيان المغرب ج 3 ص 128، وابن خلدون ج 6 ص 180. (¬2) الذخيرة القسم الأول، المجلد الأول ص 402، والإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 525. (¬3) الإحاطة ج 1 ص 522.

من وادي آش. وكان يرابط هنالك مترقباً رحيل عمه. فبادر بالسير إلى غرناطة، ودخلها في موكبه وطبوله، واحتلها فلم يعارضه أحد من قومه، وتربع في رياستها من وقته. وقيل إن عمه زاوي اختاره ليخلفه قبل رحيله. وقيل من جهة أخرى إن نزاعاً حدث بسبب ذلك، بينه وبين ابن عمه جلالي بن زاوي، ولكنه انتهى برحيل جلالي ولحاقه بأبيه، وخلصت له الرياسة، ومن ذلك الحين تبدأ بغرناطة دولة بني زيري بن مناد (¬1). وبدأت ولاية حبُّوس لغرناطة في سنة 411 هـ، حسبما تقدم في أخبار الفتنة، فسار حبوس سيرة حسنة، وضبط النظام والأمن، وقسم الأعمال بين أقاربه وبني عمه، واتسعت رقعة مملكته، فغلب على قبره ونواحيها وعلى مدينة جيان، وأتم بناء غرناطة، وحشد الجند ونظم الجيش، وكان يشرك بني عمه في الرأي، ويجري في حكمه على طريق الشورى. ووطد حبوس ملك قومه بغرناطة، وأقام له بلاطاً فخماً، وعقد علائق المودة والتحالف مع سائر جيرانه من رؤساء البربر وفي مقدمتهم بني حمود أصحاب مالقة، وعقد الصداقة أيضاً مع زهير الفتى العامري صاحب ألمرية. ولما قتل يحيى بن حمود (المعتلي) أمام أسوار قرمونة سنة 427 هـ على يد القاضي ابن عباد، وخلفه في الملك ولده إدريس المتأيد بالله، كان حبوس وحليفه زهير العامري من المعترفين ببيعته، وقد سارا لمعاونته على محاربة ابن عباد، وسار معهما البرزالي صاحب قرمونة في قواته، وزحفت القوات المتحدة على إشبيلية، وعاثت في بسائطها، ثم عاد كل إلى قواعده، وذلك في أواخر سنة 427 هـ (1036 م). وفي العام التالي (428 هـ) توفي حبوس بن ماكسن، وخلفه في حكم غرناطة ولده باديس (¬2). ويشيد ابن حيان، وقد عاصر هذا العهد، بخلال حبوس، فيقول لنا إنه كان أحد نائبي برابرة الأندلس الذين يعتد بهم، وإنه كان على قسوته " يصغي إلى الأدب، وينتمي في العرب، للأثر المقفو في قومه صنهاجة. وكان وقوراً حليماً فظاً مهيباً، نزر الكلام، قليل الضحك، كثير الفكر، شديد الغضب، ¬_______ (¬1) الذخيرة المجلد الأول القسم الأول ص 403، والإحاطة ج 1 ص 485. (¬2) راجع في أخبار حبوس بن ماكسن: البيان ص 25 و 26، والإحاطة ج 1 ص 485 والبيان المغرب ج 3 ص 264.

شجاعاً، حسن الفروسية، جباراً متكبراً، داهية واسع الحيلة، كامل الرجولة، له في كل ذلك أخبار مأثورة " (¬1). - 2 - فخلفه في حكم غرناطة ولده باديس، الذي قدر له أن يكون أقوى ملوك البربر في جنوبي الأندلس، وأعظمهم شأناً، في تلك الفترة التي كثرت فيها الممالك والرياسات، ولم ينازعه في الملك أخوه بُلُقِّين بن حبوس، ولكن كان له في الملك منافس من قومه، هو ابن عمه يدِّير بن حُباسة بن ماكسن. وكان يدير ومن ورائه بعض شيوخ غرناطة يحاول منذ أيام عمه حبوس، أن ينتزع السلطة لنفسه، فلما فشل أيام حبوس، حاول أن يعيد الكرة في أوائل عهد باديس. وكان من مشجعيه ومحرضيه الكاتب أبو الفتوح ثابت بن محمد الجرجاني، وهو من علماء المشرق الذين وفدوا على الأندلس أيام الفتنة، ولحق بغرناطة. وكان فضلا عن أدبه الغزير، يعني بدراسة الفلك والحكمة، ويلقي بنبوءاته في روع يدير، أنه سوف يظفر بعرش غرناطة، ويحكمها ثلاثين عاماً (¬2). وكان لأبي العباس كاتب حبوس، مساعد من اليهود يدعى أبو إبراهيم يوسف ابن اسماعيل بن نغرالة كان يتولى جمع المال، وكان رجلا متواضعاً حسن السيرة، فلما توفي أبو العباس تقدم مكانه، وعلت منزلته، ولما ولي باديس زادت حظوته وظهرت همته في جمع الأموال. فلما دبر القوم مؤامرتهم لانتزاع السلطة من باديس وإجلاس يدير مكانه، لجأوا إلى أبي إبراهيم، وحاولوا ضمه إليهم، فتظاهر بالقبول، وأخطر مولاه باديس ودبر اجتماعهم بمنزله، وحضور باديس ليسمع بنفسه مشاوراتهم من مكان معين، ومن ذلك الحين غدا ذلك اليهودي أثيراً عند باديس، وصار ناصحه الأول، لا يبرم أمراً دون رأيه. وكان المتآمرون قد اعتزموا أمرهم لقتل باديس، أثناء تنزهه، بمكان بالضاحية يعرف بالرملة، وكان ممن رشوه لذلك شيخ من صنهاجة يدعى فرقان. فأفضى بالأمر لباديس وحذره في الوقت المناسب، وعلم المتآمرون بافتضاح تدبيرهم، ففروا إلى خارج غرناطة، وفي مقدمتهم يدير بن حباسة والكاتب أبو الفتوح ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 404. (¬2) الإحاطة ج 1 ص 463 و 465.

الجرجاني، وقد فرا معاً إلى إشبيلية. ووقف باديس على أسماء كثير ممن شاركوا في المؤامرة من شيوخ صنهاجة ورجالها، وهم بقتلهم جميعاً، فرده أبو إبراهيم عن عزمه، وحذره من اتساع نطاق الفتنة، لأنهم رجاله وجنده وأولى أن يلاينهم وأن يغمرهم بالعطايا، وأن يضرب بعضهم ببعض، فنزل عند نصحه، واستتب له الأمر دون منازع (¬1). وكان أول حادث خطير واجه باديس، هو حربه مع زهير العامري صاحب ألمرية. وكان زهير من أخص الفتيان العامريين الذين تفرقوا عقب الفتنة، واحتلوا معظم القواعد الشرقية، وكان قد ولي حكم ألمرية بعد وفاة صاحبها الفتى خيران في سنة 419 هـ (1028 م)، وامتد سلطانه شرقاً حتى شاطبة، وشمالا حتى بيّاسة وقرطبة. وكان يرتبط بعلائق المودة بجيرانه الأقربين بني حمود أصحاب مالقة، وبني زيري أصحاب غرناطة. وقد رأينا كيف تحالف زهير مع حبوس ابن ماكسن على قتال ابن عباد، فلما توفي حبوس وخلفه باديس، بدأت العلائق بين زهير وباديس في الفتور، وذلك لما عمد إليه زهير من إيواء عدو باديس الألد محمد بن عبد الله زعيم زناتة وحمايته، وأرسل باديس إلى زهير رسوله يعاتبه، ويطلب إليه تجديد المحالفة التي كانت بينه وبين أبيه حبوس (¬2)، ولم يمض قليل على ذلك، حتى خرج زهير من ألمرية في قواته ومعه كاتبه ومستشاره الأثير أحمد ابن عباس، وسار متجهاً صوب غرناطة. ولم توضح لنا الرواية غرض زهير من تلك الحركة. ولكن الأمير عبد الله بن بلقين حفيد باديس، يقول لنا في مذكراته، إن زهيراً " أدركه الطمع في غرناطة عقب موت حبوس " (¬3) وإذاً فقد كان زهير يرمي إلى غزو غرناطة، وافتتاحها. وعلى أي حال فقد استمر زهير في السير بقواته، واختراق أراضي غرناطة من شرقها حتى وصل إلى قرية ألفنت (¬4) الواقعة على مقربة من شمال غرناطة. وكان باديس في أثناء ذلك قد عبأ قواته وقد ملأته الدهشة والريب، لاقتحام زهير أراضيه على هذا النحو، وشعر أنه قد غدا ¬_______ (¬1) فصل لنا الأمير عبد الله أدوار هذه المؤامرة بإفاضة (التبيان ص 31 - 34). (¬2) ابن حيان في الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 166، ونقلها البيان المغرب ج 3 ص 169. (¬3) كتاب التبيان ص 34. (¬4) هي بالإسبانية Daifontes وهي تقع على قيد عشرين كيلوا متراً شمالي غرناطة.

في قبضته وتحت رحمته. ولكنه بدأه بالجميل والمودة، وزوده هو ورجاله بالصلات والقِرى، ثم لقيه ووقعت بينهما المناظرة، ومن حول كل رجال دولته، فاشتط زهير، وأغلظ لباديس في القول، وكان كاتبه أحمد بن عباس هو الذي أشار عليه بهذا المسلك، فغادره باديس مقضباً، وقد عول على الحرب، ووافقه قومه شيوخ صنهاجة. وكان باديس قد حشد قواته ورتبها ترتيباً محكماً، وهدم رجاله قنطرة في مؤخرة القوات المهاجمة، قطعاً لخط رجعتها، ورتب من ورائها الكمائن في المفاوز المستترة. كل ذلك وزهير في غروره وعجبه، لا يشعر بما يدبره خصومه. وفي صباح اليوم التالي، فاجأت قوات صنهاجة جيش زهير بهجومها العنيف، وكان يقودها بلقين بن ماكسن أخو باديس، فلقيها زهير بعزم وثبات، ودفع لردها قائده هذيلا الصقلبي في خيرة قواته من الفتيان العامريين والصقالبة، ووقعت بين الفريقين معركة هائلة، صدمت فيها قوات الصقالبة وأسر قائدهم هذيل، وقتل في الحال بأمر باديس، فدب الخلل في قوات زهير، ونكصت على أعقابها، والبربر من ورائها يحصدونها حصداً، وفر زهير فيمن فر من أصحابه إلى شعب الجبال المجاورة، ولكنه أخذ وقتل، ولم يعثر بجثته، وأبيد معظم قواته قتلا وأسراً، وظفر البربر بغنائم هائلة من المال والسلاح والعدة والغلمان والخيام، وأمر باديس بقتل القواد والفرسان من الأسرى، وكان من بين الأسرى عدة من الكتاب في مقدمتهم أحمد بن عباس وابن حزم والد الفيلسوف وأبو عمر الباجي وغيرهم، فأطلق باديس سراحهم جميعاً ما عدا ابن عباس وعدة آخرين من الأسرى، فقد زجهم في الأصفاد إلى المعتقل. وتمت هذه الوقيعة الساحقة على زهير العامري وأصحابه، في آخر يوم من شوال سنة 429 هـ (1038 م) (¬1) ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك حتى قتل ابن عباس في معتقله بالقصبة. قتله باديس بيده تشفياً منه، لتيقنه من أنه هو ناصح زهير والمحرض له على غزوه. ولم ينقذه ما عرضه لافتداء نفسه من المبالغ الضخمة. ولم تنجح شفاعة الوزير ابن جهور عميد قرطبة لدى باديس للإبقاء على حياته. وكان ابن عباس من أعلام كتاب عصره، وافر المعرفة والأدب، عظيم الوجاهة، والسراوة، ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 166 - 169، والبيان المغرب ج 3 عى 169 173، والإحاطة ج 1 ص 526 - 528، والتبيان ص 34 و 35.

وكان له في حكومة ألمرية، في ظل صاحبها زهير، أعظم نفوذ وسلطان (¬1). وكان من أثر مصرع زهير، وانهيار حكومته على هذا النحو، أن استولى باديس على القسم الغربي من أراضي مملكة ألمرية المتاخمة لمملكته، وهي تشمل مدينة جيان وأعمالها، وكذلك جزءاً من أراضي ولاية قرطبة الجنوبية. * * * وكان لهذا النصر الباهر الذي أحرزه باديس في بداية حكمه، أعظم أثر في توطيد سلطانه وإذاعة ذكره. وكان باديس، مثل معظم أمراء البربر في جنوبي الأندلس، يتوجس من أطماع القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية ومشاريعه. وكانت المعركة الحقيقية، تدور في هذا القسم من اسبانيا المسلمة، بين بني عباد والبربر، وقد بدأت منذ الساعة الأولى بين بني عباد وبني حمود، الذين يمثلون زعامة البربر. ومن ثم فقد كان باديس، ومن قبله والده حبوس، ينضوي تحت لواء الحموديين، ويشد أزرهم كلما دعت الظروف، وقد أشرنا من قبل إلى ما كان من مسير حبوس في قوات صنهاجة لمعاونة إدريس المتأيد بالله على محاربة ْابن عباد (427 هـ). ولما سير القاضي ابن عباد قواته تحت إمرة ولده إسماعيل لغزو مدينة قرمونة، وانتزاعها من يد صاحبها محمد بن عبد الله البرزالي، استعان البرزالي بإدريس المتأيد وباديس، فهرعا إلى إنجاده، وكانت قرمونة قد سقطت بالفعل في يد إسماعيل بن عباد، ونشبت بين قوى العباديين وبين البربر على مقربة من إستجة معارك شديدة انتهت بهزيمة جيش ابن عباد، ومقتل قائدهم إسماعيل، وذلك في المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م) (¬2). وهكذا أكد باديس مرة أخرى تفوقه وتفوق قومه صنهاجة على قوات الأندلس المناوئة للبربر. ومما هو جدير بالذكر أنه على أثر انتهاء المعركة، ووجود باديس تحت أسوار إستجة، وفد على مخيمه فجأة الكاتب أبو الفتوح الجرجاني، وكان قد فر حسبما تقدم عند اتهامه بالتآمر مع يدِّير على إشبيلية، وهنالك علم أن باديس أمر بالقبض ¬_______ (¬1) راجع في ترجمة أحمد بن عباس: الإحاطة ج 1 ص 267 - 270، والذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 175 - 180. (¬2) البيان المغرب ج 3 عى 199، وابن خلدون ج 6 ص 180، والمعجب للمراكشي ص 50.

على زوجه وأولاده ونفيهم إلى المنكب. وكانت زوجه أندلسية بارعة الحسن، وله منها ولدان، وكان يعبدها حباً. فلما اقترب باديس من إشبيلية هرع أبو الفتوح إليه يستأمنه ويستجير به. ولكن باديس استقبله بجفاء، وبعث به مخفوراً إلى غرناطة، وهناك شُهر وعذب ثم اعتقل أياماً، دخل من بعدها باديس إلى مطبقه، وأخذ في تأنيبه وسبه، ثم قتله بيده، واحتز رأسه (آخر المحرم سنة 431 هـ) (¬1). ولما اضمحل شأن بني حمود وافترقت كلمتهم، بدأ باديس بالتدخل في شئون مملكة مالقة، تحيناً للفرصة في أخذها. ومن ذلك أنه حينما ثار على إدريس ابن يحيى العالي، ابن عمه محمد بن إدريس في سنة 438 هـ (1046 م)، واستطاع أن ينتزع منه الملك، تقدم باديس لمعاونة الملك المخلوع، وسار معه في بعض قواته إلى مالقة، ولكنهما لم يفوزا بطائل، فلجأ إدريس عندئذ إلى سبتة، وبويع محمد بن إدريس وتلقب بالمهدي، ولكنه لم يفز عندئذ بإجماع الزعماء البربر على مبايعته، وكان باديس أشدهم معارضة في إقامته، ذلك لأنه كان يشعر عندئذ، وبعد أن ضعف شأن بني حمود، أنه أحق برياسة البربر في الأندلس، وأخذ من ذلك الحين يتحين الفرصة لتسديد الضربة القاضية لرياسة بني حمود، وذلك بانتزاع مالقة مقر سلطانهم. وتم له ذلك في سنة 449 هـ (1057 م)، وذلك بعد أن ارتقى عرش مالقة، بعد محمد بن إدريس المهدي، ثلاثة أخر من بني حمود، وهم إدريس ابن يحيى الملقب بالسامي، ثم إدريس بن يحيى العالي، ثم ولده محمد المستعلي. فلما تولى المستعلي نكل الزعماء البربر عن مبايعته، وفي الحال سار باديس في قواته إلى مالقة واستولى عليها، وضمها إلى إمارته، وغادرها المستعلي وعبر البحر إلى المغرب، وانتهت بذلك مملكة بني حمود في مالقة، وبقيت بعد ذلك في الجزيرة الخضراء فترة قصيرة أخرى، حتى بعث ابن عباد قواته إلى الجزيرة فطوقتها، من البر والبحر، واضطر صاحبها القاسم بن حمود أن يغادرها بالأمان مع أهله وصحبه، وذلك في سنة 446 هـ (1055 م)، وبذلك انتهت دولة بني حمود في الجزيرة أيضاً، وطويت صفحتهم بالأندلس. ولما استولى باديس على مالقة، عنى بتحصينها، وشيد قصبتها على أجمل ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 465 و 466، والذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 96.

طراز وأمنعه، حماية لها من أطماع الطامعين من أمراء الأندلس، ولاسيما بني عباد. وقد كان أهل مالقة بالفعل قد سئموا حكم البربر، وتاقت نفوسهم للتخلص منه، فبعثوا إلى المعتضد بن عباد رسلهم سراً يستحثونه على افتتاح مالقة، واستجاب المعتضد لدعوتهم، وسير إليها حملة بقيادة ولديه جابر والمعتمد، فزحفت على مالقة وطوقتها، وكادت المدينة تسقط في أيديهم، لولا أن اعتصمت حاميتها من البربر والسود بقصبتها المنيعة، ودافعت دفاعاً شديداً، بقيادة قائدها الشجاع مخلوف بن ملول، وهرع باديس في قواته إليها، ونشبت بينه وبين المهاجمين معركة شديدة مزق فيها جند إشبيلية، وقتل وأسر منهم عدد جم، وأسرع جابر والمعتمد ابنا عباد بالفرار في فل جندهما إلى رندة (¬1). وكان ذلك في سنة 458 هـ (1066 م). وبعث محمد بن عباد (المعتمد) إلى والده المعتضد من رندة، قصيدته الشهيرة، يستعطفه فيها ويعزيه في مصابه وهذا مطلعها: سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر ... ماذا يعيد عليك البثُّ والحذر وازجر جفونك لا ترض البكاء لها ... واصبر فقد كنت عند الخطب تصبر فإن يكن قَدَرٌ قد عاق عن وطر ... فلا مرد لما يأتي به القدر وإن تكن خيبة في الدهر واحدة ... فكم غزوت ومن أشياعك الظفر (¬2) وكان من مظاهر هذه المعركة، التي اضطرمت بين باديس وبني عباد، ما حدث في نفس هذا العام، من التجاء بني بزنيان وأميرهم محمد بن خزرون أصحاب أركش، حينما أرهقهم ابن عباد بغاراته، إلى باديس ليتسلم هو قاعدة أركش، ويعطيهم بدلا منها، مكاناً ينزلون به في أراضي غرناطة، وقد استجاب باديس لرغبتهم وتسلم منهم أركش، وخرجوا عنها بأهلهم وأموالهم ومتاعهم، فدهمتهم قوات ابن عباد في الطريق ومزقتهم، وانتزعت حصن أركش من يد قائد باديس، وسيطر ابن عباد بذلك على سائر منطقة شذونة، وكانت من قبل تحت سيطرة البربر (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 274 و 275. وراجع كتاب التبيان ص 43. (¬2) وهي طويلة. وقد أوردها ابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 56 - 58. (¬3) البيان المغرب ج 3 ص 272 و 273.

- 3 - وكان باديس قد قطع إلى ذلك الحين ثلاثين عاماً في الحكم، وكانت مملكته تمتد يومئذ من بسطة شرقاً، حتى رندة غرباً، ومن جيّان شمالا إلى البحر جنوباً، وكان قد شاخ وأخلد إلى الراحة، وانهمك في الشراب، وترك مقاليد الأمور كلها لوزيره اليهودي يوسف بن نغرالة (¬1)، وكان يوسف قد حل في المنصب مكان أبيه اسماعيل بن نغرالة وزير حبوس ثم باديس، وكان هذا الوزير اليهودي قد استأثر بعطف باديس وثقته، فرفعه فوق سائر كتابه ووزرائه، وفوضه في جميع أموره، وعين معظم المتصرفين والعمال من اليهود، واستطاع بمهارته وحنكته أن يملأ خزائن باديس بالمال، وأن يمكنه من الإنفاق على جيشه، ومن تحقيق مشاريعه الإنشائية. وكان اسماعيل فوق ذلك من أهل الأدب والشعر، وكان حسن السيرة رضي الأخلاق، وافر الأناة والحلم، فلم يثر من حوله خصومة ولا منافسة. ويقدم إلينا ابن حيان، وهو المؤرخ المعاصر عن ابن نغرالة، الصورة الآتية: " وكان هذا اللعين في ذاته، على ما زوى الله عنه من هدايته، من أكمل الرجال علماً وحلماً وفهماً، وذكاء ودماثة، ورصانة ودهاء، ومكراً وملكاً لنفسه، وبسطاً من خلقه، ومعرفة بزمانه، ومداراة لعدوه، واستسلالا لحقودهم بحلمه ". ثم يقول لنا إنه كان بارعاً في الآداب العبرية والعربية، وإنه شغف بالعربية ونظر فيها، وقرأ كتبها، وألف فيها، وكتب رسائل يشيد فيها بالإسلام وفضائله، ودرس الرياضة والفلك والهندسة والمنطق، وكتب كتاب " السجيح في علوم الأوائل الرياضية ". وأخيراً إنه كان بارعاً في الجدل يتفوق فيه على سائر الناس، قليل الكلام، ماقتاً للسباب، دائم التفكر، جماعة للكتب (¬2). وقد ساعدته هذه الصفات كلها، بلا ريب، على الاستئثار بعطف الأمير وإعجابه وثقته وخلقت من حوله جواً من العطف بين سائر ممن يتصلون به أو يتعامل معهم. واستمر ابن نغرالة عن مكانته حتى توفي، فندب باديس ولده يوسف للاضطلاع بمنصبه. وكان يوسف فتى جميلا غض الإهاب، وافر الذكاء والبراعة، فقام بالأعمال خير قيام، واستعمل اليهود كذلك على الأعمال، وأبدى في جمع المال همة مضاعفة، فتمكنت منزلته لدى باديس، واجتمعت في يده السلطات شيئاً فشيئاً ¬_______ (¬1) كتاب التبيان ص 42. (¬2) الإحاطة عن ابن حيان ج 1 ص 446 و 447.

حتى غدا كأبيه من قبل، أول رجل في الدولة، وأمضاهم تصرفاً في شئونها. وكان بُلُقِّين ولد باديس الأكبر الملقب بسيف الدولة، والمرشح من بعده لولاية عهده، ينظر إلى استئثار الوزير اليهودي بزمام الأمور، واستئثار بني جنسه بالتصرف في الأعمال، وسيطرتهم التامة على الدولة، ينظر إلى ذلك كله بعين السخط والحسد، وكان يجاهر ببغضه لابن نغرالة، وسعيه إلى إسقاطه، ويفضي أحياناً إلى خاصته برغبته في إزالته وقتله، وكان يذكي فيه هذا الشعور تحريض وزراء الدولة، ولاسيما علي وعبد الله ابنا إبراهيم الشيخ، وإلقاؤهم في روعه أنه أحق بهذا النفوذ، وهذه الأموال التي يتمتع بها اليهود، وأنه قد أخمله وأخمل سائر رجال الدولة بسيطرته عليها (¬1). وكان يوسف من جانبه، يضع عيونه وجواسيسه من خاصة باديس في القصر وفي الحريم، فلا يكاد باديس يأتي بحركة أو تصدر عنه كلمة، حتى يقف عليها لفوره، وكان في نفس الوقت يحيط بلقين بعيونه، ويتقصى سائر حركاته وسكناته، ويقف على نياته نحوه. وكان بلقين مع بغضه ليوسف، يبدي له المودة ويتردد على داره، ويشاطره الشراب، وكان منهمكاً مدمناً. فاعتزم يوسف أن يتخلص من بلقين، قبل أن يقضي هو عليه، ودعاه ذات يوم مع خاصته وصحبه، إلى مجلس شراب حافل، ودس له السم في كأسه، فما كاد يغادر مجلسه حتى ملكه قىء شديد، وما كاد يصل إلى داره، حتى لزم فراشه، ثم توفي بعد يومين. فروع باديس لمهلك ولده، على هذا النحو المفاجىء، واستطاع يوسف أن يقنعه باتهام بعض فتيان ولده وجواريه وقرابته، فقتل منهم باديس عدة، وفر الباقون. وكان مصرع بلقين بن باديس في سنة 456 هـ (1064 م) (¬2). ْوكان هذا الحادث مقدمة لحادث أخطر وأوسع مدى، وهو الذي اتسم به عهد باديس قبل كل شىء. ذلك أن باديس ترك المجال لوزيره يوسف، وزاد بفقد ولده انطواؤه على نفسه، وزاد يوسف بذلك استئثاراً وسيطرة على الدولة، وبُسط على غرناطة وأعمالها نوع من الطغيان اليهودي المرهق، واستسلم سائر الوزراء والشيوخ إلى هذا السلطان. ولم يكن يناوىء يوسف ويحاول مقاومته سوى " الناية " وهو شخصية غامضة، وأصله من عبيد المعتضد بن عباد، ¬_______ (¬1) التبيان ص 39. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 265، والتبيان ص 40، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 231.

وكان متهماً في المؤامرة التي دبرها ضده ولده اسماعيل، ففر من إشبيلية، والتجأ إلى باديس وخدمه وحظى عنده، وعهد إليه ببعض المهام الخطيرة. ثم وقع التنافس بينه وبين يوسف، وكان الناية يحرض على قتله، ويفضي إلى الأمير بذلك كلما سنحت الفرص. وشعر يوسف بتغير الأمير عليه، وبأن منزلته أخذت في الضعف، ففكر في التفاهم مع أبي يحيى بن صمادح صاحب ألمرية، واستدعائه للاستيلاء على غرناطة. وكانت تربط ابن صمادح وباديس علائق مودة قديمة، إذ كان باديس قد وقف إلى جانبه حينما أراد ابن أبي عامر محاربته واسترداد ألمرية منه، ومهد يوسف لمشروعه بأن عمل على تعيين زعماء صِنهاجة، الذين يخشى بأسهم، في الأعمال البعيدة، واستطاع ابن صمادح بالفعل أن ينتزع وادي آش، الواقعة شمال شرقي غرناطة، وأن يشحنها برجاله، ومضى يوسف في مفاوضته وهو محجم متهيب من تنفيذ المشروع. كل ذلك وباديس غارق في لهوه، منكب على لذاته (¬1)، وخصوم يوسف من صنهاجة، وسائر أهل غرناطة، يضطرمون سخطاً على الطاغية اليهودي، ويترقبون الفرص لإسقاطه. ولقي سخط الشعب الغرناطي على اليهود في تلك الآونة، متنفسه في الشعر، ونظم الفقيه الورع الزاهد أبو إسحاق الإلبيري (¬2) قصيدته الشهيرة في التحريض على سحق اليهود، والتخلص من طغيانهم، وإليك بعض ما ورد في تلك القصيدة التي ذاعت يومئذ ذيوع النار في الهشيم، وألهبت مشاعر الشعب الغرناطي، وكانت كالشرارة التي أضرمت الحريق، وأثارت الانفجار: ألا قل لصنهاجة أجمعين ... بدور الزمان وأسد العرين لقد زل سيدكم زلة ... تقرب بها أعين الشامتين تخير كاتبه كافراً ... ولو شاء كان من المؤمنين فعز اليهود به وانتخوا ... وتاهوا وكانوا من الأرذلين ¬_______ (¬1) راجع كتاب التبيان ص 46 و 47 و 50 - 53. (¬2) هو أبو إسحاق إبراهيم بن مسعود بن سعيد التجيبي الإلبيري. كان فقيهاً ومحدثاً وأديباً وشاعراً. سعى به الوزير يوسف بن نغرالة لأمور نقمها منه لدى سلطانه باديس، فأبعده عن غرناطة فسكن إلبيرة القريبة منها، وانقطع إلى العبادة والزهد. ولكنه لبث يحرض صنهاجة على اليهود في شعره ووعظه، حتى وقع الانفجار، وتم الفتك بهم. وتوفي الإلبيري في أواخر سنة 459، بعد أن شهد آثار تحريضه في بطش صنهاجة باليهود.

ونالوا مناهم وحازوا المدى ... وقد جاز ذاك وما يشعرون ومنها:. أباديس أنت امرء حاذق ... تصيب بظنك مرمى اليقين فكيف تحب فراخ الزنا ... وقد بغضوك إلى العالمين وكيف استنمت إلى فاسق .. . وقارنته وهو بئس القرين وقد أنزل الله في وحيه ... يحذر من صحبة الفاسقين فلا تتخذ منهم خادماً ... وذرهم إلى لعنة اللاعنين فقد ضجت الأرض من فسقهم ... وكادت تميد بنا أجمعين وكيف انفردت بتقريبهم ... وهم في البلاد من المبعدين وإني احتللت بغرناطة ... فكنت أراهم بها عابثين وقد قسموها وأعمالها ... فمنهم بكل مكان لعين وهم يقبضون جباياتها ... وهم يخصمون وهم يقصمون وهم يلبسون رفيع الكسا .. . وأنتم لأوضاعها لابسون وهم أمناكم في سركم ... وكيف يكون أميناً خؤون وقد لابسوكم بأسحارهم .. . فما تسمعون ولا تبصرون ومنها في التحريض على ابن نغرالة وقومه: فبادر إلى ذبحه قربة ... وضح به فهو كبش سمين ولا ترفع الضغط عن رهطه ... فقد كنزوا كل علق ثمين وفرق عراهم وخذ مالهم ... فأنتم أحق بما يجمعون ولا تحسبن قتلهم غدرة ... بل الغدر في تركهم يعبثون فقد نكثوا عهدنا عندهم ... فكيف تلام على الناكثين فلا ترض فينا بأفعالهم ... فأنت رهين بما يفعلون وراقب إلهك في حزبه ... فحزب الإله هم المفلحون (¬1) ووقع الانفجار في مساء يوم السبت العاشر من شهر صفر سنة 459 هـ ¬_______ (¬1) نشر ابن الخطيب في أعمال الأعلام هذه القصيدة بأكملها وهي في ثلاثة وأربعين بيتاً ص 231 - 233، ونشرها دوزي في كتابه Recherches; V,I.App.XXVI

(30 ديسمبر 1066 م). ففي تلك الليلة اجتمع يوسف بن نغرالة بالقصبة على الشراب مع طائفة من صحبه من الضالعين معه من عبيد باديس وخاصته. والظاهر أن مشروعه لاستدعاء ابن صمادح إلى غرناطة كان قد نضج، وأن ابن صمادح كان يكمن مع نفر من صحبه في مكان قريب من المدينة، ينتظر النذير باستدعائه. وكان ثمة في نفس الوقت جماعة من صنهاجة، ممن يرتابون في مشاريع يوسف ونياته، وينقمون على أميرهم تهاونه وتخاذله، يرقبون حركات اليهودي وسكناته. فحدث والمتآمرون في مجلسهم، أن وقعت مشادة بين عبد من الحضور، وبين حاشية اليهودي، فانطلق العبد إلى خارج القصبة، وهو يصيح: لقد غدر اليهودي ودخل ابن صمادح البلدة. وفي الحال هرع الناس وهم يتصايحون، وفي مقدمتهم رهط صنهاجة المناوئين لليهودي، واقتحموا القصبة، فاستغاث يوسف لفوره بباديس، وحاول الأمير عبثاً أن يهدىء الهاجمين، فهرب يوسف إلى داخل القصر، ومن ورائه مطاردوه، حتى عثروا به في بعض خزائن الفحم وقد تنكر وصبغ وجهه بالسواد فعرفوه وقتلوه، وأخذوه وصلبوه على باب غرناطة. وكان الجند والمدينة بأسرها، قد ماجت عندئذ، وتخاطف الناس السلاح، وهجموا على بيوت اليهود في كل مكان، وأمعنوا فيهم تقتيلا وتعذيباً، ونهبوا دار يوسف، وكانت غاصة بالنفائس والذخائر، ووجدت له فيما وجد خزانة جليلة من كتب العلوم الإسلامية، ونهبوا سائر دور اليهود وحوانيتهم، وطاردوهم وفتكوا بهم في كل مكان، واستولوا من أموالهم على مقادير هائلة. وهلك من اليهود أكثر من ثلاثة آلاف أو أكثر من أربعة آلاف على قول آخر، في تلك المذبحة التي يصفها ابن بسام بأنها، " ملحمة من ملاحم بني اسرائيل، باءوا بذلها، وطال عهدهم بمثلها " وعاد ابن صمادح أدراجه بعد أن انهار مشروعه (¬1). قال ابن الخطيب: " وقبره اليوم (أي قبر يوسف) وقبر أبيه يعرف أصلا من اليهود، ينقلونه بتواتر عندهم أمام باب إلبيرة، على غلوة يعترض الطريق، ¬_______ (¬1) راجع أخبار هذه المذبحة في التبيان ص 54، وفي الذخيرة، القسم الأول المجلد الثاني ص 271 و 272، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 447 و 448، وفي أعمال الأعلام ص 233، والييان المغرب ج 3 ص 266 و 275 و 276 وقد اتبعنا ما ورد من التفاصيل في التبيان والذخيرة. وجاء في المصادر الأخرى أن اجتماع ابن نغرالة في أصحابه كان في داره، وأنه هوجم وقتل بها.

ومكانه من الترفه والترف، والظرف والأدب، معروف " (¬1). - 4 - وأفاق باديس بعد هذا الحادث من خموله وتهاونه، ونهض لاسترداد وادي آش من يد ابن صمادح، فسار إليها في قواته، واستنصر بالمأمون بن ذي النون صاحب طليطلة، فوافاه في بعض قواته على مقربة منها. وضرب باديس الحصار حول وادي آش، وشدد في إرهاقها، وكان بها فضلا عن الحامية، بعض وزراء ابن صمادح وأكابر دولته، ولما اشتد الضيق بالمحصورين بعث زعماؤهم إلى المأمون يرجونه أن يتوسط لهم لدى باديس في تسليم المدينة، والخروج بالأمان، ففعل وأخلى جند ابن صمادح المدينة، وسلمت إلى باديس، واقتطع المأمون من باديس مدينة بسطة ثمناً لمؤازرته، وبعث ابن صمادح إلى باديس يستسمحه ويعتذر عن تصرفه، ثم وافاه إلى غرناطة، وعاد الوئام بين الرجلين (¬2). وكانت مدينة جيان قد خرجت عن الطاعة، وكان قد لجأ إليها ماكْسَن الابن الأصغر لباديس حينما سخط عليه أبوه ونفاه من غرناطة، لارتيابه في ولائه وتوجسه من مشاريعه (¬3). فنزل في جيان في كنف حاكمها مسكن بن حبوس، واستبد مسكن بحكم المدينة، ولم يجد ماكسن سبيلا إلى منافسته، وقنع بالسلامة والدعة، وأخيراً تمكن باديس من إغراء الحامية بالمال والوعود، فثارت على مسكن وماكسن معاً، ونادت بالطاعة لباديس، ففر كلاهما من المدينة ناجياً بنفسه، وقصد ماكسن إلى طليطلة، حيث لجأ إلى ابن ذى النون وخدم في جيشه، وعادت جيان بذلك إلى سلطان باديس. وكان باديس بعد مقتل وزيره ابن نغرالة، قد استوزر الناية، فعلا سلطانه بسرعة، وانتهى إلى الاستئثار بالأمور على نحو ما كان ابن نغرالة. وقدّم الناية بني برزال، وأخر صنهاجة وأهلهم، فسخطوا عليه، وأخذوا يترقبون الفرص لإهلاكه. وكان من مشاريع الناية أن يفتتح مدينة بياسة القريبة من جيان، وكانت عندئذ من أملاك إقبال الدولة علي بن مجاهد العامري، ووافق باديس على مشروع ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 448، وباب إلبيرة ما يزال إلى اليوم قائماً بمدينة غرناطة. (¬2) التبيان ص 55 - 57. (¬3) التبيان ص 49.

وزيره كارهاً، وانتهى الناية بالاستيلاء على بياسة بعد جهود ونفقات طائلة، وازدادت بذلك مكانته لدى باديس توطداً. وهنا شعر وزراء الدولة، وحكام المدن، أن سلطان الناية يكاد يحجب سلطان باديس ذاته. وخشوا عاقبة تمكنه، وأذاعوا أنه طامع في الرياسة بالائتمار مع بني برزال، ودبروا مؤامرة لقتله والتخلص منه، واتفق على أن يقوم واصل حاكم وادي آش وهو صديق الناية وموضع ثقته بتنفيذ الجريمة، ووعدوه بالوزارة. ولم يمض سوى قليل، حتى وفد الناية على وادي آش لتحقيق بعض الأمور السلطانية، ونزل عند واصل، فانتهز واصل الفرصة السانحة. وقتل ضيفه بالليل وهو سكران. وطار الخبر إلى غرناطة، فانزعج باديس، وأوضح له رجال الدولة أن الجريمة تمت لخيره، وإنقاذه من استبداد وزيره. فتظاهر بالاقتناع مرغماً، وعهد إلى واصل بمنصب قائد الفرسان. واستطال حكم باديس بضعة أعوام أخرى، وتوفي في العشرين من شوال سنة 465 هـ (يونيه 1073 م) (¬1) بعد حكم دام سبعاً وثلاثين سنة. وكان باديس بن حبوس أعظم ملوك البربر في عصر الطوائف وأقواهم جانباً، وكانت مملكته من أكبر ممالك الطوائف رقعة، إذ كانت تمتد من بسطة شرقاً حتى إستجة ورندة غرباً، وبياسة وجيان شمالا حتى البحر جنوباً. وباديس هو الذي مصّر مدينة غرناطة، وغدت منذ عهده من أهم قواعد الأندلس الجنوبية، وأنشأ قصبة غرناطة فوق أنقاض قلعتها القديمة، وسميت باسمها القديم " القلعة الحمراء " وهو الاسم الذي خلد على كر العصور، وغدا فيما بعد علماً على حمراء غرناطة، وأقام داخل القصبة قصره ومسجده الذي دفن فيه، وأنشأ سوراً ضخماً حول الربوة التي تقع عليها القصبة (¬2). وأنشأ حسبما قدمنا قصبة مالقة المنيعة، التي ما زالت آثارها باقية إلى اليوم، وأنشأ له جيشاً قوياً مرابطاً من قومه صنهاجة وغيرهم، وبذل له المال الوفير، ووطد الدولة، ونظم مراتبها وعمالاتها. بيد أن بلاطه لم يسطع كما سطعت قصور ملوك الطوائف الأخرى، ولم يسطع بالأخص، كما سطعت دولة بني ذى النون البربرية في الشمال، ولم يجتمع حوله ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 450. وفي ابن خلدون أنه توفي سنة 467 هـ (ج 4 ص 161). (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 180. وراجع كتابي " نهاية الأندلس " الطبعة الثالثة ص 289.

الكتاب والشعراء كما اجتمعوا في قصور الطوائف الأخرى، ذلك أن بلاط غرناطة البربري. لبث محتفظاً بطابع البداوة والخشونة، الذي كان يغلب على دولة آل زيري، ولم تعرف دولتهم تلك الخواص الحضارية والأدبية الرفيعة، التي امتازت بها دول الطوائف الأخرى. ومما هو جدير بالذكر أن سياسة باديس، كانت متأثرة بالروح العنصري، وكانت ترمي قبل كل شىء إلى تأييد زعامة البربر وسلطانهم، في جنوبي الأندلس. وكان يقابل هذا الاتجاه لدى الأمراء الأندلسيين اتجاه مماثل، فقد كانوا جميعاً يداً واحدة ضد البربر، في تلك المعركة التي اضطرمت زهاء نصف قرن، منذ استطاع بنو حمود أن يقيموا سلطانهم وخلافتهم في جنوبي الأندلس. ولما تضاءل سلطان بني حمود، تولى باديس زعامة البربر، وأخذ يقود نفس المعركة القديمة ضد أمراء الأندلس. وقد كان هؤلاء الأندلسيون، على قول ابن حيان، معاصر هذه الأحداث، " نمطاً واحداً متظاهرين على عظيم البرابرة يومئذ باديس ابن حبوس الصنهاجي صاحب غرناطة، ومن تميز معه من البربر، وكانوا متعاضدين متناصرين على من يباينهم من الأمراء سواهم، على اختلافهم في الرأي والدعوة ". ويسوق لنا ابن حيان دليل هذا التحزب في موقف الأندلسيين والبربر من الخلاف، فقد كان أمراء الأندلس يدعون للخليفة هشام الذي نصبه ابن عباد في إشبيلية، وكان باديس ومن والاه من أمراء البربر يدعون لإمامهم بمالقة، وهو إدريس بن يحيى بن حمود. وكانت هذه النزعة العنصرية تحمل باديس في بعض الأحيان، على أخطر القرارات والمشاريع. ومن ذلك ما حدث حينما قام أحد الفرسان باغتيال أمير رندة البربري أبي نصر بن أبي نور وذلك بتحريض من المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية. فقد ثار باديس لذلك الحادث أيما ثورة، وجال بخاطره أن يفتك برعاياه الأندلسيين في غرناطة، وأن يزهقهم جميعاً تخلصاً من شرهم ومؤامراتهم، ورتب الخطة لتنفيذ هذا العزم الدموي، وذلك حين اجتماع الغرناطيين بالمسجد الجامع يوم الجمعة، ولم يقتنع بنصح وزيره اليهودي اسماعيل بن نغرالة وتحذيره من عواقب عمله، وحشد الجند للتنفيذ، ولكن ابن نغرالة سبقه، فدس بعض النساء إلى دور زعماء الأندلسيين وغيرهم، لتحذيرهم من الحضور إلى المسجد، وهكذا

فشل تدبيره، ثم عدل عنه بعد ذلك حينما أيد نصح وزيره بعض شيوخ صنهاجة (¬1). وتشيد الروايات المعاصرة والقريبة من العصر، بما كان عليه باديس من القوة والطغيان والجبروت. فيقول لنا عنه معاصره ابن حيان: " إنه أرفع أملاك البرابرة في هذا الوقت شأناً، وأشدهم سلطاناً، وأكثرهم رجالا، وأوسعهم أعمالا أملى النصر العزيز علي الأعداء إملاء واختياراً، فلبسه بغياً واستكباراً، وأساء الانتقام، ولم يقل العثرة، وأخذ بالظنة، وأسرف في العقوبة، وشدّ يداً بالعصبية وتقلد الحمية الجاهلية، واستأثر بالقسوة والجبرية، فأسلف في ذلك كله أخباراً مأثورة " (¬2). ويقول لنا الفتح في القلائد بعبارته المسجعة المنمقة: " كان باديس ابن حبوس بغرناطة، عاتياً في فريقه، عادلا عن سنن العدل طريقه، يجتري على الله غير مراقب، ويسري إلى ما شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم يبت من ذنب على ندم، ولم يشرب الماء إلا من قلب دم. أحزم من كاد ومكر، وأجرم من راح وابتكر، وما زال متقداً في مناحيه، مفتقداً لنواحيه، لا يرام بريث ولا عجل، ولا يبيت له جار إلا على وجل " (¬3). ويقدم إلينا عنه ابن الخطيب تلك الصورة القوية الجامعة: " كان رئيساً يبساً، طاغية جباراً شجاعاً، داهية، حازماً، جلداً شديد الأمر، سديد الرأي، بعيد الهمة، مأثور الإقدام، شره السيف، واري زناد الشر، جماعة للمال، ضخمت به الدولة، ونبهت الألقاب، وأمنت لحمايته الرعايا، وطم تحت جناح سيفه العمران، واتسع بطاعته المرهبة الجوانب ببأسه النظر، وانفسخ الملك، وكان ميمون الطائر، مطعم الظفر، مصنوعاً له في الأعداء، يقنع أقتاله بسلمه، ولا يطمع أعداؤه في حربة " (¬4). على أن حفيده الأمير عبد الله بن بلقين، يحاول أن يقدمه إلينا في صورة أقل جفاء، وأكثر إشراقاً حين يقول: " وكان باديس بن حبوس - جدنا رحمه الله -، كبير النفس، عالي الهمة، حاد المزاج، لا يستطيع أحد أن يمخرق عليه في أمر ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 445 و 446، والبيان المغرب ج 3 ص 314. (¬2) نقله أعمال الأعلام ص 230. (¬3) قلائد العقيان ص 18. (¬4) الإحاطة ج 1 ص 443.

من الأمور، ولا ينكسر لأحد من بني عمه، ثقة منه بسعادته، وأن الانخضاع والتمريض في القول لا يعنيه، ولا يزيد في أيامه. وكان ذلك كله منه في حزم وروية، لا يفسد جانباً حتى يصلح آخر، ويضرب بعضهم ببعض، فوجست أنفس البعض منه، وأشربوا هيبته ومخافته " (¬1). والخلاصة أن باديس كان طاغية من أقوى الطغاة البربر، الذين عرفتهم الأندلس، ومن أشدهم دهاء وقسوة وإقداماً، ومن أكثرهم ظفراً في الحروب. وكان أسوة بسائر ملوك الطوائف، قد اتخذ ألقاب الملك، وتلقب بالمظفر بالله، الناصر لدين الله. - 5 - ولما توفي باديس المظفر بالله، اتفق رجال الدولة وشيوخ صنهاجة على تولية حفيده عبد الله بن بُلُقِّين مكانه، وكان صبياً حدثاً. وكان أخوه الأكبر تميماً يتولى حكم مالقة منذ أيام جده. أما ماكسن ولد باديس، فقد كان خارجاً على أبيه حسبما ذكرنا من قبل، وكان قد عاد إلى مدينة جيان، وامتنع بها، وكان سيىء الخلال والسيرة، فلم يلتفت إليه، ولم يقم أحد بدعوته، وتولى تدبير الدولة ورعاية الملك الصبي، الوزير سماجة أحد شيوخ صنهاجة، وكان هذا الوزير رجلا حازماً، قوي العزم، شديد السطوة، مرهوب الجانب، فضبط الدولة، واستأثر بالسلطة، وأحسن السيرة. وكان المعتمد بن عباد يرقب سير الحوادث في غرناطة. فلما توفي باديس، وخلفه حفيده الصبي، أدرك أن الفرصة قد سنحت لتحقيق مشاريعه، فسار في قواته إلى مدينة جيان، أهم قواعد مملكة غرناطة الشمالية، واستولى عليها (466 هـ - 1074 م). ثم سار بعد ذلك إلى غرناطة في قوات كبيرة، وابتنى بعض الحصون على مقربة منها، لكي يستطيع بواسطتها إرهاق المدينة. فحشد الوزير سماجة قوات صنهاجة، وأبدى منتهى العزم في مقاومة المغيرين، فاضطر ابن عباد أن يعود أدراجه دون طائل (¬2). ورأى الأمير عبد الله بتوجيه وزيره سماجة، أن يعقد مع ألفونسو السادس ملك قشتالة، على نسق معظم أمراء الطوائف، معاهدة ¬_______ (¬1) كتاب التبيان ص 27. (¬2) أعمال الأعلام ص 234.

حلف وصداقة، يتعهد فيها بتأدية جزية قدرها عشرون ألف دينار. وعلى أثر ذلك سار عبد الله في قوات صنهاجة، ومعها سرية من الجند النصارى أمده بها ألفونسو السادس، وأغار على أراضي إشبيلية المجاورة، واستطاع أن يسترد حصن قبرة الواقع في جنوب غربي جيان. وفي العام التالي سار ألفونسو إلى إشبيلية وغرناطة، ومعه وزيره ومستشاره النصراني المستعرب الكونت سسنندو (ششنند)، وهو الذي سبق ذكره في حوادث سقوط طليطلة، ليطالب بأداء الجزية المفروضة. ويقول لنا الأمير عبد الله في مذكراته، إنه أبى أن يدفع تلك الجزية، وإنه لم يخش يومئذ ضراً من ألفونسو، وذلك أسوة بما فعل غيره من ملوك الطوائف (¬1). وهنا يقوم المعتمد بن عباد بدوره المأثور في انتهاز الفرصة، وفي استعداء ملك قشتالة. ذلك ْأنه بعث وزيره ابن عمار إلى ألفونسو السادس، فعقد معه اتفاقاً وحلفاً، خلاصته أن يتعاون الفريقان في افتتاح غرناطة، وأن تكون المدينة ذاتها لابن عباد، وأن يكون سائر ما فيها من الأموال لملك قشتالة، وأن يؤدي ابن عباد إليه فوق ذلك جزية قدرها خمسون ألف دينار (¬2). وأمد ملك قشتالة ابن عمار بسرية من جنده. وبدأ بتنفيذ الخطة بإنشاء حصن على مقربة من غرناطة، شحنه بالجند لإرهاق المدينة. وحاول ابن عباد أن يؤثر بواسطة هذا الحصن في أهل المدينة، ولكنه لم ينل منها مأرباً بالرغم مما أحاق بها من الضيق. ولما منى ابن عباد بالهزيمة في قرطبة على يد ابن ذى النون (467 هـ) اضطر أن يخلي الحصن، فاحتلته جنود غرناطة. ثم عاد ابن عمار فحرض ألفونسو السادس على غزو أراضي غرناطة، وزين له سهولة افتتاحها، وعندئذ رأى عبد الله بن بلقين أن يتفاهم مع الملك النصراني، فسار إليه بنفسه، وأسفرت المفاوضات بينهما عن تعهد عبد الله بأن يؤدي جزية سنوية قدرها عشرة آلاف مثقال من الذهب، وأن يسلم بعض الحصون الواقعة جنوب غربي جيان، وهذه باعها الملك النصراني إلى ابن عباد. وينقل إلينا الأمير عبد الله بهذه المناسبة، ما سمعه من أقوال الكونت سسنندو (ويسميه ششلاند) مستشار ألفونسو، شرحاً لسياسة مليكه في الاستيلاء ¬_______ (¬1) كتاب التبيان ص 69. (¬2) التبيان ص 70.

على الأندلس، على النحو الآتي، قال: " وإنما كانت الأندلس للروم في أول الأمر، حتى غلب عليهم العرب، وألحقوهم بأنحس البقاع، جليقية، فهم الآن عند التمكن طامعين بأخذ ظلاماتهم، فلا يصح ذلك إلا بضعف الحال والمطاولة، حتى إذا لم يبق مال ولا رجال، أخذناها بلا تكلف " (¬1). والتفت عبد الله للشئون الداخلية، فعمل أولا على إزالة وزيره سماجة، وكان هذا الوزير قد غلا في الاستئثار بالسلطة، والاستبداد بالأمور، حتى شعر عبد الله بأنه لم يبق له سلطان إلى جانبه. ومن جهة أخرى، فقد كان هذا الاستبداد يثير سخط رجال الدولة وطوائف الشعب عليه، حسبما يحدثنا بذلك الأمير في مذكراته، ومن ثم فقد عمل عبد الله على إقالة وزيره بالحسنى، وسمح له أن يسير في أهله وأمواله الطائلة إلى ألمرية، حيث نزل بها في كنف صاحبها ابن صمادح، واستقر هناك بحال ثروة وغناء (¬2). وحاول عبد الله أن يعمل في نفس الوقت على تنظيم الإدارة، وعزل الحكام الظلمة، وبدأ في ذلك بوادي آش، فعزل حاكمها ابن أبي جوش واعتقله، ثم عزل حاكم المنكب وعين حكاماً آخرين يظن فيهم العدل وحسن السيرة. وعقد الصلح والمودة مع ابن صمادح صاحب ألمرية، بعد أن سوى النزاع بينهما على حصون الحدود مما يلي فنيانه (¬3). وكان تميم بن بلقين أخو عبد الله، قد استقل في تلك الأثناء بحكم مالقة وأعمالها، وتلقب بالمنتصر بالله، واستبد وأساء في حكمه السيرة، وأخذ يغير على نواحي المنكب وغيرها مما هو واقع تحت حكم أخيه. فسار إليه عبد الله في بعض قواته، واستولى على بعض حصون مالقة الأمامية، ثم وقع القتال بين قوات الأخوين أمام مالقة وهزم عبد الله أولا، ولكنه عاد فهزم جند مالقة، وضيق على المدينة، فبعث إليه أخوه يستعطفه، وتدخلت والدتهما في الأمر، وخشي عبد الله من جهة أخرى أن يتحول أخوه إذا اشتد عليه، إلى محالفة ابن عباد، فمال إلى مهادنته، وترك له حكم مالقة ونواحي الغربية أي غربي مالقة. ¬_______ (¬1) كتاب التبيان ص 73. (¬2) كتاب التبيان ص 87 و 88، وأعمال الأعلام ص 235. (¬3) كتاب التبيان ص 89 و 90.

وثار في نفس الوقت كباب بن تميت حاكم أرشدونة (أرجدونة) وأنتقيرة وعاث فساداً في تلك المنطقة، فسار إليه عبد الله، وضيق عليه، حتى خضع، وأخرج بالأمان. وأخيراً تم عقد الصلح والمهادنة بين عبد الله بن بلقين والمعتمد بن عباد، ولم يتيسر ذلك إلا بعد مصرع ابن عمار وزير المعتمد، وهو الذي يصفه عبد الله " بالفاسق " وبأنه كان أس الفتنة، وسويت بين الفريقين سائر وجوه النزاع، من حدود وغيرها (أواخر سنة 477 هـ). ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك، حتى وقع الحادث بسقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة، وذلك في فاتحة صفر سنة 478 هـ (24 مايو سنة 1085 م) , فاهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، وأفاق ملوك الطوائف لأول مرة من تلك الغمرة التي خدرت مشاعرهم، وأعمت بصائرهم مدى نصف قرن، سادت فيه بينهم الفتن والحروب الأهلية، ولبثوا يمزقون بعضهم بعضاً، والعدو الخالد يضرب بينهم، ويؤلب بعضهم على بعض ويتربص الفرصة لانتزاع كل ما يمكن انتزاعه من أراضي ذلك الوطن الذي نسوا قضيته، وضحوا بمصلحته العليا، استبقاء لمصالحهم الخاصة، وأطماعهم الدنيا. كان سقوط الحاضرة الأندلسية الكبرى - طليطلة - إذن نذير الخطر العام فنهض المعتمد بن عباد - وقد كان يحمل في وقوع تلك المحنة أكبر الأوزار - ونهض زملاؤه أمراء الطوائف، يحاولون جمع الكلمة، ويزمعون الاستنجاد بإخوانهم فيما وراء البحر، ويبعثون بصريخهم، إلى عاهل المرابطين الأمير يوسف ابن تاشفين، حسبما فصلنا ذلك من قبل في أخبار مملكة إشبيلية. ويقول لنا الأمير عبد الله في مذكراته، إن أول من خطر له الاستنصار بالمرابطين من أمراء الأندلس، هو أخوه الأمير تميم والي مالقة، وأنه أراد أن يستعين بهم ضده ليستدرك ما فاته من مملكة جده باديس، ولكن أمير المسلمين لم يلتفت إلى دعوته (¬1). وقد كان عبد الله على اتفاق مع زملائه أمراء الطوائف في استدعاء المرابطين، وقد أرسل رسله مع رسل ابن عباد إلى أمير المسلمين، وتم الاتفاق فيما بين ¬_______ (¬1) كتاب التبيان ص 102.

أمراء الأندلس، وبين أمير المسلمين على أن يتحدوا جميعاً بمعونته على غزو قشتالة، وعلى أنه لا يعرض لأحدهم في بلده، ولا يشجع أحداً ممن يروم الخروج عليه (¬1). ويحمل ابن الخطيب على الأمير عبد الله، ويقول إنه كان جباناً مغتمد السيف متكاسلا عن الخيل، زاهداً في النساء، موصوفاً بالضعف، لكنه يكتب ويشعر ويتحدث فيما يتحدث فيه الطلبة، ثم يقول لنا إنه وقف خلال زيارته لبلده أغمات على ديوان لعبد الله بخطه " ألفه بعد خلعه، وقرر فيه أحواله والحادثة عليه، مما يستظرف من مثله " مشيراً بذلك إلى مذكراته، وهي التي رجعنا إليها في مختلف المواطن (¬2). ونستطيع أن نستشف من هذه المذكرات التي تركها لنا الأمير عبد الله بعنوان " كتاب التبيان " والتي كتبها فيما بعد خلال إقامته في منفاه بأغمات، وسرد فيها تاريخ آبائه، وأحوال حكمه، وحوادث الأندلس في عصره: نستطيع أن نستشف منها ما يؤيد قول ابن الخطيب في جنوح الأمير عبد الله إلى السلم والملاينة والدعة، وفي مجانبته للإقدام، وتخوفه من الحروب وعواقب النضال، وحبه للسلامة والعافية، وإنه ليشكر الله في آخر مذكراته أن نجا من المصير الذي حل بابن الأفطس، حيث فقد حياته مدافعاً عن نفسه ضد المرابطين (¬3). ¬_______ (¬1) التبيان ص 103. (¬2) راجع أعمال الأعلام ص 235. (¬3) كتاب التبيان ص 176.

الفصل الثانى الإمارات البربرية الأخرى

الفصْل الثاني الإمارات البربرية الأخرى في جنوبي الأندلس الإمارات البربرية في الجنوب. خواصها وتكتلها. إمارة قرمونة. بنو برزال وجوازهم إلى ْالأندلس. ولاية عبد الله البرزالي لقرمونة. استبداده بها. حكمه وسيرته. التحالف بين البرزالي وابن عباد. انقلاب ابن عباد عليه. الحرب بين ابن عباد والبربر. وفاة البرزالي وولاية ولده إسحاق. ولاية عزيز المستظهر. إرهاق ابن عباد له. نزوله عن قرمونة لابن ذى النون. نزول ابن ذى النون عنها إلى ابن عباد. بنو يفرن وجوازهم إلى الأندلس. نزولهم أيام الفتنة برندة. زعيمهم أبو نور هلال. مصانعة ابن عباد للبربر ثم غدره بهم. باديس ولد أبي النور. عود أبي النور إلى رندة ووفاته. ولده أبو نصر فتوح ومصرعه. استيلاء ابن عباد على رندة. بنو دمر وهجرتهم إلى الأندلس. نزولهم بمورور. أبو تزيري الدمري وولده نوح. محمد بن نوح ومصرعه في كمين ابن عباد. ولده مناد يخلفه. غارات المعتمد على مورور. إذعان مناد ونزوله عنها إلى ابن عباد. بنو خزرون وتغلبهم على أركش. محمد بن خزرون وخلفاؤه. غارات ابن عباد على أركش. تخلي بني خزرون عنها وخروجهم منها. مداهمة ابن عباد لهم. استيلاء ابن عباد على أركش وأراضيها. انتهاء الدول البربرية في تلك المنطقة. إلى جانب دولة بني مناد أو بني زيري في غرناطة، كانت تقوم ثمة عدة إمارات بربرية أخرى في هذه المنطقة الجنوبية من الأندلس، منطقة المثلث الإسباني الواقع جنوب نهر الوادي الكبير، والممتد من غربي مملكة غرناطة شرقاً، حتى مصب الوادي الكبير غرباً، ومن الوادي الكبير شمالا، حتى ثغر مربلة وأرض الفرنتيرة جنوباً. ومن الواضح أن اجتماع هذه الممالك البربرية الصغيرة في هذه المنطقة، يرجع إلى عوامل جغرافية وعسكرية. ذلك أن المثلث الإسباني هو أقرب مناطق شبه الجزيرة إلى المغرب، بحيث تغدو مغادرة الأندلس وقت الخطر أو عند الضرورة أمراً ميسوراً، وكذلك تستطيع الأمداد من أقوامها أن تعبر البحر من المغرب إلى الأندلس بسرعة وسهولة. ومن جهة أخرى فإن اجتماع هذه الإمارات في هذه المنطقة جنباً إلى جنب، كان يحمل معنى التكتل القَبَلي أو العنصري بصورة واضحة، ويمكنها وقت الخطر من توحيد الصفوف، والتعاون على رد العدو

المهاجم. وهذا ما رأينا ينطبق بصورة عملية في المعارك التي لبثت طوال أيام الطوائف، تضطرم في هذه المنطقة بين البربر وبين خصومهم الألداء بني عباد، وهم أقوى الممالك الأندلسية المناهضة لهم في معظم النواحي. وقد قامت هذه الممالك البربرية الصغيرة إلى جانب شقيقتها الكبرى، دولة بني مناد في غرناطة، وفي مثل الظروف التي قامت فيها، وكانت مملكة غرناطة تتولى حمايتها والدفاع عنها كلما دهمها خطر بني عباد، وكانت هي تلتف في نفس الوقت حول غرناطة، كلما دعت إلى ذلك ضرورة سياسية أو عسكرية. ولم تكن هذه الإمارات البربرية تملك مقومات الدولة الراسخة المستقرة، ولكنها كانت في الواقع أقرب إلى سيادة العصبة القبلية، أو رياسة الأسرة ذات البأس والجاه، ولم يكن في حكومات أو جيوش منظمة بالمدى الصحيح، وإنما كانت تستند في سلطانها إلى حشود القبيلة أو الأسرة المسيطرة، وكانت تجري في الحكم على قاعدة الإستبداد المطلق، وأصول العرف البدوي الساذج، ومن ثم فإنها لم تكن محبوبة من رعاياها الأندلسيين. الذين عرفوا منذ بعيد مزايا الحكم المنظم، ورفاهة العيش المتحضر. وكانت ثمة من هذه الإمارات - غير مملكة غرناطة - أربع تقوم من حولها وهي إمارة قرمونة، وإمارة رندة، وإمارة مورور، وإمارة شذونة وأركش. 1 - دولة بني برزال في قرمونة وكان أهم هذه الإمارات، إمارة قرمونة الواقعة في منحنى الوادي الكبير، بين إمارة قرطبة شرقاً، ومملكة إشبيلية غرباً، وقاعدتها مدينة قرمونة الحصينة الواقعة شمال شرقي إشبيلية. وكانت تشمل غير قرمونة، مدينة إستجة الواقعة في شرقها. ومدينة المدَوّر الواقعة غربي قرطبة على نهر الوادي الكبير. وكانت مدينة قرمونة منذ أيام هشام المؤيد، وقبل انهيار الدولة العامرية، ييد حاكمها الحاجب أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن برزال المعروف بأبى عبد الله البرزالي، وكان بنو برزال هؤلاء ينتمون إلى بطن من بطون زناتة من بني يفرن، وكانوا يقطنون بالمغرب بأرض المسيلة والزاب الأسفل. ونحن نعرف أن زناتة كانت أيام الدولة الأموية من القبائل المشايعة لها بالمغرب ضد خصومها الشيعة العبيديين أو الفاطميين، وكان من خصوم الشيعة في نفس الوقت جعفر ويحيى

ابنا علي بن حمدون الأندلسي، صاحب المسيلة وما جاورها من أراضي المغرب الأوسط. فلما اضطرمت الحرب بين بني زيري زعماء صنهاجة وأولياء العبيديين. وبين زناتة وحلفائها، ومنهم جعفر ويحيى ابنا حمدون، في أواخر أيام الحكم المستنصر، وهزمت صنهاجة وقتل كبيرهم زيري بن مناد (سنة 360 هـ)، هاجر جعفر ويحيى في الأهل والصحب والمال إلى الأندلس، خوفاً من انتقام صنهاجة، وخدما الحكم المستنصر، وحظيا في دولته، وذلك حسبما ذكرنا من قبل في أخبار الحكم. ولما استطالت صنهاجة على المغرب الأوسط، شعر بنو برزال الزناتيين باشتداد وطأتها، فكتبوا إلى جعفر بن علي الأندلسي، أن يسعى في جوازهم إلى الأندلس لدى الخليفة الحكم، فعمل جعفر على تحقيق رغبتهم، ووصفهم لدى الحكم بالشجاعة والإنقياد إلى الطاعة، فأذن لهم بالجواز، وانتظموا في خدمة الجيش تحت يد جعفر، واستمروا كذلك أيام الحكم ثم المنصور، حتى ندب كبيرهم الحاجب أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن برزال أو البرزالي لحكم مدينة قرمونة في أواخر الدولة العامرية، واستقر أهله وصحبه هنالك في كنفه، إلى أن وقعت الفتنة، فخاض بنو برزال غمارها إلى جانب أضرابهم من البطون البربرية الأخرى، ولما انتثر عقد الأندلس، واحتفظ كل رئيس بمدينته، دعا أبو عبد الله لنفسه في قرمونة، وذلك في سنة 404 هـ (1013 م)، واستبد بحكمها، وضبط شئونها، ورتب جندها (¬1). وفي بعض الروايات المتعلقة بالطوائف أن أبا عبد الله سار في حكمه سيرة حسنة، وعامل الرعية بالرفق والعدل فمالت إليه النفوس، وعمرت قرمونة، وسادها الأمن، وبايعته مدينة إستجة ثم أشونة والمدور وغيرها من البلاد (¬2)، وغدت قرمونة بذلك إمارة لها خطرها وأهميتها في تلك المنطقة، وغدت بعد غرناطة، ثاني الإمارات البربرية. ولكن ابن حيان، وهو المؤرخ المعاصر، يحمل على أبى عبد الله البرزالي ويصفه " بقطب رحي الفتنة " وينوه بفتكه وعيثه، وقبح آثاره في تلك المنطقة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 267 و 268: ونبذ تاريخية في أخبار البربر (الرباط 1934) ص 44. (¬2) نشرت هذه الرواية المتعلقة بالطوائف، وهي لكاتب مجهول في نهاية الجزء الثالث من البيان المغرب. راجع منها ص 311 و 312.

وقطعه للسبل إلى آخر ما جاء في أقواله، مما سبق أن ذكرناه في موضعه من قبل (¬1). وعلى أي حال فإنه يبدو أن البرزالي، كان زعيما قوياً، وافر الإقدام والعزم والشجاعة. وهذا ما يقرره لنا ابن الخطيب، إذ يصفه بأنه كان يلي باديس في جلالة الشأن، وقوة السلطان، " بقية أمراء البربر المسلطين في هذه الفتنة، وأعظمهم شأناً في الدهاء والرجولة، وأبصرهم بتدبير العساكر، وأربطهم جأشاً على الخطوب المقلقة " (¬2). وقد رأينا من قبل كيف كان القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية، يعتمد في البداية على محالفة البرزالي ضد خصومه، وكيف كان البرزالي من جانبه يرحب بهذه المحالفة، اتقاء لشر بني حمود وأطماعهم في إمارته. وكان من آثار هذا التحالف أن حارب البرزالي إلى جانب ابن عباد ضد بني الأفطس أصحاب بطليوس، في حملته ضد باجة سنة 421 هـ، وكان من آثاره أيضاً أن توجس يحيى ابن حمود المعتلي صاحب مالقة شراً من مشاريع ابن عباد، فسار في قواته إلى قرمونة وانتزعها من يد البرزالي، فاستغاث البرزالي بحليفه ابن عباد، وبعث ابن عباد قواته مع ولده إسماعيل، ونشبت بينه وبين المعتلي معركة قتل فيها المعتلي، واستردت قرمونة وأعيدت إلى البرزالي، وذلك في المحرم سنة 427 هـ (1036 م). ولكن ابن عباد كانت له نحو قرمونة مشاريع أخرى، فقد كانت قرمونة حصن إشبيلية من الشرق، وكان وجودها بيد هذا الزعيم البربري أمر لا يحتمل، ومن ثم فقد تحول ابن عباد فجأة إلى مخاصمة البرزالي، وسير إليه قواته فاستولت على إستجة، ثم استولت بعد ذلك على مدينة قرمونة، وعندئذ استغاث البرزالي، بزملائه البربر، وهرع إلى نصرته باديس صاحب غرناطة، وإدريس المتأيد صاحب مالقة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة، انتهت بانتصار البربر وهزيمة الإشبيليين ومقتل أميرهم إسماعيل بن عباد، واسترداد قرمونة، وذلك في أوائل المحرم سنة 431 هـ (أواخر سنة 1039 م). وتوفي أبو عبد الله محمد البرزالي بعد ذلك بثلاثة أعوام سنة 434 هـ (1042 م) بعد أن حكم قرمونة وأعمالها ثلاثين عاماً. ¬_______ (¬1) راجع ص 36 من هذا الكتاب. وراجع البيان المغرب ص 206. (¬2) أعمال الأعلام ص 236.

فخلفه والده الأكبر إسحق بن محمد، وهو في سن الكهولة. ويصفه ابن حيان بأنه كان رئيساً حازماً وافر الكفاية والبأس والفروسية، ولكن دون أبيه محمد في القسوة والفظاظة " وكلاهما على ذلك موصوف بالعفة والنزاهة، والبعد عن آفات الملوك الشائنة " (¬1). والظاهر أنه لم يحكم طويلا. بل إن صاحب الرواية الخاصة بالطوائف، التي سبقت الإشارة إليها، يغفل ذكره تماماً، ويقول لنا إن الذي خلف أبا عبد الله البرزالي، هو ولده عزيز الملقب بالمستظهر وإن أخاه إسحق بايعه، وتم له الأمر (¬2). وسار المستظهر في حكمه سيرة حسنة، وبايعت له البلاد التي كانت تحت حكم أبيه، وساد الأمن والرخاء في أيامه، بيد أنه لم يلبث أن بدأ المعتضد بن عباد في مضايقته وإرهاقه بغزو أراضيه وانتساف زروعه، واستمرت المعارك بينهما أعواماً، وهلك في ذلك النضال كثير من البربر، واضطربت الأحوال في مملكة قرمونة، وعندئذ بعث عزيز المستظهر إلى المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة، يعرض عليه أن يسلمه قرمونة، نكاية في ابن عباد، على أن يعوضه عنها ابن ذى النون قسماً من أراضيه الجوفية، فقبل المأمون هذا العرض، وانتقل عزيز بأهله وأمواله إلى حصن المدور شمالي إستجة من أراضيه، وعاش هنالك حتى توفي. وفي أثناء ذلك وقعت المفاوضة بين ابن عباد، والمأمون، وتفاهما على أن ينزل المأمون للمعتضد عن قرمونة لقربها من أراضيه، وأن يتعاون الاثنان على افتتاح قرطبة، واستلم ابن عباد قرمونة ولكنه لم يف للمأمون بشىء من عهوده (¬3). وفي رواية أخرى، أن المستظهر اضطر في النهاية أن ينزل مباشرة عن قرمونة إلى ابن عباد، بعدما يئس من القدرة على الاحتفاظ بها، وأنه سار بأمان ابن عباد إلى إشبيلية، وهنالك توفي بعد قليل. وكان استيلاء ابن عباد على قرمونة في سنة 459 هـ (1067 م). وبذلك انتهت دولة بني برزال في هذا القطاع من المثلث الأندلسي، واختفت واحدة من الإمارات البربرية (¬4). ¬_______ (¬1) نقله أعمال الأعلام ص 237. (¬2) ذيل البيان المغرب ج 3 ص 312. (¬3) راجع أعمال الأعلام ص 238. (¬4) راجع في أخبار مملكة قرمونة، أعمال الأعلام ص 236 - 238، وذيل البيان المغرب ص 311 و 312. وكذلك: P.y Vives: Historia de Los Reyes de Taifas ; p. 23

2 - دولة بني يفرن في رندة وبنو يفرن هم أيضاً بطن من بطون زناتة، وكانوا بالمغرب من أولياء الدعوة الفاطمية، وقد اشتركوا في الحرب التي وقعت بالمغرب أيام المنصور بن أبي عامر، وقاتلهم زيري بن عطية أمير مغراوة وعامل المنصور على المغرب، حتى هزمهم بعد معارك هائلة، وهلك أميرهم يدُّو بن يعلي وذلك في سنة 383 هـ. وعلى أثر ذلك افترقوا إلى شقين، وجنحت منهم شيعة إلى الانحياز إلى الدعوة المروانية، واستأذنوا المنصور في الجواز إلى الأندلس، فأذن لهم وخدموا في الدولة والجيش أسوة بباقي الوافدين من القبائل البربرية. ولما انتهت الدولة العامرية، واضطربت نار الفتنة، وتفرقت القبائل البربرية في النواحي، استقر بنو يفرن في ولاية تاكرونَّا، واتخذوا من قلعتها رندة مركزاً لرياستهم (¬1)، وكان زعيمهم يومئذ هو أبو نور هلال بن أبي قرة بن دوناس اليفرني. وكان زعيماً " جسوراً جشعاً، مقداماً، عزيز الجانب ببأس رجاله ووعورة رحاله، وحصانة قلاعه "، ولكنه كان في نفس الوقت عاطلا عن كل فضيلة وكل خلة حسنة. وبدأ هلال رياسته لمنطقة تاكرونَّا، حسبما يقول لنا صاحب الرواية المتعلقة بتاريخ الطوائف، عقب وفاة إدريس بن علي بن حمود في سنة 431 هـ (1039 م) (¬2)، وكانت تشمل أراضي ولاية ريُّه، ما بين نهر وادي لكه والبحر، وكانت قاعدتها رندة من أمنع معاقل الأندلس الجنوبية. وقد رأينا القاضي ابن عباد يخطب منذ البداية ود أولئك الأمراء البربر الذين يحتلون أراضي القطاع الأندلسي الجنوبي المتاخم لأراضيه. وجرى ولده المعتضد على سياسته في توثيق أواصر المودة معهم. بيد أن سياسة بني عباد، لم تكن تقوم في ذلك حسبما رأينا، على الصدق والولاء، وإنما كانت تقوم على الخديعة والمصانعة، وقد تجلت حقيقتها في حوادث مملكة قرمونة. وهكذا كان المعتضد يبدي مودته لأبى نور زعيم بني يفرن، وزملائه أمراء بني دمر أصحاب ولاية مورور، وبني خزرون أصحاب ولاية شذونة وأركش، ¬_______ (¬1) نبذ تاريخية في تاريخ البربر ص 45. (¬2) راجع ذيل البيان المغرب ج 3 ص 312. ويقول صاحب الرواية إن هلالا قد بويع له بعد موت إدريس بن علي بن حمود سنة ست وأربعمائة وهو تحريف. فقد توفي إدريس سنة 431 هـ (1039 م).

وكان يستميلهم بالصلات والدعوات الودية. وفي سنة 445 هـ (1053 م) وجه المعتضد دعوته لأبى نور، ولمحمد بن نوح الدمري صاحب مورور، والقائم ابن محمد بن خزرون أمير بني أرنيان وصاحب شذونة وأركش، لزيارته في إشبيلية، فساروا إليه في صحبهم وفرسانهم في أحسن زي وأكمل هيئة. وكان المعتضد قد دبر كمينه لاغتيالهم حسبما فصلناه من قبل في أخبار مملكة بني عباد، وانتهت هذه الدعوة الغادرة بالقبض على أولئك الأمراء وصحبهم وتكبيلهم بالأغلال ثم هلاك اثنين منهم، وهما ابن نوح وابن خزرون، في الحمام، وأفلت منهم هلال أبو نور، حيث أطلق المعتضد سراحه وأخلى سبيله. وفي خلال ذلك كان باديس ولد هلال أبي نور، قد قام بالرياسة في غيبته أثناء اعتقاله بإشبيلية، وكان " فاسقاً مجرماً " فاستبد بالأمر، وأرهق الناس ببغيه وطغيانه، وأطلق العنان لشهواته الدنيئة، فاستباح الحرم وسطا على الأعراض هو وصحبه، فكانوا يأخذون الزوجات من أزواجهن، والبنات من آبائهن، ولم يفر حتى أقرب الناس إليه من خاصة محارمه. فلما تخلص أبو نور من الأسر، وعاد إلى رندة، وعلم بما وقع من ولده من العظائم، أمر في الحال بالقبض عليه وإعدامه وذلك في سنة 449 هـ (1057 م). انه لم تمض أشهر قلائل على ذلك حتى توفي أبو نور نفسه، وخلفه في الإمارة ولده أبو نصر فتوح بن أبي نور (¬1). واستطال حكم أبى نصر زهاء ثمانية أعوام. وكان عادلا حسن السيرة. بيد أنه كان ميالا إلى الدعة منهمكاً في الشراب. وكان المعتضد بن عباد من جهة أخرى يتربص به ويترقب الفرصة لهلاكه، وانتهى بأن دس عليه رجلا من دعاته برندة يدعى ابن يعقوب، وكان فارساً مقداماً، فدهم أبا نصر ذات يوم في جماعة من صحبه، وهو في إحدى شرفات القصبة العليا، وصاحوا بشعار بني عباد، فحاول أبو نصر الفرار، ووثب من الشرفة فهوى إلى أسفل، فارتطم بالصخر وزهق على الأثر، ولم يأبه الناس لما حدث، ولم يتعرض للقتلة أحد, وانتهت بذلك دولة بني يفرن، واستولى ابن عباد على رندة وأعمالها بأيسر أمر، وكان ذلك في سنة 457 هـ (1065 م) (¬2). ونظم المعتضد بهذه المناسبة قصيدته التي مطلعها: لقد حصلت يا رندة ... فصرت لملكنا عقدة ¬_______ (¬1) ذيل البيان المغرب ج 3 ص 313. (¬2) ذيل البيان المغرب ج 3 ص 313 و 314.

3 - دولة بني دمّر في مورون وكانت ثالثة الإمارات البربرية في تلك المنطقة من الأندلس الجنوبية، هي إمارة بني دمر في مورور أو مورون (¬1). وكانت تشغل رقعة صغيرة تمتد حول مدينة مورور، وجنوباً حتى وادي لكه. وقام بها أيام الفتنة نوح بن أبي تزيري الدمّري زعيم بني دمّر. وقد كان بنو دمر من بربر تونس ومن بطون زناتة، وهم خوارج إباضية. وفد جدهم أبو تزيري إلى الأندلس أيام المنصور، وخدم كسائر زملائه الزعماء البرابرة في الجيش، وانحاز منذ أيام الفتنة إلى تلك المنطقة، واستقر بها وبسط عليها سلطانه. ولما توفي في سنة 403 هـ (1013 م) خلفه ولده نوح بن أبي تزيري، واستمر في حكمها زهاء ثلاثين عاماً، ثم توفي سنة 433 هـ (1041 م) فخلفه ولده محمد بن نوح. وكان محمد فتى غراً، وجندياً جاهلا، خلواً من الفضائل. بيد أنه كان مقداماً جسوراً، " وافر العنف والفتك " (¬2). وكان حديث عهد بالإمارة، فاستبد وبغى وتلقب بعز الدولة، واستطاع بجرأته وصرامته، أن يحافظ على سلطانه وعلى أراضيه. وكان المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية ينظر بعين السخط إلى قيام تلك الإمارات الصغيرة بجوار مملكته القوية الشاسعة، ويعمل الفكرة في إزالتها، وكان حسبما تقدم يصانع أولئك الأمراء البربر أحياناً ويهاجمهم أحياناً أخرى، وقد ذكر لنا صاحب الذخيرة أنه استغل هذه السياسة المزدوجة تجاه إمارة مورور الصغيرة، فأغارت قواته على أراضي مورور، واستقبل محمد بن نوح هذا العدوان بالحلم والصبر، ولم يقابله بمثله (¬3). وجنح المعتضد بعد ذلك إلى مصانعة ابن نوح، واستمالته بالصلات والهدايا، كما فعل ذلك مع زميليه، أبى نور صاحب رندة، وعبدون بن خزرون صاحب أركش، ثم دعاهم وصحبهم كما تقدم إلى زيارته في إشبيلية، ثم قبض عليهم وغدر بهم، وهلك في ذلك الكمين الخائن الذي رتبه المعتضد في سنة 445 هـ (1053 م) محمد بن نوح وابن خزرون. وفي رواية أخرى أن محمداً بن نوح لبث في ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Moron. (¬2) أعمال الأعلام ص 239، وذيل البيان المغرب ج 3 ص 295. (¬3) نقله صاحب البيان المغرب ج 3 ص 214.

معتقل المعتضد حتى توفي في سنة 449 هـ (1057 م). فخلفه في الإمارة ولده مناد بن محمد بن نوح، وتلقب بعماد الدولة، وسار على سنة أبيه من الصرامة والحزم، وقصده البربر من إشبيلية وإستجة وزادت جموعه، واستمر محافظاً على سلطانه، والمعتضد بن عباد يكرر الإغارة على أراضيه، ويحرق بلاده وزروعه، ويرهقه بطريقة قاسية منظمة. فلما ضاق بهذا العدوان المستمر، ولما شعر في النهاية أنه عاجز عن الدفاع عن إمارته، كتب إلى المعتضد، يسأله الأمان والمسالمة على أن يسلمه أراضيه، ويخرج إلى إشبيلية، يعيش فيها تحت كنفه، فأجابه المعتضد إلى رغبته، وسلم إليه عماد الدولة حصن مورور، وما يتبعه من حصون وأعمال، وذلك في سنة 458 هـ (1066 م)، وانتهت بذلك مملكة بني دمّر الصغيرة، وأضيفت إلى أعمال مملكة إشبيلية الشاسعة. وسار عماد الدولة إلى إشبيلية في أهله وأمواله، وبالغ المعتضد في إكرامه والتوسعة عليه، وعاش هناك حتى توفي في سنة 468 هـ (1075 م). 4 - دولة بني خزرون في أركش وكانت دولة بني خزرون هي رابعة الإمارات البربرية الصغيرة في تلك المنطقة. وبنو خزرون هم من أبناء قبيلة يرنيان أو إرنيان من زناتة، وكان زعيمهم أبو عبد الله محمد بن خزرون بن عبدون الخزري، وهو كغيره من زعماء البربر الوافدين على الأندلس أيام الدولة العامرية، قد ظهر أيام الفتنة بمدينة قلشانة بكورة شذونة على مقربة من أركش، وذلك في سنة اثنتين وأربعمائة. ثم تغلب على مدينة أركش المنيعة، وأقام بها حكومة مستقلة تشمل الأنحاء المجاورة، وتلقب بعماد الدولة، وكان زعيماً جسوراً مقداماً، سفاكاً للدماء، فهابه الناس واستمر يحكم تلك المنطقة حتى توفي في سنة 420 هـ (1029 م). فخلفه ولده عبدون ابن خزرون، وبايعته البلاد المجاورة لأركش وقلشانة وشريش، واستمر حكمه زهاء خمسة وعشرين عاماً، إلى أن هلك بإشبيلية في الكمين الشائن، الذي استدرجه إليه المعتضد بن عباد هو وزميلاه محمد بن نوح الدمري، وأبو نور بن أبي قرة، حسبما أشرنا إلى ذلك غير مرة، وكان ذلك في سنة 445 هـ (1053 م). فتولى الأمر من بعده أخوه محمد بن خزرون وتلقب بالقائم، وأخذ يحصن بلاده، ويتأهب لمقاومة ابن عباد بعد الذي بدا من غدره. والواقع أن

ابن عباد ما فتىء يترقب الفرصة للاستيلاء على هذه المنطقة التي تجاوره من الجنوب الشرقي، وتفصله عن إمارة رندة، وهي التي كان يطمح إلى أخذها في نفس الوقت، فعمد إلى الإغارة عليها، وتخريب أراضيها وإرهاقها بكل الوسائل وابتنى حصناً على مقربة من أركش وشحنه بالمقاتلة لمضايقتها بطريقة منظمة، والقائم صامد يدافع عن أراضيه ما استطاع. وأخيراً ألفى القائم أنه لا يستطيع مدافعة ابن عباد إلى النهاية، فلجأ إلى باديس بن حبوس أمير غرناطة، واتفق معه على أن يعطيه قلعة أركش وسائر البلاد التي تحت حكمه، على أن يعطيهم أرضاً من بلاده ينزلون بها ويقيمون فيها، وبعث باديس بقوة كبيرة من جنده ليعاونهم على الجلاء. وخرج بنو إرنيان من أركش بأهلهم وأموالهم، يقصدون إلى أرض غرناطة. وكان ابن عباد قد رتب الكمائن لاعتراضهم، فما كادوا يبتعدون بأحمالهم عن القلعة حتى خرجت كمائن ابن عباد، ونشب بين الفريقين قتال مرير، دافع فيه بنو إرنيان عن أنفسهم وعن أموالهم وحريمهم أشد دفاع، بيد أنهم مزقوا في النهاية، وقتل أميرهم محمد بن خزرون وقتل معه قائد جند باديس، وأبيد معظمهم. ومما يذكر أن محمداً بن خزرون لما شعر بالهلاك أمر غلامه أن يقتل زوجته وكانت رائعة الحسن، وكذلك أخته، حتى لا تقعا في أيدي العدو، واكتفى ابن عباد بتمزيق بني إرنيان وترك فلولهم دون مطاردة، ودخل أركش واستولى على سائر البلاد التابعة لها، وذلك في سنة 461 هـ (1068 م) (¬1) وهكذا سقطت الإمارات البربرية الصغيرة الأربع، التي تقع في منطقة المثلث الإسباني الجنوبي، وضمت كلها تباعاً إلى مملكة إشبيلية القوية، وذلك خلال أعوام قلائل فقط، رندة في سنة 457 هـ، ومورور سنة 458 هـ، وقرمونة سنة 459 هـ، وأركش في سنة 461 هـ. وأضحت مملكة إشبيلية، بعد الاستيلاء على تراث هذه الإمارات، تمتد من ولاية تدمير شرقاً، حتى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن وسط الأندلس، من شرقي مملكة طليطلة، وغربي مملكة قرطبة شمالا، حتى أرض الفرنتيرة، وثغر الجزيرة جنوباً، وإذا استثنينا مملكتي ألمرية وغرناطة، فإن مملكة إشبيلية كانت تضم معظم تراث الدولة الأموية الذاهبة في وسط الأندلس وفي جنوبها. ¬_______ (¬1) راجع أعمال الأعلام ص 239 و 240، والبيان المغرب ج 4 ص 271 و 272 وذيله ج 3 ص 294 و 295.

الكتاب الثالث دول الفتيان الصقالبة وخلفائهم فى شرقى الأندلس

الكتابُ الثالِث دول الفتيان الصقالبة وخلفائهم في شرقيّ الأندلس

الفصل الأول مملكة ألمرية

الفصْل الأوّل مملكة ألمرية الفتيان الصقالبة. اشتراكهم في حوادث قرطبة. نزوحهم إلى شرقي الأندلس. استيلاء خيران العامري على أوريولة ومرسية وألمرية. يؤيد خلافة المرتضي. اختيار الفتيان لعبد العزيز المنصور زعيماً لهم. خيران يبايع محمد بن عبد الملك ثم يختلف معه. حكم خيران في ألمرية ومنشآته. شجاعته وإقدامه. وفاته وولاية زهير العامري مكانه. صفاته. وزيره أحمد بن عباس. حملته إلى غرناطة ومصرعه استيلاء عبد العزيز بن أبي عامر على ألمرية. استخلافه لوزيره ابن صمادح عليها. تغلب ابن صمادح على ألمرية. بنو صمادح وزعيمهم أبي يحيى عامل وشقة. ولده معن يتولى الوزارة لصهره عبد العزيز ثم ينزع منه ألمرية. وفاته وقيام ولده أبي يحيى المعتصم مكانه. صداقته لباديس صاحب غرناطة. خلافه مع عبد العزيز صاحب بلنسية. الثورة في لورقة. تأييد عبد العزيز لها. الحرب بينه وبين المعتصم وباديس. استقلال الثوار بحكم لورقة. الخلاف بين المعتصم وباديس. استيلاء المعتصم على أراضي غرناطة الشرقية. استيلاؤه على جيان. الخلاف بين المعتصم وعبد الله صاحب غرناطة والصلح بينهما. أدب المعتصم وشاعريته. أقوال ابن بسام. سقوط طليطلة وموقف المعتصم من استدعاء المرابطين. تنافسه مع ابن عباد لدى أمير المسلمين. مساهمة جنده في موقعة الزلاقة. مساهمته في حصار حصن لييط. وفاته وما يروى حولها. ولده معز الدولة. فراره من ألمرية عند مقدم المرابطين. 1 - عهد الفتيان العامريين لما وقعت الفتنة، وانتهت الدولة العامرية، بتربع محمد بن هشام المهدي على كرسي الخلافة، في جمادى الآخرة سنة 399 هـ (فبراير 1009 م)، ومقتل عبد الرحمن بن المنصور، بعد ذلك بأيام قلائل، غادر معظم الفتيان الصقالبة قرطبة، فراراً من اضطهاد العهد الجديد، وقصدوا إلى شرقي الأندلس، حيث كانت الأحوال أهدأ وأكثر استقراراً، وجو العمل والمغامرة أكثر انفساحاً، وكان منهم عدة من الفتيان الفحول والخصيان الأذكياء، ذوي الإقدام والعزم، مثل مجاهد، وقد غلب على مدينة دانية والجزائر الشرقية، ولبيب وقد غلب على طرطوشة. ومظفر ومبارك وقد غلبا على بلنسية، ونبيل وقد غلب على شاطبة، وخيران، وقد غلب على ألمرية ومرسية وأوريولة. وإنما يهمنا هنا، من هذه الجمهرة من الفتيان الصقالبة، خيران العامري،

وقد كان من أقواهم عزماً، وأنشطهم إلى خوض غمار الحوادث، التي تلت سقوط الدولة العامرية. ونحن نعرف أن محمداً بن هشام المهدي حينما تولى الخلافة ثار عليه سليمان بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر في أنصاره ومرشحيه من البربر، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة حول قرطبة وفي الزهراء، هزم فيها سليمان وحزبه في البداية. وكان الفتيان العامريون ينقمون على المهدي ما فعله بهشام المؤيد من حبسه بالقصر واضطهاده، وما فعله بعبد الرحمن المنصور وبني عامر، فائتمروا به وقتلوه، وكان من بين مدبري هذه المؤامرة الحاجب واضح الفتى، وزميلاه عنبر وخيران، وكانا قد قدما من شرقي الأندلس إلى قرطبة مع عدد آخر منهم، ليشتركوا في حوادث قرطبة، وليبحثوا عن طالعهم فيها. ورفع الفتيان الصقالبة، هشاماً المؤيد إلى كرسي الخلافة مرة أخرى، وتولى واضح حجابته. ولكن البربر تمسكوا بموقفهم وبمرشحهم سليمان، واستأنفوا هجومهم على قرطبة وحاصروها، وقاتلوا أهلها بمنتهى الشدة، ودافع القرطبيون عن أنفسهم بمنتهى البسالة، ولكنهم ضاقوا بالحصار والعدوان ذرعاً، ووجه اللوم في ذلك إلى الحاجب واضح، فقتله زملاؤه، وفي النهاية تغلب البربر على كل مقاومة، واعتلى سليمان كرسي الخلافة باسم المستعين، وذلك في شوال سنة 403 هـ (مايو 1013 م). وكان الفتيان العامريون قد خشوا العاقبة بعد مقتل واضح، وهالهم في نفس الوقت، ما ارتكبه سليمان وصحبه البربر من العيث والسفك، وجرح الكثير منهم خلال القتال ومنهم خيران، فغادروا قرطبة ناجين بأرواحهم، وقصدوا إلى شرقي الأندلس مرة أخرى. وسار خيران أولا إلى أوريولة في شرقي الأندلس فاستولى عليها، ثم وثب منها على مدينة مرسية عاصمة تدمير، فأخضعها لسلطانه (403 هـ)، وخرج منها بعدئذ بقواته إلى ثغر ألمرية. وكان عليها أفلح الصقلبي، وهو حسبما تصفه الرواية غرٌّ جلف، قد ذهب به العجب كل مذهب، وكان يدل على زملائه الفتيان الصقالبة بقدمه وشيخوخته، فهاجمه خيران، وقتله هو وولده، وانتزع منه ألمرية، وذلك في المحرم سنة 405 هـ (يوليه 1014 م) وغدت ألمرية من ذلك الحين قاعدته الرئيسية، ومستودع أمواله وعدته، كما غدت مركز الدعوة

لإمامة هشام المؤيد، وهو الذي كان يعتبره فتيان الصقالبة إمامهم ومولاهم. وقد رأينا فيما تقدم من أخبار الدولة الحمودية، كيف ادعى علي بن حمود الحسني حاكم سبتة أيام الفتنة، أنه تلقى عهد هشام، وكيف تحالف معه خيران ثم عاونه بقواته، كما عاونه بربر غرناطة، وانتهى الأمر بأن زحفت القوات المتحدة على قرطبة، وكتب النصر لعلي بن حمود، ودخل قرطبة، ولما لم يعثر على هشام المؤيد بالقصر، دعا لنفسه بالخلافة، وبدأت بذلك دولة بني حمود (سنة 407 هـ). ثم رأينا كيف غادر خيران قرطبة مغضباً متوجساً من غدر علي بن حمود، وقصد إلى جيان، ودعا أصحابه بالخلافة لعبد الرحمن المرتضي، وأيده في تلك الحركة عدة من ولاة الثغور، ثم وقعت الحرب بين قوات المرتضي وبربر غرناطة، فهزم المرتضي ثم قتل، وعندئذ سار خيران في أصحابه، وقصد إلى ألمرية مرة أخرى، وكان ذلك في سنة 409 هـ (1019 م). والظاهر أن خيران، بالرغم من اتخاذه ألمرية قاعدته الرئيسية. قد لعب في حوادث شرقي الأندلس دوراً ملحوظاً. ذلك أن الفتيان العامريين في شرقي الأندلس، قد اتفق رأيهم على أن يتخذوا لهم رئيساً من سلالة مولاهم العظيم، المنصور بن أبي عامر، ينضوون جميعاً تحت لوائه من الناحية الأدبية، فوقع اختيارهم في ذلك على عبد العزيز بن عبد الرحمن بن المنصور، وكان فتى حدثاً ونحن نذكر أنه كان أيام أبيه عبد الرحمن المنصور طفلا، ومع ذلك فلقد أسبغ عليه والده لقب الحجابة، ولقبه بسيف الدولة، وكان منذ مصرع أبيه قد غادر قرطبة سراً، وسار إلى سرقسطة، وأقام بها في كنف صاحبها منذر ابن يحيى التجيبي، فلما اختاره الفتيان العامريون زعيماً لهم، غادر سرقسطة، ولحق بشاطبة، حيث أعلنت بيعته، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م). وفي رواية أخرى أن سليمان بن الحكم المستعين، حينما ولي الخلافة لأول مرة، عمل على رد اعتبار بني عامر، فدفن شلو عبد الرحمن المنصور بالتكريم، وآوى ولده الطفل عبد العزيز، وابن عمه الطفل محمد بن عبد الملك تحت رعايته، فبقيا في كنفه وقتاً قصيراً، حتى خلع، واسترد محمد بن هشام الخلافة. فعندئذ غادر الطفلان قرطبة (¬1). ولسنا نعرف ما هو الدور الذي أداه خيران في اختيار عبد العزيز ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 193.

للزعامة، وهل كان من مؤيديه أم من خصومه. ذلك أنه لم يمض قليل على ذلك حتى اختلف خيران مع عبد العزيز، وأعلن الخروج عليه، وسار من ألمرية إلى مرسية، وهنالك بايع بالزعامة محمداً بن عبد الملك بن المنصور، وهو ابن عم عبد العزيز، وكان قد غادر قرطبة ولجأ إليه، فقدمه وصحبه إلى مرسية، وثار في نفس الوقت أهل شاطبة بعبد العزيز فغادرها سراً إلى بلنسية. وتسمى محمد بالمؤتمن، ثم بالمعتصم. ثم تنكر له خيران، وأخرجه من مرسيه، واستولى الفتيان على أمواله، فسار إلى غرب الأندلس وعاش هنالك حتى توفي (¬1) وهكذا لم يكن خيران، وهو في عمالته في شرقي الأندلس، دائماً على وفاق مع أصحابه الفتيان العامريين، وكانت علائقه بالأخص سيئة مع مجاهد صاحب دانية، وكانت تقع بينهما المناوشات والمعارك من آن لآخر. * * * ولتتبع بعد ذلك حكم خيران في ألمرية، بعد أن فصلنا الحوادث التي خاضها منذ اضطرام الفتنة، والتي تدل في مجموعها على ما كان يتمتع به هذا الزعيم الصقلبي من الحصافة، والإقدام، وقوة العزم. استقر خيران في ألمرية، وبسط حكمه على أعمالها، وكانت إمارة ألمرية تشمل يومئذ المنطقة الممتدة من شاطىء اسبانيا الشرقي الجنوبي، على هيئة مثلث كبير، غرباً حتى وادي آش وحدود مملكة غرناطة، وشمالا حتى بسطة وجيان، وقد كانا أهم قواعدها بعد ألمرية، وهذا عدا أوريولة ومرسية، وقد كان يحكمهما بالنيابة زهير العامري. وأبدى خيران في ضبط ألمرية وتنظيمها همة فائقة، وحصن ألمرية، وأصلح قصبتها الشهيرة، وزاد فيها حتى غدت من أعظم القصبات الأندلسية، وأودعها أمواله وذخائره، وما زالت أطلالها الماثلة إلى اليوم تشهد بما كانت عليه من الروعة والحصانة. وزاد خيران في قبلة جامع ألمرية زيادة اتسع لها الجامع، وبنى السور الهابط من الجبل إلى البحر، وجعل له أربعة أبواب منها باب يخرج منه إلى بجانة (¬2) ونظم خيران جيشه، واستوزر ¬_______ (¬1) يراجع في هذه الحوادث أعمال الأعلام ص 210 و 211، وابن خلدون ج 4 ص 162، والبيان المغرب ج 3 ص 164. وكذلك: Gaspar Remiro: Historia de Murcia Musulmana (Zaragoza 1905) p. 96-98. (¬2) كتاب ترصيع الأخبار للعذري (نصوص عن الأندلس نشرت منه بعناية الدكتور عبد العزيز الأهواني) (مدريد 1965) ص 83.

الكاتب البليغ أحمد بن عباس بن أبي زكريا، وعامل رعيته بالرفق والعدل، وفي أيامه بلغت ألمرية منتهى العمران والرخاء، وغدت من أمنع وأجمل ثغور الأندلس. وكان خيران رئيساً وافر الدهاء والشجاعة، والحصافة، وحسن التدبير، وكان بصيراً بالحروب ومكايدها، وقد جرت بينه وبين جيرانه البربر أصحاب غرناطة، وقائع أبدى فيها قوته وصرامته، فهابوه، ولم يفكروا في مناوأته. وكان فوق ذلك كله متواضعاً زاهداً في الألقاب، فلم يتسم بشىء من تلك الألقاب الضخمة، التي تسمى بها سائر أمراء الطوائف في عهده، واكتفى بما كان يوصف به من " الخليفة " و " الفتى الكبير " (¬1). وقد مدحه شاعر العصر الكبير، أبو عمرو أحمد بن درّاج القسطلي، بقصيدته الشهيرة، التي مطلعها: لك الخير قد أوفى بعهدك خيران ... وبشراك قد وافاك عزٌّ وسلطان هو النجم لا يدعي إلى الصبح شاهد ... هو النور لا يُبغي على الشمس برهان إليك شحنّا الفلك تهوى كأنها ... وقد ذعرت عن مغرب الشمس غربان على لجج خضر إذا هبت الصبا ... ترامى بنا فيها ثبير وثهلان (¬2) وتوفي خيران العامري بألمرية في جمادى الآخرة سنة 419 هـ (1028 م)، فاجتمع في الحال رجال الدولة، وعلى رأسهم الوزير أحمد بن عباس، ونبأهم بأن خيران، قد أوصى قبل وفاته بأن يخلفه أخوه زهير العامري، واتفق الجميع بذلك على تولية زهير. وكان خيران حينما شعر بدنو أجله قد بعث بالفعل يستدعي زهيراً، نائبه في مرسية وجيان، فقدم زهير على عجل، وأدرك خيران قبيل وفاته، فلما توفي قام في الحال مكانه، وتسلم زمام السلطان، ورضي به الناس ورجال الدولة (¬3). وكان زهير ويكنى أبا القاسم، من أهم الفتيان العامريين، وأشدهم بأساً، " وكان شهماً داهية " بعيد النظر، وقد لعب في حوادث الفتنة بقرطبة أدواراً أشرنا إليها في مواضعها، ولما تولى حكم ألمرية اقتفى أثر صاحبه خيران في حسن ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 212. (¬2) وردت هذه القصيدة بأكملها في ديوان ابن دراج المنشور بعناية الدكتور محمود علي مكي (دمشق 1961) ص 86 - 88، ووردت في الذخيرة (القسم الأول المجلد الأول ص 74 - 78)، وكذلك ابن الخطيب في أعمال الأعلام (ص 212 - 215) وهي طويلة جداً. (¬3) ابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 525 و 526.

السيرة وحفظ النظام. وهو الذي زاد في المسجد الجامع بألمرية من غربيه وشرقيه وجوفيه، وعظم المسجد بذلك. وبنى السقاية، وكثر الماء في ألمرية. وكان يكرم الفقهاء ويشاورهم في الأمر. وكانت مملكة ألمرية وقت أن تولى حكمها زهير، تمتد من ألمرية حتى شاطبة، شرقاً، وتمتد شمالا حتى جيّان وبيّاسة، وحتى أعمال طليطلة، ولو أن زهيراً استمع إلى صوت العقل والحكمة، وقنع بتدبير مملكته الكبيرة، لكان له في تاريخ الطوائف شأن آخر، ولكنه كان يقع تحت نفوذ وزيره الكاتب أحمد بن عباس، وقد كان هذا الوزير، بالرغم من صفاته العلمية والأدبية اللامعة، ميالا إلى التهور والمغامرة، وكان يلقى في روع أميره مشاريع خطيرة، ويحرك أطماعه بتحريضه وسيىء نصحه، والظاهر أنه هو الذي بعث إليه فكرة غزو غرناطة، على أثر موت أميرها حبوس بن ماكسن، وتولى ولده باديس الحكم مكانه في سنة 428 هـ (1037 م). فنظم زهير حملته المشئومة إلى غرناطة، ولم يلتفت إلى ما طلبه إليه باديس وأخوه بُلُقِّين، من تجديد أواصر المودة والصداقة التي كانت معقودة بينه وبين أبيهما حبوس، ثم سار إليها في قواته الكبيرة، وقد أخذه الغرور والعجب، حسبما فصلناه في أخبار غرناطة، وهنالك التقى بقوات باديس في ظاهر قرية ألفنت القريبة من غرناطة، وذلك في آخر شوال سنة 429 هـ (1038 م) ونشبت بينهما الموقعة الهائلة التي انتهت بهزيمة زهير ومصرعه وتمزيق قواته، وأسر أكابر رجاله، وفي مقدمتهم وزيره ابن عباس، وقد قتله باديس أيضاً بعد ذلك بأسابيع قلائل (¬1). فكانت هذه النكبة ضربة أليمة لمملكة ألمرية، وكان من أثرها أن استولى باديس على الجزء الشمالي الغربي من أراضي ألمرية، وفيها مدينة جيان أكبر قواعدها الشمالية. ولما فقدت ألمرية أميرها ووزيرها على هذا النحو، اجتمع أهلها، وأسندوا رياستهم إلى شيخ الجماعة أبي بكر الرميمي، فتولى شئونها، وضبط النظام والأمن. ثم كتب أهل ألمرية إلى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية يستدعونه لحكم مدينتهم. وكان عبد العزيز يعتبر أنه صاحب الحق الشرعي في تراث الفتيان العامريين، وذلك بحق الميراث والولاء باعتبارهم موالي أسرته، وكان مذ هلك ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 168 - 172.

زهير، قد بعث وزيره ابن صمادح إلى باديس، يلح عليه في إعدام أكابر الأسرى من زعماء ألمرية الذين وقعوا في يده، ولاسيما الوزير ابن عباس، حتى لا يعارضه منهم أحد بعد في امتلاك ألمرية، وبادر عبد العزيز على أثر ذلك إلى ألمرية، فبايعه أهلها ودخلها في آخر ذي القعدة سنة 429 هـ، ووجد بيت مالها مليئاً بالمال المضروب والذخائر فنقلها جميعاً إلى بلنسية (¬1)، وترك عليها والياً من قبله هو صهره ووزيره أبو الاحوص معن بن صمادح التجيبي، فكانت ولايته إيذاناً بتطور مصاير مملكة ألمرية. ْ2 - عهد بني صمادح التجيبيين ذلك أن عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، لم يكد يفرغ من شئون ألمرية، حتى جاءته الأنباء بأن منافسه وخصيمه مجاهد العامري صاحب دانية وجزائر البليار، قد تحرك لغزو أراضيه. وكان مجاهد يرقب تقدم عبد العزيز واتساع ملكه بعين الحسد، فلما شغل بما آل إليه من تراث الفتيان في ألمرية، خرج مجاهد في قواته صوب بلنسية، فهرع عبد العزيز إلى مدافعته، وترك صهره ووزيره أبا الأحوص معن بن صمادح ليرعى شئون ألمرية. وكان معن رجلا قليل الولاء كثير المطامع، فما كاد عبد العزيز يغادر ألمرية، حتى وضع مشروعه للاستئثار بالسلطة، والاستيلاء على مملكة ألمرية، وما زال يوطد الأمر لنفسه حتى جاهر بخلع الطاعة، ودعا لنفسه واستجاب الناس لدعوته، واستولى على ألمرية وأعمالها وذلك في سنة 433 هـ (1041 م)، وكان من مؤيديه ومعضديه في هذا الانقلاب باديس صاحب غرناطة. ودخلت مملكة ألمرية بذلك في عهد جديد من تاريخها. وكان هذا الرئيس الجديد الذي سيطر على أقدار ألمرية، ينتمي إلى بيت من أعرق البيوتات العربية، وكان حسبما يوصف من أهل الدهاء والفضل والعلم والأدب (¬2). وهو معن بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن ابن صمادح، وبه عرف بيتهم. وصمادح هذا هو ولد عبد الرحمن بن عبد الله ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 162، وأعمال الأعلام ص 217، والبيان المغرب ج 3 ص 172 وراجع دوزي: Hist.; V. III ; p. 28 (¬2) العذري في " نصوص عن الأندلس " من كتاب ترصيع الأخبار ص 84.

ابن المهاجر بن عميرة، وهو جدهم الداخل إلى الأندلس. وفي عبد الرحمن ابن عبد الله يجتمعون مع بني هاشم التجيبيين أصحاب سرقسطة، فهم مثلهم ينتمون إلى تجيب (¬1). وكان والده أبو يحيى محمد بن أحمد بن صمادح حاكم مدينة وشقة وأعمالها منذ أواخر أيام هشام المؤيد بالله. ولما تولى سليمان الظافر الخلافة في سنة 403 هـ أقره على ولايته، وكانت بينه وبين ابن عمه منذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة في البداية علائق مودة وسلام، فلما انتهت أيام سليمان، واغتصب بنو حمود الخلافة القرطبية في سنة 407 هـ، وعادت الأمور إلى اضطرابها، ساءت العلائق بين المنذر وأبى يحيى، وسار منذر إلى وشقة في قواته واستولى عليها، وفر أبو يحيى في أهله وولده ناجياً بنفسه. فكان على قول ابن حيان " أول ساقط من الثوار لم يتملأ سلطانه ولا أورثه من بعده ". وكان أبو يحيى مع رياسته عالماً محدثاً من أهل الفضل والأدب، روى عنه ابنه أبو الأحوص معن، وله مختصر قيم في غريب القرآن. وقد اشتهرت وصيته لابنيه معن وصمادح بأسلوبها البارع، ومحتوياتها الجامعة لمعظم آداب الدنيا والدين، ودلالتها على وفور علمه، وجلالة معارفه، وسمو نفسه (¬2). ووصف لنا ابن بسام في الذخيرة أبا يحيى بأنه كان فارساً مقداماً، وكان أديباً ذلقاً حسن البيان، ولكنه كان منكود الطالع، فلم تدم رياسته طويلا (¬3). ولجأ أبو يحيى إلى عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، فأكرم وفادته وتوثقت علاقتهما بالمصاهرة، إذ تزوج ولداه معن أبو الأحوص، وصمادح أبو عتيبة بأختي عبد العزيز. ثم أراد أبو يحيى اللحاق بالمشرق، فمات غرقاً في البحر. وذكر لنا ابن حيان أنه هلك غرقاً في البحر الرومي، فيما بين جزيرة يابسة ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء (مخطوط الإسكوريال) في ترجمة المعتصم بن صمادح، لوحة 80 و 81، ونقلها دوزي مقتضبة في كتابه: Recherches, V.II.App.XX.. وذكر ابن الخطيب أن صمادح إنما هو اسم امرأة هي صمادح بنت عبد الرحمن بن عبد الله إلى آخر نسبتهم، وأنهم عرفوا باسم أمهم المذكورة (أعمال الأعلام ص 189). ولكنا لم نجد تأييداً لهذه الرواية. وبالعكس فإن النسابة ابن حزم يقرر أن صمادح هو جدهم (جمهرة أنساب العرب ص 405). ويوافقه ابن الأبار حسبما تقدم. وراجع الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 78 - 81. (¬2) ابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة" - الجزء الأول - مخطوط مكتبة باريس الوطنية. (¬3) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 236.

وشاطىء الأندلس، وكان قد ركبه من ثغر دانية، في مركب تأنق في صنعه واستجادة آلته وعدته، مع نفر عديد من صحبه، فغرق معظمهم، ولم ينج منهم سوى القليل، وذلك في جمادى الأولى سنة 419 هـ (¬1) وبقي ابنه معن في كنف صهره عبد العزيز، وقد ولاه وزارته، فلما قتل زهير العامري، واستولى عبد العزيز على ألمرية، استخلف عليها وزيره معن. قال ابن حيان: " فكان شر خليفة استخلف. لم يكد يواري وجهه عبد العزيز عنه، حتى خان الأمانة، وطرده من الإمارة، ونصب له الحرب، فغرّب في اللؤم ما شاء. وتنكب ابن أبي عامر التوفيق لاسترعائه الذئب الأزل على ثلته، ومسترعي الذئب أظلم، وكان من العجب أن تملاها ابن صمادح، وخلفها ميراثاً في عقبه " (¬2)، وانتهى الأمر باستيلاء معن على ألمرية والدعاء بها لنفسه حسبما تقدم. واستمر معن في حكم ألمرية وأعمالها زهاء عشرة أعوام. وكانت بينه وبين باديس صاحب غرناطة علائق مودة وصداقة. وتوفي سنة 443 هـ (1051 م) بعد أن وطد رياسته، ومهد الملك لعقبه. فخلفه ولده أبو يحيى محمد بن معن بن صمادح بإجماع القرابة ورجال الدولة، ولما يستكمل الثامنة عشرة من عمره؛ وكان أبوه قد أخذ له البيعة بولاية عهده، بعد أن عرضها على أخيه صمادح أبي عتبة، فاعتذر عن قبولها، واتخذ من الألقاب الملوكية لقبين، هما المعتصم بالله والواثق بفضل الله، والرشيد على قول آخر، وتوطدت في بداية حكمه علائق المودة بينه وبين باديس صاحب غرناطة، على ما كانت بينه وبين أبيه (¬3). ولكن الخلاف لبث بالعكس مستحكماً بينه وبين خاله عبد العزيز بن أبي عامر صاحب بلنسية، وكان باديس يعمل على إذكاء هذا الخلاف وتقويته كلما بدت بوادره. ذلك أنه كان باعتباره زعيم البربر يكره الجبهة الأندلسية، ويحاول دائماً أن يعمل على إضعافها، وكان من أبرز الحوادث المتصلة بهذا الخلاف ثورة ابن شبيب صاحب لورقة على المعتصم وذلك في سنة 443 هـ (1051 م). وكان من الواضح أن هذه الثورة لم تكن بعيدة عن وحي ¬_______ (¬1) ابن عبد الملك المراكشي في "الذيل والتكملة" - ج 1 من مخطوط مكتبة باريس الوطنية. (¬2) الذخيرة القسم الأول من المجلد الثاني ص 237، والبيان المغرب ج 3 ص 174 وأعمال الأعلام ص 190. (¬3) كتاب التبيان ص 45.

عبد العزيز. ذلك أن لورقة، وهي آخر قواعد مملكة ألمرية الشمالية الشرقية، تقع على حدود مملكة بلنسية، وقد استنصر الثائر بعبد العزيز، فبادر بتلبية دعوته، وأمده ببعض قواته، وزحف المعتصم في جيشه على لورقة، وأمده باديس من جانبه بقواته، ونشبت بين الفريقين معارك انتهت بهزيمة ابن شبيب واستيلاء المعتصم على حصون لورقة، وعودتها إلى حظيرة مملكة ألمرية (¬1). بيد أنه يبدو أن ابن شبيب قد استأنف الثورة بعد ذلك، واستطاع أن يستقل بحكم لورقة، وخلفه إخوته الثلاثة في حكمها بالتعاقب، واعترف آخرهم بطاعة ابن عباد صاحب إشبيلية، واستمر على حكمها باسمه، حتى سقطت إشبيلية في يد المرابطين في سنة 484 هـ (1091 م) (¬2). فلما توفي عبد العزيز في سنة 452 هـ (1060 م)، وخلفه في حكم بلنسية، ولده عبد الملك الملقب بالمظفر، بعث المعتصم بن صمادح بعض قواته فأغارت على بعض حصونه في تدمير، وساعده في تلك الحركة أيضاً باديس، ولكنه باء بالفشل، وردت جنده على أعقابها (¬3). ثم تطورت العلائق بعد ذلك بين المعتصم وباديس، وثابت للمعتصم أطماع في الاستيلاء على أراضي غرناطة المجاورة لمملكته. والظاهر حسبما يحدثنا الأمير عبد الله بن بلقين أمير غرناطة في مذكراته، أن الذي كان يوحي إليه بتلك الأطماع ويشجعها، هو يوسف بن نغرالة اليهودي، وزير باديس، بل يقول لنا الأمير إن مشروع ابن نغرالة كان يرمي إلى تمكين المعتصم من الاستيلاء على غرناطة ذاتها (¬4). وعلى أي حال فقد استطاع المعتصم أن يستولي على بعض أراضي غرناطة الشرقية وعلى حصن وادي آش. وقد رأينا فيما تقدم من أخبار باديس أنه ركن إلى الدعة في أواخر عهده، ووقع التفكك في مملكته. وهو قد استرد وادي آش من ابن صمادح فيما بعد، ولكن الظاهر أنه فقد جيان في أواخر عهده، واستولى عليها المعتصم بمداخلة الخوارج فيها. وكانت مملكة ألمرية تشمل ¬_______ (¬1) ابن خلدرن ج 4 ص 162. (¬2) Gaspar Remiro: Murcia Musulmana ; p. 105 (¬3) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 239، والبيان المغرب ج 3 ص 174. (¬4) كتاب التبيان ص 53.

عندئذ من القواعد الهامة غير ألمرية، لورقة، وجيان، وبياسة (¬1) التي استطاع المعتصم أن ينتزعها من أملاك علي بن مجاهد العامري صاحب دانية، بيد أنه لم يحتفظ طويلا بمدينة جيان التي استولى عليها المعتمد بن عباد فيما بعد. ولما توفي باديس وخلفه حفيده عبد الله بن بلقين، وقعت بين المعتصم وعبد الله منازعات كثيرة بسبب الحصون الغرناطية الواقعة على الحدود مما يلي فنيانة، وانتهى الأمر بأن أرغم عبد الله على هدم تلك الحصون استبقاء للمهادنة والسلم بينه وبين أمير ألمرية (¬2). وبذل المعتصم جهوداً عظيمة، في توسيع قصبة ألمرية وتجميلها، وأنشأ بها قصره الكبير الممتد حتى الجبل، وإلى جانبه بستانه العظيم، وأنشأ مجلساً رحباً مفروشاً بالرخام الأبيض، ومجلساً آخر مقرنساً بالرفوف المذهبة، ويليه من الجهة القبلية أبواب عليها شراجب يمكن منها أن يرى جميع مدينة ألمرية، وبحرها، وإقبال السفن إلى مرساها وخروجها منه. وجلب المعتصم الماء إلى المدينة ووصلها إلى جامع ألمرية، وجلب منها فرعاً إلى ما وراء القصبة، ونظم وصول الماء إلى الرياض الملحقة بالقصر، كما ابتنى بخارج ألمرية قصوراً فخمة، وإلى جوارها بساتين تغص بغرائب الأشجار والثمار، وفي إحداها بحيرة عظيمة عليها مجالس مفتوحة، مفروشة بالرخام الأبيض، وكان ذلك البستان الفخم يسمى " بالصمادحية " وهو قريب من ألمرية (¬3). على أن أهم ما يشتهر به المعتصم بن صمادح هو أدبه وشعره، وحمايته لدولة الشعر والأدب. وقد كان بلاطه الصغير بألمرية، ينافس في مجالسه الأدبية وفي رعايته للأدباء والشعراء، بلاط إشبيلية. وكان بلاط المعتصم منتدى لطائفة من أكابر شعراء العصر، فقد كان وزيره أبو الأصبغ عبد العزيز بن أرقم شاعراً مقتدراً يجيد الوصف والمديح، وكان من شعرائه المختصين به، أبو عبد الله محمد بن عبادة المعروف بابن القزاز، إمام الموشحات، وأبو الفضل جعفر بن شرف، وهو من أهل برجة، وكانت ¬_______ (¬1) A.R Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) p. 167 (¬2) كتاب التبيان ص 89 و 90. (¬3) العذري في كتاب " ترصيع الأخبار " ص 85.

مدائحه للمعتصم تمتاز بطرافتها، وبديع تصويرها، وأبو القاسم خلف بن فرج المعروف بالميسر، أصله من إلبيرة، وكان يجيد شعر التهكم اللاذع؛ وابن الحداد الوادي آشي، وقد قضى معظم حياته في بلاط المعتصم، ولكن غضب عليه المعتصم ذات يوم لزلة ارتكبها في شعره، فغادر ألمرية، ولجأ حيناً إلى بلاط المقتدر بن هود بسرقسطة، ثم عاد إلى ألمرية، وكان فضلا عن شاعريته التي تبدو في مدائحه الكثيرة للمعتصم، عالماً بالفلسفة. ومن مديحه للمعتصم قوله من قصيدة طويلة: لعلك بالوادي المقدس شاطىء ... فكالعنبر الهندي ما أنا واطىء وإني في رؤياك واجد ريحهم ... فروح الهوى بين الجوانح ناشىء ولي في السُّرى من نارهم ومنارهم ... هداة حداة والنجوم طوافىء لذلك ما حنت ركابي وحمحمت ... عِرابي وأوحى سيرها المتباطىء (¬1) وقد نوهت الروايات المعاصرة والقريبة من العصر، بحماية المعتصم لدولة الشعر والأدب. فمثلا يقول لنا ابن بسام: " ولم يكن أبو يحيى هذا من ملوك الفتنة، أخلد إلى الدعة، واكتفى بالضيق من السعة. واقتصر على قصر يبنيه، وعلق يقتنيه، وميدان من اللذة يستولي عليه ويبرز فيه. غير أنه كان رحب اللقاء، جزل العطاء، حليماً عن الدماء والدهماء، طافت به الآمال، واتسع في مدحه المقال، وأعملت إلى حضرته الرحال، ولزمته جملة من فحول شعراء الوقت كأبي عبد الله بن الحداد، وابن عبادة، وابن الشهيد وغيرهم .. ". ويزيد ابن بسام على ذلك، أن ما خاضه المعتصم من الفتن والحروب مع خصومه من ملوك الطوائف، لم يكن مما يتفق وطبيعته الوادعة، وإنما استدرج إليها، وأكره عليها إكراهاً (¬2). وقد كان المعتصم في الواقع يؤثر العيش الهادىء بقصره الأنيق المشرف على البحر والمسمى، " بالصمادحية " وينفق كثيراً من وقته في المجالس الشعرية والأدبية. ¬_______ (¬1) أوردها ابن بسام في الذخيرة - القسم الأول المجلد الثاني ص 218، وأورد من بعدها قصائد أخرى من مدائحه للمعتصم (ص 218 - 233) وراجع أيضاً نفس المصدر ص 241 و242 وص 372 - 380. (¬2) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 239، والحلة السيراء (دوزي) ص 172، و (القاهرة) ج 2 ص 82 و 83، وقلائد العقيان ص 47.

ولم تقتصر حماية المعتصم ورعايته على دولة الشعر والأدب، ولكن بلاطه كان في نفس الوقت مقصد المفكرين والعلماء من كل ضرب، ومن هؤلاء أبو عبيد عبد الله البكري أعظم جغرافي الأندلس، وصاحب المعجم الجغرافي اللغوي الشهير، فقد عاش حيناً في ألمرية في كنف المعتصم، وكان صديقه الأثير، وأغدق عليه المعتصم فيض رعايته وصلاته. وكان بنو صمادح أنفسهم جميعاً من نجوم الشعر والأدب، فقد كان المعتصم، وبنوه معز الدولة ورفيع الدولة ورشيد الدولة من شعراء العصر. ولهم جميعاً آثار شعرية انتهى إلينا الكثير منها. وكانت أم الكرام بنت المعتصم كذلك شاعرة عصرها (¬1) وكان المعتصم فوق ذلك كله، معنياً بشئون الدين، وإقامة أحكام الشريعة، يعقد المجالس في قصره للمذاكرة، ويجلس يوماً في كل أسبوع للفقهاء والخواص، يتناظرون بين يديه في كتب التفسير والحديث (¬2). واشتهر المعتصم بن صمادح بشعره وطرائفه الأدبية، وقد أورد لنا صاحب الذخيرة ضمن ما أورده من بعض قصائده، الأبيات الغزلية الآتية: وتحت الغلائل معنى غريب ... شفاء الغليل وبرء العليل فهل لي من نيله نائل ... ولابن السبيل إليه سبيل فما لي إلا الهوى متجر .. . فغير الغواني متاع قليل فيا ربة الحسن في غاية ... وعصر الشباب وظل المقيل ذرينى أعانق منك القضيـ ... ـب وأرشف من ثغرك السلسبيل (¬3) ولما تطورت الحوادث، وأدت الفتن والحروب بين ملوك الطوائف، إلى عاقبتها المحتومة، واستأسد عليهم ألفونسو السادس ملك قشتالة، وأخذ يضرب بعضهم ببعض، حتى ظفر بالاستيلاء على طليطلة (صفر 478 هـ)، واتجه ملوك الطوائف وفي مقدمتهم المعتمد بن عباد، إلى الاستنصار بأمير المسلمين يوسف ¬_______ (¬1) نقل إلينا ابن بسام في الذخيرة كثيراً من قصائدهم (القسم الأول المجلد الثاني ص 241 - 244). وكذلك في المغرب في حلي المغرب ج 2 ص 196 - 203، وابن الأبار في الحلة السيراء (المخطوط) لوحات 82 و 83 و 84. (¬2) الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 82. (¬3) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 241.

ابن تاشفين المرابطي، لم يكن المعتصم فيما يبدو من المتحمسين لتلك الفكرة ذلك أنه نظراً لموقع مملكته في الطرف الجنوبي في شبه الجزيرة، لم يكن قد آنس بعد خطر النصارى الداهم، كما آنسه ابن عباد وابن الأفطس، وكان فضلا عن ذلك يشعر كما يشعر معظم أمراء الطوائف بما يقترن بمقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة من الاحتمالات الخطيرة (¬1). ومع ذلك فإن المعتصم، حينما عبر أمير المسلمين إلى الأندلس في شهر ربيع الآخر سنة 479هـ (1086 م) لم يتقاعس عن المساهمة في القوات الأندلسية التي حشدت للتعاون مع الجيش المرابطي، وذلك حسبما نفصل بعد في موضعه، ثم إنه بعد ذلك تقرب من أمير المسلمين يوسف بالهدايا والتحف الجليلة، والتلطف في خدمته، حتى قربه إليه وأغدق عليه عطفه. وكان يوسف يبدي عطفه وتقديره بالأخص لرجلين من أمراء الطوائف هما المعتصم والمعتمد بن عباد، وكان يقول عنهما لأصحابه إنهما رجلا الجزيرة. ويقول لنا عبد الواحد المراكشي، إن المعتصم وابن عباد كان يشعر كل منهما نحو الآخر بعاطفة من المرارة والتحاسد، وأنهما حاولا غير مرة أن يتصافيا باللقاء، وأن المعتمد زار المعتصم بقصره بألمرية، واحتفل المعتصم بإكرامه أعظم احتفال، ومع ذلك فقد لبث الضغن كامناً في نفسيهما. فلما شعر المعتصم بتمكن منزلته لدى أمير المسلمين فيما بعد، أخذ يدس لديه في حق المعتمد، ويحاول أن يغير نفسه عليه، وقد كان في ذلك فاسد التدبير قصير النظر، حسبما أثبتت الحوادث فيما بعد (¬2). ولم يشهد المعتصم موقعة الزلاّقة، معتذراً لدى أمير المسلمين بضعفه وكبر سنه، ولكن قواته ساهمت فيها بقيادة ولده معز الدولة. واستمر المعتصم بعد ذلك في الحكم بضعة أعوام أخرى. وكان ألفونسو السادس بعد هزيمته المروعة في الزلاقة، قد استطاع أن ينهض من عثارها بسرعة، وتحول عدوانه عندئذ إلى شرقي الأندلس، حيث كان الضعف يسود الإمارات الأندلسية الصغيرة. وكانت القوات القشتالية، قد رابطت في حصن لييط (¬3) المنيع الواقع فيما بين مرسية ولورقة، وأخذت ترهق الأنحاء القريبة بغاراتها المتوالية، وكان أمير المسلمين قد ¬_______ (¬1) راجع كتاب التبيان ص 104. وراجع كذلك دوزي: Hist., V.III.p. 124 (¬2) راجع المعجب ص 73 و 74. (¬3) هو بالإسبانية Alédo، وما زالت أطلال هذا الحصن قائمة حتى اليوم.

عاد على أثر موقعة الزلاقة إلى المغرب، فلما وقف على اضطراب شئون الأندلس وتفككها بعد رحيله، واشتداد عدوان النصارى في المنطقة الشرقية، عاد فعبر البحر إلى الأندلس في قواته (481 هـ)، وتعاونت القوات الأندلسية مع القوات المرابطية في حصار حصن لييط، وكان المعتصم في مقدمة الأمراء الذين هرعوا إلى المساهمة في ذلك الحصار، وخصوصاً لقرب ذلك الحصن من أراضيه، وتعرضها بذلك لعيث النصارى. وطال الحصار مدى أربعة أشهر، ولم ينجح المسلمون في اقتحام لييط، بالرغم من وفرة قواتهم وعددهم، واضطروا إلى ترك الحصار، بعد أن فنيت معظم حاميته، واضطر ألفونسو بعد ذلك إلى إخلائه لعقم الدفاع عنه. وتوفي المعتصم بن صمادح في ربيع الآخر سنة 484 هـ (1091 م) بعد أن حكم إحدى وأربعين عاماً. بيد أنه شهد قبل أن يثوي إلى قبره نذر الخاتمة المشئومة تبدو في الأفق. ذلك أن يوسف بن تاشفين عبر البحر للمرة الثالثة (483 هـ) لا لينجد أمراء الأندلس هذة المرة، ولكن ليقضي عليهم وعلى دولهم المنحلة المفككة، وبدأ في ذلك بإمارة غرناطة واستولى عليها، ثم بعث قواته إلى إشبيلية لتقضي هنالك على دولة بني عباد. وهنالك روايتان فيما يتعلق بسقوط ألمرية، الأولى أن المرابطين حاصروها بالفعل، وامتلكوا معظم حصونها، وضيقوا على المعتصم، وهو ملازم سريره يعاني مرض موته، وأنه ألقى عندئذ عبارته المشهورة: " نُغص علينا كل شىء حتى الموت ". وحينما ألفى جاريته تبكي عند رأسه قال هذا البيت: ترفق بدمعك لا تفنه ... فبين يديك بكاء طويل (¬1) ومما قاله أيضاً حينما شعر بدنو أجله: تمتعت بالنعماء حتى مللتها ... وقد أضجرت عينيَّ مما سئمتها فيا عجباً لما قضيت قضاءها ... وملِّيتُها عمري تصرم وقتها وأما الرواية الثانية فتقول بأن المعتصم توفي قبل مقدم المرابطين، وأنه أوصى ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 240 و 241، والبيان المغرب ج 3 ص 168، وأعمال الأعلام ص 193، وابن خلدون ج 4 ص 162.

قبل وفاته ولده معز الدولة أحمد، بأنه متى علم بسقوط إشبيلية وخلع أميرها المعتمد وهو قطب الجزيرة، أن يعبر البحر في أهله وأمواله إلى أمراء بني حماد أصحاب القلعة بشرقي العدوة، وأن معز الدولة تولى حكم ألمرية بعد وفاة أبيه بضعة أشهر. فلما سقطت إشبيلية، وأسر أميرها المعتمد، وذلك في رجب سنة 484 هـ، بادر معز الدولة باتخاذ أهبة الفرار، ثم ركب البحر في أهله وأمواله في ثلاث سفن أعدها لذلك، وأحرق السفن الباقية خشية المطاردة، واستطاع أن يغادر ألمرية قبل أن يطوقها المرابطون وذلك في رمضان سنة 484 هـ (1091 م) ونزل على آل حماد أمراء القلعة على مقربة من بجاية، فأكرمت وفادته، وعاش هناك حتى توفي (¬1). ¬_______ (¬1) أورد هذه الرواية صاحب الحلة السيراء (دوزي) ص 174 والقاهرة ج 2 ص 89 و 90 وراجع روض القرطاس (طبعة أبسالة 1843) ص 101.

الفصل الثانى مملكة مرسية

الفصل الثانِي مملكة مرسية مدينة مرسية وانشاؤها. تغلب خيران العامري عليها أيام الفتنة. اختياره محمد بن عبد الملك للزعامة ثم تنكره له. زهير العامري يتولى حكم مرسية وأوريولة. إمارته لألمرية. نائبه أبو بكر بن طاهر بمرسية. عراقة ابن طاهر وأدبه. مصرع زهير وقيام عبد العزيز المنصور مكانه في ألمريه. إقراره لولاية ابن طاهر لمرسية. حزم ابن طاهر وسراوته. ولده أبو عبد الرحمن يخلفه. استيلاء ابن ذى النون على بلنسية وعزل صاحبها عبد العزيز المنصور. استقلال أبي عبد الرحمن بمرسية. خلاله وعلمه وأدبه. مطامع ابن عباد في مرسية. اتفاق وزيره ابن عمار وأمير برشلونة على افتتاحها. فشل المحاولة. ابن عباد يستأنف الكرة. ابن رشيق يفتتح مرسية. القبض على ابن طاهر ثم الإفراج عنه. ندب ابن عمار لحكمها. طمعه في الاستقلال بها. تحريضه لأمراء النواحي. تحريضه لأهل بلنسية على الثورة. قصيدته في ذلك. متاعب ابن عمار في مرسية. غدر ابن رشيق به واستيلاؤه على المدينة. فرار ابن عمار والتجاؤه إلى سرقسطة. محاولته فتح حصن شقورة. القبض عليه وتسليمه لابن عباد ثم مصرعه. استبداد ابن رشيق بمرسية. يشترك مع المرابطين في حصار حصن لييط. اتهامه لدى أمير المسلمين بالخيانة. تسليمه لابن عباد ثم فراره. استيلاء المرابطين على مرسية. حياة ابن طاهر في بلنسية ثم وفاته بها. إن مدينة مُرْسِية، قاعدة ولاية مرسية أو ولاية تدمير القديمة الواقعة في شرقي الأندلس، هي مدينة أندلسية محضة، نشأت وترعرعت في ظل الأندلس المسلمة، ولم يكن لها وجود عند الفتح. وكانت قاعدة ولاية تدمير عند الفتح هي مدينة أوريولة. وفي سنة 216 هـ (831 م)، أنشأ الأمير عبد الرحمن بن الحكم مدينة مرسية لتكون عاصمة لتدمير، ومقراً للعمال والقواد، وقام على إنشائها عامله مالك بن جابر بن لبيد، وسميت في البداية بتدمير، على نسق تدمير الشام (¬1). وكان إنشاء مرسية في بسيط أخضر من الأرض، يقع في منحنى نهر شقورة، على مسافة قريبة من جنوب غربي أوريولة، الواقعة على نفس النهر، قبيل مصبه في البحر الأبيض المتوسط، وما زالت مرسية حتى اليوم تحتفظ بطابع أندلسي عميق. ¬_______ (¬1) الروض المعطار، صفة جزيرة الأندلس، (القاهرة) ص 181، بقيت في معجم البلدان تحت كلمة مرسية.

ولما انهارت الدولة العامرية، واضطرمت الفتنة في نهاية المائة الرابعة، وشعر الفتيان العامريون، أنه لا أمل لهم في النهوض والسلطان، خلال الفوضى الشاملة، التي غمرت قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، سار معظمهم إلى شرقي الأندلس. وكان من هؤلاء كبيرهم خيران العامري، فسار أولا إلى أوريولة، وهي أمنع قواعد ولاية تدمير، وبسط عليها سلطانه، ثم سار منها إلى مرسية واستولى عليها، وذلك في سنة 403 هـ (1012 م). واستخلف عليها نائبه، وزميله زهيراً العامري، ثم سار منها في قواته إلى ألمرية، وانتزعها من صاحبها أفلح الصقلبي، على نحو ما ذكرنا في موضعه، وغدت ألمرية من ذلك الحين قاعدته الرئيسية، تتبعها مرسية وأوريولة من شرقي الأندلس. وقد ذكرنا فيما تقدم، كيف أجمع الفتيان العامريون، الذين تغلبوا على شرقي الأندلس، على أن يتخذوا لهم زعيماً، من بيت مولاهم العظيم المنصور ابن أبي عامر، وكيف وقع اختيارهم في ذلك على عبد العزيز بن عبد الرحمن بن المنصور، فتمت بيعته في شاطبة، ثم لحق بعد ذلك ببلنسية، وبسط سلطانه عليها بتأييد الفتيان، وتسمى بالمنصور، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م). ثم أشرنا إلى موقف الخصومة، الذي وقفه خيران بعد ذلك من زعامة عبد العزيز المنصور، وإلى ما عمد إليه من ترشيح ابن عمه محمد بن عبد الملك المظفر بن المنصور للزعامة مكانه، واستقدامه إلى شرقي الأندلس، ونزوله له عن رياسة مرسية وأوريولة. وتلقب محمد بالمعتصم، بيد أن أمد رياسته لم يطل، إذ تنكر له خيران، كما تنكر من قبل لابن عمه عبد العزيز المنصور، ثم سار إليه في قواته، وضيق عليه، حتى اضطر إلى مغادرة مرسية، ولجأ إلى أوريولة، فشدد خيران في مطاردته حتى فر منها، وسار إلى دانية، فعاش حيناً في كنف أميرها مجاهد العامري: ثم غادرها إلى غربي الأندلس، وهنالك عاش بقية حياته، وتوفي في سنة 421 هـ (1030 م) (¬1). وعاد زهير العامري نائباً لخيران على مرسية وأوريولة: واستقر خيران بألمرية أميراً عليها، حتى توفي سنة 419 هـ (1028 م). وعندئذ خلفه في حكم مملكة ألمرية، وفي حكم مرسية وأوريولة بالأصالة، ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 193 و 194، وابن خلدون ج 4 ص 162.

زهير العامري، واستمر حكمه عليها حتى مصرعه في حربه مع باديس بن حبوس صاحب غرناطة في سنة 429 هـ (1038 م). - 1 - وكان يتولى حكم مرسية وقت أن كان زهير أميراً لألمرية، نائبه أبو بكر أحمد بن إسحاق بن طاهر. وكان بنو طاهر هؤلاء، من أعيان ولاية تدمير وسراتها، وينتمون إلى قيس، وكان منزلهم بمرسية، وقد اشتهروا بالعلم والوجاهة. ولما توفي خيران العامري، وغادر نائبه زهير مرسية ليتولى مكانه إمارة ألمرية، كان رئيس الجماعة بمرسية أبو عامر بن خطاب، فخشي زهير، إن تركه خلفه بمرسية، أن يثور بها وينزعها منه، فصحبه معه إلى ألمرية، وأسكنه بها حافظاً عليه مكانته ونعمته. والظاهر أن أبا عامر هذا هو حفيد أبى عمر أحمد بن خطاب كبير أعيان مرسية وسراتها أيام المنصور بن أبي عامر، وهو الذي استضاف المنصور وجيشه عند مروره بمرسية سنة 374 هـ, في طريقه إلى غزوة برشلونة، وأبدى يومئذ من وافر الشهامة والجود، ما غدا مضرب الأمثال (¬1). واستخلف زهير على ألمرية أبا بكر بن طاهر، ندّ أبى عامر وخصيمه لثقته بولائه وأمانته، وكان قد استطاع يومئذ أن يفتدي نفسه من أسر مجاهد العامري صاحب دانية، وأن يعود إلى مرسية (¬2). والظاهر أن ابن طاهر وقع في الأسر حينما غزا مجاهد مرسية، على أثر وفاة صاحبها خيران، وتوجسه من مشاريع خليفته زهير، وكان ابن طاهر عندئذ حاكماً لمرسية حسبما يبدو ذلك من إشارة لابن الأبار، من أنه بعد عوده من الأسر " عاد إلى حاله ونعمته، وأعانه زهير على لم شعثه، ووفى بعهده " (¬3). وضبط أبو بكر بن طاهر مرسية، وسار في حكمها سيرة حسنة. وكان فضلا عن عراقة بيته، وأرومته العربية المؤثلة، وثرائه الواسع، من أكابر علماء عصره ومن أغزرهم أدباً، وأبلغهم بياناً، وكان الشعب المرسى يحيطه بتقديره وحبه، لما كان يراه من نبيل صفاته، ووفرة حزمه ولينه وصيانته. وبالرغم من أنه كان ¬_______ (¬1) الحلة السيراء (دوزي) ص 251 و 252. و (القاهرة) ج 2 ص 311 و 312 (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 187. و (القاهرة) ج 2 ص 117 (¬3) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 187.

يستأثر بسائر السلطات، فإنه لم يتخذ شيئاً من مظاهر السلطان والإمارة، ولم يتخذ لقباً من الألقاب الملوكية التي كان يشغف بها أضرابه من رؤساء الطوائف، وإنما كان يسمى فقط بالرئيس (¬1). ولما توفي زهير العامري قتيلا في حربه مع باديس بن حبوس صاحب غرناطة في سنة 429 هـ (1038 م)، واستطاع عبد العزيز المنصور صاحب بلنسية، أن يخلفه في إمارة ألمرية، كانت مرسية وأوريولة من البلاد التابعة لها. وقدر عبد العزيز حزم ابن طاهر، ورسوخ مكانته، فلم يتعرض له بشىء، وأقره على حكم مرسية. وكان ابن طاهر، مع ولائه الظاهر لعبد العزيز المنصور، يسير في رياسته وحكمه على قاعدة الاستقلال التام، ولا ينفذ من أوامر عبد العزيز إلا ما يراه متفقاً مع رأيه وظروف بلده، ويرسل إلى بلنسية فائض الدخل، ويقوم بالنفقة على من ينزل طرفه من الجند، وكان عبد العزيز يقنع منه بهذا المسلك المتسم بالحزم والكرامة والاحترام المتبادل. وفي خلال حكمه الطويل الذي استمر نحو ستة وثلاثين عاماً، ازدهرت أحوال مرسية، وعمها الأمن والرخاء، وذاعت بها العلوم والآداب لقدوة أميرها الأديب العالم، واجتمعت له محبة الشعب وتقديره، وهو ما كان يندر يومئذ في دول الطوائف. وأضحى ابن طاهر في أواخر أيامه من أقوى الرؤساء جانباً، ومن أغنى سراة الأندلس، حتى لقد كان يمتلك وحده نصف أراضي بلده، وكان يعاونه في الحكم والإدارة ولده النابه أبو عبد الرحمن محمد، ولاسيما في أواخر عهده حيث أصيب بالفالج، وطالت علته أعواماً، وتوفي في شهر رمضان سنة 455 هـ (1063 م) (¬2). فخلفه في حكم مرسية ولده أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر، وكان عبد العزيز المنصور قد توفي قبل ذلك في شهر ذي الحجة سنة 452 هـ (1061 م)، وخلفه في حكم بلنسية ولده عبد الملك الملقب بالمظفر، فأقر عبد الرحمن مكان أبيه على حكم مرسية. وكان أبو عبد الرحمن بن طاهر، صنو أبيه في السراوة والحزم والهيبة، فسار في الحكم سيرته، مستقلا عن حكومة بلنسية، معترفاً بطاعتها في نفس الوقت. ونحن نعرف أنه لم يمض على ولاية عبد الملك المظفر لبلنسية أعوام قلائل، حتى زحف فرناندو ملك قشتالة في قواته على بلنسية وحاصرها، ثم ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 9 ص 100. (¬2) الحلة السيراء (دوزي) ص 187 و 188، وأعمال الأعلام ص 201.

هزم البلنسيين هزيمة شديدة في موقعة بطرنة (457 هـ - 1065 م)، وعلى أثر ذلك نفذ المأمون بن ذي النون مشروعه لانتزاع بلنسية من صهره، زوج ابنته عبد الملك المظفر، فدخل بلنسية على أثر ارتحال القشتاليين عنها، وقبض على عبد الملك وولده، ونفاهما إلى إحدى قلاعه، وضمت بلنسية عندئذ إلى مملكة طليطلة. وهنا ألفى أبو عبد الرحمن بن طاهر، الفرصة سانحة للاستقلال التام عن حكومة بلنسية وإنهاء ولائه الاسمى لها، وسار في حكم مرسية وأعمالها أميراً مطلقاً لها. وكانت إمارة مرسية تشمل عندئذ مدينة أوريولة المنيعة، الواقعة في شمالها الشرقي، وكذلك بلدة مولة الواقعة في شمالها الغربي تجاه أوريولة، وإلش وكتندة. بيد أنها لم تكن تشمل لورقة الواقعة في جنوبها الغربي، وقد كانت لورقة مثل مرسية في البداية تابعة لمملكة ألمرية، بيد أنها انفصلت عن ألمرية على يد ابن شبيب الثائر بها في سنة 443 هـ (1051 م)، وحكمها ابن شبيب المذكور، واخوته الثلاثة من بعده، بالتعاقب، واعترف آخرهم بطاعة ابن عباد صاحب إشبيلية، حسبما ذكرنا في موضعه، واستمرت لورقة بذلك طوال هذه المدة منفصلة عن حكومة مرسية (¬1). وكما أن أبا عبد الرحمن، كان قرين أبيه في السراوة والقوة والحزم، فكذلك كان قرينه في العلم والأدب، بل كان يفوقه في ذلك المضمار. وقد كان أبو عبد الرحمن بن طاهر في الواقع من أعظم علماء الأندلس وكتابها في عصره، وقد أشاد معاصره ابن بسام بذكره وذكر أدبه في الذخيرة، وشبهه في أسلوبه بالصاحب بن عباد بالمشرق، ونوه بروعة رسائله ونبلها، ولاسيما رسائله الهزلية، فإنه يتقدم فيها على الجماعة، ثم وضع عنه كتاباً ضمنه رسائله في إعلام رؤساء الأندلس بخلاصه من محنة اعتقاله (حسبما نذكر بعد)، وشكر ابن عبد العزيز صاحب بلنسية على السعي في إنقاذه منها، وهي عدة من الرسائل البارعة، ضمها ابن بسام مع سواها من رسائله في كتاب عنوانه "سلك الجواهر من نوادر وترسيل ابن طاهر". ويشير إليه ابن عبد الملك في ترجمته بقوله: " وكان أحد المتقدمين في البلاغة، بارع الكتابة، فصيحاً، خطيباً، وكانت أيامه أيام عدل وأفضال، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 162، وراجع: Gaspar Remiro: Murcia Musulmana, p.105

ودفع باس، وتسويغ آمال ". ويقول لنا ابن الأبار، إنه كان من أهل العلم والأدب البارع، يتقدم رؤساء عصره في البيان والبلاغة (¬1). ويصفه ابن الخطيب بقوله: " وكان صدر زمانه، والمثل السائر في بلاغته وبيانه ". وكان أسلوب ابن طاهر يميل إلى الدعابة. " وأجود رسائله ما اشتمل على الهزل لميل طبعه إليه ". وكان بلاط مرسية في عهده منتجع الأدباء والشعراء، يقصدون إليه، ويلتفون حوله، ويغمرونه بمدائحهم، فيغمرهم برعايته وصلاته. وكان ممن وفد عليه بمرسية الوزير الشاعر ابن عمار، وزير المعتمد، وفد عليه أيام خموله، فأثابه، ودرس ابن عمار يومئذ أحوال مرسية، ووقف على قصور معداتها الدفاعية، ثم دبر مشروعه لافتتاحها فيما بعد (¬2). - 2 - واستمر أبو عبد الرحمن بن طاهر أميراً على مرسية زهاء خمسة عشر عاماً، يتسم عهده بالسلم والرخاء. بيد أنه كان ثمة بعض العناصر الناقمة من خصوم ابن طاهر يسعون إلى نكبته وإسقاطه. وكانت حدود مملكة إشبيلية الكبرى قد امتدت يومئذ، بعد استيلاء أميرها المعتمد بن عباد على قرطبة وجيان، حتى نهر شقورة ومدينة لورقة القريبة من مرسية. وكان زعيم لورقة ابن شبيب قد اعترف بطاعة المعتمد، وأضحى سلطان المعتمد في هذه الأنحاء يهدد مملكة مرسية بطريق مباشر، فكتب الناقمون من أهل مرسية إلى ابن عباد يدعونه لافتتاحها (¬3)، ويؤكدون له ضعف وسائلها الدفاعية، وهذا إيضاح لمشروع المعتمد في فتح مرسية. وهناك إيضاح آخر خلاصته أن صاحب هذا المشروع هو أبو بكر ابن عمار وزير المعتمد، وأنه كان يضطرم برغبة خفية في الحصول على السلطان والإمارة، أو على حد قول ابن بسام: " كان يطلب سلطاناً ينثر في يديه سلكه، وملكاً يخلع على عطفيه ملكه ". ويؤيد ابن الأبار هذه الرواية ويقول لنا إن ابن عمار ¬_______ (¬1) ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " - المجلد الرابع من مخطوط المكتبة الوطنية بباريس. وابن الأبار في الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 118. (¬2) الذخيرة، القسم الثالث - المخطوط - لوحة 95، والحلة السيراء ص 188 و 189، وأعمال الأعلام ص 201. (¬3) أعمال الأعلام ص 160.

قد أشار على المعتمد بفتح مرسية (¬1). وعلى أي حال فقد اعتزم المعتمد أن يسعى إلى فتح مرسية، وعهد إلى وزيره القوي الماكر ابن عمار، أن يقوم بتنفيذ المشروع. واتباعاً للخطة التي كانت سائدة يومئذ بين ملوك الطوائف في الاستعانة بالأمراء النصارى، على مشاريعهم الباغية، بعث المعتمد وزيره ابن عمار، إلى الكونت رامون برنجير أمير برشلونة، ومر الوزير الماكر في طريقه بمرسية، فأكرم ابن طاهر منزله. والظاهر أن ابن عمار كان يرمي من وراء هذه الزيارة إلى دراسة أحوال مرسية الدفاعية، وإلى الاتصال سراً ببعض الزعماء الناقمين خصوم ابن طاهر. ولما وصل ابن عمار إلى برشلونة عقد مع أميرها الكونت برنجير اتفاقاً على أن يؤدي له المعتمد عشرة آلاف مثقال من الذهب، لقاء معاونته على فتح مرسية، وأن يقدم كل من الطرفين إلى الآخر رهينة بالوفاء. وتنفيذاً لهذا الاتفاق قدم المعتمد ولده الرشيد، وقدم الكونت ابن أخيه، وبعث المعتمد بقسم من قواته صوب مرسية بقيادة ابن عمار، ولحقت بها قوة جهزها الكونت برنجير، وطوقت القوات المتحدة مدينة مرسية، ولكن ابن عباد لم يسعف برنجير بأداء المال المطلوب، فارتاب في الأمر، واعتقد أنه قد غرر به، وانسحب بقواته عن المدينة المحصورة، بعد أن قبض على ابن عمار، وعلى الرشيد ولد المعتمد. وكان المعتمد بن عباد يسير عندئذ بقواته صوب مرسية، وكان قد وصل إلى مقربة من شقورة، حينما وفد إليه رسل ابن عمار مع بعض الهاربين من جنده من حملة مرسية، وأعلموه بما حدث، فارتد بقواته إلى جيان، ووضع ابن أخي الكونت برنجير، المودع لديه رهينة، في الأصفاد، ثم وقعت المفاوضات بين الفريقين، وانتهى المعتمد بأداء المال المطلوب للكونت، وأفرج عن ابن عمار والرشيد، وأفرج المعتمد من جانبه عن ابن أخي الكونت. بيد أن إخفاق هذه الحملة الأولى على مرسية لم يثن ابن عمار عن عزمه، فما زال بالمعتمد يحثه على إعداد حملة ثانية، ويؤكد له أنه تلقى رسائل كثيرة من أهل مرسية يدعونه لافتتاحها، حتى نزل المعتمد أخيراً على رغبته، وجهز له حملة قوية، وعينه حاكماً لمرسية، وسائر البلاد التي يفتتحها. وسار ابن عمار في قواته إلى مرسية، واصطحب معه حين مروره بقرطبة، ¬_______ (¬1) الحلة السيراء (القاهرة) ج 2 ص 140.

سَرية من الفرسان، أمده بها حاكمها الفتح ولد المعتمد، ومر في طريقه بحصن بلج، فاحتفى به حاكمه عبد الرحمن بن رشيق، وصحبه في قواته إلى مرسية، فندبه ابن عمار للقيادة، وعاد إلى إشبيلية. وكان ابن رشيق رجلا وافر الدهاء، والمقدرة، وكانت له أطماع دفينة يخفيها تحت ثوب من الرياء والخديعة. وطوقت جند ابن عباد مرسية، وشددت الحصار عليها. واستطاع ابن رشيق أن يحقق نجاحه الأول، بالاستيلاء على بلدة مولة الواقعة في شمالها الغربي، والتي كانت تمدها بالأقوات والمؤن. وعندئذ انهار خط مرسية الدفاعي، واشتد بداخلها الضيق والحرمان، واستمر ابن رشيق في إرهاقه للمدينة المحصورة، وفي تحريض أهلها على الوثوب بابن طاهر، وأخيراً عاونه بعض الخونة من أوليائه على فتح بعض أبواب المدينة، وانتهى الأمر بسقوطها على هذا النحو في أيدي جند ابن عباد، وذلك في سنة 471 هـ (1078 م) (¬1). ودخل ابن رشيق مرسية، وقبض على أبي عبد الرحمن بن طاهر وألقاه إلى السجن، وأعلن بيعة المعتمد، وكتب إلى بن عمار بالفتح. فسار ابن عمار من فوره إلى المدينة المفتوحة، التي عين حاكماً لها من قبل، وتقرب من أهلها بالهدايا ولين القول. بيد أنه جنح غير بعيد إلى تحقيق فكرة كانت تخالجه من قبل، وهو أن يستأثر بحكم هذه المدينة النائية، البعيدة عن متناول أميره، ويغدو كباقي الرؤساء أميراً مستقلا، وأخذ بالفعل في تنفيذ فكرته، فتجاهل رغبات ابن عباد وأوامره، وتصرف في سائر الأمور تصرف الحاكم المستقل، وبدا نداً لأميره السابق، أو على قول ابن بسام: " وقعد له مقعد الرؤساء، وخاطب سلطانه مخاطبة الأكفاء، مستظهراً بجر الأذيال، وإفساد قلوب الرجال، معتقداً أن الرياسة كأس يشربها، وفلاة ينتجعها ". وأخذ فضلا عن ذلك يدس لأمراء تلك النواحي، ويوقع بينهم، ويحرض أهل بلنسية بنوع خاص، على الوثوب ¬_______ (¬1) راجع في حوداث فتح مرسية: أعمال الأعلام ص 160 و 161، وعبد الواحد المراكشي في المعجب ص 65، ودوزي عن الشلبي في: Hist.Abbadidarum.V.II.p. 86 & 87 و Histdes Musulmans d'Espagne; V.III.p. 108-109 وكذلك: M.Gaspar Remiro: Murcia Musulmana, p. 109-110 و R.M.Pidal: La Espana del Cid; p. 259 & 281 و A.P.Ibars: Valencia Arabe, p. 189-191

بالوزير أبى بكر بن عبد العزيز المتغلب عليها يومئذ. وكان قد شفع لدى المعتمد في أمر ابن طاهر حينما قبض عليه، فأذن بتسريحه، وسار إلى بلنسية، ملتجئاً إلى حمايته. وفي رواية أخرى أن ابن طاهر، نجح في الفرار من سجنه بمعاونة ابن عبد العزيز، وسار خفية إلى بلنسية. وقد كان لفوز ابن طاهر باسترداد حريته، وقع طيب في مختلف الدوائر الرفيعة، ولاسيما دوائر العلم والأدب. وفي ذلك يقول أبو جفر البتي من قصيدة: أترضى عن الدنيا فقد تتشوف ... لعمر المعالي أنها بك تكلف يقولون ليث الغاب فارق غيله ... فقلت لهم أنتم له الآن أخوف ولن ترهبوا الصمصام إلا إذا ... غدا لكم بارزاً من غمده وهو مرهف إذا غضبت أقلامه قالت القنى ... فديناك إنا بالمفاصل أعرف فتكشف عن سر الكتيبة مثل ما ... رأيناك عن سر البلاغة تكشف رويداً قليلا يا زمان فإنه يغصـ ... ـك منه بالذي أنت تعرف (¬1) هذا، وقد أسرّ ابن عمار لأبى بكر بن عبد العزيز، هذا المسعى الجميل في العمل على تسريح ابن طاهر، وأخذ يكيد له ويحرض أهل بلنسية عليه، وقد وجه إليهم في ذلك قصيدة ملتهبة من نظمه يقول فيها: بشر بلنسية وكانت جنة ... أن قد تدلت في سواء النار جاروا بني عبد العزيز فإنهم ... جرّوا إليكم أسوأ الأقدار ثوروا بهم متأولين وقلدوا ... ملكاً يقوم على العدو بثار ِهذا محمد أو فهذا أحمد ... وكلاهما أهل لتلك الدار جاء الوزير بها يكشف ذيلها ... عن سوأة سوءى وعار عار نكث اليمين وحاد عن سنن العلا ... وقضى على الإقبال بالإدبار آوى لينصر من نأى المثوى به ... ودهاه خذلان من الأنصار ما كنتم إلا كأمة صالح ... فرميتم من طاهر بقدار هذا وخصكم بأشأم طائر .. . ورمى دياركم بالأم جار ¬_______ (¬1) أوردها ابن عبد الملك في ترجمة ابن طاهر في "الذيل والتكملة" - الجزء الرابع من مخطوط المكتبة الوطنية بباريس. ووردت أيضاً في " قلائد العقيان " ص 61.

بر اليمين ولم يعرض نفسه ... ونفوسكم لمصارع الفجار لابد من مسح الجبين فإنما ... لطمته عذراً غير ذات سوار ثم يقول في ختامها: وأنا النصيح فإن قبلتم فاتركوا ... آثارها خبراً من الأخبار قوموا إلى الدار الخبيثة فانهبوا ... تلك الذخائر من خبايا الدار وتعوضوا من صفرة حبشية ... بأغر وضاح الجبين نضار (¬1) ومضى ابن عمار في خطته من تحدي ابن عباد، والاستئثار بشئون مرسية، واستعمل عبيده على الحصون وأقطعهم الضياع، وانهمك في الشراب واللذات، وأعرض عن كل نصح (¬2). وكان ابن رشيق، وهو قائد الجند وفاتح المدينة الحقيقي، يرقب الموقف، ويتحين الفرص. وكان أبو بكر بن عبد العزيز، انتقاماً من ابن عمار، يحرضه على الوثوب به، وانتزاع حكم المدينة منه، وفضلا عن ذلك فقد استطاع أبو بكر أن يحصل بواسطة يهودي من عملائه في مرسية، على النسخة الأصلية من قصيدة هجاء مقذع، وضعها ابن عمار طعناً في ابن عباد وزوجه اعتماد الرُّميكية، وأن يرسلها إلى ابن عباد في إشبيلية. وقد سبق أن أشرنا إلى هذه القصيدة في أخبار مملكة إشبيلية، وأوردنا بعض محتوياتها اللاذعة. وهكذا كان الجو يظلم حول ابن عمار من كل ناحية، وزاد الموقف خطورة، حينما بدأ الجند بتحريض ابن رشيق في المطالبة بأجورهم المتأخرة، واشتطوا في ذلك، وابن عمار عاجز عن تهدئتهم. فعندئذ خشي ابن عمار البادرة على نفسه، وخرج من مرسية، بحجة تفقد الحصون الخارجية، فانتهز ابن رشيق الفرصة لفوره، واستولى على القصر وضبط المدينة وأغلق أبوابها. ولم ير ابن عمار أمامه سبيلا سوى الفرار. وهكذا لقي ابن عمار جزاء غدره، من غادر مثله. ويصف لنا ابن بسام هذه الضربة الغادرة من ابن رشيق بقوله: " فقيض له (أي ابن عمار) من عبد الرحمن بن رشيق عدواً في ثياب صديق، من رجل قدرة خنتر، وجزيل خديعة ومكر، فلم يزل يطلع عليه من الثنايا والشعاب، حتى أخرجه من ¬_______ (¬1) نشرت القصيدة بأكملها في قلائد العقيان ص 61 و 62. (¬2) ابن الأبار عن ابن بسام في الحلة السيراء ج 2 ص 142.

مرسية كالشهاب ". وطوحت الخطوب عندئذ بابن عمار، فقصد إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، وقضى حيناً في بلاطه، ثم قصد بعد ذلك إلى سرقسطة والتجأ إلى أميرها المقتدر بن هود. فأكرم وفادته، واستخدمه في بعض شئونه، ولكنه توفي بعد قليل في سنة 475 هـ (1081 م). فلبث في خدمة ولده المؤتمن فترة أخرى، ولم يهدأ له بال حتى أغراه على سجيته بافتتاح حصن شقورة الواقع شمال غربي مرسية، وهو من أعمال دانية، فبعث معه المؤتمن سرية من جنده، ولما وصل ابن عمار إلى شقورة، احتال عليه صاحبها ابن مبارك، وكان رجلا وافر الدهاء، واستقبله داخل حصنه بترحاب ومودة، ثم قبض عليه وزجه إلى السجن. وما كاد ابن عباد يقف على ذلك الخبر، حتى فاوض ابن مبارك في تسليم ابن عمار، وانتهى الأمر بحصوله في يده، ثم حمله المعتمد إلى إشبيلية، واعتقله بقصره، ومازال يمعن في تأنيبه وتقريعه حتى انتهى إلى قتله بيده، على النحو المؤسي الذي فصلناه من قبل في أخباره، وذلك في أواخر سنة 477 هـ (أوائل سنة 1085 م) (¬1). وخلصت مرسية لابن رشيق، واستبد بحكمها وأعلن خلع طاعة المعتمد، واستمر يحكمها وأعمالها أعواماً بقوة وحزم، حتى كان عبور المرابطين إلى اسبانيا وانتصار الجيوش المرابطية والأندلسية المتحدة في موقعة الزلاّقة على الجيوش النصرانية المتحدة، وذلك في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر سنة 1086 م)، وكان شرقي الأندلس يومئذ مايزال بمعزل عن حوادث الغرب. ولما شعر ألفونسو السادس ملك قشتالة بانهيار قواه ومشاريعه العسكرية في غربي الأندلس، رأى أن يتحرك إلى شرقي الأندلس، حيث كان يسوده الاضطراب والتفرق والضعف. وكان المعتمد بن عباد يتوق إلى استرداد مرسية، وتوطيد سلطانه في هذا القطاع النائي من مملكته. وهناك فيما يتعلق بمصير مرسية روايتان الأولى: هي أن ابن عباد حرض صاحب لورقة القائد أبا الحسن بن اليسع، وكان قد اعترف ببيعته، والتجأ إلى حمايته، على مهاجة مرسية، وأنه نجح في انتزاعها من ابن رشيق، ¬_______ (¬1) راجع في محنة ابن عمار ومصرعه: أعمال الأعلام ص 160 و 161، والمراكشي في المعجب ص 66، وقلائد العقيان ص 83 و 90 و 91 و 97. وكذلك دوزي Hist.Abbadidarum V.II.p. 90, 91, 100 & 101. وكذلك R.M Pidal: La Espana del Cid, p. 244

وحكمها باسم المعتمد وموافقته، واستمر في حكمها حتى استولى عليها المرابطون (¬1) والثانية، هي أنه لما عبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة 481 هـ (1089 م)، استجابة لصريخ أمراء الطوائف، ولاسيما أصحاب القواعد الشرقية، لقمع غارات النصارى في شرقي الأندلس، والقضاء على مركز عدوانهم في حصن لييط (أليدو) الواقع بين مرسية ولورقة، وتعاونت القوات الأندلسية مع القوات المرابطية في محاصرة الحصن المذكور، كان ابن رشيق ضمن الأمراء الذين اشتركوا في الحصار بقواتهم. ولما انتهى هذا الحصار بالفشل، وهمت الجيوش الأندلسية بالعودة إلى بلادها، شكى المعتمد ابن رشيق إلى أمير المسلمين يوسف، واتهمه بالتحالف سراً مع النصارى، ومعاونتهم على الصمود في الحصن، هذا فضلا عن كونه كان مغتصباً لولاية مرسية منه، وطلب تسليمه إليه، لمعاقبته، واستشار يوسف الفقهاء في الأمر، فوافقوا على طلب ابن عباد، وأمر يوسف بتسليمه ابن رشيق مع اشتراط الإبقاء على حياته، وارتدت القوات المرسية غاضبة إلى بلدها. وحمل ابن عباد معه ابن رشيق إلى إشبيلية، واعتقله هناك، ولكنه فر غير بعيد من سجنه، وعاد إلى مرسية، وعاش بها حتى توفي. واستولى المرابطون على مرسية في شوال سنة 484 هـ (أكتوبر 1091 م). واستولوا في نفس العام على معظم أعمالها (¬2). وهنا يقدم لنا ابن الخطيب رواية أخرى، هي أن ابن رشيق نزل من تلقاء نفسه عن مرسية لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين، حين جوازه الثاني إلى الأندلس وهو ما يدل بأن ابن رشيق كان عندئذ هو المتولي حكمها (¬3). وكان القائد ابن عائشة أول حاكم لمرسية من المرابطين. وكانت مرسية قاعدة لتحركات الجيوش المرابطية، التي حشدت لمقاومة عدوان السيد الكمبيادور، واسترداد بلنسية من قبضته، حسبما فصلنا ذلك في موضعه. أما ابن طاهر صاحب مرسية السابق، فإنه كان قد استقر عقب فراره حيناً ¬_______ (¬1) راجع المغرب في حلى المغرب (القاهرة 1955) ج 2 ص 248 و 250. (¬2) راجع روض القرطاس لابن أبي زرع (طبعة أوبسالة 1843) ص 101، وكذلك دوزي: Hist.; Vol.III.p. 132-133 و M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana ; p. 136 & 140. (¬3) أعمال الأعلام ص 160.

ْببلنسية، في كنف الوزير أبى بكر بن عبد العزيز. ثم في كنف ولده أبى عمرو عثمان. ولما استولى القادر بن ذى النون على المدينة، تقرب إليه، واستمر على حاله من الكرامة والدعة. فلما ثار القاضي ابن جحاف، وقتل القادر، واستولى على الحكم، لم يكن ابن طاهر من أنصار هذا الانقلاب، وكان يأخذ بالأخص على ابن جحاف أنه سفك دم القادر، وله في ذلك أبيات يقول فيها: أيها الأخيف مهلا ... فلقد جئت عويصا إذ قتلت الملك يحيى ... وتقمصت القميصا رب يوم فيه تجزى ... لم تجد عنه محيصا ومن ثم فقد كان ابن جحاف يتوجس منه، ويخشى مناوأته، ويتهمه بالاتصال بالسيد والقشتاليين، والتآمر معهم ضده. وقد كانت هذه التهمة باطلة. ذلك أنه لما دخل السيد وجنده القشتاليون بلنسية في سنة 487 هـ (1094 م)، لم يستطع ابن طاهر أن يروض نفسه على البقاء فيها، فغادرها فيمن غادرها من الأكابر. وفي رواية أنه كان ضمن من قبض عليهم السيد من أكابر المدينة ثم أفرج عنه بعد ذلك فسار إلى شاطبة، واستقر بها حيناً، حتى تطورت الحوادث، ومات السيد، واستولى المرابطون على بلنسية، وعادت إليها سلطة الإسلام، فعندئذ عاد إليها ابن طاهر، وقد أثقلته السنون، وهدمه الإعياء والمرض، فعاش بها أعواماً أخرى في عزلة واعتكاف، ثم توفي في سنة 507 هـ (1013 م)، وقد أربى على التسعين (¬1). ويلخص ابن بسام المرحلة الأخيرة من حياة ابن طاهر في الفقرة الآتية: " ومد لأبى عبد الرحمن بن طاهر في البقاء، حتى تجاوز مصارع الرؤساء، وشهد محنة المسلمين ببلنسية على يد الطاغية الكنبيطور قصمه الله، وجعل بذلك الثغر في قبضته سنة ثمانية وثمانين " (¬2). ¬_______ (¬1) راجع في ترجمة أبي عبد الرحمن بن طاهر: الحلة السيراء - ليدن - ص 186 - 189، و (القاهرة) ج 2 ص 116 - 128، وقلائد العقيان ص 56 وما بعدها. وقد أورد له كثيراً من الرسائل البليغة. وكذلك المغرب في حلى المغرب ص 247 و 248، وأعمال الأعلام ص 160. (¬2) الذخيرة - القسم الثالث المخطوط لوحة 5 أ.

الفصل الثالث مملكة دانية والجزائر

الفصل الثالِث مملكة دانية والجزائر مدينة دانية وخواص موقعها. مجاهد العامري. أصله ونشأته. نزوحه إلى شرقي الأندلس. تغلبه على دانية والجزائر الشرقية. الفقيه أبو عبد الله المعيطي. مشروع مجاهد لغزو سردانية. استعداداته البحرية. أسطوله الغازي. سردانية وغزوات المسلمين. مسير مجاهد إلى سردانية واقتحامها. المعارك داخل الجزيرة وافتتاحها. حلف البابوية وجنوة وبيزة لطرد المسلمين. الحرب الصليبية. مقاومة مجاهد ومتاعبه. هزيمته وتحطيم أسطوله. أسر ولده وحريمه. غزوات مجاهد للشواطىء الإيطالية والفرنسية. الفقيه المعيطي وعزله ونفيه. مجاهد يفتدي زوجه وبناته. استطالة أسر ولده علي ثم افتداؤه. عجمته وعوده إلى الإسلام. تثقيفه وإعداده لولاية العهد. تأييد مجاهد للخليفة المرتضي. اشتراكه في محاربة البربر. اشتراكه في حكم بلنسية ثم انفراده به. اختيار عبد العزيز المنصور لإمارة بلنسية. غزو مجاهد لمرسية وأسره لابن طاهر. محاربته لعبد العزيز صاحب بلنسية. وفاة مجاهد. عبقريته ومآثره العلمية. التفاف العلماء حوله. قصته مع أبى غالب النحوي. تفوقه في الفروسية. براعته البحرية. ولده على إقبال الدولة يخلفه. الخلاف بينه وبين أخيه حسن. محاولته اغتيال بناته ومصاهراته. حكمه وصلاته. شئون الجزائر وحكامها. استجابة علي لنداء المستنصر الفاطمي ورسالته إليه. تسامحه نحو النصارى. ابن غرسية ورسالته ضد العرب. بعض الآراء والتعليقات حولها. أطماع المقتدر بن هود في دانية. خلافه مع صهره علي. مسيره لافتتاح دانية واستيلاؤه عليها. اعتقال علي ثم فراره إلى العدوة. ولده سراج الدولة. علي ومواهبه وخلاله. الجزائر الشرقية واستقلال حاكمها المرتضي. خلفه مبشر بن سليمان. حكمه الزاهر. غارات البحارة المسلمين في عهده. إغارة النرويج على الجزائر. بيزة ومشروعها لفتح الجزائر. أسطول الغزو النصراني يهاجمها. استعداد مبشر للدفاع. استغاثته بعلي بن تاشفين. وفاة مبشر وولاية أبى ربيع. خروجه من الجزيرة وأسره. دخول النصارى مدينة ميورقة وفتكهم بأهلها. مقدم الأسطول المرابطي. انسحاب النصارى واستيلاء المرابطين على الجزائر. تقع مدينة دانية في شمال اللسان المثلث، الممتد من ولاية لقَنت في البحر الأبيض المتوسط، وتبدو برقعتها الصغيرة، وشوارعها القصيرة العريضة، التي تظللها أشجار التوت الوارفة، مدينة متواضعة هادئة، لا يتبادر إلى ذهنك، وأنت تجوب أحياءها القليلة الصامتة، أنها كانت ذات يوم عاصمة لدولة أندلسية بحرية كبيرة. أجل قامت في دانية، أيام الطوائف، مملكة تمتاز بصفتها الخاصة، التي تميزها عن غيرها من ممالك الطوائف الأخرى. فقد كانت أولا تمتاز بموقعها المنعزل

في شرقي الأندلس، وتمتد رياستها عبر البحر إلى الجزائر الشرقية، فكانت بذلك تغلب صفتها البحرية على صفتها البرية. ثم كانت بهذا الموقع المنعزل الحصين أبعد من أن تنزلق إلى معترك الحرب الأهلية، التي كانت تنحدر إليه ممالك الطوائف الأخرى، وأبعد عن عدوان مملكة قشتالة، الذي كان يهدد سائر الطوائف. ومن ثم فإن تاريخ مملكة دانية يتخذ طابعاً آخر، غير ذلك الطابع الذي رأيناه يغلب على تاريخ ممالك الطوائف الأخرى. وكانت دانية مثل معظم القواعد الأندلسية الشرقية، عند اضطرام الفتنة وانهيار الخلافة، من نصيب الفتيان العامريين. تغلب عليها منهم مجاهد العامري في أوائل عهد الفتنة. وقد كان مجاهد هذا من أكابر زعماء العامريين. وكان وفقاً لأرجح الروايات من فحول الموالي أو الفتيان العامريين. وقد كان معظم أولئك الفتيان من الصقالبة، من أصول إفرنجية كالألمان واللنبارد والإيطاليين والجلالقة وأهل البلقان وغيرهم، يؤتي بهم أطفالا ويربون في البلاط تربية عربية إسلامية. وكان منهم الفحول والخصيان. وكان مجاهد ينتمي إلى الفريق الأول أعني إلى الفتيان الفحول، وقد نشأ وربي في عهد المنصور بن أبي عامر. وفي رواية أخرى أن مجاهداً ينتمي إلى طائفة الموالي العامريين، وقد رباه المنصور وعلمه، وقيل أيضاً إنه كان مولى لعبد الرحمن المنصور، أو أن أباه يوسف كان معتوقاً لعبد الرحمن (¬1). وقيل من جهة أخرى إن مجاهداً كان "رومي" الأصل، أعني من الفتيان الصقالبة (¬2). ويعتقد العلامة المستشرق أماري بالاستناد إلى هذه الإشارة أن مجاهداً يرجع إلى أصل إسباني محلي (¬3). بيد أنه مما يؤيد الرواية الأولى، وهي نسبة مجاهد إلى الموالي، وليس إلى الفتيان الصقالبة، اسمه وكنيته، فهو أبو الجيوش مجاهد بن يوسف بن علي، ويزيدها أيضاً ما كانت تتمتع به شخصية مجاهد من عروبة قوية، ومن تضلع في علوم القرآن واللغة، حسبما نبين بعد (¬4). ¬_______ (¬1) جذوة المقتبس (مصر) ص 331. (¬2) المراكشي في المعجب ص 41. (¬3) M. Amari: Storia dei Musulmani di Sicilia (Fierenze 1868) V.III.p. 4 (¬4) ابن خلدون ج 3 ص 164، والبيان المغرب ج 3 ص 156. ويقدم إلينا ابن الأبار مجاهداً بأنه أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامري (الحلة السيراء ج 2 ص 128).

وعلى أي حال فقد كان مجاهد عند اضطرام الفتنة، إلى جانب واضح وخيران وزهير، وغيرهم من أكابر الفتيان أو الزعماء العامريين، اندمج في زمرتهم، واشترك معهم في بعض الأحداث التي أعقبت الفتنة، وشاطرهم خطتهم في النزوح إلى شرقي الأندلس. ويقول لنا ابن خلدون إن مجاهداً غادر قرطبة عند مقتل الخليفة محمد بن هشام المهدي في أواخر سنة 400 هـ (1010 م)، وإنه سار عندئذ إلى طرطوشة، فتملكها، ثم سار منها إلى دانية. وكان مجاهد كباقي الفتيان العامريين، من شيعة الخليفة المؤيد بالله، والخلافة الأموية بوجه عام، وقد حارب معهم إلى جانب الخليفة المرتضي بالله ضد البربر والقاسم بن حمود، في الموقعة التي هزم فيها المرتضي ولقي مصرعه، وذلك في سنة 409 هـ (1019 م) (¬1). بيد أنه توجد رواية أخرى عن تغلب مجاهد على دانية خلاصتها، أنه كان عند انهيار الخلافة واضطرام الفتنة، والياً على الجزائر الشرقية، وكان يشغل هذا المنصب منذ أيام المنصور بن أبي عامر، فلما تمخضت الفتنة عن تمزق الأندلس، سار من الجزائر إلى دانية، وتملكها، وأقام بها دولته (¬2). وتقول بعض الروايات أيضاً إن مجاهداً، كان وقت اضطرام الفتنة قائماً بشئون بلنسية، فثار به عبدان من العبيد أو الفتيان العامريين، هما مبارك ومظفر، واستطاعا أن ينتزعا منه السلطة، فخرج مجاهد من بلنسية إلى دانية وتغلب عليها. والظاهر من مقارنة الروايات المختلفة أن مجاهداً نزل أولا في دانية، وغلب عليها، ثم وثب منها على الجزائر الشرقية (جزائر البليار) وتملكها، وذلك في أواخر سنة 405 هـ (أوائل 1015 م). وتتكون الجزائر الشرقية من أربع جزائر هي مِنُورقة، وميورقة وهي أكبرها، وبها مدينة ميورقة وهي عاصمة الجزائر كلها، ويابسة، وفرمنتيرا، وهي أصغرها. وهنا وقبل أن نتتبع أخبار مجاهد، يجب أن نذكر واقعة تدعو إلى التأمل، وهو أن مجاهداً ندب إلى معاونته في الحكم فقيهاً ورعاً هو أبو عبد الله بن عبيد الله بن الوليد ويعرف بالمعيطي، وكان المعيطي هذا ينتمي إلى بني أمية، وهو من أشراف قرطبة وفقهائها البارزين، وكان ممن أزعجته الفتنة، فغادرها إلى شرقي الأندلس. والظاهر أن مجاهداً كان ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 164. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 155.

يحيط هذا الفقيه بنوع من التقدير والإجلال. ذلك أنه نصبه "خليفة" بدانية والجزائر وسائر أعماله، وأخذ له البيعة على الناس، وسماه بأمير المؤمنين المستنصر بالله، ونقش اسمه في سكته وفي أعلامه، وذلك في جمادى الآخرة من سنة 405 هـ (¬1). ويقال إن مجاهداً صحب معه المعيطي في حملته إلى الجزائر الشرقية، وإنه كان ساعده الأيمن في الاستيلاء عليها. بل يقال إنه هو الذي أوعز إليه بغزو سردانية. - 1 - وبينما كانت دول الطوائف الأخرى، سواء في شرقي الأندلس، أو في غربها، تخوض غمار المنازعات والحروب المحلية الصغيرة، كان مجاهد العامري يفكر في مشروع ضخم، ربما كان أعظم مشروع فكر فيه أمير من أمراء الطوائف، ذلك هو غزو جزيرة سردانية وافتتاحها. وقد كان مجاهد، زعيماً قوي النفس، وكان فيما يبدو بحاراً مجرباً، وكان يرى أن مملكته الساحلية، وأملاكه البحرية، تقتضي أن يكون اعتمادها في القتال على الأساطيل قبل كل شىء، ومن ثم فقد اقتضت همته أن يجدد دار الصناعة القديمة (دار صناعة السفن) التي كانت بدانية، وأن يضاعف طاقتها لتمده بالسفن المقاتلة والناقلة من مختلف الأحجام، واستكثر من السفن والمعدات الحربية، واستطاع في فترة قصيرة إن ينشىء أسطولا كبيراً يرابط في مياه دانية والجزائر، وغدت دانية فيما بعد، في عصره، وعصر ولده علي، أعظم مركز للأساطيل الأندلسية. وكان مجاهد يتطلع بعيداً من جزائره الشرقية إلى ما وراء هذه المياه من الجزائر الكبيرة الغنية ولاسيما جزيرة سردانية العظيمة، التي عرفها البحارة المسلمون من قبل، في كثير من الغزوات المتعاقبة. وضع مجاهد خطته لغزو هذه الجزيرة الكبيرة، فحشد أسطولا قوامه مائة وعشرين سفينة، وقوة من ألف فارس، وأقلعت السفن الغازية من دانية والجزائر في ربيع الأول سنة 406 هـ (أغسطس 1015 م)، وعلى الأسطول قائده أمير البحر أبو خروب. وكانت المسافة بين مياه دانية والجزائر وبين سردانية، يومئذ تستغرق ثمانية أيام. وكانت جزيرة سردانية موضع اهتمام ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 220.

الغزاة العرب منذ فتح الأندلس، وقد غزاها العرب لأول مرة في سنة 711 م، أيام موسى بن نصير. ثم توالت غزوات البحارة المسلمين لسردانية، فغزوها في سنة 752 م، ثم في سني 813 و 816 و 817 و 838 م. بيد أن هذه كانت كلها من الغزوات العارضة، التي يقنع الغزاة فيها بالسبي والغنائم، وكانت المقاومة العنيفة التي يلقونها من أهل الجزيرة تحول دون احتلالها والاستقرار فيها. وكانت سردانية في البداية تحت حكم الدولة البيزنطية، فلما ضعف سلطانها في تلك المياه، وقعت سردانية تحت حكم اللونبارد، ثم تحت حكم الفرنج. بيد أن هذه لم تكن سوى حماية اسمية. وكان يحكم الجزيرة منذ القرن الثامن قضاة أو أمراء محليون. وكانت طبيعتها الوعرة، وشجاعة أهلها الجبليين، واعتزازهم بحرياتهم، مما يعاون في دفع الغزاة، ورد الحملات الغازية العارضة. بيد أن هذه الحملة، التي سيرها مجاهد العامري إلى الجزيرة، كانت تمتاز بضخامتها، وضخامة عُددها، وتمتاز بالأخص بما يقترن بها من عزم راسخ على الفتح والاستقرار. ومن ثم فإنه ما كادت السفن الغازية ترسو على شواطىء الجزيرة - والظاهر أنها رست في خليج كالياري في جنوب الجزيرة - حتى شق الغزاة طريقهم إلى الداخل بمنتهى العنف، ووقعت بينهم وبين أهل الجزيرة معارك دموية هائلة قتل فيها عدد جم، وكان قائدهم مالوتو في مقدمة القتلى، وأسر الغزاة جموعاً غفيرة، وسبوا كثيراً من النساء والأطفال. واستطاع الغزاة أن يحتلوا معظم أراضي الجزيرة، بالرغم من المقاومة العنيفة التي لقوها، وأن يسيطروا على معظم حصونها (¬1). ْوهكذا فتحت سردانية على يد مجاهد العامري، وذلك في شهر أغسطس أو سبتمبر سنة 1015 م (ربيع الثاني سنة 406 هـ) (¬2). وكان أول فتح إسلامي لهذه الجزيرة الكبيرة. وتقول لنا الرواية الإسلامية إن مجاهداً غلب على معظم أنحاء سردانية وافتتح معاقلها، ثم قرر البقاء في الجزيرة، حتى يوطد مركزه بها، واختط بها بالفعل مدينة واسعة شرع في بنائها، وانتقل إليها بأهله وولده، وأنه أحرز من الغنائم والسبي مالا يأخذه الحصر، حتى كسد السبي في زمانه، ¬_______ (¬1) Amari: ibid., V.III.p. 6 & 7 (¬2) وفي جذوة المقتبس أن الفتح وقع سنة 406 أو 407 هـ (ص 331).

وانحطت أثمانه (¬1). ومن المحقق على أي حال أن مجاهداً لبث في سردانية حتى نهاية سنة 406 هـ، أعني نحو عشرة أشهر. وفي خلال ذلك كانت البابوية والدول الإيطالية القريبة، قد اهتزت لهذا الحادث الخطير، وزاد في روعها وسخطها ما عمد إليه مجاهد من الإغارة بسفنه على الشاطىء الممتد بين جنوة وبيزة واقتحام مدينة لوني ونهبها، وكانت جنوة وبيزة يومئذ هما أقوى الدول البحرية في هذه المياه, ولكلتاهما مصالح تجارية عظيمة تحرص على حمايتها. وفي الحال أعلن البابا، وهو يومئذ بندكتوس الثامن، الحرب الصليبية ضد المسلمين، وعقد تحالفاً مع جنوة وبيزة على محاربة المسلمين وطردهم من الجزيرة. ومما يروى بهذه المناسبة، أن مجاهداً العامري أرسل إلى البابا كيساً مملوءاً بحبات القسطل، معلناً أنه سوف يعود بعدها، وأن البابا رد بأن بعث إليه كيساً مملوءاً بالحشائش الرفيعة، قائلا إنه سوف يلقى بعددها ممن يرتدون الخوذات. وهكذا عقدت الدول الإيطالية بزعامة البابا، العزم على تحطيم الغزاة المسلمين، ورد خطرهم عن هذه المياه. وهنا يحيط الغموض بالفترة القصيرة، التي قضاها مجاهد العامري في سردانية. ففي بعض الروايات أن مجاهداً عاد بعد هذه الحملة الأولى إلى دانية وجهز حملة ثانية إلى سردانية، في صيف العام التالي أعني في سنة 407 هـ (1016 م) وذلك لكي يقضي على كل مقاومة في الجزيرة، وهذه رواية يصعب تصديقها، وليس في سير الحوادث ما يؤيدها. والحقيقة هي أن مجاهداً لبث بعد غزو الجزيرة، يبذل جهده في تحصينها، وفي الاستعداد للدفاع عنها، واستمر طوال الوقت في كفاح دائم مع أهل الجزيرة. ولما قدمت السفن الجنوية والبيزية والسفن النصرانية الأخرى من مختلف الأمم، ودخلت مياه كالياري، استعد مجاهد للمعركة الحاسمة، ولكن مقاومة أهل الجزيرة من الداخل، وتمرد الجند المرتزقة النصارى في أسطوله، وتوالي العواصف القاصفة، كانت كلها عوامل فتت في عضده، وحطمت خطط دفاعه، فلم يقو طويلا على المقاومة، وأصابته السفن النصرانية بهزيمة فادحة. وتقول لنا الرواية الإسلامية إن أمير البحر أبا خروب حذر مجاهداً من دخول مياه كالياري بسفنه، ولكنه لم يأخذ بهذا ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 219. وجذوة المقتبس ص 331.

النصح، وكانت الريح تقذف بمراكبه تباعاً، والروم لا عمل لهم سوى قتل المسلمين وأسرهم، ومجاهد خلال ذلك يبكي (¬1) وهكذا تحطمت معظم سفنه وأسرت أو أغرقت، وقتل معظم أصحابه، واستولى العدو على سائر غنائمه وسبيه، وعلى أهله وحريمه وولده وفيهن نساؤه وبناته، وعليّ ولده، وجود أمه النصرانية، ولم ينج من أسطوله الضخم سوى بضع سفن، شقت به عرض البحر مسرعة. ووقعت هذه الهزيمة الساحقة على مجاهد العامري في شهر يونيه أو يوليه سنة 1016 م. ويقدم إلينا العلامة المستشرق أماري رواية أخرى خلاصتها أن مجاهداً لبث في سردانية عاماً آخر حتى مايو سنة 1017 م، وأنه حينما سمع بأمر الأساطيل الضخمة التي جهزت لقتاله، أنشأ بالجزيرة قلعة يستعين بها على الدفاع. ولكن جنده كانوا خلال ذلك، قد سئموا المقام بالجزيرة لقلة الغنائم ورداءة الطقس، وساد بينهم التذمر. وفي شهر مايو سنة 1017 م، أقبل أسطول البيزيين. والجنويين الضخم، وعول مجاهد على الانسحاب. ولكنه حينما خرج بأسطوله وذلك في شهر يونيه، اصطدم بالأساطيل الإيطالية، وفاجأته في نفس الوقت عاصفة شديدة، أغرقت كثيراً من سفنه، واصطدم الكثير منها بالشاطىء، فسار في فلول أسطوله صوب دانية تاركاً في الأسر ولده وأخاه وزوجه (¬2). وهكذا تحطم هذا المشروع الضخم، ولم يتح للمسلمين أن يستقروا في سردانية كما أتيح لهم من قبل أن يستقروا في صقلية. ولو نجح مجاهد العامري في مشروعه، واستقر المسلمون في سردانية، لكان مرجحاً أن تزدهر بها حضارة إسلامية، كتلك التي ازدهرت في صقلية، بل وكان مرجحاً أن يطول عهد الإسلام في صقلية، وأن يتأخر سقوطها في أيدي النورمان عصوراً أخرى. ولكن المشروع ْكان في الواقع أضخم من مقدرة أمير من أمراء الطوائف، وكانت الدول النصرانية كلها تتحفز لحماية هذه الجزائر، كي تمنع انسياب الأساطيل الإسلامية إلى المياه الإيطالية، وكان في تفوق الجمهوريات الإيطالية البحري، في هذه العصور، ما يكفل تحقيق هذه الغاية (¬3). ¬_______ (¬1) راجع جذوة المقتبس ص 331. (¬2) Amari: ibid.; V.III.p.9 (¬3) راجع أعمال الأعلام ص 219 و 220، وابن الأثير ج 9 ص 100، وابن خلدون =

على أن غزو مجاهد الجرىء لسردانية، وغاراته المتكررة بعد ذلك على الشواطىء الإيطالية وشواطىء بروفانس، جعلت منه شخصية خيالية مروعة، وتفيض الروايات النصرانية المعاصرة، من إيطالية ولاتينية، في غزوات مجاهد وغاراته البحرية، وتعرفه باسم موجيتوس Mogetus أو موسيتو Museto وتحيطه بهالة من البطولة والروع. وفي بعض الروايات أن المسلمين غزوا سردانية بعد ذلك مرتين أخريين، في سنة 1019 م، ثم في سنة 1049 م، وذلك بقيادة مجاهد العامري أيضاً، وأن مجاهداً سقط أخيراً في أيدي النصارى، وهي رواية لا سند لها. ثم إنه يروى أيضاً أن البحارة المغامرين أو القراصنة حسبما يسمونهم، من دانية والجزائر، لبثت تتكرر غاراتهم على الشواطىء الغربية للبحر المتوسط مدة طويلة، يظللها دائماً اسم "موجيتو" أى مجاهد، على أنه ملك إفريقية. وإذا كان لنا أن نستخلص من ذلك شيئاً، فهو الروع الذي كان يبثه اسم هذا البحار الجرىء - مجاهد العامري - في ثغور البحر المتوسط الغربية، في ذلك العصر. ومن الأسف أن الرواية الإسلامية تنقصها الإحاطة في هذا الجانب الشائق من حياة مجاهد، وهي حياته كبحار من أعظم بحاري العصر، فهي لا تقدم لنا عنه سوى نبذة يسيرة متناقضة، وهي أكثر اهتماماً بنواحيه العلمية والأدبية. وعاد مجاهد العامري من غزوته المنكوبة لسردانية، ليلقى الأمور في دانية قد اضطربت وتعقدت. ذلك أن الفقيه أبا عبد الله المعيطي، لم يحفظ العهد، ولم يرع الأمانة، فاستبد بالحكم، واغتصب السلطة لنفسه، ومحا اسم مجاهد ورسومه، وكثرت مظالمه وعيثه، وابتزازه للأموال، ومجاهرته بالمعاصي. وما كاد مجاهد يقف على ذلك، حتى بادر بالقبض على المعيطي، ونزعه كل سلطة وصفة، واشتد في تأنيبه وتعنيفه، ثم أرسله مخفوراً إلى العدوة في سفينة أنزلته في بجاية، وهنالك لجأ إلى البربر، وعاش مغموراً حتى توفي (¬1). ¬_______ = ج 4 ص 164، والمقدمة ص 212. وراجع بحثاً بالإسبانية عن مجاهد العامري وعلي ابنه: Roque Chabas: Mochahid ijo de Yusuf y Ali ijo de Mochahid en (Estudios de Erudicion Oriental) Homenaje a Fr.Codera. وراجع أيضاً: Amari: ibid ; V.III.p. 4-14 (¬1) أعمال الأعلام ص 220.

وعمد مجاهد إلى تنظيم شئون مملكته، والعمل على النهوض من عثرته. وكانت أعوص محنة يومئذ أسر ولده وأهله في سردانية، وقد استطاع أن يفتدي زوجته وبناته وإخوته في مدة قريبة. ورفضت أمه وكانت نصرانية العود إليه، وكذلك أختها، وآثرتا العيش في أرض نصرانية، فأعرض عنهما. وبقيت مشكلة ولده علي. وكان وقت أسره في سردانية طفلا في السابعة من عمره، وكان وحيده يومئذ، وكانت أمه نصرانية كذلك. وقد رفض السرادنة كل عرض لافتدائه، وأخفق كل مجهود بذله مجاهد لرده. ومضت الأعوام والغلام يعيش في الأسر بين النصارى، يربى على دين النصرانية، ويتحدث لغة القوم. وأخيراً وفق مجاهد إلى إقناع السرادنة بقبول افتدائه وإطلاق سراحه، وذلك بعد عشرة أعوام من أسره. وكانت وجهة نظر السرادنة في احتجاز الغلام على هذا النحو، هي استبقاؤه رهينة ثمينة، لمنع مجاهد من القيام بأية مغامرة أخرى، ولم يرتضوا إطلاق سراحه، إلا بعد أن دفع لهم مجاهد فدية هائلة، وقطع على نفسه أوثق العهود بأن يتركهم في سلام، وألا يعود إلى إزعاجهم بأية صورة. وخرج علي من الأسر، وهو فتى يتكلم بلسان "الروم" الذي ربي بينهم، ويتزيا بزيهم، ويعتنق دينهم. فلما وصل إلى دانية عرض عليه أبوه الإسلام، فقبله، وحسن إسلامه، وعني مجاهد بتأديبه وتثقيفه. وكان قبل افتدائه من الأسر، قد اختار لولاية عهده ولده الأصغر حسناً الملقب بسعد الدولة، ولكنه عدل عن هذا الاختيار لما آنسه في ولده الأكبر علي من مخايل الشجاعة والذكاء والعزم، فقدمه على أخيه الأصغر، وعينه لولاية عهده، وعهد إليه بقيادة الجيش. وكان لذلك فيما بعد أثره في توتر العلائق بين الأخوين (¬1). - 2 - كانت غزوة سردانية أعظم أعمال مجاهد العامري، وهي ألمع صفحة في تاريخه. بيد أنه مذ عاد إلى دانية، قدر له أن يخوض سلسلة من الحوادث والأعمال الأخرى. ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 221، والبيان المغرب ج 3 ص 157. وبحث الأستاذ Chabas السالف الذكر. ويقول لنا ابن بسام إن الذي افتدى علياً من الأسر، هو أحد آل حماد أمراء بني مناد بالمغرب الأوسط، وأنه أسدى بذلك إلى والده يداً بيضاء (راجع الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206).

ففي سنة 408 هـ، اجتمع رأي الفتيان العامريين، وعلى رأسهم زعيمهم خيران صاحب ألمرية، على معارضة خلافة علي بن حمود الناصر في قرطبة، والدعوة لخلافة مرشح أموي جديد هو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله ابن عبد الرحمن الناصر، وكان قد فر خفية من قرطبة إلى جيان، فأعلن خيران بيعته، وأيده في بيعته المنذر التجيبي صاحب سرقسطة، وولاة بلنسية ودانية وطرطوشة وألبونت وغيرها، وكان ذلك في مؤتمر عقد في بلنسية، وتلقب الخليفة الجديد بالمرتضي، وأعلن الخلاف على الناصر، وسار على رأس جيش متحد من حلفائه ومؤيديه، ومنهم مجاهد العامري. والتقى جيش الفتيان وحلفائهم في ظاهر غرناطة بجيش البربر، بقيادة زاوي بن زيري الصنهاجي، فهزم جند الأندلس هزيمة فادحة، وقتل المرتضي خلال فراره (409 هـ)، وانهارت بذلك حركة الفتيان لمعارضة خلافة البربر، وعاد مجاهد إلى دانية. وفي خلال ذلك تطورت الحوادث في بلنسية، وكانت تحت حكم الفتيين العامريين مظفر ومبارك، فتوفي مظفر أولا ثم تبعه مبارك في حادث قتل فيه، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 408 هـ حسبما فصلنا من قبل في موضعه. فعندئد خلفه في حكم بلنسية الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة، ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري، وكانت الخطبة تصدر باسميهما، ثم وقع الخلاف بينهما، وسخط أهل بلنسية على لبيب، لوقوعه تحت نفوذ صاحب برشلونة النصراني، ففر لبيب إلى طرطوشة، وانفرد مجاهد بحكم بلنسية، إلى جانب مملكته في دانية، واستمر على ذلك زهاء عامين، حتى اجتمع الفتيان العامريون مرة أخرى، وعقدوا البيعة لحفيد مولاهم عبد العزيز بن عبد الرحمن المنصور، وندبوه أميراً لبلنسية، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م)، وعندئذ تخلى مجاهد عن حكمها. ْولسنا نجد بعد ذلك تفصيلا شافياً لأعمال مجاهد في الأعوام التالية، بيد أنه هنالك واقعتين واضحتين، الأولى أن مجاهداً غزا مرسية، والثانية أنه خاض حرباً مع عبد العزيز المنصور صاحب بلنسية. فأما عن الواقعة الأولى، فإنه يبدو من إشارة لابن الأبار، أن مجاهداً سار إلى غزو مرسية، وقت أن كان عليها أبو بكر بن طاهر نائباً عن زهير العامري صاحب ألمرية. ولا توضح لنا الرواية أسباب هذا الغزو، ولا تاريخه بالضبط، ولكن الظاهر أنه وقع حوالي سنة

420 هـ (1029 م) في أوائل ولاية زهير لألمرية ومرسية عقب وفاة خيران العامري. وقد كان النزاع قائماً داخل مرسية حول حكمها بين بني طاهر، وبني خطاب، وكان مجاهد فيما يبدو من مؤيدي بني خطاب، فلما غلب بنو طاهر على المدينة سار مجاهد لغزوها، وأسر أبا بكر بن طاهر، وحمله معه إلى دانية، ولم يطلقه إلا لقاء فدية طائلة، بيد أنه ليس هناك ما يدل على أن مجاهداً حكم مرسية أو استقر بها طويلا. وعندئذ ندب زهير أبا بكر بن طاهر لحكم المدينة واصطحب معه خصمه ومنافسه أبا عمرو بن خطاب إلى ألمرية حسماً للنزاع، وضماناً للسكينة والسلام في مرسية (¬1). ولما توفي زهير العامري في سنة 429 هـ، قتيلا في حربه مع باديس صاحب غرناطة، واستولى عبد العزيز المنصور من بعده على ألمرية وأعمالها، وعلى مرسية وأوريولة، شعر مجاهد بأن تضخم مملكة بلنسية على هذا النحو سوف يغدو خطراً على مملكته، فساءت بينهما العلائق بسرعة وانتهت إلى الحرب. وسار مجاهد في قواته من دانية، واخترق أراضي مملكة بلنسية الوسطى من شاطبة إلى لورقة. وكان عبد العزيز المنصور يومئذ في ألمرية، فغادرها في قواته، وكانت شاطبة ولورقة وشوذر (¬2) من أعمال مملكته، قد خرجت كلها عليه وانضمت إلى مجاهد. ووقعت الحرب بين الفريقين (433 هـ - 1041 م) وانتصر عبد العزيز في النهاية على خصومه، واستعان في محاربته لمجاهد ببعض سريات من المرتزقة النصارى أمده بها ملك قشتالة، وعاد مجاهد إلى دانية، دون أن يفوز بشىء. وولّى مجاهد حكم ميورقة (الجزائر الشرقية) ابن أخ له يدعى عبد الله. وكانت الجزائر الشرقية من أهم أعمال مجاهد، وبها كانت مرافيء معظم أساطيله، لأن مياه دانية لا تصلح لرسو السفن الكبيرة. واستمر عبد الله على ميورقة خمسة عشر عاماً حتى عزل في سنة 428 هـ، وندب مجاهد لحكمها مولاه الأغلب فاستمر في منصبه بقية عهد مجاهد، وقسما من عهد ولده علي (¬3). ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 187، وطبعة القاهرة ج 2 ص 116 و 117. وكذلك الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 182. (¬2) وهي بالإسبانية Jodar (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 167.

وتوفي مجاهد العامري سنة 436 هـ (1044 م) بعد أن حكم مملكة دانية والجزائر زهاء ثلاثين عاماً، ساد فيها النظام والأمن والرخاء. وقد أشادت التواريخ المعاصرة واللاحقة، بخلال مجاهد العامري، وعبقريته الحربية والسياسية، ومآثره العلمية والأدبية، وكان أكبرهم تنويهاً بشأنه، معاصره المؤرخ الكبير أبو مروان ابن حيان، وإليك نبذة مما قاله في ذلك، نقلها إلينا ابن بسام في الذخيرة، قال: " كان مجاهد فتى أمراء دهره، وأديب ملوك عصره، لمشاركته في علم اللسان، ونفوذه في علم القرآن، عنى بذلك من صباه، وابتداء حاله إلى حين اكتهاله، ولم يشغله عن التزيد، عظيم ما مر به في الحروب براً وبحراً، حتى صار في المعرفة نسيج وحده، وجمع من دفاتر العلوم خزائن جمة، وكانت دولته أكثر الدول خاصة، وأسراها صحابة، لانتحالهم الفهم والعلم، فأمه جلة العلماء وأنسوا بمكانه، وخيموا في ظل سلطانه، واجتمع عنده من طبقات علماء أهل قرطبة وغيرها، جملة وافرة، وجلة ظاهرة، إلا أنه كان مع أدبه من أزهد الناس في الشعراء، وأحرمهم لأهله، وأنكرهم على منشده فأقصر الشعراء عن مدحه، وخلا الشعر من ذكره " (¬1). وذكر لنا في نبذة أخرى نقلها إلينا ابن الخطيب، أنه كان بين أعلام العصر الذين يلتفون حول مجاهد، أبو عمرو بن سعيد الداني صاحب القراءات، وأبو عمر ابن عبد البر، وابن معمر اللغوي، وابن سيده صاحب كتاب المحكم وغيرهم (¬2). وكان منهم أيضاً الفقيه الكاتب أبو العباس أحمد بن رشيق، وكان يحتل في دولة مجاهد أرفع منزلة، وقد ولاه ميورقة فحكمها بالسياسة والعدل، واشتغل هناك بالحديث والفقه (¬3)، وكان بعض هؤلاء العلماء منقطعاً إليه، متفرغاً للعمل في كنفه، مثل ابن سيده الذي ألف معظم كتبه تحت رعايته، ولازمه حتى توفي، ثم غادر دانية بعد وفاته خوفاً من سطوة ولده علي (¬4). " فشاع العلم في حضرته ¬_______ (¬1) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 5 أ. ونقلها صاحب البيان المغرب ج 3 ص 156. (¬2) توفي أبو عمرو الداني سنة 444 هـ، وابن عبد البر سنة 463 هـ، وابن سيده سنة 458 هـ. (¬3) هذا قول ابن الأبار (الحلة السيراء ج 2 ص 128) ولا نعرف متى كانت هذه التولية. ولعلها كانت في أوائل عهد مجاهد. وقد توفي ابن رشيق بعد سنة 440 هـ. (¬4) المقري عن المطمح في نفح الطيب ج 2 ص 357.

حتى فشا في جواريه وغلمانه، فكان له من المصنفين عدة، يقومون على قراءة القرآن، ويشاركون في فنون من العلم، يجملونه بها ويشرفون دولته". ومما يذكر عن علائق مجاهد بعلماء عصره، قصته مع إمام اللغة والنحو في عصره، أبي غالب بن غالب المعروف بابن التياني المرسى. فإن مجاهداً أثناء تغلبه على مرسية، وأبو غالب إذ ذاك بها، أرسل إليه ألف دينار، على أن يزيد في ترجمة كتابه " الموعب " أنه ألفه لأبى الجيش مجاهد. فرد عليه المال، وأنف من ذلك قائلا، " والله لو بذلت لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه لك خاصة، وإنما جمعته لكل طالب علم " (¬1). ولم تقف إشادة المؤرخ المعاصر بخلال مجاهد عند مآثره العلمية، ولكنه ينوه في نفس الوقت بخلاله كفارس من أعظم فرسان عصره. ويقول لنا ابن حيان إنه " كان بهمة، وأكثر الناس علماً بالثقافة، فلا يضم من الفرسان إلا الأبطال الشجعان، وإنه لم يكن في ملوك الزمان فارس يعدله شكلا ولباقة ورواء وهيبة، وحسن عمل في السلاح، وتقليباً له، إلى حذق بأبواب الثقافة والرماية، وتدقيق لمعانيها " (¬2). كذلك فإنه يبدو أن مجاهداً كان من أذكى ملوك الطوائف وأحذقهم بالشئون المالية والتجارية. وكان نشاطه التجاري الواسع، المترتب على نشاط سفنه التجارية الكثيرة في مياه غربي البحر المتوسط، يحقق له ثروات طائلة، وكانت مملكة دانية في الواقع من أغنى ممالك الطوائف، وأكثرها تمتعاً بالرخاء. وقد رأينا مما ذكرناه في غزوة ميورقة، وغارات مجاهد البحرية على الشواطىء الفرنسية والإيطالية، أن مجاهداً كان كذلك بحاراً من أعظم بحارة عصره، وكان من أكثرهم تمرساً بالحروب والغارات البحرية. ويصفه دوزي، بأنه كان أعظم " القراصنة " في عصره، وبأنه قد اشتهر بغزواته لسردانية وشواطىء إيطاليا وكذلك بحمايته للأدباء (¬3). ُومع كل ما تقدم فإن ابن حيان لم يفر مجاهداً من نقده اللاذع، إذ يبدو أنه ¬_______ (¬1) راجع الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 182، ونفح الطيب ج 2 ص 132. (¬2) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 5 أ. وأعمال الأعلام ص 218. (¬3) Dozy: Hist.des Musulmans d'Espagne, V.III.p.3

جنح في أواخر عهده إلى نوع من التناقض والاستهتار، فتارة يبدو ناسكاً، معتكفاً متبرئاً من كل باطل، وطوراً يعود خليعاً فاتكاً لا يساتر بلهو ولا لذة، ولا يستفيق من شراب وبطالة، شأنه في ذلك شأن سائر ملوك الطوائف (¬1). وكان مجاهد العامري يكنى حسبما قدمنا بأبى الجيوش، وفي بعض الروايات بأبى الحسن (¬2)، ويلقب من الألقاب الملوكية بالموفق. - 3 - وخلف مجاهد العامري في مملكة دانية والجزائر، ولده علي الملقب بإقبال الدولة. وقد سبق أن أشرنا إلى قصة أسره، وهو صبي، في غزوة سردانية، وعوده من الأسر بعد أعوام طويلة، فتى تغلب عليه صفات الروم ولسانهم، وكيف عنى أبوه مجاهد برده إلى حظيرة الإسلام، وبتثقيفه وإعداده ليخلفه في الملك. وكان مجاهد، قبل عود ولده علي، قد رشح أخاه الأصغر حسناً الملقب بسعد الدولة لولاية عهده، فلما صار الأمر بعد ذلك إلى أخيه علي، تحطمت آماله، وشعر نحو أخيه الأكبر، بعاطفة بغض قوي، ورغبة جامحة في إزالته. وهناك في الواقع بعض الغموض فيما يتعلق بمركز حسين من مسألة الحكم وولاية العهد، ذلك أنه توجد قطع من النقود التي ضربت في دانية سنة 432 هـ، وعليها اسم حسن سعد الدولة، كما توجد نقود ضربت في دانية وميورقة في سنتي 435، و 436 هـ، تحمل اسمه واسم أخيه علي وأبيهما مجاهد. وفي ذلك ما يدل على أن حسناً، ربما ولي الحكم بالفعل خلال حياة أبيه نائباً عنه، أو أنه كان مشاركاً ْلأخيه علي في ولاية العهد، أو نحو ذلك (¬3). وعلى أي حال فقد سار حسن مغضباً إلى صهره، وزوج أخته العتضد بن عباد في إشبيلية، وأفضى إليه بمشروعه في الوثوب على أخيه، واسترداد حقه في الملك، فشجعه المعتضد، وهو من عرفنا من الجرأة والإقدام على الكبائر، ولعله كان يرى في معاونته على تنفيذ مشروعه، سبيلا إلى بسط حمايته فيما بعد على مملكة دانية. وبعث معه إلى دانية غلاماً فتاكاً من غلمانه، ووضع حسن والغلام العبادي خطتهما لاغتيال علي، ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 5 أ. (¬2) ابن الأثير ج 9 ص 10، وراجع معجم ياقوت الجغرافي تحت كلمة " دانية ". (¬3) P.y Vives: Los Reyes de Taifas ; p. 36

واتفقا على أن يكون ذلك يوم جمعة عقب خروج علي من الصلاة. وكان من عادة علي، عقب الخروج من الصلاة، أن يتنزه قليلا على شاطىء البحر، وكان إذا ركب، كان أخوه حسن وراءه في الموكب، فلما انتهى علي في ذلك اليوم من نزهته، وسار عائداً إلى قصره، انتهز حسن والغلام العبادي فرصة مروره في زقاق ضيق، وانقض حسن عليه بخنجره، فأصابه في يده، ثم حاول أن يثني الطعنة فلم يوفق ورده علي, وعندئذ حاول الغلام العبادي أن يطعن علياً بالرمح الذي يحمله، فنشب الرمح في الحائط لضيق الزقاق، وانقض رجال عليّ على الغلام العبادي فقتلوه، وفر حسن ناجياً بنفسه، وسار مسرعاً إلى بلنسية، حيث لجأ إلى صهره، وزوج أخته الآخر. عبد الملك بن عبد العزيز، وهناك عاش في كنف أخته مغموراً حتى توفي (¬1). وهكذا فشلت هذه المحاولة الغادرة في اغتيال علي بن مجاهد، وبرىء علي من جراحه واستقر في ملكه، واتفق الجميع على طاعته وتأييده. وحذا علي حذو أبيه في اتباع سياسة الحيدة والمودة مع جيرانه، وحاول مثل أبيه أن يوثق علائقه مع ملوك عصره بالمصاهرة، وكانت له بنات حسان يصفهن صاحب الذخيرة بأنهن كن " أحسن من الشموس، وأفتن من الطواويس " ويقول لنا إن ملوك الطوائف تنافسوا في الزواج منهن، وجعلهن والدهن علي عيوناً على أزواجهن، معتمداً على ما تحققه له المصاهرة وصلة الرحم، من الرعاية والحماية (¬2)، فزوج إحداهن للمعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، وأخرى إلى المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، وتزوج هو من ابنة أحمد بن هود المقتدر بالله، بيد أنه كان من غرائب القدر أن هذه السياسة ذاتها، وهي سياسة المصاهرة، كانت أيضاً هي السبب في سقوط علي وضياع ملكه. ولم نعثر على أية تفاصيل شافية عن الأحداث التي مرت بمملكة دانية أيام علي ابن مجاهد، ولا عن أعمال علي ذاته، وكل ما نستخلصه من الإشارات القليلة المتعلقة بحكمه، أنه جرى على نفس سياسة أبيه في مخاصمة بني طاهر أصحاب مرسية، وأنه كان متحالفاً مع أصحاب بلنسية ومربيطر وشنتمرية الشرق. وأما عن ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 157 و 158. (¬2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206.

علائقه مع الملوك النصارى، فإنه كان على علائق المودة والصداقة مع ملك قشتالة، أسوة بالمأمون صاحب طليطلة، ولكن على مبدأ الاستقلال لا الخضوع، إذ كانت مملكة دانية، حسبما بينا من قبل، بموقعها النائي الحصين، بعيدة عن متناول عدوان قشتالة. وكذا كان يرتبط بمثل هذه العلائق الودية مع كونتات برشلونة، وهم أمراء آل برنجير. وكان علي يولي شئون الجزائر منتهى عنايته، وكان يشعر دائماً أنها أهم أقسام مملكته. وكان حاكمها وقت ولاية علي، هو الأغلب مولى أبيه مجاهد، وكان قد ولي حكمها منذ سنة 428 هـ. وكان جندياً وبحاراً مجرباً، وكان دائب الإغارة بسفنه على الشواطىء النصرانية في قطلونية وبروفانس (¬1). ولما توفي مجاهد، استأذن الأغلب علياً بعد ولايته بقليل، أن يسير إلى الحج، فأذن له، وندب لحكم الجزائر صهره سليمان بن مشكيان، فاستمر في حكمها خمسة أعوام أخرى حتى وفاته في سنة 442 هـ (1050 م)، فولى علي مكانه عبد الله المرتضي فحكمها مدة طويلة. ولما سقطت دانية في يد ابن هود، وانقضت دولة علي، حسبما يجىء، أعلن المرتضي استقلاله بحكم الجزائر، واستمر في حكمها أميراً مستقلا حتى وفاته في سنة 486 هـ (1092 م)، فخلفه في حكمها مبشر بن سليمان الملقب بناصر الدولة حسبما نذكره في موضعه (¬2). وكان من أبرز أعمال علي بن مجاهد، استجابته لنداء المستنصر بالله خليفة مصر الفاطمي، أيام الشدة العظمى، التي نكبت فيها مصر بالوباء والمجاعة الغامرة، حيث دعاه إلى المساهمة في إغاثة أهل مصر بالغلال والمؤن، فبادر علي إلى الاستجابة، وبعث إلى الإسكندرية مركباً كبيراً مشحوناً بالمؤن والأطعمة، (447 هـ - 1055 م)، فردها إليه المستنصر مشحونة بالتحف والذخائر، وتبالغ بعض الروايات فتقول إنه أرسلها إليه مشحونة " بالأموال والذخائر، أو بالياقوت والجواهر والذهب " (¬3). وبعث علي إلى المستنصر رسالة شكر تفيض بلاغة وإجلالا، مكتوبة بقلم ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 165. (¬2) راجع: A.P. Ibars: Valencia Arabe, p. 171 &172 (¬3) راجع البيان المغرب ج 3 ص 228، وأعمال الأعلام ص 221 و 222.

وزيره أبى الأصبغ بن أرقم، يشيد فيها بمقام الخلافة الفاطمية وجلالها، ومقام المستنصر بالله. وقد نقل إلينا ابن بسام نص الرسالة المذكورة، ومما جاء فيها على لسان علي: " فالآن استمد المريد، واستقر الضمير، فتبسم مولى الحضره رياضاً عطراً، وراد روضها زهراً، وشام برقها ممطراً، واستوضح هلالها مبدراً، وارتشف ماءها حضراً، فما الشكر وإن جزل، يوف ثنايا ذلك الإفضال والإنعام, ولا اللسان وإن جفل يتعاطى ذلك الشأو، ولا الأقلام، ولا الطوق يقوم بأعبائها حق القيام. وأي وسع يباري البحر وهو طام، وأي طوق يطيق ركنى شمام. ولو كانت للمولى بالقدر يدان وساعده إمكان، وساعفه زمان، لأم بشخصه كعبة الآمال، واستقبل بقصده قبلة السعة والإقبال، واستلم بيده ركن الإنعام والإفضال .. " (¬1). وكان علي يتبع سياسة المودة والتسامح المطلق نحو النصارى، ونحو أمانيهم الدينية، وربما كان ذلك راجعاً من بعض الوجوه إلى ظروف حياته، وإلى نشأته خلال أسره الطويل، بين نصارى سردانية، واعتناق دينهم قبل أن يعود إلى الإسلام. ولدينا في ذلك وثيقتان صادرتان منه، الأولى بوضع سائر الكنائس والبيع التي بمملكة دانية والجزائر تحت رعاية أسقف برشلونة، وأن يتولى هو تعيين سائر رجال الدين الذين يعملون بهذه الكنائس، والثانية بأن يسمح للنصارى المعاهدين في أعمال مملكته، بأن يذكروا اسم أسقفهم في خطبهم ومواعظهم. ولدينا بالأخص النص العربي للوثيقة الثانية، وقد جاء فيه: " أشهده إقبال الدولة، أيده الله، على أنه أجاب غلبرت الأسقف ببرشلونة. إلى أن يكون مذكوراً في خطاب النصارى في بيعهم بجميع أعماله، وهو مما انعقد بالخط الأعلى، وذلك في شوال سنة تسع وأربعين وأربعمائة "، ثم يلي ذلك أسماء الشهود (¬2). ¬_______ (¬1) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط، لوحة 65 ب وما بعدها، وهي طويلة. (¬2) تحفظ هذه الوثيقة بمحفوظات مكتبة الفاتيكان برومة. وراجع نصها الكامل في بحث الأستاذ شاباس السالف الذكر عن مجاهد وابنه علي في كتاب: Estudios de Erudicion Oriental, Homenaje a Fr. Codera وراجع أيضاً في هذا الموضوع A.P.Ibars: Valencia Arabe, p. 175-176.

وكان من أثر هذه الحرية الدينية المطلقة، أن تحققت في نفس الوقت حرية فكرية شاملة، وانطلقت الأقلام بما شاءت. وفي هذا الجو المشبع بالتسامح والحرية، كتب أبو عامر أحمد بن غرسية، وهو مولد من كتاب شرقي الأندلس، يرجع إلى أصل نصراني بشكنسي، سبي من ماردة صغيراً، ونشأ في بلاط دانية، في كنف مجاهد العامري صاحب مملكة دانية والجزائر (400 - 436 هـ)، وولده على اقبال الدولة (436 - 468 هـ) (¬1): كتب رسالته الشهيرة في تفضيل العجم على العرب، وهي رسالة قوية عجيبة، تفيض تحاملا ضد الجنس العربي، وتنوه بوضاعة منبته، وخسيس صفاته، وحقارة عيشه وميوله، وانغماسه في شهوات الجنس، وتشيد بالعكس بصفات العجم (والمقصود بها مختلف أجناس الفرنج)، وترفعهم عن الشهوات الدنية، وفروستهم، ونجدتهم، وتبحرهم في العلوم، وغير ذلك. وقد وجه ابن غرسية هذه الرسالة إلى صديقه الكاتب الشاعر أبي عبد الله بن الحداد، يعاتبه فيها، لأنه يخص ابن صمادح دون مجاهد وولده علي بمدائحه، وصاغها في أسلوب عنيف مقذع، ينبىء بما كان يضمره هذا الكاتب المولد للجنس العربي من المقت والحقد والكراهية. ولا تحمل هذه الرسالة تاريخاً ما. ولكنا نعرف مما تقدم أن ابن الحداد، الذي وجهت إليه، كان شاعراً في بلاط المعتصم بن صمادح أمير ألمرية، الذي حكم من سنة 433 - 484 هـ (¬2). والمرجح أنها وجهت إليه حوالي سنة 450 إلى سنة 460 هـ، وابن غرسية يقيم بدانية في كنف على إقبال الدولة، وإليك بعض ما جاء في هذه الرسالة في التنويه بفضائل العجم، ونقائص العرب: ¬_______ (¬1) المغرب في حلى المغرب لابن سعيد (القاهرة 1955) ج 2 ص 406 و 407، وأبو الحجاج البلوي في كتاب الف با (القاهرة 1287 هـ) ج 1 ص 353. وابن الأبار في المعجم رقم 282 في ترجمة أبي العباس الجزيري حيث يقول عنه "وكان بها (أي بدانية) يؤدب أبا جعفر أحمد بن غرسية الكاتب". (¬2) ان اسم ابن الحداد الذي وجه إليه ابن غرسية رساله، هو الذي ورد في مخطوط الإسكوريال رقم 538 الغزيري الآتي ذكره. ولكن ورد في الذخيرة لابن بسام (الجزء الثالث مخطوط أكاديمية التاريخ بمدريد) وكذلك في كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (مخطوط باريس السالف الذكر) أن الذي وجهت إليه الرسالة هو أبو جعفر الجزار، وهو باسمه الكامل أحمد بن محمد بن سهل السرقسطي، وأنه كان عن شعراء بني هود، وكان عالماً أديباً شاعراً، وكان قد هبط من سرقسطة يريد ألمرية ليلحق بالمعتصم بن صمادح وقد عدل عن الورود إلى دانية، والالتجاء إلى أميرها علي بن مجاهد. بيد أننا نؤثر الأخذ بما ورد في مخطوط الإسكوريال.

" أأحسبك أزريت، وبهذا الجيل البجيل ازدريت، وما دريت أنهم الصهب الشهب، ليسوا بعرب ذوي أينق جرب، أساورة أكاسرة، مُجد، نُجد، بُهم، لا رعاة شويهات، ولا تهم، شغلوا بالماذي والمرّان عن رعي البعران، وبجلب العز عن حلب المعز، جبابرة، قياصرة، ذوو المغافر والدروع، للتنفيس عن روع المروع، حماة السروح، نماة الصروح، صقورة، غلبت عليهم شقورة، وشقورة الخرصان، لكنهم خَطَبة بالخرصان، شعر. ما ضرهم أن شهدوا مجادا ... أو كافحوا يوم الوغى الأندادا أن لا يكون لونهم سوادا " شرهوا برنات السيوف، لا بربات الشنوف، وبركوب السروج عن الكلب والفرُّوج، وبالنفير عن النقير، وبالجنائب عن الحبائب، وبالخب عن الحب، وبالشليل عن السليل، وبالأمر والذمر، عن معاقرة الخمر والزمر، وباللقيان عن العقيان، وعن قنيان القيان، طِياتهم خطياتهم، وغلاتهم آلاتهم, وحصونهم حصنهم، أقيال آباؤهم من بين الأنام أقتال. أولئك قومي إن بنوا شيّدوا البناء ... وإن حاربوا جدّوا وان عقدوا شدّوا حُلُم عُلُم ذوو الآراء الفلسفية الأرضية، والعلوم المنطقية الرياضية كحملة الاسترلوميقي, والموسيقي والعَلَمة بالارتماطيقي، والجومطريقي، والقومة بالألوطيقي والبوطيقي، ما شئت من تدقيق، وتحقيق، حبسوا أنفسهم على العلوم البدنية والدينية لا على وصف الناقة الفدنيّة، فعلمهم ليس بالسفساف كفعل نائله وأساف، أصغر بشأنكم، إذ بزق خمر باع الكعبة أبو غبشانكم، وإذ أبور غالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستيصالكم. أزيدك أم كفاك وذاك أني ... رأيتك في انتحالك كنتَ أحمق فلا فخر معشر العربان الغربان، بالقديم المفرِّي للأديم، ولكن الفخر يابن عمنا، الذي بالبركة عمّنا، الإبراهيمي النسب، الإسماعيلي الحسب الذي انتشلنا الله تعالى به وإياكم من العماية والغواية، أما نحن فمن أهل التثليث وعبادة الصلبان، وأنتم من أهل الدين المليث وعبادة الأوثان، ولاغرو أن كان منكم حبره وسبره، ففي الرغام يلقى تبره، والمسك بعض دم الغزال، والنطاف العذاب مستودعات بمسك العزال:

لله مما قد برا صفوة ... وصفوة الخلق بنو هاشم وصفوة الصفوة من بينهم ... محمد النور أبو القاسم بهذا النبي الأمي أفاخر من تفخّر، وأكابر من تقدم وتأخر، الشريف السلفين، والكريم الطرفين، الملتقي بالرسالة، والمنتقي للأداء والدلاّلة، أصلي عليه عدد الرمل، ومدد النمل، وكذلك أصلي على واصلي جناحه، سيوفه ورماحه، أصحابه الكرام، عليهم من الله أفضل السلام ". وقد أثارت رسالة ابن غرسية مرارة في الأوساط الأدبية المعاصرة، ورد عليه من العلماء القريبين من عصره في رسائل شديدة، انتهى إلينا بعضها. ومن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن الدودين البلنسي، وقد عاش في النصف الثاني من القرن الخامس، وكان معاصراً لابن بسام، وأورد لنا ابن بسام رده على ابن غرسية في الذخيرة. ومنهم أبو الطيب عبد المنعم بن عبد الله القروي المتوفى سنة 493 هـ، وقد ورد رده في الذخيرة أيضاً، وفي مخطوط الإسكوريال، في رسالة عنوانها: "حديقة البلاغة، ودوحة البراعة، بذكر المآثر العربية ونشر المفاخر الإسلامية". ومنهم الوزير الكاتب أبو عبد الله بن أبي الخصال المتوفى سنة 540 هـ، وقد رد على ابن غرسية في رسالة يوردها لنا صاحب الذخيرة، وعنوانها: " خطف البارق، وقذف المارق في الرد على ابن غرسية الفاسق ". ومنهم الفقيه أبو يحيى ابن مسعدة من فقهاء الموحدين، وقد عاش فيما يبدو في النصف الثاني من القرن السادس، في رسالة طويلة وردت في مخطوط الإسكوريال، ومنهم أخيراً أبو مروان عبد الملك بن محمد الأوسي في رسالة "الاستدلال بالحق في تفضيل العرب على جميع الخلق" (¬1). ¬_______ (¬1) توجد رسالة ابن غرسية ضمن مجموعة مخطوطة بمكتبة الإسكوريال لا عنوان لها، وتحمل رقم 538 الغزيري، وتحتوي على عدة رسائل تاريخية منوعة، وتشغل بها اللوحات 26 - 29 وتليها رسالة أبى يحيى بن مسعدة في الرد عليها وتشغل اللوحات من 29 - 41، ثم يليها رسالة ثانية في الرد على ابن غرسيه، ثم رد أبى جعفر أحمد بن الدودين البلنسي ويشمل اللوحات 53 - 54. وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة (القسم الثالث المخطوط المحفوظ بأكاديمية التاريخ بمدريد) رسالة ابن غرسية ثم رد أبى جعفر أحمد بن الدودين، ورد ابن عبد الله القروي. وقد نشر العلامة المستشرق جولد سيهر رسالة ابن غرسيه ما عدا الفقرة الأخيرة منها ضمن بحث له بالألمانية عنوانه: "الشعوبية عند مسلمي اسبانيا" Die Su'ubijja unter den Mohammedanern in Spanien =

وقد استمر صدى السخط على رسالة ابن غرسية عصوراً حتى أننا نجد كاتباً أندلسياً عاش بعد ذلك بقرنين هو أبو الحجاج يوسف بن محمد البلوي، يتناول هذه القضية، في كتابه " ألف با "، ويعقد فصلا خاصاً عن " فضل العرب "، يردد فيه ما قيل في ذلك، وما ينسب للعرب من الفروسية، والشجاعة، وحب الحرية، والإباء والجود، وفصاحة اللسان والشاعرية، وغير ذلك من الخلال المأثورة ثم يعطف على رسالة أبى عامر بن غرسية " البشكنسي الأصل "، ويقول إنه قد " فسق في رسالته وبدع، وسب بسببها وجدع "، ويعدد لنا من تصدوا للرد عليه، ممن سبق ذكرهم وذكر رسائلهم، ثم يبدي دهشته من تسامح أهل العصر، وتركهم لابن غرسية وأمثاله دون عقاب ويقول: " والعجب من أهل ذلك الزمن، كيف استقروا على هذه الفتن، وأقروا هذا المجتري على هذا الاجتراء، وما جاء به من الافتراء، أم كيف أبلغوه ريقه، وأوسعوا له طريقه ولم يهلكوه وفريقه " (¬1). وقد عنى البحث الحديث بدراسة رسالة ابن غرسية والتعليق عليها، وتناولها العلامة جولدسيهر في بحثه " الشعوبية عند مسلمي اسبانيا " الذي سبقت الإشارة إليه. ويلاحظ جولدسيهر، أنه يوجد بين عظماء الأمة الأندلسية كثيرون ممن يرجعون إلى أصول غير عربية وبخاصة المولدين، ومن هؤلاء أئمة من المفكرين مثل بقي بن مخلد، والعلامة ابن حزم، وإمام اللغة، أبو مروان عبد الملك ابن السراج، وغيرهم، وكذلك كان الشأن في عنصر الصقالبة، الذي ازدهر، في ظل أمراء بني أمية، وشغل منه الكثيرون أرفع المناصب من قيادة ووزارة وغيرهما. بيد أن عنصر المولدين، كان أهم العناصر غير العربية في الأمة الأندلسية وكانت النزعة الشعوبية أكثر تمكناً لديهم من أي عنصر آخر. وتعتبر رسالة ابن غرسية من أبرز نماذج الشعوبية الأندلسية، فقد كان مؤلفها مولداً يرجع إلى أصل نصراني، وهو يردد في رسالته ما تضمنه أدب الشعوبية في الشرق الإسلامي من الأسباب والمبادىء. بيد أن رسالة ابن غرسية تمتاز بأنها في تفضيل ¬_______ = نشر بمجلة جمعية المستشرقين الألمانية ( Z. der D.Morg.Gesell.) سنة 1899 ص 601 - 620 ونشرها الأستاذ مختار العبادي ضمن بحث له عن "الصقالبة في اسبانيا" (مدريد 1953) ونشرها أخيراً، ونشر معها الردود التي سبقت الإشارة إليها الأستاذ عبد السلام هارون في مجموعة نوادر المخطوطات، (المجموعة الثالثة) (القاهرة 1373 هـ). وقد نشرناها نحن في نهاية الكتاب. (¬1) أبو الحجاج البلوي في كتابه " ألف با " ص 347 - 353.

العجم على العرب، تعني قبل كل شىء بالإشادة بفضائل الروم أو بني الأصفر أي النصارى، في حين أن معظم رسائل الشعوبية المشرقية تعني بالمفاضلة بين العرب والعجم (أي الفرس). ْأما ما كتبه ابن غرسية في نهاية رسالته عن تمجيد النبي العربي، والإشادة بمآثره، ورسالته الروحية، فيصفه جولدسيهر بأنه حجاب للتمويه، وفي رأي ابن غرسية أن العروبة ليست مفخرة للنبي، " ففي الرغام يلقي تبره، والمسك بعض دم الغزال " (¬1). واستمر علي إقبال الدولة في حكم مملكته زهاء ثلاثين عاماً، ثم ساءت العلائق بينه وبين صهره، حميه أحمد بن سليمان بن هود المقتدر صاحب سرقسطة. وكان المقتدر أميراً صارماً وافر الأطماع، فحارب أخوته واستولى على بعض أعمالهم، وانتزع طرطوشة من صاحبها الفتى العامري مقاتل، وحاول أن ينتزع لاردة من أخيه المظفر. ثم اتجهت أبصاره إلى مملكة دانية، وأخذ يكيد لعلي ويشتد في مضايقته. وكانت أهم الأسباب التي انتحلها لخصومته، هو أنه أي علي قد استقبل بدانية بعض الأسر القوية، التي فرت من لاردة بلد المظفر أخى المقتدر وخصيمه، ولجأت إلى حمايته. وذكر لنا ابن بسام سبباً آخر لذلك، وهو أن المقتدر طالب علياً ببعض القلاع الشمالية الواقعة في مملكته، والتي كان يريد أن يلحقها بثغر طرطوشة، وأن علياً، خشية من صولته، سلم إليه تلك القلاع، بيد أنه ضبط فيما بعد كتباً أرسلها علي إلى أصحاب تلك القلاع يحثهم فيها على التحصن والمقاومة (¬2). وأخيراً سار المقتدر في قواته إلى دانية، وحاصرها، وشعر علي أنه عاجز عن مقاومته، فعرض عليه أن يسلمه المدينة والقصر بما فيه، على أن يؤمنه في نفسه وأهله، فوافق المقتدر، ودخل دانية واستولى عليها، وذلك في شعبان سنة 468 هـ (إبريل 1076 م). وانتهت بذلك الدولة المجاهدية. وجلس المقتدر بالقصر، وبايعه الناس خاصتهم وعامتهم، وأقام بدانية وقتاً ينظم فيه شئونها، ثم غادرها. وأخذ المقتدر معه صهره علياً وأهله، إلى سرقسطة. وأنزله في كنفه، فعاش هنالك محجوراً عليه حتى توفي، وذلك في ¬_______ (¬1) I.Goldziher: Die Su'ubijja unter den Mohammedanern in Spanien (Z.. der.Morg.Gesell.) B. 53 (1899) p. 607-615 (¬2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 207.

سنة 474 هـ (1081 م). وفي رواية أخرى، أنه استطاع الفرار من اعتقال المقتدر، ولحق بالعدوة، والتجأ إلى بني حماد أصحاب بجاية وهنالك توفي (¬1). وحاول ابنه سراج الدولة، وكان وقت سقوط دانية، حاكماً لحصن شقورة، أن يسعى إلى استرداد ملك أبيه، فسار إلى برشلونة، واستغاث بصاحبها الكونت برنجير، فاستجاب إليه بشروط وأمده ببعض قواته، واستطاع بالفعل أن يسترد بعض الحصون، ولكن المقتدر كان له بالمرصاد. ويقال إن المقتدر استطاع أن يدس عليه من اغتاله بالسم، فتوفي في سنة 469 هـ، لنحو عام من خلع أبيه (¬2). وكان علي بن مجاهد أميراً فاضلا، رفيع الخلال والمواهب، وكان مثل أبيه من حماة العلوم والآداب، وكان لطول إقامته بسردانية يتحدث ويكتب بالفرنسية والقشتالية، وينظم الشعر بهما (¬3). وكان ميالا إلى السلم والدعة، بعيداً عن أحداث السياسة وتقلباتها، مؤثراً لجمع المال، والاشتغال بالمشاريع التجارية (¬4) وفي عهده ساد السلام والرخاء في مملكة دانية، وازدهرت أحوالها وتجارتها. وقد أشاد بذكره عبد الواحد المراكشي في تلك العبارة المؤثرة: " ثم ملكها (أي دانية) بعده ابنه علي بن مجاهد وتلقب بالموفق، لا أعلم في المتغلبين على جهات الأندلس أصون منه نفساً، ولا أطهر عرضاً، ولا أنقى ساحة، كان لا يشرب الخمر، ولا يقرب من يشربها، وكان مؤثراً للعلوم الشرعية، مكرماً لأهلها " (¬5). - 4 - ويجدر بنا قبل أن نختم الكلام على مملكة دانية، أن نتبع مصاير ولاية ميورقة أو الجزائر الشرقية، التي كانت تؤلف أهم وحدة فيها. وقد رأينا أنه كان علي حكمها وقت أن سقطت دانية في يد المقتدر بن هود في سنة 468 هـ، عبد الله المرتضي الذي ندب لحكمها منذ سنة 442 هـ. وعندئذ أعلن المرتضي استقلاله، واستبد بحكم الجزائر، وبعث إلى دانية ليستقدم ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 165. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 165. (¬3) A.P.Ibars: Valencia Arabe, p. 170, Note 3 (¬4) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 206. (¬5) المعجب ص 41. وذكره أن علياً تلقب بالموفق من باب السهو، إذ هو لقب والده مجاهد.

أسرة سيده المخلوع علي، فأرسلت إليه، وعاشت في كنفه معززه مكرمة (¬1). واستمر المرتضي بعد ذلك في حكم الجزائر أعواماً طويلة أخرى، حتى توفي سنة 486 هـ (1093 م). فخلفه في الإمارة مساعده مبشر بن سليمان. ويقول لنا ابن خلدون إن مبشراً هذا، قد ولي على الجزائر في أوائل عهد علي إقبال الدولة في سنة 442 هـ، وإنه كان من شرقي الأندلس، وأسره النصارى صغيراً وجبوه، وإن مجاهداً وقع عليه بين أسرى سردانية، فأعجب بمواهبه، وقربه واصطفاه، وترقى في خدمته (¬2). وفي هذه الرواية غموض وتحريف. والحقيقة في أمر مبشر أنه كان من أهل قلعة حمير من أعمال لاردة، وأسره النصارى في صباه وجبوه، وعاش في برشلونة، حتى تعرف عليه ذات يوم سفير المرتضي حاكم الجزائر، وكان قد وفد مبعوثاً إلى الأمير برنجير في بعض الشئون، فأعجب بمواهب مبشر، وافتداه من الأسر، وأخذه إلى ميورقة وقدمه إلى المرتضي، فسر بخلاله ومواهبه، وأولاه ثقته، واستعان به في تصريف شئون الحكم، واستمر على ذلك حتى توفي المرتضي، فخلفه في الإمارة حسبما تقدم. وضبط مبشر شئون ميورقة (الجزائر) بحزم وكفايه، واتخذ لقب ناصر الدولة. وفي تلك الأثناء كان المرابطون، بعد أن أحرزوا نصرهم في الزلاقة، قد استولوا على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية، ثم زحفت جيوشهم نحو شرقي الأندلس، واستولت على مرسية ثم بلنسية وذلك في سنة 495 هـ (1102 م)، كل ذلك ومبشر ماض في حكمه للجزائر، يرقب سير الحوادث حذراً متأهباً. والظاهر أن الجزائر تمتعت في عهده بفترة من الأمن والرخاء، واشتهر أمر مبشر، وقصده الأدباء والشعراء، ووفد إليه بميورقة أبو بكر ابن اللبانة المعروف بالداني شاعر المعتمد بن عباد ووزيره من قبل، وامتدحه بقصيدة هذا مطلعها: ملك يروعك في حلى ريعانه ... راقت برونقه صفات زمانه وكانت حملات البحارة المجاهدين في عهده، وهم الذين تنعتهم التواريخ ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 165، وهو ينسب هذا التصرف إلى مبشر خلف المرتضي. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 165.

الفرنجية بالقراصنة، تخرج من ثغور الجزائر المختلفة، وتغير من آن لآخر على شواطىء قطلونية، وبروفانس وليجوريا، وكانت سفن النورمان والبيزيين والقطلان من جانبها تغير على شواطىء الجزائر وتعيث فيها. وكان من الحوادث الشهيرة في هذا العهد أن طائفة من السفن النرويجية جاءت بقيادة الملك سيجورد ملك النرويج، وعاثت في شواطىء اسبانيا الغربية، ثم عبرت مضيق جبل طارق، وسارت إلى الجزائر الشرقية، وهاجمت جزيرة فورمنتيرا الصغيرة المنيعة الواقعة جنوبي جزيرة يابسة، وكانت قد أودعت بها أموال وذخائر كثيرة للمسلمين، تقوم على حراستها حامية صغيرة، فاقتحم سيجورد الجزيرة، وأضرم فيها النار، واستولى على ما فيها من الأموال، ومات سائر المسلمين المدافعين عنها (¬1). وكانت جمهورية بيزة الإيطالية أشد البلاد اهتماماً بالاستيلاء على الجزائر الشرقية، ووضع حد لغارتها المتكررة على الشواطىء الإيطالية، وكان البابا يشجع هذا المشروع ويباركه. وعقدت بيزة من أجل ذلك حلفاً مع أمير برشلونة رامون برنجير الثالث. وفي صيف سنة 1114 م (أوائل 508 هـ) خرج من مياه بيزة أسطول الغزو وقوامه نحو ثلاثمائة سفينة، ومعه وحدات بحرية أخرى من برشلونة ومن فرنسا، وعرج الأسطول أولا على مياه الجزائر، ونزلت بعض وحداته في إحدى الجزر الصغيرة. ولما علم بذلك مبشر، بعث رسله يعرض الصلح على الغزاة، ويعرض تسليم الأسرى، وأن يؤدي تعويضاً عن نفقات الحملة، فرفض الغزاة، وسارت سفنهم فرست في مياه قطلونية حتى اقترب الربيع، ثم سارت بعد ذلك صوب جزيرة يابسة، وكانت سفن الغزاة، قد غدت يومئذ نحو خمسمائة سفينة، ومع ذلك فقد عقد مبشر عزمه على المقاومة، فحصن ميورقة، وبذل جهده في إعداد وسائل الدفاع. واستولى الغزاة على يابسة بسهولة، ثم اتجهوا نحو ميورقة كبرى الجزائر، ونزلوا فيها، وضربوا الحصار حول مدينة ميورقة عاصمتها. واستعد مبشر لحصار طويل الأمد، وبعث في الحال صريخه إلى أمير المسلمين ¬_______ (¬1) راجع: Dozy: Recherches; V.II p. 232-236 وكذلك A. Campaner y Fuentes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamica en las Islas Baleares (Palma 1888) p. 44-96

علي بن تاشفين، يطلب إليه الغوث قبل أن تسقط الجزائر في أيدي النصارى. وكان المرابطون قد استولوا عندئذ على شرقي الأندلس كله، وأحرزوا انتصارهم الحاسم على القشتاليين في موقعة إقليش (501 هـ - 1108 م) ثم استولوا في العام التالي على سرقسطة (502 هـ)، وقضوا على ملك بني هود، وأضحوا يهددون منها مملكة برشلونة النصرانية. وقدر أمير المسلمين أهمية ميورقة، وأمر بتجهيز الأساطيل لإنجادها، ورأى المرابطون أن يضغطوا في نفس الوقت على مملكة برشلونة التي كان أميرها برنجير الثالث يشترك بأسطوله في حصار ميورقة، فسارت قواتهم شمالا، وإخترقت أراضي قطلونية وعاثت فيها. ولكن الكونت برنجير، اضطر إزاء ضغط حلفائه، أن يبقى معهم حتى النهاية في مياه ميورقة. واشتد الحصار على ميورقة، وطوقها النصارى بنطاق محكم من الآلات الضخمة وقطعوا عنها كل معونة ونجدة، وقاسى المسلمون أهوالا من الجوع والحرمان، ولكنهم صمموا أن يموتوا دفاعاً عن أرضهم، وتوفي خلال ذلك الأمير مبشر ابن سليمان، فخلفه في الحكم أبو الربيع سليمان، وصمم أن يمضي في المقاومة، وحاول أن يغادر الجزيرة مع بعض صحبه في مركب صغيرة، ليسعى إلى طلب النجدة، فأسره النصارى. واستطاع النصارى أن يقتحموا السور الأول في فبراير سنة 1116 م (أواخر سنة 508 هـ) ثم اقتحموا بقية الأسوار تباعاً. وفي أواخر مارس دخل النصارى مدينة ميورقة، واحتلو قصر المُدَينة قصر الحكم، وعاثوا فيها تخريباً ونهباً وسبياً، ثم أضرموا فيها النار، ولم يكن بها عندئذ سوى الشيوخ والنساء والأطفال بعد أن هلك معظم المدافعين عنها في الحصار، فقتل النصارى منهم جملة كبيرة، وكان الكونت برنجير صاحب برشلونة، قد اضطر قبيل سقوط المدينة، أن يعود إلى مملكته حين علم باشتداد ضغط المرابطين عليها، وحصارهم لبرشلونة عاصمتها. وفي أثناء ذلك كان أمير المسلمين علي بن تاشفين، قد تلقى صريخ مبشر على يد بحار جرىء هو عبد الله بن ميمون، وكان قد استطاع أن يخترق الحصار بسفينته تحت جنح الظلام، وأن يعبر البحر إلى المغرب. وبادر أمير المسلمين فجهز أسطولا ضخماً من خمسمائة سفينة، وأقلعت السفن المرابطية بسرعة صوب الجزائر بقيادة أمير البحر ابن تفرتاش. وعلم البيزيون وحلفاؤهم بذلك، فأدركوا

أنه لا محل لأن يخوضوا مع هذه القوات البحرية الضخمة، معركة غير مأمونة العواقب، فأقلعوا مثقلين بالسبي والغنائم، بعد أن استصفوا ثروات الجزيرة، وغادروها قاعاً صفصفاً. ودخل المرابطون على أثرهم ميورقة، وذلك في أواخر سنة 1116م (509 هـ)، وفي الحال شرعوا في تعميرها، وعاد إليها الفارون من سكانها، وكانت قد لجأت منهم إلى الجبال جموع غفيرة، وعين أمير المسلمين حاكماً على الجزائر يدعى وانور بن أبي بكر اللمتوني، ومن ذلك التاريخ تدخل الجزائر الشرقية أو ميورقة في حظيرة الإمبراطورية المرابطية الكبرى، وهي التي كانت قد اشتملت يومئذ على سائر ممالك الطوائف الأندلسية (¬1). ¬_______ (¬1) تراجع أخبار غزو النصارى لميورقة واستردادها على يد المرابطين، في ابن خلدون ج 4 ص 165، وروض القرطاس ص 105، والروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 188 وكذلك، A.Campaner y Fuentes: ibid ; p. 105-135 و P.y Vives: Los Reyes de Taifas, p. 41

الكتاب الرابع دول الطوائف فى منطقة بلنسية

الكتاب الرابع دول الطوائف في منطقة بلنسية

الفصل الأول مملكة بلنسية

الفصْل الأوّل مملكة بلنسية 1 - عهد الصقالبة وبني عامر وبني ذى النون الصقابة وشرقي الأندلس. العبدان مظفر ومبارك. تغلبهما على بلنسية. اشتراكهما وامتزاجهما. تغلب مبارك على شاطبة. أحوال بلنسية في عهدهما. وفود الصقالبة والموالي إليها. الحرب بين مبارك والمنذر التجيبي. وفاة مظفر. مصرع مبارك. بلاطهما ووزراؤهما. مديح الشعر لهما. لبيب العامري ومجاهد يخلفان مبارك. اختلافهما وفرار لبيب إلى طرطوشة. مبايعة الفتيان العامريين لعبد العزيز المنصور بالزعامة. توليه إمارة بلنسية. خيران العامري يقدم للزعامة محمد بن عبد الملك المنصور. توليه إمارة مرسية وأوريولة. تنكر خيران له ومغادرته لمرسية. عبد العزيز المنصور ووزراؤه. وفاة خيران وخلافة زهير له في ألمرية. مصرع زهير. مبايعة أهل ألمرية لعبد العزيز. اتساع مملكة بلنسية وموقف مجاهد العامري. عبد العزيز يعهد بشئون ألمرية إلى ابن صمادح. غدره واستيلاؤه على ألمرية. الحرب بين عبد العزيز والفتيان العامريين. عبد العزيز وعلائقه بالملوك النصارى. وفاة عبد العزيز وقيام ولده عبد الملك. وزيره ابن رويش. موقف المأمون بن ذى النون. مشروعه للاستيلاء على بلنسية. استيلاؤه عليها واعتقاله لصهره عبد الملك. مختلف الروايات في ذلك. مهاجمة القشتاليين لبلنسية. موقعة بطرنة. مقدم المأمون بحجة إنجاد صهره. دخوله بلنسية واستيلاؤه عليها. وفاة ابن رويش وقيام ولده أبي بكر بن عبد العزيز. استبداده بحكم بلنسية. استيلاء المؤتمن بن هود على دانية. توجس ابن عبد العزيز والتجاؤه لألفونسو السادس. محاولة المؤتمن الاستيلاء على بلنسية وفشله. التفاهم بين أبي بكر والمؤتمن. وفاة أبي بكر وقيام ولده عثمان مكانه. تطور الحوادث. سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس. وعده لصاحبها القادر باسترداد بلنسية. مسير القادر إلى بلنسية مع الجند النصارى. موقف أهل بلنسية. إعلان الجماعة خلع عثمان ومبايعة القادر. دخول القادر بلنسية واستيلاؤه عليها. استبداده واضطراب الأحوال في عهده. مقدم المرابطين إلى الأندلس. رحيل القشتاليين عن بلنسية. أطماع المنذر بن هود في بلنسية. مسيره إليها ومحاصرتها بمعونة الجند القطلان. موقف القادر واستغاثته بألفونسو السادس والمستعين بن هود. المستعين بن هود ومشروعه في الاستيلاء على بلنسية. كانت دول الطوائف التي قامت في شرقي الأندلس، تمتاز بغلبة العنصر الصقلبي، وتفوقه في سيادتها، وفي تكييف أحداثها، وكانت هذه العناصر الصقلبية التي ألفت في شرقي الأندلس، ميداناً لنشاطها وأطماعها، هي نفس العناصر التي ظهرت بادىء ذي بدء في ميدان الفتنة القرطبية، وساهمت في أحداثها

بقسط بارز، ثم غادرت قرطبة، حينما غلبت هنالك على أمرها، وألفت ملاذها في ذلك الركن النائي من الأندلس، بعيداً عن موجة الطغيان البربرية التي اجتاحت قرطبة، وجنوبي الأندلس. وكانت بلنسية، وهي أعظم القواعد الشرقية، مركز التجاذب في معركة السلطان التي اضطرم لظاها في تلك المنطقة، وكانت هذه المعركة في البداية متواضعة محدودة المدى، ثم لم تلبث أن انسابت إلى شرقي الأندلس كله، من طرّكونة شمالا حتى مرسية ولورقة جنوباً، بيد أنها فيما عدا بعض اتصالات محدودة بأحداث المنطقة الغربية، حافظت على سيرها المستقل، وطابعها الخاص. وذلك أنه لما اضطرت الفتنة، وانهارت الدولة العامرية في أوائل سنة 399 هـ (1009 م)، واستطاع محمد بن هشام بن عبد الجبار المهدي أن ينتزع الخلافة لنفسه من هشام المؤيد، كان على بلنسية - وفقاً لبعض الروايات - فتى من الفتيان العامريين هو مجاهد العامري، فثار به عبدان من العبيد العامريين أيضاً هما مبارك ومظفر، واستطاعا أن ينتزعا منه السلطة، فغادر مجاهد بلنسية إلى دانية، وتربع العبدان - ويسميهما ابن الخطيب بالأميرين - مكانه في حكم المدينة. ويقدم إلينا ابن حيان رواية أخرى عن تغلب مبارك ومظفر على بلنسية، خلاصتها أنهما كانا يتوليان وكالة الساقية بالمدينة، أيام ولاية عبد الرحمن ابن يسار عليها، ثم ضرب الدهر ضرباته، وشاء القدر أن ينتزع الإمارة مبارك. ويصف ابن حيان الحادث بأنه " من غرائب الليالي والأيام، اللاعبة بالأنام ". ثم يقول لنا إن العبدين مبارك ومظفر توليا هما حكم بلنسية، وامتزجا في ذلك امتزاج الإخوة وعشاق الأحبة، ونزلا في قصر الإمارة مختلطين " تجمعهما في أكثر الأوقات مائدة واحدة، ولا يتميز أحدهما عن الآخر في عظيم ما يستعملانه من كسوة وحلية وفرش ومركوب وآلة، لا ينفردان إلا في الحرم خاصة، على أن جماعة حرمهما كن مختلطات في منازل القصر، ومستويات في سائر الأمر ". وكان لمبارك مع ذلك التقدم في المخاطبة ورسوم الإمارة لصرامته وشدته، ولدماثة مظفر وانصياعه لزميله في سائر الأمور. وذكر في بعض الروايات أن مظفراً ومباركاً كانا يقتسمان فيما بينهما حكم الولاية، فكان مظفر يختص بحكم بلنسية، ومبارك بحكم شاطبة (¬1). وذكر لنا ¬_______ (¬1) A.P.Ibars: Valencia Arabe, V. I. p. 152

ابن الخطيب من جهة أخرى، أن شاطبة كان يتولى حكمها منذ انقراض الدولة العامرية، الفتى خيرة الصقلبي، وتوطد بها أمره، وكان مبارك يتوق إلى إزالته عنها، ففي ذات يوم زار خيرة بلنسية، واستضافه مبارك ودس له السم في الطعام فهلك بعد أيام قلائل، وتولى نائبه عبد العزيز بن أفلح حكم شاطبة مكانه تحت رعاية مبارك، وتركه مبارك على حاله إلى أن استولى عليها مجاهد العامري (¬1). وعلى أي حال، فإنه يبدو، أن مظفراً ومباركاً كانا وفقاً لرواية ابن حيان المتقدمة، يحكمان معاً مدينة بلنسية بصفة فعلية. وبلغت جباية بلنسية في عهدهما مائة وعشرين ألف دينار في الشهر، سبعون منها من بلنسية ذاتها، وخمسون من شاطبة التابعة لعمالتها، وكانا يشتدان في تحصيل هذه الأموال، حتى أرهقت الرعية وأثقل كاهلها. على أن هذين العبدين لم يقصرا في تحصين بلنسية وصيانتها، فابتنيا سورها وزود بأبواب حصينة، فارتفع طمع الطامعين عنها، ووفد إليها الناس بأموالهم، واستقروا، وابتنوا المنازل والقصور الفخمة، والرياض الزاهرة، وكان مبارك ومظفر قدوة في ذلك فأنشآ القصور الفخمة، واقتنيا نفيس المتاع والرياش والآلات. وكان موكبهما إلى المسجد الجامع ببلنسية، يذكر الناس بفخامته وأناقته، وفاخر ما يرتديانه من اللباس، بمواكب مولاهما عبد الملك المظفر ابن المنصور نفسه. ووفد على بلنسية في ظل مبارك ومظفر، كثير من الموالي والصقالبة من الإفرنج والبشكنس وغيرهم، من طائفتهم وعشيرتهم، وكثير من العبيد الآبقين من مختلف نواحي الأندلس، وكان من هؤلاء الصقالبة، الوافدين المشردين، كثير من الفرسان الشجعان، وانتسب معظمهم إلى ولاء بني عامر، واكتسبوا بذلك نفوذاً، ووفد على المدينة أيضاً كثير من أرباب المهن والحرف، وكان لذلك كله أثره في تقدم العمران والرخاء بالمدينة (¬2). وكان من أهم أعمال مبارك العسكرية محاربته لمنذر بن يحيى التجيبي صاحب ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 226. (¬2) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - اللوحة 3 أوب و 4 أ. وراجع أيضاً البيان المغرب ج 3 ص 158 - 161.

سرقسطة. وذلك أن الفتى لبيباً العامري كان يحكم طرطوشة من أعمال الثغر الأعلى، فثابت لمنذر رغبة في الاستيلاء عليها، وهاجمها، ففر عنها لبيب وسار إلى بلنسية واستغاث بمبارك، فخرج معه في خمسمائة من خيرة فرسانه، ولقيهم منذر فغلبوا عليه وهزموه هزيمة شنيعة. وعاد مبارك إلى بلنسية ظافراً، واستفحل أمره، ودانت له جماعة الموالي (¬1). واستمر مبارك ومظفر في حكم بلنسية بضعة أعوام، ثم توفي مظفر، واستمر مبارك من بعده، فترة يسيرة. وفي ذات يوم خرج للنزهة فحدث حين عبوره فوق قنطرة النهر، أن عثرت به فرسه، فسقط منها، واصطدم ببعض أخشاب خرجت من القنطرة فشج وجهه وبطنه ومات لساعته، وكان مصرعه في شهر ذي الحجة سنة 408 هـ (1017م) (¬2). ومن الغريب أن مباركاً ومظفراً بالرغم من جهلهما، وبعدهما عن ميدان التفكير والأدب، كانا يستخدمان في بلاطهما طائفة من كتاب العصر النابهين مثل ابن التاكرني، وابن مهلب، وابن طالوت، وكانا يرتبان هؤلاء الكتاب في دولتهم على نسق مشيخة الوزراء في قرطبة، ويرجعان إلى رأيهم ومشورتهم في معظم الأمور، وكانا يعملان في حكم بلنسية مستقلين تمام الاستقلال، لا يعترفان في ذلك برياسة قرطبة أو غيرها. ومما هو جدير بالذكر أيضاً أن مباركاً ومظفراً كان لهما نصيب من مديح الشعر المعاصر، وقد مدحهما شاعر العصر، أبو عمر بن درّاج القسطلي بقصيدة رائعة هذا مطلعها: أنورك أم أوقدت بالليل ناركِ ... لِباغ قراك أم لباغ جوارك ْورياك أم عرف المجامر أشعلت ... بعود الكباء والألوَّة ناركِ ومبسمك الوضاح أم ضوء بارق ... حداه دعائي أن يجود دياركِ وطرة صبح أم جبينك سافراً ... أعرت الصباح نوره أم أعاركِ (¬3) ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 226. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 302. ويقول لنا ابن الخطيب إن مظفراً توفي بعد مبارك وإنه على أثر مصرع مبارك، ثار العامة ونهبوا القصر وقتلوا مظفراً (أعمال الأعلام ص 225). (¬3) نقل ابن الخطيب في أعمال الأعلام أقوال ابن حيان التي نقلها صاحب البيان المغرب، ورجعنا إليها، وقد نشر جزءاً كبيراً من قصيدة ابن دراج القسطلي (راجع ص 222 - 225). وردت القصيدة كلها بديوان ابن دراج المنشور بعناية الدكتور محمود علي مكي (دمشق 1961) ص 101 - 108، وهي من غرر قصائده.

ولما توفي مبارك، خلفه في حكم بلنسية الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري، وكانت الخطبة تصدر باسميهما معاً، ثم وقع الخلاف بينهما، ففر لبيب إلى طرطوشة واستأنف رياسته بها، وانفرد مجاهد بحكم بلنسية مع حكمه لدانية في نفس الوقت. بيد أنه لم يمض سوى قليل، حتى خرج عليه الفتيان العامريون، وعقدوا البيعة لسيدهم وحفيد مولاهم، عبد العزيز ابن عبد الرحمن المنصور، وذلك في سنة 411 هـ (1021 م). وقد سبق أن أشرنا إلى تعلق الفتيان الصقالبة بتراث الدولة العامرية، وولائهم لإمامة هشام المؤيد بالله، وإلى الدور الذي قام به زعماؤهم مثل واضح وخيران، في تطورات الخلافة القرطبية، وقد كانت بيعتهم لعبد العزيز المنصور أثراً من آثار هذا الولاء الراسخ لبني عامر. وكان عبد العزيز وقت مبايعته، فتى حدثاً في نحو الخامسة عشرة من عمره، إذ كان مولده سنة 397 هـ (¬1)، وكان حينما نزلت النكبة بأسرته قد حمل سراً إلى سرقسطة، وهنالك عاش في كنف صاحبها منذر بن يحيى التجيبي، فلما استدعاه الفتيان العامريون لبيعته لحق بشاطبة، وهنالك تمت بيعته أميراً لبلنسية، وزعيماً لبني عامر. على أن هذه البيعة لم تلبث طويلا دون منازع. ذلك أن خيران العامري، وكبير الفتيان العامريين، وصاحب ألمرية ومرسية وأوريولة، لم يكن على وفاق مع عبد العزيز. والظاهر أنه خشي على سلطانه في مرسية، وأوريولة، من هذه الزعامة الجديدة، أو أنه لم يحصل على ما كان يرجوه في ظلها من نفوذ. ومن ثم ْفإنه قدم للزعامة في شرقي الأندلس، مرشحاً جديداً من بني عامر، هو محمد ابن عبد الملك المظفر بن المنصور، وهو ابن عم عبد العزيز، وكان يومئذ فتى في نحو العشرين من عمره، وكان قد فر من قرطبة في عهد القاسم بن حمود، ومعه أموال جليلة كانت لأمه، ولجأ إلى حماية خيران، فلما وقع الخلاف بين خيران وعبد العزيز، نادى خيران بزعامة محمد، ونزل له عن حكم مرسية وأوريولة، ولقبه بالمؤتمن ثم بالمعتصم. بيد أنه لم يمض طويل على ذلك حتى اضطربت الأمور في تلك المنطقة، فثارت شاطبة ضد عبد العزيز، واضطر أن يغادرها إلى بلنسية، وتنكر خيران في الوقت نفسه لمرشحه الجديد محمد المعتصم، وغادره ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 301.

مغضباً إلى ألمرية، ثم عاد في قواته إلى مرسية، وضيق على المعتصم حتى اضطره إلى الخروج عنها، وذلك في ربيع الأول سنة 413 هـ (1022 م)، واستولى الفتيان على سائر أمواله، ولجأ المعتصم إلى أوريولة فطارده خيران، وألح عليه، ففر منها، ولحق بدانية، والتجأ حيناً إلى أميرها مجاهد العامري، ثم غادرها، وسار إلى غربي الأندلس، وهناك عاش بضعة أعوام أخرى حتى توفي في سنة 421 هـ (1030 م) (¬1). - 1 - واستقر عبد العزيز المنصور في حكم بلنسية دون منازع. وكانت له في بداية حكمه علائق مودة متبادلة مع القاسم بن حمود الخليفة بقرطبة، كذلك انضوى تحت لوائه مجاهد العامري حيناً، ثم اختلفا وناصبه العداء، وأخذ مجاهد يتربص الفرص لمهاجمته والإيقاع به. وعمل عبد العزيز على جمع المشردين من أهل بيته، فآواهم، وأولاهم صادق المحبة، وأغدق عليهم الأرزاق الوفيرة، حتى غدا في ذلك أجمل قدوة لأمراء عصره، واستخدم في ديوانه أربعة من أشهر كتاب عصره، كانوا يعرفون بالطبائع الأربع، وهم ابن طالوت، وابن عباس، وابن عبد العزيز، وابن التاكرني كاتب رسائله. ولما أعلن القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية في سنة 426 هـ (1035 م) ظهور هشام المؤيد ودعا لخلافته، كان عبد العزيز المنصور في مقدمة الأمراء الذين بايعوه، واعترفوا بخلافته (¬2). وكانت تطورات الحوادث في مملكة ألمرية، أهم ميدان لجهود عبد العزيز السياسية والعسكرية. ونحن نعرف أن مملكة ألمرية، كانت وقت أن ظفر عبد العزيز برياسة بلنسية، تحت حكم الفتى خيران العامري، وهو في نفس الوقت صاحب مرسية وأوريولة، فلما توفي خيران في سنة 419 هـ، خلفه في رياسة مملكة ألمرية، نائبه وزميله الفتى زهير العامري، وقد كان مثل خيران من أكابر الفتيان العامريين، وأكثرهم إقداماً وعزماً. ونحن نعرف كيف ¬_______ (¬1) راجع في هذه الحوادث: ابن خلدون ج 4 ص 162، وأعمال الأعلام ص 193 و194. وكذلك: Gaspar Remiro: Murcia Musulmana, p. 97 & 98 (¬2) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 49 ب، وأعمال الأعلام ص 195، والبيان المغرب ج 3 ص 164 و 165.

حدثت زهير نفسه بالسير إلى غرناطة لافتتاحها، وكيف لقى مصرعه في المعركة التي نشبت بينه وبين باديس بن حبوس صاحب غرناطة، وذلك في سنة 429 هـ (1038 م). وهنا لاحت لعبد العزيز المنصور، الفرصة السانحة لتوسيع مملكته, وكتب إليه أهل ألمرية يدعونه لرياستهم، وبعث وزيره وصهره زوج أخته معن بن صمادح إلى باديس يحثه على إعدام الأسرى من وزراء زهير وقواده وفي مقدمتهم كاتبه أحمد بن عباس، خشية أن يعود أحد منهم إلى مناوأته في حكم ألمرية، فكان له ما أراد، وخلصت له ألمرية أولا لمبايعة أهلها له، وثانياً لأنها باعتبارها من أملاك الفتيان العامريين موالي أبيه وجده، تعتبر له ميراثاً شرعياً. وهكذا استولى عبد العزيز على ألمرية وأعمالها، ما عدا ولاية جيان التي انتزعها باديس لنفسه عقب مصرع زهير. وغدت مملكة بلنسية بإضافة ألمرية إليها من أعظم ممالك الطوائف. وهنا شعر مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية، بخطر هذه المملكة القوية الجديدة على سلطانه، فنهض لمهاجمتها ومحاربتها، وزحف عليها بقواته، واجتاح رقعتها الوسطى من شاطبة إلى لورقة، وثارت حصون شاطبة ولورقة وشوذر على عبد العزيز. وكان عبد العزيز عندئذ في ألمرية ينظم شئونها مع وزيره معن ابن صمادح، فبادر بمغادرة ألمرية للدفاع عن أرضه، وندب وزيره معناً ليسهر على شئون ألمرية، فكان أن خان ابن صمادح عهد أميره، وانتزع لنفسه رياسة ألمرية حسبما فصلناه في أخباره. وخرج عبد العزيز من ألمرية في سنة 433 هـ (1041 م) لملاقاة خصومه، وزحف تواً على شاطبة، فخرج إليه العبيد العامريون، وهزموه في أول موقعة نشبت بينهما، ولكنه جمع فلوله وعاد فكرّ عليهم، وظفر بهم، وقتل منهم جملة كبيرة ودخل شاطبة (¬1). وكانت مدينة مرسية تابعة حسبما تقدم لمملكة بلنسية، وكان عليها من قبل زهير، نائبه أبو بكر أحمد بن إسحاق بن طاهر، وكان حسبما تقدم رجلا وافر العلم والوجاهة والسراوة، فضبط المدينة وحكمها بحزم وبراعة، دون أن يتخذ ألقاباً أو يبدو في ثوب الإمارة، فأقره عبد العزيز على ولايته. وكان عبد العزيز على علائق طيبة مع ملوك اسبانيا النصرانية، ولاسيما ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 302، وراجع دوزي: Hist. V.III.p. 30

فرناندو الأول ملك قشتالة، وقد استعان عبد العزيز في محاربة خصمه مجاهد العامري ببعض سريات من المرتزقة النصارى. ولم تصب أراضي بلنسية في عهده بشىء من الغزوات المخربة، التي كانت تجتاح ولايات الأندلس الغربية والوسطى. وربما كان ذلك راجعاً من بعض النواحي إلى أرومته وقرابته عن طريق جدته، إلى الملوك النصارى (¬1). واستطالت إمارة عبد العزيز المنصور لبلنسية زهاء أربعين عاماً. ثم توفي في شهر ذي الحجة سنة 452 هـ (يناير 1061 م). فخلفه ولده عبد الملك بإجماع أهل الدولة، وبويع في بلنسية وشاطبة، واستقر في بلنسية، ولقب بنظام الدولة، وبالمظفر. وكان حدثاً يافعاً، فتولى تدبير الدولة، وزير أبيه أبو عبد الله محمد بن مروان بن عبد العزيز القرطبي المشهور بابن رويش، وكان رجلا وافر العلم والحنكة، فأحسن تدبير الأمور، واستقر على يديه النظام والأمن، بالرغم مما كانت تعانيه بلنسية من نقص في المواد والرجال، وفساد في الأعمال. وكان يولى المأمون بن ذى النون صاحب طليطلة القوي مكانة خاصة، إذ كان صهر عبد الملك وحماه، وكان يبدي نحوه عطفاً واهتماماً بمعاونته والدفاع عنه، وكان عقب وفاة عبد العزيز، قد سار في بعض قواته إلى قلعة قونقة القريبة من بلنسية، ليكون قريباً من صهره، ثم أوفد إلى بلنسية أحد قواده في جماعة قوية من الجند، وكاتبه ابن مثنى، ليكونوا إلى جانب عبد الملك، بحجة معاونته وشد أزره، والمحافظة على السكينة والنظام (¬2). بيد أن المأمون كان يضمر نحو صهره ونحو بلنسية نيات أخرى، وكان يُسر له بالأخص أنه يسىء معاملة ابنته، ويبالغ في إهانتها وإيلامها، وكان عبد الملك حسبما يخبرنا ابن حيان " منهمكاً في الشراب، غارباً عن الخصال المحمودة مع رقة الديانة ونقص المروءة، وكثرة الاستمهال، والانحطاط في مهاوي اللذات " (¬3) ثم كان يُسر له أيضاً أنه يأوي في بلنسية بعض خصومه من السياسيين الفارين من طليطلة، وأخيراً فقد طلب المأمون إلى صهره أن يعاونه بجنده في حملته ضد ابن عباد، فأبى عليه ذلك وفقاً لنصح وزيره، واعتذر بأنه يخشى عدوان أمير ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 195. (¬2) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 49 ب، والبيان المغرب ج 3 ص 165 و 166. (¬3) البيان المغرب ج 3 ص 303.

دانية ومن يحالفه من الفتيان أصحاب المدن القريبة. كل ذلك حمل المأمون على أن يضع مشروعه للاستيلاء على بلنسية. وقد سبق أن ذكرنا في أخبار مملكة طليطلة، خلاصة الروايتين المتعلقتين باستيلاء المأمون على بلنسية، وأولاهما أن المأمون سار إلى بلنسية في بعض قواته بحجة زيارة صهره، وأنه خلال إقامته بالقصر، دبر كميناً لصهره، وقبض عليه، وأرسله إلى شنتبرية، وسيطر بذلك على بلنسية. والثانية أنه زحف على بلنسية بمعاونة الجند القشتاليين، ودهم المدينة وهي في غفلة، فاقتحمها، وأسر صهره عبد الملك وآله، وهم بقتله لولا أن شفعت فيه زوجته ابنة المأمون. فبعث به إلى إحدى قلاعه في قونقة، أو إقليش، واعتقله هناك (¬1). ونود أن نعرض الوقائع مفصلة وعلى ضوء الروايات القشتالية التي تقدمها إلينا بصورة أخرى. ذلك أن فرناندو الأول ملك قشتالة خرج بقواته في أوائل سنة 1065 م، (457 هـ) متجهة صوب أراضي مملكة سرقسطة لمعاقبة أميرها المقتدر بن هود، لتخلفه عن دفع الجزية التي كان متعهداً بأدائها، ولأنه من جهة أخرى قد وقع الاعتداء على النصارى في سرقسطة وغيرها من بلاد مملكته، وقتلت منهم جموع غفيرة، وعاث فرناندو في أراضي مملكة سرقسطة الجنوبية، وخربها بشدة وأحرق المزارع والقرى، واجتاح على هذا النحو سائر الرقاع والوديان الواقعة خارج الحصون والقلاع المسورة، وأشرف في غزوته المخربة على ظاهر بلنسية في الربيع، وضرب القشتاليون الحصار حول المدينة، وروع البلنسيون، وروع ملكهم الضعيف عبد الملك داخل الأسوار، وتأهبوا للدفاع عن مدينتهم. ولما رأى القشتاليون مناعة الأسوار، وأهبة أهل المدينة لجأوا إلى الحيلة، فتركوا الحصار، وتظاهروا بالارتداد نحو الشمال إلى بلدة تسمى "بطرنة"، واعتقد أهل بلنسية أن القشتاليين قد ارتدوا عن مدينتهم خائبين، فخرجوا وعلى رأسهم أميرهم عبد الملك، لمطاردة الفارين في ثياب فخمة وكأنهم في عيد، وعندئذ فاجأهم القشتاليون وهاجموهم بشدة، وأمعنوا فيهم قتلا وأسراً، فارتدوا إلى مدينتهم والقتل يعمل فيهم، واستطاع عبد الملك أن ينجو بحياته، وعاد القشتاليون إلى محاصرة المدينة. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 226 و 267 و 303.

وفي تلك الأثناء كان المأمون بن ذى النون قد هرع بقواته لإنجاد صهره والدفاع عن المدينة المحصورة، وذلك بالرغم من أنه كان مقراً بسيادة فرناندو، ويؤدي له الجزية، وكان فرناندو قد شعر وهو تحت أسوار المدينة بالمرض يدهمه، فآثر الارتداد بقواته إلى ليون. وهناك توفي بعد قليل في ديسمبر سنة 1065 م. وهنا رأى المأمون بن ذى النون أن يحقق مشروعه القديم في الاستيلاء على بلنسية. وكان يدفعه إلى ذلك أسباب عديدة سبق أن أشرنا إليها، فدخلها فاتحاً لا منقذاً، وعزل صهره عبد الملك، ثم قبض عليه وعلى ولده، ونفاهما إلى قلعة إقليش أو قونقة. وفي رواية أنه أشفق عليه، وعينه والياً لقصبة شلبة الواقعة شمال غرب بلنسية، وضمت بلنسية وأعمالها بذلك إلى مملكة طليطلة، وكان ذلك في ْشهر ذي الحجة سنة 457 هـ (نوفمبر سنة 1065 م) (¬1). وعهد المأمون بتدبير شئون بلنسية إلى أبي بكر محمد بن عبد العزيز (ابن رويش) وكان ابن عبد العزيز قد توفي قبل هذه الحوادث بقليل في أوائل سنة 456 هـ. ويقول لنا عنه معاصره المؤرخ ابن حيان " إنه كان على خمول أهله في الجماعة من أرجح كبار الكتاب الطالعين في رمس هذه الفتنة المدلهمة، وذوي السداد من وزراء ملوكنا، ذا حنكة ومعرفة وارتياض وتجربة وهدى وقوام سيرة، إلى ثرى وصيانة ". وفي بعض الروايات أن هذا الوزير النابه توفي منتحراً لما توقعه من سوء العواقب. فخلفه في الوزارة ولده أبو بكر بن عبد العزيز، ولم يمكث في منصبه طويلا حتى سقطت بلنسية في يد المأمون، ويقال إنه غدر بأميره عبد الملك، وعاون المأمون في أخذها، فكافأه المأمون عن خيانته بأن عينه نائباً عنه في حكم ْالمدينة. وكان أبو بكر مثل أبيه عالماً حازماً. فضبط بلنسية، وسار في حكمها سيرة حسنة، واتبع الرفق والعدل، وأجزل العطاء للعمال والجند. وشغل عنه المأمون بمغامراته في سبيل فتح قرطبة، وانتزاعها من يد بني عباد المتغلبين عليها. واستمر في محاولاته حتى انتهى أخيراً إلى تحقيق مشروعه في الاستيلاء على عاصمة ¬_______ (¬1) راجع في تفصيل هذه الحوادث Modesto Lafuente: Historia general de Espana (Madrid, 1861) V.II.p. 390 و A.P.Ibars: Valencia Arabe, V.I.p. 178-180 و R.M.Pidal: La Espana del Cid V.I.p. 151 وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas, p. 41

الخلافة القديمة، ودخلها ظافراً وذلك في سنة 467 هـ (1075 م). بيد أنه لم يلبث أن مرض وتوفي بعد ذلك بأشهر قلائل في أواخر ذي القعدة من نفس هذا العام. وانتهز أبو بكر بن عبد العزيز هذه الفرصة، فأعلن استقلاله بحكم بلنسية، وأصلح أسوارها، ودانت له المدينة بالطاعة، واستمر في حكمها دون منازع. ولما غزا المقتدر بن هود صاحب سرقسطة والثغر الأعلى مدينة دانية، واستولى عليها من صاحبها على إقبال الدولة بن مجاهد العامري في سنة 468 هـ (1076 م)، توجس أبو بكر من سطوته وطمعه في بلنسية، فخاطب ألفونسو السادس وانضوى تحت حمايته، وتعهد له بأداء الجزية. وكان المؤتمن ولد المقتدر يتطلع بالفعل إلى امتلاك بلنسية، يدفعه إلى ذلك صحبه ومستشاروه، وذلك لأهمية موقعها ووفور غلاتها، فخاطب بدوره ملك قشتالة، ودفع إليه مائة ألف دينار ليعاونه على فتحها، وزحف فرناندو بالفعل على بلنسية، فخرج إليه أبو بكر بنفسه، وخاطبه برقة ولباقة، وأقنعه بعقم محاولته، فانصرف عنه، ووعده بحمايته وفشلت محاولة المؤتمن. وكان ملك قشتالة يقدر أبا بكر ويعجب بخلاله، وكان يقول في مختلف المناسبات، رجال الأندلس ثلاثة: أبو بكر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن عمار، وششنانده (¬1). وعندئذ رأى أبو بكر أن يلتمس حماية المؤتمن نفسه، ففاوضه، وقدم إليه ابنته عروساً لابنه أحمد المستعين. فوافقه المؤتمن، ورأى من جانبه أن هذه المصاهرة قد تكون سبيلا لضم المملكتين سرقسطة وبلنسية في مملكة قوية موحدة. واحتفل بعقد هذا الزواج بسرقسطة في حفلات شائقة كانت مضرب الأمثال في البذخ والبهاء (رمضان 477 هـ - فبراير 1085 م). ولم يعش أبو بكر طويلا بعد ذلك، إذ توفي في السابع من صفر سنة 478 هـ (يونيه 1085 م) بعد أن حكم عشرة أعوام (¬2). ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - لوحة 9 أوب. (¬2) راجع البيان المغرب ج 3 ص 303 و 304. وقد وهم ابن عذارى في حقيقة شخصية أبى بكر بن عبد العزيز، فذكر أنه أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن المنصور بن أبي عامر، ونسبه بذلك إلى بني عامر، وهو خطأ واضح. وراجع في هذه الحوادث: R.M.Pidal ; ibid ; V.I.p. 310 وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas p.57 و A.P.Ibars: Valencia Arabe; p. 187 & 188

- 3 - فخلفه في حكم بلنسية وأعمالها ولده أبو عمرو عثمان بن أبي بكر. وبويع في التاسع من صفر، لأيام قلائل فقط من سقوط مدينة طليطلة، في يد القشتاليين في فاتحة صفر 478 هـ. وكان هذا الحادث الجلل الذي هز الأندلس من أقصاها إلى أقصاها نذير تطورات خطيرة في شرقي الأندلس، وفي مصاير مملكة بلنسية بوجه خاص. وقد كان ألفونسو السادس، حينما استولى على طليطلة من يد صاحبها القادر بن ذى النون، حفيد المأمون، قد تعهد له أو وعده، ضمن عهوده لقاء الاستيلاء على المدينة، أن يمكنه من استرداد بلنسية التي خرجت عن طاعته، بل قيل إنه وعده بمعاونته، على افتتاح دانية وشنتمرية الشرق، إذ كان يعلم أنه بتمكين القادر من الاستيلاء على هذه المدن، فإنها تغدو في الواقع تحت حمايته، ويغدو شرقي الأندلس كله، واقعاً تحت سيادته، عن طريق القادر. وخرج القادر في آله. وصحبه ومتاعه قاصداً إلى بلنسية، وصدته خلال الطريق سائر القلاع القديمة، التي كانت تحت حكمه وأغلقت أبوابها دونه، ما عدا قلعة قونقة (كونكة)، فقد لبثت على طاعته، ورحب به صاحبها ابن الفرج، وأكرم منزله. ورأى القادر أولا أن يسير غور الأحوال في بلنسية، فبعث إليها ابن الفرج ليداخل صاحبها عثمان ابن عبد العزيز، وحاول ابن الفرج أن يروج لقضية سيده، وهو حاكم المدينة الشرعي، فكثر الجدل وافترق الرأي، ورأى فريق من الشعب أن تنضوي بلنسية تحت حماية المستعين بن هود، وانحاز فريق آخر إلى القادر، وسرت الفوضى إلى المدينة. وفي خلال ذلك عاد ابن الفرج إلى قونقة، ودعا القادر إلى السير إلى بلنسية، لانتهاز الفرصة السانحة، فسار القادر إلى المدينة ومعه سرية قوية من الجند النصارى مده بها ألفونسو السادس، تحت إمرة قائده ألبار هانيس الذي تسميه الرواية الإسلامية ألبرهانس. ولما وصل القادر في ركبه إلى المدينة، بعث إلى أهلها رسوله برسالة، يتودد فيها إليهم، ويقدم إليهم أطيب الوعود، فاجتمع أهل المدينة، وتشاوروا في الأمر. ورأى " الجماعة " قبول مطالب القادر، باعتباره صاحب الولاية الشرعية من قبل، واستبعاد مطالب ابن هود، وإن كان ابن هود لم ينقطع عن المجاهرة بها، والترويج لها، وخشية من أن تتعرض المدينة لهجوم القشتاليين، أعلنت " الجماعة " خلع عثمان بن

عبد العزيز، وكان قد قضى في منصبه تسعة أشهر فقط، وبعثت إلى القادر توافق على مقدمه وتسلمه المدينة. فسار القادر في موكبه إلى بلنسية، ودخلها في مظاهر حافلة، وتسلم القصر من القاضي ابن لبون، ونزل فرسانه في بيوت المدينة، ونزل ألبارهانيس وجنده القشتاليون في ضاحية الرُّصافة على مقربة منها، وكان ذلك في شوال سنة 478 هـ (فبراير 1086 م) (¬1). وهكذا استولى يحيى القادر على بلنسية، وقامت دولة بني النون، مرة أخرى في شرقي الأندلس، بعد أن درست في طليطلة، وقامت على يد ملكها الشريد الخانع - القادر - في مثل الظروف التي كانت عليها في أواخر أيامها بطليطلة، دولة ضعيفة تابعة، تدين بوجودها لملك قشتالة، ولحراب الجند النصارى. وما لبث القادر أن أبدى صولة الضعيف إذا تحكم، ففرض على المدينة حكم طغيان شامل، وتولى القاضي ابن لبون حجابته، وغدا يده اليمنى، وتقرب إليه الأعيان والقضاة بالأموال والهدايا. وثقلت وطأة القشتاليين على المدينة في نفس الوقت، وأرهقوها بمؤنهم ومغارمهم، وفرضت لذلك ضريبة خاصة على سائر الناس، وعاث النصارى في المدينة وضواحيها، فاشتد السخط على القادر، وعلى شيعته القشتاليين، واضطرب حبل النظام والأمن. ومع ذلك فقد مضى القادر في عسفه وطغيانه، فمال على الأعيان والأكابر، يطاردهم بطلب المال سداداً لمطالب القشتاليين، وقبض على بعضهم من أجل ذلك، واعتقل ولدى ابن عبد العزيز وغيرهم، وحشد حوله كثيراً من أوباش الجند المرتزقة يعيثون في المدينة، ويعتدون على الأموال والأنفس، وغدت السيادة الحقيقية على المدينة لألبارهانيس وجنده، وغادر كثير من الأعيان والأكابر، بلنسية فراراً من هذا الطغيان المرهق (¬2). وفي خلال ذلك كانت تجري في جنوب الجزيرة حوادث هامة، فقد عبر المرابطون بقيادة عاهلهم يوسف بن تاشفين إلى الأندلس في ربيع الآخر سنة 479 هـ ْ (أغسطس 1086 م) غياثاً لأمرائها، وللإسلام، وأخذ ملك قشتالة يجمع الجند من كل ناحية، لرد هذا السيل المنهمر، وغادر ألبارهانيس وجنده بلنسية ¬_______ (¬1) الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط لوحة 18 ب. وراجع R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 306 & 310-312. وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas, p. 57 (¬2) R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 313-316

ليخوضوا المعركة إلى جانبه، وكان أن كتب النصر الباهر لجيوش الإسلام على جيوش النصرانية في موقعة الزلاّقة وذلك في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر 1086 م). وتنفس أهل بلنسية الصعداء لرحيل القشتاليين، وانتعشت نفوسهم لانتصار المسلمين، وتحطيم قوى ملك قشتالة، وبادر القادر من جانبه، فبعث إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، يلتمس صداقته ومحالفته، أسوة بباقي أمراء الأندلس. بيد أن هذه المحالفة النظرية، لم تفده بشىء لأن أمير المسلمين، كان ما يزال في شغل شاغل عن الالتفات إلى شئون شرقي الأندلس. وسرى الاضطراب إلى بلنسية، وبدأ حكام الحصون المختلفة، في التحرك والعصيان، وشعر القادر أنه عاجز عن أن يملك زمام الموقف، وأن الأمور سوف تنتهي به إلى أسوأ العواقب، إذا تركت بلنسية إلى مصيرها، وقد كانت بلنسية في الواقع في هذه الحالة التي افتقدت فيها كل زعامة قوية، وكل إدارة حازمة، تضطرم حولها الأطماع من كل صوب. ذلك أن المنذر بن هود صاحب لاردة وطرطوشة، كان يرقب فرص الاستيلاء على بلنسية، وخصوصاً منذ استطاع أبوه أن يتغلب على مملكة دانية، وأن يضمها إلى أراضيه وذلك في سنة 469 هـ (1076 م)، وبذلك امتدت مملكته من لاردة شمالا حتى دانية وأعمالها جنوباً، وكانت بلنسية بذلك تشطر مملكته إلى شطرين، وتحول دون وحدة أراضيها. فلما رأى المنذر اضطراب الأحوال في بلنسية، شعر أن الفرصة المنشودة قد سنحت، فسار في قواته صوب بلنسية، ومعه سرية من المرتزقة القطلان، وضرب الحصار حول المدينة (1088 م)، وكان يؤازره في داخلها كثير من الأنصار، كانوا يؤيدون قضيته، ويودون أن تسلم إليه. وهنا استولى الاضطراب والذعر على القادر، وفكر بالفعل في تسليم المدينة، لولا أن نصحه ابن طاهر صاحب مرسية السابق، وكان قد لجأ إلى بلنسية مذ غلب عليه ابن عمار وزير المعتمد، بالتريث وشجعه على الصمود والدفاع. وبعث القادر في نفس الوقت إلى ألفونسو ملك قشتالة يستغيث به، وبعث بنفس الصريخ إلى المستعين بن هود صاحب سرقسطة، وخصيم المنذر، وكان المستعين يتوق إلى افتتاح بلنسية، ويشعر دائماً بالأسف والألم لفشل محاولة

أبيه المؤتمن في هذا السبيل، وضياع الأموال الطائلة التي دفعها من أجل ذلك لملك قشتالة، وكان له بسبب مصاهرته لأبى بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية السابق، داخل المدينة حزب يناصره، ويود أن تنضم بلنسية إلى مملكة سرقسطة، فلما تلقى صريخ القادر، بادر بالإستجابة، وهرع إلى بلنسية في بعض قواته، فتظاهر بالسير إلى إنجادها، وهو يبطن نية الاستيلاء عليها (¬1). ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid ; V.I.p. 351

الفصل الثانى مملكة بلنسية

الفصل الثانِي مملكة بلنسية 2 - السيد إلكمبيادور وعهد السيادة القشتالية السيد إلكمبيادور. أصله ونشأته. بدء حياته الحربية. رسول ألفونسو السادس إلى ابن عباد. تغير ألفونسو عليه وإبعاده عن قشتالة. ملوك الطوائف واستعانتهم بالجند النصارى. مسير السيد إلى شمال شرقي الأندلس. التحاقه بخدمة المقتدر بن هود. وفاة المقتدر. الحرب الأهلية بين ولديه المؤتمن والمنذر. انضمام السيد إلى المؤتمن ونفوذه لديه. وفاة المؤتمن وقيام ولده المستعين. التحاق السيد بخدمته. حملة ابن بسام على بني هود. مسير المستعين والسيد إلى بلنسية. يعقدان ميثاقاً بشأنها. مقدمهما في قواتهما إلى بلنسية. انسحاب المنذر بن هود عنها. موقف القادر بن ذى النون ومساعيه السرية. المستعين يكشف للسيد عن حقيقة مشروعه. موقف السيد ومطله. السيد يبدو على حقيقته. مخادعاته ومفاوضاته السرية. مسيره إلى قشتالة وتفاهمه مع ألفونسو. وقوف المستعين على غدر السيد ومقاطعته. تحالفه مع الكونت برنجير. عود السيد ونزوله بأراضي السهلة. يخضع ابن رزين لأداء الجزية. السيد يغدو قائد عصابة ناهبة. السيد والكونت برنجير. مسير السيد إلى بلنسية. إخضاعه لمربيطر ونزوله في الكدية. القادر يضع نفسه تحت حمايته ويمده بالأموال الوفيرة. قصة أموال القادر. خروج السيد إلى ألبونت وإرغامه صاحبها على أداء الجزية. فرضه الجزية على سائر النواحي المجاورة. صدى أعمال السيد في قشتالة. تغير ألفونسو عليه. تطور الأمور في الثغر الأعلى. توجس المستعين ابن هود من المرابطين. عوده إلى الاستعانة بالسيد. مقدم السيد إلى سرقسطة وتحالفه مع الملوك المجاورين. تعليق ابن بسام. مشروع ألفونسو السادس لغزو بلنسية وتحطيم نفوذ السيد. تحالفه مع جنوه وبيزه. مسيره إلى بلنسية. رسالة السيد إلى ألفونسو. حرج موقف ألفونسو وتركه لحصار بلنسية. عيث السيد في أراضي قشتالة. عود ألفونسو إلى مصانعته والعفو عنه. الاضطراب في بلنسية. القاضي ابن جحاف يتزعم الثورة ضد القادر والسيد. مفاوضة المرابطين. دخول قوة مرابطية بلنسية. ابن جحاف يقتحم القصر بجموعه. مقتل القادر واستيلاء ابن جحاف على ذخائره. اختيار ابن جحاف لحكم المدينة. استعداده للطوارىء. مسير السيد إلى بلنسية ومحاصرتها. المفاوضة بين ابن جحاف والسيد. شروط الإتفاق بينهما. نكث السيد وغدره. مطالبه المرهقة لابن جحاف والخلاف بينهما. ابن جحاف يغلق المدينة. استغاثته بالمرابطين وغيرهم. اشتداد السيد في محاصرة المدينة وعيثه في أحوازها. عصف الحصار بأهل بلنسية. المفاوضة بين أهل بلنسية والسيد. شروط الهدنة والتسليم. انتهاء الهدنة وتوقيع عهد التسليم. دخول السيد بلنسية. وعوده الخلابة. تسلمه أموال القادر من ابن جحاف. مطالبته له بباقيها واستحلافه عليها. حلف ابن جحاف بالنفي. اكتشاف السيد لمخبأ الأموال والحلي. قبضه على ابن جحاف وإحراقه. أقوال ابن بسام. إحراق بعض أعلام بلنسية. طغيان السيد وعسفه. شعر في محنة بلنسية. صدى سقوط بلنسية في الأندلس والمغرب. اعتزام

أمير المسلمين العمل لاستردادها. إرساله حملة إلى الأندلس. مسير المرابطين إلى بلنسية. الذعر بين النصارى في بلنسية. حصار المرابطين لها. مفاجأة السيد للمحاصرين. استغاثة السيد بملك أراجون وألفونسو السادس. المعارك بين السيد وبين المرابطين. غزو المرابطين لأراضي طليطلة وقونقة. مرض السيد ووفاته. زوجه خمينا تتولى الدفاع عن المدينة. استغاثتها بألفونسو. قدوم ألفونسو في قواته إلى بلنسية. اجتماع القوات المرابطية بقيادة المزدلي. توجس ألفونسو واعتزامه الانسحاب. مغادرة خمينا للمدينة ومعها أموال القادر. انسحاب ألفونسو وجنده. إحراقه للمدينة. دخول المرابطين بلنسية وانتهاء مغامرات النصارى. السيد وشخصيته. اختلاف الآراء في تصويره وتقديره. مبالغة الرواية القشتالية في تصوير بطولته. الأساطير القشتالية حولها. السيد في الشعر وفي الأغاني. حقيقة السيد. السيد جندي قدير. أوصاف ابن بسام للسيد. السيد مغامر لا ذمام له ولا مبدأ. نزعته المكيافيللية. السيد ليس بطلا قومياً. السيد والتفكير الغربي. رأي دوزي ورينان. رأي مننديث بيدال. السيد في الرواية العربية. تاريخ بلنسية لابن علقمة. لم يسر المستعين بن هود وحده إلى إنجاد بلنسية، بل كان معه جيش آخر، يسير أيضاً لإنجاد بلنسية في الظاهر، وكان على رأس هذا الجيش صديق المستعين وحليفه. وصديق أبيه المؤتمن، وجده المقتدر من قبل، الفارس القشتالي الأشهر، السيد إلكمبيادور. إن قصة السيد الكمبيادور تملأ فراغاً كبيراً في الروايات والتواريخ القشتالية، ونجد كذلك صداها في التواريخ العربية. وقد اقترنت سيرة السيد بالأخص بمغامراته في بلنسية، وافتتاحه إياها، وسيطرته عليها بضعة أعوام، ثم وفاته، مدافعاً عنها ضد المرابطين. فهذه الأحداث هي ألمع صفحة في تاريخ السيد، وهي التي اتخذت منها التواريخ القشتالية عناصر بطولته، بل هي التي رفعته في نظر التواريخ والأساطير القشتالية إلى مرتبة بطل اسبانيا القومي، ومن ثم فإنه يجدر بنا قبل أن نمضي في تسطير هذه الأحداث، أن نقول كلمة موجزة في نشأة السيد وحياته الأولى. إن السيد، هو فارس قشتالي، واسمه الأصلي رودريجو أو روي دياث دي بيبار، أما تلقبه " بالسيد" El Cid فهو تحريف لكلمة " السيد " العربية، وقد أطلقها عليه المسلمون الذين كان يخدم بينهم، ويحارب معهم، وأما وصفه بالكمبيادور، El Campeador، فمعناها المحارب الباسل، وقد أطلقت عليه لشجاعته وجرأته وشغفه بالقتال (¬1). وقد ولد " السيد " في مدينة ¬_______ (¬1) ويعرف السيد الكمبيادور في الرواية العربية "بالقنبيطور" (نفح الطيب ج 2 ص 577) ويسميه ابن بسام رذريق الكنبيطور، وهو أدق تعبير للاسم القشتالي، " رودريجو إلكمبيادور " =

برغش على ما يرجح في سنة 1043 م، وكان أبوه لايان كالفو قاضي قشتالة في عهد الملك فرويلا الثاني. ولا يعرف التاريخ شيئاً عن حياته الأولى، بل كل ما فيها يرجع إلى الأسطورة والقصة. وكان بدء ظهوره في ميدان الحوادث، عقب وفاة فرناندو الأول ملك قشتالة وليون في أواخر سنة 1065 م، ونشوب الخلاف بين أولاده، فقد انضم " السيد " يومئذ إلى ولده سانشو (شانجه) وسار مع قوات حليفه أحمد بن سليمان بن هود صاحب سرقسطة، لمحاربة راميرو ملك أرجوان، وقد هزم في جرادوس سنة 1068 م. ثم كان إلى جانب أخيه سانشو سنة 1071 م، حينما نشبت الحرب، بينه وبين أخيه ألفونسو ملك ليون، قد هزم سانشو في البداية، ولكنه عاد وجمع فلوله تحت جنح الظلام، ودهم أخاه بإرشاد " السيد " وهزمه وأسره. ولبث " السيد " يحارب إلى جانب سانشو ملك قشتالة، حتى قتل هذا الملك أمام أسوار سمورة في العام التالي (1072 م). فانتقل إلى خدمة أخيه ألفونسو. الذي تولى عرش قشتالة أيضاً بعد مصرع أخيه. ولما اشتد بأس ألفونسو على ملوك الطوائف، وأخذ يرهقهم بمطالبه في الجزية، كان رسوله إلى ابن عباد صاحب إشبيلية في سنة 1079 م هو " السيد " نفسه، وقد اشترك " السيد " يومئذ مع قوات ابن عباد، في معركة وقعت بينه وبين الأمير عبد الله صاحب غرناطة، وقد كان يغير على أراضيه مع سرية من الفرسان النصارى، فهزم عبد الله، وسر المعتمد لذلك، وأدى الجزية المطلوبة مع طائفة كبيرة من التحف والهدايا برسم ملك قشتالة (¬1). وقضى السيد في بلاط ملك قشتالة، عامين آخرين. ولكن الظاهر أن الدسائس كانت تعمل ضده حتى قيل إنه احتجز لنفسه الهدايا والتحف، التي تلقاها من المعتمد برسم مليكه. هذا إلى أن الملك ألفونسو لم ينس له قط وقوفه ضده إلى جانب أخيه سانشو، وانتصاره عليه، وقد كان يشعر من ذلك الحين ¬_______ = (الذخيرة القسم الثالث - المخطوط لوحة 19 أ). وكذا يسميه ابن الأبار بالكنبيطور (الحلة السيراء، دوزي ص 189، والقاهرة ج 2 ص 125)، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 203. ويقول لنا ابن عذارى إن كلمة "القنبيطور" معناها "صاحب الفحص" ج 3 ص 305. (¬1) R.M.Pidal: ibid, p. 256 & 261

بعاطفة من الحسد إزاء هذا الفارس المظفر، لازمته طول حياته (¬1)، ومن ثم فقد انتهى إلى إبعاد " السيد " عن بلاطه، وعن سائر أراضيه، وذلك في سنة 1081 م. وهنا يبدأ الفصل الروائي حقاً في حياة السيد إلكمبيادور، فيبدو مغامراً يبحث وراء طالعه، ويخرج على كل اعتبار ديني أو قومي، فيؤجر نفسه وصحبه، تارة للأمراء المسلمين وتارة للأمراء النصارى، ويندس إلى كل ثورة تنشب أو حرب تضطرم هنا وهنالك، ويطلب الغنم والسلطان، حيثما استطاع، وبأي الوسائل. وكانت ظروف اسبانيا المسلمة، يومئذ مما يفسح المجال لأطماع، جندي مغامر كالسيد. فهناك الحروب الأهلية المستمرة، وهناك الرغبة المستمرة في الاستعانة بالجند النصارى، وإغداق الأموال عليهم، وقد رأينا في أخبار دول الطوائف، وأخبار ملوكهم، ما يؤيد هذه الحقيقة المؤلمة كل التأييد. وكانت هذه الحروب الإنتحارية تجري يومئذ في سائر أنحاء الأندلس، وكانت في الوقت الذي خرج فيه السيد بعصابته من قشتالة تضطرم بنوع خاص في الإمارات الشمالية، التي استقر فيها بنو هود، فيما بين سرقسطة، وثغور الشاطىء، وفيما بينها وبين بلنسية. فإلى هذا الميدان المضطرم، هبط السيد وجنوده المرتزقة، والتحق أولا بخدمة المقتدر بن هود أمير سرقسطة، وكان المقتدر قد استعان على محاربة أخيه المظفر صاحب لاردة، بجنود من البشكنس والقطلان حتى هزمه أخيراً وأسره، فكان المظفر أسيراً وقت أن حل السيد ببلاط المقتدر. ثم توفي المقتدر بعد قليل سنة 474 هـ (1081 م) بعد أن قسم مملكته بين ولديه، فخص ولده المؤتمن بسرقسطة وأعمالها، وأخاه المنذر بدانية وطرطوشة ولاردة. ثم وقعت الحرب الأهلية بين الأخوين، فاستعان المنذر بسانشو راميرز ملك أراجون وكونت برشلونة، وحارب السيد إلى جانب المؤتمن، ولد حاميه والمحسن إليه، وانتهى الأمر بهزيمة المنذر، وعاد السيد إلى سرقسطة ظافراً، فاحتفى به أهلها أيما احتفاء، وبالغ المؤتمن في إكرامه وإثابته. وكان المؤتمن يعتز بصداقة السيد ومحالفته، ويعلي من شأنه ويأخذ بنصحه في معظم الأمور، ولا يرى في ذلك غضاضة وانحرافاً، وكان المنذر من جهة أخرى يبغض السيد أشد البغض، ويستعين في محاربته بالأمراء القطلان أصحاب برشلونة. ولما توفي ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid ; p. 261,580 & 590

المؤتمن في سنة 478 هـ (1085 م)، خلفه في سرقسطة وأعمالها ولده المستعين، والتحق السيد بخدمته أيضاً، واستمر على نفوذه ومكانته في المملكة. ويحمل ابن بسام على حماية بني هود للسيد، واستخدامهم إياه، وإعلائهم لشأنه في قوله: " وكان بنو هود قديماً هم الذين أخرجوه (أعني السيد) من الخمول، مستظهرين به على بغيهم الطويل، وسلطوه على أقطار الجزيرة، يضع قدمه على صفحات أنجادها، ويركز علمه في أفلاذ أكبادها، حتى غلظ أمره، وعم أقاصيها ودانيها شره " (¬1). ولسنا نعرف شيئاً عن أعمال السيد في خدمة المستعين في بضعة الأعوام التالية. بيد أننا نرى السيد والمستعين في سنة 1088 م، كلاهما يسير في قواته صوب بلنسية. وهناك رواية خلاصتها أن المستعين والسيد، حينما ورد صريخ القادر، عقدا ميثاقاً سرياً على غزو بلنسية وافتتاحها، نص فيه على أن تكون الأسلاب كلها من نصيب السيد ورجاله، وأن تكون المدينة ذاتها من نصيب المستعين (¬2). وهناك رواية أخرى، هي أن المستعين دعا السيد إلى مرافقته في جيشه لإغاثة بلنسية، دون أن يفضي إليه بنيته في الاستيلاء على المدينة، وقدم إليه أموالا جليلة لكي يحشد بها القوات اللازمة، وكان السيد في هذا الوقت بالذات يدعو الجند إلى رايته، للمحاربة مع المسلمين، وقد اجتمع له منهم، حسبما يخبرنا ابن علقمة مؤرخ مأساة بلنسية عدد كبير، وكانت قوة المستعين لا تعدو أربعمائة فارس، أما جيش السيد فكان يضم ثلاثة آلاف فارس، وهي قوة ضخمة وفقاً لمقاييس العصر. وهكذا أشرف المستعين والسيد في قواتهما على بلنسية، إجابة لصريخ مليكها وإنجاداً له في الظاهر، وكلاهما يضطرم في الواقع بنيات ومشاريع أخرى. وكان المنذر صاحب لاردة وطرطوشة، ما يزال مرابطاً بقواته حول المدينة، فلما علم بمقدم السيد، وابن أخيه المستعين، أدرك أنه لا طائل من الانتظار وعول على الانسحاب (¬3)، وبعث إلى القادر يعرض عليه صداقته ومحالفته، واستعداده ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - لوحة 18 ب. (¬2) وردت هذه الرواية في كتاب "الاستكفاء" لابن الكردبوس. ونقله دوزي في: Recherches ; V.Il. App.II. (¬3) رواية ابن الكردبوس السالفة الذكر.

لمعاونته ضد ملك سرقسطة، فأجابه القادر إلى عقد الحلف المنشود، ولكنه لما رأى المنذر بعد ذلك يبتعد بقواته عن بلنسية في طريق العودة إلى بلاده، أدرك أنه لا مفر من الالتجاء إلى القشتاليين، وأنهم هم وحدهم الذين يستطيعون إنجاده وإنقاذه. ودارت عندئذ سلسلة من المفاوضات والمواثيق السرية، بين أولئك الزعماء المخادعين المخاتلين، فبعث القادر إلى السيد خفية عندما اقترب من بلنسية، يرجوه عقد المودة والتحالف بينهما سراً، ودون علم المستعين، وبعث إليه في الوقت نفسه طائفة من الأموال والتحف الجليلة. ولما وصل السيد والمستعين إلى بلنسية، أفضى إليه المستعين بحقيقة نياته، وأنه إنما قدم إلى بلنسية لا لإنجادها ولكن لافتتاحها، وطلب إليه النصح والعون، ولكن السيد ماطل في مهاجمة المدينة بحجة أن القادر مستظل بحماية ألفونسو، وأن المدينة في الواقع هي من أملاك ألفونسو وقد أعطاها للقادر، فأية محاولة لافتتاحها تعتبر اعتداء على حقوق الملك ألفونسو نفسه، وأنه لابد قبل إجراء مثل هذه المحاولة، أن يأذن الملك ألفونسو نفسه بذلك، وأخيراً أنه لا يستطيع أن يقوم بعمل ضد مليكه وسيده الطبيعي، أعني ملك قشتالة. وهنا يبدو السيد على حقيقته، ويكشف عن خلاله الأصيلة، خلال مغامر لا ذمام له يبيع العدو والصديق معاً، وينتهز الفرصة بأي ثمن، فهو ينصح القادر سراً بألا يسلم المدينة لأحد، وهو يعد القادر والمستعين كل بمعزل عن الآخر أنه سوف يعاونه على تحقيق بغيته في الوقت الملائم، ويؤكد للمستعين أنه على أهبة لأن يساعده على أخذ بلنسية، إذا حصل على موافقة الملك ألفونسو، ثم يعتزم السيد أن يقطع علائقه القديمة مع صديقه وحاميه المستعين، ويبعث سراً إلى عمه وخصيمه المنذر بن هود، يعقد معه اتفاقاً بالصداقة والتحالف، وأخيراً يبعث السيد إلى ألفونسو ملك قشتالة، يؤكد له أنه فيما يعمله ويغنمه، إنما هو تابع له، وأن أولئك الفرسان الذين يقودهم في أراضي المسلمين، دون أية نفقة من الملك - إنما هم تحت تصرف الملك، ينزلون ضرباتهم " بالكفرة "، وفي وسعهم أن يحصلوا على شرقي الأندلس بسهولة. وقد وافق ألفونسو على

رسالة السيد، وأذن له أن يجول بفرسانه حيث شاء في أراضي المسلمين (¬1). ولم يكتف السيد بذلك، بل رأى بعد أن قام بعدة غارات ناهبة في الأنحاء القريبة، ودرس طبيعتها وأحوالها، أن يذهب بنفسه إلى الملك ألفونسو، ليعقد معه الإتفاق اللازم لإخضاع هذه المناطق، فسار إلى قشتالة، واستطاع أن يحصل من الملك ألفونسو على وثيقة الموافقة، وفيها يصرح للسيد ويؤكد، بأن كل الأراضي والحصون التي يستطيع السيد أن ينتزعها من المسلمين، تغدو ملكاً خاصاً له، ثم لأولاده وبناته وسائر عقبه من بعده، ميراثاً شرعياً. وأدرك المستعين خلال ذلك، مدى نفاق السيد وغدره، وانحرافه إلى العمل لصالحه وصالح قشتالة، فقطع علائقه معه، واتجه إلى محالفة برنجير كونت برشلونة، وكان من ألد أعداء السيد، وعقدت بينهما، أواصر التحالف، وقدم المستعين إلى الكونت أموالا جزيلة، وبعثه إلى محاصرة بلنسية. ولكن القادر اعتزم أن يصمد لهذا الحصار الجديد، حتى يعود السيد من قشتالة. وأخيراً عاد السيد من قشتالة ومعه سبعة آلاف مقاتل، ونزل بجيشه في أراضي السهلة، التابعة لابن رزين صاحب شنتمرية الشرق (مايو 1089 م) فخرج إليه ابن رزين، وتعهد من جديد بأداء الجزية لملك قشتالة، وكان يؤديها قبل موقعة الزلاّقة، واتفق على أن تكون الجزية عشرة آلاف دينار في العام، فقبل السيد عهده، وغادر أراضي السهلة وسار بجيشه صوب بلنسية. وغدا السيد عندئذ قائد جيش خطير من المرتزقة، أو بالحري رئيس عصابة ناهبة، تجوب أنحاء الولايات الشرقية طلباً للغنيمة والسلب، وهابه سائر الأمراء والحكام في تلك النواحي، وأخذوا جميعاً يرقبون الفرص لمقاومته وسحقه. وكان أشدهم نشاطاً في ذلك خصمه القديم الكونت برنجير أمير برشلونة، وكان الكونت يحاصر بلنسية بقواته منذ حين، والظاهر أنه حين اقترب السيد بقواته من بلنسية، وقعت بينه وبين الكونت معركة هزم فيها الكونت، وأسر مع نفر من بطانته، ولم يطلقهم السيد إلا لقاء فدية كبيرة، ثم انتهى الأمر بينهما إلى التفاهم، ورفع الكونت الحصار عن بلنسية، وعاد بجيشه شمالا إلى برشلونة. ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid, p. 352-354. وقد نقل الأستاذ بيدال هذه الفقرة الأخيرة المتعلقة برسالة السيد إلى الملك ألفونسو، من أقوال ابن علقمة صاحب تاريخ بلنسية المفقود، الذي نقلت منه شذور كثيرة في التواريخ القشتالية.

وكان السيد قد عسكر بقواته أولا تجاه مربيطر شمالي بلنسية، ثم سار بعد ذلك جنوباً إلى بلنسية، وأخضع في طريقه مربيطر، وأرغم صاحبها - ابن لبُّون - على أن يؤدي له جزية سنوية قدرها ثمانية آلاف دينار. ونزل أخيراً بجنده في " الكُدية " ضاحية بلنسية الشمالية التي يفصلها عن المدينة نهر " طوريا "، ففي الحال بعث إليه القادر بالأموال والتحف، وأبلغه أنه يضع نفسه تحت حمايته، ويؤدي له الجزية، واتفق على أن يدفع له في كل أسبوع ألف دينار، على أن يقوم بحمايته من سائر أعدائه. وقيل إن الجزية التي ارتضى القادر أن يؤديها للسيد مقابل حمايته بلغت مائة ألف دينار في العام، وهو مبلغ طائل في هذا العصر (¬1). وهنا يسوغ لنا أن نتساءل عن مصدر هذه الأموال الوفيرة التي كان يغدقها القادر في كل مناسبة على السيد وغيره، ممن كان يستصرخهم لحمايته. والجواب عن ذلك أن القادر ورث عن جده المأمون صاحب طليطلة أموالا طائلة، وطائفة عظيمة من الحلي والجواهر والتحف. وكان ألفونسو ملك قشتالة حينما عاونه القادر على استرداد عرشه في طليطلة، عندما أقصته الثورة عنه، يرهق القادر بمطالبه المالية المتوالية، لما كان يعلمه من غناه الطائل، وكانت سياسة ألفونسو ترمي إلى استصفاء أموال ملوك الطوائف بطريقة إرغامهم على دفع الجزية، وغيرها من أنواع الإبتزاز السياسي والعسكري، وقد رأيناهم جميعاً يسارعون إلى الأداء، ويجمع ملك قشتالة منهم الأموال الوفيرة. وكان القادر من أكثرهم ثراء واقتداراً. وكان يخفي أموالا طائلة حملها معه حينما سار منفياً إلى بلنسية، بعد أن فقد ملكه في طليطلة، وهناك أخفاها بمنتهى الحيطة والحذر، وقد أثارت هذه الأموال الدفينة فيما بعد شره السيد، واستطاع أن يحصل عليها عقب دخوله بلنسية حسبما نفصل بعد. وخرج السيد من مقره في " الكدية " إلى جبال ألبونت القريبة، حيث كان يحكم عبد الله بن قاسم، وعاث في أراضيه، وأرغمه على أن يدفع له جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دينار، ثم عاد جنوباً وعسكر في بلدة "ركّانة" الواقعة غربي بلنسية. وهكذا أخضع السيد لصولته سائر إمارات هذه المنطقة: ¬_______ (¬1) هذا ما ذكره ابن الكردبوس في روايته السالفة الذكر: Recherches; V.II.App, II.

بلنسية ومربيطر، وألبونت وشنتمرية الشرق، وفرض عليها جميعاً الإتاوات الفادحة، واستقر بقواته على مقربة منها تتردد بعوثه في أراضيها، وتشعرها بصفة مستمرة أنها رهينة سلطانه ورحمته. في ذلك الحين تطورت الأمور في قشتالة، وكان لهذا النجاح الضخم الذي أحرزه السيد على هذا النحو في شرقي الأندلس صداه السيىء في نفس الملك " الإمبراطور " ألفونسو السادس (¬1)، وكان السيد قد تخلف عن معاونة ألفونسو في معركة حصن لييط " أليدو " التي نشبت بينه وبين المرابطين سنة 481 هـ (1088 م)، وانتهز خصوم السيد في البلاط هذه الفرصة، فأثاروا نفس الملك عليه، وصوروا له تصرفه بالعقوق والخيانة، وأوعزوا إليه بمعاقبته. وفعلا أمر الملك بإخلاء سائر الحصون والدور الخاصة بالسيد، وبالقبض على زوجه وأولاده الصغار، وذلك لأن القانون القديم كان ينص على تضامن الأسرة في الأمور الجنائية، ولا يسمح بذرة من التهاون أو الرأفة في تهمة الخيانة (¬2). وتطورت الأمور أيضاً في الثغر الأعلى، وشعر المستعين بن هود ملك سرقسطة بأن المرابطين بعد استيلائهم على مرسية وحصن لييط، أضحوا على مقربة منه، وأضحوا يهددون سلامته وملكه، فعندئذ استغاث بالسيد مرة أخرى، وعقد معه صلحاً وحلفاً جديداً. وسار السيد في جيشه إلى سرقسطة، وعسكر على مقربة منها على ضفة النهر الأخرى، وهنالك عقد محالفة مع ملك أراجون وأخرى مع ملك نافار، وكان الغرض من هذه الأحلاف جميعاً هو التعاون على دفع خطر المرابطين الداهم، وإنقاذ شرقي الأندلس من سلطانهم. ولبث السيد حيناً في سرقسطة ينظم شئونها وخططها الدفاعية. وهذا ما يشير إليه ابن بسام في الذخيرة بقوله المسجع: " ولما أحس أحمد بن يوسف بن هود المنتزي إلى وقتنا هذا على ثغر سرقسطة، بعساكر أمير المسلمين تنسل من كل حدب، وتطلع على أطرافه من كل مرقب، آسد كلباً من أكلب الجلالقة، يسمى بلذريق ويدعى بالكنبيطور، وكان عقالا، وداء عضالا له في الجزيرة وقائع، وعلى طوائفها بضروب المكاره إطلاعات ومطالع " (¬3). ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid, p. 360 (¬2) R.M.Pidal: ibid, p. 367 & 368 (¬3) الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط، لوحة 8 ب و 9 أ. وراجع: R.M.Pidal: ibid ; p. 415 & 416

ولم يجد ألفونسو ملك قشتالة لمعاقبة السيد، على مطله وغدره وخيانته، وتحطيم نفوذه البالغ، الذي أخذ يزعجه ويثير حفيظته، خيراً من أن يفتتح بلنسية، التي كان السيد في الواقع سيدها الحقيقي، وكانت أمنع معقل لسيادته ونفوذه، وأخصب مصدر لموارده، فعقد حلفاً مع جمهوريتي جنوه وبيزه، لكي يعاونانه بأساطيلهما من البحر على أخذها، ثم سار في قواته إلى بلنسية، وعسكر في جُبالة أو "كبولا" من ضواحيها، وطلب من أصحاب القواعد والحصون المجاورة أن يؤدوا إليه الجزية التي كانوا يدفعونها للسيد، وبعث إلى القادر بأن يحجز الجزية وسائر الإيرادات التي كان يتلقاها السيد. فلما علم السيد بذلك وهو في ظاهر سرقسطة، وبأن ملك قشتالة جاء لينزعه نفس المنطقة التي أعطاه إياها، اعتزم أن يقابل القوة بالقوة، وبعث إلى ألفونسو يعرب له عن دهشته واستنكاره وعن ثقته بالله، وينذره بأنه لن يصبر على تلك الإهانة بل سينتقم لها، وبأنه سوف يرى كيف أسىء نصحه وتوجيهه (¬1). والواقع أنه لم يمض قليل على ذلك حتى شعر ألفونسو بحرج موقفه. وذلك ْأن السفن الجنوية والبيزية لم تأت حسبما تقرر، وقد قلت المؤن في معسكره، وأخذ يعاني الصعاب، فعندئذ أمر برفع الحصار، وغادر بلنسية لدهشة قواده وصحبه، وارتد راجعاً إلى قشتالة. وما كاد يبتعد عنها حتى أشرفت السفن الحليفة وكانت نحو أربعمائة. بيد أنها لم تستطع أن تعمل شيئاً. فغادرت بلنسية وسارت إلى طرطوشة، ولكنها استطاعت أن تصمد لها. وفضلا عن ذلك فقد أراد السيد أن ينتقم من الملك ومستشاريه، فسار نحو قلهرّة ولوجرنيو، وضرب الأراضي التابعة لرجال البلاط من خصومه، وعاث في أحواز قشتالة، واجتاح منها منطقة شاسعة، وأمعن فيها قتلا وتخريباً (¬2). فعندئذ رأى ألفونسو أن يعود إلى سياسة اللين، وأصدر عفوه عن السيد، وكتب إليه بذلك، وبأنه قد رفع الحظر عن أملاكه، وسمح له بأن يعود إلى قشتالة متى شاء، فكتب إليه السيد يشكره ويرجوه ألا يصغى لنصحاء السوء. وكان ذلك في أوائل سنة 1092 م (485 هـ). * * * ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid, p. 418 (¬2) رواية ابن الكردبوس السالفة الذكر في: Recherches; V.II.App.II

ْوفي ذلك الحين اشتد الاضطراب في بلنسية، واعتزم البلنسيون أن يحطموا ذلك النير المرهق الذي فرضه السيد على المدينة. وكان قاضي المدينة أبو أحمد جعفر بن عبد الله بن جحّاف المعافري، يتزعم أقوى الأحزاب في المدينة، وهو الحزب المناوىء للسيد والقشتاليين بوجه عام، ويناهض الحزب " الإسباني " أو الحزب الذي يلتف حول القادر، وكان يثير في الجموع روح الثورة، ويتطلع إلى انتزاع السلطة، وكان المرابطون قد اقتربوا في ذلك الوقت من بلنسية، باستيلائهم على مرسية ودانية، ففاوض ابن جحاف قائد المرابطين ابن عائشة، ووعده بتسليم بلنسية إذا ساعده على محاربة القادر والسيد، فاستجاب ابن عائشة لدعوته، وبعث إليه سرية من الجند المرابطين بقيادة أبي ناصر المرابطي، فما كادت تدخل بلنسية حتى اشتد فيها الهرج والاضطراب، وقاد ابن جحاف جموع الثائرين، وقبض على ابن الفرج مندوب " السيد " في المدينة، واقتحم القصر، وبحث عن القادر حتى عثر به، وكان قد اختفى في بعض حمامات القصر، ومعه صندوق من الحلي والجواهر الخاصة بزوجه السلطانة زبيدة. فقتل في الحال، وحملت رأسه على رمح وطيف بها في شوارع بلنسية، وذلك في اليوم الثالث والعشرين من رمضان سنة 485 هـ (28 أكتوبر سنة 1092 م). واحتوى ابن جحاف على طائفة عظيمة من الأموال والذخائر والتحف التي كان يحتفظ بها القادر. وآلت السلطة بذلك إلى " الجماعة ". وفي اليوم التالي، الرابع والعشرين من رمضان، اختير ابن جحاف رئيساً للجماعة، فتولى زمام الأمور، وأخذ يحشد الجند، ويحصن أطراف المدينة، ويستعد للطوارىء (¬1). ولما علم السيد بهذه التطورات المزعجة، سار في الحال في قواته صوب بلنسية، وفرض المغارم والأقوات على سائر الحصون الواقعة في طريقه، ونزل في " جُبالة " (كبولا)، وهنالك اجتمع إليه أنصار الملك المقتول (أواخر سنة 1092 م). وفي الحال ضرب الحصار حول المدينة، بعد أن أحرق ما حولها من الضياع والمروج، واستولى على معظم الأنحاء القريبة، واقتحم " الكُدية " ضاحية المدينة الشمالية، وفرض عليها سلطانه. وأنشأ ابن جحاف داخل المدينة فرقة من ثلاثمائة فارس من المرابطين وغيرهم، لتقاوم الحملات المخربة التي كان ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 305 و R.M.Pidal: ibid ; p. 434

يشنها السيد على أحوار المدينة. وكثر الجدل في الداخل بين مختلف الاحزاب والطوائف. وبعث السيد سراً إلى ابن جحاف يطلب إليه طرد المرابطين، ويتعهد له بأن يتركه ملك بلنسية الوحيد، وأن يمده بالعون والحماية، فجنح ابن جحاف إلى التفاهم، وأخذ يدبر الأمر، وآثر البلنسيون كذلك التفاهم والصلح، وانتهت المفاوضات بين السيد وأهل بلنسية على ما يأتي: أن يغادر المرابطون المدينة آمنين، وأن يعطى ابن جحاف إلى السيد ثمن ما كان مودعاً بمخازنه من المؤن وقت مقتل القادر، وأن تؤدى له الجزية السابق تقريرها، ومقدارها ألف دينار في الأسبوع مع متأخراتها، من وقت أن بدأت الحرب، وأن تبقى ضاحية الكُدية بيد السيد، وأن يرتد الجيش القشتالي إلى " جُبالة " ويبقى هنالك ومعه السيد. وهكذا عقدت شروط التسليم، وعادت بلنسية بمقتضاها، كما كانت بلداً خاضعاً يؤدي الجزية كما كان أيام القادر (¬1). ولم يمانع المرابطون في عقد الصلح على هذا النحو، لما تولاهم من السأم في بلد لا تهدأ له ثائرة، وغادروا المدينة بسلام. وعاد السيد فرابط بقواته في " جبالة ". ولكن سرعان ما نقض عهوده، شيمته التي تلازمه في كل عمل وكل موطن، وأخذ يتردد في جنده على ضواحي المدينة ويعيث فيها، ويرهق ابن جحاف بمطالبه المالية، التي لا يرتوي منها شرهه قط، وابن جحاف يعاني في نفس الوقت من الاضطراب الداخلي، ومن مناوأة الزعماء المحليين، ولاسيما بني طاهر أصحاب مرسية السابقين النازلين ببلنسية، وكان هؤلاء يتصلون سراً بالسيد، ويتآمرون معه على ابن جحاف. ثم طلب السيد من ابن جحاف أن يأذن له بالنزول مع بعض صحبه في قصر وحدائق " بله نوبه " وهي ضاحية بلنسية في الشمال الشرقي، وينزل باقي جنده في " ريوسا " في جنوبها الغربي تجاه الرُّصافة، فوافق ابن جحاف مرغماً، وكان السيد يرمي بذلك إلى إحكام تطويق المدينة، لاسيما وهو يحتكم من قبل على ضاحية الكُدية. وعاد السيد بعد ذلك فاشتط في مطالبه، وطلب إلى ابن جحاف أن يسلم كل موارد المدينة، وأن يقدم إليه ابنه رهينة بولائه. فعندئذ رفض ابن جحاف، وأغلق أبواب المدينة، وكتب الى ابن عائشة قائد المرابطين يستغيث به، وبعث بنفس الصريخ إلى المستعين ملك ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid ; p. 449

سرقسطة، فأرسل إليه يعده خيراً، وكتب كذلك إلى ألفونسو السادس، فبعث إليه يعده بالعون. واعتزم ابن جحاف مقاومة السيد إلى آخر لحظة، واستؤنفت الأعمال العدوانية بين الفريقين، وضرب السيد حول المدينة حصاراً صارماً، وعاث في الأنحاء المجاورة، ولم يدخر وسعاً في قطع الأقوات عن المدينة المحصورة خوفاً من أن تصمد له حتى يدهمه المرابطون، واستمر الحصار على هذا النحو عشرين شهراً، حتى بلغ الضيق بالبلنسيين المنتهى، وفتك بهم الجوع أيما فتك، " وأكلوا الفيران والكلاب والجيف " وغدوا كالأشباح هزالا (¬1). وقد وصف المؤرخ البلنسي المعاصر، محمد بن علقمة في تاريخه الذي سوف نشير إليه فيما بعد، بعض ما قاساه البلنسيون من المحن في تلك الآونة العصيبة، فذكرا " أن رطل القمح بلغ ثمنه مثقال ونصف، وأوقية الجبن ثلاثة دراهم، ورطل البقل بخمسة دراهم، وبيضة الدجاجة بثلاثة دراهم، ورطل اللحم بستة دنانير. وفي ربيع الأول (486 هـ) عظم البلاء، وتضاعف الغلاء، واستوى في عدم القوت الفقراء والأغنياء، فأمر ابن جحاف اقتحام الدور بحثاً عن القوت. وأعاد استصراخ ابن هود، ورغبه في المال والبلد مع الأجر في استنقاذ المسلمين من القتل والأسر. وترمق ساير الناس بالجلود والأصماغ وعروق السوس، ومن دون هؤلاء بالفيرة والقطط وجيف بني آدم. وهجم على نصراني وقع في الحفير فأخذ باليد، ووزّع لحمه. وجد الطاغية في حرق من خرج من المدينة إلى المحلة ليلا يخرج الضعفاء، ويتوفر القوت على الأغنياء. وبان على الناس الإحراق بالنار، فعيث فيهم بالقتل، وعلقت جثثهم على صوامع الأرباض وبواسق الأشجار. ودخل جمادى الأولى وعدمت الأقوات بالجملة، وهلك الناس، ولم يبق من ذلك الجم إلا النزر اليسير، وتوالى اليبس واستحكم الوباء. ولما بلغ الأمر إلى هذا القدر، وابن هود يخاطب بالتسويف والمطل، اجتمع الناس إلى الفقيه أبي الوليد الوقشي في التكلم لابن جحاف (¬2) وعندئذ اجتمع أعيان المدينة، وأرغموا ابن جحاف على مفاوضة السيد في التسليم وعقد الصلح، فأذعن وترك لهم المفاوضة، فذهب وفد منهم لمفاوضة السيد، وتم الاتفاق على أن يبعث البلنسيون رسلهم إلى ملك سرقسطة، ¬_______ (¬1) الذخيرة لابن بسام، القسم الثالث، المخطوط لوحة 19 ب، والبيان المغرب ج 3 الملحق ص 305. (¬2) من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثر بها المؤلف بخزانة جامع القرويين بفاس.

وإلى ابن عائشة قائد المرابطين في مرسية، في طلب الغوث والإنجاد، وذلك في مدة خمسة عشر يوماً، وأن يقوم ابن عديس خلال ذلك بالإشراف على المدينة، وأن تسلم الأبواب ليحتلها الروم المحليون، فإذا لم يحضر أحد للنجدة في خلال المدة الممنوحة سلمت بلنسية بالشروط الآتية: " أن يبقى ابن جحاف قاضياً للمدينة وحاكماً لها، وأن يؤمن في نفسه وماله وأهله، وأن يؤمن السكان في أنفسهم وأموالهم، وأن يتولى مندوب السيد الإشراف على تحصيل الضرائب، وأن تحتل المدينة حامية من النصارى المعاهدين (المستعربين) الذين يعيشون بين المسلمين، وأن يرابط السيد بجيشه في "جُبالة" (كبولا) وألا يغير شيئاً من شرائع المدينة وأحكامها ". عقدت الهدنة على هذه الشروط، وسافر الرسل في طلب النجدة، ولكن مضت الخمسة عشر يوماً دون أن يعود أحد منهم. ففي صباح اليوم التالي، وهو يوم الخميس 15 يونيه سنة 1094 م (28 جمادى الأولى سنة 487 هـ) (¬1)، خرج ابن جحاف ومعه عدد من أعيان المسلمين والنصارى، ووقعوا عهداً بتسليم المدينة، على أن يؤمن سكانها في أنفسهم وأموالهم، وأن يسلم ابن جحاف إلى السيد سائر أموال القادر. وفي الظهر فتحت بلنسية أبوابها للسيد إلكمبيادور وجنده، واحتشد البلنسيون، وهم كالأشباح هزالا، أو كأنهم كالموتى خرجوا يوم الحشر من القبور ليمثلوا أمام الخالق (¬2)، ليشهدوا دخول القشتاليين الظافرين بلدهم. ودخل السيد وجنده بلنسية، وفي الحال احتلوا أبراجها خلافاً لشروط المعاهدة، ونزل السيد بالقصر، ثم جمع أشراف المدينة وألقى فيهم خطاباً وعد ¬_______ (¬1) تختلف الرواية الإسلامية في تاريخ دخول السيد بلنسية. فيقول ابن بسام وهو معاصر للحادث أنه وقع في سنة 488 هـ (1095 م) - الذخيرة القسم الثالث - المخطوط لوحة 19 ب. ويوافقه صاحب الذيل في البيان المغرب ج 3 ص 306. ولكن ابن الأبار يقول لنا إن دخول السيد بلنسية كان في سنة 487 - 1094 م (الحلة السيراء دوزي ص 189 والقاهرة ج 2 ص 125). وهذه أيضاً رواية ابن الكردبوس في " كتاب الاكتفاء " Recherches, V.II.App.II. وهذا التاريخ هو المرجح، وهو يوافق الرواية القشتالية، وبه يأخذ الأستاذ مننديث بيدال مؤرخ السيد، فيقول إن دخول السيد بلنسية كان في 15 يونيه سنة 1094 م. ( Pidal: ibid ; p. 485) (¬2) وهو تصوير ابن علقمة مؤرخ مأساة بلنسية، وقد نقلت روايته المفقودة في التواريخ القشتالية ( Pidal: ibid ; p 484) .

فيه أن يسير شئون المدينة بالعدل، وأن يستمع لظلامات أهلها، وأن يحميهم، وأن يرد إلى كل ذي حق حقه، إلى غير ذلك من الوعود الخلابة. ومع ذلك فقد احتل النصارى معظم دور المدينة وضياعها، ولم يستمع أحد إلى تذمر أو ظلامة، وتسلم السيد من ابن جحاف أموال القادر وذخائره، وأبقاه في منصبه قاضياً للمدينة، ولكنه شدد عليه في السؤال عما إذا كان قد بقي لديه شىء منها، وطلب إليه الحلف أمام أعيان الشهود من الملتين، فحلف ابن جحاف بأنه لم يخف شيئاً وليس لديه شىء منها. وأنذره السيد بأنه إن وجد لديه شيئاً مما تقدم، فإنه سوف يستبيح دمه، ووافق على هذا العهد أعيان الملتين، المسلمون والنصارى. وشاءت الأقدار أن يقع السيد بعد ذلك بقليل على مخبأ الحلي والذخائر التي انتزعها ابن جحاف من القادر حين مقتله، فكان ذلك نذيراً بنكبته المروعة، التي ترك لنا عنها المؤرخ البلنسي المعاصر، وشاهد العيان السابق ذكره أبو العباس بن علمقة، صوراً مؤسية مبكية. ذلك أن السيد أمر في الحال بالقبض على ابن جحاف وأفراد أسرته، وعذبه عذاباً شديداً، ثم أمر بإعدامه حرقاً، فأقيمت له وقدة كبيرة في ساحة المدينة وأحرق فيها بصورة مروعة، ولقي هذا القاضي المجاهد مصيره بشجاعة مؤثرة. قال ابن علقمة، وكان من شهود المأساة " إن القنبيطور أمر بتعذيبه أي ابن جحاف فعذب عذاباً شديداً، ثم أمر به فجمع له حطب كثير، وحفرت له حفرة وأقيم فيها، وأصير الحطب حوله، وأوقدت فيه النار فكان يضم النار إليه بيديه ليكون ذلك أسرع لخروج روحه " (¬1). وقال ابن بسام، بعد أن ذكر واقعة إحراق ابن جحاف: " أخبرني من رآه في ذلك المقام، وقد حفر له إلى مرفقيه، وأضرمت النار حوله، وهو يضم ما بعد من الحطب بيديه، ليكون أسرع إلى ذهابه، وأقصر لمدة عذابه، كتبها الله له في صحيفة حسناته، ومحا به سالف سيئاته، وهم الطاغية يومئذ بتحريق زوجه وبناته، فكلمه فيهن بعض طغاته، فبعد لأي ما لفته عن رأيه، وتخلصهن من يدي نكرائه. وأضرم هذا المصاب الجليل أقطار الجزيرة يومئذ ناراً، وجلل سائر طبقاتها حزناً وعاراً " (¬2). ¬________ (¬1) أورده البيان المغرب في الذيل ج 3 ص 306. (¬2) الذخيرة - القسم الثالث المخطوط لوحة 19 ب.

وأمر السيد كذلك بإحراق جماعة من أعلام بلنسية، ومنهم أبو جعفر البتي الشاعر المشهور (¬1)، وبدا السيد عندئذ في ثوبه الحقيقي، ثوب الفاتح المتجبر والطاغية المنتقم، فمال على البلنسيين، وأذلهم، واشتط في إرهاقهم بصنوف المظالم والمغارم. وكان من الظواهر المؤلمة يومئذ، أن التف حول السيد رهط من الخونة المسلمين، ومعظمهم من الأشرار والسفلة، انضووا تحت لوائه، وأخذوا يعيثون في المدينة فساداً، ويعتدون على إخوانهم، يقتلون الرجال، ويسبون النساء والأطفال، وقد ارتد عن الإسلام جماعة منهم، وكان يطلق يومئذ على تلك العصابات المجرمة اسم " الدوائر " (¬2)، وغادر بلنسية كثير من أهلها المسلمين، واحتل النصارى دورهم وأحياءهم، وغدا السيد، وهو يزاول سلطانه بالقصر، كأنه ملك متوج، وسيد مملكة عظيمة، وغدا باستيلائه على بلنسية سيد شرقي الأندلس كله. وفي محنة بلنسية يومئذ يقول الشاعر المعاصر أبو إسحاق بن خفاجه: عاثت بساحتك العدا يا دار ... ومحا محاسنك البلى والنار فإذا تردد في جنابك ناظر ... طال اعتبار فيك واستعبار أرض تقاذفت الخطوب بأهلها ... وتمحصت بخرابها الأقدار كتبت يد الحدثان في عرصاتها ... لا أنت أنت ولا الديار ديار وروعت الأندلس لسقوط بلنسية في أيدي النصارى، كما روعت من قبل بسقوط طليطلة، وتوالى على أمير المسلمين يوسف بن تاشفين صريخ الأندلس، ورسائل أعيانها، تصف ما أصاب بلنسية وشرقي الأندلس من الدمار، وتقطيع الأوصال، والذل على يد النصارى. قال ابن بسام: " وتجرد أمير المسلمين عندما بلغه هذا النبأ الفظيع، واتصل به هذا الرزء الشنيع، فكانت قذى أجفانه وجماع شأنه، وشغل يده ولسانه ". واعتزم أمير المسلمين أن يسترد المدينة الأندلسية العظيمة، فسار إلى سبتة وحشد الجند، وندب ابن أخيه محمداً بن تاشفين ليقود الحملة، وكتب إلى حاكم غرناطة المرابطي، وإلى أمراء شرقي ¬_______ (¬1) وهو أحمد بن عبد المولى البتي نسبة إلى بتة من قرى بلنسية. وكان من أكابر الأدباء وعلماء اللغة. (¬2) راجع رواية ابن الكردبوس السالفة الذكر: Recherches; V.II.App.II

الأندلس، أصحاب شنتمرية الشرق، وألبونت، ولاردة، وطرطوشة، أن يجمعوا الجند للسير إلى استنقاذ بلنسية. وعبرت الجند المرابطية إلى الجزيرة في سبتمبر سنة 1094 م، أعني لثلاثة أشهر فقط من سقوط بلنسية، واجتمعت الحشود الأندلسية، وسارت القوات المتحدة صوب بلنسية، فوصلت إلى " كوارت " ثم إلى " مسلاته "، الواقعتين غربي بلنسية جنوبي النهر، في شهر أكتوبر (رمضان 488 هـ)، وصلوا صلاة الفطر في مسلاته، ثم بدأ الهجوم على بلنسية. وكانت الأنباء قد وصلت إلى بلنسية بمقدم الجيش المرابطي. فشاع الذعر بين النصارى، وأمر السيد بأن يجمع من أهل بلنسية، سائر السلاح والقطع الحديدية، وأخرج من المدينة سائر المسلمين الذين يشك في ولائهم. وتكررت هجمات المرابطين على المدينة بشدة، ولما رأى محمد بن تاشفين مناعة المدينة وصمودها الراسخ، ضرب حولها الحصار المطبق. ولم تمض أيام قلائل، حتى خرج السيد في قواته بالليل، وفاجأ المعسكر الإسلامي، وهاجمه بشدة، فأوقع فيه الاضطراب والذعر، واستولى على غنائم عظيمة من الخيل والسلاح والعتاد والمؤن، وقتل من المسلمين عدد جم، ثم عاد فامتنع داخل المدينة. واستمر الحصار طويلا. وبعث السيد إلى بيدرو الأول ملك أراجون يستصرخه للغوث، وعقدت بينهما محالفة ضد المسلمين، وكتب أيضاً إلى ألفونسو السادس. وتجددت المعارك بين المرابطين والقشتاليين في أحواز بلنسية، واستولى السيد خلالها على مربيطر، وعلى عدد آخر من الحصون. وفي يناير سنة 1097 م وقعت بين قوات السيد وحليفه بيدرو ملك أراجون، وبين المسلمين، معركة شديدة عند جبل " مندير "، هزم فيها المسلمون، وعاد بيدرو إلى بلاده، وعاد السيد إلى بلنسية. وفي تلك الأثناء كان جيش مرابطي قد سار من الجنوب نحو أراضي طليطلة وعاث فيها، وهزم قوات ألفونسو السادس عند " كونسويجرا "، وفي تلك الموقعة قتل دون ديجو ابن السيد الوحيد. وفي نفس الوقت سار ابن عائشة حاكم مرسية في جيش ضخم إلى أحواز قونقة، وهزم القشتاليين بقيادة ألبارهانيس ثم اخترق أراضي مملكة بلنسية حتى " الجزيرة "، وهنالك التقى بفرقة من جنود السيد، فأبادها تقريباً ولم ينج منها إلا عدد يسير فروا عائدين إلى بلنسية.

وكان السيد قد اشتد عليه المرض يومئذ، وهدمه الإعياء، وأدمى قلبه مصرع ولده الوحيد، فتوفي غماً وألماً، وذلك في يوليه سنة 1099. فتولت مكانه زوجه خمينا الدفاع عن المدينة، واستطاعت أن تصمد أمام هجمات المرابطين، زهاء عامين آخرين. وأخيراً بعثت إلى ألفونسو السادس تستصرخ به، وتعرض تسليم المدينة إليه، فهرع ألفونسو إلى بلنسية في بعض قواته، ودخل بلنسية في مارس سنة 1102 م. وكانت القوات المرابطية قد اجتمعت قبل ذلك ببضعة أشهر، تحت إمرة قائدها الأمير أبى محمد المزدلي، تستعد للوثبة الحاسمة، فلما قدم ألفونسو بقواته، اجتنبت لقاءه، وعسكرت في كولييرا الواقعة على البحر بين بلنسية وشاطبة. وقضى ألفونسو شهراً في بلنسية، ثم خرج إلى أحواز كولييرا، وانتسف زروعها، وهالته ضخامة الجيش المرابطي، فارتد إلى المدينة وهو عازم على إخلائها، ولم يشأ أن يغامر بجيشه مع العدو القوي في مواقع نائية. وغادر بلنسية سكانها النصارى، يحملون أمتعتهم وأموالهم، وخرجت خمينا زوجة السيد، ومعها ذخائر القادر بن ذى النون، والأموال العظيمة التي انتهبها السيد خلال غزواته ومغامراته، وقد استولى ألفونسو فيما بعد على معظمها، ثم خرج ألفونسو وجنده، وخرج معه فرسان السيد يحملون رفات زعيمهم لتدفن في أراضي قشتالة (4 مايو سنة 1102 م). بيد أنه أمر قبل خروجه بإحراق المدينة، ولم يغادرها إلا بعد أن غدا معظمها أطلالا دارسة. وفي اليوم التالي، الخامس من شهر مايو سنة 1102 م، الموافق شعبان سنة 495 هـ (¬1)، دخل المرابطون بلنسية وعاد الثغر العظيم بذلك إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى، وعاد السلم يخيم على تلك الربوع، وانهار باختفاء السيد، أكبر عامل في بث الروع، والاضطراب إلى شرقي الأندلس، ووقفت مغامرات النصارى في تلك الأنحاء مدى حين (¬2). * * * ¬_______ (¬1) يقول صاحب الذخيرة إن استرداد المرابطين لبلنسية كان في رمضان سنة 495 هـ، ولكنا باحتساب التوافق بين التاريخين الميلادي والهجري، نجد أن شهر مايو سنة 1102 م يوافق شعبان سنة 495 هـ. ويأخذ ابن خلدون بنفس التاريخ، فيضع استرداد بلنسية في سنة 495 هـ (ج 4 ص 162). (¬2) يراجع فيما تقدم، الذخيرة لابن بسام - القسم الثالث المخطوط - لوحة 26 أوب وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 508, 533, 539 & 581

والآن وقد انتهينا من تتبع حوادث مملكة بلنسية منذ قيامها في ظل الطوائف وفصلنا بهذه المناسبة أخبار السيد إلكمبيادور، مذ ظهر في كنف بني هود أصحاب سرقسطة، حتى غلب على شرقي الأندلس، ثم افتتح بلنسية، وحكمها حتى وفاته بضعة أعوام، نود أن نقول الآن كلمة عن شخصية السيد، وعن خلاله. لقد اختلفت الآراء في تصوير السيد وتقدير بطولته. فالآداب النصرانية، والآداب القشتالية، بوجه خاص، تحاول أن تجعل منه مثلا أعلى للبطولة القومية، وتحيط تاريخه بطائفة من الأساطير المغرقة، وتذهب في بعض الأحيان إلى اعتباره، فضلا عن كونه بطلا قومياً لإسبانيا النصرانية، قديساً يحيط الجلال بسيرته، وتروي لنا أن الناس كانوا على هذا الاعتبار، يحجون إلى مزاره، ويلتمسون البركة من رفاته. وكان قد دفن أولا في دير سان بيدرو دي كاردينا على مقربة من برغش، ثم نقلت رفاته بعد ذلك إلى بناء بلدية برغش. ومما يروى في ذلك أن تابوت السيد فتح في أيام الإمبراطور شارلكان، في سنة 1541، فانتشرت منه رائحة ذكية، ووجدت الجثة ملفوفة في رداء عربي، ومعها سيف ورمح، وكان الشرق عظيماً في تلك الآونة، فما فتح التابوت حتى هطل مطر غزير، روى جميع أرجاء قشتالة. وأشد ما تبدو هذه الأساطير في الشعر، وفي الملاحم والأغاني القشتالية، التي وضع معظمها بعد وفاة السيد بنحو قرن. ففيها يصور السيد، بأنه الفارس الكامل، الشهم، الذي لا يقهر في الحرب، وبأنه مثل الوطنية الحقة، وزهرة الخلال والفضائل النصرانية. ومن أشهر الملاحم التي وضعت عن السيد، وأقربها إلى عهده، قصيدة أو ملحمة، Mio Cid ( سيدي) الشهيرة، التي كتبت بأراضي مدينة سالم بعد وفاة السيد بنحو أربعين عاماً فقط، وهي فضلا عما تحتويه من مختلف صور العصر وحوادثه وعاداته، تقدم لنا صورة كاملة لخلال السيد، وتشيد بوطنيته وإخلاصه، بالرغم من جور مليكه، كما تصف رفقه ولينه، وهو الظافر، نحو المسلمين المغلوبين، وما ينطوي عليه قلبه، وهو الفارس الأمثل، من الحب العائلي، حتى انه كان خلال المعارك، يتصور أعين زوجته خمينا وبناته، متطلعات إليه، إلى غير ذلك من الصور والنعوت (¬1). ¬_______ (¬1) راجع كتاب الأستاذ بيدال، R.M.Pidal: ibid ; p. 8

بيد أننا إذا جردنا السيد من إغراق الأسطورة، ومن أضواء الملاحم والأغاني، وإذا أردنا أن نحكم على شخصيته من حوادث حياته، فإن الرأي المنزه المجرد من المؤثرات القومية والدينية، يحملنا في الحال على الحكم عليه، وعلى خلاله بأقسى النعوت الأخلاقية والأدبية. لقد كان السيد جندياً عظيماً، وقائداً بارعاً، ما في ذلك من ريب، ولقد أشادت الرواية الإسلامية المعاصرة ذاتها بخلاله كفارس وقائد مظفر، فيقول لنا ابن بسام مثلا في وصفه ما يأتي: " وكان هذا البائقة وقته، في درب شهامته، واجتماع حزامته، وتناهي صرامته، آية من آيات ربه ... وكان - لعنه الله - منصور العلم، مظفراً على طرائق العجم، لقي زعماءهم، ففل حد جنودهم، وقتل بعدده اليسير، كثير عديدهم، وكانت تدرس بين يديه الكتب، وتقرأ عليه سير العرب، فإذا انتهى إلى أخبار المهلب استخفه الطرب، وطفق يعجب منها ويعجب ". ويزيد ابن بسام على ذلك أنه بلغه أن السيد كان يقول، وقد طما طمعه ولح به جشعه: " على لذريق فتحت الأندلس، ولذريق يستنقذها " (¬1). ولكن من الحق أيضاً أن نذكر أن السيد، كان إلى جانب هذه الجرأة، والبراعة العسكرية والمغامرات المظفرة، يتصف بكثير من الرذائل والصفات الذميمة التي تأباها خلال الفروسة، فهو حسبما رأينا من وقائع حياته التي استقيناها من أوثق المصادر، ولاسيما من أعظم مؤرخيه المعاصرين الأستاذ مننديث بيدال، يبدو مغامراً لا مبدأ له ولا ذمام، يسعى إلى الكسب أينما كان، وهو يبدأ حياته في خدمة الملوك المسلمين أعداء أمته ودينه ثم يخرج عليهم، ويتنكر لهم، وهو يقطع مختلف العهود، ثم ينقضها، متى رآها عقبة في سبيل أهوائه، وهو يبيع العدو والصديق لكسب المال، ويبدو في معظم حملاته العسكرية، قاطع طريق، ورئيس عصابة ناهبة، أكثر منه قائد جيش مجاهد منظم، وهو جشع لاقتناء المال، لا يخبو له في سبيل ذلك ظمأ، وهو يناوىء مليكه وأمته، ويخرج عليه غير مرة، ويعيث في أراضي بلاده، وينتهك حرماتها، تحقيقاً لمآربه الشخصية، وأغراضه المادية. وعلى العموم، فهو يبدو مغامراً، يجمع في شخصه كل رذائل عصره، وهو بذلك أبعد من أن يبدو بطلا قومياً مثالياً، وأشد بعداً من أن يبدو قديساً خارقاً. ¬_______ (¬1) الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط لوحة 19 أوب.

والتفكير الغربي نفسه يختلف في تقدير السيد ومنزلته من البطولة، فالعلامة المستشرق دوزي مثلا يخصص لحوادث حياته كتاباً (¬1)، وينتهي فيه إلى أن السيد ليس إلا جندياً مغامراً يبحث وراء طالعه، ويجمع في شخصه من رذائل عصره أكثر مما يجمع من فضائله. ويجاريه في هذا الرأي العلامة الفرنسي رينان، ويقول " إنه لم يفقد بطل بخروجه من حيز الأسطورة إلى حيز التاريخ قدر ما فقد إلسيد ". ولكن العلامة مننديث بيدال، مؤرخ السيد، يخالف كل هذه الآراء، ويبالغ في تقدير السيد، ويخصص لتقدير بطولته شذوراً طويلة، ويقول " إن الشعر والتاريخ يتفقان في شأنه، وأنه بالعكس لا يوجد بطل ملاحم أكثر لمعاناً في ظل التاريخ " (¬2). ويخصص ابن بسام، وهو معاصر لمعظم الأحداث التي خاضها السيد، لشخصية السيد وأعماله، شذوراً كثيرة. بيد أنه قد كتبت عن السيد، وعن مأساة بلنسية بالأخص وثيقة عربية مؤثرة، كتبها مؤرخ بلنسي، وشاهد عيان للحوادث، هو أبو عبد الله محمد بن خلف الصدفي المعروف بابن علقمة، وقد ولد ابن علقمة ببلنسية في سنة 428 هـ (1037 م)، وتوفي بها سنة 509 هـ (1115 م) وكان أديباً شاعراً. وقد هزته الحوادث والخطوب المفجعة التي مرت بوطنه بلنسية، والتي شهدها عن كثب، فألف تاريخاً لحوادث عصره، ولاسيما تغلب السيد على بلنسية، وما اقترن به من المآسي، أو كما يقول ابن الأبار، إنه " ألف تاريخاً في تغلب الروم على بلنسية، سماه "البيان الواضح في الملم الفادح"، وذلك قبل سنة 500 هـ " (¬3). وقد نوه بتاريخ بلنسية هذا، الذي ضاع ولم يصلنا، فضلا عن ابن الأبار، وهو بلنسي أيضاً، كثير من المؤرخين اللاحقين، ومنهم صاحب رواية الطوائف الواردة بذيل البيان المغرب، حيث يقول: " وقد ¬_______ (¬1) كتاب دوزي المشار إليه هو: Le Cid d'aprés de nouveaux documents (Leyde 1860) وقد نشر بتمامه في الطبعة الثالثة من كتاب دوزي: Recherches ; V.II.p. 1-133 (¬2) R.M.Pidal: La Espana del Cid ; V.II.p 593-604 (¬3) راجع " التكملة " لابن الأبار ج 1 رقم 514، والبيان المغرب ج 3 ص 305 و 306، وابن الخطيب في " الإحاطة " (القاهرة 1956) ج 1 ص 91. وراجع أيضاً: Pons Boigues Ensayo Bio - Bibliografico sobre los Historiadores y Geograficos Arabigo - Espanoles ; (Madrid 1898) p. 175

ألف ابن علقمة كتاباً في أمرها وحصارها (أي بلنسية) يبكي القارىء ويذهل العاقل "، ثم ينقل عنه قصة القاضي ابن جحاف (¬1). وكذلك ابن الخطيب فإنه يذكره في مقدمة " الإحاطة "، ضمن تواريخ المدن الخاصة (¬2). هذا وقد أثبت البحث الحديث أن التواريخ القشتالية المعاصرة واللاحقة، قد نقلت كثيراً مما ورد في تاريخ ابن علقمة، ولاسيما تاريخ ألفونسو العالم Cronica General عن السيد وعن حوادث بلنسية (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 305 و 306. (¬2) كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة ج 1 ص 91. (¬3) يراجع في تاريخ السيد وحوادث بلنسية: البيان المغرب ج 3 ص 305 و 306، ونفح الطيب ج 2 ص 577، وأعمال الأعلام ص 203 و 204. والذخيرة، القسم الثالث، المخطوط، اللوحات 19 أإلى 26 ب. وكذلك: دوزي في كتابه المشار إليه: " Le Cid" و Recherches sur l'Histoire et Littérature d'Espagne au moyen Age. (V.II.App.I - XVIII) . وكتاب الأستاذ بيدال السابق ذكره، وهو مؤلف فخم في نحو ألف صفحة. وأخيراً يراجع كتاب A.P.Ibars: Valencia Arabe ; Vol.I.p. 227-332

الفصل الثالث إمارة شنتمرية الشرق

الفصل الثالِث إمارة شنتمرية الشرق بنو رزين. نزولهم بأرض السهلة. كبيرهم هذيل بن عبد الملك. قيامه بشنتمرية وتلقبه بالحاجب عز الدولة. الخصومة بين هذيل ومنذر التجيبي. هذيل واتباعه لسياسة الحياد. صفاته وبذخه. جواريه وجلساته الفنية. وفاته وقيام ولده أبي عبد الملك مروان مكانه. تلقبه بالحاجب جبر الدولة. حكمه الطويل وصموده للحوادث. صفاته بين الذم والمديح. تأديته الجزية لألفونسو السادس. نكوله عقب موقعة الزلاقة. السيد يغير على أراضيه ويعيث فيها. اتفاقه مع السيد وعوده إلى دفع الجزية. ابن لبون صاحب مربيطر يلتجىء إلى حماية عبد الملك ويسلمه حصنه. شروط هذا التسليم ونكث عبد الملك بعهوده. مشاريع عبد الملك نحو بلنسية. إغارة السيد على أراضيه. خضوعه وعوده إلى دفع الجزية. صهره يحاول اغتياله. نجاته ثم وفاته. عبد الملك والشعر. يحيى بن عبد الملك الملقب بحسام الدولة. مصانعته لملك قشتالة وهديته إليه. استيلاء المرابطين على بلنسية. زحفهم نحو الثغر الأعلى. استيلاؤهم على شنتمرية الشرق وخلعهم لأميرها يحيى. انتهاء دولة بني رزين. كانت هذه الإمارة الصغيرة - إمارة شنتمرية أوشنتمرية ابن رزين (¬1) - تقع في بسيط سهل خصيب من الأرض، يقع في جنوبي الثغر الأعلى، وفي شمال شرقي الثغر الأوسط، عند منابع نهر خالون فرع إبرة، وتحدها من الشرق سلسلة من الجبال تسمى بنفس الاسم، أى جبال بني رزين، وقد عرف بنو رَزين هؤلاء أصحاب شنتمرية الشرق، باسم جدهم الأعلى رزين البرنسي، أحد أكابر رجال البربر الداخلين إلى الأندلس في جيش طارق بن زياد، وهو ينتمي إلى هوارة إحدى بطون قبيلة البرانس البربرية الكبرى، وكان منزل بني رزين بقرطبة، ولجدهم رزين بها آثار كثيرة (¬2)، ثم نزحوا إلى الثغر، ونزلو بأراضي السهلة، وهي التي تتوسطها شنتمرية، واستقروا هنالك سادة وحكاماً. ولما انتثر عقد الأندلس الكبرى إبان اضطرام الفتنة، تطلع كبيرهم يومئذ أبو محمد هذيل بن عبد الملك بن خلف بن لب بن رَزين المعروف بابن الأصلع ¬_______ (¬1) سميت شنتمرية الشرق تمييزاً لها من شنتمرية الغرب، وهي الواقعة في جنوب غربي ولاية الغرب الأندلسية على المحيط الأطلنطي، وتشغل مكانها اليوم مدينة فارو البرتغالية، وتعرف شنتمرية الشرق الإسبانية بمدينة Albarracin وهو تحريف لاسم بني رزين أمرائها أيام الطوائف. (¬2) تاريخ ابن حيان - مخطوط مكتبة القرويين - لوحة 245 ب.

إلى الاستقلال بما في يده من الأراضي، أسوة بما فعله جاره اسماعيل بن ذى النون، فأعلن استقلاله عن حكومة قرطبة، واستبد بحكم شنتمرية وأعمالها، وذلك في سنة 403 هـ (1012 م)، وتلقب بالحاجب عز الدولة. واعترف في نفس الوقت بطاعة الخليفة سليمان المستعين الاسمية، وقنع منه سليمان بذلك، وأقره على ما بيده من الأعمال، وحاول الحاجب منذر بن يحيى التجيبي صاحب الثغر الأعلى، أن يخضعه لصولته، أسوة بما تم له نحو بعض أصاغر أمراء الثغر، فأبى هذيل ووقف في سبيل أطماعه. واضطرمت بينهما الخصومة، وامتنع هذيل بعاصمته المنيعة، وتحالف مع الموالي العامريين أعداء منذر، واعترف معهم بدعوة هشام المخلوع، وقطع دعوة سليمان واستطاع بيقظته، وموقع بلده البعيد عن متناول العدوان، أن يجتنب عوامل الشر، وأن يسير في حكم إمارته آمناً مطمئناً. وكان له في خصب أراضيه، وانتظام عمارتها، موارد طيبة للجباية، فكثرت أمواله، وغدا ينافس في ذلك جاره إسماعيل بن ذى النون، وكان مثله في طغيانه وصرامته، وشدة بخله، وكان يتبع سياسة الحيدة المطلقة، ولا يتدخل في أي نزاع أو حلف، مما ينساق إليه زملاؤه أمراء الطوائف، وقد استطاع بهذه الوسيلة أن يحافظ على سلام مملكته، واستطاع بالأخص أن ينجو من ضغط قشتالة ومطالبها في اقتضاء الجزية. وكما أن الرواية تشيد بطغيان هذيل، وجبروته، وجهله وفظاظته، حتى زعموا أنه قتل والدته بيده، فهي كذلك تقدمه إلينا في صورة أخرى أكثر بهجة وإشراقاً، فتقول لنا إنه كان فتى بارع الجمال، حسن الخلق، جميل العشرة، ظاهر المروءة، لم ير في الأمراء أبهى منه منظراً، ثم تشيد بطلاقة لسانه، وحسن ْتوصله بالكلام إلى حاجته دون معرفة. وقد اشتهر هذيل بالأخص بحياته المترفة الناعمة، ورفيع ذوقه في الفنون، وشغفه باقتناء أجمل وأروع الجواري والقينات في عصره، حتى لقد ذكروا أنه اشترى جارية الطيب أبى عبد الله الكناني بعد أن أحجمت عنها الملوك لغلاء ثمنها، ودفع فيها ثلاثة آلاف دينار، وكانت وحيدة عصرها. وقد وصف لنا ابن حيان في تاريخه تلك القينة الشهيرة فقال: " لم ير في زمانها، أخف منها روحاً، ولا أسرع حركة، ولا ألين عطافاً،

ولا أطيب صوتاً، ولا أحسن غناء، ولا أجود كتابة، ولا أبدع أدباً، ولا أحضر شاهداً، مع السلامة من اللحن في كتبها وغنائها، لمعرفتها بالنحو واللغة والعروض، إلى المعرفة بالطب وعلم الطبائع والتشريح وغير ذلك، مما يقصر عنه علماء الزمان، وكانت محسنة في صناعة الثقاف، والمجادلة بالتراس، واللعب بالرماح والسيوف أو الخناجر المرهفة، لم يسمع لها في ذلك بنظير " (¬1)، وكان هذيل يقتني أروع مجموعة في عصره من الجواري والقينات البارعات في الحسن، وفي الغناء والموسيقى، وكانت " ستارته " أعني جلساته الفنية أشهر ستائر ملوك الأندلس. وقيل عنه اجتمعت لديه منهن مائة وخمسون، وكان لديه من الوصفاء الصقالبة ستون وصيفاً، لم تجتمع عند أحد من نظائره. وكان إلى جانب ذلك، وافر الجود والكرم، فسيح الجناب للقصاد، وعلى الجملة فقد كان هذيل من أحب أمراء عصره إلى شعبه، وقد استمر في حكم إمارته الصغيرة ثلاثة وثلاثين عاماً، مرت كلها في أمن وسلام ورخاء، وتوفي بالسهلة في سنة 436 هـ (1045 م) (¬2). فخلفه في الإمارة ولده أبو مروان عبد الملك بن هذيل بن رَزين، وكان في حياة أبيه يسمى حسام الدولة، وتلقب عند ولايته بذي الرياستين الحاجب جبر الدولة. وقد حكم أبو مروان مملكة شنتمرية الشرق زهاء ستين عاماً، وشهد طائفة كبيرة من الأحداث تجتاح هذه المنطقة، ولاسيما في الثغر الأعلى وفي مملكة بلنسية، وشاء حسن الطالع أن يصمد للأحداث، وأن يبقى في رياسته، بل أن يوسع نطاقها. وقد اختلف الرأي في تصوير أبي مروان وخلاله، فنرى معاصره ابن حيان، يحمل عليه بشدة، وفي عبارات لاذعة، ويقول لنا إنه " كان سيئة الدهر، وعار العصر، جاهلا لامتجاهلا، وخاملا لامتخاملا، قليل النباهة، شديد الإعجاب بنفسه، بعيد الذهبة بأمره، زارياً على أهل عصره، إن ذكرت الخيل فزيدها، أو الدهاة فسعدها وسعيدها، أو الشعراء ¬_______ (¬1) الذخيرة، القسم الثالث، المخطوط لوحة 21 أوب و 22 أوب. ونقله البيان المغرب ج 3 ص 181 - 184. (¬2) راجع في أخبار هذيل بن رزين: الحلة السيراء (دوزي) ص 179 - 182، والبيان المغرب ج 3 ص 181 - 183، والذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 88، وأعمال الأعلام ص 205 و206. وكلها مشتقة من أقوال ابن حيان على اختلاف في النقل والتلخيص.

فجريرها وأسيدها، أو الأمراء فزيادها ويزيدها، أو الكتاب فيه فبديع همذان، أو الخطابة فقس سحبان، أو النقد فقدامة العلم، أو العلم فليس منه ولا كرامة، خلي من المعارف، وشعره أهتف من كل هاتف " (¬1). هذا بينما يقدم لنا عنه ابن الأبار صورة أفضل، مما سمعه من الرواة، فيقول لنا " إن أبا مروان هذا كانت له نجدة وصرامة وإقدام، قرب جنده من نفسه، وتحبب إليهم، واختلط بهم، حتى كان لا يمتاز عنهم في مركب ولا ملبس، ووقائعه في الثغر مشهورة " (¬2). ويغرق الفتح بن خاقان كعادته في مديحه ومديح دولته، ويقول لنا إنه كان منتهى فخار قومه، وقطب مدارهم، وإنه رجل " اتخذته البسالة قلباً، وضمت عليه شفافاً وخلباً، لا يعرف جبناً ولا خوراً، ولا يتلو غير سور الندى سوراً. وكانت دولته موقف البيان، ومقذف الأعيان، ترتضع فيه المكارم أخلاف، وتدار بها للأماني سلاف ". إلى غير ذلك من العبارات الرنانة (¬3). ويشاطره ابن بسام بعض هذا المديح فيقول لنا إن أبا مروان " كان له طبع يدعوه فيجيب، ويرمي بغرة الصواب عن قوسه فيصيب، على ازدراء كان منه بالأمة، وقلة استجداء لمن عنى بالأخذ عنه من الأئمة ". ويزيد ابن بسام على ذلك أنه كان شاعراً مجيداً " (¬4). ولم نعثر في مختلف المصادر، على كثير من التفاصيل، المتعلقة بأخبار عبد الملك بن هذيل وأعماله، خلال حكمه الطويل، وكل ما وقفنا عليه من ذلك يتلخص في أنه استمر في حكم مملكته، بعيداً عن الأحداث والعواصف التي هزت ممالك الطوائف الأخرى. بيد أنه اضطر عقب سقوط طليطلة في يد ألفونسو السادس في سنة 478 هـ، أن يؤدي له الجزية أسوة بسائر ممالك الطوائف فلما وقعت الهزيمة الساحقة على ألفونسو في الزلاّقة، في العام التالي، وهيض جناحه نوعاً، نكل عبد الملك عن دفع الجزية. وفي تلك الأثناء كانت أعمال السيد إلكمبيادور ومغامراته في منطقة بلنسية، تزعج سائر الإمارات الإسلامية ¬_______ (¬1) نقله ذيل البيان المغرب ج 3 ص 309. (¬2) الحلة السيراء ص 185. (¬3) قلائد العقيان ص 51. (¬4) الذخيرة، ونقله البيان المغرب ج 3 ص 184.

المجاورة. ونحن نعرف أن السيد سار إلى قشتالة ليسوي شئونه مع الملك ألفونسو السادس، وليحصل منه على حق فتح بلنسية، وأنه خرج من قشتالة في ربيع سنة 1089 م (482 هـ)، عائداً إلى شرقي الأندلس، ومعه سبعة آلاف مقاتل واخترق في طريقه أراضي السهلة (شنتمرية)، وعسكر في " كالاموشا " في شمالها الشرقي، ولبث حيناً في تلك الوديان النضرة، يجمع محاصيلها، وأقواتها. ولما شعر أبو مروان بما يهدد مملكته من الخراب والإمحال، قصد بنفسه إلى معسكر السيد، واتفق معه على أن يتركه في سلام، على أن يؤدي الجزية للملك ألفونسو كما كان الشأن قبل موقعة الزلاّقة، وأن يدفع في الحال إلى السيد بصفته نائباً عن الملك مبلغ عشرة آلاف دينار. وعندئذ رفع السيد معسكره، وغادر أراضي السهلة إلى بلنسية (¬1). ولما اشتدت وطأة السيد على بلنسية والأنحاء المجاورة لها، شعر القائد أبو عيسى بن لبّون صاحب مربيطر (ساجنتو)، أنه لا يستطيع الصمود لهذا الإرهاق، وأنف من مفاوضة السيد، وآثر أن ينتمي إلى حماية أبي مروان عبد الملك، وأن يسلمه حصنه، فقبل عبد الملك هذا العرض، وتعهد لابن لبون، بحمايته ورعايته وأن يجري عليه رزقاً كافياً، وتسلم منه حصن مربيطر في نوفمبر سنة 1092 م (أواخر 486 هـ)، ثم سار إلى السيد، وفاوضه في عقد المودة والإبقاء على الحصن، على أن تكون سائر الحصون الواقعة في أراضيه مفتوحة للبيع والشراء، وأن تقدم إلى جنود السيد ما يحتاجونه من المؤن، وسار ابن لبون بعد ذلك في أهله وأمواله صحبة عبد الملك إلى عاصمته ونزل في كنفه. بيد أنه لم يمض سوى قليل حتى تنكر له عبد الملك، وأخذ في مضايقته والتقتير عليه، وقاسى ابن لبون من ذلك حتى كره البقاء، ومما نظمه يومئذ في محنته: نفضت كفي عن الدنيا وقلت لها ... إليك عني فما في الحق أغتبن من كسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار موتمن أدري به ما جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا ولما استولى عبد الملك على مربيطر، ورأى اضطراب الأحوال في بلنسية، ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: La Espana del Cid ; P. 357-359

ثابت له فكرة في محاولة الاستيلاء عليها، فنكل عن أداء الجزية المتفق عليها إلى السيد، وفاوض بيدرو (بطره) ملك أراجون في معاونته على تحقيق مشروعه، وعرض عليه مبلغاً كبيراً من المال، فلما وقف السيد على هذه التطورات انقض بقواته على أرض السهلة، وعاث فيها، وانتسف الزروع واستاق الماشية، وسبى جموعاً كبيرة، وبعث الجميع إلى " جُبالة " على مقربة من بلنسية حيث كان معسكره الرئيسي، وعندئذ اضطر عبد الملك مرة أخرى إلى الخضوع اجتناباً لهذا السيل المدمر، وصوناً لأراضيه ورعيته (1093 م - 486 هـ) (¬1). وفي أواخر حكمه، وقد شاخ يومئذ، وقع عليه حادث اغتيال كاد يودي بحياته. وذلك أن صهره، زوج أخته، عبيد الله حاكم إذكون الواقعة شمال شرقي العاصمة، كان يضمر له الشر، ويود إزالته ليحكم مكانه، فدعاه ذات يوم إلى حفل عقده بحصنه، فحضر ومعه جماعة منهم ابن لبون، فلما تمكن الشراب من عبد الملك، وثب به عبيد الله وصحبه فطعنوه بسيوفهم، واتفق أن كانت أخته حاضرة، وهي زوج عبيد الله القاتل، فصعدت إلى شرفة عالية، وصاحت واقتيلاه، فهرع الناس إلى مكان الجريمة، وألفوا عبد الملك وقد أثخن جراحاً، وبه رمق، فأرادوا الفتك بقاتله، فأمرهم بالقبض فقط على عبيد الله وابنه، ثم برىء عبد الملك من جراحه، وخرج دميماً مشوهاً، فأمر بصهره فقطعت يداه ورجلاه، وسملت عيناه، ثم صلب، وقطعت رجل ابنه. وتوفي عبد الملك بعد ذلك بقليل في سنة 496 هـ (1103 م) بعد أن حكم نحو ستين عاماً (¬2). وكان عبد الملك بن رَزين ينظم الشعر، وكان حسبما يصفه ابن بسام شاعراً مجيداً، وهو وصف يأباه عليه ابن حيان، إذ يصف شعره بأنه " أهتف من كل هاتف ". ويقول لنا ابن الأبار " إن ضعيف منظومه أكثر من قويه ". وكان على الرغم من أدبه وشعره، متعسفاً مع الشعراء مقصراً في إجازتهم. ومن نظمه في الفخر وهو ما يصفه ابن حيان بالسخف: أنا ملك تجمع فيّ خمس ... هي للأنام محييٍ مميت هي ذهن وحكمة ومضاء ... وكلام في وقته وسكوت ¬________ (¬1) R.M.Pidal ; ibid ; p. 453-455 (¬2) الحلة السيراء (دوزي) ص 185 و 186. والقاهرة ج 2 ص 114 و 115.

وقوله: يا رب ليل أطال الهجر مدته ... فأيأس القلب عن إدراك منتصفه ليل تطاول حتى قد تبين لي ... عند التأمل أن الدهر من سدفه وقوله في الغزل: أترى الزمان يسرنا بتلاقي ... ويضم مشتاقاً إلى مشتاق وتعض تفاح الخدود شفاهنا ... ونرى منى الإحداق بالأحداق وتعود أنفسنا إلى أجسامها ... فلطالما شردت على الآفاق (¬1) وخلف عبد الملك بن رزين ولده يحيى الملقب بحسام الدولة، وكان أميراً عاجزاً ضعيف العقل، مدمناً للشراب، وكان يسعى إلى مصانعة ملك قشتالة ألفونسو السادس، والتماس مودته، واجتناب سطوته، فبعث إليه بهدية حافلة من الحلي والخيل والبغال، ومختلف التحف النادرة، فكافأه عنها ألفونسو بأن بعث إليه قرداً هدية منه إليه. فكان يحيى لسخفه وسقم عقله، يفخر باقتناء هذا القرد، ويفخر بأن هاداه ملك قشتالة (¬2). والواقع أن مُلك بني رزين كان يدنو عندئذ من نهايته بسرعة. ذلك أن المرابطين كانوا قد اجتاحوا يومئذ شرقي الأندلس كله، وتوجوا سلطانهم في تلك المنطقة بالاستيلاء على بلنسية في شعبان سنة 495 هـ (1102 م)، وأخذوا يضعون خططهم للاستيلاء على قواعد الثغر الأعلى. وكان عبد الملك بن رزين. قد أعلن قبيل وفاته طاعته لأمير المسلمين يوسف بن تاشفين (¬3)، ولكن هذا الاعتراف لم يكن كافياً لتحقيق خطة المرابطين في القضاء على سائر دول الطوائف. ومن ثم فقد تابع المرابطون زحفهم نحو الشمال، وفي اليوم الثامن من رجب سنة 497 هـ (إبريل 1104 م) دخل المرابطون مدينة شنتمرية، وخلعوا أميرها يحيى بن عبد الملك بن رزين، وانتهت بذلك دولة بني رزين الصغيرة بعد أن عاشت زهاء تسعين عاماً، ولم يبق من بعدها من دول الطوائف العديدة سوى مملكة سرقسطة، وقد كانت هي الأخرى تدنو سراعاً من الخاتمة المحتومة. ¬_______ (¬1) راجع الذخيرة - القسم الثالث - المخطوط لوحة 21 أوب، والحلة السيراء ص 182 و183، والبيان المغرب ج 3 ص 184 و 309 و 310، وقلائد العقيان ص 53 - 56، وقد ورد بها الكثير من شعر ابن رزين. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 311. وينسب دوزي هذه الواقعة إلى عبد الملك بن هذيل، ويقول لنا إنه حمل هديته بنفسه إلى ألفونسو وهو مشرف على أخذ طليطلة: Hist.V.III.p. 121 (¬3) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 182. والقاهرة ج 2 ص 110.

الفصل الرابع إمارة ألبونت

الفصل الرابع إمارة ألبونت ألبونت وموقعها. قيام عبد الله بن قاسم بها. انضواؤه تحت لواء الخلافة الأموية. إيواؤه للمرتضي وأخيه المعتد بالله قبل توليهما للخلافة. وفاة عبد الله وقيام ولده محمد مكانه. تلقبه بيمن الدولة. ولده أحمد بن محمد الملقب بعز الدولة. وفاته وولاية ولده الطفل. خلع الأمير الطفل وولاية عمه عبد الله بن محمد. حكمه الطويل. زحف السيد على ألبونت. خضوع عبد الله واعترافه بطاعة ملك قشتالة وأداؤه الجزية. استيلاء المرابطين على ألبونت. عبد الله بن محمد ومواهبه الأدبية والشعرية. على مقربة من شنتمرية الشرق، وإلى الجنوب الشرقي منها، كانت تقع إمارة صغيرة أخرى من إمارات الطوائف، هي إمارة ألبونت أو ألبنت. وتقع مدينة ألبونت (¬1) هذه، في وسط الطريق بين قسطلونة وقونقة، على مقربة من نهر طورية في حمى الجبال. وقد قام بها منذ بداية الفتنة عبد الله بن قاسم الفهري، وهو من زعماء البيوت العربية في تلك المنطقة، فحكمها واستقل بها وبما حولها من الأراضي. وقد كان بنو قاسم هؤلاء من نسل عبد الملك بن قطن الفهري، الذي ولى إمارة الأندلس عقب موقعة بلاط الشهداء، ومقتل أمير الأندلس عبد الرحمن الغافقي، وذلك في أواخر سنة 114 هـ (732 م) (¬2). ولم يشترك عبد الله في شىء من الحوادث، التي كانت تجري يومئذ، في شرقي الأندلس أو جنوبه، نظراً لبعد إمارته عن مصرح الحوادث. بيد أنه كان من أنصار الخلافة الأموية، يعترف بطاعتها ويدعو لها، مع طائفة الفتيان العامريين. وكانت بلدة ألبونت منزل عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الناصر، وأخيه هشام، يعيشان في كنفه، وتحت رعايته، ومن ألبونت خرج عبد الرحمن حينما رشحه خيران وزملاؤه الفتيان العامريون للخلافة، باسم المرتضي. ولما قتل المرتضي في المعركة التي نشبت بين أنصاره، وبين البربر أمام غرناطة، في سنة 409 هـ، لجأ أخوه هشام إلى حماية عبد الله بن قاسم، ولبث في ألبونت ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Alpuente (¬2) المقري نقلا عن الحجاري في نفح الطيب ج 2 ص 58.

حتى اختاره أهل قرطبة للخلافة، وذلك في ربيع الآخر سنة 418 هـ، وعندئذ تلقب بالمعتد بالله، ولبث مقيماً في ألبونت مدة عامين وسبعة أشهر، وهو يخطب له في قرطبة. ثم سار بعدئذ إلى قرطبة، ودخلها في ذي الحجة سنة 420 هـ، حيث جددت له البيعة، واستمر في كرسي الخلافة عامين آخرين (¬1). واستمر عبد الله بن قاسم في حكم إمارته الصغيرة، حتى توفي سنة 421 هـ (1030 م)، فخلفه ولده محمد بن عبد الله الملقب بيمن الدولة، وحكم ألبونت زهاء اثنتى عشرة عاماً. ولم تدون لنا الرواية أية حوادث وقعت في عهده. ولما توفي في سنة 434 هـ (1042 م)، خلفه في الحكم ولده أحمد بن محمد بن عبد الله الملقب بعز الدولة، وحكم حتى وفاته في سنة 440 هـ (1048 م)، فأقام بعض أصحابه للحكم مكانه ولده الطفل محمداً، وكان في نحو السابعة من عمره، وقام بالوصاية عليه جده لأمه المدعو قاسم، وهو الذي دبر ولاية الأمير الطفل. ولكن هذا العمل لم يرق في نظر عبد الله بن محمد عم الأمير الطفل، وأخى والده أحمد، وكان يرى نفسه أحق بالولاية، وتؤازره في ذلك جماعة قوية من الأنصار، فدبروا أمرهم ووثبوا بالوصي قاسم واعتقلوه، وصرف الأمير الصبي إلى حجر أمه، ولما يمض على حكمه بضعة أشهر، وتسلم عبد الله مقاليد الحكم وتلقب بجناح الدولة، أو نظام الدولة وفقاً لرواية أخرى، وتزوج من والدة الصبي أرملة أخيه اتقاء لأطماعها ودسائسها، وسار في حكم الإمارة دون منازع. واستمر عبد الله بن محمد في حكم إمارة البونت أكثر من أربعين عاماً، ولم تقع في عهده الطويل حوادث ذات شأن، إلا حينما غدت هذه المنطقة كلها فريسة لعدوان السيد إلكمبيادور ومغامراته، حسبما فصلنا ذلك من قبل في تاريخ مملكة بلنسية. ففي سنة 482 هـ (1089 م) زحف السيد بقواته على إمارة ألبونت وعاث فيها وخرب أراضيها، واضطر صاحبها عبد الله بن محمد إلى الاعتراف بطاعة ملك قشتالة، وإلى أن يؤدي جزية قدرها عشرة آلاف دينار، وذلك أسوة بما فرض على جاره أبي مروان بن زرين صاحب شنتمرية الشرق. ولما استولى المرابطون على بلنسية في سنة 495 هـ (1102 م)، استولوا ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب ج 3 ص 127 و 145.

بسرعة على معظم القواعد والحصون الواقعة في تلك المنطقة، ومنها ألبونت. وفي رواية أخرى أن آل قاسم أصحاب ألبونت استمروا في حكمها حتى سنة 500 هـ (1106 م) (¬1). ولكن الرواية الأولى أرجح فيما يبدو، لأن المرابطين استولوا على شنتمرية الشرق في سنة 497 هـ، وأغلب الظن أنهم استولوا قبل ذلك على ألبونت الواقعة في جنوبها، وذلك في سنة 496 هـ (1103 م) (¬2). وكان الأمير عبد الله بن محمد قاسم أديباً شاعراً جيد النثر والنظم، وقد أورد له الحجاري صاحب " المسهب " هذه الأبيات: خلعت عن الملك لكنني ... عن الصبر والمجد لا أخلع رماني الزمان بأرزائه ... وغيري من خطبه يجزع فليس فؤادي بالملتظى ... ولا مقلتي حسرة تدمع ولي أمل ليته لم يكن ... فكم ذا يغر وكم يخدع ومن قوله من قصيدة: أما لكل نبيه في العلا حيل ... تفضي الحقوق بها والمرء منقبض كن كيف شئت فمن دأبي محافظة ... على الذمام وعهد ليس ينتقض وهمة لم تضق ذرعاً بحادثة ... إن الكريم على العلات ينتهض والحر حر وصنع الله منتظر ... والذكر يبقى وعمر المرء ينقرض (¬3) ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 215. (¬2) راجع في أخبار إمارة ألبونت: البيان المغرب ج 3 ص 127 و 145 و 215، وأعمال الأعلام ص 208. وكذلك: R.M.Pidal ; ibid.p. 360 & 448 (¬3) راجع في رسائل عبد الله وقصائده: قلائد العقيان ص 127 - 132؛ والمغرب في حلي المغرب ج 2 ص 396 - 398.

الكتاب الخامس دول الطوائف فى الثغر الأعلى

الكتاب الخامِس دول الطوائف في الثغر الأعلى

الفصل الأول مملكة سرقسطة

الفصْل الأوّل مملكة سرقسطة حتى نهاية عصر المقتدر بن هود 1 - عهد بني تجيب مملكة سرقسطة أو الثغر الأعلى. بنو تجيب وتغلبهم عليه. مؤامرة عبد الرحمن التجيبي ضد المنصور وفشلها. ولده يحيى. المنذر بن يحيى وإمارته للثغر. تأييده للخلافة الأموية. محاربته مع الفتيان العامريين. تدخله في حوادث بلنسية. مسالمته للملوك النصارى. بذخه وأبهته، مديح ابن دراج له. ولده يحيى. منذر بن يحيى الحاجب. مصرعه على يد سليمان بن حكيم. الفتنة في سرقسطة. سليمان بن هود. استيلاؤه على سرقسطة وبداية عهد بني هود. تلقبه بالمستعين. حروبه مع المأمون بن ذى النون. استغاثته بملك قشتالة. استعانة المأمون بملك نافار. تفاقم العدوان بين الفريقين. وفاة المستعين. تقسيمه لمملكته بين أولاده. الحرب الأهلية بينهم. أحمد بن هود المقتدر. الصراع بينه وبين أخيه المظفر. كمينه لقوات أخيه وفتكه بها. إستيلاء المقتدر على طرطوشة. طرطوشة تحت حكم الفتيان العامريين. غزوة النورمانيين لبربشتر. أصل هذه الحملة وظروفها. صفتها الصليبية. حصار النورمانيين لبربشتر واقتحامهم لها. فظائع النورمانيين وفتكهم بأهلها. رواية ابن حيان. فداحة الغنائم والسبايا. تأملات ابن حيان عن الحادث. نظراته وتكهناته البعيدة. صدى النكبة في الأندلس. نهوض المقتدر لاسترداد بربشتر وتقاطر المجاهدين إليها. استيلاء المقتدر على المدينة. الفتك بالنصارى وإبادتهم. إعتداء فرناندو ملك قشتالة على أعمال سرقسطة. خضوع المقتدر لأداء الجزية. المقتدر وعلاقته بالملوك النصارى. استعانته بهم. مشاريعه العسكرية. المقتدر وأخوه يوسف المظفر. السيد إلكمبيادور في خدمة المقتدر. استيلاء المقتدر على مملكة دانية. وفاة المقتدر. تقسيمه للمملكة بين ولديه. صفات المقتدر بن هود وخلاله. شغفه بالعلوم الرياضية. فخامة بلاطه. إنشاؤه لقصر الجعفرية ومجلس الذهب. كانت مملكة سرقسطة أو الثغر الأعلى أعظم ممالك الطوائف وأهمها، ليس فقط بضخامة رقعتها، ولكن كذلك بموقعها الدقيق الخطر، بين الدول الإسبانية النصرانية، بين قطلونية من الشرق، ونافارا أو نبرّه من الشمال الغربي، وقشتالة من الجنوب والغرب، وكانت في الوقت نفسه أقدم الدول الأندلسية المستقلة، وأرسخها جذوراً في الاستقلال. ذلك أنها كانت بموقعها المنعزل النائي في شمال شرقي الجزيرة، وابتعادها بذلك عن مجموعة الدول الأندلسية

الأخرى، تضطر دائماً إلى مضاعفة الجهود للذود عن حياتها، والدفاع عن استقلالها ضد مختلف الأطماع المضطرمة من حولها. وكانت مملكة سرقسطة، قبل اضطرام الفتنة وانهيار الخلافة، وقبل أن تنتظم في سلك ممالك الطوائف، تعرف بولاية الثغر الأعلى، وهو يشمل في الجغرافية الأندلسية، مدينة سرقسطة وأعمالها، تطيلة، ووشقة، وبربشتر، ولاردة، وأفراغة، وطرّكونة، وطرطوشة، ويشغل المنطقة الواسعة الخصبة التي يخترقها نهر إيبرو (إبرُه) من مصبه عند مدينة طرطوشة، حتى مدخله عند مدينة قلهرّة في ولاية نافار، ويخترقها فرعه الشمالي الكبير نهر سجري والأفرع الصغيرة الممتدة منه نحو بربشتر ووشقة، وفرعه الجنوبي خالون حتى قلعة أيوب ودَروقة: ففي هذه المنطقة الشاسعة التي تكثر فيها الوديان اليانعة والمواقع الاستراتيجية، كانت تقوم مملكة سرقسطة مكان ولاية الثغر الأعلى القديمة، مشتملة على سائر نواحيها. وقد لبثت ولاية الثغر الأعلى خلال القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) مسرحاً لمغامرات بني قسيّ زعماء الثغر المولدين، حسبما فصلنا ذلك في مواضعه من العصر الأول (¬1). وفي أواخر هذا القرن، في عهد الأمير عبد الله بن محمد، استطاع بنو تجيب أصحاب دروقة وقلعة أيوب من أعمال الثغر الجنوبية، الاستيلاء على مدينة سرقسطة، وذلك على يد زعيمهم أبي يحيى محمد بن عبد الرحمن التجيبي المعروف بالأنقر. وأقره الأمير عبد الله على حكم سرقسطة وأعمالها اكتساباً لولائه، وكان بنو تجيب هؤلاء من زعماء البيوتات العربية العريقة في الثغر، واستمر بنو تجيب في سرقسطة، والمنتزون من زعماء المولدين في باقي قواعد الثغر مثل تطيلة ووشقة، أحياناً على ولائهم لحكومة قرطبة، وأحياناً يخرجون على طاعتها، حتى استطاع الناصر أن يقضي على ثوراتهم، وأن يرغمهم على الخضوع والطاعة، بيد أنه عفا عن بني تجيب، ورد زعيمهم محمد ابن هشام التجيبي إلى منصبه حاكماً لسرقسطة، لما كان يتمتع به من مقدرة إدارية، ولما كان لبني تجيب في الشمال من العصبة والأنصار. ¬_______ (¬1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " (العصر الأول).

وفي أيام المنصور بن أبي عامر، شعر بنو تجيب بما يهدد سيادتهم في الثغر من اتجاه المنصور إلى القضاء على سلطان الأسر العربية، وزعامتها المحلية، فحاول زعيمهم يومئذ وهو عبد الرحمن بن مطرِّف التجيبي، صاحب سرقسطة أن يسعى إلى إزالة المنصور بالتآمر مع ولده عبد الله. وقد فصلنا أخبار هذه المؤامرة فيما تقدم من أخبار الدولة العامرية (¬1)، وبينا كيف استطاع المنصور أن يقبض على عبد الرحمن التجيبي، وعلى عبد الله، ثم قضى بإعدامهما، بيد أنه مع ذلك ندب لحكم سرقسطة، يحيى بن عبد الرحمن التجيبي استبقاء لولاء الأسرة جرياً على سياسة أسلافه، وذلك في سنة 379 هـ (989 م). واستمر يحيى التجيبي في حكم سرقسطة وأعمالها حتى وفاته في سنة 408 هـ (1017 م)، وشهد قبل وفاته اضطرام الفتنة، وانهيار الخلافة، وتمزق الأندلس، وكان جل عنايته في تلك الآونة العصيبة أن يحافظ على بلاده من عدوان النصارى، وأن يوطد سلطانه في مملكته النائية المنعزلة عن مسرح الحوادث. ولما توفي، خلفه ولده المنذر بن يحيى التجيبي. ويمكننا أن نعتبر المنذر بن يحيى التجيبي أول أمير للثغر في عهد الطوائف. حكم سرقسطة وأعمالها، وتسمى بالحاجب ذي الرياستين، وتلقب من الألقاب السلطانية بالمنصور، ولما تطورت الحوادث في قرطبة ودخلها علي بن حمود بحجة إنقاذ الخليفة هشام المؤيد، ودعا لنفسه بالخلافة، كان المنذر بن يحيى إلى جانب خيران وزملائه الفتيان العامريين في معارضته ومقاومته. ولما رشح هؤلاء للخلافة عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن الناصر، وتلقب بالمرتضي، وساروا معه هم وأنصارهم في قواتهم لمقاتلة البربر، وخلع علي بن حمود، سار معهم المنذر بن يحيى في بعض قواته، ومعه فرقة من المرتزقة النصارى بقيادة حليفه الكونت رامون أمير برشلونة، وكان من ضباطه في تلك الحملة رجل كان له فيما بعد أكبر شأن في تطور الحوادث في الثغر الأعلى هو سليمان بن هود. ونحن نعرف ما أسفرت عنه المعركة التي اضطرمت يومئذ في ظاهر غرناطة بين القوات الأندلسية، وجيش البربر بقيادة زاوي بن زيري الصنهاجي، وكيف ¬_______ (¬1) راجع " دولة الإسلام في الأندلس " (العصر الأول).

انتهت بهزيمة أهل الأندلس، ومقتل مرشحهم الخليفة المرتضي (409 هـ - 1018 م) (¬1). وعاد المنذر وحلفاؤه النصارى إلى الشمال، وقد أيقن أنه يؤازر قضية خاسرة، وكانت حوادث بلنسية تؤذن يومئذ بأن تفتح ميداناً جديداً لنشاط المنذر. ذلك أنه لما توفي أميرها الفتى مبارك في أواخر سنة 408 هـ، وخلفه في حكمها الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة بدعوة من أهلها، ثم شاركه في حكمها مجاهد العامري صاحب دانية حسبما فصلنا ذلك في موضعه، عاد أهل بلنسية فسخطوا على لبيب، لوقوعه تحت نفوذ صاحب برشلونة الكونت رامون برنجير، وإفساحه له مجال التدخل في شئونها بصورة ظاهرة، وثاروا عليه، ففر لبيب إلى طرطوشة، واستمر مجاهد في حكم المدينة بالإضافة لحكم دانية. ولكن أهل بلنسية لم يقنعوا بذلك، واستدعوا لحكم المدينة المنذر بن يحيى، فسار في بعض قواته صوب بلنسية، واستعد مجاهد للقائه، ووقعت بينهما بعض معارك خشى الناس عواقبها، ولم ينقذ ذلك الموقف إلا ما عمد إليه الفتيان العامريون من الاجتماع، وعقد البيعة لحفيد مولاهم عبد العزيز بن عبد الرحمن ابن المنصور، وتعيينه أميراً لبلنسية، وذلك في سنة 411 هـ (1021م) وعندئذ انسحب مجاهد إلى دانية، وعاد المنذر إلى سرقسطة (¬2). واستمر المنذر في حكم مملكة سرقسطة ثلاثة أعوام أخر حتى توفي في سنة 414 هـ (1023 م). وكانت تربط المنذر بجيرانه الأمراء النصارى، ولاسيما رامون بوريل أمير برشلونة علائق مودة وثيقة، وكذلك كانت تربطه مثل هذه العلائق بسانشو الكبير (شانجه) ملك نافار وولده فرناندو الأول ملك قشتالة، وألفونسو الخامس ملك ليون. وقد بالغ المنذر فيما يبدو في صداقته لأولئك الملوك النصارى، حتى أنه نظم في قصره بسرقسطة، حفلا لعقد المصاهرة بين أميرين من أولئك الأمراء، هما سانشو ملك نافار ورامون بوريل أمير برشلونة، حضره الفقهاء والقساوسة وأعيان الملتين، فسخط عليه الناس من أجل ذلك، ورموه بألسنة حداد، بيد أنه قد حقق بهذه السياسة لنفسه مسالمة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 126 و 127. وراجع Dozy: Hist.V.II.p 315-318 (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 163 و 164.

أولئك الملوك النصارى، وكف عاديتهم عن بلاده، بل لقد استطاع أن يحملهم على اتباع سياسة الموادعة والسلم مع جيرانهم من الملوك المسلمين. ومن ثم فقد تمتعت سرقسطة في عهده القصير بفترة من الدعة والرخاء، وغدت باتساع عمرانها وتقدم أحوالها، شبيهة بحضرة قرطبة الكبرى أيام الجماعة، وأدرك الناس بعد وفاته، بعد نظره وحسن تقديره للعواقب (¬1). وكان المنذر فوق ذلك يعشق الأبهة والبذخ، فملأ قصره الفخم بالجواري والغلمان والحشم، ونفيس الذخائر والتحف، وكان يتحف أصدقاءه ملوك النصارى بالهدايا الفاخرة، ويؤكد بذلك مودتهم ورضاهم وكان بين وزرائه بعض أكابر كتاب العصر، مثل أبى العباس بن مروس من تدمير، وأبى عامر ابن أزرق، وابن واجب وغيرهم. وأنشأ شاعر العصر أبو عمر بن درّاج القسطلي في مديح المنذر حينما وفد عليه قصيدته المشهورة التي مطلعها: ْبشراك من طول الترحل والسُّرى ... صبح بروح السَّفر لاح فأسفرا من حاجب الشمس الذي حجب الدجى ... فجرا بأنهار الندى متفجرا ومنها: فلئن تركت الليل فوقي داجياً ... فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا وحللت أرضاً بُدلت حصباؤها ... ذهباً يرف لناظريّ وجوهرا ضربوا قِداحهم عليّ ففاز بي ... من كان بالقِدْح المعلّى أجدرا (¬2) ولما توفي المنذر، خلفه ولده يحيى، وتلقب بالمظفر، وحكم سرقسطة وأعمالها بضعة أعوام أخرى، وتوفي سنة 420 هـ (1029 م). والظاهر أنه لم يحكم سياسة الصداقة التي كان يتبعها أبوه مع جيرانه أمراء برشلونة، حيث أغار صاحبها الكونت رامون بوريل على بعض أطراف مملكته، واضطر أن ينزل له عن بعض القلاع والحصون. وخلفه في الملك ولده المنذر بن يحيى، وتلقب بالحاجب معز الدولة. ولسنا نعرف شيئاً عن أعمال هذا الأمير في المدة التي حكمها، وهي نحو عشرة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 176 و 177، وابن خلدون ج 4 ص 163. وراجع دوزي Recherches, V.I.App.XIV & XVII (¬2) وهي قصيدة طويلة رائعة. وقد وردت في ديوان ابن دراج الذي سبقت الإشارة إليه ص 124 - 130. وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة منها مقتطفات طويلة (الذخيرة - القسم الأول المجلد الأول - ص 56 - 58).

أعوام. بيد أن لدينا تفاصيل مقتله، وذهاب ملك بني تجيب على يده. وكان ذلك في غرة ذي الحجة سنة 430 هـ (أغسطس 1039 م) حينما نفذ إلى قصره في ذلك اليوم رجل من بني عمومته وقواده يدعى عبد الله بن حكيم، جاء بزعم السلام عليه، وكان يضمر له السوء منذ بعيد. وكان المنذر يجلس بين نفر قليل من خدمه الصقالبة، وليس عليه إلا غلالة، وهو يقرأ في كتاب في يده، فانقض عليه وطعنه في عنقه بسكين كان قد أعده، فقطع أوداجه، وفر الخدم في الحال ولم يبق منهم إلا خادم واحد شهم حاول الدفاع عن سيده، فصرعه عبد الله بخنجره ثم أجهز على منذر، واحتز رأسه، وأبرزها من غرفة في القصر مرفوعة على عصا، وهو يصيح هذا جزاء من عصى أمير المؤمنين هشاماً، يريد بذلك الدّعي الذي نصبه القاضي ابن عباد في إشبيلية، وزعم أنه الخليفة هشاماً المؤيد، وذلك في سنة 426 هـ (1035 م)، واعترف بخلافته عدد من أمراء الطوائف، ورفض يحيى التجيبي يومئذ الاعتراف به، وتابعه في ذلك ولده المنذر. ولما شهد الناس رأس منذر بهتوا وعقد الذعر ألسنتهم، وأرسل القاتل في الحال إلى القاضي والأعيان، فحضروا إلى القصر والقاتل جالس على فراش قتيله، وجثة منذر مضرجة بدمائها ملقاة إلى جانبه، فأعلن لهم أنه فعل ما فعل في سبيل الإصلاح العام، ودعا بالحكم لسليمان بن هود، وقيل بل دعا لنفسه واختاره بنو عمه للولاية فانصرف الناس، وقد بيتوا القضاء عليه. وفي تلك الأثناء كان نبأ مصرع المنذر بن يحيى التجيبي قد ذاع في كل مكان، وهرع خاله إسماعيل بن ذى النون صاحب طليطلة إلى سرقسطة لتدارك الأمر، واشتد الهرج في سرقسطة، وكادت تعصف بها الفتنة، وهجم الناس على القصر لانتزاع القاتل ومعاقبته، فتحصن بالقصبة، وصمم على الدفاع عن نفسه، بيد أنه لما أيقن أنه سوف يقع في أيدي مهاجميه لا محالة، جمع ما استطاع من ذخائر القصر وتحفه، وخرج هارباً من باب خلفي في القصر، ولحق بقلعة روطة أحد معاقل سرقسطة المنيعة، وكان قد أعدها لذلك بمعاونة نفر من صحبه، وحمل معه في نفس الوقت أخوين للمنذر، وبعض أعيان منهم وزيره أبو المغيرة بن حزم، في الأصفاد ليكونوا رهائن لديه، واقتحم العامة قصر سرقسطة ونهبوه وخربوه، وعم الهرج والفوضى.

وفي تلك الآونة ظهر في الميدان رجل، كانت تدخره الأقدار ليقمع الفتنة، وينتزع مقاليد الحكم. ذلك الرجل هو أبو أيوب سليمان بن محمد بن هود الجذامي، وهو كبني تجيب ينتمي إلى بيت عربي عريق، وجدهم الأعلى هو هود وهو الداخل إلى الأندلس وينتسب إلى الأزد. وكان سليمان وقت وقوع الفتنة من كبار الجند بالثغر الأعلى، فغلب على مدينة لاردة، وقتل صاحبها يومئذ، وهو أبو المطرِّف التجيبي، ثم غلب على تُطيلة من أطراف الثغر، وكان بها في جمع من صحبه وقت مقتل المنذر التجيبي، فلما وقف على ما حدث بسرقسطة، هرع إليها في صحبه، وقيل بل كان وقت وقوع الحادث بمدينة لاردة، وأن أهل سرقسطة هم الذين استدعوه للحضور. ويقدم لنا ابن خلدون رواية أخرى خلاصتها أن سليمان بن هود هو الذي ارتكب جريمة سرقسطة، وأن الملك القتيل لم يكن هو المنذر معز الدولة، وإنما كان أبوه يحيى المظفر، وهو الذي كان يحكم يومئذ، ويضع تاريخ هذا الحادث في سنة 431 هـ (¬1). ولم يذكر ابن الخطيب واقعة القتل، ويقول لنا إن أهل سرقسطة هم الذين ثاروا بيحيى بن المنذر بن يحيى، وصرفوا طاعتها إلى سليمان بن هود (¬2). بيد أن هاتين الروايتين تنقضهما رواية ابن حيان المعاصرة، وهي التي اتبعناها فيما تقدم، وهي رواية يؤيدها صاحب البيان المغرب (¬3). وعلى أي حال فقد هرع سليمان بن هود في صحبه إلى سرقسطة، واستولى عليها في غرة المحرم سنة 431 هـ (23 سبتمبر سنة 1039 م) وسواء أكان استيلاؤه عليها نتيجة لدعوة أهلها، واختيارهم إياه لولايتها، أم كان عملا من أعمال القوة وهو الأرجح، فإن الواقع أنه استولى على مقاليد الحكم دون منازع، وبذلك انتهت رياسة التجيبيين للثغر الأعلى، بعد أن لبثت زهاء قرن ونصف، وبدأت في سرقسطة والثغر الأعلى رياسة أسرة جديدة هي أسرة بني هود، التي يخصها ابن الأبار دون غيرها من أسر الطوائف، بغلبة الشجاعة والشهامة عليها (¬4). ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 163. (¬2) أعمال الأعلام ص 170. (¬3) راجع رواية ابن حيان مفصلة في البيان المغرب ج 3 ص 178 - 181، وقد عاد صاحب البيان فأورد رواية مماثلة: ج 3 ص 221 و 222. (¬4) الحلة السيراء (دوزي) ص 224. والقاهرة ج 2 ص 246.

والتي لعبت في عصر الطوائف، ولاسيما في حوادث الثغر الأعلى وشرقي الأندلس، أعظم دور. 2 - عهد بني هود جلس سليمان بن محمد بن هود على عرش سرقسطة في غرة المحرم سنة 431 هـ وحكم الثغر الأعلى ما عدا طرطوشة، التي كانت بيد بعض الفتيان العامريين، واتخذ من الألقاب السلطانية لقب المستعين بالله، وظهر منذ البداية بقوة عزمه وشدة بأسه، فاشتهر أمره، وتوطد ملكه بسرعة، واستمر في حكم مملكته الجديدة ثمانية أعوام. وكان أهم ما وقع فيها حروبه مع المأمون بن ذى النون. وكانت المنطقة الواقعة بين المملكتين، من ناحية الجنوب الغربي من مملكة سرقسطة وناحية الشمال الشرقي من مملكة طليطلة، موضع الاحتكاك بين الفريقين. وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن بني ذى النون كانوا خؤولة للمنذر بن يحيى آخر أمراء سرقسطة من بني تجيب، وهو الذي احتل سليمان بن هود عرشه، فكان ذلك عاملا آخر في اشتداد هذه الخصومة. ووقعت المعارك بين الطرفين أولا حول مدينة وادي الحجارة، وقد كانت من أعمال طليطلة، فبعث إليها سليمان بن هود ولده أحمد في جيش قوي فنازلها واحتلها، وذلك في سنة 436 هـ (1044 م)، وهرع إليها المأمون بن ذى النون في قواته، ونشبت بين الجيشين معارك هزم فيها ابن ذى النون، فارتد في قواته إلى طلبيرة، وابن هود يطارده، ويشدد الضغط عليه، ولم ينج المأمون من هذا المأزق إلا حينما أمر سليمان ولده أحمد بتركه وشأنه. وقد فصلنا فيما تقدم من أخبار مملكة طليطلة حوادث هذا النزاع، وبينا كيف لجأ المأمون على أثر هزيمته إلى فرناندو الأول ملك قشتالة، فاستغاث به واعترف بطاعته، وكيف أمده فرناندو بجنده، فعاثت في أراضي مملكة سرقسطة وخربتها، وعندئذ التجأ ابن هود بدوره إلى الاستعانة بملك قشتالة، وبذل له أموالا وتحفاً جليلة، فبعث فرناندو جنوده فعاثت في أراضي طليطلة حتى وادي الحجارة وقلعة النهر (قلعة هنارس). ورد المأمون على ذلك بأن التجأ إلى غرسية ملك نافار واستماله بالأموال الجليلة، فأغار على أراضي مملكة سرقسطة المجاورة له ورد ملك قشتالة على ذلك بالإغارة على أراضي طليطلة مرة أخرى. وهكذا تفاقمت هذه الحرب الأهلية المدمرة بين ابن هود والمأمون " الأميرين المشئومين

على المسلمين " وفقاً لقول ابن حيان، وضج لها سائر أهل الأندلس. واستمر ملكا قشتالة، ونافار، يعملان بكل ما وسعا على إذكاء هذه الفتنة، فيغير الأول على أراضي طليطلة لحساب ابن هود، ويغير الثاني على أراضي سرقسطة لحساب ابن ذى النون.، ولم تخمد هذه المعركة الانتحارية بين الأميرين المسلمين إلا بوفاة ابن هود وذلك في سنة 438 هـ (1046 م)، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل (¬1). وقسم سليمان بن هود قبيل وفاته أعمال مملكته بين أولاده الخمسة، فاختص أحمد بولاية سرقسطة عاصمة المملكة، ويوسف بولاية لاردة، ولب بولاية وشقة، والمنذر بولاية تُطيلة، ومحمد بولاية قلعة أيوب (¬2)، واستقل كل بحكم مدينته وأعمالها. بيد أن تقسيم المملكة على هذا النحو لم يكن عملا سليماً، وكان بالعكس نذيراً بالخلاف والحرب الأهلية. وكان أحمد صاحب سرقسطة وهو الملقب بالمقتدر من بين إخوته الخمسة أشدهم أطماعاً، وأنشطهم سعياً إلى انتزاع ما في أيديهم. وقد استطاع بالفعل أن يحتال على ثلاثة من أخوته بالوعيد والختل، وهم ْلب صاحب وشقة، والمنذر صاحب تُطيلة، ومحمد صاحب قلعة أيوب، وأن يستولي على مدنهم، ثم سجنهم، وبلغت به القسوة أن سمل أعينهم. بيد أن أخاه يوسف صاحب لاردة، وهو الملقب بحسام الدولة وبالمظفر، كان له نداً، وكان بطلا شهماً، وهو الذي استطاع وحده أن يقف في سبيل أطماعه، وأن يحبط محاولاته ودسائسه. وهنا وقعت الحرب الأهلية بين الأخوين، وكان أهل الثغر حينما رأوا ما صنعه أحمد بأخوته، وما لجأ إليه من الوسائل الغاشمة في اغتصاب ولاياتهم، قد سخطوا عليه ونادوا بخلعه، وخرجت معظم القواعد عن طاعته، وانضمت إلى أخيه، ولم يتبق له سوى سرقسطة. فأخذ يرقب فرصة للتنكيل بأخيه، وسنحت هذه الفرصة غير بعيد. ذلك أن مدينة تطيلة، وهي من القواعد التي انضمت إلى يوسف المظفر، دهمتها المجاعة والغلاء، فاستغاث به أهلها، فدعا أهل الثغور إلى جمع الأطعمة والمؤن، فاجتمع منها قدر عظيم، ورأى يوسف ¬_______ (¬1) راجع في أدوار تلك المعركة البيان المغرب ج 3 ص 277 - 283، وأعمال الأعلام ص 178. وكذلك Dozy: Histoire V.III.p. 74 & 75 (¬2) تسمى وشقة بالإسبانية Huesca، وتطيلة Tudela، وقلعة أيوب Calatayud

أنه لا يستطيع إرسال هذه الأمداد إلى تطيلة عن طريق سرقسطة خوفاً من غدر أخيه، ففاوض غرسية ملك نافار، وبعث إليه مالا لكي يسمح بمرور هذه المؤن عبر أراضيه إلى تطيلة، فأجابه إلى طلبه. وعلم أحمد بذلك فبعث سراً إلى غرسية، يبذل له ضعف الأموال التي بعثها إليه أخوه، على أن يمكنه من الفتك بقافلة المؤن حين مرورها داخل أرضه، فاستجاب الملك النصراني إلى ذلك الإغراء الدنىء، وتم ما دبره أحمد. ذلك أن قافلة المؤن، وكانت تتكون من بضع آلاف من الجند، وعدد كبير من الخيل والدواب، ما كادت تجوز أراضي نافار، شمالي شرقي تطيلة، حتى دهمتها قوات أحمد المقتدر التي رتبها بممالأة غرسية، وفتكت بها، وأبيد معظم رجالها قتلا وأسراً، واستولى النصارى على أسلابهم، وما كان معهم من المؤن، ولم ينج منهم سوى القليل، وكانت واقعة شنيعة تنبىء عما كانت تنطوي عليه طبيعة أحمد المقتدر من صفات الغدر والاستهتار. وكان من أثرها، أن ضعف أمر يوسف، وتوطد سلطان أحمد، واشتد بأسه، وهابه الناس، واسترد القواعد التي كانت تحت يده (¬1). وكانت ضربة المقتدر التالية، استيلاؤه على ثغر طرطوشة. وكان هذا الثغر الذي يعتبر مخرج سرقسطة إلى البحر، اذا استثنينا ثغر طرّكونة الواقع على حدود إمارة برشلونة، والذي كان من أعمال لاردة، كان منذ عهد الفتنة بيد بعض الفتيان العامريين. وكان أول من استولى عليها منهم وحكمها لبيب العامري، وكان حازماً قوي البأس، وحاول المنذر بن يحيى التجيبي أن ينتزعها منه فاستغاث بمبارك صاحب بلنسية فأمده بجنده، ورد عنها المنذر، ولما توفي مبارك في سنة 408 هـ، خلفه لبيب في حكم بلنسية بدعوة من أهلها، ولما اختلف على ذلك مع زميله مجاهد العامري، عاد إلى طرطوشة واستمر في حكمها حتى توفي في 433 هـ (1041 م)، فخلفه في الحكم فتى آخر من الصقالبة العامريين يدعى مقاتل، وتلقب بسيف الملك، واستمر في حكمها حتى وفاته في سنة 445 هـ (1053 م). فخلفه الفتى يعلي من موالي العامريين أيضاً، ثم حكمها من بعده الفتى نبيل. وكان المقتدر بن هود أثناء ذلك ينظر إلى سيطرة أولئك الفتيان الصقالبة على طرطوشة بعين السخط، ويتحين الفرص لانتزاع هذا الثغر ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 223 و 224.

الهام من أعمال مملكته. وأخيراً سنحت هذه الفرصة، حينما اضطرمت طرطوشة ضد الفتى نبيل بالثورة وزحف عليها المقتدر في قواته فسلمها إليه نبيل في الحال وخرج عنها، وانتهت بذلك دولة الفتيان الصقالبة بها (452 هـ - 1060 م) (¬1). * * * على أن أعظم حادث أو بعبارة أخرى أعظم محنة نزلت بالمسلمين في عهد المقتدر بن هود، هو غزو النورمانيين لمدينة بربشتر (¬2)، وفتكهم بأهلها أشنع وأفظع ما سجلت صحف التاريخ. وقد دون لنا ابن حيان، وكان يعيش في قرطبة وقت وقوع هذه المحنة، تفاصيلها بإسهاب، وبعبارات مؤثرة مبكية. ذلك أن حملة كبيرة من النورمانيين (أو الأردمانيين في الرواية العربية) تقدرها الرواية بعشرة آلاف فارس، بقيادة جيوم دي مونري، نزلت بشاطىء قطلونية وسارت نحو الشرق مخترقة أراضي مملكة سرقسطة الشمالية. وقد اختلفت الرواية في تكييف ظروف هذه الحملة وفي مصدر قدومها، وفيمن نظمها وقادها. بيد أنه يستخلص من مختلف الروايات الخاصة بها، أنها حشدت في ولاية نورمانديا الفرنسية، حيث كان النورمان قد استقروا بها قبل ذلك العصر بموافقة ملك فرنسا، وأن أولئك النورمان خرجوا عندئذ في طلب المغامرة والكسب ومعهم جموع كبيرة من الفرسان الفرنسيين. أما قائد الحملة فهو الفارس جيوم دي مونري. وكان جيوم دي مونري هذا من أكابر فرسان عصره، وقد وفد قبل ذلك على إيطاليا في أواسط القرن الحادي عشر، وخدم الكرسي الرسولي حتى أصبح قائد الجيوش الرومانية والبابوية. أما بواعث قيادته لهذه الحملة، ولماذا قصدت إلى شاطىء قطلونية، فمما يحيط به الغموض. على أنه يبدو من جميع الظروف أنها كانت من الحملات الناهبة التي تستتر بالصفة الصليبية، والتي تقصد العيث والنكاية، والغنم والسبي في أراضي المسلمين أينما كانت. ويؤيد البحث الحديث هذه الصفة الصليبية للحملة، ويقول لنا إن الذي دفع إلى إعدادها هو البابا اسكندر الثاني (¬3). والرواية الإسلامية صريحة واضحة في أن هذه الحملة قد قدمت ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 250 و 302، وابن خلدون ج 4 ص 163. وكذلك: P.y Vives: Los Reyes de Taifas ; p. 38 & 39 (¬2) هي بالإسبانية: Berbastro (¬3) I.de las Cagigas: Los Mozarabes p. 453

من فرنسا. فهي تقول لنا " إن الفرنج خرجوا من الأرض الكبيرة (أي فرنسا) إلى الأندلس في جموع كبيرة ليس لها حد، ولا يحصى لها عدد إلا الله، وانتشروا على ثغور سرقسطة " (¬1) ثم إنه ليس من الواضح أيضاً ما إذا كانت هذه الحملة قد عبرت إلى اسبانيا من طريق جبال البرنيه، أن جازت إلى قطلونية بطريق البحر. وعلى أي حال فقد نزل أولئك النورمان في قطلونية واجتازوا إلى أراضي مملكة سرقسطة، إذ كانت تحمي مؤخرتها أرض نصرانية هي مملكة برشلونة. وقصدوا أولا إلى مدينة وشقة إحدى قواعد سرقسطة الرئيسية، فنازلوها أياماً، ولما لم ينالوا منها مأرباً غادروها وساروا شرقاً حتى مدينة بربشتر، وهي لا تقل عن وشقة أهمية وحصانة. وتقع مدينة بربشتر على فرع صغير من أفرع نهر إبره بين مدينتي لاردة ووشقة، في الشمال الشرقي لسرقسطة، وكانت يومئذ من أمتع القواعد الإسلامية الشمالية. فنزل عليها النورمان، وضربوا حولها الحصار، وذلك في أوائل سنة 456 هـ (ربيع سنة 1064 م). ولم يبادر المقتدر لإنجاد المدينة المحصورة، إذ كانت من أعمال أخيه يوسف المظفر، فكان ذلك منه جبناً ونذالة، أدرك عواقبهما فيما بعد، ولم يستطع يوسف نفسه إنجادها، فتركها لمصيرها. واستمر الحصار أربعين يوماً، والمسلمون صامدون داخل مدينتهم الحصينة، وكانت حاميتها تخرج من آن لآخر، وتخوض مع الأعداء معارك شديدة، ثم ترتد إلى الداخل. ولما اشتد الضيق بالمدينة المحصورة، وعزت الأقوات، وقع الهرج والتنازع بين أهلها، وعلم النورمان بذلك، فشددوا قبضتهم وضاعفوا جهودهم، واستطاعوا بعد قتال عنيف أن يقتحموا المدينة الخارجية، واحتلها منهم نحو خمسة آلاف دارع، ودافع المسلمون عن أنفسهم أشد دفاع، وقتلوا من المهاجمين نحو خمسمائة، ثم تحصنوا بالقصبة والمدينة الداخلية معولين على الدفاع عن أنفسهم لآخر لحظة، لولا أن حدث حادث عجل بوقوع الكارثة. ذلك أن القصبة كان يمدها بالماء سرب داخلي تحت الأرض متصل بالنهر، فوقف النورمان على سره من أحد الخونة فهدموه وألقوا فيه صخرة عظيمة، وانقطع ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 54. وراجع أيضاً الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 40 حيث يقول لنا في كلامه عن بربشتر: " وقد غزاها على غرة وقلة عدد من أهلها وعدة، أهل غاليش والروذمانون ". وغاليش هي فرنسا، والروذمانون هم النورمان.

الماء عن المحصورين، واشتد بهم الظمأ وبدا لهم شبح الموت جاثماً، فبعثوا إلى النورمان يعرضون التسليم على أن يؤمنوا في أنفسهم وأولادهم، وأن يخرجوا من المدينة دون مال، فوافق النورمان على ذلك. وفي رواية أخرى أن النورمان أبوا ذلك، واضطر المسلمون إلى مدافعتهم، حتى اقتحموا عليهم المدينة. وعلى أي حال فقد دخل النورمان المدينة دخول الوحوش المفترسة، وأمعنوا في أهلها قتلا وسبياً، ولم يطلقوا منها غير قائدها ابن الطويل، وقاضيها ابن عيسى، ونفر قليل من الأعيان. وهنا تبسط الرواية الإسلامية القول فيما ارتكبه النورمان من الفظائع، وتقدر عدد القتلى والأسرى من أهل المدينة بأربعين ألفاً (¬1) أو بخمسين ألفاً، بل بمائة ألف في رواية أخرى، وهلك عدد كبير من النساء، حينما تطارحن على الماء لإرواء ظمئهن، فكبسهم العدو للأذقان موتاً. ولما خرجت الجموع من المدينة في ظل الأمان المقطوع، ورأى قائد النصارى كثرتهم، هاله ذلك، وخشي أن تأخذ الجموع الحمية، فيهبوا لاستنقاذ أنفسهم، فأمر ببذل السيف فيهم ليخف من أعدادهم، فقتل منهم عندئذ ما يزيد على ستة آلاف. ومات خلال الزحام كثير من الشيوخ والأطفال، وتدلي كثير من الأسوار اتقاء الزحمة، وامتنع نحو سبعمائة رجل بالقصبة، فمات معظمهم عطشاً. على أن ذلك لم يكن أشنع ما نزل بالمسلمين بل كانت تنتظرهم فظائع أخرى لا يخلق ارتكابها إلا بأخس المحاربين وأنذلهم، ونحن نترك القول هنا لابن حيان، يصف لنا بقلمه البليغ طرفاً من تلك المناظر البشعة المؤسية: " ولما برز جميع من خرج عن المدينة بفناء بابها بعد من خفف منهم بالقتل، وهلك في الزحمة، ظلوا قياماً ذاهلين، منتظرين نزول القضاء فيهم، نودي فيهم بأن يرجع كل ذي دار إلى داره ووطنه بأهله، وأزعجوا لذلك، فنالهم من الازدحام، قريباً مما نالهم في الخروج عنها. ولما استقروا بالدور مع عيالهم وذرياتهم، اقتسمهم المشركون، فأمر سلطانهم، فكل من صارت في حصته دار حازها، وحاز ما فيها من أهل وولد ومال. فيحكم كل علج منهم فيمن سلط عليه من أرباب الدور بحسب ما يبتليه الله به منهم، يأخذ كل ما أظهره إليه، ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 54.

ويقرره عليه فيما أخفى، ويعذبه أشد العذاب، وربما زهقت نفس المسلم من دون ذلك فاستراح، وربما أنذره أجله إلى أسوأ من مقامه بذلك. فإن عداة الله يومئذ، كانوا يتولعون بهتك حرم أسراهم وبناتهم بحضرتهم، وعلى أعينهم إبلاغاً في نكايتهم، يغشون الثيب، ويفتضون البكر، وزوج تلك، وأبو هذه، موثق بقيد أسره، ناظر إلى سخنة عينيه، فعينه تدمع، ونفسه يتقطع. ومن لم يرض ذلك منهم أن يفعله، أعطى من خوله وغلمانه يعبثون فيهم عبثته، فبلغ الكفرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة، والحول والقوة لله العظيم ". واستولى النصارى على مقادير هائلة من السبي والغنائم، ولاسيما النساء والأطفال. يقول ابن حيان " زعموا أنه صار لأكبرهم قائد خيل رومة في حصته نحو ألف وخمسمائة جارية أبكاراً، ومن أوقار الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل " ثم يقول بعد ذلك " ولما عزم ملك الروم (يريد قائد النورمان) على القفول يومئذ من بربشتر إلى بلده، تخير من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيب ذوات الجمال، ومن صبيانهم الأيفاع، والخود الحسان ألوفاً عدة حملهم معه ليهديهم إلى من فوقه ". ويقول لنا صاحب الروض المعطار، إنه قد أهدى من أبكار الجواري المسلمين وأهل الحسن منهن إلى صاحب قسطنطينية خمسة آلاف، ويقدرهن ياقوت بسبعة آلاف " بكر منتخبة " (¬1). وربما كان في تلك الأرقام - أرقام القتلى والأسرى والسبايا - مبالغة. ولكنها تدل على أي حال، مع ما اقترن بها من الأعمال الوحشية المروعة التي وصفها لنا المؤرخ المعاصر، على فداحة الخطب الذي نزل بأهل بربشتر، وعلى مبلغ تجرد أولئك الغزاة النورمان من أبسط الصفات الإنسانية، وهو خطب كان حسبما يصفه ابن حيان " أعظم من أن يوصف أو يتقصى ". ولما وصلت أنباؤه إلى قرطبة في أوائل رمضان (456 هـ)، حيث كان يقيم المؤرخ، وذاعت في مختلف الأنحاء اهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها، وسادها الاشمئزاز والروع لتلك الفظائع والشناعات التي لم يسمع بمثلها. وقد كانت هذه المحنة مادة خصبة لتأملات ابن حيان، ونظراته النقدية الصائبة، وإليك من أقواله تلك الفقرة التي تدلي بالنذير والنبوءة الصادقة، وتفيض ¬_______ (¬1) راجع الروض المعطار ص 40. وراجع معجم البلدان لياقوت تحت كلمة بربشتر.

بالتوجع لأحوال عصره. قال: " قد استوفينا في شرح هذه الفادحة مصائب جليلة، مؤذنة بوشك القلعة، طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من آثاره. ولا شك عند أولى الألباب، ما أخفيناه مما دهانا من داء التقاطع، وقد أخذنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه، على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة، إذ قدر الله زماننا هذا بالإضافة إلى ما عهدنا في القرن الذي سلخه من آخر أمد الجماعة، على إدراك ما لحق الذي قبله، فمثل دهرنا هذا - لا قدس - بهيم الشبه، ما إن يباهي بعرجه، فضلا عن نزوح خيره، قد غربل ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهل، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معالي الغي بأقوياء. نشأ من الناس هامل يعللون أنفسهم بالباطل، من أول الدلائل على فرط جهلهم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغرهم، حتى أطل عدوهم الساعي لإطفاء نورهم، يتبجح عراص دورهم، ويستقري بسائط بقاعهم، يقطع كل يوم طرفاً، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكراهم، لهاة عن بثهم، ما إن يسمع عندنا بمسجد من مساجدنا أو محفل من محافلنا، مذكر لهم أو داع، فضلا عن نافر إليهم أو ماش لهم، حتى كأنهم ليسوا منا، أو كأن فتقهم ليس بمفض إلينا، قد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا بالقناء، عجائب فاتت التقدير، وعرضت للتغيير، ولله عاقبة الأمور وإليه المصير " (¬1). ولما غادر الغزاة النورمان بربشتر بعد اقتحامها، والفتك بأهلها، والاحتواء على أموالها، تركوا لحمايتها ألفاً وخمسمائة من الفرسان وألفين من الرجالة، وقيل بل تركوا ألف فارس وأربعة آلاف راجل، واستقدموا إليها كثيراً من أهلهم وأقاربهم ومواطنيهم، وساروا عائدين إلى بلادهم، وفي ركبهم ألوف من سبي المسلمين نساء ورجالا، ومقادير هائلة من الأموال والغنائم المختلفة. بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى وقعت المعجزة. وكان صدى النكبة قد نفذ ¬_______ (¬1) نقلنا هذه الفقرة وما قبلها من أقوال ابن حيان وتفاصيل نكبة بربشتر، عن الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحات 34 ب إلى 36 ب. وراجع في ذلك أيضاً البيان المغرب ومعظمه أيضاً من أقوال ابن حيان السالفة الذكر ج 3 ص 225 و 226، وأعمال الأعلام ص 171. وكذلك Dozy: Histoire V.III.p. 78 & 79 -Recherches ; 3eme Ed.V.II.p.335-353 وهو يترجم أيضاً رواية ابن حيان المشار إليها.

إلى الأعماق، واهتز لها أمراء الأندلس قاطبة، وفي مقدمتهم المقتدر بن هود، وهو الذي شهدها عن كثب، ولحقه من جرائها أكبر وزر، واتجه إليه أشد اللوم لتقصيره في إنجاد المدينة المنكوبة والدفاع عنها، وهي من أخص قواعد ثغره. واستنفر الناس للجهاد، واجتمع من مختلف بلاد الأندلس عدد جم من المتطوعة والرماة، ساروا إلى الثغر جهاداً في سبيل الله، وبعث المعتضد بن عباد نجدة من خمسمائة فارس، وسار المقتدر بن هود في قواته، وقوات الأمداد المختلفة إلى بربشتر، وذلك في جمادى الأولى سنة 457 هـ (ربيع سنة 1065 م) وضربوا حولها الحصار، وامتنع النصارى داخل المدينة، لما رأوه من كثرة جموع المسلمين، وعالج المسلمون نقب أسوارها المنيعة العالية تحت حماية الرماة، ونجحوا في إحداث ثغرة كبيرة فيها، ثم اقتحموا المدينة بشدة، فغادرها النصارى من الناحية الأخرى، وحملوا على محلة المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة مزق فيها النصارى وهلك معظمهم، وأسر من كان بالمدينة من أهلهم وأبنائهم، وتقدر الرواية من قتل منهم بنحو ألف فارس وخمسة آلاف راجل، في حين أنه لم يقتل من المسلمين وفقاً لتقديرها سوى خمسين رجلا وهي مبالغة واضحة، بيد أنه لم يكن ثمة شك على ضوء الظروف المتقدمة في أن خسائر النصارى كانت فادحة، وأن خسائر المسلمين كانت يسيرة، وقيل فوق ذلك إنه حمل من سبايا النصارى إلى سرقسطة نحو خمسة آلاف، كما حمل إليها ألف فرس وعدة وسلاح وأموال كثيرة. وكان استرداد بربشتر في الثامن من جمادى الأولى سنة 457 هـ، بعد أن احتلها النصارى تسعة أشهر (¬1). وبذلك جبر الصدع، ورفعت المعرة، وأثلجت صدور المسلمين. وعلى أثر هذا الفتح الجليل اتخذ بطله ابن هود لقبه المقتدر بالله (¬2). * * * وشغل المقتدر بن هود في الوقت نفسه بسلسلة من الوقائع التي اضطرمت بينه وبين جيرانه النصارى. وكانت مملكة سرقسطة لوقوعها بين الممالك الإسبانية النصرانية الثلاث، أراجون ونافار وقشتالة، هدفاً مستمراً لأطماع الملوك ¬_______ (¬1) راجع الروض المعطار ص 41. (¬2) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 36 ب و 37 أ. والبيان المغرب ج 3 ص 227 و 228.

النصارى، يبتزون منها الأموال طوراً باسم الجزية، وطوراً يقتطعون بعض أطرافها. وفي خلال ذلك، يعمل بنو هود على الاستعانة من آن لآخر بالجند النصارى، وفقاً لمختلف الظروف والأحوال. وكان فرناندو الأول ملك قشتالة في سنة 1060 م (452 هـ) قد زحف على حدود مملكة سرقسطة الجنوبية الغربية، واقتطع منها حصن غرماج، وبعض حصون أخرى، فاضطر المقتدر أن يذعن لدفع الجزية. ولما توفي فرناندو في سنة 1065، وخلفه ولده سانشو في ملك قشتالة، وفي حقوق الجزية على سرقسطة، حاول أن يتدخل في شئون سرقسطة وبعث إليها بقواته في سنة 1067 فحاصرتها، اقتضاء للجزية المطلوبة، وكان يقود الجيش القشتالي يومئذ الفارس ردريجو دياث أو السيد إلكمبيادور، الذي احتل فيما بعد مكانة بارزة في حوادث شرقي الأندلس، فاضطر المقتدر أن يبعث إليه مقادير كبيرة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، والأقمشة الفاخرة، أداء للجزية المطلوبة، وأن يبعث برهائنه في الوقت نفسه، وبذا رفع الحصار عن سرقسطة (¬1). وكان المقتدر في الوقت الذي تصفو فيه علائقه مع جيرانه النصارى، يستمد العون منهم في مشاريعه العسكرية، وقد يستمد عون أحدهما على الآخر، كما حدث في سنة 1063 م حينما غزا راميرو الأول ملك أراجون أراضي مملكة سرقسطة، فاستغاث المقتدر بفرناندو ملك قشتالة، فبعث إليه ولده سانشو في بعض قواته، ووقعت بين الفريقين تحت أسوار جرادوس موقعة هزم فيها راميرو وقتل، وكان ردريجو دياث - السيد فيما بعد - يومئذ من ضباط الجيش القشتالي. ولما خلص عرش قشتالة لألفونسو السادس بعد مقتل أخيه سانشو، عاد يطالب سرقسطة بالجزية التي كانت لأخيه، وكان يطالب بها في نفس الوقت سانشو راميرز ملك أراجون ونافار، بعد أن ورث عرش نافار، وكان المقتدر يؤدى الجزية من قبل إلى سانشو ملك نافار. وكان يستعين في محاربة أخيه يوسف المظفر صاحب لاردة بجنود من البشكنس (النافاريين) والقطلان، واستمرت بينهما المعارك حتى انتهت أخيراً بهزيمة يوسف وأسره. وقد وقفنا على نص رسالة مخطوطة، كتب بها المقتدر إلى صديقه المعتمد ¬_______ (¬1) البيان المغرب ج 3 ص 229، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 159 & 160

ابن عباد - وقد كانت بينهما فيما يبدو من لهجة الرسالة صلات ودية وثيقة - يخبره فيها بقصته مع أخيه المظفر، ويرميه فيها بالظلم والحسد، ومجانبة العدل والإنصاف، ويقول إنه حاول أن يسلك معه سبيل المودة والتفاهم، فأبى, واضطر إلى مقاتلته حتى ظفر به واستولى على قاعدته لاردة وألزمه البقاء في قصبة منتشون. ثم يقول معتذراً عن مسلكه: " وللنفس يعلم الله مما حملني عليه ارتماض وإشفاق، ولما يؤثره الرحم من ذلك إزعاج وإقلاق، إلا أنه لم يوجد إلى غير ذلك سبيلا، ولا جعلني إلى سواه محيلا، وكان فيما يأتيه أعق، وبما جره القدر إليه بحكم اعتقاده أحق " (¬1) والظاهر أن الحوادث التي يشير إليها المقتدر في رسالته قد وقعت في سنة 472 هـ (1079 م). وفي بعض الروايات القشتالية، أن المقتدر بعد أن استولى على أملاك أخيه أعتقله بقلعة روطة، وهنالك استمر في اعتقاله حتى توفي بعد ذلك بثلاثة أعوام (475 هـ)، بيد أنه من الواضح أن الصحيح هو ما يرويه المقتدر نفسه في رسالته. ولما أعيت المقتدر الحيل في إرضاء أولئك الملوك المطالبين بالجزية، انتهى رأيه إلى الاستعانة بخدمات ذلك الفارس القشتالي، الذي عرفه من قبل بين ضباط قشتالة محارباً بارعاً، وهو ردريجو دياث دى بيبار، وكان يومئذ قد ساءت علائقه مع مليكه ألفونسو السادس وأقصاه عن بلاطه، فخرج يبحث عن طالعه، وهكذا عقدت العلافة بين " السيد " وبين المقتدر، وكان المقتدر أول من أولاه رعايته واستخدمه من الملوك المسلمين، وكان ذلك في سنة 1080 م قبيل وفاة المقتدر بقليل (¬2). ويجب أن نذكر هنا أيضاً بين أعمال المقتدر العظيمة، استيلاءه على مملكة دانية من صهره، زوج ابنته على إقبال الدولة في سنة 468 هـ (1076 م) حسبما فصلنا ذلك من قبل في أخبار مملكة دانية. وقد غدت مملكة سرقسطة بهذا الفتح الكبير تمتد إلى شرقي الأندلس، وغدت من أعظم ممالك الطوائف رقعة، بل ربما أعظمها جميعاً. وقد مهد لها هذا الامتداد إلى شرقي الأندلس، سبيل التطلع إلى مملكة بلنسية ¬_______ (¬1) وردت هذه الرسالة في المخطوط رقم 488 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال (لوحة 118 و 119). (¬2) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط - لوحة 18 ب. وكذلك: R. M Pidal: ibid;p. 282 & 283

والتدخل في شئونها، حسبما سبق شرحه في موضعه في أخبار مملكة بلنسية، وتوفي أحمد بن سليمان بن هود المقتدر بالله في سنة 474 هـ (1081 م) من كَلَب شديد أصابه من عضة كلب، بعد أن حكم مملكة سرقسطة خمسة وثلاثين عاماً، وكان قبيل وفاته قد ارتكب نفس الخطأ الذي ارتكبه أبوه بتقسيم مملكته بين ولديه، فخص ولده الأكبر وهو يوسف المؤتمن بسرقسطة وأعمالها، وخص ولده الأصغر المنذر بلاردة ومنتشون وطرطوشة ودانية. ومما هو جدير بالذكر أن مملكة سرقسطة كانت في ظل بني هود، لظروفها المترتبة على وقوعها بين الممالك النصرانية، واضطرارها إلى مهادنتها ومصانعتها، تؤثر سياسة التسامح الديني، وكان النصارى يعيشون في ظل بني هود، في ظروف حسنة، ويتمتعون بسائر الحريات الفكرية والدينية، وقد شجع هذا التسامح الذي أثر عن بني هود نحو رعاياهم النصارى، راهباً فرنسياً، على أن يكتب إلى المقتدر بن هود رسالة يدعوه فيها إلى اعتناق النصرانية، وبعث رسالته المذكورة مع راهبين من زملائه ليشرحا للمقتدر تعاليم الدين المسيحي ومزاياه (¬1)، فاستقبل المقتدر الرسولين برفق وكياسة، ولم يثر لما تضمنته رسالة الراهب من جرأة وتهجم صارخ، بل عهد إلى العلامة الفقيه أبى الوليد الباجي، وكان يومئذ يعيش في سرقسطة في كنفه وتحت رعايته، بأن يكتب عن لسانه إلى الراهب رداً، يفند فيه دعاوى الراهب في رسالته، ويبين ما تنطوي عليه هذه الدعاوى من بطلان وتناقض. فكتب الباجي رده المشهور على هذه الرسالة، وهو رد مسهب، يفيض منطقاً وبلاغة، وفيه يفند الباجي مزاعم الدين المسيحي، وألوهية المسيح وغيرها، بقوة، ويشرح تعاليم الإسلام بوضوح، ويدعو الراهب بالعكس إلى اعتناق الإسلام، وينوه بمعجزة القرآن وروعته، ويدلل ببراعة على بطلان التعاليم المسيحية وتناقضها. وكان المقتدر بن هود من أعظم ملوك الطوائف. ويصفه الحجاري في المسهب بأنه " عميد بني هود وعظيمهم، ورئيسهم وكريمهم ". وكان فضلا عن ¬_______ (¬1) وردت رسالة الراهب الفرنسي في مخطوط الإسكوريال رقم 538 الغزيري، عقب رسالة ابن غريسة والرد عليها، ودونت من بعدها رسالة أبي الوليد الباجي في الرد على الراهب المذكور، وهو رد طويل يملأ خمس عشرة صفحة، وقد نشر الأستاذ دنلوب D.M.Dunlop نص الرسالتين في مجلة الأندلس Al - Andalus Vol.XVII, 1952، وقرنهما بترجمة انجليزية.

مقدرته السياسية والعسكرية التي رأيناها تبدو في كثير من أعماله ومشاريعه، وبالرغم مما كانت تنطوي عليه هذه المشاريع والأعمال أحياناً من صفات سيئة، يتمتع بكثير من الخلال البديعة، فقد كان أميراً عظيماً يحيط نفسه بجو من المهابة والروعة، وكان بلاطه من أعظم قصور الطوائف وأفخمها، وكان يحيط نفسه بطائفة من أشهر العلماء والكتاب في عصره، ومن هؤلاء العلامة الفقيه أبو الوليد الباجي، ووزيره أبو المطرف بن الدباغ، ووزيره الكاتب اليهودي المسلم أبو الفضل ابن حسداي السرقسطي، وكان كلاهما من أعلام عصره في البلاغة والأدب. بل كان المقتدر نفسه من علماء عصره، وكان يشغف بدراسة الفلسفة والرياضة والفلك، وقد كتب كتباً في الفلسفة والرياضة (¬1). وكان قصر المقتدر وهو المسمى بقصر " الجعفرية "، نسبة إلى كنيته، وهي " أبو جعفر "، من أعظم وأفخر القصور الملكية في ذلك العصور، وقد اشتهر في تاريخ الفن الإسلامي باسم " دار السرور "، وكان أروع ما فيه بهوه الرائع الذي زينت جدرانه بالنقوش والتحف الذهبية البديعة، والذي كان يسمى لذلك بالبهو الذهبي، أو مجلس الذهب. وفيه يقول منشؤه المقتدر: قصر السرور ومجلس الذهب ... بكما بلغت نهاية الطرب لو لم يحز ملكي خلافكما ... لكان لدي كفاية الأرب ولما سقطت سرقسطة في يد الإسبان شوهت معالم هذا القصر البديع، وأدخلت فيه تعديلات وتغييرات عديدة قضت على محاسنه وزخارفه العربية. وما زالت بقاياه الدارسة تقوم حتى اليوم في قلب مدينة سرقسطة باسم قصر الجعفرية Palacio Aljaferia، وقد شهدناه خلال زيارتنا لسرقسطة، ولم يبق من بنائه الإسلامي سوى بقية مشوهة من مسجده السابق. وكان المقتدر فوق شغفه بالعلوم، أديباً ينظم الشعر، وقد نسب إليه الحجاري صاحب المسهب قوله: لست لدى خالقي وجيهاً ... هذا مدى دهري واعتقادي لو كنت وَجْهاً لما براني ... في عالم الكون والفساد (¬2) ¬_______ (¬1) Dozy: Histoire ; Vol.III.p. 163 - R. M. Pidal: ibid, p. 282 (¬2) راجع المغرب في حلي المغرب (القاهرة) ج 1 ص 437.

الفصل الثانى مملكة سرقسطة

الفصل الثاني مملكة سرقسطة منذ عصر المؤتمن حتى سقوطها في أيدي المرابطين الصراع بين المؤتمن والمنذر. معركة قلعة المنار. حاكم روطة وكمينه للنصارى. موقف السيد الكمبيادور. تحالف المنذر وسانشو راميرز. السيد ونفوذه لدى المؤتمن. حملة ابن بسام على بني هود. وفاة المؤتمن. صفاته العلمية. ولده أحمد المستعين. مسير ألفونسو السادس إلى سرقسطة ومحاصرته إياها. يرفع الحصار عند مقدم المرابطين. حروب المستعين. تطلعه إلى امتلاك بلنسية وفشل مشروعه. الخطر على مملكة سرقسطة. استيلاء ملك أراجون على منتشون. تهديده لوشقة. اتجاه المستعين إلى الاستنجاد بالمرابطين. سفارته لأمير المسلمين. استعانته بملك قشتالة. محاصرة سانشو راميرز لوشقة. وفاته ومتابعة ولده بيدرو للحصار. مسير المستعين وحلفاؤه لإنجادها. موقعة الكرازة. هزيمة المستعين وسقوط وشقة. إستيلاء المرابطين على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية. استيلاؤهم على شرقي الأندلس. استنصار المستعين بالسيد. انشغال السيد في بلنسية. إتجاه المستعين إلى المرابطين. سفارته الثانية لأمير المسلمين. وفاة بيدرو ملك أراجون وقيام أخيه ألفونسو مكانه. مسيره إلى تطيلة. مسير المستعين لإنجادها. سقوط تطيلة ومقتل المستعين. ولده عبد الملك عماد الدولة. دعوة أهل سرقسطة أمير المسلمين لخلع بني هود. استصراخ عماد الدولة لأمير المسلمين. زحف المرابطين على سرقسطة واستيلاؤهم عليها. انتهاء حكم بني هود. التجاء عماد الدولة إلى حصن روطة. خضوعه لحماية ملك أراجون. ولده سيف الدولة. نزوله عن روطة لألفونسو ريمونديز. سرقسطة أيام بني هود. اشتهارها بالدراسات الرياضية والفلسفية. ابن باجة وحياته العلمية. أبو بكر الطرطوشي وكتابه سراج الملوك. نظريته في عصبية الدولة ورد ابن خلدون عليها. سرقسطة ومساهمتها في الحركة الأدبية. دورها في التبادل الحضاري والثقافي. دورها في التبادل التجاري. عادت الحرب الأهلية القديمة التي اضطرمت من قبل بين المقتدر وإخوته الأربعة من جراء تقسيم المملكة، تضطرم من جديد بين يوسف المؤتمن صاحب سرقسطة، وأخيه الحاجب المنذر صاحب لاردة. وقد استعان كلا الأخوين في تلك الحرب الانتحارية بالنصارى، فكان المؤتمن يستعين بصديق أبيه وحليفه من قبل " السيد "، وجيشه من المرتزقة القشتاليين وكان المنذر وهو منذ البداية من ألد أعداء السيد، يستعين بسانشو راميرز ملك أراجون، ورامون برنجير أمير برشلونة.

ووقعت أول معركة بين قوات الأخوين عند قلعة المنار على مقربة من لاردة، وكان المؤتمن قد حصن هذه القلعة، وشحنها بالمقاتلة، ولما شعر أخوه المنذر بخطرها على أملاكه سار في قوة مشتركة من حلفائه، أمير برشلونة وبعض صغار الأمراء الإفرنج في شمال قطلونية، وحاصر هذه القلعة، فسار المؤتمن والسيد في قواتهما لإنجادها، ووقعت بين الفريقين معركة هزم فيها المنذر، وأسر أمير برشلونة رامون برنجير (1082 م). ووقع في ذلك الحين حادث كاد يقطع السيد من جرائه علائقه ببلاط سرقسطة، ذلك أن حاكم قلعة روطة التي كان معتقلا بها المظفر، اعتزم الخروج والثورة بالتفاهم مع سجينه، وأرسل إلى ألفونسو ملك قشتالة يطلب عونه ويعده بتسليم القلعة، فسار ألفونسو إلى روطة في بعض قواته، وكان المظفر قد توفي عندئذ فجأة، فعدل الحاكم عن مشروعه واعتزم أمراً آخر، وبعث ألفونسو بعض أكابر ضباطه، وعلى رأسهم الإنفانت راميرو أمير نافار لتسلم القلعة، وما كادوا يجوزون إلى الداخل، حتى انهال عليهم وابل من الصخور، فقتلوا جميعاً (1082 م) وعاد ألفونسو، وهو يضطرم أسى وتحرقاً إلى الانتقام. وكان السيد عندئذ في تطيلة، فلما وقف على هذا الحادث المحزن، هرع في صحبه إلى ألفونسو يقدم عزاءه، ويلتمس العفو، والإذن بالعود، فعفا عنه الملك وصحبه معه إلى قشتالة. ولكن مقامه بها لم يطل. ذلك أن ألفونسو عادت إليه هواجسه القديمة نحو السيد، وشعر السيد بتغيره عليه، فغادر قشتالة وعاد إلى سرقسطة، واستقبله المؤتمن بترحاب ومودة. ويحاول الأستاذ بيدال أن يستدل بتصرف السيد في هذا الحادث على أنه لم يكن في خدماته لبلاط سرقسطة جندياً أجيراً، وإنما كانت هذه الخدمات بالعكس نوعاً من السياسة والتدخل على الطريقة القشتالية (¬1). وعاد السيد إلى مهمته القديمة في محاربة أعداء المؤتمن، وخرج مع المؤتمن في قواته، وعاثا في أراضي أراجون، ثم عادا إلى حصن مونتشون. ورد سانشو راميرز ملك أراجون على ذلك بالاستيلاء على جرادوس. وغيرها من حصون الحدود (ابريل 1083 م). ثم تحالف المنذر أخو المؤتمن مع سانشو راميرز، ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid ; p. 290

وسارا في قواتهما لمحاربة السيد، والتقى الفريقان في أحواز موريلا على مقربة من طرطوشة، فهزم المنذر وحليفه، واستولى السيد على معسكرهما، وعلى كثير من الأسرى. واستقبل السيد عند عوده المظفر إلى سرقسطة أجمل استقبال. وعلا شأن السيد في بلاط سرقسطة، وتوطدت مكانته، واشتد نفوذه على المؤتمن. فكان لا يبرم أمراً من أعمال الحرب أو السياسة دون مشاورته، وغدا بجيشه الصغير قوة يحسب حسابها، بل غدا كأنه يفرض بحلفه ومعاونته على سرقسطة نوعاً من الحماية. وقد أشرنا فيما تقدم من أخبار مملكة بلنسية إلى هذه المكانة الممتازة التي أحرزها السيد في بلاط سرقسطة، وإلى الحملة اللاذعة التي شهرها ابن بسام من أجل ذلك على بني هود (¬1)، كما أشرنا إلى ما كان يجيش به المؤتمن من الأطماع نحو مملكة بلنسية، وما قدمه من المال إلى ملك قشتالة لأجل معاونته في هذا المشروع وكيف استطاع أبو بكر بن عبد العزيز صاحب بلنسية بلباقته أن يحبط هذا المشروع وأن يعقد صلات الود والمصاهرة مع المؤتمن بتزويج ابنته من ولد المؤتمن، أحمد المستعين. ولم يدم حكم المؤتمن أكثر من أربعة أعوام، إذ توفي في سنة 478 هـ (1085 م). وكانت وفاته السريعة ضربة قاضية لمشاريعه، فخلفه في حكم سرقسطة وأعمالها، ولده أحمد، وتلقب بالمستعين، وبقى الشق الآخر من مملكة سرقسطة بيد عمه المنذر. وقد اشتهر يوسف المؤتمن بصفاته العلمية، أكثر من اشتهاره بصفاته الملوكية ْفكان مثل أبيه المقتدر عالماً رياضياً، وفلكياً ممتازاً، وكتب في العلوم الرياضية، رسالته المسماة " الإستكمال " (¬2)، التي ترجمت إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر الميلادي، والتي توصف بأنها ترتفع من حيث قيمتها العلمية إلى مستوى إقليدس والمجسطي. بيد أن هذه الرسالة الملوكية لم تصل إلينا مع الأسف بأصلها العربي. خلف المؤتمن ولده أحمد المستعين، ويعرف بالمستعين الأصغر. وما كاد يبدأ حكمه حتى ألفى نفسه أمام حدث خطير. ذلك أن ألفونسو السادس ما كاد ينتهي من الاستيلاء على طليطلة وتنظيم شئونها، وذلك في صفر سنة 478 هـ (مايو 1085 م) ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الثالث المخطوط لوحة 18 ب. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 163.

حتى اعتزم العمل لانتزاع سرقسطة، فسار إليها في قواته، وضرب حولها الحصار، وأقسم أنه لن يبرحها حتى تؤول إليه أو يموت. وحاول المستعين أن يرده عن عزمه، وأن يقنعه برفع الحصار، فعرض عليه أموالا جليلة فرفض ألفونسو، وأصر على أخذ المدينة (¬1)، وأذاع عماله في سكان الأراضي المجاورة أنه سوف يطبق أحكام القرآن، ولن يقتضي منهم الضرائب إلا ما يجيزه الشرع، وأنهم سوف يكونون مثل إخوانهم مسلمي طليطلة موضع عنايته ورعايته. واستمر ألفونسو على حصار سرقسطة حتى جاءته الأنباء في أواخر صيف 1086 م، (أوائل 479 هـ) بمقدم المرابطين، وأنهم عبروا إلى الأندلس، فحاول عندئذ خديعة المستعين، معتقداً أنه لم يعلم بالنبأ العظيم، وبعث إليه يقول إنه يقبل الجزية التي عرضها، فأجاب المستعين، وكان على علم به، أنه لن يدفع إليه درهماً واحداً (¬2). وعندئذ اضطر ألفونسو أن يرفع الحصار، وأن يهرع في قواته إلى الجنوب، بعد أن بعث بصريخه إلى أمراء الثغر النصارى ليلحقوا به في قواتهم. ثم كانت واقعة الزلاّقة، وهزيمة ألفونسو الساحقة، أمام القوات المرابطية والأندلسية المتحدة في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر 1086)، فضعف أمر قشتالة والملوك النصارى، وانصرف المستعين حيناً إلى محاربة عمه المنذر صاحب لاردة ودانية طوراً، ومحاربة ملك أراجون طوراً آخر. بيد أنه لم يظفر من وراء هذه المعارك بطائل، وكانت الهزيمة نصيبه في معظم الأحيان. وأخذ المستعين بعد ذلك يتطلع إلى الاستيلاء على بلنسية، منافساً في ذلك لعمه المنذر. وقد فصلنا فيما تقدم من أخبار بلنسية مشاريع المستعين ومحاولاته في هذا السبيل، ومغامرات حليفه " السيد "، وكيف تظاهر في البداية بمعاونته على تحقيق مشروعه، ثم أضناه بعد ذلك بمخادعاته وأساليب غدره، وكيف حاول بعد ذلك أن يستعين بمحالفة برنجير كونت برشلونة على محاصرة بلنسية وأخذها، وقد فشلت أيضاً هذه المحاولة، وانتهى الأمر بأن غدا السيد وحده هو المسيطر على هذا الميدان، وهو المستأثر بتتبع الحوادث في بلنسية، وترقب فرص الاستيلاء عليها، كل ذلك حسبما فصلناه من قبل تفصيلا شافياً. ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 93. (¬2) R.M.Pidal: ibid ; p. 331

وما كاد المستعين ينتهي من هذه المشاريع الفاشلة، حتى بدا الخطر على مملكة سرقسطة داهماً من ناحيتين: ناحية جيرانها النصارى من الشمال، وناحية المرابطين من الجنوب. فأما عن الشمال، فقد بدأ سانشو راميرز ملك أراجون بالاستيلاء على منتشون في سنة 481 هـ (1089 م)، واضطر المستعين عندئذ أن ينضوي تحت حماية ألفونسو ملك قشتالة، وأن يتعهد بأداء الجزية التي أباها من قبل. ولم تمض بضعة أعوام على ذلك حتى بدت مشاريع ملك أراجون أكثر خطورة. وذلك أنه قصد إلى مدينة وشقة، وهي ثاني مدينة في مملكة سرقسطة، وابتنى إزاءها حصناً، وكان من الواضح أنه يبغى الاستيلاء على هذه المدينة الهامة. والظاهر أن المستعين قد أدرك عندئذ أن الاعتماد على معاونة النصارى لا يحقق له ما يطمح إليه من السلامة، ورأى أن الاتجاه إلى معاونة المرابطين وهم أبناء دينه قد يغدو أنجع، ولو أنه كان يتوجس من نياتهم ومشاريعهم نحو سرقسطة. ومن ثم فقد أرسل ولده عبد الملك إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بالمغرب ومعه هدية جليلة، وبعث إليه يطلب العون والإنجاد على مدافعة النصارى، وإنقاذ وشقة، وهي جناح سرقسطة الدفاعي، ودرعها من الشمال. والظاهر أن أمير المسلمين قد أدرك من جانبه أهمية الاستجابة لصريخ المستعين، ومنعه بذلك من الارتماء في أحضان النصارى ومحالفتهم في النهاية ضد المرابطين، وأدرك في نفس الوقت حكمة الإبقاء على سرقسطة وإنجادها لتبقى بذلك حاجزاً بين المرابطين وبين النصارى، فاستقبل عبد الملك بترحاب، وصرفه صرفاً جميلا، ورد على المستعين بخطاب رقيق، وبعث إلى ولاته في شرقي الأندلس بإرسال المدد المنشود، وكان يتألف من ألف فارس وستة آلاف راجل من المرابطين. ولم ير المستعين في نفس الوقت بأساً من الاستعانة بملك قشتالة، فأمده بفرقة من جنده بقيادة الكونت غرسية أردونس الذي تجاور ولايته مملكة سرقسطة. وفي تلك الأثناء كان سانشو راميرز قد سار إلى مدينة وشقة وضرب حولها الحصار، مصمماً على ألا يبرحها حتى تسقط في يده. وكانت وشقة من أمنع ْقلاع الثغر الأعلى، فصمدت للحصار بعزم وشدة، ثم توفي سانشو راميرز فجأة، وذلك في شهر يونيه سنة 1094 م (جمادى الأولى سنة 487 هـ)، فاستمر في متابعة الحصار ولده بيدرو الأول. وتوالت الأشهر، ووشقة صامدة كالصخرة.

وبعث أهل وشقة في نفس الوقت بصريخهم إلى ملكهم أحمد بن هود المستعين، فجهز حشوداً عظيمة، وأعد لها قوافل الميرة الضخمة، وأمده حليفه ملك قشتالة بفرقة من الجند النصارى فسار المستعين في قواته حتى اقترب من وشقة، وكان يظن أن العدو متى رأى حشوده، وآنس وفرتها وحسن استعدادها، يعمد إلى المهادنة ويترك المدينة المحصورة وشأنها، ولكن بيدرو عول بالعكس على خوض المعركة، فترك الحصار، وسار في قواته لملاقاة المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، في " الكرازة " الواقعة على مقربة من وشقة، استمرت من طلوع الشمس إلى غروبها، واشتد فيها الطعان من الجانبين، وكثر القتل بين المسلمين وحلفائهم، وهزم المستعين في النهاية هزيمة شديدة. وقتل من المسلمين عدد جم تقدره الرواية باثنتي عشر ألفاً أو نحوها، وكان بين القتلى غرسية أردونس قائد جند قشتالة، وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذه المعركة في يوم الأربعاء أواخر ذي القعدة سنة 489 هـ، وتضع الرواية النصرانية هذا التاريخ في 18 نوفمبر سنة 1096 م، وهو يوافق بالفعل شهر ذي القعدة، الذي تحدده الرواية الإسلامية. وتقول الرواية الإسلامية، إن أهل وشقة لما عاينوا هزيمة المسلمين، يئسوا من النصرة، والإنقاذ، لم تمض على ذلك ثلاثة أيام حتى حصلوا على الأمان. وسلمت وشقة للنصارى بعد حصار دام ثلاثين شهراً، ودخلها بيدرو في موكبه الظافر، وفي الحال صير مسجدها الجامع كنيسة، وجعلها عاصمة لمملكة أراجون (¬1). هذا عن حوادث الشمال، وأما عن حوادث الجنوب، فقد عبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة 481 هـ (1088 م) وقام بالاشتراك مع قوات الأندلس بمحاصرة حصن لييط، وانتهى بالاستيلاء عليه. ثم عاد فعبر إلى الأندلس للمرة الثالثة في سنة 483 هـ (1090 م)، وفي تلك المرة استولى على ممالك الطوائف الجنوبية والغربية، غرناطة، وإشبيلية، وألمرية، ثم ¬_______ (¬1) نقلنا أقوال الرواية الإسلامية عن معركة وشقة من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثرنا بها في خزانة القرويين بفاس. وراجع في حوادث سقوط وشقة وما تقدمها: أعمال الأعلام ص 173، والحلل الموشية ص 53 - 55، وتاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ وترجمة محمد عبد الله عنان (ص 104 و 105) وابن خلدون ج 4 ص 163. وراجع أيضاً: P.y Vives. Los Reyes de Taifas p. 49 و R.M.Pidal: ibid, p. 526 & 527

بطليوس، واستولت الجنود المرابطية كذلك على مرسية، وأوريولة، كل ذلك فيما بين سنتي 484 و 488 هـ. وفي أثناء ذلك كان المنذر بن هود صاحب لاردة ودانية، قد توفي في سنة 483 هـ (1090 م)، وخلفه في الملك ولده الطفل سليمان الملقب بسعد الدولة، تحت وصاية بني بيطر وهي أسرة قوية ذات نفوذ. وفي سنة 485 هـ (1092 م) سار جيش مرابطي بقيادة الأمير ابن عائشة، واستولى على دانية، وشاطبة وشقورة. والظاهر أنه استولى أيضاً على طرطوشة ولاردة بعد ذلك بقليل. وهنا شعر المستعين بخطر المرابطين الداهم على مملكته، فاتجه إلى حليفه القديم السيد إلكمبيادور، واستغاث به، وكان السيد قد غدا يومئذ قوة يحسب حسابها في شرقي الأندلس، وأضحى من جانبه يشعر بنفس الخطر. أي خطر المرابطين على مركزه في تلك المنطقة. فاستجاب إلى دعوة المستعين، وعقد بينهما حلف جديد، وسار السيد بقواته إلى سرقسطة، وعسكر على ضفة النهر الأخرى، وهنالك عقد حلفاً آخر مع ملكي أراجون ونافار. وكان الغرض من عقد هذه المحالفات كلها، التعاون لدفع خطر المرابطين عن هذا الركن من شبه الجزيرة. ونحن نعرف أن السيد قد عاد بعد ذلك إلى الجنوب، واستمر في مغامراته في منطقة بلنسية، حتى تم له الاستيلاء عليها في جمادى الأولى سنة 487 هـ (يونيه 1094 م)، وأن الجيوش المرابطية لبثت تتحين الفرص لاسترداد هذا الثغر الإسلامي العظيم، حتى تم لها تحقيق مشروعها، ودخلت بلنسية بقيادة الأمير أبى محمد المزدلي في شعبان سنة 495 هـ (مايو سنة 1102 م). وكانت حوادث الشمال قد تطورت في تلك الأثناء، وظهرت نيات سانشو راميرز ملك أراجون واضحة نحو القضاء على مملكة سرقسطة، وبدأ حصاره لمدينة وشقة، وكان المستعين من جهة أخرى قد أدرك أنه لا يستطيع الاعتماد على محالفة السيد وعونه، ولاسيما بعد استيلائه على بلنسية، وانشغاله بالمحافظة عليها، والدفاع عنها، فاتجه إلى المرابطين، وبعث ولده عبد الملك إلى المغرب يطلب العون من أمير المسلمين، حسبما فصلنا من قبل. وقد رأينا كيف هزم المستعين وسقطت وشقة بالرغم مما تلقاه المستعين من عون حلفائه. يقول ابن عذارى، إنه على أثر سقوط مدينة وشقة " سما بصر العدو إلى منازلة سرقسطة، حضرة ابن هود، فخاطب الطاغية، أذفونش بن فرذلند

(ألفونسو السادس) فواطأه على منازلتها، فنزل عليها في جموع لا ترام، وجعل صاحبها يصعد ويصوب في إعمال الحيلة، وتجنيب تلك الجماعة، ورام تخذيل الأذفونش، فأرغبه في المال فأبى وأقسم ألا يبرح عنها حتى يدخلها " (¬1). ولكنا لم نجد في الرواية النصرانية ما يؤيد أن ملك قشتالة قام في هذا التاريخ (سنة 1097 م - 490 هـ) بمهاجمة سرقسطة أو حصارها. والواقع أن المستعين أخذ يشعر من ذلك الحين بأن مصير سرقسطة، قد أضحى رهناً بخطط المرابطين وغاياتهم، ولاسيما بعد أن أصبحوا على مقربة من أراضيه، ْومن ثم فقد رأى في النهاية أن يستبقي مودتهم، وأن يستمر في التقرب منهم، والتماس عونهم وحمايتهم. وفي سبيل هذه الغاية بعث ابنه عبد الملك إلى أمير المسلمين مرة أخرى (496 هـ)، ومعه هدية جليلة من جملتها أربعة عشر ربعاً من آنية الفضة. وكان أمير المسلمين يومئذ بقرطبة، يعد العدة لإعلان البيعة لولده على بولاية عهده. فقبل الهدية، وأمر بأن تضرب هذه الآنية الفضية قراريط مرابطية، فرقت في أطباق على رؤساء قومه ليلة عيد الأضحى، وحضر عبد الملك حفل البيعة، ثم عاد إلى سرقسطة (¬2). وشعر المستعين بشىء من الطمأنينة، واعتزم أن يخصص جهوده لمقارعة ملك أراجون ومشاريعه العدوانية، وكان بيدرو ملك أراجون قد توفي يومئذ وخلفه في الملك أخوه ألفونسو الذي عرف فيما بعد بالمحارب. وهو الذي تسميه الرواية الإسلامية " بابن رذمير ". وكان أميراً مقداماً شديد البأس، ولم يكن قد بقي من قواعد مملكة سرقسطة الهامة بعد وشقة، سوى مدينة تطيلة، فسار إليها في قواته، وخف المستعين لإنجادها. ووقعت بين الفريقين معركة شديدة عند بلد تدعى بلتيرة (فالتيرا)، فهزم المسلمون، وقتل المستعين، وذلك في رجب سنة 503 هـ (يناير سنة 1110 م) (¬3). ¬_______ (¬1) هذا ما ورد في الأوراق المخطوطة من البيان المغرب التي سبقت الإشارة إليها. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء (دوزي) ص 225، والقاهرة ج 2 ص 249، وأعمال الأعلام ص 174. (¬3) تاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ ص 140؛ وكذلك P.y Vives: Los Reyes. de Taifas p. 49. ويورد ابن الخطيب هذه الواقعة بصورة أخرى فيقول لنا إن المستعين خرج إلى الجهاد في سنة 501 هـ، وتوغل حتى تطيلة وأرنيط (أرنيدو) وافتتحها، ثم أدركه النصارى عند العودة وهاجموه بشدة، فهزم وقتل (أعمال الأعلام ص 174).

فخلفه ولده عبد الملك وتلقب بعماد الدولة، وبايعه أهل سرقسطة على شرط أن يترك محالفة النصارى، وأم يخرجهم من جيشه، وتعهد لهم عبد الملك بتحقيق رغبتهم، ولكنه لم ينفذ وعده. وكانت الحوادث تسير عندئذ بسرعة، وحسن الطالع يؤاتي المرابطين تباعاً، ولاسيما مذ أحرزوا نصرهم الحاسم بقيادة الأمير تميم ابن يوسف بن تاشفين على جيوش قشتالة في موقعة إقليش في سنة 501 هـ (1108 م)، وهي الموقعة التي أبيدت فيها القوات القشتالية، وقتل الإنفانت الطفل سانشو ولد ألفونسو السادس من حظيته زائدة الأندلسية. ولما رأى أهل سرقسطة أن أميرهم عماد الدولة لا يستجيب إلى شروطهم بتسريح قواته من النصارى، كتبوا إلى أمير المسلمين علي بن تاشفين، وهو في مراكش، يناشدونه خلع بني هود، وتسلم سرقسطة، فاستفتى على فقهاءه، فأفتوه بوجوب تحقيق هذه الرغبة، وبعث إلى قائده محمد بن الحاج والى بلنسية، أن يسير إلى سرقسطة. ولما علم عماد الدولة بذلك، أرسل إلى أمير المسلمين خطاباً مؤثراً يستصرخه فيه، ويذكره بما كان بين والديهما من أواصر المودة، وأنه لم يصدر منه في حقه أية إساءة، وأنه من الخير أن يترك سرقسطة على حالها حاجراً بينه وبين النصارى، فرق علي لملتمسه، وكتب إلى قائده أن يكف عنه (¬1). ولكن الأمر كان قد قضي عندئذ. ذلك أن عماد الدولة لما شعر بمقدم المرابطين، غادر سرقسطة في أهله وأمواله إلى حصن روطة المنيع، واستقر به ينتظر الحوادث (¬2). وفي رواية أخرى أن ابن الحاج حينما زحف على سرقسطة، تأهب عبد الملك لمقاومته، واستنصر بألفونسو ملك أراجون، وأنه وقع بين الفريقين قتال هزم فيه ابن الحاج وقتل، ثم إن أهل سرقسطة أخرجوا عبد الملك، واستدعوا عامل أمير المسلمين، فاستولى على سرقسطة وذلك في أواخر سنة 503 هـ (¬3). وفي روض القرطاس أن ابن الحاج سار من بلنسية إلى سرقسطة، ودخلها في سنة 502 هـ. وأخرج منها بني هود وملكها (¬4). ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 72. (¬2) راجع: Dozy: Histoire, Vol.III.p. 154 (¬3) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 175. (¬4) روض القرطاس ص 104.

وهكذا انتهى حكم بني هود في سرقسطة، بعد أن دانت لحكمهم أكثر من سبعين عاماً، منذ انتزع عميدهم ومؤسس دولتهم سليمان بن هود الحكم من آل تجيب في سنة 430 هـ. وقد عاشت ولاية سرقسطة أو الثغر الأعلى في الواقع، كوحدة سياسية وعسكرية مستقلة عن الحكومة المركزية أكثر من قرنين، إذا احتسبنا عهد بني تجيب بها. وهكذا كانت سرقسطة آخر دولة من دول الطوائف تسقط في أيدي المرابطين. وتاريخها في الأعوام القليلة القادمة حتى سقوطها في يد ألفونسو الأول ملك أراجون في سنة 512 هـ (1118 م) يرتبط بتاريخ المرابطين. على أن سقوط سرقسطة، لم يكن آخر العهد ببني هود. ذلك أن عماد الدولة عبد الملك بن المستعين، استقر بقاعدة روطة الحصينة (¬1)، الواقعة على نهر خالون أحد أفرع إبرُه " الإيبرو " الجنوبية. وكان بنو هود قد أعدوا هذه القاعدة وحصنوها، وزودوها بالأبنية الفخمة، لتكون لهم عند الضرورة ملجأ ومثوى، كلما نزلت بهم نازلة. واستمر عماد الدولة مقيماً بروطة، وهو يشهد الصراع المضطرم بين المرابطين والنصارى حول امتلاك سرقسطة. فلما سقطت في يد النصارى وضع نفسه تحت حماية سيدها الجديد ألفونسو ملك أراجون (ابن رذمير) واستمر على حاله، حتى توفي بروطة في شعبان سنة 524 هـ (1130 م). فخلفه في الإمارة ولده أبو جعفر أحمد بن عبد الملك وتلقب بسيف الدولة المستنصر بالله، وكذلك بالمستعين بالله، واستمر في حكمه لروطة، وما حولها من الحصون والأراضي، حتى حمله ألفونسو ريمونديز ملك قشتالة، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بأدفونش بن رمند وبالسليطين، على التنازل عنها، وعوضه عنها بقسم من مدينة طليطلة، نزل فيه بأهله وأمواله، أو ببعض أملاك بجوار طليطلة أقطعه إياها، وذلك في سنة 534 هـ (1139 م) (¬2)، وهي حوادث نستوفيها فيما بعد في تاريخ المرابطين في شبه الجزيرة. * * * ¬_______ (¬1) هي بالإسبانية Rueda (¬2) هذه هي رواية ابن الأبار في الحلة السيراء، ص 225. وراجع ابن خلدون ج 4 ص 163، وروايته مضطربة تنقصها الدقة سواء في الوقائع أو التواريخ. ويضع ابن الأثير تاريخ تسليم المستنصر بالله حصن روطة في سنة 529 هـ (1135 م) (ج 11 ص 13). راجع كذلك: P.y Vives: ibid ; p. 50

وقد كانت سرقسطة في عهد بني هود، كما كانت إشبيلية في عهد بني عباد، مركزاً لحركة علمية وأدبية زاهرة، وكان بنو هود من حماة العلوم والآداب، وقد نبغ بعضهم في ميدان التفكير، ولاسيما أبو جعفر المقتدر، وولده يوسف المؤتمن، وقد كان كلاهما من أكابر علماء عصره، في الفلسفة والرياضة والفلك، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل. وقد اشتهرت سرقسطة في هذا العصر بنوع خاص، أعني في القرن الحادي عشر الميلادي بالدراسات الفلسفية والرياضية. وكان من أعلام أبنائها في هذا العصر، فيلسوف من أعظم فلاسفة الإسلام وعلمائه، هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ المعروف بابن باجة، والذي يعرف في الغرب باسمه اللاتيني Avempace. وقد نشأ ابن باجة في أواخر القرن الحادي عشر بسرقسطة ودرس بها، وعاش فيها حتى مطلع شبابه قبل أن تسقط في أيدي الإسبان ونبغ في الرياضة والفلك والطبيعة والفلسفة، هذا فضلا عن براعته في الشعر والأدب. ولما ولي الأمير أبو بكر بن إبراهيم اللمتوني حكم سرقسطة من قبل المرابطين، ندب ابن باجة لوزارته، واختص به، وأغدق عليه عطفه ورعايته، بالرغم مما كان يرمي به الفيلسوف من الميول والآراء الإلحادية. ولما سقطت سرقسطة في أيدي الإسبان (1118 م) غادرها ابن باجة إلى إشبيلية، ثم إلى شاطبة، ثم نزح من الأندلس إلى المغرب، وعاش هناك حتى توفي في سنة 1138 م. وقد كتب ابن باجة زهاء خمسة وعشرين كتاباً لم يصلنا منها سوى القليل، وترك لنا عدداً من القصائد الرصينة الجزلة التي تنم روعة خياله ورائق نظمه. وهو يعتبر على العموم من أعظم المفكرين والفلاسفة الأندلسين، وقد كان لآرائه ونظرياته تأثير كبير في تفكير الفيلسوف أبي الوليد بن رشد الحفيد (¬1). ونبغ في سرقسطة أيام بني هود في عهد المستعين بن المؤتمن، المفكر والفيلسوف السياسي أبو بكر الطرطوشي، نسبة إلى طرطوشة ثغر سرقسطة، وهو صاحب كتاب " سراج الملوك " الذي يعتبر بموضوعه ونظرياته المبتكرة، من الكتب التي وضعت أسس السياسة الملوكية في التفكير الإسلامي. ويشير ابن خلدون إلى هذا الكتاب في مقدمته ويعتبره من الكتب التي سبقته في موضوعه (¬2). وقد وضع الطرطوشي كتابه أثناء إقامته بمصر أيام الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش، وأهداه ¬_______ (¬1) راجع الإحاطة لابن الخطيب ج 1 ص 414 - 416. (¬2) ابن خلدون في المقدمة (بولاق) ص 33.

في مقدمته إلى خلفه المأمون البطائحي، وتأثر في كتابته بتفكير فيلسوف العصر، العلامة ابن حزم القرطبي، وتوفي الطرطوشي بالإسكندرية سنة 520 هـ (1126 م). وقد أوحت ظروف مملكة سرقسطة وأحوالها السياسية والاجتماعية يومئذ، إلى الطرطوشي بكثير من نظرياته الاجتماعية، ومنها نظرية عصبية الدولة، فإن الطرطوشي يرى أن عصبية الدولة أو قوتها الحامية، إنما تقوم " على الجند أهل العطاء المفروض مع الأهلة " أي الجند المرتزقة الذين يتناولون أجورهم كل شهر. ويعارض ابن خلدون هذه النظرية، ويقول إنها لا تنطبق على الدول في أولها، وإنما تنطبق على الدولة في نهاية عهدها، بعد التمهيد واستقرار الملك، وإستحكام الصبغة لأهله، وأن الطرطوشي قد أدرك الدولة الهودية عند هرمها ورجوعها إلى الاستظهار بالموالي والصنائع، ثم إلى المستخدمين من ورائهم بالأجر على المدافعة، وأدرك دول الطوائف، وذلك عند اختلال الدولة الأموية، وانقراض عصبيتها من العرب، واستبداد كل أمير بقطره، وعاش في ظل المستعين بن هود بسرقسطة، ولم يكن بقي لهم من أمر العصبية شىء لاستيلاء الترف على العرب منذ ثلثمائة من السنين وهلاكهم، ولم ير إلا سلطاناً استبد بالملك عن عشائره، وقد استحكمت له صبغة الاستبداد منذ عهد الدولة، وبقية العصبية، فهو يستعين على أمره بالأجراء من المرتزقة (¬1). والظاهر أن الطرطوشي قد تأثر تأثراً شديداً بما شهده من اعتماد بني هود في حماية ملكهم على معاونة الجند النصارى، ولاسيما أيام السيد إلكمبيادور، وسعيهم إلى شراء هذه المعونة بالمال أينما استطاعوا، منذ ابتداء دولتهم حتى نهايتها. وقد كان ذلك في نفس الوقت شأن كثير من ملوك الطوائف الآخرين، حسبما ذكرنا في أخبارهم. وكانت سرقسطة إلى جانب كونها مركزاً للعلوم الرياضية والفلسفية في القرن الحادي عشر الميلادي، كباقي عواصم الطوائف الأخرى، مركزاً لحركة أدبية قوية، وقد نبغ بها في ذلك العصر كثير من الأدباء والشعراء مثل ابن الدباغ، وابن حسداي، وأبي عمر بن القلاس، وغيرهم، ممن ذكرهم صاحب الذخيرة، وأورد لنا الكثير من نظمهم ورسائلهم. ¬_______ (¬1) راجع سراج الملوك للطرطوشي (القاهرة 1935) ص 229 و 231، ومقدمة ابن خلدون (بولاق) ص 130 و 131. وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 284 & 285

ولعبت سرقسطة بالأخص دوراً كبيراً في التبادل الثقافي والحضاري بين الأندلس وبين الدول الإسبانية المجاورة، والدول الفرنجية الشمالية، وقد هيأ لها موقعها بين الممالك الإسبانية على مقربة من جبال البرنيه، أن تضطلع بهذا الدور الحضاري الخطير. ومما هو جدير بالذكر أنها كانت في ذلك العصر، مهبط الفرسان النصارى من كل جنس، يجدون في بني هود وفي بلاطها الباذخ، ساحة رحبة، وكانت مركزاً لأشعار الفروسية والشعر الغنائي، الذي كان ينتشر يومئذ في أرجاء قطلونية وأراجون ونافار، ومنها كانت تنقل المقطوعات الغنائية الأندلسية إلى المجتمعات النصرانية المجاورة، فتؤثر في الملاحم والأناشيد القومية. وقد انتقلت هذه المؤثرات، فيما بعد بمضي الزمن عبر جبال البرنيه إلى جنوبي فرنسا، ثم إلى غيرها من المجتمعات النصرانية. ويجب أخيراً ألا ننسى دور سرقسطة المسلمة، في ترويج التبادل التجاري والمهني بين الشرق والغرب، فقد كانت مملكة سرقسطة بسيطرتها على جزء كبير من البحر المتوسط، وثغريها الكبيرين طرّكونة، وطرطوشة، تستقبل شطراً كبيراً من تجارة المشرق وتجارة الأندلس والمغرب، وتعمل على تصريفها إلى الأمم الأوربية عن طريق ثغور فرنسا الجنوبية، وثغور إيطاليا. وكان بنو هود يجنون من وراء ذلك أرباحاً طائلة، سواء من المكوس أو الوساطة التجارية، وقد كانوا في الواقع من أغنى ملوك عصرهم، وكان بلاطهم من أفخم قصور الطوائف، وأكثرها روعة وبذخاً، وإن لم تكن لهم شهرة في الجود والبذل، وقد استطاعوا بهذا الغنى الطائل، أن يجتذبوا الفرسان والمرتزقة النصارى لخدمة سياستهم، واستطاعوا بدفع الإتارات الوفيرة للملوك النصارى، أن يتقوا عدوانهم أطول وقت ممكن، ومن ثم فقد لبثت سرقسطة عصراً طويلا بمنجاة من تلك الغزوات المخربة، التي كانت تنكب بها دول الطوائف الأخرى.

الكتاب السادس موقعة الزلاقة والفتح المرابطى

الكتِاب السادس موقعة الزلاّقة والفتح المرابطيّ

الفصل الأول نشأة المرابطين

الفصْل الأوّل نشأة المرابطين وقيام الدولة المرابطية بالمغرب أصل المرابطين. قبيلة لمتونة وحياتها في القفر. دخولها في الإسلام. أول ملوكها. افتراق كلمتها. الأمير ابن تيفاوت اللمتوني. مصرعه وقيام الأمير يحيى الجدالي مكانه. رحيله إلى المشرق. لقاؤه بالفقيه أبى عمران الفاسي. عبد الله بن ياسين. رحيله مع الأمير إلى الصحراء. بثه لتعاليم الإسلام بين أهلها. صرامته وانصرافهم عنه. مغادرته لهم مع أصحابه وانقطاعه للعبادة. وفود أعيان صنهاجة إليه. قيام جماعة المرابطين. أطماع عبد الله الدفينة. تكاثر تلاميذه. يدعوهم إلى الجهاد. دعوته إلى اتباع أحكام الدين. مقاتلته لقبائل صنهاجة وإخضاعها. سلطانه الروحى على القبائل. يحيى بن ابراهيم الكدالي يتولى السلطة الزمنية. وفاته وقيام يحيى بن عمر اللمتوني مكانه. ورعه وفتوحه في الصحراء. صدى حركة المرابطين في المغرب. أحوال المغرب في ذلك العهد. استدعاء فقهاء درعة وسجلماسة للمرابطين. مسير المرابطين إلى درعة والاستيلاء عليها. استيلاؤهم على سجلماسة. عبد الله بن ياسين يأمر بإزالة المنكرات. وفاة الأمير يحيى وقيام أخيه أبي بكر مكانه. مسير المرابطين إلى بلاد السوس. يوسف بن تاشفين يقود الجيش. افتتاحه لقواعد السوس. الطائفة البجلية وسحقها. مسير المرابطين إلى الأطلس. افتتاحهم لأغمات. استيلاؤهم على تادلا. قبائل برغواطة ومذهبها الوثني. مطاردتهم ومحاربتهم على يد بلكين بن زيري والفتى واضح. مسير المرابطين لقتالهم. إصابة عبد الله بن ياسين ووفاته. قيام أبي بكر اللمتوني مكانه. بدء الدولة المرابطية. متابعة حرب برغواطة. افتتاح مكناسة ولواتة. أنباء الخلاف في الصحراء. أبو بكر يندب يوسف بن تاشفين للرياسة ويسير إلى الصحراء. تقسيم القوات المرابطية بين الزعيمين. أبو بكر يصلح شئون الصحراء. يوسف بن تاشفين ينظم افتتاح باقي المغرب. نجاحه واشتداد بأسه. اختطاطه لمدينة مراكش حاضرة المغرب. تنظيم يوسف للجيش. افتتاحه لمدينة فاس. مسيره إلى بلاد غمارة. فقد فاس واستردادها. عود أبي بكر من الصحراء إلى المغرب. تأثره بعظمة شأن يوسف وضخامة ملكه. لقاء الرجلين. زينب زوجة يوسف ودورها في ذلك. انصراف أبي بكر إلى الصحراء. يوسف يتم فتح المغرب. افتتاحه لطنجة. افتتاحه للمغرب الأوسط. قيام الدولة المرابطية الكبرى. يوسف بن تاشفين. نشأته وخلاله. يحكم أعظم إمبراطورية إسلامية في الغرب. ألقابه وانضواؤه تحت لواء الخلافة العباسية. يوسف وشئون الأندلس. صريخ ملوك الطوائف إليه. ظروف هذا الصريخ واختلاف الرواية في شأنه. أصل الفكرة ومبعثها. الإعتراض عليها. سقوط طليطلة وأثره في إذكائها. سفارة الأندلس إلى يوسف. العهود المتبادلة. مطالبة يوسف بثغر الجزيرة. يوسف يلبي نداء الطوائف. مسير الجيوش المرابطية إلى سبتة. جوازها إلى شبه الجزيرة. دعاء يوسف خلال الجواز.

يجدر بنا أن نقف الآن قليلا لنلقي بعض الضوء على أصل أولئك المرابطين، الذين شملت دولتهم الكبرى، في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، سائر أنحاء المغرب من لوبية إلى المحيط غرباً، وإلى السودان جنوباً، والذين استجابوا إلى صريخ ملوك الطوائف، وعبروا البحر إلى شبه الجزيرة الإسبانية نصرة للإسلام وبنيه. إن المرابطين هم من قبيلة لمتونة، ولمتونة هذه بطن من بطون صنهاجة، أعظم القبائل البربرية، وهي بدورها فرع من فروع قبيلة البرانس الكبرى. وينتمي إلى صنهاجة، عدا لمتونة، عدد كبير من القبائل البربرية مثل مسوفة، ومسراتة، ومداسة، وكدالة. ووتريكة، ولمطة وغيرها. وقد لعب الكثير منها في تاريخ المغرب أدواراً ملحوظة. وفي بعض الروايات أن صنهاجة، وهي الأم الكبرى لهذه القبائل ترجع نسبتها إلى العرب اليمانية، وأنها فخذ من ولد عبد شمس ابن وائل بن حمير، وهي كسائر الروايات المماثلة في أنساب البطون البربرية رواية ضعيفة، تقوم على القصص والأسطورة (¬1). وكانت لمتونة تسكن منذ عصور بعيدة قبل الإسلام في قلب الصحراء، ما بين جنوبي المغرب والسودان. في تلك المنطقة التي كانت تسمى منذ أيام الرومان إقليم " موريتانيا ". وكانت تؤثر حياة القفر على أية حياة أخرى " انتباذاً عن العمران، واستئناساً بالانفراد، وتوحشاً بالعز عن الغلبة والقهر "، وكانوا يعتمدون في قوتهم على لحم الإبل ولبنها، ولا يعرفون حرثاً ولا ثماراً، ولا يأكلون الخبز (¬2). وكان شعارهم " اللثام " ومن ثم فقد عرفوا " بالملثمين "، وقيل في سبب ذلك إنهم كانوا يتخذون في أعراسهم نوعاً خاصاً من الحجاب، أو لأنه حدث ذات مرة في بعض حروبهم أن نساءهم كن يقاتلن معهم محجبات، حتى يحسبن بذلك في عداد الرجال (¬3)، وقيل بل كانوا يقلدون في ذلك قبيلة حمير التي يدعون الانتساب إليها. وذكر لنا أبو عبيد البكري، في معجمه " المسالك والممالك "، فيما يتعلق بأمر اللثام الذي يلتزمه المرابطون، أن جميع قبائل الصحراء يلتزمون، النقاب، وهو ¬_______ (¬1) راجع روض القرطاس ص 75. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 181، وروض القرطاس ص 76. (¬3) راجع الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوي (1306 هـ) ج 1 ص 98 و 99.

فوق اللثام، حتى لا يبدو منه إلا محاجر عينيه، ولا يفارقون ذلك في حال من الأحوال، ولا يميز رجل من وليه ولا حميمه إلا إذا تنقب. وكذلك في المعارك إذا قتل منهم القتيل. ونزل قناعه لم يعلم من هو حتى يعاد عليه القناع، وصار ذلك لهم ألزم من جلودهم، وهم يسمون من خالف زيهم هذا من جميع الناس أفواه الذبان بلغتهم (¬1). وكانت لمتونة، كسائر القبائل البربرية، تدين بالمجوسية، واستمروا على ذلك حتى ذاع بينهم الاسلام عقب فتح الأندلس، وبدأت رياستهم من ذلك الحين تتخذ نوعاً من الملك. وفي أيام عبد الرحمن الداخل، أعني في أواسط القرن الثاني الهجري، كان ملكهم يدعى تيولوثان بن تيكلان الصنهاجي اللمتوني، فبسط سلطانه على سائر نواحي الصحراء، وحارب القبائل الوثنية، ونشر الإسلام بين كثير منها، وفرض الجزية على سائر ملوك السودان المجاورين، وكانت مملكته بالصحراء مسيرة ثلاثة أشهر في مثلها. ولما توفي في سنة 222 هـ، خلفه في الرياسة حفيده الآثر بن بطين بن تيولوثان (¬2)، واستطال حكمه زهاء خمسة وستين عاماً، حتى وفاته في سنة 287 هـ، فخلفه ولده تمييم، واستمر في الحكم إلى أن ثار عليه في سنة 306 هـ أشياخ قبيلة صنهاجة وقتلوه. وعندئذ افترقت كلمة الجماعة، وانقسموا شيعاً، واستمروا دون رياسة جامعة زهاء مائة وعشرين عاماً، إلى أن قام فيهم الأمير أبو عبد الله محمد بن تيفاوت اللمتوني المعروف بتارسنا، فالتفوا حوله، واجتمعوا على رياسته. وكان أميراً فاضلا ورعاً، شغوفاً بالجهاد، فلم يطل أمد حكمه سوى ثلاثة أعوام، إذ استشهد في غزوة من غزواته ضد بعض قبائل السودان الوثنية. فولى من بعده صهره الأمير يحيى بن ابراهيم الجدالي، زعيم قبيلة جدالة أوكدالة، وهي شقيقة لمتونة يجمعهما أب واحد، واستمر على رياسته لصنهاجة، وقيادتها في حروبها ضد أعدائها، حتى سنة 427 هـ (1035 م) (¬3)، ثم استخلف في الرياسة ولده إبراهيم ¬_______ (¬1) المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب المستخرج من كتاب " المسالك والممالك " لأبى عبيد البكري والمنشور بعناية المستشرق البارون دي سلان (الطبعة الثانية) ص 170. (¬2) وردت هذه التسمية في روض القرطاس ص 76. ولكن ابن خلدون يسميه يلتان (ج 6 ص 182). (¬3) هذه رواية ابن أبي زرع (ص 77)، ويوافقه صاحب الاستقصاء (ج 1 ص 99)، ولكن ابن خلدون يضع نهاية رياسته في سنة 440 هـ (ج 6 ص 182).

ابن يحيى، ورحل إلى المشرق مع طائفة من زعماء قومه، ليقضي فريضة الحج. والظاهر أيضاً أن يحيى الكدالي كانت تحدوه في تلك الرحلة مُثل أخرى، فهو قد رأى ما كان عليه قومه من التأخر والجهل بتعاليم الإسلام وأصوله، فرحل إلى المشرق يطلب العلم إلى جانب قضاء الفريضة. ولما عاد من المشرق، عرج في طريقه على مدينة القيروان، وهنالك التقي وصحبه بالفقيه أبى عمران الفاسي شيخ المذهب المالكي يومئذ، وتأثروا بوعظه وعلمه. وشكا إليه يحيى من جهل قومه، وطلب إليه أن يختار له فقيهاً من تلاميذه، يتولى تعليم قومه وتثقيفهم بتعاليم الإسلام الصحيحة، ولما لم يجد أبو عمران من تلاميذه بالقيروان من يقبل تلبية هذه الدعوة، بعث معه كتاباً إلى تلميذ من تلاميذه بالسوس الأقصى يدعى أبو محمد واجاج بن زلوا اللمطي، وكان فقيهاً ورعاً يدرس العلم لتلاميذه في رباط خاص أنشأه لذلك، فلما مثل لديه يحيى قرأ خطاب الشيخ أبى عمران على تلاميذه، فاستجاب للدعوة منهم رجل يدعى عبد الله بن ياسين الجزولي، وكان من أنبه تلاميذه وأكثرهم علماً وورعاً. وكان قد رحل إلى الأندلس، وأنفق فيها بضع سنين يدرس في ظل الطوائف، فزاد علماً وتجربة. فسار مع يحيى إلى الصحراء، فاغتبطت بمقدمه لمتونة وكدالة، واستقبلوه بمنتهى الحفاوة والتكريم (¬1). - 1 - وكان عبد الله بن ياسين فقيهاً شديد الورع، والغيرة على تعاليم الإسلام، وكان فوق ذلك خطيباً موهوباً قوي التأثير، فأخذ يبث تعاليم الدين بين أولئك البدو الصحريين، ويبصرهم بأحكام الإسلام، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. بيد أنه اشتد في مؤاخذتهم، ومطالبتهم بالإقلاع عن تقاليدهم المنافية للإسلام مثل الزواج بأكثر من أربع، وكان من الأمور الشائعة بينهم، وغير ذلك من التقاليد المغرقة، فأخذوا ينصرفون عنه، ويعرضون عن تعاليمه، لما رأوا من صرامته، وما تكبدهم تعاليمه من المشقة والضيق. وعندنذ عول عبد الله، وتلميذه وصديقه الوفي يحيى بن ابراهيم، على انتباذ أولئك البدو الجهلة، والانقطاع إلى العبادة والزهد، في أحد المواضع النائية، وانضم إليه في ذلك سبعة نفر من كدالة ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 77 و 78، والإستقصاء ج 1 ص 99 و 100، وابن خلدون ج 6 ص 192. وراجع الحلل الموشية ص 9.

ويحيى بن عمر بن تلاكاكين من رؤساء لمتونة. ويقول لنا ابن خلدون إن عبد الله ابن ياسين وأصحابه انقطعوا للعبادة في جزيرة يحيط بها بحر النيل من سائر جهاتها، وهو قول لا يمكن أن ينصرف إلى نهر النيل المعروف لنا، لبعد النيل عن صحراء المغرب الجنوبية بمسافات شاسعة، ولكن تفسير هذا الغموض يرجع إلى أن " نهر النيجر " كان يظن يومئذ أنه امتداد أو فرع لنهر النيل العظيم، يخترق الأقطار السودانية الغربية. ومن ثم فقد كان نهر النيجر يعرف يومئذ بنهر النيل أو النهر الأعظم، وبهذا الاسم يسميه الرحالة ابن بطوطة في أقواله عن رحلته في مملكة مالي السوداء (¬1). وإذاً فإن الموضع الذي انقطع فيه عبد الله بن ياسين وأصحابه للعبادة كان فيما يرجح جزيرة تقع في منحنى نهر " النيجر " على مقربة من تنبكتو، وهذا ما يؤيده وصف صاحب روض القرطاس (¬2). وعلى أي حال فقد انقطع عبد الله وصحبه للعبادة في هذا الموضع، وابتنوا به رابطة للصلاة والعبادة، وما لبث أن اشتهر أمره، ووفد عليه كثير من أشراف صنهاجة ممن آثروا الزهد والعبادة، فعكف عبد الله على تثقيفهم ووعظهم، وسماهم " بالمرابطين " للزومهم رابطته، وأخذ يعلمهم أحكام الكتاب والسنة والصلاة والزكاة، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويشوقهم إلى الجنة، ويحذرهم عذاب النار، ويلهب حماستهم للجهاد في سبيل الله، ومقاتلة المخالفين لأحكام كتابه. وكان عبد الله بن ياسين، حسبما أسلفنا واعظاً موهوباً، وخطيباً ذلقاً مؤثراً، وكان هذا الفقيه الورع، يضطرم في أعماق نفسه بمشاريع وأطماع دفينة أخرى، غير تلقين أحكام الدين، وبث الورع والخشوع في نفوس أصحابه. ْذلك أنه ما كاد يرى كثرة تلاميذه - فقد بلغوا الألف عندئذ - ويوقن بولائهم، وانقيادهم لأوامره، حتى دعاهم إلى الجهاد بصورة عملية، وبعثهم إلى أقوامهم، لينذروهم، ويطلبوا إليهم الكف عن البدع والضلالات، واتباع أحكام الدين الصحيح، ففعلوا ما أمروا به، ودعا كل قومه إلى الرشد والهدى، ومجانبة التقاليد المنافية للدين، فلم يصغ لهم أحد من أقوامهم، فخرج إليهم عبد الله ابن ياسين بنفسه، واستدعى أشياخ القبائل ووعظهم، وحذرهم عقاب الله، ¬_______ (¬1) راجع رحلة ابن بطوطة (القاهرة 1322 هـ) ج 2 ص 201 و 202 و 203. (¬2) روض القرطاس ص 79.

ونصحهم باتباع أحكامه، فلم يلق منهم سوى الإعراض والتحدي، فعندئذ قرر عبد الله وصحبه إعلان الحرب على أولئك المخالفين، وكان صحبه يزداد عديدهم كل يوم، حتى بلغوا بضعة آلاف. وخرج عبد الله بن ياسين لقتال كدالة، فغزاهم في نحو ثلاثة آلاف، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وأسلم الباقون من جديد إسلاماً صحيحاً (434 هـ - 1042 م). ثم سار لقتال لمتونة، وضيق عليهم حتى أذعنوا للطاعة، وبايعوه على الكتاب والسنة. وسار بعد ذلك لقتال مسوفة فحذوا في الطاعة والبيعة حذو لمتونة. وهكذا تعاقب خضوع قبائل صنهاجة واحدة بعد الأخرى، حتى خضعوا جميعاً. وكان من ْتعاليمه أن يضرب التائب مائة سوط حتى يطهر، ثم يلقن تعاليم القرآن وأحكام الشرع. وبسط عبد الله بن ياسين سلطانه الروحي على سائر قبائل تلك الصحارى، وجعل السلطة الزمنية ليحيى بن ابراهيم الكدالي، وإن كان هو المستأثر في الواقع بكل سلطة وإليه الأمر والنهي، وجبى عبد الله الأموال من الزكاة والعشور والفيء، واقتنى الخيل والسلاح، واشتد بأسه، واشتهر أمره في سائر جنبات الصحراء، وفي المغرب والسودان. ولما توفي الأمير يحيى بن إبراهيم، ندب عبد الله مكانه للرياسة الأمير يحيى بن عمر بن تلاكاكين اللمتوني ليتولى شئون الحرب والجهاد (¬1). وكان يحيى بن عمر اللمتوني أميراً ورعاً زاهداً، وكان كثير الولاء والطاعة لعبد الله بن ياسين. ومما يروى في ذلك أن عبد الله ضربه ذات يوم عشرين سوطاً لأنه باشر القتال بنفسه مع جنده، ولأن الأمير يجب ألا يعرض نفسه للمخاطر، وأن يقتصر على حث جنده وتقوية نفوسهم، وحياة الأمير هي حياة عسكره وفي موته فناء جيوشه. وقاد الأمير يحيى عدة حملات، وافتتح جميع جهات ْالصحراء، وغزا بلاد السودان وافتتح كثيراً من أنحائها. وكانت حركة المرابطين وأعمال زعيمهم عبد الله بن ياسين قد أخذت تحدث صداها في قواعد المغرب. وكان المغرب يومئذ، قد انقسم بعد انقضاء أمر الأدارسة، وبعد أن لبث منذ منتصف القرن الرابع مسرحاً لحروب الشيعة وخلفاء قرطبة الأمويين، إلى ممالك ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 80، والاستقصاء ج 1 ص 101.

وإمارات عدة، تسودها مختلف القبائل البربرية، ولاسيما صنهاجة وزناته ومغراوة، وكانت أعظم ممالكهم مملكة زيري بن عطية الزناتيين وبنيه بعده، وقد استطالت منذ أيام المنصور بفاس، ومعظم أعمال المغرب الشمالي، حتى أوائل القرن الخامس، واستقر بنو يفرن بأعمال الشاطىء في سلا وما يليها، واستقر بنو خزرون المغراويون بدرعة وسجلماسة وأعمالها، وبأنحاء أخرى في أواسط المغرب. واستقرت برغواطة جنوباً بشاطىء المحيط. وهكذا كان المغرب يقدم يومئذ بظروفه وإماراته الصغيرة المتفرقة، فرصة طيبة للطامعين والمتوثبين. وكانت العناصر الناقمة في تلك الإمارات المستبدة، تتطلع إلى أولئك القوم الجدد، الذين يضطرمون بالحماسة الدينية وينادون بالإصلاح، والتزام أحكام القرآن والسنة. ففي سنة 444 هـ بعث فقهاء درعة وفقهاء سجلماسة بكتبهم إلى عبد الله ابن ياسين، وإلى الأمير يحيى اللمتوني وأشياخ المرابطين، يشكون ما يقع في بلادهم من ضروب الظلم والعسف، والخروج على أحكام الدين، ويدعونهم إلى إنقاذ المسلمين من هذا النير المرهق. وكانت درعة وسجلماسة يومئذ تحت حكم بنى وانودين من زعماء مغراوة، وأميرهم يومئذ هو مسعود بن وانودين، فجمع عبد الله بن ياسين أشياخ المرابطين وشاورهم في الأمر، فرأوا وجوب قبول الدعوة والسير إلى غوث أهل المدينتين. ففي سنة 445 هـ خرج المرابطون من الصحراء على خيولهم في حشد ضخم، وعلى رأسهم عبد الله بن ياسين ويحيى اللمتوني، وقصدوا أولا إلى مدينة درعة فأخرجوا عنها عاملها، واستولوا عليها واستولوا في أرباضها على خمسين ألف من الإبل من أموال أميرها مسعود، ونهض مسعود بن وانودين لرد الغزاة والدفاع عن أراضيه، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، قتل فيها مسعود، وأبيد معظم جنده، واستولى المرابطون على دوابهم وأسلابهم. ثم ساروا إلى سجلماسة، فاقتحموها، وقتل من كان بها من جند مغراوة. وأمر عبد الله بن ياسين بإزالة المنكرات ورفع المكوس الجائرة، وتفريق الأخماس على المرابطين وفقهاء البلدين، وتطبيق أحكام الدين، وندب لحكم سجلماسة عاملا من اللمتونيين، وكانت هذه بداية الفتح المرابطي للمغرب (¬1). ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 183. ويضع ابن أبي زرع تاريخ هذه الغزوة في سنة 447 هـ (روض القرطاس ص 81). وراجع السلاوي في الإستقصاء ج 1 ص 102.

وهنا يذكر لنا أبو عبيد البكري، أن عبد الله بن ياسين بعد أن أتم فتح سجلماسة، سار جنوباً وغزا في سنة 446 هـ، مدينة أودفست، وهي من أعمال مملكة غانة السوداء، وبينها وبين سجلماسة مسيرة شهرين، وبينها وبين مدينة غانة مسيرة خمسة عشر يوماً. وكان يسكن هذه المدينة خليط من زناتة والعرب، فدخلها المرابطون واستباحوها، وجعلوا جميع ما أصابوا فيها فيئاً (¬1). وفي سنة 447 هـ توفي الأمير يحيى بن عمر اللمتوني، فعين عبد الله بن ياسين مكانه للقيادة أخاه أبا بكر بن عمر. وكانت الخطوة الثانية في افتتاح المغرب، هي غزو بلاد السوس، ففي ربيع الثاني سنة 448 هـ، سار المرابطون نحو جنوب غربي المغرب قاصدين بلاد السوس، وجعل الأمير أبو بكر على مقدمة جيشه ابن عمه يوسف بن تاشفين اللمتوني، وهي أول مرة تقدم إلينا الرواية فيها، عاهل المرابطين العظيم فيما بعد. وبدأ بغزو بلاد جزولة ثم فتح ماسة، ثم سار إلى مدينة تارودنت قاعدة بلاد السوس فافتتحها. وكان بتارودنت طائفة من الرافضة تسمى البجلية نسبة إلى مؤسسها، على بن عبد الله البجلي الرافضي، وكان قد قدم إلى تلك الأنحاء أيام عبد الله الشيعي (أواخر القرن الثالث الهجري)، ونشر بها مذهبه، وهو يتضمن كثيراً من التعاليم المثيرة، فقتل المرابطون أولئك الروافض وارتد من بقي منهم إلى السنة، ودوخ المرابطون بلاد السوس، واستولوا على سائر نواحيها، وعين عبد الله بن ياسين لها عمالا من المرابطين، وأمرهم باتباع العدل والسنة، والاكتفاء بتحصيل الزكاة والأعشار، وإسقاط ما عدا ذلك من المغارم الجائرة. وعبر المرابطون بعد ذلك جبال الأطلس، وقصدوا إلى بلاد المصامدة، وتوغلوا في جبال درن، وفتحوا وردة وشفشاوة ونفيس، وسائر بلاد منطقة جدميوه، وبايعتهم قبائل تلك الناحية. ثم ساروا إلى مدينة أغمات، وكانت يومئذ لمغراوة، وأميرها لقوط بن يوسف بن علي المغراوى، فضربوا حولها الحصار، ودافع لقوط عن مدينته أشد دفاع، ولكنه لما رأى عبث المقاومة، فر منها في أهله وحشمه تحت جنح الظلام، والتجأ إلى حماية بني يفرن أمراء تادلا. ودخل عبد الله بن ياسين وجنده المرابطون أغمات في سنة 449 هـ، وأقام ¬_______ (¬1) كتاب المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب المستخرج من كتاب " المسالك والممالك " والمنشور بعناية البارون دي سلان (الطبعة الثانية) ص 168.

بها نحو شهرين حتى استراح جنده. ثم قصد إلى بلاد بني يفرن وهاجم قاعدتهم تادلا واقتحمها، وقتل من بها من بني يفرن، وظفر بلقوط المغراوي فقتله، وكانت زوجه زينب بنت إسحاق النفزاوية قد اشتهرت بحسنها ونبلها، فتزوجها الأمير أبو بكر اللمتوني. وبعد أن نظم عبد الله بن ياسين شئون هذه المنطقة سار إلى تامسنا لمقاتلة قبائل برغواطة. وكانت هذه القبائل تدين بمذهب تنافي تعاليمه الإباحية أحكام الإسلام، أسسه رجل يهودي الأصل يدعى صالح بن طريف البرناطي نسبة إلى برناط، وهو حصن من أعمال شذونة بالأندلس، ووفد على منطقة تامسنا منذ أوائل القرن الثاني من الهجرة ونشر مذهبه بين أهلها، وهم قوم تسودهم البداوة والجهالة المطلقة، فادعى النبوة وأنه قد نزل عليه قرآن جديد، كان يتلو بعض سوره وزعم أنه المهدي الذي يخرج في آخر الزمان، وجعل الصلوات خمساً في النهار وخمساً في الليل، والصوم في شهر رجب، وأباح لهم الزواج بأي عدد من النساء إلى غير ذلك. وكثر عدد أنصاره بمضي الزمن حتى أصبحوا أمة كبيرة يطلق عليها برغواطة. وفي بعض الروايات أن برغواطة تنتمي إلى قبيلة زناتة الشهيرة. ويقول ابن خلدون إنهم من المصامدة من حيث الوطن والجوار، وهم قبائل شتى لا يجمعهم أصل واحد، وإنما هم أخلاط من البربر اجتمعوا إلى مذهب صالح بن طريف (¬1). وأقام هذا الدعي صالح بن طريف لنفسه رياسة وملكاً في تلك المنطقة، منطقة تامسنا، وشاطىء المحيط الممتد من شمالي أزمور جنوباً حتى آسفي، وتوارث أعقابه وقرابته الملك من بعده. واشتهر منهم في أواخر القرن الثالث أبو غفير محمد بن معاذ بن اليسع بن صالح، واشتدت شوكته وعظم أمره، وكانت له في البربر وقائع مشهورة. وحارب ملوك العدوتين المغرب والأندلس، من الأدارسة وبني أمية والشيعة، قبائل برغواطة، وحاربهم بلكين بن زيري زعيم صنهاجة، حينما غزا المغرب سنة 368 هـ، ولقيه أميرهم أبو منصور عيسى بن أبي الأنصاري في قومه، فهزم وقتل، وأمعن بلكين فيهم تقتيلا. ثم حاربهم المنصور بن أبي عامر، وبعث لقتالهم الفتى واضح، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 209 و 210، والاستقصاء ج 1 ص 103.

فأثخن فيهم. وحاربهم بنو يفرن. وهكذا استمرت قبائل برغواطة، هدفاً للعداء والنقمة، حتى كان ظهور المرابطين في أوائل القرن الخامس. وكان من الطبيعي أن يتجه المرابطون إلى قتال هؤلاء الأقوام الكفرة الوثنيين. ومن ثم فقد سار عبد الله بن ياسين، وقائده أبو بكر اللمتوني في جموع المرابطين إلى أرض برغواطه، وكان الأمير عليهم يومئذ أبو حفص بن عبد الله بن أبي غفير ابن محمد بن معاذ، المتقدم الذكر. ونشبت بين المرابطين وبين البرغواطيين وقائع شديدة، أصيب فيها عبد الله بن ياسين الجزولي إمام المرابطين، ومنشىء طائفتهم، بجراح بالغة توفي منها في نفس اليوم. وجمع قبيل وفاته أشياخ المرابطين وحثهم على الثبات في القتال، وحذرهم من عواقب التفرقة والتحاسد في طلب الرياسة. وكان مصرعه في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 451 هـ (1059 م) ودفن في مكان يعرف بكريفلة أوكريفلت على مقربة من تامسنا، وأقيم على قبره فيما بعد مسجد، وما يزال مزاره قائماً معروفاً حتى اليوم. وفي الحال اتفق رأي المرابطين على اختيار قائدهم أبي بكر بن عمر اللمتوني للرياسة مكان إمامهم المتوفى، وهو اختيار أوصى به عبد الله قبل أن يلفظ النفس الأخير (¬1) وكان عبد الله بن ياسين فقيهاً شديد الورع والتقشف، شديد الحمية والتعصب لمذهبه، وقد ألفى في تلك القبائل الصحرية الساذجة، مادة طيبة لبث تعاليمه، واستطاع أن يذكي في نفوس أولئك المرابطين - أتباعه - تلك الحماسة الدينية البالغة، التي حملتهم من الصحراء إلى ربوع المغرب، وعاونتهم على انتزاعها تباعاً من أيدي القبائل الخصيمة. بيد أن عبد الله كان مع شديد ورعه، مشغوفاً بالنساء، يتزوج في كل شهر عدداً منهن ويطلقهن، ويسعى إلى خطبة الحسان أينما وجدن. وكان يأخذ ثلث الأموال المختلفة، وهو إجراء يصفه المؤرخ بالشذوذ (¬2). وقد ذكر لنا أبو عبيد البكري في معجمه " المسالك والممالك " بعض الأحكام الشاذة التي كان يطبقها عبد الله بن ياسين على المرابطين المنضوين ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 84. ويضع ابن خلدون تاريخ وفاة عبد الله بن ياسين في سنة 450 هـ (ج 6 ص 209). (¬2) روض القرطاس ص 84.

تحت إمامته، وفي مقدمتها أخذه الثلث من مختلف الأموال بحجة أن ذلك يطيب باقيها، وهو مالا تسوغه الشريعة، من أي مذهب، ومنها أن الرجل إذا دخل في دعوتهم، وأبدى توبته على سالف ذنوبه، قيل له أنك ارتكبت في سالف شبابك ذنوباً كثيرة، ويجب أن يقام عليك حدودها، وتطهر من إثمها، فيضرب حد الزاني مائة سوط، وحد المفتري ثمانين سوطاً، وحد الشارب مثلها. وكذلك يفعل المرابطون بمن تغلبوا عليه، وأدخلوه قسراً في رباطهم، وإن علموا أنه قتل قتلوه، سواء أتاهم تايباً طائعاً، أو غلبوا عليه مجاهراً عاصياً. ومن تخلف عن شهود الصلاة مع الجماعة ضرب عشرين سوطاً، وغير ذلك من الأحكام القاسية التي لا تطبعها سماحة الإسلام الحقيقي (¬1). - 2 - ونستطيع أن نقول إنه بوفاة عبد الله بن ياسين، وقيام أبي بكر اللمتوني مكانه في الرياسة، تبدأ الدولة اللمتونية أو الدولة المرابطية. وهو أبو بكر بن عمر بن تلاكاكين بن واياقطين. وكان أول ما عنى به بعد دفن الإمام، هو متابعة حرب برغواطة، فحشد سائر قواته، وجد في قتالهم، وأثخن فيهم، حتى مزق طوائفهم، وقتل وسبى منهم جموعاً كبيرة، حتى أذعنوا إلى الطاعة وأسلموا إسلاماً جديداً، ونبذوا تقاليدهم الوثنية المثيرة. وجمع ما استولى عليه من الأموال والغنائم، وقسمها بين المرابطين، ثم عاد إلى مدينة أغمات، وأقام بها حتى شهر صفر سنة 452 هـ (1060 م). ثم غادرها في قوات ضخمة من صنهاجة وجزولة، والمصامدة، وافتتح بلاد فازاز ومكناسة، وسائر أراضي زناتة، ثم سار إلى مدينة لواتة، وكانت بيد بني يفرن فاقتحمها عنوة وخربها وقتل بها خلقاً كثيراً، وذلك في شهر ربيع الثاني سنة 452 هـ، وعاد بعدئذ إلى أغمات. ولبث أبو بكر في أغمات بضعة أشهر أخرى، وعندئذ وفد إليه رسول من بلاد القبلة قاعدتهم بالصحراء، ونبأه باختلاف المرابطين هناك، ووقوع الخلاف ¬_______ (¬1) المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، المستخرج من كتاب المسالك والممالك، والمنشور بعناية البارون دي سلان ص 169.

بين لمتونة ومسوفة، فخشى أبو بكر أن يتفاقم الأمر هناك بين القبائل الشقيقة، وقد كانت الصحراء منبع أمرهم، ومطلع سلطانهم، فقرر أن يعود إلى قومه، ليجبر الصدع ويوحد الكلمة. فوكل شئون المغرب لابن عمه يوسف بن تاشفين ونزل له عن زوجته الحسناء زينب بنت إسحاق النفزاوية، بعد أن طلقها، حتى لا تشاطره خشونة الحياة الصحرية، فتزوجها يوسف فيما بعد، وأمره بمتابعة قتال مغراوة وبني يفرن وزناتة، ووافق أشياخ المرابطين على هذا الاختيار، لما يعلمونه عن يوسف " من دينه وفضله وشجاعته وحزمه وشدته وعدله وورعه وسداد رأيه ويمن نقيبته " (¬1). وقسمت القوات المرابطية عندئذ إلى جيشين، تولى يوسف إمرة أحدهما ليتم به إخضاع المغرب، وتولى أبو بكر إمرة الآخر. وخرج أبو بكر في جيشه في شهر ذي القعدة سنة 453 هـ (ديسمر 1061 م) واخترق بلاد تادلا وسجلماسة، ثم سار جنوباً إلى الصحراء، وهناك قام بإصلاح شئونها، والقضاء على أسباب الخلاف بين أقوامها، وتوحيد كلمتهم، ثم حشد قوات جديدة، وسار في جيشه الضخم إلى بلاد السودان، فغزا الكثير من نواحيه، وتوغل في أراضيه إلى مسيرة ثلاثة أشهر. وفي تلك الأثناء كان يوسف بن تاشفين، يؤدي مهمته العظيمة في افتتاح باقي أقطار المغرب، فبدأ بذلك بأن قسم الجيش المرابطي، وقد بلغ يومئذ أربعين ألف مقاتل، إلى أربعة أقسام، اختار لها أربعة من أقدر قواده، وهم سير بن أبي بكر اللمتوني، ومحمد بن تميم الكدالي، وعمر بن سليمان المسوفي، ومدرك التلكاني، وعقد لكل منهم على خمسة آلاف، وجعلهم في مقدمة قواته، وبعث بهم إلى مختلف أنحاء المغرب، وتولى هو قيادة بقية الجيش يسير به في أثرهم. وأخذت تلك الجيوش المرابطية في محاربة القبائل الخصيمة، ولاسيما مغراوة وزناتة وبني يفرن، ودوختها وغلبت على سائر أراضيها، وهرعت القبائل يجنح بعضها إلى المقاومة حتى يهزم ويغلب، ويجنح البعض الآخر إلى الاستسلام والطاعة. ولم تمض بضعة أشهر حتى كان يوسف قد غلب على معظم نواحي المغرب الجنوبية والوسطى، فعاد من غزاته المظفرة إلى أغمات في أواخر سنة 454 هـ، وقد عظم أمره، واشتد بأسه، وذاع صيته في سائر أنحاء المغرب. ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 89، وابن خلدون ج 6 ص 184.

وفكر يوسف عندئذ أن يختط لنفسه محلة، تكون قاعدة لجيوشه، ومستودعاً لذخائره، ووقع اختياره في ذلك على أرض تقع شمال غربي مدينة أغمات، وكانت لبعض المصامدة، فاشتراها يوسف واختط بها قصبة ومسجداً، وكان يعمل في بناء المسجد بنفسه مع الفعلة، فكان ذلك مولد مدينة مَرَّاكُش الشهيرة (سنة 454 هـ - 1062 م). وكان هذا الاسم يطلق على هذا المكان، ومعناه بلغة المصامدة، " إمش مسرعاً ". إذ كان مأوى اللصوص وقطاع الطريق. واختار يوسف أن تكون قاعدته في قلب بلاد المصامدة، إذ كانوا أشد قبائل المغرب قوة وأكثرهم جمعاً، وكانوا قوام جيوشه، ومن جهة أخرى فقد كانت القاعدة الجديدة تقع في حمى جبل درن من شعب الأطلس. ونزل يوسف في محلته بالخيام أولا ودون أن تبنى أسوارها، ثم أقيمت بها القصور والأبنية فيما بعد، واختط بها الناس وحفرت بها الآبار، على أن مراكش لم يكمل بناؤها وتتسع رقعتها، ويقام سورها العظيم، إلا في عهد على بن تاشفين ولد يوسف، وذلك في سنة 526 هـ. وقد كان القسم الذي أنشأه يوسف من مدينة مراكش العظيمة، يشمل القسم الذي يعرف بسور الحجر فيما بينه وبين جامع الكتبيين، وهو الذي يعرف اليوم بالسجينة. وقد غدت مراكش في فترة يسيرة من أعظم المدن المغربية وأجلها، وغدت من ذلك التاريخ، قاعدة الدول المغربية العظيمة، ما عدا دولة بني مرين، ولعبت في تاريخ المغرب أعظم دور. وما زالت تحتفظ حتى اليوم بكثير من روعتها وجلالها القديم (¬1). وعمل يوسف في ذلك الحين على تقوية جيشه وحرسه، فاقتنى من العبيد نحو ألفين، وبعث إلى الأندلس فاشترى عدداً كبيراً من العلوج والأرقاء النصارى، وأنشأ منهم فرقة قوية من الفرسان برسم حرسه وحجابته، واشتهرت فيما بعد ببلائها في مواقع كثيرة، واستعان يوسف على نفقاته العسكرية بما فرضه يومئذ على اليهود من ضرائب فادحة اجتمع له منها مال كثير (¬2). وما كاد يوسف ينتهي من إنشاء حاضرته، وتنظيم جيشه. حتى تأهب لفتح مدينة فاس عاصمة المغرب القديمة، وأعظم مدائنه يومئذ. وكانت الجيوش ¬_______ (¬1) راجع في إنشاء مراكش: روض القرطاس ص 89، وابن خلدون ج 6 ص 184، والاستقصاء ج 1 ص 107. وراجع ياقوت في معجم البلدان تحت كلمة مراكش. (¬2) الحلل الموشية ص 13.

المرابطية، قد تضخمت في تلك الأثناء، وعنى يوسف بتنظيمها، وتجهيزها بالرماة والعدة، والبنود والطبول، ويقال إنها بلغت يومئذ أكثر من مائة ألف فارس من قبائل صنهاجة، وجزولة، وزناتة، والمصامدة. وفي أواخر سنة 454 هـ سار يوسف لافتتاح مدينة فاس، فتلقته قبائلها من زواغة ولماية ولواتة وصدينة ومغيلة ومديونة وغيرها، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة، انهزمت فيها تلك القبائل، وامتنعت بصدينة، فاقتحمها يوسف، وقتل منها عدة آلاف. ثم سار إلى فاس، ونازل أولا قلعة فازاز وهي من حصونها الأمامية، ثم زحف على فاس ذاتها، وبها صاحبها معنصر المغراوي، وافتتح حصونها تباعاً، ثم اقتحمها، وذلك في سنة 455 هـ، واستعمل عليها عاملا من لمتونة. وسار بعد ذلك إلى بلاد غمارة، وغلب على كثير من نواحيها، حتى أشرف على طنجة. وفي خلال ذلك عاد بنو معنصر المغراوي إلى فاس، فاقتحموها وقتلوا عامل يوسف، واحتلوها، واضطر يوسف أن يعود لمنازلتها، فسار إليها في جيش ضخم، وضرب حولها الحصار بشدة، ثم اقتحمها عنوة، وقتل بها كثيراً من مغراوة وبني يفرن، وذلك في أوائل سنة 462 هـ (1069 م). - 3 - ويجب قبل أن نتم الكلام عن فتوح يوسف، أن نعطف على واقعة كان لها أثرها الحاسم في حياة يوسف، وفي مصاير دولة المرابطين، وذلك أن الأمير أبا بكر اللمتوني بعد أن نظم شئون الصحراء، وقضى في غزواته بضعة أعوام، نمى إليه ما وفق إليه ابن عمه يوسف من الفتوح العظيمة، ومن ضخامة السلطان واستقراره، فقرر أن يعود إلى المغرب ليسبر غور الأمور، وربما جال بخاطره أن يعزل يوسف، وأن يسترد هو سلطانه، باعتباره أمير المرابطين الشرعي. ويقول لنا صاحب الحلل الموشية إن مقدم أبي بكر من الصحراء إلى المغرب كان في سنة 465 هـ، وإنه نزل بمحلته خارج مدينة أغمات، فهرع صحبه إلى مراكش العاصمة الجديدة، لرؤيتها والسلام على يوسف، واستقبلهم يوسف بالترحاب، وأغدق عليهم الهدايا والصلات (¬1). وأدرك أبو بكر مبلغ ما انتهى إليه يوسف من الضخامة والتوطد، وما يتمتع به من المحبة والنفوذ بين طائفته، وأنه لم يبق ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 13 و 14.

له أمل في انتزاع شىء مما في يده. بيد أنه يبدو لنا على ضوء رواية ابن أبى زرع وابن خلدون أن مقدم أبى بكر إلى المغرب كان قبل ذلك بقليل. ذلك أن زينب النفزاوية زوجة يوسف، لعبت دوراً في لقاء الرجلين. وقد توفيت زينب في سنة 464 هـ. وخلاصة هذه الرواية أن يوسف شعر عند مقدم أبى بكر بدقة الموقف، وما يتهدد سلطانه، فاستشار زوجه زينب النفزاوية في الأمر، وكانت إلى جانب جمالها من أعقل نساء زمانها، وأبعدهن نظراً، وكان مذ تزوجها يرجع إليها في عظائم الأمور، ويعتمد على نصحها، وذكائها، وحسن سياستها فأشارت عليه بأن يستقبل أبا بكر بالجفاء والغلظة، ويشعره بقوة السلطان والاستبداد، ويلاطفه مع ذلك بالهدايا والطعام والخلع بما يصلح للصحراء. وسار يوسف للقاء أبي بكر، فالتقيا بموضع بين أغمات ومراكش. وشعر أبو بكر مما أبداه يوسف، ومن تعاليه في السلام عليه وهو راكب فرسه، أنه حريص على سلطانه، مستعد للدفاع عنه، وزهد في التنافس والقتال، وأوصى يوسف باتباع العدل والرفق، ثم ودعه وعاد إلى الصحراء، وقد زوده يوسف بطائفة عظيمة من الهدايا الجليلة، من المال والخيل والبغال والأسلحة المحلاة بالذهب، والجواري والثياب الفاخرة والمؤن والدواب، وهنالك استأنف الجهاد والغزو حتى قتل في بعض غزواته وذلك في سنة 480 هـ (1087 م) (¬1). وقضى يوسف أعواماً أخرى في إتمام فتح المغرب، حتى سيطر على معظم نواحيه، ودوخ سائر قبائله. وفي سنة 470 هـ (1077 م) نراه وقد أشرف على طنجة، وانتزعها من يد صاحبها الحاجب سكوت (أوسواجات) البرغواطي وهو في نفس الوقت صاحب سبتة. وكان سكوت من موالي بني حمود، وقد ولى حكم سبتة في أواخر أيامهم، ثم استولى على طنجة، وقوي أمره في ذلك الركن المنعزل من المغرب، وأطاعته قبائل غمارة، واستمرت ولايته زهاء عشرين عاماً. فلما زحفت الجيوش المرابطية إلى تلك الناحية، اعتزم سكوت الدفاع عن ملكه، وكان شيخاً في التسعين من عمره، ولكنه كان فارساً مقداماً. فالتقى بالمرابطين في وادي منى على مقربة من طنجة، وقاتل حتى قتل ومزق جيشه، وسقطت طنجة في أيدي المرابطين، واعتصم ولده يحيى بن سكوت ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 86، وابن خلدون ج 6 ص 184، والاستقصاء ج 1 ص 106.

بسبتة. وفي سنة 474 هـ زحف يوسف على المغرب الأوسط، واستولى على مدينة وجدة، ثم استولى على تلمسان ووهران، واستمر في سيره المظفر حتى تونس فافتتحها، واستولى بذلك على سائر شواطىء المغرب وثغوره الشمالية، وقضى على سلطان سائر الأمراء المحليين الذين كانوا يقتسمون المدن والثغور يومئذ، وشمل سلطانه جميع الأقطار الغربية، حتى تونس شرقاً وحتى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن البحر المتوسط شمالا حتى حدود السودان جنوباً (¬1). وهكذا قامت الدولة المرابطية الكبرى، وأقامتها عبقرية رجل واحد، وهو يوسف بن تاشفين، بعد أن وضع أسسها الأولى فقيه متعصب هو عبد الله ابن ياسين، واستحالت بسرعة على يد أبي بكر اللمتوني ثم يوسف من بعده، من زعامة دينية محلية، إلى ملك سياسي ضخم. وقد ذكرت لنا الرواية عن هذا الزعيم الموهوب والجندي العظيم بعض معلومات خلاصتها، أنه أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن ابراهيم بن ترقوت بن وارتقطين بن منصور بن مصالة ابن أمية الحميري الصنهاجي اللمتوني، فهي بذلك تنسبه إلى حمير، وأمه حرة لمتونية اسمها فاطمة بنت سير بن يحيى. وقد ولد بالصحراء في سنة 400 هـ (1009 م). بيد أننا لا نعرف شيئاً عن حياته ونشأته الأولى، وتذكره لنا الرواية لأول مرة في سنة 448 هـ، حينما ندبه الأمير أبو بكر اللمتوني ليكون قائداً لجيش المرابطين الزاحف لغزو المغرب. وكان يوسف يومئذ في الثامنة والأربعين من عمره. ومن ذلك التاريخ فقط، تتبع الرواية أعمال يوسف وفتوحه العظيمة المتعاقبة. وهي التي فصلناها فيما تقدم. وتنوه الرواية بورع يوسف وزهده، وبساطته وتواضعه، فقد كان بالرغم مما أتاه الله من بسطة في الملك والنعم، آية في التقشف، يرتدي الصوف طول حياته، ولا يرتدي سواه قط، ولا يأكل سوى الشعير ولحوم الإبل وألبانها. وكان بطلا شجاعاً حازماً، مهيباً، دائب التفقد لبلاده وثغوره، وأحوال رعيته، مجاهداً لا يفتر عن متابعة الجهاد، منصوراً مظفراً في معظم الوقائع التي خاضها، جواداً كريماً عادلا رفيقاً، ينأى عن إرهاق رعيته بالمغارم المحرمة، ولا يفرض منها إلا ما يجيزه ْالشرع، من الزكاة والأخماس والأعشار، وجزية أهل الذمة. وأما عن شخصه، ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 93، والاستقصاء ج 1 ص 110.

فقد كان معتدل القامة، أسمر اللون، نحيف الجسم، خفيف العارضين، أكحل العينين، أقنى الأنف، جعد الشعر، رقيق الصوت (¬1). وقد حكم يوسف بن تاشفين، أعظم امبراطورية إسلامية قامت في الغرب الإسلامي، فهو فضلا عن إنشاء الإمبراطورية المغربية الكبرى، ممتدة فيما بين تونس والمحيط، وما بين البحر وحدود السودان، قد انتهى بعد ظفره في موقعة الزلاّقة على جيوش اسبانيا النصرانية حسبما نفصل بعد، إلى افتتاح ممالك الطوائف الأندلسية، وبسط سيادة الدولة المرابطية المغربية على اسبانيا المسلمة، وبذا كانت تمتد امبراطوريته عبر البحر شمالا حتى سرقسطة في شمال شرقي اسبانيا، وحتى شنترين وأشبونة في قلب البرتغال. وكان يوسف بن تاشفين في بداية أمره يلقب بالأمير، فلما فتح المغرب وترامت حدود مملكته، أراد بعض أشياخ المرابطين أن يحملوه على اتخاذ سمة الخلافة، فأبى واكتفى باتخاذ لقب أمير المسلمين، وناصر الدين، وأصدر مرسومه، بأن يدعى له بذلك اللقب، وذلك في سنة 466 هـ (¬2). وفي أواخر عهده، بعد أن ملك الأندلس، نصح له الفقهاء أن تكون ولايته من الخليفة لتجب طاعته على الكافة، فأرسل إلى الخليفة المستظهر بالله العباسي ببغداد، سفيراً ومعه هدية جليلة، وكتاب بما فتح الله عليه من الملك، وما أولاه من النصر، وطلب تقليده الولاية، فبعث إليه الخليفة بمرسوم الولاية، والخلع والتشاريف (¬3) ومما يؤكد لنا انضواء يوسف تحت لواء الخلافة العباسية، ذكره في سكته لاسم الخليفة العباسي (¬4). - 4 - ننتقل الآن إلى تلك المرحلة الأخرى من حياة يوسف، وهي مرحلة تدخله في حوادث شبه الجزيرة الإسبانية، وهي مرحلة تتخذ في البداية طابع الجهاد في سبيل الله، ثم تنقلب بعد ذلك، إلى موجة جديدة من الفتح المرابطي. ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 87 و 88، والحلل الموشية ص 12. (¬2) الحلل الموشية ص 16 و 17، وقد أورد لنا نص المرسوم. (¬3) ابن الأثير ج 10 ص 145. (¬4) روض القرطاس ص 88، وابن خلدون ج 6 ص 188.

وقد سبق أن ذكرنا في أخبار مملكتي إشبيلية وبطليوس، ما انتهى إليه أمراء الطوائف. عقب استيلاء ألفونسو السادس ملك قشتالة على طليطلة ومملكة بني ذى النون في سنة 478 هـ. وتهديده لهم جميعاً بالويل والفناء، من وجوب الاستنصار بإخوانهم في عدوة المغرب، وإرسالهم بصريخهم المتوالي إلى يوسف بن تاشفين، لينهض إلى نجدتهم وإغاثتهم. وقد اختلفت الرواية في تفصيل مقدمات هذا الصريخ وظروفه. والقول المشهور في ذلك، هو أن سقوط طليطلة، كان هو العامل الجوهري، الذي حمل ملوك الطوائف، على أن يتجهوا إلى الاستنصار بالمرابطين. بيد أن هناك ما يحمل على الاعتقاد بأن هذا الاتجاه يرجع إلى ما قبل سقوط طليطلة بعامين أو ثلاثة، فقد سقطت طليطلة في يد ملك قشتالة في صفر سنة 478 هـ (مايو 1085 م)، ولكنا نجد صريخ الأندلس يتوالى على بلاط مراكش منذ سنة 474 هـ، فقد وفد في ذلك العام على يوسف جماعة من أهل الأندلس، وشكوا إليه ماحل بهم من عدوان النصارى، وطلبوا إليه النجدة والعون، فوعدهم بتحقيق أمنيتهم (¬1). ثم توالى صريخهم بعد ذلك. ويحدثنا يوسف بن تاشفين نفسه عما تلقاه من صريخ الأندلس المتوالي في رسالته التي بعث بها عقب موقعة الزلاقة إلى المعز بن باديس أمير إفريقية، فيقول: " ولما بلغنا من استحواز النصارى، - دمرهم الله - على بلاد الأندلس ومعاقلها، والتزام الجزية لرؤسائها، واستيصال أقالمها، وإيطايهم البلاد داراً داراً، لا يتخوفون عسكراً يخرج إليهم، فيبدد جمعهم، ويفل حدهم، وهم مع ذلك كله يقتلون الشيب والشبان، ويأسرون النساء والصبيان، فخوطبنا عن الجواز إلى الأندلس من جميع الأحواز المرة بعد المرة، وألوتنا الأعذار إلى وقت الأقدار " (¬2). ويؤيد ابن خلدون هذه الرواية، ويوردها بصورة أخرى، فيقول لنا إن المعتمد بن عباد خاطب أمير المسلمين يوسف، ملتمساً إنجاز وعده في إنجاد الإسلام في الأندلس، وكاتبه أهل الأندلس كافة من العلماء والخاصة، فاهتز أمير المسلمين للجهاد، وبعث ابنه المعز في عساكر المرابطين إلى سبتة فنازلها براً، وطافت بها سفن ابن عباد بحراً، ثم اقتحموها عنوة في ربيع الآخر ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 20. (¬2) راجع رسالة يوسف عن موقعة الزلاقة، وقد نشرناها في باب الوثائق في نهاية الكتاب.

سنة 476 هـ، وأسر صاحبها يحيى بن سكوت ثم قتل. وجاز ابن عباد بعد ذلك، وقصد إلى أمير المسلمين، ولقيه بفاس مستنفراً له في الجهاد، ونزل له عن ثغر الجزيرة ليكون رباطاً لجهاده (¬1). ويقول لنا ابن أبي زرع، إن أمير المسلمين لما عاد إلى مراكش في سنة 475 هـ عقب فتحه لوهران وتونس، ورد عليه كتاب المعتمد بن عباد، يعلمه بحال الأندلس، وما آل إليه أمرها من تغلب العدو على معظم ثغورها، ويسأله الإنجاد والعون، فأجابه يوسف بأنه إذا فتح الله عليه سبتة فإنه سوف يتصل بهم، ثم يحدثنا بعد ذلك عن الغزوة التي قام بها ألفونسو في نفس العام، في أراضي إشبيلية وكيف اخترقها بقواته حتى وصل إلى طريف، وخاض الماء بفرسه قائلا، هذا آخر الأندلس قد وطأته، وأنه لما استولى على طليطلة اتفق أمراء الأندلس وكبراؤها على الاستنصار بيوسف وكتبوا إليه جميعاً يلتمسون منه الغوث، وأنهم سوف يكونون معه يداً واحدة في جهاد العدو. فلما توالت كتب الأندلس على يوسف بعث ابنه المعز لافتتاح سبتة، فحاصرها وافتتحها في شهر ربيع الأول سنة 477 هـ، فسر بذلك أمير المسلمين، وسار في الحال بقواته نحو الشمال ليجوز منها إلى الأندلس (¬2). وفي أقوال ابن أبي زرع شىء من الغموض والتناقض في التواريخ. ولكنه مع ذلك يؤيد الواقعة الجوهرية، وهي أن اتجاه أمراء الطوائف إلى الاستنصار بأمير المسلمين، حدث قبل سقوط طليطلة ببضعة أعوام، وأن سقوط طليطلة لم يكن إلا عاملا جديداً في تقوية هذا الاتجاه وإذكائه. وإنه ليلوح لنا أن فكرة استدعاء المرابطين لإنجاد الأندلس، قد خطرت لأول مرة للمعتمد بن عباد حينما اشتد ألفونسو في إرهاقه بطلب الجزية، وأرسل إليه ابن شاليب اليهودي في اقتضائها، وذلك في سنة 475 هـ ووقع عندئذ ما وقع من بطش ابن عباد برسل ألفونسو، وخروج ملك قشتالة في قواته للانتقام من ابن عباد، واجتياحه لمملكته، وتخريبه لمدنها ومروجها، من إشبيلية جنوباً حتى مدينة طريف، وذلك حسبما فصلناه في موضعه من أخبار مملكة إشبيلية. والظاهر أن المعتمد قد أدرك عندئذ، وإن يكن متأخراً، فداحة الخطأ الذي ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 186. وقد وهم ابن خلدون في واقعة عبور المعتمد إلى المغرب وزيارته لأمير المسلمين. والواقع أن هذه الزيارة تمت بعد موقعة الزلاقة. (¬2) روض القرطاس ص 92 و 93.

ارتكبه، بخضوعه لملك قشتالة ومحالفته، وأدرك مدى ما تنطوي عليه سياسة هذا الملك القوي من الخديعة والغدر، واعتزم عندئذ أمره في استدعاء المرابطين. وليس معنى ذلك أن ابن عباد كان ينفرد بهذا التفكير وهذا العزم، فلا شك أن معظم أمراء الطوائف قد جالت بخواطرهم تلك الفكرة، فقد كانوا جميعاً يشعرون بنفس الخطر، وكانوا جميعاً يعانون ضغط ملك قشتالة، وتخريبه لأراضيهم، وجشعه في استصفاء أموالهم باسم الجزية، بيد أن ابن عباد، قد كان كبير ملوك الطوائف، وكان يواجه في نفس الوقت أعظم الأخطار المباشرة من عدوان ملك قشتالة، وكان حرياً بأن يتقدمهم في اعتناق هذه الفكرة وتنفيذها. على أن فكرة الاستنصار بالمرابطين لم تكن دون معارضة، فقد كان ثمة بين ملوك الطوائف من يخشى عواقبها ويحذر ابن عباد من مغبة سياسته، وقد أجابهم ابن عباد بكلمته المأثورة " رعي الجمال خير من رعي الخنازير"، يقصد بذلك أن خير له أن يغدو أسيراً لدى أمير المسلمين يرعي جماله، من أن يغدو أسيراً لملك قشتالة النصراني (¬1). ثم كان سقوط طليطلة بعد ذلك بعامين، فكان نذيراً لا شك في خطورته. وإذا كانت فكرة الاستنصار بالمرابطين، قد بدت من قبل لأمراء الطوائف أملا يداعبهم، فقد بدت عندئذ ضرورة ماسة، وبدت بالنسبة للأندلس مسألة حياة أو موت، ومن ثم فإن الصريخ الذي كان يتخذ من قبل صورة الكتب والدعوات الخاصة، يتخذ عندئذ صورته الرسمية، وتشاطر الأندلس كلها، أمراؤها وفقهاؤها وكافتها هذا الاتجاه، ويبعث ابن عباد وزميلاه المتوكل ابن الأفطس صاحب بطليوس، وعبد الله بن بلقين صاحب غرناطة، سفارتهم الرسمية إلى أمير المسلمين، على يد أبي بكر عبيد الله بن أدهم قاضي قرطبة، وأبى إسحق بن مُقانا قاضي بطليوس، وأبى جعفر القليعى قاضي غرناطة، وأبى بكر بن زيدون وزير المعتمد (¬2). وعبر سفراء الأندلس البحر إلى المغرب وقصدوا إلى أمير المسلمين في مراكش، وكانت وفود الأندلس تتوالى من قبل ¬_______ (¬1) راجع الروض المعطار ص 85. (¬2) راجع الحلة السيراء ج 2 ص 99، والروض المعطار ص 86، ونفح الطيب ج 2 ص 526. وراجع دوزي: Histoire ; Vol.III p 124

ذلك على يوسف مستعطفة باكية، ترجوه الغوث والإنجاد، فيستمع إلى قولهم، ويعدهم خيراً. والظاهر أن سفارة الأندلس الرسمية لم تأت لكي تلتمس العون، دون قيد ولا شرط. وقد وقعت بينها وبين أمير المسلمين مفاوضات أسفرت عن عهود متبادلة، خلاصتها أن يتعاون أمير المسلمين وأمراء الطوائف في محاربة النصارى، وأن يؤمن أمراء الطوائف في ممالكهم، وألا تحرض رعيتهم على شىء من الفساد، ومن جهة أخرى فقد طلب أمير المسلمين عملا بنصح وزيره الأندلسي عبد الرحمن بن أسبط أن يُسلم إليه ثغر الجزيرة، وقد كان يومئذ من أملاك ابن عباد، لكي يكون قاعدة أمينة لعبور جيشه، وقد نزل ابن عباد عند هذه الرغبة، وأمر حاكم الجزيرة ولده يزيد الراضي بإخالائها. لتكون رهن تصرف أمير المسلمين (¬1). وقد سبق أن أشرنا إلى ما عمد إليه ملك قشتالة عقب استيلائه على طليطلة، من الكتابة إلى ابن عباد يطالبه بتسليم بلاده، وينذره بسوء المصير، وما كتب به كذلك إلى المتوكل بن الأفطس في هذا المعنى، وإلى ما رد به كل من الأميرين المسلمين، على الملك النصراني، وذلك في أخبار مملكتي إشبيلية وبطليوس. * * * وهكذا اعتزم أمير المسلمين أمره، بعد استشارة قومه وفقهائه، وقرر أن يلبي صريخ أهل الأندلس، وأن يبادر إلى غوثهم، ولم يك ثمة شك في أن يوسف وقومه المرابطون، كانت تحدوهم نزعة الجهاد في سبيل الله، بيد أن أولئك الجند الصحراويين الذين نشأوا في غمار القفر والبداوة، كانت تحدوهم في نفس الوقت رغبة في رؤية الأندلس، وما اشتهرت به من الخصب والنعماء، وأن يبلوا حرب النصارى (¬2). ومن الصعب علينا في هذا الموطن، أن نستشف نيات يوسف ْالتي كشف عنها فيما بعد، في افتتاح الأندلس وامتلاكها، بيد أنا نرجح أنه لم يكن يجيش بمثل هذه النية في البداية، وأنها خطرت له فيما بعد، بعد أن درس أحوال الأندلس، وأحوال أمرائها. واستنفر يوسف سائر قواته وحشوده للجهاد، ¬_______ (¬1) راجع كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 102 و 103، والحلل الموشية ص 32 و 33. (¬2) الحلل الموشية ص 31.

وكان قد تم له يومئذ فتح سبتة، فسار إليها، والجيوش تتلاحق في أثره من الصحراء، وبلاد الزاب، ومختلف نواحي المغرب، وأصلح مرافئها وحشد السفن لعبور قواته، وكان أول ما عبر منها قوة من الفرسان بقيادة داود بن عائشة، عبرت إلى ثغر الجزيرة الخضراء، واحتلته وفقاً لما تم الاتفاق عليه، ثم أخذت الجيوش المرابطية تعبر تباعاً، حتى تم عبورها جميعاً إلى شبه الجزيرة. وفي في يوم الخميس منتصف ربيع الأول سنة 479 هـ (30 يونيه 1086 م) عبر البطل الشيخ في بقية قواته. وما كادت السفن العابرة تمخر عباب المضيق، حتى اضطرب البحر وتعالت الأمواج، فنهض الزعيم المرابطي حسبما يحدثنا بنفسه وسط سفينته، وبسط يديه بالدعاء نحو السماء قائلا: " اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا هذا خيرة للمسلمين، فسهل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك فصعبه حتى لا أجوزه ". ثم يقول لنا، إنه ما كاد يتم كلامه حتى " سهل الله المركب، وقرب المطلب ". وشاء ربك أن تعبر السفن المرابطية، في ريح طيبة وبحر هادىء، وأن تصل إلى ثغر الجزيرة في سلام (¬1). ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 93. وهذا ما ذكره يوسف بن تاشفين نفسه في خطابه بالفتح إلى المعز بن باديس. (ويراجع الخطاب المذكور في باب الوثائق في نهاية الكتاب).

الفصل الثانى موقعة الزلاقة

الفصل الثانِى موقعة الزلاّقة مسير يوسف بن تاشفين وجيشه إلى إشبيلية. المعتمد بن عباد يقدم الضيافات والمؤن. لقاء الملكين. زيارة يوسف لإشبيلية. كتبه إلى ملوك الطوائف للمشاركة في الجهاد. مقدم أميرى غرناطة ومالقة ومعز الدولة بن صمادح في قواتهم. مسير الجيوش المرابطية والأندلسية إلى بطليوس. مسيرها إلى سهل الزلاقة. ألفونسو السادس ومبادرته إلى التأهب للقاء المرابطين. استعانته بسائر ملوك النصارى. مسيره إلى الجنوب للقاء المسلمين. مواقع الفريقين. عدد قوات المسلمين والنصارى. الجيش الإسلامي وأقسامه. كتاب يوسف إلى ألفونسو. رد ألفونسو ورد يوسف عليه. بداية المعركة. عنف هجوم النصارى. ثبات المعتمد بن عباد وجند إشبيلية. مهاجمة ألفونسو للمرابطين. اندفاع المرابطين لإنجاد إخوانهم. تغير وجه المعركة. مهاجمة النصارى لمعسكر المرابطين. تطويق قوات لمتونة وصنهاجة للنصارى. المعركة الهائلة. تمزق صفوف القشتاليين. اشتداد هجوم المرابطين من الناحيتين. كثرة القتل بين النصارى. نزول حرس يوسف الأسود إلى المعركة. جرح ألفونسو وفراره. تقدير خسائر الفريقين. مسير ألفونسو في فلوله إلى طليطلة. مبالغة الرواية الإسلامية في تقدير خسائر النصارى. ذيوع أنباء النصر في الأندلس والمغرب. رسالة يوسف عن الفتح. لقب أمير المسلمين وهل اتخذه يوسف عقب الزلاقة. إحجام يوسف عن مطاردة النصارى وبواعثه. عود الجيوش الأندلسية إلى قواعدها. الثناء على المعتمد بن عباد وثباته. تنويه أمير المسلمين ببطولته. يوسف يتلقى نبأ وفاة ولده. إسراعه بالعود إلى المغرب. ما يقال في بواعث هذه الحركة. نصر الزلاقة وطابعه. المعنى الصليبي الذي ينطوي على لقاء المسلمين والنصارى. دعوة ألفونسو عقب هزيمته إلى إنشاء جبهة نصرانية. شعور المؤرخين المسلمين بخطورة الموقعة وصبغتها الصليبية. ما قيل حولها من الأساطير. أثر الزلاقة ونتائجها الحاسمة. انتعاش قوى الأندلس. تحرر ملوك الطوائف من نير قشتالة. ارتداد سيل الجيوش النصرانية عن الأندلس. الإسلام يغنم في اسبانيا حياة جديدة. نزل أمير المسلمين يوسف بن تاشفين ثغر الجزيرة الخضراء، في يوم الخميس منتصف ربيع الأول سنة 479 هـ (30 يونيه 1086 م)، وجيوشه الجرارة تحيط بها من كل صوب. وما كاد يطأ بقدميه أرض الأندلس، حتى سجد لله شكراً، ثم أخذ في تحصين الجزيرة، وإصلاح أسوارها وأبراجها، ورتب لها حامية خاصة من جنده، ثم سار في قواته صوب إشبيلية. وبعث المعتمد بن عباد ولده عبد الله لاستقبال يوسف بالجزيرة، ورتب تقديم المؤن والأطعمة والضيافات للجيش المرابطي، على طول الطريق إلى

إشبيلية، واستعد لذلك استعداداً عظيماً سر به يوسف. ولما اقترب يوسف من إشبيلية خرج المعتمد إلى لقائه في وجوه أصحابه وفرسانه، وتعانق الملكان، وأبدى كل منهما لأخيه منتهى المودة والإخلاص، وتضرعا إلى الله أن يجعل جهادهما خالصاً لوجهه، وقدم ابن عباد إلى أمير المسلمين جليل الهدايا والتحف، وقدم المؤن والضيافات الكافية لسائر الجيش القادم، وقرت عينه بما رآه من ضخامته وروعة استعداده، وأيقن ببلوغ النصر المنشود. وفي اليوم التالي سار أمير المسلمين إلى إشبيلية، تلاحقه قواته، وأقام هناك ثلاثة أيام. وكان يوسف قد كتب في أثناء ذلك إلى سائر ملوك الطوائف، يدعوهم إلى اللحاق به، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، وكان أول من لبى دعوته منهم عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة وأخوه تميم صاحب مالقة، واعتذر المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية بضعفه وكبر سنه، وتوجسه من عدوان النصارى في حصن لييط (أليدو)، وبعث ابنه معز الدولة في فرقة من جنده. ثم سار أمير المسلمين في جيوشه الجرارة، ومعه ابن عباد في قوات إشبيلية، وقرطبة، وقصدوا إلى بطليوس، فلقيهم أميرها عمر المتوكل على مقربة منها، وقدم إليهم المؤن والضيافات الواسعة، وأنفق أمير المسلمين أياماً في بطليوس ينتظر وفود الرؤساء من سائر أقطار الأندلس، بعد أن علم وتأكد لديه أن كل واحد منهم مشغول بمدافعة النصارى (¬1). ولم يلحق به منهم سوى عبد الله وأخيه تميم ومعز الدولة. وانتظمت القوات الأندلسية إلى وحدة قائمة بذاتها يتولى قيادتها ابن عباد، واحتلت المقدمة، واحتلت الجيوش المرابطية المؤخرة، وانتهت الجيوش الإسلامية المتحدة في سيرها إلى سهل يقع شمالي بطليوس على مقربة من حدود البرتغال الحالية، ويمتد مصعداً نحو قورية، وتسميه الرواية العربية بالزلاقة (¬2). وكانت أنباء عبور المرابطين إلى شبه الجزيرة، قد وصلت إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، وهو محاصر لسرقسطة، وذلك في أواخر يوليه أو أوائل أغسطس 1086 م (جمادى الأولى سنة 479)، فترك الحصار على عجل، ¬_______ (¬1) راجع رسالة يوسف إلى المعز بن باديس السابقة الذكر. (¬2) راجع الحلل الموشية ص 33 و 34، والروض المعطار ص 87 - 90، وسهل الزلاقة يعرف بالإسبانية Sagrajas، وهو يقع على قيد ثلاثة مراحل من شمال بطليوس إلى يسار نهر جريرو، أحد أفرع وادي يانة.

وتنفس مخنق المستعين بن هود صاحب سرقسطة، وبعث ألفونسو إلى سانشو راميرز ملك أراجون يستدعيه لإنجاده، وكان يومئذ قائماً بحصار طرطوشة، وبعث كذلك إلى أمراء ما وراء البرنيه، وحشد كل ما استطاع حشده من قوات جليقية وأشتوريش وبسكونية (نافار)، واستدعى قائده ألبار هانيس بقواته من بلنسية، وتقاطر إليه سيل من الفرسان المتطوعة من جنوبي فرنسا وإيطاليا. واعتزم ألفونسو أن يلقي الأعداء في أرضهم حتى لا تخرب بلاده إذا وقعت به الهزيمة، وسار على رأس القوات النصرانية المتحدة إلى الجنوب للقاء المسلمين، وهو واثق من تفوق قواته في العدد والعدة، والكفاية الفنية، ولم تصله أنباء دقيقة عن حالة الجيش الإسلامي (¬1). واستقرت الجيوش النصرانية، في مكان يبعد نحو ثلاثة أميال عن المعسكر الإسلامي، يفصل بينها وبين المسلمين فرع وادي يانة الممتد شمالا في اتجاه نهر " التاجُه " والذي يسمى اليوم " جريرو ". وجعل ألفونسو على مقدمة جيشه، قائده ألبار هانيس، وكانت تتألف في معظمها من جنود أراجون، والمتطوعة. وقد اختلفت الرواية في تقدير قوات المسلمين والنصارى. وتقدر بعض الروايات العربية جيش النصارى بثمانين ألف مقاتل، ويقدرها البعض الآخر بخمسين ألفاً أو أربعين ألفاً. وأما الجيش الإسلامي، فيقدره البعض بثمانية وأربعين ألفاً، والبعض الآخر بعشرين ألفاً، على أنه يبدو من الروايات المختلفة أن النصارى كانوا يفوقون المسلمين في العدد (¬2). وكان الجيش الإسلامي، ينقسم حسبما قدمنا إلى وحدتين كبيرتين: قوات الأندلس، وتحتل المقدمة ويقودها المعتمد بن عباد، ويقود منها المتوكل بن الأفطس قوات الميمنة، ويشغل أهل شرقي الأندلس الميسرة، وأما القوات المرابطية، فكانت تحتل المؤخرة، وتنقسم إلى قسمين، يضم الأول فرسان البربر من سائر القبائل، ويتولى قيادته داود بن عائشة أبرع قواد البربر، ويتولى يوسف قيادة الجيش الإحتياطي المؤلف من نخبة أنجاده المرابطين من لمتونة وصنهاجة وغيرهما من القبائل البربرية. ولبث الجيشان الخصيمان، كل منهما تجاه الآخر لا يفصلهما سوى النهر، ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: La Espana del Cid, p. 331 & 332 (¬2) راجع الحلل الموشية ص 38، وابن الأثير ج 10 ص 52، ونفح الطيب ج 2 ص 528، والمعجب للمراكشي ص 71.

مدى أيام ثلاثة، والرسل تتجاوب بينهما. وكتب يوسف قبيل المعركة إلى ملك قشتالة، عملا بأحكام السنة كتاباً يعرض عليه فيه الدخول في الإسلام، أو الجزية أو الحرب (¬1)، ومما جاء فيه: " بلغنا يا أدفونش، أنك دعوت إلى الاجتماع بنا، وتمنيت أن تكون لك سفن تعبر فيها البحر إلينا، فقد عبرنا إليك، وقد جمع الله في هذه الساحة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ". فاستشاط ألفونسو لذلك الخطاب غضباً، ورد على أمير المسلمين بكتاب غليظ يفيض بالوعيد، فاكتفى يوسف بأن رد إليه كتابه ممهورا بتلك العبارة، " الذي يكون ستراه " (¬2). وحاول ألفونسو خديعة المسلمين في تحديد يوم الموقعة، فكتب إلى المعتمد ابن عباد، يوم الخميس، يقول له إن غدا يوم الجمعة، وهو عيدكم، وبعده السبت يوم اليهود، وهم كثير في محلتنا، وبعده الأحد وهو عيدنا، فيكون اللقاء بيننا يوم الاثنين، فأدرك ابن عباد ويوسف خديعته، وجاءت طلائع المعتمد في الليل تنبىء أن معسكر النصارى في حركة وضوضاء وجلبة أسلحة، مما يدل على استعداد القوم لبدء القتال. ومن ثم فقد لبث المسلمون على أهبتهم حذرين متحفزين (¬3). وقد حدث في الواقع ما توقعه المسلمون، فإنه ما كاد يتنفس صبح اليوم التالي، وهو يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ (23 أكتوبر سنة 1086 م) (¬4)، ¬_______ (¬1) راجع رسالة يوسف إلى المعز بن باديس السابقة الذكر. (¬2) الحلل الموشية ص 35 و 38، ونفح الطيب ج 2 ص 527، وابن الأثير ج 10 ص 52 (¬3) الحلل الموشية ص 39، والروض المعطار ص 92. وهذا ما يقرره يوسف نفسه في خطابه عن الموقعة إلى المغرب (راجع روض القرطاس ص 97). (¬4) تختلف الرواية الإسلامية في تحديد تاريخ المعركة، فيقول ابن خلكان (نقلا عن البياسي) إنها كانت يوم الجمعة 15 رجب سنة 479 هـ (ج 2 ص 484) ويتفق ابن الأثير معه في السنة، ولكنه يقول إنها كانت في أوائل رمضان (ج 10 ص 53). ويقول المراكشي إنها كانت في رمضان سنة 480 هـ (ص 72). ولكن ورد في روض القرطاس (ص 96)، وفي الحلل الموشية (ص 40 و 41) أنها كانت يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هـ. وهذا هو التاريخ الصحيح، وهو الذي يذكره يوسف بن تاشفين في خطابه بالفتح إلى عدوة المغرب، حيث يقول في ختامه " وكانت هذه النعمة العظيمة والمنة الجسيمة يوم الجمعة الثاني عشر لرجب سنة تسع وسبعين وربعمائة =

حتى زحف النصارى وابتدأ القتال، واشتبك الجيشان في معركة عامة، فهجمت مقدمة القشتاليين والأرجونيين التي يقودها ألبارهانيس، على مقدمة المسلمين المؤلفة من القوات الأندلسية، والتي يقودها ابن عباد. وكان هجوماً عنيفاً ردها عن مواقعها، واختل نظامها فارتد معظمها نحو بطليوس. ولم يثبت في وجه المهاجمين سوى المعتمد وفرسان إشبيلية، فقاتلوا النصارى بشدة، وأثخن أميرهم الباسل جراحاً، وتفرق معظمهم من حوله، وكثر القتل في جند الأندلس، وكادت تدور عليهم الدائرة، دون أن يتقدم لإنجادهم أحد. وفي الوقت نفسه كان ألفونسو قد هاجم مقدمة المرابطين، التي يقودها داود بن عائشة، وردها أيضاً عن مواقعها. ففي تلك الآونة العصيبة، دفع يوسف بقوات البربر التي يقودها أبرع قواده، وهو سير بن أبي بكر اللمتوني لإنجاد الأندلسيين والمرابطين معاً، ونفذ بقواته إلى قلب النصارى بشدة، وسرعان ما تغير وجه المعركة، واسترد الأندلسيون والمرابطون ثباتهم، وعاد الفارون إلى صفوفهم. واضطرمت المعركة في هذا الجناح رائعة، ترجح بها كفة المسلمين، وكان ألفونسو، في ذلك الوقت قد تقدم في هجومه، حتى صار أمام خيام المرابطين، واقتحم الخندق الذي يحميها، ولكن حدث في نفس الوقت، أن لجأ يوسف إلى خطة مبتكرة، إذ تقدم في قواته الاحتياطية من لمتونة وصنهاجة، وتجاوز النصارى المهاجمين، وقصد إلى المعسكر النصراني ذاته، وهاجمه بشدة، وكانت تحرسه قوة ضعيفة، ففتك بها، ووثب إلى مؤخرة القشتاليين، وأثخن فيهم من الوراء، وطبوله تضرب حول جيشه فيشق دويها الفضاء، ثم أضرم النار في محلة القشتاليين، فارتفعت ألسنتها في الهواء، فلما علم ألفونسو بما حل بمعسكره، ارتد من فوره لينقذ محلته من الهلاك، فاصطدم بمؤخرة المرابطين، ووقعت بين قوات العاهلين معركة هائلة، مزقت فيها صفوف القشتاليين ولم يستطع الملك النصراني أن يصل إلى محلته إلا بعد خسائر فادحة، وهنالك استؤنفت المعركة، ويوسف فوق فرسه يصول ويجول، ويحث جنده على ¬_______ = موافق الثالث والعشرين لشهر أكتوبر العجمي (روض القرطاس ص 98). وهذا التاريخ نفسه أعني 23 أكتوبر سنة 1086، هو الذي تضعه الرواية النصراية للموقعة. والظاهر أن أصحاب التواريخ المخالفة لم يطلعوا على كتاب يوسف بالفتح. وراجع أيضاً: Dozy: Histoire, V.III.p. 129 & notes

الثبات، ويرغبهم في الاستشهاد، ودوي الطبول من حوله يصم الآذان. وينوه الأستاذ بيدال بتأثير وقع الطبول وضجيجها في اضطراب القشتاليين، ويقول إنه لم يسبق من قبل أن عرفت الجيوش الإسبانية، مثل هذا الضجيج الذي تهتز له الأرض، ومن جهة أخرى، فقد عمد المرابطون إلى القتال في صفوف متراصة متناسقة ثابتة، وهي أيضاً خطة جديدة لهم في القتال، ولم يكن للفرسان النصارى عهد بمثلها، إذ كانوا معتادين على القتال الفردي. ومن ثم فقد ألفوا أنفسهم بالرغم من تفوقهم في السلاح، عاجزين عن مناهضة هذه الصفوف المتراصة التي تفوقهم بكثافتها وعديدها (¬1). واشتد هجوم المرابطين في نفس الوقت بقيادة سير بن أبي بكر على مقدمة القشتاليين التي يقودها ألبارهانيس، واستردت جيوش الأندلس كل إقدامها وشجاعتها، وكثر القتل من الجانبين في صفوف القشتاليين. وكانت الضربة الأخيرة أن دفع يوسف بحرسه الأسود، وقوامه أربعة آلاف مقاتل إلى قلب المعمعة، واستطاع أحدهم أن يصل إلى ملك قشتالة، وأن يطعنه بخنجره في فخذه طعنة نافذة. وكانت الشمس قد أشرفت على المغيب، وأدرك ألفونسو وقادته وفرسانه أنهم يواجهون الموت، إذا استمروا في موقفهم، وعندئذ بادر ألفونسو في فل من صحبه وأشرافه إلى التراجع، والاعتصام بتل قريب حتى دخل الليل، فسار وصحبه تحت جنح الظلام، وتقدر الرواية من أفلت مع ملك قشتالة بنحو أربعمائة أو خمسمائة فارس، معظمهم جرحى. وكانت صفوف النصارى قد مزقت عندئذ في كل ناحية شر تمزيق، وتعالت أكوام الأشلاء والجرحى، وطورد الفارون في كل مكان، وهلك كثيرون منهم أثناء المطاردة، ولم ينقذ البقية الباقية من النصارى سوى دخول الظلام، وأمر يوسف بوقف المطاردة. وأمضى المسلمون الليل في ميدان الحرب، يرقبون حركات النصارى، وفي صباح اليوم التالي أخذت فرسانهم في مطاردة المتخلفين، وعمدت قوة أخرى إلى جمع الأسلاب وكانت عظيمة وافرة. ويشير يوسف في رسالته بالفتح إلى المعز بن باديس، إلى وفرة الغنائم من الخيل والبغال والحمير والثياب والأوبار ¬_______ (¬1) راجع روض القرطاس ص 95، والحلل الموشية ص 42، وراجع أيضاً: R.M.Pidal: ibid ; p. 335 & 339

ويقول لنا إن الفارس الواحد كان يربط معه خمسة أفراس أو أزيد. وتقول الرواية الإسلامية، إنه لم ينج من الجيش النصراني سوى خمسمائة فارس أو أقل، هم الذين فروا مع ملك قشتالة. وتابع ملك قشتالة فراره مع فلوله ولم يتوقف إلا عند قورية، على بعد عشرين مرحلة من ميدان الموقعة. وتضيف الرواية إلى ذلك أن معظم أولئك الفرسان الفارين كانوا مثخنين بالجراح، فمات معظمهم في الطريق، ولم يصل منهم إلى طليطلة مع مليكهم سوى مائة (¬1). وهذا هو نفس ما يقرره يوسف في خطاب الفتح الرسمي الذي بعث به إلى المغرب حيث يقول: " وتسلل ألفنش تحت الظلام فاراً لا يهدى ولا ينام، ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة فلم يدخل طليطلة إلا في مائة فارس " (¬2). بيد أنه في رسالته التي بعث بها إلى المعز بن باديس، والتي يصف لنا فيها معركة الزلاقة تفصيلا ولاسيما الدور الذي قام به مع جنده، يقول لنا، إنه علم أن الذي انقطع به ألفونسو من عسكره يبلغون نحو ألفي رجل، قد أثخن معظمها جراحة، وأنهم انتظروا حتى دخول الليل، ثم لجأوا إلى الفرار. ثم تقول الرواية الإسلامية أيضاً إن المسلمين لم يخسروا في المعركة سوى نحو ثلاثة آلاف (¬3)، ويقول لنا يوسف في رسالته إنه قُتل من أكابره نحو العشرين، هذا في حين أن النصارى قد هلك معظمهم. وتذهب في تقدير خسائر النصارى إلى حد قولها إنهم بلغوا نحو ثلاثمائة ألف (¬4). بيد أن هناك أقوالا أكثر اعتدالا، فيروى مثلا أن أمير المسلمين أمر بقطع رؤوس القتلى من النصارى فقطعت وجمعت، فاجتمع منها تل عظيم، أذن من فوقه للصلاة، واجتمع منها بين يدي المعتمد بن عباد أربعة وعشرين ألفاً، وأن رؤوس القتلى التي وزعت على قواعد الأندلس بلغت أربعين ألفاً، وأنه أرسل إلى المغرب أربعين ألفاً أخرى، لتوزع على قواعده. ويقول لنا صاحب روض القرطاس إن الروم (القشتاليين) وكانوا ثمانين ألف فارس، ومائتي ألف راجل، فقتلوا أجمعين ولم ينج منهم إلا ألفنش في مائة فارس، ومن الغريب أن هذه الأرقام نفسها هي التي وردت ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 96. (¬2) روض القرطاس ص 98. (¬3) روض القرطاس ص 96. (¬4) الحلل الموشية ص 43.

خريطة: موقعة الزلاّقة.

في خطاب الفتح الرسمي الذي بعث به يوسف إلى المغرب (¬1). وهذه كلها أقوال تحمل طابع المبالغة بلا ريب، وإن كانت الرواية النصرانية تجمع على أن الموقعة كانت هائلة، وأن خسائر النصارى كانت فيها ذريعة فادحة. ولا ريب أيضاً أن خسائر المسلمين كانت عظيمة، وإن كانت أقل بكثير من خسائر النصارى، وليس من المعقول أن تقتصر على ثلاثة آلاف في مثل هذه الحشود الضخمة. ذلك أنه في معركة، يطبعها من الشدة والتفاني والحماسة الدينية، ما طبعت به موقعة الزلاّقة، لابد أن تكون الخسائر فيها فادحة من الجانبين، الظافر والمغلوب. وذاعت أنباء النصر في الحال في سائر جنبات الأندلس، وطيرت إلى سائر القواعد الأندلسية. واستبشر المسلمون في شبه الجزيرة بما آتاهم الله من عزيز نصره. وكتب يوسف بأنباء الواقعة أو بالفتح حسبما يوسم خطابه إلى بلاد العدوة، وكتب رسالته المسهبة عن الموقعة وأوصافها إلى المعز بن باديس صاحب إفريقية، وهي التي أشرنا إليها فيما تقدم غير مرة. وتجاوبت أصداء النصر في سائر مدن المغرب وإفريقية، وعم الفرح والبشر سائر الناس، فأخرجوا الصدقات، وأعتقوا الرقاب. وقيل إن يوسف اتخذ لقبه " أمير المسلمين " عقب نصر الزلاّقة (¬2) وأن أمراء الأندلس، حينما هنأوه بالنصر أسبغوا عليه هذا اللقب، ولكنا رأينا فيما تقدم، أنه اتخذ هذا اللقب بالمغرب قبل ذلك بأعوام عديدة. بيد أنه مما يلفت النظر أن أمير المسلمين وحلفاءه الأندلسيين، لم يحاولوا استغلال نصرهم بمطاردة العدو داخل بلاده، والزحف إلى أراضي قشتالة، بل ولم يحاولوا السير إلى طليطلة لاستردادها، وهي كانت معقد المحنة التي دفعت ملوك الطوائف إلى الاستغاثة بالمرابطين. ولو بذل المرابطون هذه المحاولة في الوقت الذي حطم فيه جيش قشتالة وفتحت حدودها، لكللت بالنجاح بلا ريب. وقد قيل لنا في ذلك إن ابن عباد نصح لأمير المسلمين بمطاردة ملك قشتالة والقضاء على فلوله، فاعتذر يوسف عن ذلك بحجة أنه يجب انتظار ورود ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 96 و 97. وراجع أيضاً أقوال الروايات الإسلامية الأخرى عن خسائر النصارى في الموقعة، في ابن خلكان ج 2 ص 484، ونفح الطيب ج 2 ص 531، وابن الأثير ج 10 ص 53. (¬2) روض القرطاس ص 96.

الفارين من المسلمين أولا، حتى لا يهلكهم النصارى. ونسبت في ذلك إلى كلا الرجلين نيات مريبة (¬1). وعلى أي حال فقد وقف نصر المسلمين عند هذا الحد، وتفرق الجيش الإسلامي، فارتد أمراء الأندلس كل إلى بلاده. ونلاحظ فيما يتعلق بأمراء الأندلس، وموقف كل منهم خلال المعركة، أن الرواية الإسلامية تخص المعتمد ابن عباد بتقديرها وثنائها. فقد انكشفت سائر القوات الأندلسية الأخرى في بداية المعركة: قوات بطليوس وغرناطة وألمرية، وارتدت منهزمة صوب بطليوس، ولم تعد إلى الميدان إلا حينما لاحت طوالع النصر. ولكن المعتمد ثبت أمام القشتاليين حسبما أسلفنا، وأبلى وجنده الإشبيليون خير البلاء، واثخن جراحاً ولم يغادر ميدان المعركة، حتى تداركته النجدات المرابطية (¬2). وينوه أمير المسلمين بثبات المعتمد وبطولته في ذلك اليوم في خطابه بالفتح إلى المغرب إذ يقول: " ولم يثبت فيهم (أي رؤساء الأندلس) غير زعيم الرؤساء والقواد أبو القاسم المعتمد بن عباد، فأتى إلى أمير المسلمين وهو مهيض الجناح، مريض عنة وجراح، فهنأه بالفتح الجليل والصنع الجميل " (¬3). وينوه بذلك أيضاً في رسالته إلى المعز بن باديس ويذكر المعتمد فيها بعطف وإجلال، ويثنى عليه الثناء الجم. بيد أنه مما كدر صفو هذا النصر، أن تلقى أمير المسلمين في نفس هذا اليوم ذاته، نبأ وفاة ولده وولي العهد الأمير أبي بكر، وكان قد استخلفه في مراكش وتركه مريضاً بسبتة، فقرر العودة فوراً إلى المغرب، ويؤكد لنا صاحب روض القرطاس أنه لولا ذلك المصاب ما عاد يوسف بمثل هذه السرعة (¬4). بيد أنه قيل في ذلك إن إسراع يوسف بالعود، لم يكن راجعاً إلى وفاة ولده، بل كان يرجع بالأخص إلى استيائه وتبرمه بما شهده من أحوال أمراء الأندلس، وخلافاتهم فيما بين أنفسهم وفيما بينهم وبين شعوبهم (¬5). ومن ثم فقد عاد أمير المسلمين في قواته إلى إشبيلية فاستراح بظاهرها أياماً، ثم قفل راجعاً إلى المغرب، تاريكاً من جنده ثلاثة آلاف رهن تصرف المعتمد. ¬_______ (¬1) راجع الروض المعطار ص 93. (¬2) روض القرطاس ص 95، والحلل الموشية ص 42، والروض المعطار ص 92. (¬3) روض القرطاس ص 97. (¬4) روض القرطاس ص 98. (¬5) كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 107.

ويعلق العلامة المستشرق الأستاذ كوديرا على ذلك بقوله: " إنه كان من حسن الطالع بالنسبة للنصارى أن يوسف الظافر في الزلاقة، قد تلقى عقب نصره نبأ وفاة ولده الأمير أبي بكر سير، واضطر أن يعود إلى مراكش تاركاً فكرة مطاردة الجيش المنهزم، واجتناء الثمرة التي يمكن أن تجني من مثل هذا النصر العظيم، وهي الاستيلاء على طليطلة. وهي فكرة كانت تبدو طبيعية ولكنها لم تكن قد استقرت في ذهنه بصورة عملية، وذلك بالرغم مما يقوله لنا المؤرخون العرب من أنه لولا موت ابنه لما غادر الأندلس بهذه السرعة. وبالرغم من أن المؤرخين يؤكدون أن هزيمة ألفونسو السادس كانت مروعة. وأنه استطاع الفرار بمنتهى المشقة، مع نفر قليل من صحبه، فإن قواته لم تتضعضع، كما يتصور، بدليل أنه لم يمض سوى قليل، حتى غدا في ظروف تسمح له بالهجوم، ولكن الحظ كان ضده دائماً " (¬1). * * * وقد كان يوم الزلاّقة من أيام الإسلام المشهودة في انتصاره على النصرانية. ومن الواضح أن لقاء الإسلام والنصرانية في سهول الزلاقة، إنما هو صفحة من سيرة الحروب الصليبية التي كانت اسبانيا أول مهاد لها. والتي اضطرمت بعد ذلك بقليل في المشرق، في الوقت الذي كانت تضطرم فيه في اسبانيا. فموقعة الزلاقة تعني في الواقع أكثر من هزيمة لملك قشتالة، وأكثر من ظفر للمرابطين وحلفائهم الطوائف. ذلك أن فورة المرابطين الدينية، التي اجتاحت بوادي المغرب ومدنه في فترة قصيرة، ثم عبرت البحر إلى اسبانيا لنصرة الدول الإسلامية بادىء ذي بدء، وانتزعتها من الطوائف بعد ذلك، كانت عنيفة رائعة، توجست النصرانية منها، واستشفت في اضطرامها ذلك الخطر الداهم الذي كان غير مرة ينذر بمناهضة النصرانية فيما وراء اسبانيا. وقد جاشت اسبانيا المسلمة بمثل هذه الفورة بعد موقعة بلاط الشهداء وخلاص النصرانية على يد كارل مارتل (سنة 732 م) مرتين: الأولى في عهد الناصر لدين الله، والثانية في عهد الحاجب المنصور، وفي كلتا المرتين، رُدت اسبانيا النصرانية إلى ما وراء الجبال الشمالية ونفذ الإسلام إلى قاصية اسبانيا. ¬_______ (¬1) F.Codera: Decadencia y Desparicion de los Almoravides en Espana (Zaragoza 1899) p. 243

وإن تصرف ألفونسو ملك قشتالة عقب الموقعة، ليؤكد هذا المعنى الصليبي، الذي ينطوي عليه لقاء الزلاقة. فهو قد شعر بأن ذلك التحالف بين الإسلام في إفريقية والأندلس، يوشك أن يقضى على اسبانيا النصرانية، وأنه لابد أن يقابله حلف بين قوى النصرانية، ومن ثم فقد بعث برسله وكتبه إلى الملوك والأمراء النصارى فيما وراء البرنيه، يهيب بهم ويحذرهم من الخطر الداهم، وينذرهم بأنهم إذا لم يتداركوه بالعون، فإنه سوف يضطر إلى الصلح مع المسلمين، وسوف يتركهم أحراراً في عبور البرنيه. وقد ألفت صيحة ألفونسو صداها في فرنسا، وفي مختلف الإمارات الفرنجية التي حولها، وبادر أمير برجونية الدوق أودو، وهو صهر ألفونسو، إذ كانت عمته الملكة كونستانس، بحشد الأمداد، وشاركه في ذلك الكونت دي سان جيل أمير تولوشة. وهرع إلى التطوع فرسان من نورماندي وبواتو، ومن سائر أنحاء فرنسا. وسارت بالفعل قوى الأمداد صوب اسبانيا. ولكن ألفونسو حين علم بأن يوسف بن تاشفين قد عبر البحر في معظم قواته عائداً إلى المغرب، بعث إلى الأمراء الفرنج يشكرهم، وينبئهم برحيل المرابطين، وأنه لم تعد ثمة ضرورة لمقدمهم (¬1). واقتصرت الحرب الصليبية عندئذ على منطقة الثغر الأعلى، حيث كان بنو هود أمراء سرقسطة، يواجهون عدوان سانشو راميرز ملك أرجوان، ومحاولاته المتوالية للاستيلاء على تُطيلة، ووشقة، وطرطوشة، وكانت طوائف المتطوعة من الفرنج تهرع إلى تلك الحملات الغازية، لتشترك فيها. ويشعر المؤرخون المسلمون أنفسهم بخطورة موقعة الزلاّقة، وصبغتها الصليبية، فيحيطون حوادثها بطائفة من الأساطير الدينية. من ذلك ما قصه علينا يوسف نفسه في رسالته لمناسبة عبوره البحر، من المغرب إلى الأندلس، وما دعا به ربه حينما ثارت العواصف في وجه سفنه، وما تلا ذلك من هدوء العواصف والموج، وذلك حسبما فصلناه فيما تقدم (¬2). ومن ذلك أن ملك قشتالة حينما كان يتأهب لمحاربة المسلمين، توالت عليه الأحلام المرعبة، فرأى ذات يوم أنه يركب فيلا، قد تدلى بجانبه طبل يحدث صوتاً مرعباً كلما قرعه، وأن فقيهاً مسلماً من أهل طليطلة، فسر له ذلك الحلم بأنه نذير بهزيمته الساحقة، ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid ; p. 310 (¬2) روض القرطاس ص 92.

مشبهاً ذلك بما حدث عام الفيل من سحق أبرهة وقد كان يركب الفيل أيضاً (¬1). ومنه مبالغات الرواية الإسلامية في فداحة خسائر النصارى، ومبالغتها في نفس الوقت في قلة خسائر المسلمين مما تقدم ذكره، إلى غير ذلك. على أن هذه الأساطير والمبالغات لا يمكن أن تثير ذرة من الريب حول أهمية هذه الموقعة الشهيرة، ولا تنتقص من شأن نتائجها الحاسمة. فقد كان من النتائج العملية المباشرة لنصر الزلاقة، أن عادت إلى اسبانيا المسلمة روح الثقة والأمل، وأخذت قواها المتخاذلة في الانتعاش والنهوض من عثارها، وأن عادت إلى الشعب الأندلسي روح الحماسة الدينية، التي كاد يقضي عليها أمراء الطوائف بتصرفاتهم المشينة، وتراميهم على أعتاب الملوك النصارى، وتحرر أمراء الطوائف من ذلك الخزي الذي لحقهم عصراً بالخضوع لملك قشتالة، ونكلوا عن دفع المغارم التي كان يقتضيها منهم برسم الجزية. بيد أن هذه النتائج المحلية الخاصة، لا تعد شيئاً إذا قيست بالنتائج الهامة البعيدة المدى، التي ترتبت على هذا النصر الباهر. ففي سهول الزلاقة ارتد سيل النصرانية الجارف عن الأندلس المسلمة، بعد أن كان ينذرها بالمحو والفناء العاجل، وغنم الإسلام حياة جديدة في اسبانيا، امتدت إلى أربعة قرون أخرى، ومهدت السبل لسيطرة المرابطين على اسبانيا المسلمة، ومن بعدهم لخلفائهم الموحدين، وجعلت الأندلس، ولاية مغربية زهاء مائة وخمسين عاماً. وبالرغم من أن حياة اسبانيا المسلمة، لم تكن من ذلك الحين سوى صراع دائم بينها وبين اسبانيا النصرانية، فإنها قد استطاعت أن تتابع نشاطها المنتج، وتقدمها الحضاري الباهر. (¬2) ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 35 و 36. (¬2) راجع في تفاصيل موقعة الزلاقة: روض القرطاس ص 93 - 98، والحلل الموشية ص 33 - 46، والمعجب للمراكشي ص 70 - 73. والروض المعطار ص 76 - 94، ونفح الطيب ج 2 ص 527 - 531، وابن خلكان ج 2 ص 481 وما بعدها، وابن الأثير ج 10 ص 52 - 53. وراجع أيضاً Dozy: Histoire, V.III.p. 129-130، وكذلك R.M.Pidal.ibid ; p. 331-340

الفصل الثالث الفتح المرابطى

الفصل الثالِث الفتح المرابطي القسم اللأول صريخ أهل شرقي الأندلس إلى يوسف. النصارى يتخذون حصن لييط قاعدة للعدوان. مسير المعتمد إلى مرسية وفشله في استردادها. عبور ابن عباد إلى العدوة واستنصاره بيوسف. عبور يوسف إلى الأندلس للمرة الثانية. كتبه إلى الرؤساء ومسيره إلى شرقي الأندلس. محاصرة القوات المرابطية والأندلسية لحصن لييط. صمود النصارى وعجز المحاصرين عن اقتحامه. الخلاف بين أمراء الطوائف وشكاويهم المتبادلة. القبض على ابن رشيق وتسليمه لابن عباد. غضب جند مرسية وأثره في المعسكر المحاصر. مقدم ملك قشتالة لإنجاد الحصن. إنسحاب المسلمين وعودة يوسف إلى المغرب. مقدم يوسف إلى الأندلس للمرة الثالثة. مشروعه في الاستيلاء على الأندلس. بواعث هذا المشروع. موقف ملوك الطوائف. محالفة بعضهم لملك قشتالة. فتاوى الفقهاء في شأنهم. طمع المرابطين في خصب الأندلس. العامل الدفاعي وأثره. مسير يوسف إلى طليطلة وارتداده عنها. مسيره إلى غرناطة. عبد الله بن بلقين ومحالفته السرية مع ملك قشتالة. محاصرة المرابطين لغرناطة. سوء الأحوال داخل المدينة. خروج عبد الله وتسليمه لأمير المسلمين. دخول المرابطين غرناطة. استيلاؤهم على مالقة. القبض على عبد الله وأخيه تميم وإرسالهما إلى العدوة. مقدم ابن عباد وابن الأفطس وجفاء يوسف نحوهما. الوحشة بينهما وبين يوسف. تأهب الجيوش المرابطية لافتتاح قواعد الأندلس. خطة يوسف لافتتاح إشبيلية. فتاوي الفقهاء ضد المعتمد. المعتمد وملك قشتالة. أهباته الدفاعية. استيلاء سير ابن أبي بكر على طريف. زحف الجيوش المرابطية على رندة وجيان وقرطبة. سقوط جيان. مهاجمة قرطبة واقتحامها. مقتل حاكمها الفتح بن عباد. قصة زائدة الأندلسية. الأسطورة النصرانية حولها. الزعم بكونها ابنة المعتمد وزواجها من ألفرنسو السادس. التفسير الحقيقي للأسطورة. حقيقة شخصية زائدة. نصوص تاريخية قاطعة. عاد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى المغرب عقب موقعة الزلاقة في شعبان سنة 479 هـ، حسبما أسلفنا، ولبث في حضرته مراكش حتى أوائل العام التالي، ثم خرج منها ليطوف بالعمالات، ويتفقد أحوال البلاد، وكانت شئون الأندلس خلاك ذلك ما زالت تلاحقه، وكان أهل الأندلس، قد أيقنوا عقب موقعة الزلاقة، أنه لا سبيل لنجاتهم، وخلاصهم من إرهاق النصارى، سوى الالتجاء إلى عاهل المغرب وأنجاده المرابطين، ومن ثم فقد عادت كتب

أهل الأندلس ووفودهم تترى على يوسف، وتستجير به من عدوان النصارى. وكان الصريخ هذه المرة آتياً بالأخص من أهل بلنسية ومرسية ولورقة، وكانت شئون شرقي الأندلس يومئذ قد سادها الاضطراب، من جراء تدخل القشتاليين في شئون بلنسية، وسيطرتهم عليها عن طريق صنيعتهم القادر بن ذى النون، وما تلا ذلك من مغامرات السيد إلكمبيادور في تلك المنطقة. بيد أنه كان ثمة مصدر آخر للعدوان المباشر في منطقة مرسية ولورقة وبسطة، هو حصن أليدو Aledo ( وتسميه الرواية العربية حصن لييط)، وكان ألفونسو السادس قد بعث في ربيع سنة 1085 م، على أثر استيلائه على طليطلة، قواته بقيادة غرسيه خمينس إلى الأندلس الشرقية. لتغير عليها، وتعيث في أراضيها، فاجتاحت المنطقة الواقعة بين مرسية ولورقة. ثم عمد القشتاليون، لكي يبسطوا قبضتهم على تلك المنطقة، إلى إنشاء حصن ضخم، وافر المناعة، في مكان يسمى أليدو (لييط) يقع بين مرسية ولورقة، وهو أقرب إلى لورقة، وشحنوه بالسلاح والمقاتلة، واتخذوه قاعدة للإغارة على أراضي مرسية وألمرية، وبثوا فيها الرعب والروع، وعجزت القوات الأندلسية المحلية عن رد عدوانهم، حتى ضج أهل هذه الأنحاء مما ينزل بهم من صنوف الضر والأذى، وكثر صريخهم واستغاثاتهم، وتوالت كتبهم ورسلهم على أمير المسلمين في طلب الإنجاد والغوث (¬1). وكان المعتمد بن عباد، وهو صاحب السيادة الشرعية على مرسية ولورقة، أشد الناس اهتماماً بإنقاذ تلك المنطقة من عدوان القشتاليين. وكان ألفونسو عقب هزيمة الزلاقة قد عزز حامية لييط وضاعفها، وأوعز إلى قائده غرسية خمينس بأن يشدد الضغط والتنكيل بأراضي لورقة ومرسية انتقاماً من المعتمد، لكونه قد خرج عليه، وعمل على استدعاء المرابطين (¬2)، وبلغت حامية هذا الحصن الضخم يومئذ ثلاثة عشر ألف مقاتل منهم ألف فارس، وكان يشاطر المعتمد هذا الاهتمام، المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، لما كان ينزل بأراضيه من عيث نصارى أليدو (لييط)، وكان المعتمد يتوق في نفس الوقت إلى استرداد سلطانه الحقيقي في مرسية, وهي يومئذ تحت حكم ابن رشيق الفعلي، فحشد حملة من جنده، ومن المرابطين الذين تركهم يوسف، وسار أولا إلى لورقة، فامتنعت ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 47 و 48، وراجع: R.M.Pidal: ibid ; p. 319 (¬2) روض القرطاس ص 98، وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 361

عليه، فغادرها إلى مرسية. وضرب حولها الحصار، ولكن ابن رشيق استطاع أن يكسب المرابطين، وأن يقنعهم بأن يتركوه في سلام، وهكذا فشلت الحملة وعاد ابن عباد إلى إشبيلية دون أن يحقق أي نجاح (¬1). فاعتزم المعتمد أمره في استدعاء يوسف، للمعاونة في قمع شر حامية أليدو النصرانية، وعبر البحر بنفسه إلى المغرب مع بعض خاصته، فلقي أمير المسلمين بوادي سبو، وأفضى إليه بملتمسه، وشرح له ما يلقاه المسلمون في منطقة مرسية ولورقة وغيرهما، من عسف النصارى وغاراتهم، وشنيع عيثهم، فوعده يوسف بإجابة ملتمسه، وكان قد تلقى قبل زيارة ابن عباد كثيراً من الكتب، من فقهاء الأندلس وأعيانها، يلحفون في رجاء الإنجاد والغوث، لقمع بغي القشتاليين، والاستيلاء على أليدو مركز بغيهم، وعاد ابن عباد إلى إشبيلية بعد أن اطمأن لوعد يوسف وتأكيداته، وأخذ في إعداد السلاح وآلات الحصار (¬2). - 1 - وأوفى يوسف بوعده، وعبر البحر إلى الأندلس في قواته في شهر ربيع الأول سنة 481 هـ (يوليه سنة 1088 م). فتلقاه ابن عباد في الجزيرة الخضراء بالمؤن الوفيرة، وبعث أمير المسلمين بكتبه إلى ملوك الطوائف ورؤسائهم يستدعيهم جميعاً للجهاد، وأن يوافوه بقواتهم عند حصن لييط. وكان يوسف يبغي بعد الاستيلاء على حصن أليدو، أن يعمل للقضاء على سلطان " السيد " في منطقة بلنسية، ومن ثم فقد اتجه يوسف عن طريق مالقة صوب شرقي الأندلس، ومعه المعتمد في قواته، وانضم إليه في الطريق تميم بن بلقين صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، كل في قواته. ولما وصل إلى ظاهر حصن أليدو، وافاه هناك ابن رشيق صاحب مرسية في قواته، وعدة من رؤساء الأندلس من شقورة وبسطة وجيان وغيرها. وضرب المسلمون الحصار حول الحصن، وكاد فضلا عن حاميته الضخمة، التي تضم ثلاثة عشر ألف مقاتل، يضم جماعات كبيرة من نصارى هذه المنطقة الذين التجأوا إليه. وسلط المسلمون آلات الحصار الضخمة على الحصن، ¬_______ (¬1) Gaspar Remiro: Murcia Musulmana ; p. 134 (¬2) روض القرطاس ص 98، والحلل الموشية ص 48.

وضربوه بشدة، ولكن الحصن كان في منتهى المناعة، فلم تنجح الآلات الضخمة في هدمه أو ثلم أسواره، ورد المدافعون كل محاولة للمحاصرين بمنتهى العنف والشدة، وامتنعوا داخل حصنهم. وطال الحصار زهاء أربعة أشهر، والقوات المحاصرة تحاول اقتحامه، كل جماعة بدورها، والنصارى صامدون، يتساقطون داخل حصنهم من الجوع والإعياء. وشعر أمير المسلمين من جراء ذلك بخيبة أمل مرة، بيد أنه شعر كذلك باستياء بالغ لما شهده من أحوال أمراء الأندلس المشاركين في الحصار، فقد كان الخلاف والوقيعة على أشدهما بين أولئك الأمراء الطامعين المتنابذين، فكان تميم صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، يشكو كل منهما الآخر، ويتهمه باغتصاب حقوقه في الميراث والسيادة، وكان ابن عباد والمعتصم بن صمادح يوقع كل منهما في حق صاحبه لدى أمير المسلمين، ويتهمه بمختلف التهم. وبرز من بين هذه الخصومات بالأخص خلاف المعتمد وابن رشيق، فقد شكا ابن عباد ابن رشيق لأمير المسلمين، واتهمه باغتصاب الولاية منه على مرسية، واتهمه بما هو شر من ذلك، وهو أنه متفاهم مع ملك قشتالة سراً، وقد دفع إليه جباية مرسية، وأنه يعاون حامية الحصن في الخفاء، واهتم أمير المسلمين لتلك التهم، ومال إلى تصديقها، واستفتى الفقهاء في أمر ابن رشيق، فأفتوا بإدانته، فأمر بتسليمه لابن عباد على شرط أن يبقى على حياته. وكان لهذا الحادث أسوأ الأثر في المعسكر المحاصر، فإن قادة مرسية ومعظمهم من أقارب ابن رشيق ورجاله، غادروا المعسكر في جندهم غاضبين، وقطعوا المؤن التي كانت ترسل إلى المحاصرين من مرسية وأحوازها، فاختل أمر المعسكر، ولحق به الضيق والغلاء، وعلم أمير المسلمين من جهة أخرى أن ملك قشتالة يسير في قوة كبيرة لإنجاد الحصن، فآثر الانسحاب وعدم الاشتباك مع القشتاليين في معركة غير مجدية. وقدم ألفونسو إلى الحصن، فلم يجد بداخله من المدافعين سوى مائه فارس وألف راجل، ولما رأى أنه لا فائدة من الاحتفاظ به، وأنه يقتضي لذلك حامية كبيرة، قرر إخلاءه وتقويض أسواره وأبراجه، وعاد أدراجه، وذلك في سنة 1089 م (482 هـ). واحتل ابن عباد أطلال الحصن بعد أن غادره النصارى. ولم ير يوسف بعد هذا الإخفاق مجالا لمحاولات أخرى، فاتجه نحو لورقة،

بعد أن ترك جيشاً مرابطياً من أربعة آلاف فارس تحت إمرة داود بن عائشة ليعمل في منطقة مرسية وبلنسية، وتحرك أمراء الأندلس كل إلى بلده، وسار يوسف إلى ألمرية فالجزيرة، ثم عبر البحر عائداً إلى المغرب، وقد تغيرت نفسه على أمراء الأندلس (¬1). - 2 - ولم يمض عام آخر، حتى أعد يوسف بن تاشفين عدته، للجواز إلى شبه الجزيرة للمرة الثالثة، وكان ذلك في أوائل سنة 483 هـ (1090 م). ولم يكن جوازه في تلك المرة تلبية لدعوة أو استغاثة من أحد، من أمراء الأندلس، كما حدث في المرتين السابقتين، ولكنه عبر عندئذ إلى شبه الجزيرة، وقد انتهى إلى قرار بالغ الخطورة، هو الاستيلاء على الأندلس. وقد اختلفت الروايات في تصوير البواعث، التي حملت يوسف على اتخاذ هذا القرار. بيد أنه يبدو على ضوء مختلف الروايات، أن يوسف قد تأثر منذ البداية بما شهده من اختلال أحوال أمراء الطوائف، وضعف عقيدتهم الدينية، وانهماكهم في مجالي الترف والعيش الناعم، وما يقتضيه ذلك من إرهاق لشعوبهم بالمغارم الجائرة، وأدرك أن هذه الحياة الناعمة، التي انغمس فيها رؤساء الأندلس وشعوبهم اقتداء بهم، هي التي قوضت منعتهم، وفتت في رجولتهم وعزائمهم، وأضعفت هممهم عن متابعة الجهاد، ومدافعة العدو المتربص بهم، وأن الشقاق الذي استحكم بينهم، ولم ينقطع بعد الزلاقة، سوف يقضي عليهم جميعاً، إذا تركت الأمور في مجراها، وسوف يمهد لاستيلاء النصارى على جميع أنحاء شبه الجزيرة في أقرب وقت. ومن ثم فقد اعتزم أمير المسلمين أمره نحو الأندلس ونحو أمرائها العابثين المترفين (¬2). ذلك هو التصوير العام، للبواعث التي حملت يوسف بن تاشفين، على افتتاح ممالك الطوائف الأندلسية، بيد أنه توجد إلى جانب ذلك بواعث معينة أخرى، منها أن ملوك الطوائف لما شعروا بتغير يوسف عليهم، توافقوا على ¬_______ (¬1) راجع روض القرطاس ص 98 و 99، والحلل الموشية ص 47 - 50. وراجع: Dozy: Histoire, V.III.p. 139 & 140، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 364 & 365. (¬2) راجع المراكشي في المعجب ص 89.

قطع المدد والمؤن عن عساكره ومحلاته التي تركها بالأندلس، فساءه ذلك (¬1)، ومنها ما وقف عليه يوسف، من رجوع بعض رؤساء الطوائف إلى مصادقة ألفونسو ملك قشتالة وممالأته، بل واستعدائه على محاربة يوسف نفسه، وإمداده لذلك بالأموال والهدايا، وكان هذا بالذات موقف عبد الله بن بلقين صاحب غرناطة (¬2)، ثم كان فيما بعد موقف المعتمد بن عباد، وقد عمد كلاهما في الواقع إلى تحصين بلاده والاستعداد للدفاع عنها (¬3). والظاهر أيضاً أن أمير المسلمين لم يتخذ قراره الخطير بافتتاح الأندلس فجأة، ولكنه عمد إلى دراسته ومشاورة الزعماء والفقهاء في أمره، وقد تلقى في ذلك فتاوي الفقهاء من المغرب والأندلس، بوجوب خلع ملوك الطوائف، وانتزاع الأمر من أيديهم، بل لقد تلقى مثل هذا الرأي من أكابر فقهاء المشرق، وفي مقدمتهم أعلام كالإمام الغزالي، وأبى بكر الطرطوشي نزيل مصر يومئذ وغيرهما (¬4). وإذاً فقد التمس أمير المسلمين لتنفيذ مشروعه، سند أحكام الشرع، وتأييد أهل الرأي، قبل الإقدام عليه. ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم، ذلك الباعث الطبيعي، الذي يضطرم به كل زعيم قوى وكل متغلب، ونعني شهوة الفتح والتوسع، فلا ريب أن يوسف بن تاشفين وصحبه، وهم أولئك البدو الصحراويون، قد راقهم ما شهدوه من خصب الأندلس ونعمائها، وطيب هوائها. ومن ثم فإن الرواية تحدثنا بصراحة عن " طمع يوسف في الجزيرة وتشوفه إلى مملكتها "، وتذكر لنا أنه قال يوماً لبعض ثقاته؛ " كنت أظن أني قد ملكت شيئاً، فلما رأيت تلك البلاد (الأندلس) صغرت في عينى مملكتي " (¬5). اجتمعت هذه البواعث كلها، لتحمل يوسف على فتح الأندلس، وهي بواعث فوق وضوحها، تسجلها لنا الرواية جميعاً. بيد أننا نستطيع أن نستشف ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 187. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 187. (¬3) روض القرطاس ص 99، وابن خلكان ج 2 ص 490. وراجع: R.M.Pidal ibid ; p. 394 (¬4) ابن خلدون ج 6 ص 187 و 188؛ وأعمال الأعلام ص 247. (¬5) المعجب ص 74. وراجع ابن خلكان ج 2 ص 40، وأعمال الأعلام ص 163، ونفح الطيب ج 2 ص 533.

من قرار يوسف باعثاً آخر، لم تفطن إليه الرواية الإسلامية، ولعله من البواعث الهامة، في مشروع عاهل المرابطين، وهو العامل الدفاعي والاستراتيجي. ذلك أن يوسف أدرك لأول وهلة، أن دول الطوائف الضعيفة المتخاذلة، لا تستطيع في ظل أمرائها المترفين الخانعين دفاعاً عن نفسها، وأنه إن تخلى عنها، فسوف تسقط حتماً في يد ملك قشتالة القوي. ولم تغب عن يوسف، وهو ذلك الجندي العظيم، أهمية الصلة الدفاعية والاستراتيجية الوثيقة، التي تربط بين ضفتي العدوة والأندلس، المتقابلتين على طرفي المضيق، ولم يفته أن يدرك أن سقوط الأندلس، في أيدي النصارى، معناه سقوط جناح المغرب الدفاعي من الشمال، ومعناه تهديد اسبانيا النصرانية لسلامة المغرب، متى اجتمعت قواها، وتوفرت لديها وسائل العدوان، ومن ثم فقد قرر أن يبادر إلى احتلال رقعة الوطن الأندلسي، لينقذ الأندلس من هذا الخطر الداهم، وليدعمها ويضاعف أهباتها الدفاعية، ويمكنها من تأدية مهمتها الاستراتيجية في رد عادية العدوان، لا عن نفسها فقط، ولكن عن المغرب أيضاً، ولم ينس أمير المسلمين في ذلك، أن ملك قشتالة استطاع عقب استيلائه على طليطلة، أن يجتاج أراضي الأندلس الوسطى كلها، منذ نهر التاجه جنوباً حتى أرض الفرنتيرة، وأن يصل إلى ثغر طريف قبالة العدوة. دون أن يقف في سبيله أحد من ملوك الطوائف، وكان في ذلك من بوادر الخطر على أرض العدوة القريبة ما فيه. - 3 - عبر أمير المسلمين إلى شبه الجزيرة للمرة الثالثة في أوائل سنة 483 هـ، حسبما قدمنا. وكان أبلغ ما أهمه عندئذ ما تواتر إليه من أخبار عن الاتفاقات السرية التي يعقدها المعتمد بن عباد، والمتوكل بن الأفطس، وعبد الله ابن بلقين، مع ألفونسو السادس ملك قشتالة للتعاون في رد المرابطين. واتسمت حملة يوسف في البداية بطابع الجهاد، حيث سار تواً إلى طليطلة، واجتاح في طريقه أراضي قشتالة. ولم يتقدم أحد من أمراء الطوائف يومئذ لمعاونته أو السير معه. وربما كان يوسف يرجو أن يسترد طليطلة، فيشفى بذلك جرح الأندلس الدامي، ويكتسب عطف أهل الأندلس جميعاً. وعاث المرابطون في أحواز طليطلة وخربوا ضياعها، وانتسفوا زروعها، ثم ضربوا الحصار حول العاصمة القوطية القديمة

وعاصمة قشتالة يومئذ، وكان بداخلها ألفونسو السادس وحليفه سانشو راميرز يقومان بالدفاع عنها، بيد أن المرابطين أيقنوا بعد أن شهدوا أسوارها العالية، وحصانتها الفائقة، بعبث المحاولة، فتركوا الحصار، وارتد يوسف بقواته إلى الجنوب (¬1). وعرج يوسف بجيشه على فحص غرناطة، وكان قد قرر أمره نحو غرناطة وصاحبها عبد الله بن بلقين، بل ونحو أمراء الطوائف جميعاً. وكان عبد الله في الواقع مذ عاد من حصار أليدو، ولما شعر به من تغير يوسف، قد عاد إلى استئناف صلاته بألفونسو السادس، عن طريق قائده ومبعوثه في تلك المنطقة ألبار هانيس، وعقد معه فيما يبدو محالفة سرية لمقاومة المرابطين. ويعترف الأمير عبد الله في مذكراته بهذه الصلات، ولكنه يقول لنا إنها لم تكن سوى التزام منه بدفع الجزية لألفونسو، وتعهد من ألفونسو بألا يعترض له بلداً ولا يغدر به (¬2). ويقول لنا ابن عذارى من جهة أخرى إن عبد الله بن بلقين كان أول من شهر الخلاف على يوسف بن تاشفين، فنظر في اختيار الآلات وألحق الرماة والرجال، وأعلا الأبراج، وبنا الأسوار، ونصب الرعادات، وملأ بيوت السلاح، وجد في ضرب السهام، ونقل المال والذخيرة، وخرج المتاع والآنية إلى قصبة المنكب لكونها في غاية المنعة، وعلى ضفة البحر، وعمد إلى مال كثير، وثياب نفيسة، وتحف جليلة، وأعلاق دقيقه، فوجه بها إلى أذفونش، وكتب إليه متطارحاً عليه، مستجيراً به، وأعلمه ان البلد بلده وأن فيه قايده، فاهتز لذلك الأذفونش، وقبل المال والهدايا، وأقسم بجميع أيمانه، أن يشد اليد عليه في ملكه، ولا يتركه لضيم ولا خصيمة، وأن ينهض إليه بنفسه، ويبذل جهده في نصره، فقويت نفس حفيد باديس بذلك. وفي ذلك يقول صفيه وأثيره السمسري: صانع أذفونش والنصارى ... فانظر إلى رأيه الوبير وشاد بنيانه خلافاً ... لطاعة الله والأمير يبني على نفسه سفاهاً ... كأنه دودة الحرير ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 99. وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 349 & 395 (¬2) كتاب التبيان ص 125. وراجع ابن خلدون ج 6 ص 187.

دعوه يبني فسوف يدري ... إذا أتت قدرة القدير (¬1) على أن ما استقر في ذهن يوسف، وما نهضت عليه الأدلة، وأكده رسله يومئذ، هو أن المعتمد بن عباد، وعبد الله بن بلقين وغيرهما من أمراء الطوائف، قد عقدوا مع ملك قشتالة اتفاقات سرية، يتعهدون فيها بالامتناع عن معاونة المرابطين بالمال والمؤن، وبالانضواء تحت لواء ألفونسو وحمايته. وكان بعض حشم عبد الله ولاسيما مؤمل مولى جدّه باديس، قد اتصلوا بأمير المسلمين، وأكدوا له مداخلة عبد الله لملك قشتالة، واهتمامه بتجديد الأسوار وتحصين المدينة. ومن جهة أخرى فقد أصدر فقهاء غرناطة فتوى بخلع عبد الله وأخيه تميم صاحب مالقة، لما يرتكبانه من المظالم والخروج على أحكام الدين، وأهابوا بيوسف أن يرغم أمراء الطوائف على اتباع أحكام الشرع وإلغاء المكوس، والمغارم الجائرة، التي يفرضونها على رعيتهم تعسفاً وظلماً. وفرض أمير المسلمين على غرناطة شبه حصار، وقام عسكره بحراسة حصونها الخارجية، حتى لا يأتيها مدد من النصارى، وطلب المؤن والعلوفات، فبادر عبد الله بتقديمها. وكانت الأحوال في غرناطة قد ساءت، وشاع الخلاف والتمرد بين سائر الطوائف، وأدرك عبد الله أنه لا سبيل إلى المقاومة، وأرسل إلى أمير المسلمين رسله ومعهم بعض المال، فعادوا إليه بأمان يوسف " في النفس والأهل دون المال "، كما عرض عليه يوسف أن يختار بلداً آخر لإقامته غير غرناطة. فتمهل عبد الله وقتاً. والظاهر أنه كان ينتظر عوناً من القشتاليين لم يتحقق. وفي خلال ذلك كانت أمه وخاصته يلحون عليه في الخروج إلى أمير المسلمين، والانقياد لأمره، كأفضل حل للموقف. ولما اقترب أمير المسلمين بمحلته من المدينة، واشتد بها الهياج، رأى عبد الله أنه لا مناص من اتباع هذا النصح، فسار إلى محلة يوسف، وقدم إليه نفسه، فأصدر له أماناً في نفسه وأهله، وأمر باعتقاله، حتى يتم ضبط أمواله، وكانت لدى عبد الله وأمه أموال طائلة، مكدسة منذ أيام جده باديس، وعلى أثر ذلك أقبل الفقهاء والأعيان إلى محلة يوسف وبايعوه بالطاعة. ودخل يوسف مع قادته وجنده مدينة غرناطة ونزل بقصرها، واستولى على ما فيه من الأموال والتحف الجليلة، وأذاع في ¬_______ (¬1) نقلت من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثر بها المؤلف في خزانة القرويين بفاس.

الناس، أنه سوف يحكم بالعدل والرفق وفقاً لأحكام الشرع، ويعمل على إقامة الخير بينهم، والذب عن حوزتهم، وأنه سوف يرفع عنهم سائر المغارم الجائرة، ولا يفرض عليهم من التكاليف والالتزامات إلا ما يجيزه الشرع. وكان خلع عبد الله بن بلقين بن باديس في اليوم العاشر من شهر رجب سنة 483 هـ (سبتمبر سنة 1090) (¬1). وبعث أمير المسلمين في الوقت نفسه سرية من جنده إلى مالقة، فقبض على صاحبها تميم بن بلقين أخى عبد الله، وحمل مكبلا إلى العدوة، ثم أرسل إلى السوس. وكان الفقهاء قد اتهموه بطائفة من المظالم الشنيعة وطالبوا بخلعه (¬2). وأخذ عبد الله وأهله أولا إلى الجزيرة الخضراء، ثم نقلوا إلى سبتة، فمكناسة وأخذوا أخيراً إلى مدينة أغمات، حيث تقرر إقامتهم، وأنزلوا هنالك داراً حسنة، وعوملوا برفق ورعاية، وعاش عبد الله بأغمات حتى توفي. وكتب فيها مذكراته الموسومة بكتاب " التبيان "، وهي التي رجعنا إليها في غير موضع. وعفا أمير المسلمين فيما بعد عن أخيه تميم، فسكن مراكش حتى توفي بها في سنة 488 هـ (¬3). وهكذا سقطت أول دولة من دول الطوائف في أيدي المرابطين، وكان سقوطها نذيراً باضطرام العاصفة، التي قدر لها أن تجتاح الطوائف جميعاً. وشعر المعتمد بن عباد بخطورة هذا النذير، بيد أنه كان من جهة أخرى، ما يزال يعلل نفسه بمختلف الآمال الغامضة، وكان قد استقبل يوسف عند مقدمه بالجزيرة الخضراء، وقدم إليه المؤن والضيافات المعتادة، ويقال إن يوسف وعده عندئذ بغرناطة متى استولى عليها (¬4). فلما ظفر يوسف بامتلاكها، سار المعتمد ومعه زميله المتوكل بن الأفطس إلى غرناطة، فقدما التهنئة لأمير المسلمين بهذا الفتح. وظن المعتمد عندئذ أن يوسف سوف ينجز وعده بالنزول له عن غرناطة، مقابل ¬_______ (¬1) يراجع في حوادث سقوط غرناطة في أيدي المرابطين: كتاب التبيان أو مذكرات الأمير عبد الله ص 147 - 160، وروض القرطاس ص 99 و 100، وأعمال الأعلام ص 235 و 236، وابن خلدون ج 6 ص 187. وراجع أيضاً: Dozy: Hist.V.III.p. 141-144، وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 394-396 (¬2) كتاب التبيان ص 162 و 163، وأعمال الأعلام ص 236. (¬3) كتاب التبيان ص 171، وأعمال الأعلام ص 236. (¬4) كتاب التبيان ص 164.

استيلائه على ثغر الجزيرة، ولكن يوسف استقبلهما بجفاء، فانصرفا عنه، وقد أدركا الحقيقة المروعة، وشعرا بأن النهاية المحتومة، قد أضحت على وشك الوقوع. وعاد المعتمد إلى إشبيلية، وهو يعتزم الدفاع عن مملكته جهد الاستطاعة وأخذ في التأهب، وإقامة التحصينات والأسوار، وساءت العلائق بينه وبين أمير المسلمين بسرعة، وكثرت بينهما الوقيعة والسعايات، ودعا أمير المسلمين المعتمد إلى لقائه فرفض، وطلب إليه أن يتبع أحكام الشرع، وأن يلغي المكوس الجائرة، وأن يلتزم الرباط ومدافعة النصارى، فلم يجبه إلى شىء (¬1). وغادر أمير المسلمين غرناطة، وجاز إلى العدوة في شهر رمضان سنة 483 هـ، وفوض إلى قائده الأكبر سير بن أبي بكر اللمتوني شئون الأندلس. وهنا تختلف الرواية، فيقال إنه لم يأمر قائده في أمر ابن عباد بشىء، وقيل من جهة أخرى، إنه أمره بمحاصرة ابن عباد في إشبيلية، وأنه متى انتهى من أمر إشبيلية، فليتقدم إلى بلاد ابن الأفطس (¬2). وقدم أمير المسلمين قائده ابن الحاج على جيش آخر، وعهد إليه بمنازلة قرطبة، وعليها ولد المعتمد الفتح الملقب بالمأمون، وقدم أبا زكريا بن واسنو على جيش ثالث، وعهد إليه بمحاصرة المعتصم بن صمادح صاحب ألمرية، وقدم جروراً الحبشي على عسكر رابع وعهد إليه بمنازلة يزيد الراضي ولد المعتمد برندة. وأقام أمير المسلمين بسبتة يجهز الجيوش والأمداد، ويترقب نتائج أعمال جيوشه في شبه الجزيرة. - 4 - كان من الواضح، على ضوء هذه الأهبات الضخمة، التي اتخذت لمهاجمة ْقواعد مملكة إشبيلية في وقت واحد، أن يوسف بن تاشفين، كان يرى في مملكة إشبيلية واسطة عقد الأندلس، وفي أميرها المعتمد بن عباد، عميد الطوائف، فإذا سقطت في يده إشبيلية، كان له ملك الأندلس. ولم يكن أمير المسلمين تعوزه المبررات في قتال ابن عباد، فقد كان لديه المبررات المادية والشرعية الكافية. ذلك أنه احتاط للأمر، واستصدر الفتاوي الشرعية اللازمة، من فقهاء المغرب والأندلس، بأن مسلك المعتمد في مصانعة ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 51 و 52، وروض القرطاس ص 100، وكتاب التبيان ص 169. (¬2) روض القرطاس ص 100، والحلل الموشية ص 52.

النصارى، وتسليم البلاد، والاحتماء بهم، ومسلكه إزاء شعبه في اقتضاء المكوس الجائرة، وغير ذلك مما يخالف أحكام الشرع، ومجاهرته بالمعاصي، كل ذلك مما يفقده أهليته لحكم المسلمين، ويوجب محاربته وخلعه (¬1). أما عن المبررات المادية، فقد وقعت في يد يوسف بعض المراسلات السرية الموجهة من ابن عباد إلى ملك قشتالة، يستغيث به ويطلب معونته (¬2)، وكان المعتمد بعد أن رأى جنود قشتالة تجتاح بلاده، وتمعن في تخريبها، دون أن يستطيع دفعاً لهم، وشعر من جهة أخرى بما يضمره المرابطون نحوه من النيات الخطرة، قد أيقن أنه لا معدي له عن الالتجاء إلى ملك قشتالة، والتفاهم معه على دفع المرابطين عن الأندلس. وبينما كان المعتمد منهمكاً في أهباته الدفاعية بإشبيلية، كان قائد المرابطين سير بن أبي بكر، يضع خططه النهائية للانقضاض على قواعد مملكة إشبيلية، وقد بدأ في ذلك بالاستيلاء على طريف أقصى ثغورها الجنوبية، وذلك في شوال سنة 483 هـ (ديسمبر 1090 م) ونادى فيها بدعوة أمير المسلمين (¬3)، ثم اتجه نحو الشمال قاصداً إشبيلية، بينما زحفت الجيوش المرابطية الفرعية على رندة وجيان وقرطبة. فأما رندة فقد حاصرها القائد جرور المرابطي بقواته، وكان يضطلع بالدفاع عنها يزيد الراضي ولد المعتمد. وكانت رندة من أمنع القواعد الجنوبية، فصمد بها الراضي، واضطر جرور أن يقنع بالحصار منتظراً سير الحوادث. وأما جيان، فقد زحف عليها جيش مرابطي بقيادة بطى بن اسماعيل وضرب حولها الحصار. وهنا يقول لنا ابن الخطيب إن جيشاً من القشتاليين قدم لإنجاد جيان، تنفيذاً للحلف المعقود بين ابن عباد وملك قشتالة، وإنه نشبت بين المرابطين والنصارى موقعة أبيد فيها المرابطون (¬4). بيد أن ابن أبي زرع يقول لنا بالعكس أن بطى حاصر جيان حتى دخلها صلحاً، وكتب سير بالفتح إلى أمير المسلمين، وأمر بطى بالسير بقواته إلى قرطبة (¬5). وقد ذكرنا من ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 187 و 188. (¬2) كتاب التبيان ص 169. (¬3) المعجب ص 75. وكذلك: R.M.Pidal: ibid, p. 398 (¬4) أعمال الأعلام ص 163. (¬5) روض القرطاس ص 100.

قبل وفقاً لرواية صاحب الحلل الموشية، أن القوات المرابطية التي سارت لمنازلة قرطبة كانت بقيادة ابن الحاج. وعلى أي حال فقد زحف المرابطون على قرطبة، وبها حاكمها ولد المعتمد، الفتح الملقب بالمأمون، وكان قد اتخذ كل الأهبات الدفاعية الممكنة، وأرسل زوجه وأولاده وأمواله تحوطاً إلى حصن المدور (¬1)، الواقع جنوب غربي قرطبة على ضفة نهر الوادي الكبير، لكي تبقى بمنجاة من الخطر، وحتى تستطيع أن تلوذ عند الضرورة بحماية ملك قشتالة، وقد كان هذا الإجراء فيما يبدو بإشارة المعتمد أو بموافقته. والواقع أن قرطبة لم تصمد طويلا، فقد اقتحمها المرابطون بعنف، وقتل الفتح بن عباد خلال الهجوم مدافعاً عنها، ورفع المرابطون رأسه على رمح. وكان افتتاح المرابطين لقرطبة في اليوم الثالث من صفر سنة 484 هـ (26 مارس سنة 1091 م) (¬2). * * * وهنا يجب أن نقف قليلا، لنتناول مسألة تاريخية هامة، غمرتها الأسطورة مدى عصور، ثم ألقى عليها البحث الحديث ضوءه المقنع، تلك هي قصة زائدة الأندلسية. لقد ذكرت الروايات الإسبانية النصرانية، المعاصرة واللاحقة، أن ألفونسو السادس قد تزوج من ابنة للمعتمد بن عباد تسمى " زائدة " أو أنه قد اتخذها خليلة، وأنجب منها ولده الوحيد سانشو. وتزيد على ذلك أن المعتمد نفسه، حينما شعر بخطر المرابطين الداهم على مملكته، واستغاث بألفونسو لمعاونته على دفعه، هو الذي قدم ابنته المذكورة للملك النصراني، وأنه نزل له عن مواضع معينة من أراضي مملكة طليطلة، كان قد افتتحها، لتكون مهراً لابنته المذكورة، وترجع بعض الروايات المتأخرة هذا التصرف من جانب ابن عباد إلى فرصة سابقة على مقدم المرابطين، وتقول إنه كان ضمن مغريات الحلف الذي عقده المعتمد مع ألفونسو عن طريق وزيره ابن عمار، وأخيراً أن هذا التصرف قد أثار فضيحة كبيرة في الأندلس، واتهم ابن عباد بالتفريط في عرضه ودينه (¬3). ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Almodavar del Rio (¬2) روض القرطاس ص 100، وراجع: R.M.Pidal: ibid.p. 405 (¬3) وردت هذه القصة ضمن رواية Pelayo de Oviedo المعاصرة، وقد نشرت ضمن =

وقد استمرت التواريخ النصرانية تتناقل هذه الأسطورة عصوراً كأنها حقيقة لا ريب فيها، وتتحدث دائماً عن " زائدة الأندلسية " Zeida la Mora أو Ceida وعن ذريتها النصرانية. ونقول نحن إنه لا توجد بين هذه التفاصيل المغرقة، سوى حقيقة واحدة هي شخصية زائدة المذكورة، وأنها كانت حقيقة زوجة أو خليلة لألفونسو السادس، وقد أنجب منها ولده سانشو الذي قتل طفلا في موقعة إقليش (501 هـ - 1108 م). ولكنها لم تكن ابنة للمعتمد بن عباد، ولم يقدمها المعتمد لألفونسو ثمناً لحلفه، وهذا هو لب الأسطورة كلها. وهذا هو وجه الإغراق والتحريف. ذلك أنه مما لا يسيغه العقل أن يرضى أمير عظيم مسلم كالمعتمد بن عباد، أن يزوج ابنته من أمير نصراني أو أن يقدمها له جارية وحظية، ومهما كان من استهتار المعتمد وتسامحه الديني، وإذا فرضنا أنه لم يكن يقيم في مثل هذا التصرف الشائن، وزناً للاعتبارات الدينية والشرعية، وهو في ذاته مما لا يقبله العقل، فمن المستحيل عليه ألا يحسب أعظم حساب لنتائجه السياسية، وخصوصاً في مثل هذه الظروف الدقيقة التي كانت تجوزها اسبانيا المسلمة يومئذ، وأقلها أن يضطرم شعبه المسلم بالثورة عليه، وأن يسحقه ويسحق أسرته، ومن جهة أخرى فإن المعتمد كان يرمي من جانب خصومه في الداخل وفي الخارج بألسنة حداد من أجل استهتاره وتهاونه الديني، ولم يكن من المعقول أن يقدّم بمثل هذا التصرف إلى خصومه سلاحاً جديداً يضعه في صف المارقين والخوارج على الدين. أما التفسير الحقيقي لهذه القصة، وهو ما كشفت عنه البحوث والنصوص الوثيقة، فهو أن زائدة هذه كانت حسبما تقدم زوجة للفتح بن المعتمد الملقب بالمأمون حاكم قرطبة، وأن المأمون حينما هاجم المرابطون المدينة، أرسل زوجته وولده وأمواله إلى حصن المدور، أو أنه حينما اقتحم المرابطون المدينة وقتل الفتح، استطاعت زائدة أن تلوذ مع أولادها بالفرار، وأن تلجأ إلى حصن المدور، ¬_______ = مجموعة Espana Sagrada للأب Flores ( الجزء الرابع عشر). وذكرها رودريك الطليطلي في روايته التي وردت في: De Rabis Hispaniea، وكذلك لوقا التطيلي في روايته Cronicon Mundi على اختلاف في بعض التفاصيل، وذكرها الأب فلوريس في تاريخه Flores: Reynas Catolicas ومن المؤرخين المحدثين Modesto Lafuente في تاريخه: Historia general de Espana وراجع ايضاً R.M.Pidal: ibid ; p. 760-764 حيث يلخص سائر الروايات المتقدمة.

ثم التجأت إلى حماية ملك قشتالة، حينما اشتد خطر المرابطين على سائر تلك الأنحاء وربما كان ذلك بموافقة المعتمد. ولما كانت زائدة على جانب كبير من الجمال، وكان الملك النصراني من جهة أخرى مزواجاً، كلفاً بالنساء، فقد انتهز فرصة التجائها إليه، واتخذها خليلة ثم تزوجها. وتقول الروايات القشتالية في هذا الموطن، إن زائدة كانت تحب الملك النصراني " بالسماع "، وتتوق إلى الزواج منه، وأن المعتمد (بزعم أن زائدة كانت ابنته) قد نزل لملك قشتالة في هذه المناسبة عن قونقة، ووبذة وإقليش وأوكانيا وكونسويجرا وغيرها من الأماكن، وهي التي كان قد افتتحها من مملكة طليطلة أيام بني ذى النون، وذلك كمهر لزائدة. وقد يكون المعتمد قد نزل حقاً عن هذه الأماكن وغيرها لملك قشتالة، ولكن ذلك لم يكن سوى بعض ما تعهد به لملك قشتالة كثمن لحلفه وعونه. ومتى تقرر أن زائدة، لم تكن ابنته، فإنه لا محل أن يقرن هذا التنازل من جانب المعتمد بقصة زواج زائدة من الملك النصراني. ونقول تتمة لقصة زائدة إنها غدت خليلة أو زوجة لملك قشتالة، على الأرجح عقب سقوط قرطبة بقليل، في أوائل سنة 1092 م، وأنها بهذه المناسبة اعتنقت النصرانية وتسمت باسم " إيسابيل "، وفي رواية باسم ماريا، ونصّر أولادها من الفتح، ومن كان معها من الحشم، ورزق منها ألفونسو بولده الوحيد سانشو، وتوفيت زائدة عند مولد ولدها سانشو، ودفنت بدير ساهاجون وذلك في سنة 1097، أو 1098 م. ولما اجتاح المرابطون أراضي قشتالة، في أوائل عهد الأمير علي بن يوسف بن تاشفين، وسار القشتاليون لمحاربتهم تحت أسوار قلعة إقليش، بعث ألفونسو بولده الصبي سانشو على رأس الجيش لكي يثير حماسة الجند، فقتل في الموقعة التي نشبت بين الفريقين، وقتل معه معظم أكابر الجيش وقادته، وذلك في سنة 501 هـ (1108 م). وتوفي ألفونسو على أثر ذلك غماً وحزناً (¬1). ولم تذكر لنا الرواية الإسلامية اسم زائدة، ولا شيئاً من قصتها بطريق مباشر، ولكنها مع ذلك تقدم إلينا الدليل القاطع على حقيقة شخصيتها وصفتها، ولدينا في ذلك نصان كلاهما حاسم في تقرير هذه الحقيقة. أولهما ما ورد في تاريخ ابن عذارى " البيان المغرب " في أخبار سنة 501 هـ ¬_______ (¬1) راجع R.M.Pidal: ibid ; p. 495, 496 & 760-764

وهي الموافقة لسنة (1108 م) عن الحملة التي أرسلها ألفونسو السادس ضد المرابطين لإنجاد قلعة إقليش، وقد جاء فيه: " وفي خلال ذلك وصل إليه (إلى حصن إقليش) ولد أذفونش شانجه من زوج المأمون بن (عباد) التي كانت تنصرت بنحو سبعة ألاف فارس " (¬1). والثاني نص أورده الونشريسي في كتابه: " المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب " وقد جاء فيه عن موضوع الخوف على الأبضاع والفروج ما يلي: " ومنها الخوف من الفتنة على الأبضاع والفروج، ومتى يأمن ذو زوجة أو ابنة أو قريبة وضيئة أن يعثر عليها وضىء من كلاب الأعداء وخنازير البعداء، فيغرها في نفسها ويغرها في دينها، ويستولي عليها وتطاوعه، ويحال بينها وبين وليها بالارتداد في الدين، كما عرض لِكُنّة المعتمد بن عباد ومن لها من الأولاد، أعاذنا الله من البلاء وشماتة الأعداء " (¬2). تلك هي الحقيقة حول أسطورة زائدة " ابنة " المعتمد بن عباد، وتقديم أبيها المعتمد إياها زوجة لألفونسو السادس، اكتساباً لمحالفته وعونه ضد المرابطين، وهي أسطورة لبثت عصوراً تمثل في الروايات الإسبانية الكنسية وغيرها كأنها حقيقة لا ريب فيها. وقد زاد من غموضها صمت الرواية الإسلامية المعاصرة واللاحقة. والظاهر أن المؤرخين المسلمين قد شعروا بما يكتنف هذه القصة من دقة وإيلام للنفوس الكريمة، فآثروا الإغضاء عنها، باعتبارها حادثاً لا أهمية له من الناحية التاريخية. ¬_______ (¬1) وقع على هذا النص العلامة المرحوم الأستاذ ليفي بروفنسال في أوراق مخطوطة من البيان المغرب لم تنشر، عثر بها في مكتبة جامع القرويين بفاس، ونشر عنه مقالا عنوانه Zaida la Mora في مجلة Hispéris XVIII (1934) فكان ضوءاً جديداً قيماً على هذه الأسطورة. (¬2) وردت هذه الفقرة ضمن فتاوي الونشريسي في كتابه السالف الذكر طبع فاس سنة 1314 هـ. ويوجد منه نسخة مخطوطة بمكتبة الإسكوريال رقم 1146 الغزيري. وقد نشرت أيضاً بصحيفة معهد الدراسات الإسلامية المصري بمدريد (المجلد الخامس ص 189).

الفصل الرابع الفتح المرابطى

الفصل الرّابع الفتح المرابطي القسم الثاني استيلاء المرابطين على أبدة وبياسة وقلعة رباح. استيلاؤهم على قرمونة. زحف سير بن أبى بكر على إشبيلية. يدعو المعتمد إلى الطاعة. محاصرته لإشبيلية. تأهب المعتمد للدفاع. استغاثته بملك قشتالة. مسير الجند القشتاليين لإنجاده. القتال بين المرابطين والقشتاليين. هزيمة النصارى وارتدادهم. استماتة المعتمد في الدفاع. خصوم المعتمد في الداخل وتفاهمهم مع المرابطين. نجاح المرابطين في ثلم السور. محاولتهم الدخول وردهم. حرق أسطول إشبيلية النهري. هجوم المرابطين على المدينة واقتحامها. المعارك داخل المدينة. بسالة المعتمد في الدفاع. استيلاء المرابطين على المدينة. أسر المعتمد ونهب قصوره. إرغامه على الكتابة إلى ولديه بتسليم رندة وميرتلة. تسليم رندة ومقتل حاكمها الراضي ولد المعتمد. رواية في تسليم إشبيلية بالأمان. ما ينقض هذه الرواية. أقوال ابن اللبانة والفتح بن خاقان. شعر المعتمد في ذلك. حياة المعتمد بعد سقوطه. محنة اعتقاله. مسيره إلى المنفي. نزوله بطنجة. مسيره إلى أغمات. حياته المؤلمة في المعتقل. قسوة أمير المسلمين في معاملته. وفاة اعتماد زوجة المعتمد. قول في صفاتها. شعر المعتمد في محنته. محنته تذكي الشعر بالأندلس. تصفيده بالأغلال. وفاته ودفنه بأغمات. ذكراه في المغرب والأندلس. قبره يغدو مزاراً. زيارة ابن الخطيب لقبره وشعره في ذلك. وصف لأطلال قبره. محنة المعتمد وصداها في الرواية الإسلامية. حملة ابن الأثير على أمير المسلمين. تعليقات دوزي. قسوة أمير المسلمين وما ينتحل لها من الأعذار. المعتمد وما له وما عليه. البواعث التي دفعت يوسف إلى فتح الأندلس. تأملات حول معاملته للأمراء المنزوعين. مسير المرابطين إلى ألمرية. الروايات المختلفة في شأن سقوطها. استيلاء المرابطين على بلنسية. استيلاؤهم على شنتمرية الشرق. استيلاؤهم على سرقسطة. حركاتهم في غرب الأندلس. إغاراتهم على أراضي بطليوس. ابن الأفطس واستغاثته بألفونسو السادس. مسير المرابطين إلى بطليوس وافتتاحها. مصرع المتوكل ابن الأفطس وولديه. انتهاء مملكة بطليوس. مرثية ابن عبدون لبني الأفطس. استيلاء المرابطين على أشبونة. جواز أمير المسلمين الرابع إلى الأندلس. غزو المرابطين لقشتالة وهزيمتهم للنصارى. يوسف يعقد ولاية العهد لولده علي في قرطبة. مرض يوسف ووفاته. وصيته لولده علي. على أثر سقوط قرطبة، استولى المرابطون على أبدة وبياسة وشقورة، في شرقي قرطبة، وعلى حصن البلاط والمدور في غربها. وبعث فاتح قرطبة القائد بطى بن اسماعيل إلى قلعة رباح، وهي قاصية أراضي المسلمين، حملة من ألف فارس، فاحتلتها. وهكذا سيطر المرابطون على سائر أراضي الوادي الكبير،

وعلى سائر قواعد مملكة إشبيلية، ما عدا رندة وقرمونة وإشبيلية. وفي أوائل شهر ربيع الأول سنة 484 هـ، نجد قائد المرابطين العام، سير بن أبى بكر أمام أبواب قرمونة. وكانت قرمونة أمنع قواعد مملكة إشبيلية الشمالية، وهي حصن إشبيلية من الشرق، فنازلها سير، ودخلها عنوة في السابع عشر من ربيع الأول (10 مايو سنة 1091 م). وأخذ يستعد لمنازلة إشبيلية. ويقول لنا ابن أبي زرع في هذا الموطن، إن سير بن أبى بكر، حينما أشرف على إشبيلية، وقبل الزحف على قرطبة، كان يعتقد أن المعتمد، سوف يخرج إليه، ويتلقاه كعادته بالمعاونة والضيافات، ولكنه تحصن بالمدينة ولم يعن بشأنه، فكتب إليه سير يطلب إليه تسليم البلاد، والدخول في الطاعة، فرد المعتمد بالرفض، فضرب سير الحصار حول المدينة، وأخذ في منازلتها ومقاتلة ابن عباد، ويقدم إلينا ابن خلكان رواية مماثلة، إذ يقول إن يوسف أمر سيراً أن يعرض على ابن عباد أن يتحول إلى بر العدوة بأهله وماله، فإن قبل فبها ونعمت، وإن أبى فينازله، فلما عرض سير ذلك، لم يعطه ابن عباد جواباً، فنازله، وحاصره أشهراً (¬1). حاصر المرابطون إشبيلية بقوات ضخمة، ولم يشك المعتمد منذ البداية أنه سوف يخوض مع المرابطين معركة الحياة والموت، فتأهب للدفاع عن ملكه وحاضرته بكل ما وسع، واستغاث بحليفه ألفونسو السادس ملك قشتالة. وكان ألفونسو قد اهتز لاجتياح المرابطين لمملكة إشبيلية على هذا النحو الصاعق، وأدرك من جانبه أن المسألة لم تعد تتعلق فقط بمملكة إشبيلية، ولا ملوك الطوائف وحدهم، وإنما أضحت مشكلة شبه الجزيرة الإسبانية كلها، ومسألة خطر اجتياح المرابطين لها واحتلالهم إياها. وكانت تجمعه في ذلك مع ابن عباد قضية واحدة، هي قضية دفع خطر المرابطين عن الوطن المشترك، ومن ثم فقد بادر من فوره بإرساله حملة قوية بقيادة ألبار هانيس أكبر قواده وأبرعهم، لإنجاد ابن عباد. وتقول الرواية الإسلامية إن هذه الحملة كانت تتألف من عشرين ألف فارس وأربعين ألف راجل (¬2)، وتقول الرواية النصرانية إنها كانت تتألف فقط من ¬_______ (¬1) ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 487. (¬2) روض القرطاس ص 100.

ألفي وخمسمائة فارس. وبعث سير بن أبى بكر لقتال القشتاليين حملة من عشرة آلاف فارس، بقيادة ابراهيم بن إسحاق اللمتوني، وهي حملة تقدرها الرواية النصرانية بخمسة عشر ألفاً. والتقى القشتاليون والمرابطون على مقربة من حصن المدور، وفي رواية أخرى أن اللقاء كان في بلمة من أحواز إشبيلية (¬1)، ونشبت بينهما معركة عنيفة، قتلت فيها جموع كبيرة من الفريقين، وانتهت بنصر المرابطين وارتداد القشتاليين، وقد أثخن قائدهم ألبار هانيس جراحاً (¬2)، وانهار بذلك آخر أمل كان يعلقه ابن عباد على معاونة حلفائه القشتاليين. واستمر حصار المرابطين لإشبيلية زهاء أربعة أشهر، ودافع المعتمد وجنده عن حاضرتهم أشد دفاع، وصمدت المدينة لهجمات المرابطين ومحاولاتهم، حتى أنه ينسب لقائدهم سير بن أبى بكر أنه قال " لو أني أقصد مدينة الشرك لم تمتنع هذا الامتناع " (¬3). وفي خلال ذلك حاول جماعة من أهل المدينة من خصوم بني عباد، أن يضرموا الثورة داخل المدينة، حتى يضطرب أمر الدفاع، ويمهد السبيل لدخول المرابطين، ووقف المعتمد على أمرهم، ولكنه أبى أن يقوم بإعدامهم وفقاً لنصح قادته، واكتفى بمراقبتهم والتحوط لسعيهم. وأخيراً استطاع المرابطون بمداخلة بعض أولئك الخونة، أن يحدثوا ثلمة في السور، عند باب الفرج على مقربة من النهر (يوم 5 رجب). ووقف المعتمد على الخبر فبادر لتوه في ثلة من فرسانه، لرد الداخلين من جند العدو، وهو دون درع أو عدة، وليس عليه سوى قميص يشف عن بدنه، وتلقى المعتمد خلال المعركة التي نشبت طعنة تحت إبطه من فارس مرابطي، فوثب المعتمد يطاعنه فشقه بسيفه، ومزقت تلك الثلة من المرابطين، وأصلحت الثلمة على الأثر. بيد أنه حدث في عصر ذلك اليوم ذاته، أن تمكن بعض المرابطين من الوصول إلى أسطول إشبيلية الراسي في الوادي الكبير، وأضرموا النار فيه، فهلكت معظم سفنه، وأدرك الناس عندئذ أن خطط الدفاع عن المدينة، أخذت في الانهيار، وسرى بينهم الرعب، وبادر كثيرون إلى الفرار، بعضهم عن طريق النهر، والبعض الآخر بالترامي ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 163. (¬2) راجع روض القرطاس ص 100 و 101. وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 407 & 408 (¬3) كتاب التبيان ص 170.

من شرفات الأسوار، أو الالتجاء إلى القنوات والمغائر، وسيطرت الفوضى على المدينة، وبدت طوالع النهاية منذرة مروعة. وفي خلال ذلك كان سير بن أبي بكر، يحشد قواته وينظم الضربة الأخيرة. ووقعت الضربة الحاسمة في يوم الأحد الثاني والعشرين من رجب سنة 484 هـ (7 سبتمبر سنة 1091 م) (¬1)، حيث هاجم المرابطون إشبيلية بشدة. واقتحموها من ناحية الوادي الكبير، وانقضوا عليها كالسيل الجارف، يمعنون فيها سفكاً وتخريباً. ونشبت بينهم وبين المدافعين عن المدينة معارك محلية عنيفة، وهجمت فرقة من المرابطين على القصر الملكي، فاستقبلهم المعتمد على باب قصره في ثلة من فرسانه وخاصته، يدافع عن نفسه وملكه حتى اللحظة الأخيرة، أشد دفاع وأروعه، ولكن هذه البسالة النادرة لم تغن شيئاً، وانتهى المرابطون بالاستيلاء على المدينة، وعلى القصور الملكية، وأسروا المعتمد وآله، وقتلوا ابنه مالكاً الملقب بفخر الدولة بين يديه، ونهبوا قصوره - على قول المؤرخ " نهباً قبيحاً " - واحتووا على سائر ذخائره وأمواله، وساد القتل والعيث والنهب في المدينة الغنية التالدة. وكانت محنة مروعة. وأصدر سير بن أبى بكر أماناً للمعتمد " في النفس والأهل والولد " (¬2) ولكنه أرغمه على مخاطبة ولديه يزيد الراضي وأبى بكر المعتد، ينصحهما بالخضوع والتسليم، وكان الأول حسبما تقدم ممتنعاً برندة، والثاني ممتنعاً بميرتلة (أو مارتلة) في جنوبي البرتغال. وكانت رندة بالأخص ما تزال صعبة المنال، نظراً لحصانتها الفائقة، وقد يطول صمودها. وانضمت " السيدة الكبرى " أعني اعتماد الرميكية أم الأميرين إلى زوجها المعتمد، في حثهما على التسليم واستعطافهما رحمة بوالديهما. فأذعن الأميران للرجاء. فأما يزيد الراضي المدافع عن رندة، فقد قبل التسليم بعد أن قطع له جرور القائد المرابطي عهده ¬_______ (¬1) راجع كتاب التبيان ص 170، وهي رواية معاصرة حيث يضع هذا التاريخ لسقوط إشبيلية. ويوافقه في ذلك ابن أبي زرع (روض القرطاس ص 101). ولكن عبد الواحد المراكشي يضع لذلك يوم الأحد 21 رجب 484 هـ (المعجب ص 76). ويقول ابن الخطيب إن سقوط إشبيلية كان في يوم الأحد 20 رجب سنة 484 هـ (أعمال الأعلام ص 164). ومن المحقق أن الرواية الأولى هي الراجحة؛ وتوافقها التواريخ النصرانية، وهي تضع لذلك يوم 7 سبتمبر الموافق للتاريخ الهجري. (¬2) روض القرطاس ص 101.

بالأمان، بيد أنه ما كادت تفتح أبواب المدينة، ويدخلها المرابطون، حتى أمر جرور بالقبض على الراضي وإعدامه، وانتهاب أمواله، ناكثاً بذلك بعهده أشنع نكث، وأمر بقتل كل من ظفر به من الأحرار والجند المدافعين (رمضان سنة 484 هـ). وأما ميرتلة، فقد أبقى المرابطون على حياة المعتد، وقنعوا بنهب أمواله (¬1). وتم للمرابطين بذلك الاستيلاء على سائر قواعد مملكة إشبيلية. وكان يزيد الراضي، ويكنى أبا خالد، أنبه أبناء المعتمد في ميدان الشعر والأدب، وكان شاعر بني عباد بعد أبيه، وقرينه في نظم القريض الفائق. وكان فوق ذلك عالماً أديباً، حافظاً للشريعة، خبيراً بأنساب العرب ولغاتها. ومن شعره قوله: يحل زمان المرء ما هو عاقد ... ويسهر في إهلاكه وهو راقد ويغرَى بأهل الفضل حتى كأنهم ... جناةُ ذنوبٍ وهو للكل حاقد سينهدُّ مبنيٌ ويقفر عامرٌ ... ويصفر مملوء، ويخمد واقد ويفترق الألاّف من بعد صحبة ... وكم شهدت مما ذكرت الفراقد (¬2) * * * وهكذا سقطت مملكة بني عباد في أشهر قلائل، وخبا نجمها الذي سطع حيناً في سماء الأندلس وضاء عالياً، ولكنها سقطت أبية كريمة، في مناظر من الفروسية الرائعة تخلق بالألى شادوها. ولم تسقط قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة على يد عميدها الباسل. وقد يبدو من رواية " روض القرطاس " أن المعتمد سلم عاصمته للمرابطين بالأمان مختاراً (¬3). والحقيقة التي تجمع عليها سائر الروايات، هي أن المرابطين اقتحموا إشبيلية، كما تقدم، وأخذوها عنوة في مناظر رائعة من السفك والتخريب، وأن المعتمد بن عباد لم يدخر وسيلة في الدفاع عن نفسه وعاصمته، وأنه ظل يدافع حتى اللحظة الأخيرة، وحتى ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 77، وكتاب التبيان ص 171. ونحن نذكر أن اثنين من أبناء المعتمد هما عباد بن محمد والفتح الملقب بالمأمون قد قتلا بالتعاقب في حوادث قرطبة، وكان هؤلاء جميعاً ابناؤه من حظيته اعتماد الرميكية. وكان له منها أبناء آخرون، منهم أبو الحسين الملقب بالرشيد الذي عبر معه إلى العدوة (راجع الحلة السيراء ج 2 ص 62). (¬2) الحلة السيراء ج 2 ص 71 و 74. (¬3) روض القرطاس ص 101.

اقتحم الأعداء قصره وأسروه. وقد انتهت إلينا في ذلك رواية شاهد عيان، هو أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانة، فهو يصف لنا في كتابه " نظم السلوك في مواعظ الملوك في أخبار الدولة العبادية "، مناظر سقوط إشبيلية حسبما شهدها بنفسه في قوله: " إلى أن كان يوم الأحد الحادي والعشرون من رجب، فعظم الخطب في الأمر الواقع، واتسع الخرق على الراقع، ودخل البلد من جهة واديه، وأصيب حاضره بعادية باديه، بعد أن ظهر من دفاع المعتمد وبأسه، وتراميه على الموت بنفسه، ما لا مزيد عليه، ولا انتهى خلق إليه، فشنت الغارة في البلد، ولم يبق فيها على سبد لأحد ولا لبد، وخرج الناس من منازلهم يسترون عوراتهم بأناملهم، وكشفت وجوه المخدرات العذارى، ورأيت الناس سكارى وما هم بسكارى " (¬1). ويصف لنا الفتح بن خاقان مؤرخ الطوائف، ومعاصرهم تقريباً، منظر الصراع الأخير بين المعتمد ومهاجميه في عبارته المسجعة فيما يلي: " ولما انتشر الداخلون في البلد، وأوهنوا القوى والجلد، خرج (أي المعتمد) والموت يتسعر في ألحاظه، ويتصور من ألفاظه، وحسامه يعد بمضائه، ويتوقد عند انتضائه، فلقيهم في رحبة القصر وقد ضاق به فضاؤها، وتضعضعت من رجتهم أعضاؤها، فحمل فيهم حملة صيرتهم فرقاً، وملأتهم فرقاً، وما زال يوالي عليهم الكر المعاد، حتى أوردهم النهر، وما بهم من جواد، وأودعهم حشاه كأنهم له فؤاد، ثم انصرف وقد أيقن بانتهاء حاله وذهاب ملكه وارتحاله، وعاد إلى قصره واستمسك يومه وليلته، مانعاً لخوذته، دافعاً للذل عن عزته ... " (¬2). وأخيراً يقول لنا ابن الخطيب: " وكان دخول إشبيلية على المعتمد دخول القهر والغلبة يوم الأحد لعشر بقين من رجب. وشملت الغارة، واقتحمت الدور، وخرج ابن عباد وابنه مالك للدفاع، فقتل مالك الملقب بفخر الدولة، وأرهقت ابن عباد الخيل، فدخل القصر ملقياً بيده " (¬3). ¬_______ (¬1) نقله نفح الطيب ج 2 ص 453. (¬2) قلائد العقيان ص 22 في ترجمة المعتمد بن عباد. وقد كتب الفتح كتابه بعد سقوط إشبيلية بنحو ثلاثين عاماً. (¬3) ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1319 هـ) ج 2 ص 82.

وهذا ما يؤيده شعر المعتمد نفسه في وصف صراعه مع أعدائه في ذلك اليوم المشهود: إن يسلب القوم العدا ... ملكي وتسلمني الجموع فالقلب بين ضلوعه ... لم تُسلم القلب الضلوع قد رُمْت يوم نزالهم ... ألاّ تحصنني الدروع وبرزت ليس سوى القميص ... عن الحشا شىء دفوع وبذلت نفسي كي تسـ ... ـيل إذا يسيل بها النجيع أجلي تأخر لم يكن ... بهواي ذلي والخضوع ما سرت قط إلى القتال ... وكان من أملي الرجوع شيم الألي أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع ثم يقول لنا الفتح، إن المعتمد لما التجأ إلى قصره، بعد سقوط حاضرته، وتفرق جيشه، وفقد كل أمل في النجاة، فكر في أن يقضي على نفسه بيده، ولكن منعه من ذلك إيمانه المتين، فاستسلم إلى هوان الأسر، وقبض عليه المرابطون وعلى سائر آله وولده ونسائه (¬1). - 2 - ويجدر بنا قبل أن نتم الكلام على فتوح المرابطين لممالك الطوائف، أن نتتبع مصير المعتمد بن عباد حتى نهايته. إن هذه المرحلة الأخيرة من حياة المعتمد، وهي مرحلة مؤسية تنفطر لها القلوب الكريمة، تنتمي إلى الأدب أكثر من انتمائها إلى التاريخ، بما تحفل به من الآثار الشعرية الرائعة، التي نظمها المعتمد عن محنته وآلامه في المنفى. وقد شغلت هذه المرحلة على قصرها، من صحف التاريخ والأدب، فراغاً كبيراً لم تشغل مثله حياة المعتمد الملوكية كلها. ¬_______ (¬1) راجع في سقوط إشبيلية: روض القرطاس ص 100 و 101، وقلائد العقيان ص 21 و22، وكتاب التبيان ص 170 و 171، والمعجب ص 76 و 77، وابن خلدون ج 6 ص 186 وأعمال الأعلام ص 163 و 164، والمقري ج 2 ص 453، وابن خلكان ج 2 ص 40 و 41، وابن الأثير ج 10 ص 65. وراجع أيضاً: R.M.Pidal: ibid ; p. 407 & 408، وكذلك Dozy: Hist.V.III.p. 144

وإنه لما يثير الدهشة حقاً ما انتهى إليه أمير المسلمين من التحول من تقدير المعتمد بن عباد، وإكباره والثناء البالغ على شجاعته ونجدته ومروءته، في كتبه الرسمية بالفتح، إلى المبالغة في خصومته، والعمل على سحقه، ومعاملته بأقصى ما يعامل به عدو. ويقال في ذلك، إنه فضلا عن البواعث السياسية والعسكرية، فقد لعبت السعاية والوشاية في علائق الرجلين دوراً لا يحمد، وأثارت في قلب يوسف أمرّ ضروب السخط والبغض ضد المعتمد. لم يكن سقوط إشبيلية، وسقوط المعتمد وآله أسرى في أيدي الظافرين خاتمة المحنة، بل كان بداية محنة أفظع وأبلغ إيلاماً للنفس، هي محنة الاعتقال والأغلال والذل والمنفى المروع. وكان أمير المسلمين قد قرر مصير بني عباد، كما قرر مصير عبد الله وأخيه تميم صاحبي غرناطة ومالقة، وقد قتل المرابطون من أبناء المعتمد أربعة، هم الفتح المأمون، ويزيد الراضي، والمعتد بالله، ومالك، ولكنهم أبقوا على حياة المعتمد، وذلك فيما يبدو بإشارة أمير المسلمين ذاته، وربما كانت لدى الظافر في الإبقاء على حياته بواعث غير الرأفة به، فما كان المعتمد بن عباد من أولئك الذين يتهيبون الموت أو يخشونه، بل لقد كان يطلبه ويسعى إليه، حسبما رأينا. وربما أراد عاهل المرابطين بذلك، أن يتجرع المعتمد كأس الذلة إلى نهايتها، وأن يمرغ في التراب، ذلك الذي كان يعتبره قطب الفتنة في الأندلس، وحليف النصارى الخانع، المذنب في حق دينه ووطنه. وأن يذيقه من العذاب المعنوي أروع ألوانه. وهكذا انتزع المعتمد بن عباد وآله من قصر إشبيلية المنيف، وأخذوا جميعاً إلى السفن التي أعدت لنقلهم إلى المنفى، وسارت السفن من إشبيلية في نهر الوادي الكبير في طريقها إلى العُدوة، في مناظر تذيب القلب حزناً وأسى، وضجت جموع الشعب الغفيرة التي احتشدت على ضفتي النهر لوداع المعتمد بالبكاء والنواح حينما شهدت سيدها وراعيها بالأمس تحيق به وجميع آله، أغلال الاعتقال والذلة، ويغادر موطن سلطانه وعزه إلى مصيره المجهول. وفي ذلك يقول شاعر المعتمد أبو بكر بن اللبانة، وقد كان من شهود ذلك اليوم من قصيدة طويلة: نسيت إلاّ غداة النهر كونهم ... في المنشآت كأموات بألحاد والناس قد ملأوا العبرين واعتبروا ... من لؤلؤ طافيات فوق أزباد

حط القناع فلم تستر مخدرة ... ومزقت أوجه تمزيق أبراد حان الوداع فضجت كل صارخة ... وصارخ من مفداة ومن فادى سارت سفائنهم والنوح يتبعها ... كأنها إبل يحدو بها الحادي كم سال في الماء من دمع وكم حملت ... تلك القطائع من قطعات أكباد (¬1) وأنزل المعتمد وآله بطنجة، واعتقلوا فيها أياماً. وهنالك زاره الحصري الضرير الشاعر، وألحف في طلب الصلة، ورفع إليه أبياتاً مدحه فيها ولم يراع في ذلك حرج الموقف. وأبت على المعتمد أريحيته الملوكية أن يرده، فبعث إليه بستة وثلاثين مثقالا، وشعراً يعتذر فيه عن ضآلة الهبة، فكانت آخر صلاته الملوكية. ثم أخذوا بعد ذلك إلى مكناسة حيث التقوا بعبد الله بن بلقين وأخيه تميم، وكانا ينتظران أمر السفر إلى مقرهما الأخير (¬2)، وهنالك قضيا بضعة أشهر، قبل أن يرسلوا إلى مقرهم النهائي. وأخيراً صدر الأمر بتسييرهم جميعاً إلى أغمات، وهي مدينة صغيرة حصينة تقع على قيد نحو أربعين كيلومتراً من جنوب شرقي مراكش، على مقربة من جبال الأطلس، التي تظلل آكامها الثلوج. وقد كانت حسبما نذكر عاصمة المرابطيين الأولى. وحل المعتمد وآله في أغمات في أواخر منة 484 هـ أو أوائل سنة 485 هـ. وبينما أنزل عبد الله بن بلقين وأسرته داراً حسنة وعوملوا برفق ورعاية، إذ زج المعتمد وآله إلى قلعة أغمات المنيعة. وهنالك قضى المعتمد بضعة أعوام في أغلال الأسر، يتجرع غصص المهانة والذلة، ويلقى عذاب الشهيد المُعَنى. ولم يكن مقام المعتمد بأغمات معتقلا عادياً، بل كان سجناً شنيعاً بكل معاني الكلمة، ضيق فيه على المعتمد وآله أشد التضييق، ولم يكن يطلق لهم ما يكفيهم من النفقة، فكان المعتمد، وزوجه اعتماد الرميكية التي كانت تسطع في الأندلس بجمالها وخلالها البارعة، وأبناؤه الأمراء وبناته الأقمار، يرتدون الثياب الخشنة (¬3). وكان بنات المعتمد يشتغلن بالغزل ليعلن والدهن وأسرتهن. ¬_______ (¬1) راجع هذه القصيدة في قلائد العقيان ص 23، ونفح الطيب ج 2 ص 452 و 453، والمعجب ص 79 و 80. (¬2) كتاب التبيان ص 171. (¬3) كان للمعتمد بن عباد عدد كبير من الولد بنين وبنات. ومن أولاده الذين تذكرهم الرواية: الرشيد والمأمون والراضي والمعتد وعبد الله ومالك وأبو هاشم وعبد الجبار وغيرهم ممن لم تصلنا أسماؤهم. أما بناته فلم تذكر لنا الرواية شيئاً عن عددهن وأسمائهن سوى بثينة، فقد ذكرها لنا المقري بين شاعرات الأندلس (نفح الطيب ج 2 ص 489).

وهنالك في شعر المعتمد ما يدل على أنه كان مصفداً في قدميه بالأغلال، على الأقل في أواخر أيام أسره. ولم تكن هذه المعاملة الشنيعة لأعظم ملوك الطوائف عفواً، بل كانت مقصودة، بلا ريب، وكانت قسوة لا مبرر لها من الظافر، ولم تكن تتفق في شىء مع ما أثر عن يوسف بن تاشفين، من الفروسية والخلال الحسنة. وسنرى فيما بعد كيف يفسر هذا الموقف من جانب أمير المسلمين وكيف تلتمس له الأعذار. واشتدت وطأة الأسر على اعتماد زوجة المعتمد، ولم تقو طويلا على مغالبة المحنة، فذوت نضارتها بسرعة ثم توفيت، فدفنت في ظاهر أغمات على مقربة من معتقل زوجها وأولادها، فحزن المعتمد لوفاتها أيما حزن، واشتد به الضنى والأسى. وقد سبق أن أشرنا إلى ما كانت تتمتع به اعتماد الرميكية أيام مجدها وعزها في بلاط إشبيلية من منزلة عالية، وأشرنا إلى صفاتها اللامعة من الجمال والسحر والشاعرية، والمشاطرة في مجالس الشعر والأدب. على أن هذه الصفات الممتازة التي كانت تتمتع بها الرميكية، وهذه الحياة السافرة اللامعة في أعظم بلاط لملوك الطوائف، كانت من جهة أخرى مدعاة للطعن في تصرفها وأخلاقها. فمثلا ينقل إلينا التيجاني الأندلسي عن الحجاري في حق الرميكية ما يأتي: " وهي التي ورطت المعتمد فيما ورطته من الخلاعة والاستهتار والمجاهرة، حتى كتب أهل إشبيلية عليه بذلك، وبتعطيل صلوات الجمع، عقوداً، ورفعوها إلى أمير المسلمين، فكان من أمره معه ما كان، وسجن المعتمد بأغمات، وسجنت الرميكية معه، فماتت هنالك قبله " (¬1). ¬_______ (¬1) نقلنا هذه الفقرة عن المخطرط رقم 562 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال والمسمى " تحفة العروس " لأبى عبد الله التيجاني الأندلسي المالكي (لوحة 200). ويقدم إلينا التيجاني بهذه المناسبة ملخصاً لقصة بثينة ابنة المعتمد والرميكية، فيقول لنا إن بثينة هذه كانت مثل أمها في الجمال والذكاء ونظم الشعر. ولما سقطت إشبيلية، ونهبت قصور المعتمد، كانت ابنته ضمن السبايا، ولم يعثر لها على خبر، إلى أن كتبت إليهما بأغمات شعراً تقص فيه ما حدث لها، وهو أنها وقعت في يد تاجر اشتراها على أنها سرية، فامتنعت عليه، وعرفته بحقيقة أمرها، وطلبت إليه أن يتزوجها زواجاً شرعياً، وكتبت إلى والديها بأغمات الشعر المشهور المتداول، ترجو فيه منهما الموافقة على زواجها منه. فسر المعتمد والرميكية بوجودها على قيد الحياة، وكتبا إليها، بالموافقة على رغبتها. (المخطوط السالف الذكر لوحة 201). وراجع نفح الطيب ج 2 ص 489 و 490.

وأذكت المحنة شاعرية المعتمد، وكان القريض عندئذ عزاءه وغذاءه الروحي، فصدرت عنه في معتقله طائفة كبيرة من القصائد المؤسية، وكلها تلهف على سابق مجده، وبكاء على ماضيه، ورثاء لمحنته، فمن ذلك قوله: أنباء أسرك قد طبقن آفاقا ... بل قد عممن جهات الأرض إطلاقا سارت من الغرب لا تطوى لها قدم ... حتى أتت شرقها تنعاك إشراقا فأحرق الفجع أكباداً وأفئدة ... وأغرق الدمع آماقاً وأحداقا قد ضاق صدر المعالي إذ نعيت لها ... وقيل إن عليك القيد قد ضاقا وقوله: غريب بأرض المغربين أسير ... سيبكي عليه منبر وسرير وتندبه البيض الصوارم والقنا ... وينهل دمع بينهن غزير مضى زمن والملك مستأنس به ... وأصبح منه اليوم وهو نفور برأي من الدهر المضلل فاسد ... متى صلحت للمصلحين دهور أذل بني ماء السماء زمانهم ... وذل بني ماء السماء كبير فياليت شعري هل أبيتن ليلة ... أمامي وخلفي روضة وغدير بمنيته الزيتون مورثة العلا ... يغني حمام أو تدن طيور بزاهرها (¬1) السامي الذري جاده الحيـ ... ـا تشير الثريا نحونا ونشير ويلحظنا الزاهي (1) وسعد سعوده ... غفورين والصب المحب غيور تراه عسيراً أو يسيراً مناله ... ألا كل ما شاء الإله يسير وقوله في أول عيد له بأغمات، وقد أبكاه منظر أولاده وبناته: فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا أفطرت في العيد لا عادت إساءته ... فكان فطرك للأكباد تفطيرا قد كان دهرك أن تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهياً ومأمورا من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا ¬_______ (¬1) الزاهر والزاهي من قصور بني عباد بإشبيلية.

وقوله وقد رأى سرباً من القطا يمر بمعتقله: بكيت إلى سرب القطا إذ مررن به ... سوارح لا سجن يعوق ولا كبل ولم تك والله المعيد حسادة ... ولكن حنيناً إن شكلي لها شكل فأسرع فلا شمل صديع ولا الحشى ... وجيع ولا عينان يبكيهما ثكل وقوله في لوم أمير المسلمين على ظلمه: أبى الدهر أن يقني الحياء ويندما ... وأن يمحو الذنب الذي كان قدّما وأن يتلقى وجه عتبى وجهه ... بعذر يغشى صفحتيه التذمما ستعلم بعدي من تكون سيوفه ... إلى كل صعب من مراقيك سلما سترجع إن حاولت دوني فتكة ... بأخجل من خد المبارز أحجما وأذكت مأساة بني عباد في الوقت نفسه دولة الشعر في الأندلس، ونظم أكابر شعراء العصر في رثاء دولتهم، والتوجع على أيامهم، طائفة من القصائد المؤثرة، التي ما زالت تحتفظ حتى اليوم بكل روعتها وحياتها. وكان أغزرهم في ذلك مادة، أبو بكر بن اللبانة، شاعر المعتمد المتقدم ذكره، فقد بقي على صلاته ووفائه للمعتمد، وزاره في سجنه بأغمات، ونظم في دولته وأيامه، وفي محنته وأسره، عدة من قصائده الرنانة، يضمها كتاب وضعه في تاريخ بني عباد، وأسماه: " كتاب نظم السلوك في مواعظ الملوك " (¬1). واستطال أسر المعتمد وسجنه حتى سنة 488 هـ، بيد أنه استطاع في غمر المحنة والبؤس الطاحن، أن يحتفظ بكثير من جلاله السابق، فكان هذا الجلال يشع في ظلمات سجنه، كما يشع ضوء الشمس إذا أحدق به الغمام (¬2). وفي أواخر أيامه صدرت أوامر أمير المسلمين بالتضييق عليه وتصفيده بالأغلال، بسبب ثورة محلية قام بها ولده عبد الجبار في بعض حصون إشبيلية، وكان ممن أفلت عند سقوطها وذلك حسبما نذكر بعد. وفي اليوم الحادي عشر من شوال سنة 488 هـ (أواخر أكتوبر 1095 م)، توفي المعتمد في سجنه بقلعة أغمات بعد ¬_______ (¬1) يراجع بعض هذه القصائد في قلائد العقيان ص 29 و 30، وابن خلكان ج 2 ص 41 وما بعدها، وفي نفح الطيب ج 2 ص 457 و 458. وكذلك في الحلة السيراء ج 2 ص 59 - 67. هذا وقد كتب ابن قاسم الشلبي مجموعاً في أخبار المعتمد ابن عباد أشار إليه ابن الأبار (الحلة ج 2 ص 136). (¬2) تاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ (الطبعة الثانية) ص 97.

اعتقال دام زهاء أربعة أعوام (¬1)، وكان سنه عند وفاته سبعاً وخمسين سنة وبضعة أشهر. ودفن بظاهر أغمات إلى جانب زوجه اعتماد الرميكية. ومما قاله في رثاء نفسه قبل وفاته، وأوصى بأن يكتب على قبره: قبر الغريب سقاك الرائح الغادي ... حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت ... بالخصيب إن أجدبوا بالري للصادي بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا ... بالموت أحمر بالضرغامة العادي بالدهر في نقم بالبحر في نعم ... بالبدر في ظلم بالصدر في النادي نعم هو الحق حاباني به قدر ... من السماء فوافاني لميعاد ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه .. . إن الجبال تهادى فوق أعواد كفاك فارفق بما استودعت من كرم ... رواك كل قطوب البرق رعاد ويقدم إلينا صاحب البيان المغرب بعض تفاصيل عن ثورة عبد الجبار بن المعتمد وهي الثورة التي اتخذت ذريعة للتنكيل بأبيه وتصفيده في سجنه بأغمات، وذلك أن عبد الجبار امتنع بحصن أركش، الواقعة جنوبي إشبيلية وشرقي شريش، في جمع كبير من أصحابه. وبعث إلى ألفونسو السادس يطلب عونه، وعلم الأمير سير اللمتوني فاتح إشبيلية بذلك، فسار إلى أركش، وبعث إلى أمير المسلمين يخطره بالأمر، فبعث إليه مدداً من الخيل والرجالة، فضخمت الحملة، وأحدقت بالحصن وضيقت على من فيه، واتصلت الحرب بين الفريقين، وابن عباد يخرج في قواته من آن لآخر ويشتبك بالمرابطين في معارك دامية، وأصحابه يتساقطون من حوله تباعاً. وفي ذات يوم أصاب ابن عباد سهم رماه به أحد الرماة المرابطين، فاحتمله أصحابه جريحاً، وتوفي لأيام قلائل، فكتم أصحابه موته. وكان قد مضى على هذه المعارك نحو ستة أشهر، وفنى كثير من حامية الحصن، واشتد بها الضيق، وعندئذ حاول القادة الأندلسيون الحصول على الأمان، فرفض الأمير سير، واقتحم الحصن أخيراً، وقتل معظم حاميته، واستخرج جثة عبد الجبار من قبرها، واحتز رأسه ورؤوس أصحابه، وحملت ¬_______ (¬1) ويقول لنا صاحب البيان المغرب إن وفاة المعتمد كانت في شهر ذي الحجة سنة 488 هـ (الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها). ويقول ابن الأبار إنها كانت في ربيع الأول سنة 488 هـ (الحلة السيراء ج 2 ص 55).

إلى مدينة إشبيلية، وعلقت على أسوارها، ووقعت حوادث هذه الحملة في سنة 490 هـ (1097 م) (¬1). وهكذا اختتم المعتمد بن عباد حياته الباهرة، في غمر المحنة وظلمات العدم، وتفرق من بعده ولده وآله في مختلف الأنحاء. ولكن ذكراه لبثت طويلا حية في المغرب والأندلس، ولبثت محنته وخاتمته مضرب الأمثال في تقلب الجدود وعبر الدهر. وبعد وفاته بقليل وفد على أغمات أبو بحر بن عبد الصمد، وقد كان من شعراء دولته وخاصة المتصلين به، وذهب يوم العيد إلى قبره فخر أمامه، وغمره بقبلاته وبلله بدموعه، وأنشد بين الجماهير التي احتشدت من حوله، مرثيته الغراء في المعتمد، ومطلعها هذه الأبيات: ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عواد لما خلت منك القصور ولم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... واتخذت قبرك موضع الإنشاد قد كنت أحسب أن تبرد أدمعي ... نيران حزن أضرمت بفؤادي فإذا بدمعي كلما أجريته ... زادت على حرارة الأكباد فبكى الناس لسماعه أحر بكاء، وهم يطوفون بالقبر طواف الحجيج، وكان منظراً يفتت الأكباد (¬2). * * * وقد أسبغت هذه البقعة التي يرقد فيها ملك إشبيلية، وأمير الشعر في عصره، رقدته الأبدية، شهرة مؤثرة على مدينة أغمات. ولما ذهبت دولة المرابطين بعد ذلك بنحو خمسين عاماً، غدا قبر المعتمد بن عباد وزوجه الرميكية في أغمات مزاراً يحج إليه الوافدون من أنحاء المغرب والأندلس، واستمر كذلك عصوراً. وفي سنة 761 هـ (1360 م) زاره الكاتب والشاعر الكبير الوزير لسان الدين ابن الخطيب عند زيارته لمدينة أغمات. وهو يصفه لنا في كتابه " نفاضة الجراب " في قوله: " وزرت بخارجها قبر المعتمد علي الله أبى القاسم محمد بن عباد أمير حمص ¬_______ (¬1) البيان المغرب من أوراق مخطوطة، عثرنا بها في خزانة القرويين بفاس، وسبقت الإشارة إليها. (¬2) راجع قلائد العقيان ص 30 و 31، وأعمال الأعلام ص 165 - 170 حيث يورد القصيدة كلها.

وقرطبة والجزيرة وما إلى ذلك الصقع الغربي رحمه الله. وهو بالمقبرة القبلية على يسار الخارج من البلد، قد توقل نشزا غير سام، وإلى جانبه، قبر الحرة حظيته، وسكن نفسه، اعتماد، إشراكاً لاسمها في حروف لقبه المنسوب إلى رميك، المتولعة بشأنه معها أخبار القصاص، وحكايات الأسمار، إلى أجداث من ولديهما فترحمنا عليه، وأنشدته " (¬1). ويعود ابن الخطيب بعد ذلك في كتابه " أعمال الأعلام ". فيصف لنا زيارته للقبر في تلك العبارات المؤثرة: " وهو بمقبرة أغمات في نشز من الأرض، وقد حفت به سدرة، وإلى جانبه قبر اعتماد حظيته، مولاة رميك، وعليها وحشة التغرب ومعاناة الخمول بعد الملك، فلا تملك العين دمعها عند رؤيتها "، وقد أنشد على القبر أبياتاً يقول فيها: قد زرت قبرك عن طوع بأغمات ... رأيت ذلك من أولى المهمات ولم لا أزورك يا أندى الملوك يداً ... ويا ضياء الليالي المدلهمات أناف قبرك في هضب يميزه ... فتنتحيه حفيات التحيات كرمت حياً وميتاً واشتهرت علا ... فأنت سلطان أحياء وأموات ما رِىء مثلك في ماض ومعتقدي .. . أن لا يرى الدهر في حال ولا آت (¬2) وزاره المقري مؤرخ الأندلس في سنة 1010 هـ (1602 م) ورآه كما ذكر ابن الخطيب فوق ربوة في مكان يغمره النسيان، فوقف أمامه خاشعاً متأثراً (¬3). وقد انتهزت فرصة وجودي بمدينة مراكش في خريف سنة 1956، فزرت أغمات. وقد غدت مدينة أغمات هذه، التي اشتهرت في التاريخ وفي الأدب لاحتوائها على قبر المعتمد بن عباد، اليوم قرية متواضعة، تقع على مقربة من مراكش، ومن آكام جبال الأطلس الثلجية، وتحيط بها غراس الزيتون والتين البري، ولا يعدو سكانها ثلاثة آلاف نسمة. وأما قبر المعتمد، فيقع في ظاهرها في طلل خرب يحيط به سور قصير، وفي داخله حظيرتان، في إحداهما قبر المعتمد، وقد خرب تماماً ونمت به الأشواك البرية، وعليه كومة من الأحجار الصغيرة. وأما الحظيرة الأخرى فالمفهوم أنها تحتوي على قبر زوجه اعتماد الرميكية. وقد ذكرت وأنا أتأمل هذا الطلل الموحش المؤثر، ما ذكره ¬________ (¬1) نفاضة الجراب في علالة الاغتراب. مخطوط الإسكوريال رقم 1755 الغزيري. (¬2) أعمال الأعلام ص 164 و 165. (¬3) راجع نفع الطيب ج 2 ص 458 و 459.

ابن الخطيب والمقري من قبل، من غلبة الخمول والعفاء عليه، وشعرت بمثل ما شعر به كل منهما من الألم والخشوع. * * * كانت مأساة المعتمد بن عباد مأساة من أروع المآسي الملوكية، وما زالت محنة هذا الأمير، تحتفظ إلى يومنا، بالرغم من كر العصور، بألوانها المشجية، وقد أثارت عطف الرواية الإسلامية وتأثرها البالغ، ويبدو هذا العطف بنوع خاص في روايات مؤرخي الأندلس والمشرق، وفي كثير منها يُصور المعتمد شهيد القسوة والعسف، ومنها ما يشدد الحملة على يوسف بن تاشفين، ويصمه بأقسى الصفات. فمثلا يقول لنا ابن الأثير في التعليق على أسر بني عباد ومعاملتهم: " وفعل أمير المسلمين بهم فعالا لم يسلكها أحد من قبله، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده، إلا من رضى لنفسه بهذه الرذيلة ... وأبان أمير المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفسه ولؤم قدره " (¬1). ويقول العلامة دوزي معلقاً على ذلك: " ومهما كانت فضائل يوسف، فإن الشهامة إزاء المغلوبين لم تكن منها، فقد كان تصرفه مع الأمراء الأندلسيين الذين أسرهم قاسياً وبغيضاً ". ثم يقول، إن المعتمد لم يكن بلا ريب ملكاً عظيماً، ييد أنه ينوه بدقة حساسيته وفيض شاعريته، التي تنعكس عليها أقل الحوادث في حياته، بل إنا لنستطيع أن نسجل حياة المعتمد وخلجات نفسه، من قصائده، ثم يقول: " ثم إنه، أي المعتمد كان لحسن طالعه آخر ملك أندلسي، يمثل بجدارة وروعة، قومية وحضارة عقلية سقطتا تحت نير البربر الذين فتحوا البلاد. ولقد لزمه نوع من الإيثار باعتباره آخر فرع لتلك الأسرة العديدة من الأمراء الشعراء، الذين حكموا الأندلس. وإنا لنأسوا له أكثر مما نأسوا لأي شخص آخر، بل ودون أي شخص آخر، كما تثير آخر زهرة في الموسم, وآخر أيام الخريف الحلوة، وآخر أشعة الشمس الغاربة، في نفوسنا أيما أسى " (¬2). وقد أسبغت قسوة يوسف نحو أمراء الأندلس، ونحو المعتمد بنوع خاص. على سيرته وعلى خلاله سحباً لم تمحها جميع الأعذار التي انتحلت لتبرير عمله. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 10 ص 65. (¬2) Dozy: Hist.V.III.p. 178-176

وتتلخص هذه الأعذار في أن المعتمد كان بسياسته وتصرفه نحو شئون الأندلس، ومحالفته للنصارى على اخوته في الدين، وتعريضه مستقبل الإسلام للخطر، تحقيقاً لمطامعه الشخصية، يستحق أعظم اللوم، وأنه عوقب بما تقتضيه فداحة ذنبه. وقد أدرك المعتمد، عقب سقوط طليطلة، فداحة أخطائه، وأبدى صريح ندمه لما أثم (¬1). على أنه إذا كان حقاً أن المعتمد يحمل بسياسته الأندلسية أمام التاريخ تبعات جسام، فإنه من الحق أيضاً أنه حينما استفحل الخطب، وظهر شبح الخطر على الأندلس المسلمة، كان أول الداعين إلى الوحدة، وإلى طلب الغوث من المرابطين، وأنه لم يبخل في ذلك السبيل بتضحية حصونه التي طلبها يوسف قبل عبوره إلى الأندلس, وأنه أبلى في موقعة الزلاّقة أعظم البلاء، وعاون في نيل النصر أعظم معاونة. كذلك لا ريب أن البواعث التي دفعت يوسف إلى افتتاح الأندلس وامتلاكها، لم تكن دينية فقط، ولم تكن بعد الزلاقة وحصار أليدو، مجرد جهاد في سبيل الله، بل كانت دنيوية قبل كل شىء، ولم يك ثمة شك في أن الأندلس قد أغرت المرابطين وأميرهم بخصبها وغنائها ونعمائها. وإنه ليحق لنا بعد ذلك كله أن نتساءل، أي ضرورة بل أي ْحكمة اقتضت أن يبطش المرابطون بأمراء الأندلس، وأن يمعنوا فيهم قتلا وتعذيباً، على النحو الذي اتبعوه، بعد أن استولوا على أملاكهم وأراضيهم (¬2) وأي ضرورة اقتضت أن يعامل سيد المرابطين، المعتمد بن عباد وآله بهذه القسوة المروعة، بعد أن غدوا في يده أسرى لا حول لهم ولا قوة؟ وكيف سمح أمير المسلمين القوي القادر لنفسه، أن تمتد هذه القسوة إلى الولد الضعاف والنساء والبنات؟ لقد كان المعتمد مثقلا بتبعات أعماله وأخطائه كأمير، وملك من ملوك الطوائف، أفلم يكن يكفيه فقد ملكه وسلطانه، وأسره واعتقاله، للتكفير عما أثم بسابق تصرفه؟ وماذا كان يضير الظافر لو عامله بشىء مما يقتضيه سابق مكانته من الرفق والرعاية؟ ¬_______ (¬1) راجع ما ورد في رسالة ابن عباد لألفونسو السادس (ص 76 من هذا الكتاب). (¬2) قتل المرابطون ثلاثة من أبناء المعتمد بن عباد، هم المأمون والراضي ومالك، وقتلوا المتوكل بن الأفطس وولديه الفضل والعباس، وقتلوا كثيراً غيرهم من الوزراء والكبراء، في مناظر من القسوة المثيرة.

هذه تأملات تثيرها في النفس محنة المعتمد بن عباد. ولا ريب أن هذه الخاتمة المؤسية التي قدر للمعتمد أن يعاني آلامها المروعة المادية والمعنوية، لحرية بأن تسبغ عليه ثوب شهيد، يستحق عطف التاريخ، وصفح الأجيال. - 3 - ذكرنا فيا تقدم أن أمير المسلمين حينما نظم جيوشه لافتتاح إمارات الطوائف، بعث إلى ألمرية جيشاً بقيادة أبى زكريا بن واسنو (وقيل بل محمد بن عائشة) لمحاصرتها وافتتاحها. وهنا تختلف الرواية، فيقال إن المرابطين أشرفوا على ألمرية، وحاصروها، وأميرها المعتصم بن صمادح عليل يعاني مرض موته، وأنه ألقى بهذه المناسبة كلمته المأثورة " نغص علينا كل شىء حتى الموت "، ثم توفي أثناء الحصار في شهر ربيع الآخر سنة 484 هـ (1091 م) (¬1). وفي رواية أخرى أن المعتصم توفي قبل مقدم المرابطين، وأنه كان قد أوصى ولده معز الدولة قبيل وفاته، بأن يترقب مصير إشبيلية، فمتى سقطت في أيدي المرابطين، وخلع أميرها المعتمد بن عباد، فعليه أن يغادر ألمرية فوراً، ويعبر البحر في أهله وأمواله، إلى العدوة، ويلتجىء إلى حماية بني حماد أمراء القلعة. وقد نفذ معز الدولة وصية أبيه، واستطاع أن ينجو بأهله وأمواله، وأن يغادر ألمرية في آخر لحظة، قبل أن يطوقها المرابطون، وأن يعبر البحر إلى العدوة (رمضان سنة 484 هـ)، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في أخبار مملكة ألمرية (¬2). ودخل المرابطون ألمرية على الأثر واحتلوها، فكانت ألمرية بعد غرناطة وإشبيلية، ثالثة مملكة من ممالك الطوئف. تسقط في أيدي المرابطين. وقد ذكرنا فيما تقدم كيف احتل المرابطون مدينة مرسية بقيادة ابن عائشة وذلك في شوال سنة 484 هـ (أكتوبر سنة 1091 م)، ثم استولوا في العام التالي (485 هـ) على شاطبة وشقورة ودانية. ونحن نعرف مما تقدم من أخبار مملكة بلنسية، أن المرابطين بدأوا يتدخلون في حوادث بلنسية، ويبذلون جهودهم لتحطيم مغامرات " السيد " في هذه المنطقة، وذلك منذ سنة 485 هـ (1092 م). وقد قام الجيش الذي يقوده ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 172. والطبعة الجديدة ج 2 ص 84. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 174، وروض القرطاس ص 101.

خريطة: الدولة المرابطية الكبرى عقب افتتاح الأندلس.

ابن عائشة بدوره في ذلك. ثم قدم إلى شرقي الأندلس جيش مرابطي آخر، أوفر عدة وعدداً، بقيادة محمد بن تاشفين ابن أخي يوسف، وحاصر بلنسية، وفي داخلها السيد، وذلك في أواخر سنة 488 هـ. ولكن مقاومة السيد، ومن بعد وفاته مقاومة القشتاليين، استطالت بضعة أعوام، ولم يتمكن المرابطون من دخول بلنسية إلا في شهر شعبان سنة 495 هـ (مايو سنة 1102 م) وذلك حسبما فصلناه من قبل تفصيلا شافياً في أخبار مملكة بلنسية. واستمرت الجيوش المرابطية في تقدمها شمالي بلنسية، نحو أراضي الثغر الأعلى، واستولت على إمارة شنتمرية الشرق في رجب سنة 497 هـ (إبريل 1104 م)، وكانت قد استولت قبل ذلك على إمارة ألبونت الصغيرة. وفي سنة 502 هـ (1109 م)، وعقب انتصار المرابطين في موقعة إقليش، سار جيش مرابطي بقيادة أبي عبد الله بن الحاج والي بلنسية، شمالا صوب سرقسطة، فدخلها، وأخرج منها بني هود، وبذلك تم للمرابطين فتح شرقي الأندلس والثغر الأعلى، وانتهت إمارات الطوائف كلها في تلك الأنحاء. وأما في غربي الأندلس، فإن المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس، شعر عقب استيلاء المرابطين على إشبيلية، أن الدائرة سوف تدور عليه، وكان قبل ذلك قد تقرب من عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين، وبعث إليه برسالته المؤثرة التي أوردناها من قبل، يدعوه فيها لنصرة الأندلس. ولما استولى المرابطون على غرناطة ذهب مع المعتمد بن عباد لتهنئة أمير المسلمين، فاستقبلهما بجفاء، وانصرفا من لديه وقد شعر كلاهما بالخطر الداهم على مملكته. على أنه يبدو أن ابن الأفطس استطاع بعد ذلك أن يعمل على توثيق أواصر المودة مع المرابطين وكبيرهم الأمير سير بن أبى بكر فاتح إشبيلية وحاكمها. واستمرت هذه العلائق الودية قائمة نحو ثلاثة أعوام. ثم بدأ المرابطون الإغارة على أراضي مملكة بطليوس، وشعر المتوكل بتغير المرابطين نحوه واتجاههم إلى إزالته، ولم يجد أمامه إزاء هذا الخطر الداهم، طريقاً يسلكه سوى نفس الطريق الذي سلكه ابن عباد من قبل، وهو الاستغاثة بألفونسو السادس ملك قشتالة. وبذل ابن الأفطس لملك قشتالة ثمناً لحلفه ومعاونته، ثلاث مدن هامة من أملاكه، هي أشبونة، وشنترة، وشنترين. وقد كان لهذا التصرف وقع سىء، إذ انحرف

أهل بطليوس عن المتوكل، وكتب أعيانهم إلى المرابطين يستدعونهم. وفي أوائل سنة 488 هـ (أوائل 1095 م)، بعث حاكم إشبيلية الأمير سير بن أبي بكر جيشاً إلى بطليوس لافتتاحها، فاخترق أراضي بطليوس بسرعة، ولم يتمكن ملك قشتالة من تقديم أية معاونة لحليفه المسلم، واضطر ابن الأفطس أن يمتنع بقصبة بطليوس المنيعة الضخمة. ولكن المرابطين اقتحموها بعنف، وقبضوا على المتوكل وولديه الفضل والعباس، واستولوا على أمواله المدفونة بالقصبة، بعد أن عذبوه لكشف مخابئها. واحتل المرابطون بطليوس، وأخذوا المتوكل وولديه بحجة تسييرهم إلى إشبيلية، ثم أعدموهم في الطريق (¬1). وكان للمتوكل ولد آخر هو المنصور، وكان قد بعثه ومعه معظم ذخائره إلى حصن منتانجش على مقربة من حدود قشتالة، ليمتنع فيه، فلما علم بما وقع لأبيه وإخوته، سار في أهله وأمواله إلى ملك قشتالة، والتجأ إلى حمايته، وأقام بأرضه، واعتنق النصرانية وفقاً لبعض الروايات (¬2). وهكذا انتهت مملكة بطليوس بعد أن عاشت في ظل بني الأفطس خمسة وسبعين عاماً، وتم للمرابطين فتح غربي الأندلس كله، كما تم لهم من الناحية الأخرى فتح شرقي الأندلس. وقد أذكت محنة بني الأفطس، كما أذكت محنة بني عباد من قبل، فجيعة الشعر الأندلسي، ونظم في رثائهم ورثاء دولتهم وأيامهم، وزيرهم الكاتب والشاعر المبدع، أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، مرثيته الشهيرة، التي تعتبر من أجل المراثي الأندلسية وأروعها، وهذا مطلعها: الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة ... عن نومة بين ناب الليث والظفر ومنها: فلا تغرنك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السهر ما لليالي أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد العبر في كل حين لها في كل جارحة ... منا جراح وإن زاغت عن النظر ¬_______ (¬1) المعجب ص 42، وأعمال الأعلام ص 186، وراجع: Dozy: Hist.V.III.p. 152 وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 504 (¬2) هذه رواية ابن عذارى في الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها بخزانة القرويين. وراجع أيضاً أعمال الأعلام ص 186.

تسر بالشىء لكن كي تغر به ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك من خبر ومنها في رثاء بني الأفطس: بني المظفر والأيام لا نزلت ... مراحل والورى منها على سفر سحقاً ليومكم يوماً ولا حملت ... بمثله ليلة في غابر العمر من للأسرة أو من للأعنة أو ... من للأسنة يهديها إلى الثغر من للبراعة أو من لليراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضرر ومنها: أين الجلال الذي غضت مهابته .. . قلوبنا وعيون الأنجم الزهر أين الإباء الذين أرسوا قواعده ... على دعائم من عز ومن ظفر أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه ... فلم يرد أحد منها على كدر كانوا رواسي أرض الله منذ مضوا ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر كانوا مصابيحها فمذ خبوا عثرت ... هذه الخليقة يا ألله في سدر (¬1) هذا وقد أجمل لنا مأساة الطوائف شاعر معاصر هو أبو الحسن جعفر بن ابراهيم المعروف بابن الحاج اللورقي في تلك الأبيات الثلاثة: كم بالمغارب من أشلاء مخترم ... وعاثر الجد مصبور على الوهن أبناء معن، وعباد، ومسلمة ... والحميريين باديس وذى النون راحوا لهم في هضاب العز أبنية ... وأصبحوا بين مقهور ومسجون (¬2) وعلى أثر الاستيلاء على بطليوس، سارت حملة مرابطية إلى ثغر أشبونة، وكانت تحتله مذ نزل عنه المتوكل، حامية قشتالية بقيادة الكونت ريمون البرجوني صهر ألفونسو السادس، وهاجم المرابطون أشبونة بشدة واقتحموها، وقتلوا وأسروا معظم حاميتها النصرانية. وأعيد بذلك هذا الثغر الهام إلى حظيرة المملكة الإسلامية (نوفمبر سنة 1094 م) (¬3). ¬_______ (¬1) تراجع القصيدة بأكملها في المعجب ص 42 - 46، ونشرت ناقصة في أعمال الأعلام ص 186 - 189. (¬2) الحلة السيراء ج 2 ص 101 و 102. (¬3) راجع الحلل الموشية ص 55 وكذلك: R.M.Pidal: ibid ; p. 502

ورد ملك قشتالة على ذلك بالقيام بغزوة جديدة لأراضي الأندلس. ففي سنة 489 هـ (1096 م) حشد ألفونسو السادس حملة ضخمة، وسار نحو قرطبة، فلما علم أن المرابطين هناك على أهبة شديدة لمدافعته، تحول عنها وسار إلى قرمونة وهي حصن إشبيلية الشرقي، فهاجمها واقتحم بسائطها فيما بينها وبين إستجة، واستولى على غنائم وفيرة وسبى جموعاً عظيمة، ثم اتجه صوب إشبيلية، وعاث في بسائطها، فامتنع أهل إشبيلية بمدينتهم ولم يخرجوا إلى قتاله حسبما كان يتوقع، فلما يئس من الاشتباك مع المسلمين، سارا في قواته وغنائمه صوب بطليوس ثم جاز إلى أراضي قشتالة عائداً إلى قواعده (¬1). - 4 - لبث أمير المسلمين يوسف بن تاشفين حيناً في سبتة، يعني بإمداد جيوشه الغازية في شبه الجزيرة، ويتلقى أنباء الفتوح المتوالية لقواعد الأندلس، ثم غادرها إلى مراكش، بعد أن اطمأن إلى نتائج أعمال البعوث والحملات المختلفة، وعهد بشئون الأندلس، إلى كبير قادته الأمير سير بن أبى بكر اللمتوني. ولم يعد يوسف إلى شبه الجزيرة إلا بعد ذلك بعدة أعوام في سنة 496 هـ (1102 م) حيث جاز إليها جوازه الرابع. وفي رواية أخرى أن هذا الجواز الرابع وقع في سنة 1097 م (491 هـ) (¬2) وفي رواية ثالثة، وهي رواية ابن عذارى أنه وقع في سنة 490 هـ (1096 م). وكانت ممالك الطوائف كلها قد سقطت يومئذ في أيدي المرابطين، ما عدا سرقسطة، التي استولى عليها المرابطون بعد ذلك بأعوام قلائل، وآلت اسبانيا المسلمة كلها بذلك إلى سلطان البربر وغدت ولاية مغربية، وانهار سلطان العصبيات والأسر الأندلسية إلى حين، وتوارت العناصر والزعامات المتغلبة، لكي تظهر فيما بعد، وتضطلع ضد المرابطين بمختلف الحركات والثورات القومية الأندلسية. واتخذ جواز أمير المسلمين هذه المرة طابع الجهاد من جديد، فجهز جيشاً قوياً من المرابطين والأندلسيين بقيادة محمد بن الحاج. وسار هذا الجيش صوب ¬_______ (¬1) البيان المغرب من الأوراق المخطوطة التي سبقت الإشارة إليها. (¬2) R.M.Pidal: ibid ; p. 535

طليطلة مخترقاً أراضي قشتالة، والتقى بالقشتاليين بقيادة ملكهم ألفونسو على مقربة من كونسويجرا، فهزم النصارى هزيمة فادحة، وفر ألفونسو في فلوله نحوكونسويجرا والتجأ إليها، فحاصره المرابطون بها بضعة أيام ثم انصرفوا (أغسطس سنة 1097 م). وقصد يوسف إلى قرطبة، لينجز المهمة التي قدم في الواقع من أجلها إلى الأندلس، وهي أخذ البيعة لولده أبي الحسن علي. وكان قد استقدمه معه هو وأخوه الأكبر أبو الطاهر تميم (¬1)، وكان يوسف قد آثر ولده علياً بولاية عهده، لما آنسه فيه من الورع والنباهة والحزم، وأصدر له عهده بذلك في سنة 495 هـ. وفي شهر ذي الحجة من سنة 496 هـ جمع يوسف بقرطبة أمراء لمتونة وأشياخ المرابطين والفقهاء، وأخذ البيعة عليهم جميعاً لولده علي، وكان من شروط تقديم علي لولاية العهد، أن ينشىء بالأندلس جيشاً مرابطياً ثابتاً قوامه سبعة عشر ألف فارس، موزعة على قواعد الأندلس، منها سبعة آلاف بإشبيلية، وألف بكل من قرطبة وغرناطة، وأربعة آلاف في شرقي الأندلس، ويوزع الباقي على الثغور (¬2). وكان من الواضح أن اختيار يوسف قرطبة لأخذ البيعة بها لولده، يمت بصلة وثيقة إلى صفة عاصمة الخلافة القديمة، وزعامتها الأدبية السالفة لقواعد الأندلس. وفي أواخر سنة 498 هـ، مرض أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بقصره بحضره مراكش، واستمر عليلا زهاء عام وشهرين، حتى توفي في مستهل شهر محرم سنة 500 هـ (2 سبتمبر 1106 م) (¬3). وقيل بل توفي في ربيع الآخر سنة خمسمائة. وكانت وفاته بقصره بمراكش، ومن حوله ولداه أبو الحسن علي وأبو الطاهر تميم، وأكابر لمتونة، ودفن بالقصر، وأوصى ولده علياً قبيل وفاته بثلاثة أمور، الأول ألا يفعل شيئاً لإثارة أهل جبل درن ومن وراءه من المصامدة وأهل القبلة، والثاني أن يهادن بني هود أمراء سرقسطة وأن يتركهم حائلا بينه وبين النصارى، والثالث أن يعطف على من أحسن من أهل قرطبة، وأن يتجاوز عمن أساء منهم (¬4). ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 55. ويقول ابن أبي زرع إن علياً كان عندئذ بسبتة حيث نشأ (روض القرطاس ص 101). (¬2) الحلل الموشية ص 58. (¬3) روض القرطاس ص 101 ويقول ابن خلكان إنه توفي في الثالث من المحرم سنة 500 هـ (ج 2 ص 448). (¬4) الحلل الموشية 60.

وهكذا اختتمت حياة البطل المغربي العظيم، بعد أن عاش زهاء مائة عام، وقضى في الزعامة والكفاح زهاء نصف قرن، مذ ندبه ابن عمه الأمير أبو بكر اللمتوني لقيادة الجيش المرابطي، وقضى في حكم الدولة المرابطية الكبرى بالمغرب مذ دخل مدينة فاس في سنة 462 هـ، نحو أربعين عاماً، وحكم الإمبراطورية المغربية الأندلسية الكبرى نحو خمسة عشر عاماً، واضطلع في المغرب بحروب ومعارك لا حصر لها، وقاد الجيوش المرابطية بالأندلس مراراً من أجل الجهاد في سبيل الله، وأحرز أعظم انتصاراته في معركة الزلاّقة الحاسمة، وهي بلا ريب ألمع صفحات جهاده وأنصعها. وقد تناولنا خلال يوسف وصفاته فيما تقدم من سيرته، ونزيد هنا أنه لم يصم حياة يوسف المديدة، ولم يثر سحباً حول خلاله العظيمة، سوى ما جنح إليه من قسوة بالغة في معاملة أمراء الأندلس، وهو ما سبق أن عرضنا إليه.

الكتاب السابع الممالك الإسبانية النصرانية خلال القرن الحادى عشر الميلادى

الكِتابُ السابع الممالك الإسبانية النصرانيّة خلال القرن الحادي عشر الميلاديّ

الفصل الأول المملكة الإسبانية الكبرى

الفصل الأوّل المملكة الإسبانية الكبرى في عهد سانشو الكبير وولده فرناندو الأول الممالك الإسبانية في أواخر القرن العاشر. نافار وليون وقشتالة. سانشو الكبير يحتل قشتالة. ولده فرناندو أول ملوكها. ألفونسو الخامس ملك ليون. ولده برمودو الثالث. استيلاء سانشو الكبير على ليون. مصرع برمودو الثالث. استيلاء فرناندو على ليون. تقسيم المملكة النصرانية بعد وفاة سانشو. الحرب بين راميرو ملك أراجون وأخيه غرسية ملك نافار. غرسية يحاول اغتيال فرناندو ملك قشتالة. إنتقام فرناندو. الحرب بين الأخوين. هزيمة غرسية ومقتله. تعيين ولده سانشو مكانه. إنهيار الأندلس الكبرى وقيام الطوائف. تحول ميزان القوى في شبه الجزيرة. ضعف دول الطوائف. تنافسها في استعداء الملوك النصارى. تفوق اسبانيا النصرانية ونهوض سياسة الإسترداد. غزو فرناندو الأول لولاية البرتغال. حصار بازو وسقوطها. سقوط لاميجو. تهديد شنترين. غزو فرناندو لمنطقة وادي الحجارة. المأمون بن ذى النون يسترضيه بالمال والخضوع. غزو فرناندو لمملكة إشبيلية. خضوع ابن عباد وتعهده بالجزية. موافقته على نقل رفات القديسين النصارى. مسير فرناندو لغزو قلمرية. حصارها وسقوطها. الكونت سسنندو يتولى حكمها. مسير فرناندو إلى بلنسية وموقعة بطرنة. مرض فرناندو ووفاته. تلقبه بالإمبراطور. أعماله الإنشائية. مجلس جويانسا. قوانينه الكنسية والدستورية. تنويه الرواية النصرانية بخلال فرناندو وعظمته. مضينا فيما تقدم، في تاريخ المالك الإسبانية النصرانية، حتى نهاية القرن العاشر الميلادي، أعني حتى نهاية عهد المنصور بن أبي عامر، ونحاول الآن أن نتتبع تاريخ هذه الممالك خلال القرن الحادي عشر الميلادي، أعني خلال الحقبة التي شهدت سقوط الخلافة الأندلسية، وانهيار الأندلس الكبرى، وانتثارها إلى دول الطوائف. ثم سيرة الطوائف منذ قيامها حتى مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة، وانهيار هذه الدول الإسلامية الصغيرة. كانت الممالك الإسبانية النصرانية في أواخر القرن العاشر الميلادي ثلاثاً، وهي نافار (نبرّة)، ويحكمها غرسية سانشيز، ولد سانشو غرسية الثاني. وكانت نافار يومئذ أكبر الممالك النصرانية رقعة، إذ كانت تشمل فضلا عن الوطن الأصلي نافار، ولايات كنتبريا، وسوبرابي، ورباجورسا. ولما توفي

غرسية سانشيز، في سنة 1000 م، بعد حكم دام خمسة أعوام، خلفه في الحكم ولده سانشو الثالث الملقب بالكبير. ومملكة ليون، وكان يحكمها برمودو الثاني منذ سنة 982 م، واستمر في حكمها بالرغم من مناوأة أخيه راميرو, ومحاربته له، حتى توفي في سنة 999 م، وخلفه في الحكم ولده ألفونسو طفلا، وتولى الوصاية عليه الكونت مننديث كونثالث، أحد أشراف المملكة. ومملكة قشتالة. وكانت ما تزال في مرتبة " الكونتية " أو الإمارة، وكان على حكمها غرسية فرناندز ولد بطلها ومحررها فرنان كونثالث (¬1). ولما توفي في سنة 995 م، خلفه ولده سانشو غرسية فحكم حتى سنة 1021 م، ثم خلفه ولده غرسية. حدث أن قصد غرسية إلى ليون ليتم عقد زواجه بأخت ملكها برمودو الثالث، فقتل غيلة خلال وجوده بالكنيسة أثناء مراسيم الزواج (1028 م) وقتله أبناء الكونت فيلا، وهو أحد أشراف قشتالة الذي نزعهم غرسية أملاكهم. وبمصرع غرسية انقطع نسل أسرته، وترتب على ذلك تغييرات عظيمة في مصاير الممالك الإسبانية. ذلك أن سانشو الكبير ملك نافار كان متزوجاً من إلبيرة أخت غرسية، ابنة سانشو غرسية أمير (أو كونت) قشتالة، فلما لقى الكونت غرسية مصرعه في ليون، بادر سانشو إلى قشتالة، فاحتلها بصفته وارثاً لعرشها عن طريق زوجته، وندب لحكمها ولده فرناندو. وأسبغ عليه لقب الملك، فكان أول ملوك قشتالة. وتلقب هو بملك اسبانيا، وانتقم من آل فيلا قتلة غرسية، فأحرقهم أحياء، بالرغم من كونه جنى ثمار جريمتهم بامتلاك قشتالة. وحكم ألفونسو الخامس مملكة ليون حتى وفاته في سنة 1027 م، وغزا أراضي المسلمين المجاورة في شمالي البرتغال، وافتتح بعض نواحيها، وحاصر مدينة بازو، وأصيب خلال ذلك بسهم مسموم قذفه به أحد الرماة المسلمين، فتوفي متأثراً بجراحه. وكان أشهر أعماله عقد المجلس الدستوري في سنة 1025 م، وفيه وضعت قوانين المملكة التأسيسية، وأصبح العرش وراثياً. ولما توفي خلفه ولده برمودو الثالث. وكان فرناندو ملك قشتالة، قد تزوج من ابنة ألفونسو ¬_______ (¬1) ويسميه ابن الخطيب في الفصل الذي يخصصه لتاريخ ملوك اسبانيا النصرانية، دون شانجه قمز قشتالة (أعمال الأعلام ص 329).

أخت برمودو، بيد أن هذه المصاهرة لم تفعل شيئاً لتوثيق علائق المملكتين، وبالعكس فإن سانشو الكبير وولده فرناندو، كانا يريان في تلك المصاهرة وسيلة لانتزاع عرش ليون. على أن سانشو لم ينتظر سير الحوادث لتحقيق هذا الاحتمال، بل سار في قواته إلى ليون وافتتحها، وأعلن نفسه ملكاً عليها، وفر برمودو ليرقب الفرص لاسترداد عرشه. ولما توفي سانشو الكبير ملك نافار، أوملك اسبانيا، في سنة 1035 م, استطاع برمودو أن يسترد جزءاً من أملاكه وأن يقيم بلاطه، وثارت بينه وبين صهره فرناندو ملك قشتالة الحرب، واستمرت مدى عامين، ثم كان اللقاء الحاسم بينهما في موقعة تامارون في سنة 1037 م وفيها لقى برمودو مصرعه. ونظراً لوفاته دون عقب، فقد استولى فرناندو على مملكة ليون بحكم المصاهرة والوراثة، وغدا ملكاً على مملكة قشتالة وليون الموحدة. وانتهى بمقتل برمودو الثالث نسل ملوك اسبانيا النصرانية، منذ أيام القوط، ومذ قامت مملكة أشتوريش وجلِّيقية وليون في أواخر القرن الثامن الميلادي، كما انتهى من قبل نسل أمراء قشتالة. - 1 - وكان سانشو الكبير، قد قسم المملكة قبيل وفاته، بين أبنائه الأربعة، فخص فرناندو كما هو بملك قشتالة وليون وجليقية، وغرسية أكبر أولاده بالوطن الأصلي نافار، ممتداً من غرب البرنيه إلى منابع الإيبرو، وخص ولده غير الشرعي، راميرو، برقعة ضيقة تمتد بحذاء نافار من باب شيزروا جنوباً. وتسمى بمملكة أراجون، وولده كونزالو، بمنطقة صغيرة أخرى في أواسط البرنيه، وهي ولاية سوبرابي ورباجرسا. وهكذا غدت الممالك الإسبانية النصرانية، بهذا التقسيم أربعاً، وهذا عدا إمارة برشلونة الفرنجية الواقعة في شمال شرقي إسبانيا، وقد كان يحكها رامون برنجير الأول عميد آل برنجير. وكان من جراء هذا التقسيم أن بدأت سلسلة جديدة من الحروب الأهلية بين الملوك الإخوة، وبدأت الحوادث باختفاء مملكة سوبرابي الصغيرة. ذلك أن أميرها كونزالو قتل غيلة أثناء عوده من الصيد (1038 م)، فاختار

أهل سوبرابي أخاه راميرو أمير أراجون، ليخلفه في حكم الولاية، وبذا اتحدت الإمارتان في مملكة واحدة، ولم يعارض راميرو أحد من إخوته، إذ كان فرناندو ملك قشتالة مشغولا بتنظيم مملكته الكبيرة وتقويتها، وكان غرسية ملك نافار، غائباً يحج إلى رومة، وفضلا عن ذلك فقد كان شعب سوبرابي هو الذي اختار راميرو وآثره. يقول المؤرخ لافونتي: " وكأنما كان روح الطمع والحسد والمنافسة، متأصلا في أسرنا الملوكية، ولم يفعل سانشو الكبير بتقسيم المملكة سوى أن زاد جراثيم الشقاق والموت " (¬1). ذلك أن راميرو لم يقنع بالاستيلاء على ولاية سوبرابي، بل أخذ يطمح إلى الاستيلاء على مملكة نافار نفسها. ولما كانت موارده وأهباته قاصرة عن تحقيق مشروعه الكبير، فقد عقد مع جاره المسلم ابن هود أمير سرقسطة، حلفاً أمده بمقتضاه ببعض قواته، ثم زحف راميرو في قواته المتحدة من النصارى والمسلمين إلى نافار، واقتحم حدودها فجأة، ولكن قلعة تافالا اعترضت سيره المظفر. ولم يكن غرسية يتوقع من أخيه مثل هذا الاجتراء، فحشد قواته على عجل، خلال الوقت الذي استغرقه حصار القلعة، وسار إلى تافالا، فانقض بقواته على الجيش المغير تحت جنح الظلام، وكانت مفاجأة أخذ بها الأرجونيون، فساد بينهم الاضطراب، ومزقت صفوفهم قبل أن يستعدوا للقتال ولم يتمكن راميرو من الخلاص إلا بصعوبة ففر ناجياً بنفسه مع نفر من صحبه، وأبيد معظم جيشه قتلا وأسراً، وقتل كذلك معظم حلفائه المسلمين، ووقعت هذه الموقعة الحاسمة فيما يبدو سنة 1042 م. ولجأ راميرو إلى شعب الجبال الوعرة في سوبرابي خشية المطاردة، بيد أن غرسية قنع فيما يبدو بنصره والقضا على جيش أخيه، ولم يحاول مطاردته داخل بلاده، وأنفق راميرو بضعة أعوام في تنظيم شئونه، والنهوض من عثرته، وأنشأ جيشاً جديداً، وسوف نراه فيما بعد يخوض معترك الحوادث مرة أخرى. ثم اتخذت الحوادث وجهة أخرى، وانتقل ميدان الصراع إلى الجانب الآخر من اسبانيا النصرانية بين نافار وقشتالة. وكان غرسية ملك نافار، وهو أكبر ¬_______ (¬1) Modesto Lafuente: Historia general de Espana (Madrid 1861) V.II.p. 433

إخوته، ينظر بعين الغيرة والحسد إلى فوز أخيه الأصغر فرناندو بحكم هذه المملكة العظيمة الشاسعة، مملكة قشتالة وليون، ويرى أنه أحق بملكها وأجدر، وكان يعول في تحقيق أمنيته على وسائل الغدر والغيلة، ولم يكن فرناندو في البداية يشك في ولاء أخيه أو صدق نياته، لاسيما وقد حارب إلى جانبه في معركة تامارون ضد برمودو ملك ليون، ومن ثم فقد وضع غرسية، مشروعه لاغتيال أخيه، وذلك بأن تظاهر بالمرض، وبعث إلى أخيه يبلغه أنه مريض على فراش الموت. وأنه يرجو رؤيته للمرة الأخيرة، فبادر فرناندو إلى تلبية هذه الرغبة، بيد أنه قد نمى إليه خلال سيره، حقيقة الكمين الذي دبر لاغتياله، فارتد مسرعاً إلى برغش، وقد أضمر لأخيه الغادر أسوأ النيات. ولم يفطن غرسية إلى أن أخاه قد وقف على حقيقة أمره. ثم جاء دور فرناندو في تدبير الانتقام من أخيه، فدعاه إلى زيارته في برغش بعد ذلك بأعوام قلائل، فسار إليه غرسية دون أية ريبة، ولكنه ما كاد يصل إلى أراضي قشتالة، حتى قبض عليه وزج إلى إحدى القلاع، بيد أنه لم يفقد شجاعته، ولم يلبث أن استطاع الفرار من معتقله، فعاد إلى نافار، معولا على الانتقام. وهنا لم يكن مناص من وقوع الحرب بين الأخوين، وقد بدأ غرسية بالفعل بالإغارة على أراضي قشتالة ولم يلتفت إلى تحذير أخيه. ثم اعتزم أن يحاول الضربة الحاسمة. فعقد حلفاً مع أخيه وعدوه القديم راميرو وحشد كل ما استطاع من الجند والعدة، وأمده حليفه المقتدر بن هود صاحب سرقسطة بفرقة من جنده. ونفذ بجيشه القوي إلى أراضي قشتالة، واثقاً في شجاعة جيشه. وكان أخوه فرناندو في تلك الأثناء يحشد من جانبه سائر قواته من قشتالة وليون. واستمر غرسية في سيره حتى وصل إلى سهل أتابوركا، الواقع على مقربة من شرقي برعْش، وحاول فرناندو مرة أخرى أن يجتنب الحرب مع أخيه، فبعث إليه اثنين من كبار الأحبار، يحاولان إقناعه بعقد الصلح وحقن الدماء، فصرفهما غرسية بخشونة. وفي فجر اليوم الأول من سبتمبر سنة 1054 م، اشتبك الجيشان في معركة عنيفة، وقاتل غرسية بشجاعة فائقة، بيد أن الخلل ما لبث أن دب إلى جيشه، إذ غادرته عدة كبيرة من الفرسان الناقمين إلى المعسكر الآخر، وشن فرسان ليون في نفس الوقت على النافاريين هجوماً عنيفاً، وأصابت غرسية،

وهو يقاتل في قلب المعمعة طعنة قاتلة، فسقط من جواده وأسلم الروح في الحال، بين يدي كاهنه، فانتثر شمل النافاريين، وركنوا إلى الفرار، وأغضى فرناندو عن مطاردتهم، وقصر أمر المطاردة على حلفائهم المسلمين، فمزقوا قتلا وأسراً. وأمر فرناندو بأن يحمل جثمان أخيه بمنتهى التكريم، وأن يدفن في ناجرة في الكنيسة التي أنشأها هناك، وأعلن في الحال اختيار ولده الصبي سانشو مكانه ملكاً على نافار، وأعلن الملك الجديد من جانبه طاعته لعمه الظافر، الذي شاء أن يبقى له على تراث أبيه، ولم يقتطع فرناندو شيئاً من أراضي نافار سوى بعض النواحي الواقعة على ضفة الإيبرو اليمنى (¬1). - 2 - في الوقت الذي كانت فيه الممالك الإسبانية النصرانية تضطرم على هذا النحو بنار الحرب الأهلية، ويسقط ملوكها الأصهار والإخوة صرعى خلافهم وأطماعهم، كانت اسبانيا المسلمة من جانبها قد استحالت إلى أشلاء ممزقة، وقامت بها أكثر من عشرين دولة من دول الطوائف. وبينما كانت الخلافة تحتضر في قرطبة وتتردد أنفاسها الأخيرة بين الشريدين من بني أمية، وبين المتوثبين من بني حمود، كان أمراء الطوائف ومعظمهم حديث عهد بالرياسة والسلطان، يضطرمون بأطماعهم الوضيعة، ويجعلون بمنازعاتهم وحروبهم الأهلية الصغيرة، من الأندلس مسرحاً لفتنة غامرة لا يخبو أوارها ولا يستقر قرارها، والواقع أن المصير الذي تردت فيه الأندلس الكبرى على يد الطوائف وحروبهم الانتحارية، كان أتعس بكثير مما انحدرت إليه اسبانيا النصرانية من حروب أهلية محدودة النطاق والمدى، ولم تلبث أن أسفرت عن تماسك المملكة النصرانية، ووحدتها ونهوضها. ولقد كان من رحمة القدر فقط. أن أتيح لهذه الدويلات الإسلامية الصغيرة أن تحتفظ بحياتها، وأن شغلت عدوتها الخالدة اسبانيا النصرانية عن مطاردتها والقضاء عليها، بخلافاتها وحروبها الداخلية في تلك الفترة، أعني في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي. منذ بدإية هذا القرن، حدث في شبه الجزيرة انقلاب حاسم في ميزان ¬_______ (¬1) راجع في تفاصيل هذه الحوادث: M.Lafuente: ibid; V.II.p. 382-383 وكذلك R.M.Pidal: La Espana del Cid; p. 122-123

القوى السياسية والعسكرية، فبعد أن كانت اسبانيا المسلمة، منذ أيام الناصر حتى نهاية عهد المنصور، تحتفظ بتفوقها العظيم على اسبانيا النصرانية، وتكاد تخضعها لصولتها، ويترامى ملوكها على أعتاب الخلافة القرطبية، ويؤدون لها الجزية في معظم الأحيان، إذا بها بعد انهيار الخلافة، وقيام دول الطوائف الهزيلة المتنابذة، تفقد كل منعة وكل مقدرة حقيقية على الدفاع، ويتسابق ملوكها إلى خطب ود الملوك النصارى، والالتجاء إليهم، واستعدائهم على محاربة بعضهم البعض. وقد كان الملوك النصارى، يبادرون إلى انتهاز هذه الفرص، حتى في فترات ضعفهم وتفرقهم، ويتخذونها وسيلة للتفوق العسكرى، والغنم المادي. وقد بدأت سياسة الاستعداء هذه للملوك النصارى منذ بداية الفتنة ذاتها، حيث نرى الأحزاب المتنافسة على اجتناء سلطان الخلافة، تستمد عون النصارى، على نحو ما فعل الفتى واضح ومحمد بن هشام المهدي في الاستنصار بأمير برشلونة، وسليمان بن الحكم والبربر، في استدعاء سانشو غرسية أمير قشتالة. على أن هذا التنافس في استعداء الملوك النصارى، والاستعانة بهم، يتسع نطاقه تباعاً، ويغدو على يد ملوك الطوائف، حسبما رأينا في أخبارهم، ضرورة سياسية وعسكرية يلجأون إليها بطريقة مستمرة منتظمة. وقد استغل الملوك النصارى هذه الظاهرة أعظم استغلال، حتى غدا ملوك الطوائف، في الواقع آلات مسخرة في آيديهم، ووصل هذا الإذلال إلى ذروته، حسبما رأينا، على يد ألفونسو السادس ملك قشتالة. على أن ذلك لم يكن دون تمهيد من جانب القوة المادية، فقد استطاعت إسبانيا النصرانية، أن تمهد لتفوقها السياسي والعسكري في شبه الجزيرة، منذ أواسط القرن الحادي عشر، بسلسلة من الغزوات والفتوحات العظيمة، التي تبلورت على أثرها سياسة الاسترداد الإسبانية La Reconquista، وغدت ظاهرة قوية وعاملا حاسماً، في ميدان الصراع بين اسبانيا المسلمة وبين اسبانيا النصرانية. وقد بدأت هذه السياسة على يد فرناندو الأول ملك قشتالة وليون، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بفرذلند، فإنه ما كاد ينتهي من الصراع الداخلي ْالذي نشب بينه وبين إخوته، حتى تأهب لغزو أراضي المسلمين. وفي سنة 1057 م، عبر في قواته نهري دويرة وتورمس، ونفذ إلى ولاية لوزيتانيا

(شمالي البرتغال)، وهي قاصية أراضي المسلمين من الشمال الغربي، وكانت هذه المنطقة المنعزلة النائية تابعة لمملكة بطليوس، بيد أنها كانت لبعدها تكاد تكون مستقلة بشئونها، وتعتمد في الدفاع على نفسها، فاجتاحها فرناندو وعاث فيها، واستولى على بعض الحصون، ثم قصد إلى مدينة بازو Vizeu، وضرب حولها الحصار. فدافع عنها أهلها المسلمون أشد دفاع وأعنفه، وأبدى الرماة المسلمون، كما أبدوا من قبل أيام أن حاصرها ألفونسو الخامس، براعة عظيمة في إصابة العدو، حتى اضطر النصارى إلى ارتداء دروع مثلثة، واضطر فرناندو إلى إنشاء فرقة من حملة المقالع، وانتهى القشتاليون بأن اقتحموا المدينة بمنتهى العنف، وأمعنوا في أهلها قتلا وأسراً. وكان من بين الأسرى، ذلك الرامي الماهر، الذي أصاب بسهمه المسموم ألفونسو الخامس من قبل ذلك بثلاثين عاماً، فأمر فرناندو به فسملت عيناه وقطعت يداه ورجلاه، وعذب حتى أسلم الروح. ثم سار فرناندو بعد ذلك إلى لاميجو (لميقة) الواقعة شمال بازو، وكانت حصينة عالية الأسوار، فاقتحمها واستولى عليها بعد ذلك ببضعة أشهر، وقتل معظم أهلها وأسرهم، واسترق الأسرى من أهل المدينتين، وأسكن بهما النصارى. ولم يتحرك ابن الأفطس صاحب بطليوس، وهو صاحب السيادة على تلك الأنحاء، ليقينه باستحالة الدفاع عنها، وذلك حسبما أشرنا إليه من قبل في أخبار مملكة بطليوس. وقد سبق أن أشرنا كذلك فيما تقدم إلى الحملة التي بعث بها فرناندو ضد مدينة شنترين الواقعة في شمالي أشبونة على نهر التاجه، وكيف اضطر ابن الأفطس عندئذ إلى أن يتعهد بأن يدفع إلى قشتالة جزية قدرها خمسة آلاف دينار. وكان فرناندو يطمح إلى أن يخضع ملوك الطوائف جميعاً، ولاسيما ابن عباد وابن ذى النون، وهما يومئذ أقوى أولئك الملوك وأعظمهم شأناً. ومن ثم فقد خرج في جيشه في سنة 1062 م، إلى انحاء مملكة طليطلة الشمالية الشرقية، وأغار على مدينة سالم، وأوسيدا، وطلمنكة، ووادي الحجارة، وقلعة النهر (ألكالا دي هنارس) وعاث في بسائطها تخريباً وسبياً. فاستغاث أهل هذه الأنحاء بالمأمون ابن ذى النون صاحب طليطلة، وجمع المأمون مقادير كبيرة من الذهب والفضة والأقمشة الفاخرة، وسار بنفسه إلى معسكر الملك النصراني، وقدم إليه الهدايا،

وأعلن اعترافه بطاعته، وتعهده بأداء الجزية، فقبل فرناندو المال والعهد، وعاد مثقلا بالغنائم والتحف. وفي العام التالي، خرج فرناندو فأغار على أراضي مملكة إشبيلية، وخرب بسائطها، واضطر المعتضد بن عباد، أن يحذو حذو المأمون، وأن يقصد إلى فرناندو ومعه هدية جليلة من الأموال والتحف، يناشده المودة والسلم، على أن يؤدي له الجزية، فأجابه فرناندو إلى رغبته، وطلب إليه أن يمكنه من نقل رفات القديسة خوستا، وكانت هذه القديسة قد استشهدت أيام الإمبراطور دقلديانوس ودفنت في إشبيلية، فوعد ابن عباد بتحقيق رغبته، وأرسل فرناندو إلى إشبيلية بعثة من أكابر رجال الدين للقيام بهذه المهمة، ولكنها لم تستطع الاهتداء إلى قبر هذه القديسة، وعندئذ زعم أحد أعضائها، وهو الأسقف ألفيتو، أنه قد ظهر له القديس إسيدورو، وقد كان من أساقفة إشبيلية أيام القوط، وقال له إن رفات القديسة خوستا يجب أن تبقى في مكانها لحماية إشبيلية، وعرض أن تحمل رفاته هو، وكشف عن مكان وجودها، ووجدت بالفعل رفات هذا القديس في المكان المحدد، فحملت إلى ليون ودفنت هنالك باحتفال فخم، في الكنيسة التي سميت من ذلك التاريخ باسمه، أعني بكنيسة سان إسيدورو، وكان ذلك في أوائل ديسمبر سنة 1065 م (¬1). وكان فرناندو على أثر إخضاعه لملوك بطليوس وطليطلة وإشبيلية لصولته، وأرغامهم على دفع الجزية، قد وضع خطته للاستيلاء على مدينة قُلُمرية، وهي أعظم القواعد الإسلامية، في شمال غربي البرتغال، بيد أنه رأى قبل مسيره أن يستمد العون والبركة، من القديس ياقب، فقصد إلى مزاره بشنت ياقب، وقضى به ثلاثة أيام في صلوات ودعوات وخشوع، ثم سار إلى قلمرية في جيش ضخم، وضرب حولها الحصار (يناير سنة 1064 م). وقد سبق أن عرضنا إلى حصار قلمرية، وأشرنا إلى ما تقصه الرواية الإسلامية، من أن راندة، قائد الحامية الإسلامية، غادر المدينة سراً مع أهله بتفاهم مع فرناندو، وأن ابن الأفطس قضى فيما بعد بإعدامه جزاء له على خيانته، وترك ابن الأفطس قلمرية إلى مصيرها كما فعل بالنسبة لبازو. بيد أن أهل قلمرية دافعوا عن أنفسهم ¬_______ (¬1) راجع: M.Lafuente: ibid ; V.II.p. 388 & 389. وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 135

أشد دفاع. واستمر الحصار حولها زهاء ستة أشهر، حتى نضبت أقوات الجيش المحاصر نفسه، وكاد يرفع الحصار. ولكن رهبان دير لورفان القريب، أمدوه بمؤنهم المخزونة في الجبال. وأخيراً نجح القشتاليون في إحداث عدة ثغرات في أسوار المدينة، واضطر قائد المدينة إلى طلب الأمان، واتفق على أن يسمح لأهلها بأن يخرجوا مع نسائهم وأولادهم، تاركين أموالهم للفاتح، ولكن الجند المدافعين رفضوا هذا الاتفاق، واستمروا في الدفاع حتى نفدت سائر الأقوات، وعندئذ اقتحم القشتاليون المدينة، وأسروا من المدافعين، ومن أهل المدينة، أكثر من خمسة آلاف، ودخل فرناندو قلمرية في اليوم الحادي عشر من يوليه، ومعه الملكة دونيا سانشا، ورهط من الأساقفة ورجال الدين (¬1). وعهد بحكم المدينة إلى رجل كان له فيما بعد شأن في صوغ السياسة القشتالية نحو الطوائف، هو الكونت المستعرب سسنندو دافيدس، الذي تعرفه الرواية الإسلامية بششنند. وكان حسبما أسلفنا في أخبار مملكة إشبيلية من أهل هذه المنطقة، وأسر في حداثته في غارة قام بها القاضي ابن عباد ضد ابن الأفطس، وربى في البلاط العبادي وأعجب المعتضد فيما بعد بمواهبه، وقربه واستخدمه في السفارة بينه وبين فرناندو، ثم غادر إشبيلية بعد ذلك، والتحق بخدمة البلاط القشتالي (¬2)، وقربه فرناندو وأولاه رعايته لما كان عليه من معرفة تامة باللغة العربية، والدين الإسلامي، وأحوال المسلمين وعاداتهم. فحكم سسنندو قلمرية بكفاية، ونال احترام النصارى، والمسلمين على السواء، وكان يلقب عندئذ " بالوزير " على النمط الإسلامي، وفي عهده نمت قلمرية، وأنشئت بها عدة صروح فخمة. وفي بعض الروايات أن سسنندو لم يكن حاكماً لطليطلة على أثر افتتاحها، حسبما تقدم ذكره في موضعه، وأنه بالعكس استمر حاكماً لإقليم قلمرية حتى توفي سنة 1091 م (¬3). وتضع الرواية الإسلامية تاريخ سقوط قلمرية في سنة 456 هـ (1064 م) متفقة في ذلك مع الرواية النصرانية، بيد أنها تختلف معها في بعض التفاصيل. وقد سبق أن عرضنا فيما تقدم من أخبار مملكة بطليوس، إلى أقوال الرواية ¬_______ (¬1) راجع في حوادث فتح قلمرية M.Lafuente: ibid ; V.II.p. 384 & 385 وكذلك R.M.Pidal: ibid ; p. 145 & 149 (¬2) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 129. (¬3) I.de las Cagigas: Los Mozarabes, p. 461

الإسلامية (¬1) وأشرنا إلى ما عمد إليه فرناندو من إجلاء سائر المسلمين عن الأراضي الواقعة في شمال البرتغال بين نهري منهو ودويرة. ونحن نعرف مما تقدم في أخبار مملكة بلنسية، أن فرناندو، خرج في قواته في أوائل سنة 1065 م، أعني بعد استيلائه على قلمرية ببضعة أشهر، قاصداً إلى بلنسية، يبغى افتتاحها، وأنه اخترق في طريقه أراضي مملكة سرقسطة الجنوبية، وعاث فيها معاقبة لأميرها المقتدر بن هود لتخلفه عن دفع الجزية، ثم ضرب الحصار حول بلنسية. ولكنه لما رأى صعوبة الاستيلاء عليها نظراً لمناعة أسوارها، وأهبة أهلها، تظاهر بمغادرتها، وانسحب بقواته إلى مكان قريب منها. وعندئذ خرج البلنسيون دون تحوط، وفاجأهم القشتاليون في بطرنة وهزموهم هزيمة شنيعة حسبما فصلنا ذلك في موضعه. وكان فرناندو قد شعر حينئذ بالمرض، فآثر العودة إلى ليون، وهنالك احتفل بدفن رفات القديس إسيدورو في أوانل ديسمبر. وكان في الواقع مرض موته، ذلك أنه لم تمض أيام قلائل على ذلك، حتى توفي في السابع والعشرين من ديسمبر سنة 1065، ودفن في نفس الكنيسة التي دفن فيها القديس، والتي غدت من ذلك الحين مدفناً لملوك قشتالة. وكان فرناندو الأول من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية، وفي عهده أحرزت اسبانيا النصرانية تفوقها الواضح على اسبانيا المسلمة، ومهد حكمه الملىء بالوقائع المظفرة لمجد الملوك اللاحقين، وقد أسبغت عليه الرواية لقب الكبير El Magno، وكان يسمى نفسه بالإمبراطور، ويدعي لنفسه مركز التفوق والسيادة على ملكي نافار وأراجون. وفي عهده اتسعت رقعة مملكة قشتالة اتساعاً عظيماً، ودفعت حدودها إلى الجنوب والشرق والغرب على حساب المملكة الإسلامية، واقتطعت منها كثيراً من البلاد والحصون. وقد كانت غزواته، بالرغم مما ينسب إليه من التقى والورع، تتسم بنزعة دموية مروعة، تبدو واضحة في قسوته وفظاعته في معاملته المدنيين من أهل البلاد الإسلامية المفتوحة، وسفك دمائهم دون تمييز ولا حرج، واسترقاقهم جملة. وقد اشتهر فضلا عن غزواته وفتوحه المظفرة، بأعماله الإنشائية والدستورية، فقد جدد مدينتي ليون وسمورة، ¬_______ (¬1) راجع سقوط قلمرية في البيان المغرب ج 3 ص 238 و 239، وأعمال الأعلام ص 184.

وكانتا قد خربتا منذ غزوات المنصور بن أبي عامر. وأنشأ في ليون عدة صروح وكنائس فخمة، ما زالت تزدان بها حتى اليوم. وفي سنة 1050 م، دعا إلى عقد اجتماع كنسي تأسيسي في " جويانسا " اعتبر في نفس الوقت مجلساً نيابياً "كورتيس "، وشهدته الملكة والأشراف والأساقفة، وصدرت عنه عدة أصول كنسية ودستورية، كان لها أكبر الأثر في صوغ النظم التأسيسية لمملكة قشتالة ْفيما بعد. ومنها أن يُعمل في جميع الكنائس والأديار بدعوة القديس بندكت، وأن يحرم على رجال الدين حمل السلاح والزواج، أو شهود مآدب الزواج. وحصلت الكنيسة على امتيازات كثيرة، منها أنه لا يمكن الاستيلاء على أملاكها بالتقادم، وأن المتهم بجريمة ما، إذا صار على قيد ثلاثين خطوة من عتبة الكنيسة، أضحى تحت حماية القضاء الكنسي، وهو أثر من آثار التشريعات القوطية القديمة، وأن القوامس (الكونتات) يجب عليهم هم ونوابهم في القضاء الجنائي، أن يحرصوا على تحري العدالة والحق، وفقاً لأحكام الشرائع القوطية، وأن تطبق في مملكة ليون قوانين ألفونسو الخامس المسماة Buenos Fueros ( القوانين الطيبة) وفي مملكة قشتالة لوائح سانشو المسماة Benefactorias وأن يقضي على المجرمين والعصاة بفقد الشرف والمناصب وبالنفي من الكنسية، وصدرت كذلك عدة لوائح للتمييز بين النصارى والمسلمين واليهود الذين يقيمون في المملكة (¬1). وتنوه التواريخ الإسبانية بخلال فرناندو، وعظمة عهده، ومقدرته كسياسي ومحارب، وتنوه بالأخص بتقواه وورعه. وفائق رعايته للكنيسة، وشغفه بإنشاء الكنائس والأديار وتجميلها، والإغداق عليها، واهتمامه بنقل رفات القديسين من أراضي المسلمين إلى الأراضي النصرانية، وهي ترى على العموم أن مملكة قشتالة وليون المتحدة، قد وصلت في عهده إلى درجة من الاستقرار والأهمية والتفوق، لم تصل إليها من قبل قط (¬2). ¬_______ (¬1) راجع تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (ترجمة محمد عبد الله عنان) الطبعة الثانية ص 13 و 14. (¬2) M.Lafuente: ibid, Vol.II.p. 485-488

الفصل الثانى إسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول

الفصل الثانِي إسبانيا النصرانية عقب وفاة فرناندو الأول ألفونسو السادس وبداية عهد الإسترداد تقسيم فرناندو للمملكة بين أولاده. غزو سانشو ملك قشتالة لنافار وهزيمته. غزوه لمملكة ليون. الحرب بينه وبين أخيه ألفونسو. هزيمة ألفونسو وأسره. فراره والتجاؤه إلى المأمون ملك طليطلة. المأمون يرحب به ويكرم وفادته. أقوال الرواية النصرانية في ذلك. ألفونسو يدرس خطط الاستيلاء على المدينة. تطور الحوادث. غرسية ملك جليقية واضطراب مملكته. استيلاء سانشو على جليقية والتجاء غرسية إلى ملك إشبيلية. استيلاء سانشو على تورو مدينة أخته إلبيرة. محاولته انتزاع سمورة من أخته أوراكا. مصرعه تحت أسوارها. استدعاء الأشراف لأخيه ألفونسو. مغادرة ألفونسو لطليطلة. عهده للمأمون بمسالمته وولده. تنويه الرواية النصرانية بكرم المأمون ونبله نحو مضيفه. مسير ألفونسو إلى برغش. حلفه ببراءته من مقتل أخيه. يغدو ملك قشتالة وليون وجليقية. يدبر كميناً لأخيه غرسية. مساعدة ألفونسو للمأمون ضد ابن عباد. وفاة ألمأمون وولاية حفيده القادر. ألفونسو يتحلل من عهوده ويضع الخطة للاستيلاء على طليطلة. إغارته على أراضيها وتخريبها. القادر يلتجىء لحماية ألفونسو ويؤدي له الجزية. قيام الثورة في طليطلة. فرار القادر. وعوده بمعاونة ألفونسو. المعتمد بن عباد وتحالفه مع ألفونسو. مضي ألفونسو في إرهاق طليطلة وافتتاحها الطابع الصليبي لهذا الفتح. طليطلة حاضرة اسبانيا النصرانية. الأسقف برنار عميد الكنيسة الإسبانية. مؤامرته لإزالة المسجد الجامع. تحويل الجامع إلى كنيسة جامعة. سقوط طليطلة وأثره في ميزان القوى. أثره في تحول ملوك الطوائف. موقعة الزلاقة وما بعدها. عود الطوائف إلى تفرق الكلمة. عدوان السيد والقشتاليين. عبور أمير المسلمين للمرة الثانية. حصار حصن لييط وما اقترن به من حوادث. إنسحاب المرابطين. محاولة ألفونسو الاستيلاء على بلنسية وفشله. انتصارات المرابطين في منطقة بلنسية. وفاة السيد واستيلاء المرابطين على بلنسية. إستيلاء ألفونسو على شنترين. موقعة إقليش. هزيمة القشتاليين ومقتل سانشو ولد ألفونسو. البابوية وتدخلها في اسبانيا. سعيها إلى فرض سيادتها الروحية. الأسقف برنار ودوره في ذلك. إسبانيا والحروب الصليبية. صفة الملك الوراثية. نظام الإقطاع وخواصه. تنظيم ألفونسو لأسس التشريع. ألفونسو ووراثة عرشه. مجلس ليون وقراراته في ذلك. مملكة أراجون. مملكة نافار. سانشو ملك نافار ومصرعه. سانشو راميرز ملك أراجون. استيلاؤه على منتشون وحصاره لوشقة. وفاته وقيام ولده بيدرو مكانه. سقوط وشقة. بيدرو الأول وصفاته. وفاته وقيام أخيه ألفونسو مكانه. إمارة برشلونة. الكونتات الفرنج. آل بوريل أمراء برشلونة. خلفاؤهم آل برنجير. رامون برنجير الكبير وأعماله. الصلات بين بني هود وآل برنجير. المستعين بن هود والكونت برنجير. رامون برنجير الثالث.

- 1 - عمد فرناندو قبيل وفاته إلى تقسيم مملكته الكبيرة بين أولاده الثلاثة، فاستدعى لذلك الغرض مجلساً من الأساقفة والأشراف (1064 م) وانتهى فيه إلى تقسيم المملكة على النحو الآتي غير معتبر في ذلك بما حدث من قبل حينما قسمت المملكة على يد أبيه سانشو الكبير. فخص سانشو ولده الكبير بقشتالة، وحقوق الجزية على مملكة سرقسطة، وخص ألفونسو بليون وأشتوريش، وحقوق الجزية على مملكة طليطلة، وخص أصغرهم غرسية، بجليقية والبرتغال، وقد ضما إلى مملكة واحدة، وحق الجزية على مملكتي إشبيلية، وبطليوس، وأعطى حق الإشراف على الأديار في سائر المملكة لابنتيه دونيا أورّاكا، ودونيا إلبيرة، وخصت أوراكا بمدينة سمورة الحصينة، وخصت إلبيرة بمدينة تورو وأماكن أخرى على نهر دويرة. ومن المحقق أن تقسيم المملكة الإسبانية على هذا النحو، بعد اتحادها في عهد فرناندو، كان عملا خاطئاً، وكان نذيراً بعود الحرب الأهلية. وقد استمر الوئام المكبوت بين الإخوة في ظل الملكة سانشا عامين آخرين، فلما توفيت في سنة 1067 م، بدت نذر الصراع الجديد واضحة في الأفق. وكان سانشو، قبل أن تضطرم المعركة بينه وبين إخوته، قد وجه اهتمامه إلى ميدان آخر. وكان يحكم نافار يومئذ سانشو ابن عمه غرسية، ويحكم أراجون سانشو ابن عمه راميرو، ففكر سانشو ملك قشتالة أن يحاول الاستيلاء على مملكة نافار، أو ينتزع على الأقل أعمالها الواقعة على ضفة الإيبرو العليا. ولكن ملكا نافار وأراجون شعوراً منهما بنياته العدوانية، عقدا خلفاً لمقاومته. فلما سار لمحاربتهما، رداه بنجاح وهزماه في موقعة فيانا (سنة 1067 م). وكان من جراء ذلك أن فقد سانشو أراضي نافار التي كان قد أحرزها أبوه في موقعة أتابوركا. وفي العام التالي عقب وفاة الملكة سانشا، سار سانشو في قواته وهاجم أراضي مملكة ليون، فسار أخوه ألفونسو لرده، والتقى الاثنان في بلادنتادا على نهر بسيرجا (يوليه سنة 1068 م) فهزم ألفونسو، وارتد مسرعاً إلى ليون، واضطر أن ينزل لسانشو عن بعض الأراضي المجاورة لقشتالة. ثم عاد سانشو فغزا مملكة ليون واخترقها حتى الغرب، ووقع اللقاء بين الأخوين هذه المرة في جولنجار أو جلبياريس، الواقعة على نهر كريون، فهزم

القشتاليون. وفروا تاركين خيامهم، وأغضى ألفونسو عن مطاردتهم حقناً للدماء. وكاد سانشو يرتد أدراجه، لولا أن تقدم منه أحد فرسانه. ونصح له بأن يجمع جنده، ويعيد الكرة، في الفجر تحت جنح الظلام، بعد أن اطمأن الليونيون إلى نصرهم، وخبت همتهم، وكان صاحب هذا النصح هو الفارس ردريجو دياث. الذي عرف فيما بعد بالسيد، وهي أول مناسبة يردد التاريخ فيها اسمه. واستجاب سانشو لهذا النصح، فاستجمع جنده، وهجم في الفجر على الليونيين وهم نيام، فدب إليهم الاضطراب والذعر، وقتل الكثير منهم أثناء النوم، وفر ألفونسو، والتجأ إلى كنيسة بلدة كريون، فقبض عليه وزج إلى حصن برغش، ودخل سانشو بجيشه ظافراً إلى مدينة ليون (يوليه سنة 1071 م) وهنا تدخلت دونيا أوراكا، وكانت تحب أخاها ألفونسو، وسعت إلى إنقاذه من الأسر. فاستجاب سانشو إلى رجائها، وقبل الإفراج عن ألفونسو، بشرط أن يرتدي حلة الرهبان، وأن يقيم في دير ساهاجون، فاضطر ألفونسو إلى القبول، ولجأ إلى الدير، وهنا دبرت أخته أوراكا فراره من الدير، فسار إلى طليطلة والتجأ إلى ملكها، المأمون بن ذى النون (¬1). فاستقبله المأمون بمنتهى الترحاب والإكرام، وعامله كأخيه حسبما تقول الرواية النصرانية، وأنزله داراً بجوار قصره، وأعد كل ما يلزم لراحته، وخصص له داراً أخرى خارج المدينة ذات رياض وحدائق للتنزه فيها، والاجتماع بصحبه النصارى، ولاسيما مستشاره فرناندو أنسوريز، وكان يعيش معهم في أحسن الظروف وأكرمها (¬2). وإليك كيف يصف الأستاذ بيدال استقبال المأمون لضيفه: " استقبل المأمون الملك المغلوب بإكرام، بعد أن قطع له العهود اللازمة لسلامته. وأنزله داراً ملحقة بالقصر الملكي ذاته، تشرف على تحصينات المدينة تجاه قنطرة " القنطرة ". وهكذا كان الملك المنفي يعيش بعيداً عن ضجيج المدينة المسلمة، وكان بوسعه أن يتريض في حدائق الملك الشاسعة الواقعة في الناحية الأخرى من القنطرة داخل المنحنى الكبير الذي يحتضنه نهر التاجُه ". ¬_______ (¬1) لم يفت الرواية الإسلامية الإشارة إلى هذه الحوادث، وهي تسمى دير ساهاجون، " بسفقند ". راجع أعمال الأعلام ص 330. (¬2) M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p, 396

ويشير الأستاذ بيدال بعد ذلك إلى أقوال الرواية العربية عن فخامة قصر المأمون، وزخارفه البديعة وحدائقه الغناء، وروعة الحفلات التي تقام به، ومجالس العلماء الأعلام التي كانت تعقد به، وتجعل من طليطلة يومئذ مركزاً من أهم مراكز الثقافة الإسلامية. ثم يقول: " إن النفي الذي كان يعانيه ألفونسو بين هذه الفخامات كان كأنه مقصود من العناية، حسبما يقول لنا مؤلف " تاريخ سيلوس ". كان ملك ليون المخلوع يختلط بالسكان المسلمين، ويتريض في جنبات المدينة الحصينة، ويفكر من أي الأماكن، وبأى نوع من أدوات الحرب يمكن اقتحامها " (¬1). حرصنا على إيراد هذه الأقوال، لنستطيع أن نتأمل على ضوئها فيما بعد، تصرف ألفونسو السادس، نحو ولد حاميه والمحسن إليه، ونحو مملكة طليطلة. ومما له مغزى عميق، ما يقصه علينا صاحب رواية دير سيلوس السالفة الذكر من أن ألفونسو، استمع ذات يوم، وهو متظاهر بالنوم، إلى حديث المأمون مع وزرائه في كيفية الدفاع عن طليطلة، واحتمال مهاجمة النصارى لها واستيلائهم عليها، وكيف يمكن ذلك وبأية وسيلة. وقد أجاب بعضهم أن النصارى لا يستطيعون الاستيلاء على مدينة بمثل هذه الحصانة، إلا إذا أنفقوا سبعة أعوام على الأقل، في تخريب أحوازها وانتساف مؤنها، ويضيف صاحب هذه الرواية، أن ألفونسو انتفع بوقته في دراسة خطط المدينة والاحتمالات التي تمكنه من تنفيذ مشروعه العظيم في الاستيلاء عليها (¬2). وقضى ألفونسو في منفاه، ببلاط الملك المسلم، تسعة أشهر من يناير حتى أكتوبر سنة 1072، وهو مغمور بكرم مضيفه ورعايته، إلى أن شاءت الأقدار أن تتطور الحوادث في قشتالة، وأن يتألق نجمه مرة أخرى. ذلك أن سانشو لم يقنع بما تم له من الاستيلاء على مملكة ليون، بل أراد ْأن ينزع أخاه الصغير غرسية مُلْك جليقية، وكان سير الحوادث في جليقية، مما يعاون على تحقيق غايته. ذلك أن غرسية أساء السيرة، وبالغ في إرهاق الشعب بالضرائب، وانصاع في ذلك لتوجيه وزيره وصفيه برتولا، وفوض إليه كل شىء في الدولة. فسخط الأشراف لذلك، ودبروا مقتل الوزير الطاغية بحضرة مليكه ذاته، فاستشاط غرسية غضباً، واشتد عسفه وكثرت ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid ; p. 176 & 177 (¬2) M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 397

مظالمه حتى ضاق به الشعب ذرعاً، فلما سار سانشو في قواته إلى جليقية، ألفى غرسية نفسه في مأزق حرج، ولم يستطع أن يحشد سوى قوة صغيرة، وأبى جيرانه المسلمون معاونته. والتقى بجيشه الصغير مع أخيه قرب شنترين، فهزم هزيمة شديدة، وقتل معظم أصحابه، ووقع أسيراً في يد أخيه، ولم يفرج عنه إلا بعد أن أقسم بالخضوع والطاعة، وعندئذ سار في نفر من صحبه إلى إشبيلية، والتجأ إلى أميرها (أواخر سنة 1071 م). ولم يبق بعد ذلك خارجاً عن سلطان سانشو، سوى مدينتي سمورة، وتورو اللتين تحكمهما أختاه أوراكا وإلبيرة. وكان سانشو يحقد على أختيه لعطفهما على أخيه ألفونسو، ويخشى دسائسهما ومساعيهما الخفية، فعول على الاستيلاء على المدينتين، وحاول في البداية أن يحقق غرضه بالمفاوضة، فعرض على أختيه أن يعوضهما عن المدينتين بأملاك أخرى، فرفضتا ولم تحفلا بوعيده. وعندئذ سار في قواته، واستولى أولا على قلعة تورو، ولم تبد صاحبتها إلبيرة كبير مقاومة، ولكن أوراكا صممت على الدفاع عن سمورة، معتمدة في ذلك على مناعة المدينة، وعلى معاونة طائفة قليلة من الجند المخلصين، وعلى رأسهم الفارس الباسل آرياس كونثالث. وحاول سانشو أن يقتحم المدينة أولا، ولكنها امتنعت عليه، فضرب حولها الحصار، واستمر حيناً، وهو يهاجمها من آن لآخر. وفي ذات يوم نفد إلى معسكره فارس، وطلب مقابلته لينبئه عن أحوال المدينة المحصورة. وما كاد الفارس يراه حتى طعنه بحربته وأرداه مضرجاً بدمائه، وفر إلى المدينة هارباً. ولم تكن هذه الجريمة بعيدة عن تدبير أخته الجريئة أوراكا، وكان ذلك في 6 أكتوبر سنة 1072 م. وفي الحال سرى الذعر إلى المعسكر القشتالي، وانفض عنه الجند الليونيون والجلالقة، إذ كانوا يقاتلون رغماً عنهم، وحمل القشتاليون جثمان مليكهم القتيل، ودفنوه في دير " أونيا "، وهكذا سقط سانشو صريع أطماعه وبغيه، بعد أن حكم ثمانية أعوام فقط، وقد سمي بالقوي El Fuerte لجرأته وشجاعته. واجتمع الأشراف في برغش، وأجمعوا على استدعاء ألفونسو ليتولى الحكم مكان أخيه، بشرط واحد هو أن يقسم بأنه لم يشترك بأي حال في تدبير مقتل أخيه سانشو، وبعثوا إليه رسلهم في طليطلة. وبعثت إليه كذلك أخته

أوراكا، رسلها على عجل، بالخبر سراً، قبل أن يقف عليه المأمون بن ذى النون. وهنا تختلف الرواية، فيقال إن ألفونسو حينما وقف على النبأ أخفاه عن المأمون، وحاول أن يغادر طليطلة خلسة، خشية أن يرغمه المأمون على أن يقطع عهوداً ضارة، ففطن المأمون إلى محاولته وأراد اعتقاله، ولكنه نجح في الفرار، وهذه رواية ضعيفة. والحقيقة، وهي ما تؤيده الروايات الوثيقة، هو أن ألفونسو أبلغ النبأ في الحال إلى المأمون، فأعرب له المأمون عن سروره وغبطته، وأبدى له استعداده لإمداده بكل ما يرغب من مال وخيل أو غيرها، ولم يطلب إليه سوى صداقته، وأن يقطع له عهداً بأن يحترم مملكته، وأن يعاونه ضد خصومه المسلمين، وأن يسرى هذا العهد بعد وفاته بالنسبة لولده الأكبر، فقطع له ألفونسو ما شاء من عهود، وقدم المأمون إليه طائفة من الهدايا الجليلة، وصحبه مع أكابر مملكته في موكب فخم حتى وصل إلى حدود بلاده (¬1). يقول المؤرخ لافونتي: " وكان للمأمون ولد آخر أصغر من أخيه لم يشمله هذا العهد، لسبب لا نعرفه ". ثم يعلق فيما بعد على تصرف المأمون نحو ضيفه بقوله: " إن ما أغدقه المأمون على ألفونسو من ضروب الرعاية والإكرام وقت محنته، يباين كل التباين تصرف أخيه سانشو نحوه، فهذا يسجن أخاه في حصن أو دير. وهذا الأمير المسلم، يتلقاه في قصره، ويعامله كولده، ويخصص بستانه لرياضته. ولما خلا عرش قشتالة بممالكه الثلاث، عاون ألفونسو بكل سخاء وإكرام، ليسير إلى تلقى العروش التي كانت في انتظاره، ولم يطلب منه لقاء ذلك شيئاً سوى صداقته. إن تصرف المأمون على هذا النحو يكشف لنا عن العواطف الكريمة التي يجيش بها هذا الجنس العربي " (¬2). - 2 - سار ألفونسو إلى سمورة حيث اجتمع بأخته أوراكا، وبمن وافاه هنالك من الأساقفة والأشراف من ليون وجليقية، وبحث الوسائل التي تكفل له اعتلاء عرش قشتالة دون صعوبة. ذلك أن معظم الأشراف وأغلبية الشعب، كانت تنسب مقتل سانشو جهاراً إلى أوراكا، ناصحة ألفونسو، وملهمته، ومن ثم فإنه ¬_______ (¬1) راجع: M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p 398-400. و R.M.Pidal: ibid ; p. 189 & 190 (¬2) M0Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 438

لما وصل ألفونسو إلى برغش، واجتمع بأشراف المملكة وكبرائها، طلبوا إليه أن يقسم بأنه لم يشترك بأية صورة في تدبير مقتل أخيه سانشو. فنزل ألفونسو عند رغبتهم. بيد أنه لما انتظم الجمع في الكنيسة التي تقرر أداء القسم فيها، لم يجرأ أحد من الأشراف أن يتولى تحليف الملك، وعندئذ تقدم منه الفارس ردريجو دياث (السيد فيما بعد)، قائد أخيه سانشو ومستشاره، وتولى تحليفه اليمين بنفسه، فلما أداها، عقب ردريجو بقوله، إنه يطلب إلى الله، إن كان ألفونسو كاذباً، أن يسلط عليه خائناً يقتله كذلك الذي اغتال أخيه سانشو. وقد خلفت جرأة " السيد " هذه في نفس ألفونسو أثراً لا يمحى، ولم يصف قلبه لهذا الفارس فيما بعد قط، حسبما بينا من قبل في حياة السيد، وعلائقه مع مليكه ألفونسو (¬1). وهكذا غدا ألفونسو ملك قشتالة، كما غدا من قبل ملك ليون وجليقية (ديسمبر سنة 1072 م)، وعادت المملكة الإسبانية الكبرى إلى تماسكها ووحدتها كما كانت في عهد أبيه فرناندو. ولم يمض قليل على ذلك، حتى عاد أخوه غرسية ملك جليقية السابق من منفاه في إشبيلية معللا النفس، بعوده إلى العرش، فدعاه ألفونسو بإشارة أختهما الماكرة أوراكا، إلى مقابلته للتفاهم، ولكنه ما كاد يصل إلى مكان اللقاء حتى قبض عليه، وزج إلى حصن " لونا " (فبراير سنة 1073 م) وهناك أنفق بقية حياته، سبعة عشر عاماً، حتى توفي سنة 1090 م. وتحدثنا الرواية النصرانية، بأن ألفونسو ما كاد يعتلى العرش، حتى أراد أن يعرب عن عرفانه للمأمون بن ذى النون، وذلك بأن أعانه في حربه ضد ابن عباد، وأمده ببعض قواته، وسار معه إلى قرطبة وعاث في أحوازها، واستطاع المأمون بذلك أن يستولى على قرطبة. وربما كان ألفونسو قد أعان المأمون ببعض قواته في غاراته على قرطبة، ولكن المأمون استولى على قرطبة بطريقة أخرى دبرها مبعوثه حكم بن عكاشة (1075 م) حسبما فصلنا ذلك في موضعه، ولم يشترك القشتاليون في شىء من تلك الحوادث. ولم تمض بضعة أشهر على ذلك حتى مرض المأمون وتوفي، فخلفه في حكم طليطلة، حسبما تقول الرواية النصرانية، ولده هشام القادر، والظاهر أن هشاماً هذا لم يحكم سوى بضعة أشهر ثم توفي، أو أنه خلع لشدة ولائه للنصارى، بيد أن ¬_______ (¬1) R M.Pidal: ibid ; p. 139 & 198. و M.Lafuente: ibid ; Vol. II.p. 404

الرواية العربية، وهي أرجح في نظرنا، تقول إن الذي خلف المأمون، هو حفيده الملقب بالقادر (¬1)، وهو ما يدل على أن هشاماً توفي قبيل وفاة أبيه المأمون, وعلى أي حال فإن الرواية النصرانية، تحاول أن تلتمس من ذلك عذراً يقيل ألفونسو من العهد الذي قطعه لحاميه والمحسن إليه، بأن يصون مملكته وألا يعتدى عليها، لأن هذا العهد كان قاصراً على المأمون وابنه الأكبر. أما القادر فهو حفيده، وهو لم يدخل ذلك العهد (¬2). والواقع أن ألفونسو السادس، لم يعد له شغل شاغل، مذ توفي المأمون، سوى غزو طليطلة، والاستيلاء عليها، بل إن هذا المشروع، يرجع حسبما تؤكده لنا ذلك رواية رهبان سيلوس، التي سبق ذكرها، إلى وقت إقامته بطليطلة، وانتهازه تلك الفرصة لدراسة خطط المدينة، ومواقع الضعف في تحصيناتها، وطرق مهاجمتها، وهي إقامة تقول لنا الرواية المذكورة كأنما اختارتها العناية. ومن ثم فإن ألفونسو لم يتورع عن تنفيذ خطته، في غزو مملكة طليطلة وإرهاقها، فنراه منذ سنة 1078 م يحشد العدة والمؤن، ويغير على أراضي طليطلة ويعيث فيها سفكاً وتخريباً، وينتسف خضراءها وزروعها، وقد استمر على هذه الغزوات المخربة في الأعوام التالية، واستولى خلال ذلك على مدينة طلبيرة، ثم استولى على سائر المنطقة الواقعة بين طلبيرة ومجريط. وفي خلال ذلك كان القادر يعاني في حكم مملكته صعاباً، ويسود الاضطراب في مدينة طليطلة، وتتوالى فيها الأحداث المزعجة على نحو ما فصلنا من قبل في أخبار مملكة طليطلة. ولما شعر القادر بأنه عاجز عن أن يواجه سيل هذه الغزوات المخربة، اضطر أن يلوذ بحماية ألفونسو، وأن يؤدي له الجزية، وأن يسلمه عدداً من الحصون القريبة من الحدود. كل ذلك وملك قشتالة مستمر في إرهاقه بطلب المال والأراضي، والقادر يواجه داخل طليطلة سخط شعبه وتبرمه. وأخيراً اضطرمت طليطلة بالثورة، واضطر القادر أن يلوذ بالفرار، وأن يلتمس غوث ألفونسو وعونه على رده إلى عرشه، فأجابه ألفونسو إلى ما طاب تمكيناً ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 161، وأعمال الأعلام ص 179. (¬2) M.Lafuente: ibid ; Vol.II.p. 404

لقبضته منه، وأمده بقوة من جنده، وأخضعت المدينة الثائرة، وجلس القادر على عرضها مرة أخرى، تحت ظلال الحراب النصرانية، وذلك في سنة 474 هـ (1081 م). وهنا نضجت خطة ألفونسو في الاستيلاء على طليطلة، وأخذ يعد معداته الأخيرة. وكان المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، لما رأى اشتداد ساعد ألفونسو وغزواته الكاسحة نحو الجنوب، وخشى أن يتحول نحوه هذا التيار المخرب، وأن ينزعه ألفونسو، ما استولى عليه من أراضي طليطلة الجنوبية، قد عقد معه حلفه المشهور الذي يتعهد فيه بأداء الجزية، وبأن يترك ألفونسو حراً في مشروعه ضد طليطلة، ويتعهد ألفونسو من جانبه بأن يساعده على سائر أعدائه المسلمين، وهو الحلف الذي زعمت التواريخ النصرانية، بأن المعتمد قد رأى أن يدعمه بتقديم ابنته " زائدة "، زوجاً لألفونسو. وهي قصة أثبتنا بطلانها وسخفها فيما تقدم من أخبار المعتمد. وشعر ألفونسو بحق أن طليطلة قد أضحت تحت رحمته، ولم يبق عليه إلا أن يتم خطته التمهيدية من تخريب أراضيها وإعدام أقواتها، وقد استمر على تنفيذ هذه الخطة المدمرة زهاء أربعة أعوام، مذ عاد القادر إلى عرشه في سنة 1081 م، كل ذلك وملوك الطوائف جميعاً إلا واحداً منهم هو أمير بطليوس الشهم، يشهدون اقتراب النكبة جامدين، إما بدافع الأثرة والخوف أو عدم الاهتمام والتخاذل، حتى حم القضاء، وسقطت المدينة الأندلسية التالدة في يد ألفونسو السادس في فاتحة شهر صفر سنة 478 هـ (25 مايو 1085 م). وقد سبق أن تناولنا حوادث سقوط طليطلة وما تلاه، مفصلة في أخبار مملكة بني ذى النون، فلا حاجة بنا إلى التكرار، وإنما نود فقط أن ننوه هنا بالطابع الصليبي لحصار طليطلة وافتتاحها، فقد اشترك فيه إلى جانب جنود قشتالة وليون، جند من أراجون، ومتطوعون ومغامرون من فرنسا وغيرها، قدموا للاشتراك في مشروع يهم النصرانية كلها. وقد عادت طليطلة منذ افتتاحها عاصمة لإسبانيا النصرانية، كما كانت أيام القوط، وردت إليها صفتها القديمة كمركز رئيسي للكنيسة الإسبانية، وهي ما تزال تحتفظ حتى يومنا بهذه الصفة، وعين لرياستها الأسقف برنار الفرنسي، عميد دير

ساهاجون، وذلك بنفوذ الملكة كونستانس، وهي فرنسية برجونية الأصل. وكان لتعيين هذا الراهب لرياسة الكنيسة الإسبانية، تأثير شديد في تطور طقوسها وتقاليدها. وكان من أول الأعمال التي دلت على بغيه وتعصبه، اعتداؤه على مسجد طليطلة الجامع. وكان من عهود التسليم التي قطعها ألفونسو على نفسه، أن يحتفظ المسلمون بمسجدهم الجامع لأداء شعائرهم إلى الأبد. بيد أنه ما كاد يمضي شهران على التسليم، حتى دبر هذا القس بتحريض الملكة كونستانس المتعصبة مؤامرته لإزالة الجامع. وكان رجال الدين من النصارى يغصون بالأخص بعظمة الجامع وروعته، هذا بينما كانت كنائس المدينة كلها صغيرة متواضعة. وعبثاً حاول الكونت ششنندو حاكم المدينة أن يثني القس عن غيه، وأن يبين له سوء العاقبة في مخالفة العهود المقطوعة على هذا النحو. وانتهز برنار فرصة غياب الملك في ليون، واقتحم الجامع في جمع من الفرسان وحطم المحراب، وأمر بإقامة الهياكل. وفي اليوم التالي عقد بالجامع قداساً حافلا، فهاج المسلمون وماجوا، ولولا وجود حامية قشتالية كبيرة بالمدينة لاستحال هياجهم إلى ثورة مدمرة. وعلم الملك بذلك الحادث، فارتد من ليون على عجل، وهو يضطرم غيظاً وسخطاً، إذ كان من سياسته أن يحترم العهود المقطوعة ولو إلى حين، تفادياً من سخط المسلمين، واضطرام القلاقل. وتظاهر الملك بأنه سوف يعاقب القس والملكة بالحرق، وعندئذ تدخل المسلمون والتمسوا إليه العفو عنهما، ولعلهم كانوا يأملون بذلك أن ويستردوا جامعهم. ولكن هذا الأمل الخلاب لم يتحقق، واستمر العمل في تحويل الجامع إلى كنيسة جامعة. وفي يوم الأحد 18 ديسمبر سنة 1085 (15 شعبان سنة 478 هـ) دشنت الكنيسة الجديدة في حفل ضخم شهده الملك والأشراف ورجال الدين، وانتخب فيه برنار مطراناً (¬1). ¬_______ (¬1) ورد تاريخ تحويل جامع طليطلة إلى كنيسة في أوراق مخطوطة لم تنشر من كتاب البيان المغرب لابن عذارى، عثر بها الأستاذ ليفي بروفنسال ونقله العلامة الأستاذ بيدال في كتابه La Espana del Cid ( ص 307 و 308). وقد تناول ابن بسام حادث تحويل الجامع إلى كنيسة في عبارته المسجعة (الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 131 و 132، ولكنه وهم في تاريخ الحادث فجعله في ربيع الأول سنة 498 - 1104 م، وربما كان ذلك راجعاً إلى تحريف في المخطوط إذ وضعت عبارة سنة " ثمان وتسعين وأربعمائة "، وهي في الحقيقة " ثمان وسبعين ".

- 3 - كان الاستيلاء على طليطلة بلا مراء أعظم أعمال ألفونسو السادس، بل كان أعظم عمل قام به ملك نصراني، مذ قامت المملكة الإسبانية النصرانية في شبه الجزيرة في أواخر القرن الثامن الميلادي. وقد كان لسقوط طليطلة أعمق الآثار في ميزان القوى في شبه الجزيرة، وبه توج تفوق اسبانيا النصرانية السياسي والعسكري، واتخذ ملك قشتالة على أثره لقب الإمبراطور، ودخلت سياسة الإسترداد Reconquista في طور جديد يبدأ من الناحية الأخرى من نهر التاجُه. بيد أنه كان من آثاره أيضاً أن استيقظت اسبانيا المسلمة من سباتها، وأدرك ملوك الطوائف، حقيقة موقفهم، وعاقبة بغيهم واستهتارهم، وخطورة تنابذهم وتفرقهم، وشعروا بخطر الفناء يهدد مصايرهم جميعاً، وجنحوا عندئذ إلى الاستعانة بإخوانهم فيما وراء البحر، وكان أن استجاب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى صريخهم، وعبر إلى شبه الجزيرة في جيوشه المرابطية. وفي ذلك الوقت بالذات كان ألفونسو، عقب استيلائه على طليطلة، قد سار إلى سرقسطة وحاصرها، ليرغم أميرها المستعين بن هود على دفع الجزية، فلما سمع بمقدم المرابطين، غادرها مسرعاً إلى الأندلس ليلقى أعداءه الجدد. ثم كانت موقعة الزلاقة (رجب 479 هـ - أكتوبر سنة 1086 م) وإحراز الجيوش الإسلامية المتحدة لنصرها الباهر على الجيوش النصرانية المتحدة، وسحق قوات ألفونسو السادس، وانسحابه في فلوله القليلة مهيضاً مغلوباً، وذلك كله حسبما فصلناه في مواضعه بإفاضة. بيد أن يوسف اضطر عقب الموقعة أن يغادر الأندلس إلى المغرب لوفاة ولده وخلفه الأمير سير. وتنفس ألفونسو الصعداء حيناً، وأخذ يجمع أشتات جيشه من جديد، ووفد عليه عندئذ سيل من المتطوعة النصارى النورمان والفرنسيين وغيرهم، شعوراً منهم بطابع المعركة الصليبي، ولم يمض سوى قليل، حتى استرد ألفونسو ثقته بنفسه، وشعر أنه يستطيع لقاء أعدائه في الميدان من جديد، وكان ابن عباد وغيره من أمراء الطوائف قد انتعشوا عقب نصر الزلاقة، وأغار المعتمد بقواته على أراضي طليطلة، وانتزع منها عدة أماكن. بيد أن أمراء الطوائف لبثوا مع ذلك على تنابذهم وتفرقهم، يتربص كل بأخيه،

ولم يستطيعوا أن يؤلفوا من أنفسهم جبهة متحدة ضد النصارى. ومن ثم فقد استمر السيد إلكمبيادور في عيثه ومغامراته في منطقة بلنسية، واستمر القشتاليون من قاعدتهم المنيعة في حصن لييط (أليدو) الواقع بين مرسية ولورقة، وهو الذي ابتنوه قبل ذلك ببضعة أعوام، يرهقون هذه المنطقة بغاراتهم المتوالية. وعلى ذلك فقد استصرخ أمراء الطوائف، أمير المسلمين للعبور إليهم وإنجادهم مرة أخرى. وعبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثانية في سنة 481 هـ (1089 م)، وانضم إليه ابن عباد صاحب إشبيلية، والمعتصم صاحب ألمرية، وتميم بن بلقين، صاحب مالقة، وأخوه عبد الله صاحب غرناطة، وابن رشيق صاحب مرسية، كل في قواته، وهم الذين تقع أملاكهم جميعاً في شرق الأندلس (¬1) وتعرض لعدوان القشتاليين في تلك المنطقة. وضرب المسلمون الحصار حول حصن لييط، وكان يدافع عنه ألف فارس واثنا عشر ألف راجل من النصارى، ولكن الحصن كان في منتهى المناعة، فلم تنجح آلات الحصار الضخمة في هدمه أو ثلم أسواره، وطال الحصار زهاء أربعة أشهر، والقوات المحاصرة تحاول اقتحامه، كل جماعة بدورها، والنصارى صامدون، يتساقطون داخل حصنهم من الجوع والإعياء. وفي أثناء ذلك كان الخلاف والوقيعة على أشدهما بين أمراء الأندلس المشاركين في الحصار، ولاسيما بين ابن عباد وابن رشيق، فقد شكا ابن عباد، ابن رشيق لأمير المسلمين، واتهمه باغتصاب ولاية مرسية منه، وأنه تفاهم سراً مع ألفونسو، ودفع جبايتها إليه. واقتنع أمير المسلمين بوجاهة هذه الشكوى، واستفتى الفقهاء في أمر ابن رشيق، فأفتوا بإدانته، فأمر بتسليمه لابن عباد على شرط أن يبقي على حياته. وكان لهذا الحادث أسوأ الأثر في المعسكر المحاصر، فإن قادة مرسية، ومعظمهم من قرابة. ابن رشيق وصحبه، غادروا المحلة في جندهم غاضبين، وقطعوا المؤن التي كانت ترسل إلى المحاصرين من مرسية وأحوازها، فاختل أمر المعسكر، وعمه الضيق والغلاء. وعلم أمير المسلمين من جهة أخرى أن ملك قشتالة، يسير في قوة كبيرة لإنجاد حصن لييط، فآثر الانسحاب وعدم التعرض للقشتاليين. وقدم ألفونسو إلى الحصن، فلم يجد به من المدافعين سوى مائة فارس وألف راجل قد برح بهم الجوع، ولما رأى ¬_______ (¬1) يلاحظ أن المعتمد ابن عباد كان يدعى حق السيادة على مدينة مرسية منذ افتتحها ابن عمار وابن رشيق باسمه وبمعاونة جنده.

أنه لا فائدة من الاحتفاظ به، وأنه يقتضي لذلك حامية كبيرة، أخلاه وقوض أسواره وعاد أدراجه، وذلك في سنة 1089 م (482 هـ). وترك أمير المسلمين في شرق الأندلس قوة كبيرة، بقيادة ولده الأمير ابن عائشة، ليقوم بافتتاح مرسية وبلنسية، والقضاء على سلطان " السيد " في تلك المنطقة، وعاد إلى المغرب، وقد تغيرت نفسه على أمراء الأندلس، لما رآه من اختلال أحوالهم، وسوء تصرفاتهم، ووضيع أهوائهم وأطماعهم (¬1). وخاض ألفونسو بعد ذلك ضد المسلمين عدة وقائع أخرى، ففكر في الاستيلاء على بلنسية لكي يحرم " السيد " من الاستيلاء عليها، وسار إليها بالفعل وحاصرها في سنة 1092 م (485 هـ)، معتمداً في ذلك على معاونة سفن جنوة وبيزة اللتين عقد معهما حلفاً لهذا الغرض، ولكنه فشل في مشروعه، وأرغم على ترك الحصار حينما عاث السيد في أراضي قشتالة. ثم استولى السيد بعد ذلك على بلنسية (1094 م)، ولم يمض سوى قليل حتى سار المرابطون لإنقاذها وضربوا حولها الحصار، وسار جيش مرابطي آخر إلى أحواز طليطلة وعاث فيها وهزم القشتاليين، وسار جيش ثالث إلى قونقة وهزم قوات ألفونسو التي يقودها ألبارهانيس. في خلال هذه الوقائع التي رجحت فيها كفة المرابطين على قوات ألفونسو السادس، توفي " السيد " خلال حصار بلنسية، واستغاثت زوجه خمينا بألفونسو، فسار إلى بلنسية ودخلها في مارس سنة 1102، ولم يعترض المرابطون سبيله استعداداً للموقعة الحاسمة. ولكنه لما رأى ضخامة الجيوش المرابطية، خشى العاقبة، وغادر بلنسية مع خمينا وسائر القوات النصرانية، ودخلها المرابطون في شهر مايو سنة 1102 م (495 هـ)، كل ذلك حسبما فصلناه من قبل في أخبار مملكة بلنسية. وسار ألفونسو في قواته إلى مدينة شنترين من أعمال ولاية الغرب واستولى عليها سنة 1093 م (486 هـ). وقد وقع ذلك فيما يبدو خلال غزو المرابطين لمملكة بطليوس، التي كانت شنترين من أعمالها، ونحن نعرف أن بطليوس سقطت في أيدي المرابطين في صفر سنة 487 هـ (مارس 1094 م). ¬_______ (¬1) راجع في حصار حصن لييط، الحلل الموشية ص 49 و 50، وروض القرطاس ص 99، وكتاب التبيان للأمير عبد الله ص 110 - 113، وأعمال الأعلام ص 247. وراجع أيضاً Dozy: Histoire ; V.III.p. 139 & 140 و R.M.Pidal: ibid ; p. 364, 365 & 409

وكانت آخر معركة هامة خاضها ألفونسو السادس مع المسلمين هي موقعة إقليش، وكان أمير المسلمين يوسف بن تاشفين قد توفي يومئذ (سنة 500 هـ) وخلفه ولده على. وقد عبر عقب توليته إلى شبه الجزيرة الإسبانية في أوائل سنة 1108 م (501 هـ) معتزماً أن يستأنف الجهاد ضد النصارى، وعهد بالقيادة إلى أخيه الأكبر تميم أبي الطاهر، فسار الأمير تميم في جيش ضخم، واخترق أراضي قشتالة، ولكن حالت دون تقدمه قلعة إقليش Uclés المنيعة، فضرب حولها الحصار في الحال، فبعث ألفونسو، وقد عاقته الشيخوخة عن أن يقود جيشه بنفسه، قواته لإنجادها، وبعث معها ولده الوحيد سانشو وهو الذي رزق به من " زائدة " حظيته أو زوجه المسلمة المتنصرة، لكي يثير حماسة الجند، وكان صبياً في الحادية عشرة من عمره. ووقعت بين المرابطين وبين القشتاليين أمام حصن إقليش موقعة شديدة، حدث خلالها أن ازدلف الأمير الصبي إلى قلب المعمعة، وشاء القدر أن تصيبه طعنة قاتلة، وقتل معه مؤدبه الكونت غرسية دي قبره مدافعاً عنه، فدب الخلل إلى الجيش القشتالي وركن إلى الفرار، وقتل المرابطون منه مقتلة عظيمة، يقدر من زهق فيها بنحو عشرين ألفاً (29 مايو سنة 1109 م) (¬1). وكان نصراً عظيماً أعاد ذكريات الزلاّقة، وكان أشد ما فيها وقعاً في نفس الملك النصراني، فقده لولده الوحيد وولي عهده، وانقطاع نسله بذلك. والواقع أن ألفونسو لم يعش طويلا بعد هذه الصدمة المؤلمة، فتوفي في 29 يونيه سنة 1109 م، بعد أن حكم المملكة النصرانية المتحدة سبعة وثلاثين عاماً، وحوادث المرحلة الأخيرة من حياته أكثر ارتباطاً بتاريخ المرابطين، ولكننا حرصنا على استعراضها بإيجاز، استكمالا لسياق الحوادث. ولابد لنا قبل أن نختتم الكلام على عهد ألفونسو السادس، أن نتحدث عن أعماله وإصلاحاته الداخلية، وقد شملت هذه الإصلاحات جوانب هامة في بناء المملكة النصرانية والمجتمع الإسباني، وذلك من الناحيتين الدينية والدنيوية. ففي أواخر القرن الحادي عشر، وفي عهد ألفونسو السادس بالذات، نوضع الأسس الأولى، لنفوذ البابوية وسلطانها على اسبانيا والملوكية الإسبانية، وهو سلطان تأثل بمضي الزمن، وما زال يحتفظ حتى اليوم بكثير من رسوخه ¬_______ (¬1) راجع روض القرطاس ص 104. وتاريخ المرابطين والموحدين لأشباخ ص 117 و 118.

وقوته. وقد توالت بعثات الكرسي الرسولي إلى الملوك الاسبان في هذا العهد، تسعى إلى فرض سيادته الروحية، وإلى إلغاء الطقوس القوطية المنسوبة للقديس إسيدورو واستبدالها بالطقوس الرومانية. وبذل دير ساهاجون البندكتي، ورئيسه الراهب برنار الفرنسي عندئذ، أعظم الجهود لتحقيق أغراض البابوية. وقد سبق أن أشرنا إلى الدور الذي قامت به الملكة كونستانس زوجة ألفونسو الأولى، وهي فرنسية من بيت برجونية، في تأييد الراهب برنار واختياره مطراناً للكنيسة الإسبانية، عقب افتتاح طليطلة. وحصل برنار بعد ذلك على مرسوم بابوي بتعيينه في ذلك المنصب الخطير، ووضع في معظم الأسقفيات رجالا من مواطنيه، وملأ دير ساهاجون بالرهبان الفرنسيين، وذلك رغم مناوأة الأحبار الإسبان وسخطهم. وهكذا استطاعت البابوية أن تفرض رياستها الروحية على اسبانيا، وبالرغم من أن ألفونسو كان يعارض كثيراً من الرغبات البابوية، فإنه كان يجل الكرسي الرسولي ويوليه أعظم مقام. وفي عهد ألفونسو أيضاً وقعت حوادث الحرب الصليبية الأولى بالمشرق، ولكن البابا أوربان الثاني أصدر مرسوماً يحرم على الإسبان أن يشتركوا في هذه الحرب الصليبية، لأن أعداء النصرانية، أعني المسلمين، يهددونهم داخل أرضهم، ولأن لديهم في شبه الجزيرة وقوداً كافياً لإضرام نار الحرب المقدسة، وكانت ظروف الحرب المستمرة بين النصارى والمسلمين، قد حملت رجال الدين أنفسهم على أن ينزلوا هذا الميدان، فكان شأنهم شأن الأشراف والكونتات يسيرون في معظم الأحيان مع الملك، ويقاتلون في الصفوف، بل ويقودون الحملات أحياناً. وقد كان الملك وراثياً في قشتالة فقط. أما في باقي الممالك النصرانية، فكان المفروض أن يختار الأشراف مليكهم، وكان الملك في سائر الممالك الإسبانية، يجمع بين سلطات الحرب والسلم، وقيادة الجيوش، ورياسة القضاء، يعاونه في ذلك رهط من رجال الخاص Palatini، وكانت أسماء المناصب معظمها مشتق من النظم القوطية. وكان نظام الإقطاع ما يزال عندئذ متغلغلا في تكوين المجتمع الإسباني، ويقوم على مراتب متعددة، أرفعها مرتبة الدوق أو الوالي، وهو الذي يُقطع

ولاية بأسرها مثل جليقية أو أشتورية. وتليها مرتبة الكونت أو القومس، وهو الذي يُقطع منطقة معينة، ثم أصحاب المنح الصغيرة، وهم البارونات أتباع القومس. وكان هذا النظام عسكرياً، في جوهره، تقترن مراتبه المدنية بالرتب العسكرية، فالدوق يتولى قيادة جيش الولاية، ويقود القومس فرقته، وتتكون من البارونات فرق الفرسان، والفارس هو أدنى مراتب النبل، بيد أن الفرسان كانوا قوام الجيش، وعليهم تتوقف مصاير الحرب، وكان الجند المشاة يتكونون من أتباع البارونات، ومن حشم الدوقات والقوامس. وكان العرش يخوض معارك دائمة مع أولئك النبلاء الإقطاعيين، وكان يضطر في أحيان كثيرة إلى مهادنتهم والإذعان لمطالبهم، فكانوا بذلك يفوزون بالولايات والرياسات رغم إرادة العرش. وإلى جانب ذلك كان يقوم هيكل الإقطاع الزراعي على نفس الأسلوب المتدرج، فيقطع كبار الملاك المزارعين الأحرار، أجزاء من الأرض يزرعونها على أن يؤدوا للمالك نصف الدخل أو ثلثه على الأقل، ولم تكن هذه المنح الزراعية تحدد بوقت معين، بل كان الزارع يعتبر نفسه مالكاً للأرض، ثم تؤول من بعد وفاته إلى أولاده يزرعونها بنفس الطريقة، بيد أنه كان ملزماً بالإقامة فيها، فإذا غادرها إلى ناحية أخرى فقد الحق في استغلالها. وكان عدد الأرقاء في ذلك العصر، الذي كثرت فيه الحروب، وكثر فيه السبي والأسر كثيراً، وكانت هذه الجماهير الغفيرة من المسلمين الذين يؤسرون في الغارات أو الحروب المختلفة التي تشنها الجيوش النصرانية على الممالك الأندلسية، يقضي عليهم دائماً بالرق، ويلزمون بأشق الأعمال الزراعية وغيرها، ولا يمنحون الحرية إلا باعتناق النصرانية. وأما عن التشريع، فقد نظم ألفونسو السادس العدالة، وألغى حق " القوة " وهو العرف الذي كان يسمح للقوي بأن يقتضي بنفسه وبالعنف ما يزعم أنه حق له وفرض على الدوقات والقوامس، أن يعاقبوا مرتكبي الجرائم، فوضع بذلك حداً لجرائم الفرسان الناهبين، وعيث القتلة واللصوص في سائر أنحاء المملكة. وكان يشترك في وضع القوانين عظماء المملكة وأكابر رجال الدين الأشراف، وتعقد اجتماعاتهم عندئذ في صفة هيئة تشريعية أو برلمان " كورتيس " Cortes،

تحت رياسة الملك، وكان القانون العام المطبق في ذلك العصر هو القانون القوطي (قانون ألاريك) معدلا بما صدر من تشريعات جديدة كانت تعرف " بالقوانين الطيبة " Buenos Fueros. وكان من المقرر أن كل إنسان حر في أن يدافع عن نفسه أمام القضاء، وله أن يختار محامياً أو وكيلا للدفاع عنه. أما اليهود فلم يكن لهم حق الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، وفقاً لقانون أصدره ألفونسو. وأخيراً فقد كان الميراث يجري أيضاً وفقاً للقانون القوطي، وهو يسوي في الحقوق بين البنين والبنات. وكانت وراثة العرش أهم مشكلة واجهت ألفونسو قبل موته، فهو لم ينجب من زوجاته المتواليات من البنين سوى ولده سانشو، ولد زوجته أو حظيته زائدة المسلمة التي تنصرت باسم ماريا أو اليزابيث، والتي أتينا على قصتها فيما تقدم من أخبار بني عباد. وقد قتل هذا الإبن حسبما أسلفنا في موقعة إقليش، فعندئذ اعتزم ألفونسو أن يسند وراثة عرشه إلى ابنته أورّاكا، التي كان قد رزق بها من زوجته الملكة كونستانس الفرنسية، وزوجت بالكونت ريموند البرجوني عند مقدمه إلى اسبانيا. ثم توفي وترك لها ولداً، هو ألفونسو ريمونديس. ولكنه رأى أن يقوي جانب العرش، ووحدة المملكة، بتزويجها من ألفونسو الأول ملك أراجون ونافار، فاستدعى نواب المملكة (الكورتيس) إلى الاجتماع في ليون، ومثل فيه الأشراف والأساقفة وحكام الولايات ورجال الدين والفرسان، وأصدر قراراته بشأن وراثة العرش، وخلاصتها أن تكون أوراكا وارثة لعرش قشتالة وليون وأشتوريش، وأن يمنح ولدها ألفونسو ريمونديس مملكة جليقية، مع بقائها تحتت سلطان قشتالة، وأن يمنح الكونت هنري صهر ألفونسو إمارة البرتغال كتابع لعرش قشتالة، فإذا لم تعقب أوراكا من زواجها بألفونسو ملك أراجون، فإن المملكة كلها تؤول إلى ولدها ألفونسو ريمونديس أعني إلى حفيد ألفونسو السادس. وعهد بتربية الطفل الملكي إلى عمه أسقف فيين، والكونت ترافا، ومنح إمارة جليقية، تحت وصايتهما، على أن تكون له دون نقض أو رجوع. (¬1) ¬_______ (¬1) رجعنا في تلخيص أعمال ألفونسو وإصلاحاته الداخلية إلى " تاريخ المرابطين والموحدين " لأشباخ (ص 120 - 135).

نافار وأراجون رأينا في بداية هذا الفصل كيف هلك غرسية ملك نافار في موقعة أتابوركا التي نشبت بينه وبين أخيه فرناندو (سنة 1054 م)، وكيف اختار فرناندو مع ذلك سانشو ولد أخيه الملك القتيل ليخلفه على عرش نافار، على أن يكون تحت طاعته. وكان يحكم أراجون في ذلك الوقت، الملك راميرو بن سانشو الكبير، وكان في بداية حكمه قد حاول غزو مملكة نافار وانتزاعها من يد أخيه غرسيه، ولكنه هزم كما رأينا، ومزق جيشه، واضطر أن يلجأ إلى السكينة حيناً ليعني بتنظيم شئونه والنهوض من عثاره. ولما قتل أخوه غرسية، وتولى ولده سانشو الحكم مكانه، لبث محافظاً على حياده وسكينته نحو جارته نافار، ولكنه وجه عدوانه نحو مملكة سرقسطة، وحاول غزوها، فاستنصر أميرها المقتدر بن هود، بفرناندو ملك قشتالة، فأمده ببعض قواته، ونشبت بين الفريقين في جرادوس معركة هزم فيها راميرو وقتل (1063 م). فخلفه على عرش أراجون ولده سانشو، المعروف بسانشو راميرز. ولما توفي فرناندو ملك قشتالة حاول ولده سانشو أن يستولي على مملكة نافار، وكان شانشو ملك نافار، شعوراً منه بأطماع ملك قشتالة، قد عقد حلفاً مع جاره سانشو راميرز، فلما سار سانشو لمحاربتهما، استطاعا أن يقفا في وجهه، وأن يهزماه في موقعة فيانا (1067 م). واستمر سانشو ملكاً على نافار اثنين وعشرين عاماً، وفي عهده توطد مركز نافار بين جيرانها، وأقر المقتدر بن هود صاحب سرقسطة لها بدفع الجزية في سنة 1069 م، وعقد مع سانشو حلفاً لمعاونته في حربه ضد خصومه سواء من المسلمين أو النصارى. وجدد هذا التحالف في سنة 1073 م. ولم يمض قليل على ذلك حتى قتل سانشو في كمين دبره أخوه ريموند وأخته أرمزندة، وذلك في سنة 1076 م، فسخط الشعب النافاري لتلك الجريمة أيما سخط، واستدعى سانشو راميرز ليعتلي عرش نافار. ولكن ريموند استغاث بألفونسو ملك قشتالة، فسار إلى نافار من ناحيتها الغربية، وسار إليها سانشو راميرز من ناحيتها الشرقية، وتفاهم الملكان على اقتسامها، بالرغم من وجود ولدى الملك القتيل القاصرين.

فاستولى سانشو على الجزء الواقع في منطقة البرنيه، وفيه العاصمة بنبلونة، واستولى ألفونسو على القسم المحاذي لنهر إيبرو، وبذلك اختفت مملكة نافار المستقلة إلى حين، بعد أن استطاعت أن تذود عن استقلالها عصوراً بإصرار وبسالة، ونمت مملكة أراجون، واتسعت رقعتها اتساعاً كبيراً، وبدأت تلعب دورها العظيم في شمال شرقي الجزيرة الإسبانية. واتجهت أطماع سانشو راميرز بالأخص إلى جارته الإسلامية الجنوبية، أعني مملكة سرقسطة، فقام بمحاصرة مونتشون وأخذها في سنة 1089 م، ثم سار لحصار وشقة أمنع قواعد مملكة سرقسطة الشمالية وحاصرها، ولكنه توفي بعد قليل تحت أسوارها، فتابع ولده وخلفه بيدرو الأول الحصار، واستغاث المستعين بملك قشتالة فأمده ببعض قواته، وسار لإنجاد المدينة المحصورة، ووقعت بينه وبين بيدرو معركة شديدة في الكرازة، فهزم المستعين وحلفاؤه القشتاليون هزيمة شديدة، وسقطت وشقة بعد ذلك بأيام قلائل في نوفمبر سنة 1096 م (489 هـ) حسبما فصلنا ذلك من قبل في موضعه من أخبار مملكة سرقسطة. وفي العام التالي سار بيدرو في قواته لمعاونة حليفه السيد إلكمبيادور ضد المرابطين، ووقعت الهزيمة على المرابطين في " مندير " قرب بلنسية. واستمر بيدرو الأول على عرش أرجون حتى وفاته سنة 1105 م، وكان ملكاً شجاعاً مقداماً، وهو الذي مهد بافتتاحه لوشقة وبربشتر إلى القضاء على مملكة سرقسطة، وسقوطها فيما بعد في يد أخيه وخلفه ألفونسو، وكان ورعاً متعصباً، لا يكاد يفتح مدينة إسلامية، حتى يحول في الحال مساجدها إلى كنائس، ويغدق الصلات الوفيرة على الكنائس والأديار. ولما كان ولده الوحيد قد توفي قبل وفاته، فقد خلفه على عرش أراجون أخوه ألفونسو الأول الأرجوني المعروف بالمحارب، وهو الذي قدر له، فيما بعد بزواجه من أورّاكا ابنة ألفونسو السادس ملك قشتالة، أن يحكم سائر الممالك الإسبانية، وأن يغدو من أعظم ملوك اسبانيا. إمارة برشلونة إلى جانب الممالك الإسبانية النصرانية، التي تقوم في النصف الشمالي من شبه الجزيرة الإسبانية، كانت تقوم في الركن الشمالي الشرقي مما يلي جبال البرنيه،

إمارة نصرانية أخرى، هي إمارة أوكونتية برشلونة. ونحن نعرف أن برشلونة كانت أول ثغر عظيم يفقده المسلمون في شمالي شبه الجزيرة، وقد افتتحها شارلمان (كارل الأكبر) في سنة 185 هـ (801 م) أيام الحكم بن هشام، وجعلها قاعدة الثغر القوطي أو الثغر الإسباني، الذي أنشأه فيما وراء البرنيه، حماية لحدود فرنسا الجنوبية. وكان ملوك الفرنج يعينون حكام هذا الثغر في البداية من الأشراف أو الكونتات الذين ينتمون إلى أصل قوطي أو فرنجي. ولما ضعفت مملكة الفرنج وتخلت عن حماية الثغر وإمداده، وشعر أولئك الكونتات بقوتهم، ونأيهم عن الحكومة المركزية، أعلنوا استقلالهم، وانقسم الثغر إلى عدة إمارات أوكونتيات صغيرة كان أهمها إمارة برشلونة. وكان يحكمها في أواخر القرن العاشر آل بوريل، وفي عهدهم غزاها المنصور بن أبي عامر، واقتحمها وخربها، وذلك في سنة 375 هـ (985 م)، ولكنه لم يحاول الاحتفاظ بها. ولما سقطت الدولة العامرية واضطرمت الفتنة في قرطبة، سعي واضح الصقلبي في الاستعانة بأمير برشلونة الكونت رامون بوريل، وزميله كونت أرقلة، فسار معه لمقاتلة البربر لقاء أموال جزيلة، واشترك إلى جانب المهدي محمد بن هشام في المعارك التي وقعت يومئذ (400 هـ - 1010 م). ومنذ أوائل القرن الحادي عشر نرى برشلونة تحت حكم آل برنجير، وقد حكمها مؤسس هذه الأسرة الكونت رامون برنجير الكبير من سنة 1035 إلى سنة 1076 م، وفي عهده اتسعت رقعة الإمارة، وضمت إليها أرقلة وشرطانية (¬1)، ثم ضم إليها ولاية قرقشونة الفرنجية، في الناحية الأخرى من جبال البرنيه، وذلك بشرائها من ابنتى صاحبها الكونت روجر الثالث. وكان لضم هذا الجزء من أراضي لانجدوك إلى إمارة برشلونة نتيجة هامة، هي إعادة الصلة بين الثغر القوطي القديم، وجنوب فرنسا، والتمهيد بذلك لنزوح الفرسان الفرنج المغامرين، الذين تحدوهم روح صليبية، ويحدوهم البحث وراء طالعهم، والتحاق جموع كبيرة منهم بالجيوش النصرانية التي تقاتل المسلمين في شبه الجزيرة. وكان من أهم أعمال الكونت برنجير الأول، هي إصلاحاته القضائية، فقد استدعى في سنة 1068 م جمعية من الكبراء في برشلونة، وأصدر هذا البرلمان قانوناً جديداً سمي " بعرف برشلونة " Usages de Barcelona ليطبق إلى جانب القانون القوطي القديم. ¬_______ (¬1) أرقلة هي بالإسبانية Urgel، وشرطانية هي: Cerdana

ولما توفي رامون برنجير الأول خلفه ولداه برنجير ورامون في حكم الإماره معاً وفقاً لوصيته. ولكن الخلاف ما لبث أن نشب بينهما، وانتهى الأمر بالاتفاق على أن يتسمى كل منهما بكونت برشلونة، وأن يتناوبا الحكم كل ستة أشهر, وفي سنة 1082 م، قتل رامون غيلة، واتجهت الشبهة في ذلك إلى أخيه. وقام برنجير بحكم الإمارة منفرداً بالأصالة عن نفسه، وبصفته وصياً على ولد أخيه القاصر رامون الثالث. وكان بنو هود أمراء سرقسطة، وهم جيران إمارة برشلونة، يعتقدون في مقدرة الفرسان القطلان أبناء هذه الولاية، ويحصلون على معاونة آل برنجير من آن لآخر. وقد لعب أمراء برشلونة في ذلك الوقت الدور الذي لعبه معظم الملوك النصارى، في معاونة الأمراء المسلمين، سواء ضد أبناء دينهم المسلمين أو ضد النصارى أنفسهم. وقد أشرنا إلى ما وقع من ذلك في كثير من المواطن في أخبار مملكة سرقسطة ومملكة بلنسية. وكان أبرز دور قام به آل برنجير في ذلك هو استعانة المستعين بن هود بالكونت برنجير في مشروعه لافتتاح بلنسية. وكان الكونت يضطرم بغضاً نحو " السيد " ومشاريعه. فسار في قواته لمحاصرة بلنسية، ولبث على حصارها وقتاً، حتى اقترب " السيد " بقواته من المدينة، وتبادل السيد والكونت بعض رسائل التحدي المهينة، وأخيراً وقعت الحرب بينهما، فهزم الكونت وأسر، ولم يطلقه السيد إلا لقاء فدية كبيرة، ثم وقع التفاهم بينهما، وترك الكونت حصار المدينة وعاد بقواته (1090 م). ومما هو جدير بالذكر أن الكونت برنجير، اشترك قبل ذلك بقليل مع قوات ألفونسو السادس، في موقعة الزلاّقة (1086 م) إلى جانب باقي الملوك النصارى، إيماناً منهم جميعاً، بأنهم يقاتلون في معركة صليبية عامة. واستمر الكونت برنجير في حكم إمارة قطلونية حنى سنة 1092 م، ثم ترك الحكم لابن أخيه الفتى رامون برنجير الثالث، وسافر حاجاً إلى المشرق، فحكم رامون الإمارة بكفاية، وقاوم غزوات المرابطين فيما بعد بنجاح.

الفصل الثالث النصارى المعاهدون

الفصل الثالِث النصارى المعاهدون النصارى المعاهدون. مركزهم وأحوالهم في ظل الحكومة الإسلامية. أحوالهم في ظل الطوائف. مصانعة أمراء الطوائف لهم. تمتعهم بالتسامح في شرقي الأندلس. أحوالهم في مملكة سرقسطة. عدم ولائهم للحكومات المسلمة. مداخلتهم للملوك النصارى ومعاونتهم ضد المسلمين. صدى هذا الموقف في دول الطوائف. استدعاؤهم ألفونسو الأرجوني لغزو الأندلس. قيامه بالغزوة المنشودة. فتوى الفقهاء بخيانة المعاهدين ووجوب تغريبهم. ظهور مجتمع المدجنين في القواعد الإسلامية المفتوحة. يجدر بنا بعد أن تحدثنا عن تاريخ الممالك الإسبانية النصرانية، أن نعرض في شىء من التفصيل إلى موقف النصارى المعاهدين وأحوالهم في عصر الطوائف، وهو العصر الذي سرى فيه الانحلال السياسي والعسكري إلى اسبانيا المسلمة، ومزقتها الحروب الأهلية، وتطاولت عليها الممالك الإسبانية النصرانية. ونحن نعرف أن النصارى المعاهدين، كانوا منذ عهد الإمارة يكونون أقليات ذات شأن في القواعد الأندلسية الكبرى، مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وبلنسية وسرقسطة. وكانت هذه الأقليات النصرانية تعيش آمنة مطمئنة، في ظل الحكومة الإسلامية، تزاول نشاطها وشعائرها بمنتهى الحرية. ويتمتع النابهون من أبنائها بعطف الخلفاء وثقتهم وتقديرهم، ويشغل الكثير منهم مناصب هامة في الإدارة وفي القصر. وقد أشرنا فيما تقدم من أخبار الأمراء والخلفاء إلى كثير من أولئك النصارى البارزين. وكانوا إلى جانب اللغة العربية التي يتقنها الكثير منهم، يتكلمون لغتهم الرومانية الأصلية Romance، وهي اللغة التي كانت سائدة يومئذ في الممالك الإسبانية النصرانية، وكان يعرفها كثير من أكابر الصقالبة في البلاط الأندلسي، وبعض أكابر المسلمين من الوزراء والكتاب. وكانت هذه اللغة هي لغة النصارى المعاهدين المكتوبة، التي يستعملونها في مخاطباتهم ومعاملاتهم داخل المجتمع الإسلامي، الذي يعيشون فيه. وكان المسلمون يستعملون أحياناً بعض عبارات هذه اللغة الرومانية، وهي التي يسمونها " اللطينية " ولاسيما في بعض الرسائل العلمية (¬1). ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: Origines del Espanol, p. 418 & 421

فلما انهارت الخلافة، وانهارت معها الحكومة المركزية، وقامت دول الطوائف، طرأ تغير ملحوظ على أحوال النصارى المعاهدين. وبالرغم من أن هذا التغير لم يكن دائماً ضد مصالحهم أو حرياتهم، فإن مصايرهم وأحوالهم أضحت في كل دولة من دول الطوائف، تتوقف على ظروف تلك الدولة، وعلى سياسة حكومتها المحلية. ونستطيع أن نقول إن النصارى المعاهدين لقوا على وجه العموم في مختلف دول الطوائف نفس المعاملة الكريمة التي كانوا يلقونها في ظل حكومة الخلفاء، بل لقد كان في ظروف بعض هذه الدول، ما يحملها على اتباع سياسة خاصة، تتسم باللين والمصانعة نحو رعاياها النصارى، ولما عصفت ريح الحرب الأهلية بقرطبة، عقب انهيار الخلافة اضطربت أحوال المعاهدين بها، وقد كانوا يعطفون على الجهة العامرية، ويخشون من عسف البربر وطغيانهم، فلما بسط البربر سلطانهم على عاصمة الخلافة، أخذت جموع كبيرة منهم تغادر قرطبة في أثر الفتيان العامريين إلى شرقي الأندلس. ولما قامت دولة بني جهور في قرطبة، بذلت حكومة الجماعة جهدها لتأمين المعاهدين وحمايتهم، وندب أبو الوليد ابن جهور وزيره الشاعر الكبير ابن زيدون، " للنظر في شئون أهل الذمة في بعض الأمور المعترضة " (¬1). ولم تقتصر هذه العناية بشئون النصارى المعاهدين على حكومة قرطبة، بل لقد كانت معظم دول الطوائف الأخرى، تبذل جهوداً خاصة لتأمين المعاهدين وحمايتهم، وكسب مودتهم. وكانت بواعث هذه السياسة الودية واضحة، في الظروف التي كانت تجوزها دول الطوائف يومئذ. فقد كانت مملكة قشتالة ْالنصرانية تملك زمام التفوق العسكري، وكان ملك قشتالة ألفونسو السادس يرهق دول الطوائف بإغاراته المتوالية، ومطالبه المالية المغرقة، وكان ملوك الطوائف يتسابقون إلى خطب مودته، واتقاء شره، وكان منهم من يستعديه على جيرانه المسلمين. وكانت الأقليات النصرانية في القواعد الأندلسية، في مثل هذه الظروف تعتبر مكامن للخطر والدسائس، وكان ملوك الطوائف يحملون بذلك على مصانعتها ومداراتها. وكان بنو عباد في مقدمة أولئك الملوك الذين عملوا على حماية المعاهدين وكسب مودتهم، وقد كانوا أشد ملوك الطوائف سعياً ¬_______ (¬1) في " إعتاب الكتاب " لابن الأبار (مخطوط الإسكوريال) اللوحة - 6 أ.

إلى محالفة ملك قشتالة، واتقاء عاديته، وكان للنصارى المعاهدين في بلاطهم مكانة وظهور. ومنهم شعراء مثل ابن المرجري الإشبيلي، وابن مرتين. وكان قائد ابن عباد في فتح قرطبة، وهو محمد بن مرتين، من أصل نصراني، وبنو عباد هم الذين احتضنوا الكونت سسنندو في حداثته، وساعدوه على الظهور ورفعوا مكانته في بلاطهم، وأولوه ثقتهم، واستخدموه في أخص مهامهم السياسية (¬1). وكان بنو مناد البربر ملوك غرناطة يصطنعون اليهود في البداية، فلما أشتدت وطأتهم على صنهاجة. وانتهت إلى البطش بهم (سنة 459 هـ - 1066 م). جنح أمير غرناطة عبد الله بن بلقين حفيد باديس، إلى اصطناع النصارى، واضطر بضغط الظروف إلى محالفة ملك قشتالة، أو بعبارة أخرى إلى الانضواء تحت حمايته وتأدية الجزية له. وتمتع المعاهدون في غرناطة بالحماية والرعاية، وازدهرت أحوالهم واشتد ساعدهم، واتخذ الأمر عبد الله في بطانته، عدة من أكابر النصارى القشتاليين. يعاونونه في شئون الحرب والإدارة ومنهم عدة من أكابر الفرسان (¬2). وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يتمتع به النصارى المعاهدون في شرقي الأندلس ولاسيما في مملكة دانية من ضروب الرعاية والتسامح. وقد كان الفتيان الصقالبة الذين سيطروا على شرقي الأندلس من أشد الرؤساء تسامحاً نحو المعاهدين. وكان مجاهد العامري صاحب مملكة دانية والجزائر. ثم ولده على إقبال الدولة من بعده، كلاهما يبدي نحو رعاياه النصارى منتهى العطف والتسامح، وقد يرجع ذلك من بعض الوجوه إلى ما يقال عن " أصل مجاهد النصراني " وإلى أن زوجته كانت نصرانية، وكذلك ولده علي، فقد نشأ في حداثته بين نصارى ْسردانية، وتخلق بأخلاقهم واعتنق دينهم، قبل أن يعتنق الإسلام بعد عوده من الأسر، بيد أنه يجب أن نلاحظ إلى جانب ذلك، أن هذا التسامح نحو النصارى كان حسبما بينا في موضعه، سياسة متقررة لحكومة مجاهد وولده علي، وأنهما استطاعا بواسطة هذه السياسة المستنيرة، أن يجتنبا عدوان الملوك النصارى، وأن تتمتع مملكة دانية في ظلهما بفترات طويلة من السلام والرخاء. وثمة مملكة أخرى من ممالك الطوائف، كانت ظروفها تدعو إلى مزيد من ¬_______ (¬1) Isidro de las Cagigas: Los Mozarabes (Madrid 1947) T.II.p. 427 (¬2) Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 493

التسامح نحو رعاياها النصارى: تلك هي مملكة سرقسطة، فقد كانت بموقعها بين الممالك النصرانية الأربع، قشتالة ونافار، وأراجون وبرشلونة، وكونها تعتبر بهذا الوقع حاجزاً بين اسبانيا المسلمة، والممالك النصرانية من ناحية الشمال الشرقي، ثم بكونها تضم بين سكانها أقليات نصرانية كثيفة، كانت لذلك كله تجد نفسها مدفوعة بحكم الواقع والظروف إلى اتباع سياسة الاعتدال والتسامح نحو رعاياها النصارى، وقد كانت هذه المنطقة في الواقع وهي منطقة الثغر الأعلى منذ أيام بني قسيّ وبني الطويل وغيرهم من زعماء المولدين، ميداناً خصباً لالتقاء العناصر المسلمة والنصرانية وامتزاجها بقوة، وكانت بذلك مهداً لظهور المعاهدين، ومشاركتهم بقسط بارز في الحياة السياسية والاجتماعية. وكان بنو تجيب حكام الثغر الأعلى، ومن بعدهم بنو هود أصحاب مملكة سرقسطة يبسطون رعايتهم وحمايتهم على النصارى المعاهدين. وكان بنو هود بالأخص يشعرون بدقة مركزهم بين الممالك النصرانية، وتحفز هذه الممالك دائماً إلى التدخل في شئون مملكتهم وضغطها عليهم لاقتضاء الجزية، أو لاقتطاع بعض مدنهم وحصونهم، ويحاولون بسياسة التسامح المطلق نحو رعاياهم النصارى، أن يجتنبوا الدسائس والاضطرابات الداخلية، وأن يغنموا حياد الملوك النصارى وجنوحهم إلى المهادنة. وكان المقتدر بن هود. وهو أعظم ملوك سرقسطة من أشد أنصار هذا التسامح، وكان بين وزرائه المقربين وزير نصراني هو أبو عامر بن غند شلب Gundisalvo، وكان أديباً شاعراً. أجل وقعت في سرقسطة في سنة 1065 م في عهد المقتدر مذبحة للنصارى، وذلك على أثر عدوان النورمان الشنيع على مسلمي بربشتر، وكان فيه من الروع والإستثارة ما فيه. بيد أنه كان حادثاً مستقلا، ولم يلبث أن استدركت عواقبه. وقد رأينا من جهة أخرى كيف كان بنو هود، يعتمدون على محالفة جيرانهم من الملوك النصارى، ويحشدون المرتزقة النصارى في جيوشهم بصفة مستمرة، وكيف كانوا أول من استخدم السيد إلكمبيادور، واعتمدوا على محالفته زمناً (¬1). بيد أن هناك حقيقة يجب التنويه بها، وهو أن النصارى المعاهدين، بالرغم من هذه الرعاية والحماية، وهذا التسامح، التي كان يتبعها نحوهم ملوك الطوائف، ¬_______ (¬1) Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 448, 451, 452, 454, 462 & 463

سواء لبواعث كانت ترغمهم على اتباعها، أو لسياسة مستنيرة كانوا يؤثرونها، لم يشعروا قط بعاطفة من الولاء نحو تلك الحكومات المسلمة، التي كانت تبذل وسعها لحمايتهم واسترضائهم، بل لبثوا دائماً على ضغنهم وخصومتهم لها وتربصهم بها. ينتهزون أية فرصة للإيقاع بها، وممالأة الملوك النصارى، ومعونتهم بكل وسيلة على محاربتها، وتسهيل مهمتهم في غزوها والتنكيل بها. ولدينا في تاريخ الطوائف من ذلك أمثلة لا حصر لها. ففي قلمرية وافتتاحها (456 هـ - 1064 م) لعب النصارى المعاهدون - وقد كانوا كثرة هذه المنطقة - دوراً بارزاً في معاونة الجيش القشتالي المحاصر، وعاونه رهبان دير لورفان القريب من قلمرية بمؤنهم المختزنة، وسهلوا له بذلك الصمود، حتى اضطرت المدينة المحصورة إلى التسليم (¬1). ودأب النصارى المعاهدون في طليطلة أيام القادر بن ذى النون على تدبير الدسائس، وبث الفتن والاضطرابات داخل المدينة، والاتصال المستمر بألفونسو السادس وأعوانه، ومؤازرة الناقمين من المسلمين ضد الحكومة القائمة، والعمل بذلك على تحطيم كل جبهة للمقاومة الحقيقية، وانتهى الأمر بتذليل السبيل لألفونسو السادس لمحاصرة المدينة المفتوحة. ولعب النصارى المعاهدون في بلنسية مثل هذا الدور داخل بلنسية، لمعاونة السيد في مغامراته المتوالية لمحاصرة المدينة والاستيلاء عليها. وهكذا كان النصارى المعاهدون، في كل موطن وكل فرصة، يعملون ما وسعوا لتحطيم تلك الممالك الأسلامية التي تقوم بحمايتهم ورعايتهم، والتمهيد بذلك للقضاء عليها وسقوطها في أيدي الملوك النصارى. وهذا ما يعبر عنه الأستاذ بيدال بقوله: " إن نجم المعاهدين قد بزغ ثانية عقب انحلال الدولة الأندلسية وقيام دول الطوائف الضعيفة، واستطاعوا أن يؤدوا خدمات جليلة لقضية النصرانية والاسترداد النصراني (¬2). ومن ثم فإنا نجد، عقب سقوط طليطلة، واشتداد روح العدوان من جانب إسبانيا النصرانية، شعور التقاطع والريب، ينمو ويشتد ضد جماعات النصارى المعاهدين في مختلف القواعد الأندلسية، وترتفع أصوات الفقهاء بالاشتداد في معاملتهم، وتجريدهم من كثير من ضروب الحرية والتسامح، التي كانوا يتمتعون بها من قبل. ومن ذلك مثلا ما دعا إليه ابن عبدون في رسالته عن الحسبة وهي ¬_______ (¬1) راجع: Is.de las Cagigas: ibid ; T.II.p. 455 (¬2) R.M.Pidal: Origenes del Espanol, p. 424

التي وضعت في بداية العهد المرابطي، من أنه " يجب أن يقطع ببلاد الإسلام ضرب النواقيس " وأنه نظراً لفساد أخلاق القساوسة، يجب أن يؤمروا بالزواج كما في ديار المشرق، ويجب ألا يترك في دار القسيس امرأة ولا عجوز ولا غيرها، كما يجب أن تمتنع النساء الإفرنجيات من الدخول إلى الكنيسة إلا في يوم فضل أو عيد، ويجب ألا يباع من اليهود أو النصارى كتاب علم إلا ما كان من شريعتهم، لأنهم يترجمون كتب العلوم، وينسبونها إلى أهلهم وأساقفتهم، وهي من تواليف المسلمين، كما يجب أن يمنع الأطباء اليهود أو النصارى من معالجة المسلمين (¬1). فهذه الدعوات وأمثالها، إلى التشدد في معاملة المعاهدين، لم تكن إلاّ صدى لمواقفهم المتسمة بالعدوان والخيانة. وكانت تلقى في ظل الحكم المرابطي، المتسم بروح التزمت الديني قبولا. وقد بلغ اجتراء المعاهدين وخيانتهم ذروتها، حينما عملوا على استدعاء ألفونسو المحارب ملك أراجون، لغزو الأندلس، ووعدوه بأن ينضموا ألوفاً إلى جيشه متى اخترق الأندلس. وقام ألفونسو بالفعل بالغزوة المنشودة، فخرج من سرقسطة في سبتمبر سنة 1125 م (519 هـ)، في عهد أمير المسلمين علي بن يوسف، واخترق الأندلس، من الجانب الشرقي ماراً بقرب بلنسية ودانية ومرسية، وهو يعيث في بسائطها، والمعاهدون يحشدون في جيشه من كل صوب، واستمر في سيره حتى وادي آش، ووصل إلى ظاهر غرناطة في شهر يناير من العام التالي (1126 م)، ولكنه أدرك أنه لايستطيع أن ينال منها مأرباً. وهنالك بعث إلى زعيم المعاهدين بغرناطة يلومه لتقصيرهم في معاونته، فردوا عليه بأنه هو الذي أضاع الوقت في زحفه الطويل سدى، ثم أخذت القوات المرابطية بقيادة الأمير أبي الطاهر تميم تلاحقه وترهقه باستمرار، وهو يتجول بقواته في شمال غرناطة، ووقعت بينه وبين المرابطين في مارس (1126 م) في فحص الرنيسول موقعة هزم فيها المرابطون. بيد أنه لم يستطع الاستفادة من نصره، فاستمر في زحفه جنوباً، واخترق هضاب البشرّات حتى شاطىء البحر المتوسط، ثم عاد إلى الشمال، وقد خسر كثيراً من جنده بسبب الإعياء والوباء. وكان من أثر هذا العدوان الجسيم، أن قرر أمير المسلمين، وفقاً لفتاوي ¬_______ (¬1) رسالة ابن عبدون في الحسبة ص 55 و 57.

الفقهاء، تغريب النصارى المعاهدين، لأنهم نقضوا العهد وخرجوا عن الذمة, وأبعدت منهم بناء على ذلك عن الأندلس ألوف عديدة، فرقت في مختلف أنحاء إفريقية (¬1). وثمة ظاهرة أخرى برزت في أواخر عهد الطوائف، وترتبت على سقوط طليطلة وغيرها من القواعد الأندلسية القديمة في يد القشتاليين، ثم سقوط سرقسطة وأعمالها بعد ذلك بقليل في يد ملك أراجون (512 هـ - 1118 م). فإلى ذلك الحين كانت المشكلة العنصرية والدينية. تنحصر في جانب واحد، وهو أقليات النصارى المعاهدين التي تعيش في القواعد الأندلسية تحت الحكم الإسلامي. ولكن تبرز من ذلك الحين مشكلة عنصرية دينية مقابلة، هي مشكلة الأقليات المسلمة التي بقيت في القواعد الأندلسية المفتوحة تحت الحكم النصراني، وأولئك هم المدجّنون، (وبالإسبانية Mudéjares) الذين يبدأ ذكرهم في التواريخ الأندلسية، منذ أوائل القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، والذين تزداد جموعهم تباعاً كلما سقطت قاعدة أندلسية جديدة في أيدي النصارى (¬2). ¬_______ (¬1) راجع الحلل الموشية ص 70 و 71. وكذلك R.M.Pidal: Origenes del Espanol, p. 425 و F.Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides, p. 15 & 16 (¬2) تحدثنا عن أحوال المدجنين بإفاضة في كتابنا " نهاية الأندلس " وهو العصر الرابع من كتاب دولة الإسلام في الأندلس (الطبعة الثالثة) ص 55 - 67.

خاتمة خَواصّ عَصْر الطوائفْ االسياسية والاجتماعيّة والحضاريّة

- 1 - الخواص السياسية الآن وقد انتهينا من أخبار ممالك الطوائف، واستعراض الأحداث التي مرت بها، منذ إنشائها حتى سقوطها، وتقديم زعمائها وملوكها، في صورهم السياسية والأدبية، ووصف قصورهم وخططهم، نرى لزاماً علينا أن نستعرض خواص هذه الحقبة من تاريخ اسبانيا المسلمة، وهي حقبة فياضة بالأحداث والمحن المثيرة، وأن نستعرض خواص مجتمع الطوائف، وأحواله المادية والأدبية والاجتماعية. لقد شغل عصر الطوائف من حياة الأمة الأندلسية نحو ثمانين عاماً، وكان عصر تفكك وانحلال سياسي واجتماعي شامل، بالرغم مما كان يبدو في بعض نواحيه من جوانب براقة. والواقع أن هذه الدول الصغيرة، التي قامت على أنقاض الأندلس الكبرى، والتي كانت تتسم بسمة الملك، وتزعم لنفسها الاستقلال بشئونها، كانت تنقصها من الناحية النظامية، عناصر الدولة المستقرة، ولم تكن - إذا استثنينا القليل منها - سواء برقاعها الإقليمة، ومواردها المادية، تستطيع الحياة بمفردها، أو تستطيع الاستقلال بشئونها السياسية أو العسكرية، وإنما كانت دول الطوائف أقرب منها إلى وحدات الإقطاع، وإلى عصبة الأسرة القوية ذات العصبية، أو الجماعة القبلية في حالة الإمارات البربرية، ومن ثم فإنه لم تكن بها حكومات منظمة بالمعنى الصحيح، تكون مهمتها الأساسية، أن تعمل لخير الشعب ورخائه، وصون الأمن والنظام، وإنما كانت بها أسر أو زعامات، تعمل قبل كل شىء لمصلحتها الخاصة، ولرفعة شأنها، وتنمية ثرواتها، وتدعيم سلطانها وبذخها. وكان الشعب في ظل هذه الأسر أو الزعامات القوية، لا حساب له، وليس عليه إلا أن يخضع لما يفرض عليه من مختلف المغارم والفروض، التي يستخدمها الأمير لإقامة بلاطه الفخم أولا، ثم لحشد الجند الذين هم سياج ملكه

وسلطانه، وأخيراً لتنفيذ مشاريعه السياسية والعسكرية، وهي لا تخرج غالباً عن مهاجمة زميله وجاره الأضعف منه، وانتزاع ما في يده، وقلما تتجه إلى القضية الكبرى، قضية الدفاع عن الأندلس ضد عدوها الخالد، الدائب لمقارعتها وتحطيمها، ونعني اسبانيا النصرانية. ولقد كان ملوك الطوائف في ذلك أسوأ قدوة. كانوا ملوكاً ضعافاً في وطنيتهم، ضعافاً في دينهم، غلبت عليهم الأثرة والأهواء الشخصية إلى أبعد الحدود، ونسوا في غمارها وطنهم، ودينهم، بل نسوا حتى اعتبارات الكرامة الشخصية، واستساغوا لأنفسهم أن يتراموا على أعتاب الملوك النصارى، وأن يستعدوهم بعضهم على بعض، لا في سبيل قضية محترمة، ولكن لاقتطاع بلدة أو حصن من مملكة شقيقة، أو التنكيل بأحد الأمراء المجاورين وقد انتهى أمراء الطوائف في ذلك إلى درك، يستحق أن يوصف بأقسى النعوت، ويكفي أن نستعرض في ذلك, موقف ملوك الطوائف إزاء نكبة طليطلة، وتخاذلهم جميعاً عن انجادها وقت أن حاصرها ملك قشتالة وصمم على أخذها، وهم جميعاً - إلا واحداً منهم هو أمير بطليوس الشهم - ينظرون إلى استشهاد المدينة المسلمة، جامدين لا يطمعون إلا في رضاء ملك قشتالة، وفي سلامة أنفسهم. وقد كان ملك قشتالة يعاملهم حسبما رأينا في غير موطن، معاملة الأتباع، ويبتز منهم الأموال الطائلة، باسم الجزية، ويعامل رسلهم وسفراءهم معاملة الخدم، ويكفي أن نتلو في ذلك ما سطره ابن بسام في الذخيرة، من وصف مثول سفراء ملوك الطوائف لدى ملك قشتالة، وقت نزوله أمام طليطلة، وهي على وشك التسليم إليه، وما كان يتسم به موقفهم من المذلة والخنوع، وفقد كل كرامة قومية (¬1). ولم يكن ملوك الطوائف في سياستهم الداخلية، وإزاء شعوبهم، أفضل موقفاً، ولا أكرم تصرفاً. فقد كانوا طغاة قساة على رعيتهم، يسومونهم الخسف، ويثقلون كواهلهم بالفروض والمغارم لملء خزائنهم وتحقيق ترفهم وبذخهم. ولم يكن يردعهم في ذلك رادع، لا من الدين، ولا من الأخلاق. وقد كانت سياستهم الداخلية هذه، مثل سياستهم الخارجية، موضع السخط من شعوبهم، والطعن المر من معاصريهم من الكتاب والمفكرين. وقد صدرت ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الرابع المجلد الأول ص 129 و 130.

للفيلسوف ابن حزم، وهو من أعظم مفكري عصر الطوائف، عن فتنة الطوائف، ودولها، وأمرائها المستهترين، ومجتمعها المنحل، وحكوماتها الباغية، طائفة من الأقوال والأحكام الصادقة، وردت في رسالته المعنونة " التلخيص لوجوه التخليص ". وهي عبارة عن ردود على بعض أسئلة في شئون دينية وفقهية، وجهت إليه من بعض أصدقائه، ومنها سؤال يتعلق بأمر الفتنة، وآخر عن وجه السلامة في المطعم والملبس والمكسب، وتتضمن هذه الأقوال من النظرات الثاقبة، والأحكام القاطعة، ما يدمغ مجتمع الطوائف بشدة وقسوة، وهي مع سلامة منطقها، وعدالتها، مما يبعث إلى النفس أشد ضروب الأسى والألم، فهو يصف لنا فتنة الطوائف وتصرفات ملوكها على النحو الآتي: " وأما ما سألتم من أمر هذه الفتنة، وملابسة الناس بها، مع ما ظهر من تربص بعضهم ببعض، فهذا أمر امتحنا به، نسأل الله السلامة، وهي فتنة سوء، أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى، من وجوه كثيرة يطول لها الخطاب. وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شىء من أندلسنا هذه، أولها عن آخرها، محارب لله تعالى ورسوله، وساع في الأرض بفساد. والذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارهم، وإباحتهم لجندهم قطع الطريق على الجهة التي يقضون على أهلها، ضاربون للمكوس والجزية على رقاب المسلمين، مسلطون لليهود على قوارع طرق المسلمين في أخذ الجزية، والضريبة من أهل الإسلام، معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله، غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم، فلا تغالطوا أنفسكم، ولا يغرنكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه، اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع، المزيفون لأهل الشر شرهم، الناصرون لهم على فسقهم " (¬1). وقد كان الفقهاء في الواقع، في هذا العصر الذي ساد فيه الانحلال والفوضى الأخلاقية والاجتماعية، أكبر عضد لأمراء الطوائف في تبرير طغيانهم وظلمهم، ¬_______ (¬1) نشر الأستاذ ميجيل آسين بلاثيوس M. Asin Palacios بعض مقتطفات من هذه الرسالة في مجلة الأندلس. Al - Andalus (ano 1934) , p. 35-37 ثم نشرت الرسالة بعد ذلك كاملة ضمن مجموعة رسائل أخرى لابن حزم بعنوان " الرد على ابن النغريلة اليهودي ورسائل أخرى " (القاهرة سنة 1960)، ص 139 - 185.

وتزكية تصرفاتهم، وابتزازهم لأموال الرعية، وقد كانوا يأكلون على كل مائدة، ويتقلبون في خدمات كل قصر، ليحرزوا النفوذ والمال، ويضعون خدماتهم الدينية والفقهية لتأييد الظلم والجور، وخديعة الناس باسم الشرع، وقد انفسح لهم بالأخص في ظل دول الطوائف مجال العمل والاستغلال والدس، واحتضنهم الأمراء الطغاة، وأغدقوا عليهم العطاء. ولم يفت مؤرخ العصر أبو مروان ابن حيان، أن ينوه بهذا التآلف والتضامن بين الأمراء والفقهاء. في تأييد الظلم والفساد. والخروج على أحكام الدين، وإليك ما يقوله لنا في ذلك: " ولم تزل آفة الناس مذ خلقوا في صنفين كالملح: فيهم الأمراء والفقهاء قل ما تتنافر أشكالهم، بصلاحهم يصلحون، وبفسادهم يفسدون، فقد خص الله تعالى هذا القرن الذي نحن فيه من اعوجاج صنفيهم لدينا بما لا كفاية له، ولا مخلص منه، فالأمراء القاسطون، قد نكبوا بهم عن نهج الطريق ذياداً عن الجماعة، وجرياً إلى الفرقة، والفقهاء أئمتهم صموت عنهم، صدف عما أكده الله عليهم من التبيين لهم، قد أصبحوا بين آكل من حلوائهم. وخابط في أهوائهم، وبين مستشعر مخافتهم، آخذاً بالتقية في صدقهم " (¬1). وقد قاسى الشعب الأندلسي في ظل طغيان الطوائف، كثيراً من ضروب الاضطهاد والظلم، ولم يكن ذلك قاصراً على متاعب الفوضى الاجتماعية الشاملة، التي كان يعيش في غمارها، وانقلاب الأوضاع في سائر مناحي الحياة، وتوالي الفتن والحروب الداخلية، ولكنه كان يقاسي في نفس الوقت من جشع أولئك الأمراء الطغاة، الذين كانوا يجعلون من ممالكهم ضياعاً خاصة، يستغلونها بأقسى الوسائل وأشنعها، ويجعلون من شعوبهم عبيداً يستصفون ثرواتهم، وثمار كدهم، إرضاء لشهواتهم في إنشاء القصور الباذخة، واقتناء الجواري والعبيد، والانهماك في حياة الترف الناعم، والإغداق على الصحب والمنافقين، هذا فضلا عن حشد الجند، لإقامة نيرهم، وتدعيم طغيانهم. وقد ترتب على ذلك أن انهارت المعايير الأخلاقية، واختلط الحق بالباطل، والحلال بالحرام، ولم يعد الناس يعتدون بالوسيلة، بل يذهبون إلى اقتضاء الغاية، وتحقيق الكسب بأي الوسائل. وقد شرح لنا الفيلسوف ابن حزم طرفاً من هذه الفوضى الاجتماعية ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الثالث - المخطوط لوحة 34 ب. ونقله البيان المغرب ج 3 ص 254.

والأخلاقية، ووصف لنا إلى أي حد كان يذهب أمراء الطوائف، في إرهاق شعوبهم بالمغارم الفادحة، وإليك ما يقوله في ذلك: " وأما الباب الثاني. فهو باب قبول المتشابه، وهو في غير زماننا هذا باب جديد لا يؤثم صاحبه، ولا يؤجر، وليس على الناس أن يبحثوا عن أصول ما يحتاجون إليه في أقواتهم ومكاسبهم، إذ كان الأغلب هو الحلال، وكان الحرام مغموراً. وأما في زماننا هذا وبلادنا هذه. فإنما هو باب أغلق عينيك، واضرب بيديك، ولك ما تخرجه إما ثمرة وإما جمرة. وإنما فرقت بين زماننا هذا والزمان الذي قبله، لأن الغارات في أيام الهدنة لم تكن غالبة ظاهرة كما هي اليوم، والمغارم التي كان يقبضها السلاطين، فإنما كانت على الأرضين خاصة، فكانت تقرب مما فرض عُمر على الأرض. وأما اليوم فإنما هي جزية على رؤوس المسلمين، يسمونها بالقطيعة، ويؤدونها مشاهرة، وضريبة على أموالهم من الغنم والبقر والدواب والنحل، يرسم على كل رأس، وعلى كل خلية شىء ما، وقبالات ما يؤدي على كل ما يباع في الأسواق، وعلى إباحة بيع الخمر من المسلمين في بعض البلاد، هذا كله ما يقبضه المتغلبون اليوم، وهذا هو هتك الأستار، ونقض شرائع الإسلام، وحل عراه عروة عروة، وإحداث دين جديد، والتخلي من الله عز وجل ". ويحمل ابن حزم بعنف، على استهتار أمراء الطوائف بأحكام الدين، وما اتسموا به من ضعف الإيمان والعقيدة، ويؤكد لنا أنهم لو وجدوا في اعتناق النصرانية، وسيلة لتحقيق أهوائهم ومصالحهم، لما ترددوا في اعتناقها، ونحن نقتبس هنا عباراته اللاذعة المؤسية معاً: " والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم، لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى، فيمكنونهم من حُرَم المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يحملونهم أسارى إلى بلادهم، وربما يحمونهم عن حريم الأرض وحشرهم معهم آمنين، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً، فأخلوها من الإسلام، وعمروها بالنواقيس، لعن الله جميعهم، وسلط عليهم سيفاً من سيوفه " (¬1). ¬_______ (¬1) راجع أقوال ابن حزم التي نشرت بعناية الأستاذ بلاثيوس في مجلة "الأندلس": Al - Andalus, (ano 1934) p. 37 وفي الرسالة التي سبقت الإشارة إليها ص 173 - 177.

ونحن لا نستطيع أن نتهم ابن حزم، وهو فيلسوف عصره المتزن، البعيد النظر، النافذ الملاحظة، بالمبالغة والتحامل، وهو قد شهد بنفسه أحداث العصر، وفضائح ملوك الطوائف، وأصدر عليها تلك الأحكام القاسية، التي نراها ماثلة في غير موضع من تعليقاته على حوادث عصره (¬1). وقد توفي ابن حزم في سنة 456 هـ (1064 م). وممالك الطوائف في إبان قوتها وعنفوانها، وقبل أن تنحدر إلى ما انحدرت إليه فيما بعد من الإنحلال المعنوي الشامل، وقبل أن يتهالك أمراؤها في الترامي على أعتاب ملك قشتالة، وينحدرون على يديه إلى أسفل درك من الذلة والمهانة. ولو شهد الفيلسوف هذه المرحلة الأخيرة من انحلال ممالك الطوائف، لكان بلا ريب في تعليقاته وأحكامه أشد قسوة وعنفاً. - 2 - الخواص العلمية والأدبية على أنه لمما يلفت النظر حقاً، أن ممالك الطوائف، كانت خلال هذا الانحلال الشامل، تبدو في أثواب لامعة زاهية. وإذا لم يكن يسودها النظام والاستقرار دائماً، فقد كانت في الفترات القليلة التي تجانب فيها الحرب الأهلية، تتمتع بقسط لا بأس به من الرخاء، وتغمرها الحركة والنشاط. وكان ملوك الطوائف. بالرغم من طغيانهم المطبق, ومن الصفات المثيرة التي كان يتصف بها الكثير منهم، من حماة العلوم والآداب. وإنها لظاهرة من أبرز ظواهر عصر الطوائف، أن يكون معظم الملوك والرؤساء من أكابر الأدباء والشعراء والعلماء، وأن تكون قصورهم منتديات زاهرة. ومجامع حقة للعلوم والآداب والفنون، وأن يحفل هذا العصر بجمهرة كبيرة من العلماء والكتاب والشعراء الممتازين, ومنهم بعض قادة الفكر الأندلسي، والفكر الإسلامي بصفة عامة. ولنبدأ الحديث في ذلك عن قصور عصر الطوائف وأمرائه. فلقد كانت هذه القصور المنتثرة في رقعة الوطن الأندلسي الكبرى، وكل منها يدعي السيادة على مدن ورقاع محدودة، تسطع ليس فقط بفخامتها وروعتها وبذخها، ولكن كذلك بأمرائها ووزرائها وكتابها. الأدباء والشعراء. وقد ازدهر الشعر الأندلسي ¬_______ (¬1) تراجع تعليقات ابن حزم على بعض فضائح عصره في " نقط العروس " ص 83 و 84 و 89.

بالأخص في عصر الطوائف، وبلغ في ذلك مدى لم يبلغه في أي عصر آخر. ويعلل الأستاذ نِكِل ذلك بأنه يرجع بالأخص إلى ما كان يتسم به هذا العصر من حريات، ترتب عليها الإغضاء عن كثير من القيود الدينية، ولاسيما ما تعلق منها بتحريم الخمر، وحجب المرأة، وإلى ذيوع العلاقات الغرامية بين الجنسين (¬1) كان ملوك الطوائف حسبما تقدم، يتسمون بضعف الإيمان والعقيدة، والاستهتار بأحكام الدين، وكان الكثير منهم يجاهرون بالمعاصي، وارتكاب الأمور المحرمة، وهو ما يسجله عليهم الفيلسوف ابن حزم فيما تقدم من أقواله. وقد كانت قصورهم المترفة الأنيقة، كما تزدان بمجالس الشعر والأدب، تحفل في الوقت نفسه بمجالس الأنس والطرب، والنساء والغلمان والخمر، وهي أمور تشغل حيزاً كبيراً في آداب العصر وشعره. وكانت مجتمعات الطوائف المرْهقة المنحلة، تتأثر بهذه الروح الإباحية، وتجنح إلى اجتناء المتعة المادية والملاذ الحسية بمختلف ضروبها، وكان هذا الانحلال الشامل يجتاح يومئذ سائر طبقات المجتمع الأندلسي. على أن النهضة الأدبية والفكرية التي امتاز بها عصر الطوائف، ترتفع مع ذلك فوق مستوى هذا الانحلال وتبرز قوية وضاءة. ولقد كانت هذه القصور المترفة المرحة نفسها، أكبر مبعث لهذه النهضة، وكان أولئك الملوك المستهترون أنفسهم دعاتها وحماتها، وكانت قصور الطوائف تتنافس في هذا الميدان وتتسابق، شعوراً منها بما تجتنيه من وراء ذلك من فخار ومجد، وما تسجله روائع المنظوم والمنثور من ذخر وذكر. وكان من بين هذه القصور ثلاثة امتازت بنوع خاص، بمشاركتها في النهضة الأدبية والشعرية، هي بلاط بني عباد بإشبيلية، وبلاط بني الأفطس ببطليوس، وبلاط بني صمادح بألمرية. كان بنو عباد، وهم كما رأينا، أعظم ملوك الطوائف قوة وجاهاً وملكاً، من أعظم رواد هذه النهضة الأدبية والفكرية التي سادت هذا العصر، وقد سبق أن أشرنا إلى ما امتازت به هذه الأسرة النابهة من نبوغ في ميدان الشعر والأدب، وقد برز منهم بالأخص المعتضد بن عباد، وولده المعتمد، وترك لنا كلاهما طائفة كبيرة من روائع نظمه. ويمتاز شعر المعتضد بنزعة إلى الفخر والمجد وشهرة ¬_______ (¬1) الشعر الأندلسي: A.R.Nykl: Hispano - Arabic Poetry: (Baltimore 1946, p. 72

الجود. أما المعتمد بن عباد فقد كان بلا ريب من أعظم شعراء عصر الطوائف، إن لم يكن أعظمهم جميعاً. ويرى الأستاذ نكل أنه " أبرز ممثل للشعراء الأندلسيين العرب في النصف الثاني للقرن الحادي عشر " وأنه " يتزعم هذا العصر بشخصيته المتسمة بالفروسية، ويعتبر أسطع نجم في باقة النجوم الكبرى لملوك الطوائف الآخرين " (¬1). وقد ترك لنا المعتمد بنوع خاص طائفة من أروع القصائد التي نظمها أيام مجده، ثم بعد ذلك خلال محنته. في التلهف على ماضيه والبكاء على مصيره، وقد أوردنا فيما تقدم مقتطفات من شعره، في مختلف المناسبات والأحداث. وكان بنو عباد فضلا عن مواهبهم الأدبية والشعرية الرفيعة، يجمعون في بلاطهم، وهو أزهى قصور الطوائف في هذا المضمار. جمهرة من أكابر شعراء العصر وكتابه، سواء برسم الوزارة أو الكتابة أو الانتظام بين صحب الأمير ومستشاريه، أو لمجرد الرعاية والحماية. وكان من هؤلاء حسبما أسلفنا شعراء عظام مثل أبى بكر بن عمار الشاعر الذكي المبدع، وقد أتينا على أحداث حياته فيما تقدم، وأبى الوليد بن زيدون الذي يصفه الأستاذ نكل بأنه " شاعر عظيم للحب "، ويعتبره مثلا " لأبدع نموذج للأسلوب العربي الكلاسيكي. وفي وسعنا أن نقارنه بالمتنبي والبحتري ". وقد قارن العلامة دوزي، ابن زيدون في حياته الغرامية بالشاعر اللاتيني تيبولوس في حبه " لدِلْيا "، ولكن الأستاذ نكل لا يقر هذه المقارنة إلا من حيث الناحية الغرامية، وعنده أن المظاهر الشعرية تختلف بين الشاعرين الأندلسي واللاتيني، " كما تختلف الأزهار لوناً وعطراً " (¬2). والواقع أن حب ابن زيدون لولادة بنت الخليفة المستكفي (¬3)، كان أعظم حدث في حياته، وكان أعظم وحي لروائع شعره. وكانت ولادة ابنة جارية نصرانية، وكانت ناصعة المحيا، زرقاء العينين، حمراء الشعر، رائعة الحسن. ويصفها ابن بسام بقوله: " وكانت في ¬_______ (¬1) A.R.Nykl: ibid ; p. 72 & 130 (¬2) A.R.Nykl: ibid ; p. 109 (¬3) وهو محمد بن عبد الله بن الناصر لدين الله. تولى الخلافة في ذي القعدة سنة 414 هـ باسم المستكفي بالله، ثم خلع وفر من قرطبة في ربيع الأول سنة 416 هـ (1025 م) واغتاله في الطريق بعض أصحابه.

نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب وكرم أنساب، وطهارة أثواب. على أنها، سمح الله لها وتغمد زللها، طرحت التحصيل، وأوجدت للقول فيها السبيل، بقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها " (¬1). وهام ابن زيدون في شبابه بولادة أيام خدمته لبني جهور، وتوثقت علائقه بها مدة من الزمن، ونظم في حبها طائفة من أروع قصائده، ثم ساءت العلائق بينهما، وهجرته ولادة وهو يستعطفها بقصائد مؤثرة. وكان ينافسه في ودها رجل من سراة قرطبة يدعى أبو عامر بن عبدوس تزوجته ولادة فيما بعد، وانتهى الأمر بأن زج ابن زيدون إلى السجن إما لريبة علقت بولائه لابن جهور، أو نتيجة لمكيدة دبرها له خصمه ومنافسه ابن عبدوس. وقد وجه ابن زيدون إلى منافسه وخصمه ابن عبدوس هذا، رسالة لوم وتقريع، تفيض بألوان مؤلمة من التهكم والتشبيهات، والمقارنات، وينعته في أولها " بالمصاب بعقله، المورط بجهله، البين سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره ". ثم يفيض في وصفه وتشبيهه بأسلوب ساخر مقذع، وقد اشتهرت رسالة ابن زيدون هذه، واعتبرت من الطرائف الأدبية وعملت لها شروح عديدة (¬2). ثم فر ابن زيدون من سجنه، وغادر قرطبة إلى إشبيلية وذلك في سنة 441 هـ (1049 م) والتحق ببلاط المعتضد بن عباد، وخدمه وعلت مكانته لديه. ولما توفي المعتضد استمر في خدمة ولده المعتمد، وتوفي في سنة 463 هـ (1071 م). وقد ترك لنا ابن زيدون ثروة كبيرة منوعة من نظمه الرائق، ومنها قصائد تعتبر من أروع ما يحتويه الشعر الأندلسي (¬3)، وفيها يبلغ النسيب ذروة الإبداع الروحي والحسي، ¬_______ (¬1) الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 376. (¬2) ومنها شرح مخطوط لابن نباته المصري عنوانه " سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون " يحفظ بالمتحف البريطاني برقم Or. 8578 وقد طبع هذا الشرح بمصر غير مرة. (¬3) راجع في حياة ابن زيدون وشعره: الذخيرة، القسم الأول المجلد الأول ص 289 - 376، وقلائد العقيان ص 70 - 83.

وكان لحبه لولادة بلا ريب أعمق تأثير في نفسه وروحه، وهو تأثير يشيد به النقد الحديث. يقول الأستاذ نكل " وبغير هذا التأثير كان شعر ابن زيدون يبقى ناقصاً بعضاً من أثمن جواهره " (¬1). وإلى جانب هذين الشاعرين العظيمين، ابن عمار وابن زيدون، كان بلاط إشبيلية يضم طائفة أخرى من أكابر شعراء العصر، منهم أبو بكر محمد بن عيسى الداني المعروف بابن اللبانه وأصله من دانية، كما يدل على ذلك اسمه، وبرع في الشعر منذ صباه، واتخذه وسيلة للتكسب والعيش، وتجول بين قصور الطوائف يمتدح ملوكهم. ثم اتصل ببلاط إشبيلية، وغدا شاعر المعتمد الأثير لديه، وقد نظم في مديحه كثيراً من قصائده. ولما ذهبت دولة المعتمد، ونفي أسيراً إلى المغرب، زاره أبو بكر بأغمات، وله في دولة المعتمد وأيامه، وفي محنته وأسره، قصائد كثيرة، وله كتاب في تاريخ بني عباد سبقت الإشارة إليه. ولحق في أواخر أيامه بجزيرة ميورقة، ومدح صاحبها مبشر العامري وحظى لديه. ومنهم عبد الجليل بن وهبون، وهو صديق ابن عمار ومرثيه، وأبو الحسن الحصرى، وأصله من القيروان. وقد خدم المعتضد ثم المعتمد، وتوفي بطنجة سنة 488 هـ. ومنهم شاعر فذ من الوافدين على الأندلس، هو عبد الجبار ابن أبى بكر بن محمد الأزدي الصقلي المعروف بابن حمديس، وقد ولد بسرقوسة سنة 447 هـ (1055 م)، ولما غزا النورمان صقلية في سنة 471. (1078 م) سار إلى تونس ثم إلى إشبيلية والتحق ببلاط المعتمد، ونظم في مديحه كثيراً من القصائد، وظهر بروعة افتنانه ولاسيما في شعره الوصفي. ولما أسر المعتمد زاره في أغمات وأقام لديه مدة، ثم سار ابن حمديس بعد ذلك إلى المهدية وخدم ملكها وتوفي سنة 527 هـ (1132 م). وأما عن الكتاب الذين خدموا في بلاط إشبيلية، وازدهروا في ظل بني عباد، فقد أشرنا إلى الكثير منهم، خلال حديثنا عن أخبار مملكة إشبيلية، وإنما أردنا أن نخص الشعراء بالذكر هنا لما كان لبني عباد في هذا الميدان من رياسة ومواهب عالية، ولما كان لدولة الشعر في ظلهم من رعاية خاصة، وقد كان بنو عباد ¬_______ (¬1) A.R.Nykl: ibid ; p. 119

أوفر أمراء الطوائف عناية بالحركة الأدبية وإمدادها بالبذل الوفير (¬1). ولم يكن يجاريهم في ذلك أي بلاط آخر من قصور الطوائف. وكان بنو الأفطس، ملوك بطليوس، كذلك من حماة الشعر والأدب، وكان بلاطهم ولاسيما في عهد عميدهم المظفر، وولده عمر المتوكل، ملاذاً لطائفة من أعظم شعراء العصر، وفي مقدمتهم وزيرهم الشاعر والكاتب الكبير أبو محمد عبد المجيد بن عبدون المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، وبنو القبطرنة الثلاثة أبو بكر وأبو محمد وأبو الحسن أبناء عبد العزيز البطليوسي، وقد كانوا أيضاً من وزراء بني الأفطس، ومن شعرائهم المجيدين. وقد ذكرهم ابن بسام في الذخيرة ووصفهم بأنهم من " أسرة أصالة، وبيت جلالة، أخذوا العلم أولا عن آخر، وورثوه كابراً عن كابر، ثلاثة كهقعة الجوزاء، وان أربوا عن الشهر في السنا والسناء " ووصفهم ابن الخطيب بأنهم " كانوا عيوناً من عيون الأدب بالأندلس، ممن اشتهروا بالظرف والشرف والجلالة ". وقد برع ثلاثتهم في النظم والكتابة، وكتبوا بعد بني الأفطس لعاهل لمتونة، يوسف بن تاشفين. ومن نظم أبي محمد قوله: هلم إلى روضنا يا زهـ ... ـير ولح في سماء المنى يا قمر وفوِّق إلى الأنس سهم الأخا ... ء فقد عطلت قوسه والوتر إذا لم تكن عندنا حاضرا ... فما يغصون الأماني ثمر وقعتَ من القلب وقع المنى ... وحُزت من العين حسن الحَوَر ومن شعر أبى بكر قوله: ْيا أخي قم تر النسيم عليلا ... باكر الروض والمدام شمولا في رياض تعانق الزهر فيها ... مثل ما عانق الخليل خليلا لا تنم واغتنم مسرة يوم ... إن تحت التراب نوماً طويلا (¬2) وأما ابن عبدون فقد اشتهر بالأخص بمرثيته الشهيرة لبني الأفطس عقب ذهاب دولتهم، وهي قصيدته المعروفة " بالعبدونية "، وقد أتينا على ذكرها فيما تقدم. ويصفها الأستاذ نكل بأنها " مزيج مدهش من الشعور العميق، والمتانة ¬_______ (¬1) نفح الطيب (عن رسالة الشقندي) ج 2 ص 140. (¬2) راجع كتاب " الإحاطة في أخبار غرناطة " (القاهرة 1956) ص 527 - 530.

التاريخية ". وكان المظفر بن الأفطس نفسه من أكبر أدباء عصره وأغزرهم مادة، وقد اشتهر بكتابه أو مصنفه الأدبي والتاريخي الكبير المسمى " بالمظفري " والذي قيل إنه كان يحتوي على مائة مجلد مليئة بالأخبار والفنون الأدبية (¬1). وكذا كان ولده عمر المتوكل عالماً وشاعراً كبيراً. وكان يجتمع في بلاط ألمرية حول بني صمادح، جمهرة من أقطاب الشعر والأدب، في مقدمتهم أبو عبد الله محمد بن عباد المعروف بابن القزاز، وأبو الفضل جعفر بن شرف، وابن الحداد الوادي آشي وغيرهم، ممن سبق أن ذكرناهم في أخبار مملكة ألمرية. وقد كان ابن القزاز من أهل مالقة وكان أبرع الوشاحين في عصر الطوائف. ووصفه ابن بسام " بأنه من مشاهير الأدباء والشعراء، وأكثر ما ذكر اسمه وحفظ نظمه في أوزان الموشحات ". وقيل في حقه " كل الوشاحين عيال على عبادة القزاز ". ومن أشهر موشحاته: بدر تم ... شمس ضحا ... غصن نقا ... مسك شم ما أتم ... ما أوضحا ... ما أورقا ... ما أتم لا جرم ... من لمحا ... قد عشقا ... قد حرم (¬2) وأما ابن شرف، فهو جعفر بن محمد بن سعيد بن شرف الجذامي القيرواني، أصله من القيروان وبها ولد سنة 444 هـ. ولما اضطرمت فتنة العرب في إفريقية غادرها إلى الأندلس واستوطن برجة. وكان من أعظم شعراء عصر الطوائف، وكان فوق ذلك أديباً موهوباً وله مؤلفات في الأمثال والأخبار والآداب. وتوفي سنة 534 هـ (¬3). وأما ابن الحداد، فهو أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الحداد القيسي. وكان من أكابر الشعراء، وقد قضى معظم حياته في بلاط ألمرية حسبما تقدم ذكره. وهو الذي وجه إليه ابن غرسية رسالته الشهيرة في تفضيل العجم على العرب. وكان بنو صمادح، كبني عباد أسرة شاعرة موهوبة، وكان المعتصم من أكبر شعراء عصره، وكذلك كان ولداه يحيى الملقب برفيع الدولة، وأبو جعفر الملقب برشيد الدولة، وإبنته أم الكرام، من الشعراء الموهوبين. واشتهر منهم ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 136 و 141. (¬2) ابن خلدون في المقدمة (بولاق) ص 519، والذخيرة القسم الثاني من المجلد الأول ص 299. (¬3) ترجمته في الصلة رقم 298.

بالأخص رفيع الدولة، وكان أشعرهم جميعاً (¬1). ويجب ألا ننسى أن العلامة اللغوي والجغرافي الكبير، أبو عبيد البكري قد عاش حيناً في ألمرية، تحت كنف المعتصم ورعايته، ووضع في ظل هذه الرعاية موسوعته الجغرافية الشهيرة وبعض كتبه الأخرى. وهو أبو عبيد عبد الله بن أبي مصعب عبد العزيز بن أبي زيد محمد ابن أيوب بن عمرو البكري. وهو سليل أسرة من الأمراء حكمت ولبة، وجزيرة شلطيش حيناً، واستمرت رياسة أبيه بها حتى سنة 443 هـ، حينما أجلاه عنها المعتضد بن عباد. ودرس أبو عبيد على ابن حيان، والحافظ ابن عبد البر، وأبى العباس العذري وغيرهم من أقطاب العصر. وله عدة مؤلفات قيمة في مقدمتها موسوعته الجغرافية المسماة المسالك والممالك، وكتاب معجم ما استعجم، وهو قاموس لغوي جغرافي، وكتاب اللآلىء في شرح أمالي القالي، وكتاب أعلام نبوة نبينا محمد. وكان البكري من أقطاب الأدب في عصره، وكان آية في التبحر واللغة ومن أساتذة الأنساب والأخبار، وأهل الضبط. وتوفي البحري في سنة 487 هـ (¬2) وقال ابن الأبار: " وكان أبو عبيد البكري من مفاخر الأندلس، وهو أحد الرؤساء الأعلام، وتواليفه قلائد في أجياد الأيام " (¬3). بيد أنه مما تجب ملاحظته أن هذه الرعاية لدولة الشعر والأدب، لم تبلغ في القصور البربرية مبلغاً كبيراً، فلم تزدهر النهضة الأدبية في ظل بني ذى النون بطليطلة ولم تجتمع في بلاطهم سوى قلة من الأدباء والشعراء، وإن كان قد نبغ في ظلهم بعض العلماء البارزين في الفلك والزراعة. وكذلك لم تشهد غرناطة في ظل بني مناد البربر أية نهضة أدبية ذات شأن. أما قصور الطوائف في شرقي الأندلس، وفي سرقسطة، فكان لها شأن خاص في رعاية الحركة الأدبية والشعرية بوجه عام. وكان بلاط سرقسطة، شأنه شأن بقية قصور الطوائف يسبغ رعايته على عدد من أكابر الشعراء والكتاب، وكان في مقدمة هؤلاء، أبو عمر أحمد بن محمد درّاج القسطلي، وهو من أبرز شعراء عهد انهيار الخلافة وبداية عهد الطوائف. ولد بقسطلة الغرب سنة 347 هـ من أصل بربري وتوفي سنة 421 هـ، وكان في شبابه من كتاب المنصور بن أبي عامر ¬_______ (¬1) الحلة السيراء (دوزي) ص 176. والقاهرة ج 2 ص 92. (¬2) ترجمته في الصلة رقم 632. (¬3) الحلة السيراء ج 2 ص 185.

وشعرائه، وذاع اسمه بين ألمع شعراء الطوائف، ومدح عدداً من أمرائهم، ولاسيما الفتيان العامريين أمثال مجاهد ومظفر ومبارك وخيران، ثم التحق ببلاط سرقسطة، ومدح المنذر بن هود ثم ابنه يحيى. وقد وصفه الثعالبي في يتيمة الدهر، بأنه كان بين شعراء الأندلس، كالمتنبي بين شعراء المشرق، وقد ترك لنا ابن درّاج ديوان شعر ضخم يضم عدداً كبيراً من أروع القصائد في مختلف الأغراض (¬1). وقد اشتهر ابن دراج كذلك ببلاغته في الترسل، وأورد لنا ابن بسام في الذخيرة طائفة من رسائله إلى جانب ما أورده من منظومه. وقد أوردنا نحن فيما تقدم شيئاً من نظمه. وكان من بين أمراء سرقسطة في الوقت نفسه، بعض الأدباء والعلماء البارزين، وهؤلاء سوف نذكرهم خلال حديثنا فيما يلي عن النهضة الفكرية العامة في عصر الطوائف. - 3 - إلى جانب هذه النهضة الأدبية والشعرية الزاهرة، يمتاز عصر الطوائف بنبوغ جماعة من العلماء الأفذاذ الذين يرتفعون إلى الذروة، في تفكيرهم ومستواهم العلمي الرفيع، وفي مقدمة هؤلاء العلامة الفيلسوف أبو محمد على بن حزم، وقد كان آية عصره في نضوج الذهن ودقة البحث، وعمق التفكير. ولد بقرطبة في سنة 384 هـ (994 م) في أواخر عهد المنصور، وكان أبوه أحمد بن حزم من وزراء ْالمنصور المقربين، ثم وزر من بعده لابنه عبد الملك. وقضى ابن حزم حداثته أيام الفتنة بقرطبة، ثم تجول حيناً في ألمرية وبلنسية في كنف الفتيان العامريين، وكان مثلهم يؤيد قضية الخلافة الأموية، ولما هدأت الأحوال نوعاً عاد إلى قرطبة، وتابع دراسته في المسجد الجامع. وبرع ابن حزم بالأخص في الفقه والعلوم الدينية والشرعية، وأصول المذاهب والنحل، وفي المنطق والفلسفة واللغة، والمعرفة بالسير والأخبار. وتولى الوزارة في شبابه للخليفة المستظهر الأموي، ثم نزح إلى شاطبة، وهنالك كتب كتابه " طوق الحمامة "، وهو دراسة نفسية تحليلية بديعة للحب وبواعثه وأشكاله، ومنه نعرف فضلا عن ذلك، الكثير عن حياة الفيلسوف، ¬_______ (¬1) نشر هذا الديوان بدمشق سنة 1961 بتحقيق الدكتور محمود علي مكي. وتراجع ترجمة ابن دراج في ابن خلكان ج 1 ص 51، وفي بغية الملتمس. الترجمة رقم 342. وأورد له الدكتور مكي في صدر الديوان ترجمة طويلة (ص 21 - 80).

وعن منازل أسرته وعن خطط قرطبة المعاصرة. وكتب بعد ذلك عشرات من الكتب والرسائل في مختلف الموضوعات الفقهية والفلسفية والتاريخية. منها كتاب " الإحكام لأصول الأحكام "، وكتاب في الإجماع ومسائله على أبواب الفقه، وكتاب في مراتب العلوم، وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، ومنها كتاب " جوامع السيرة "، وهو عرض لسيرة الرسول وغزواته وذكر أصحابه، ومن روى عنه، وذكر نبذ من فتوح الإسلام بعد الرسول، و " جمهرة أنساب العرب " وهو وثيقة جامعة لأصول القبائل العربية وأنسابها، ومن نزل منها بالأندلس، و " نقط العروس " وهو يتضمن سلسلة من النوادر والحوادث، والمقارنات والنظائر التاريخية الفريدة. وإذا كان ابن حزم يصف لنا التاريخ بأنه " علم الأخبار "، ويعتبر علم النسب جزءاً من علم الخبر، فإنه يحق لنا بعد الذي تقدم من ذكر كتبه، أن نعتبره مؤرخاً بكل معاني الكلمة. على أن ابن حزم لم يكن مع ذلك مؤرخاً عادياً، بل كان بالعكس مؤرخاً من طراز خاص، بل ومن طراز نادر، من طراز أولئك المؤرخين الذين تعتبر كلماتهم، عن حوادث عصرهم وشخصياته، أحكاماً لا تقبل الجدل. وقد عاش ابن حزم في عصر فياض بالاضطرابات والأحداث المثيرة، هو عصر انحلال الخلافة الأندلسية، وقيام دول الطوائف، وشهد الكثير من أحوال هذا العصر وتقلباته، ومن تصرفات أمراء الطوائف، ومثالبهم، وبغيهم، واستهتارهم، وهزت هذه الأحداث مشاعره إلى الأعماق، ومن ثم كانت أقواله وأحكامه الصادقة التي أصدرها في حق الطوائف، والتي نقلناها فيما تقدم. بيد أن ابن حزم يشتهر بنوع خاص سواء في الشرق أو في الغرب، بكتابه الجامع " الفصل في الملل والأهواء والنحل ". ويشيد البحث الحديث بابن حزم، وروعة علمه وتفكيره، ويخصص له العلامة الإسباني آسين بلاثيوس كتاباً يتناول فيه حياته وكتابه " الفصل " ويعتبره " مفكراً وعالماً لاهوتياً، ومؤرخاً ناقداً للأديان والمدارس الفلسفية الدينية " (¬1). ويعتبره الأستاذ نكل " أديباً وشاعراً وفقيهاً، ومؤرخاً سياسياً وعالماً أخلاقياً " (¬2). ¬_______ (¬1) A.Asin Palacios: Abenhàzm de Cordoba y su Historia de las Ideas religiosas. (¬2) A.R.Nykl: ibid ; p. 73

وكان ابن حزم بالأخص داعية من أشد دعاة المذهب الظاهري، وقد غلبت هذه النزعة على سائر بحوثه الفقهية والكلامية، واعتبر حجة هذا المذهب وإمامه في عصره. وكان يتشدد كل التشدد في تطبيقه على العقائد، والأحكام، وهو لا يأخذ في تفسير الأحكام إلا بالكلمة المكتوبة، والحديث الثابت، ويعتبرهما حاسمين، في صوغ الأحكام. وقد اشتهر باعتناقه لهذا المذهب حتى أن أنصاره سموا فيما بعد " بالحزمية " نسبة إليه. وقضى ابن حزم حياة فكرية عميقة خصبة. وأثار في الوقت نفسه، بآرائه ونظرياته الأصولية والدينية من حوله خصومات كثيرة، واتهمه البعض بالمروق والزندقة، وأحرقت كتبه في إشبيلية بأمر المعتضد ابن عباد (¬1). ونزح في أواخر حياته إلى دار أسرته بقرية منت ليشم من أعمال لبلة، وهنالك توفي في شعبان سنة 456 هـ (1064 م) (¬2). وكان من أقران ابن حزم الذين طرقوا مثل ميدانه في التفكير الديني والشرعي، العلامة أبو الوليد الباجي، وهو سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب التجيبي الباجي الحافظ. ولد بمدينة بطليوس غربي الأندلس سنة 403 هـ ودرس في قرطبة، ثم سافر إلى المشرق ودرس حيناً بمكة ثم في بغداد، ولما عاد إلى الأندلس عاش حيناً في بلاط ميورقة، وحيناً آخر في كنف المقتدر بن هود، واشتهر بردوده على ابن حزم، وكان قرينه في غزارة العلم وسعة المعرفة. وقد وصف بأنه من أئمة المسلمين. وتوفي في سنة 474 هـ (1081 م). ومن شعره: إذا كنت أعلم علماً يقيناً ... بأن جميع حياتي كساعة فلم لا أكون ضنيناً بها ... وأجعلها في صلاح وطاعة (¬3) ونبغ إلى جانب ابن حزم عالم ومفكر جبار آخر، هو العلامة اللغوي الأعمى أبو الحسن على بن سيده، المتوفى في سنة 458 هـ (1066 م). وكان آية في الحفظ ¬_______ (¬1) ترجمته في جذوة المقتبس ص 290 - 293، وفي وفيات الأعيان ج 1 ص 428 - 431. (¬2) في شهر مايو (من 12 - 18 منه سنة 1963) نظم بمدينة قرطبة مهرجان رسمي فخم للاحتفال بذكرى مرور تسعمائة عام على وفاة العلامة ابن حزم " القرطبي " وأقامت له بلدية قرطبة تمثالا بالحجم الطبيعي أمام باب إشبيلية على مقربة من الجامع. وأقيمت كذلك لوحة تذكارية لابن حزم بالإسبانية، أمام مدخل كنيسة سان لورنتسو التي أقيمت مكان الجامع الذي كان يتوسط بلاط مغيث وهو الحي الذي عاش فيه ابن حزم. ونظمت بهذه المناسبة عدة ندوات دراسية، وطائفة من الحفلات الفخمة. وقد كان مؤلف هذا الكتاب من شهود هذا المهرجان التاريخي العظيم. (¬3) ترجمته في الصلة رقم 453.

وقوة الذاكرة، وقد عاش بدانية في كنف أميرها العالم مجاهد العامري، وانقطع إليه، ولما توفي مجاهد، توجس من ولده على إقبال الدولة، فغادر دانية إلى بعض الأنحاء المجاورة. واشتهر ابن سيده بكتابه " المحكم " وهو قاموس لغوي ضخم، وكتاب " السمار ". وكان من كتاب الموسوعات أيضاً العلامة اللغوي الجغرافي أبو عبيد البكري الذي سبق ذكره. وقد اشتهر بمعجمه اللغوي الجغرافي المسمى " معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع "، وهو مؤلف انتفع به الملك ألفونسو العالم في تاريخه العام له Cronica General ويخص العلامة الأستاذ مننديث بيدال كتابي " الفصل " لابن حزم و " المحكم " لابن سيده بالذكر، وينوه بنفاستهما، ويقول: " إن النضوج العقلي اللازم لإخراج كتاب في تاريخ الأديان، أو قاموس للفكر المتشابهة، على مثل النمط الذي كتبت به هذه المصنفات الإسبانية الإسلامية، لم تصل إليه أوربا حتى القرن التاسع عشر " (¬1). ومن أولئك العلماء الممتازين أيضاً العلامة ابن عبد البر، وهو أبو عمر يوسف ابن عبد الله النميري القرطبي، ولد سنة 368 هـ (978 م)، وقضى شطراً من حياته في دانية وبلنسية وشاطبة، ثم لحق أخيراً ببلاط بني الأفطس ببطليوس وعينه المظفر بن الأفطس قاضياً لأشبونة، ثم شنترين، وتوفي في سنة 463 هـ (1071 م). وكان من أوفر كتاب عصره علماً ومعرفة، وأشهر مؤلفاته كتاب " بهجة المجالس وأنس المُجالس " ويمتاز شعره بالرصانة والأنفة. وقد خدم ولده أبو محمد عبد الله بن عبد البر في بلاط بني عباد، حسبما تقدم ذكره في موضعه (¬2). ويمكننا أن نذكر ضمن هذا الثبت من العلماء الأعلام، أميرين من أمراء الطوائف، هما مجاهد العامري صاحب دانية، وأبو عبد الرحمن محمد بن أحمد ابن طاهر صاحب مرسية. وكان مجاهد من أكابر علماء عصره في اللغة وعلوم القرآن، وكان بلاطه مجمعاً لطائفة من أشهر علماء العصر، وفي مقدمتهم ابن عبد البر، وابن سيده وذلك حسبما تقدم ذكره. وكان أبو عبد الرحمن بن طاهر، ¬_______ (¬1) R.M.Pidal: ibid ; p. 81 (¬2) نفح الطيب (عن رسالة ابن حزم في ذكر علماء الأندلس) ج 2 ص 131.

كذلك من أعظم علماء الأندلس وكتابها أيام الطوائف، ويشيد معاصره ابن بسام حسبما تقدم بذكره وذكر أدبه في الذخيرة، وينوه بجمال رسائله وروعتها. وقد وقفنا على نص صك من إنشائه بتقديم صاحب أحكام على بعض جهات مرسية أيام رياسته لها يقول فيه: " قلدت فلاناً وفقه الله النظر في أحكام فلانة، وتخيرته لها بعد ما خبرته، واستخلفته واثقاً بدينه، راجياً لتحصنه، لأنه احتاط فعلم، وإن أضاع فأثم، فليقم الحق على أركانه، وليضع العدل، وليسر بين خصومه، وليأخذ من الظالم لمظلومه، فعف في الحكم عند اشتباهه، وبعده عند اتجاهه، ولا تقبل غير المرضي في شهادته، ولا تعرف سوى الاشتغال من علاته، ولتعلم أن الله مطلع على خفياته، وسلام يوم علاماته " (¬1). هذا وقد كان عصر الطوائف، فضلا عن هذه النهضة الأدبية والفكرية الشاملة، يمتاز كذلك بازدهار الدراسات العلمية الممتازة. وقد نبغت فيه طائفة من أكابر الرياضيين والفلكيين، الذين كانت بحوثهم فيما بعد مستقى خصباً لاقتباس الغرب. وكان من هؤلاء أبو اسحق ابن ابراهيم بن يحيى الزرقالي القرطبي صاحب الجداول الفلكية الشهيرة أصله من طليطلة، ويعرف في الغرب باسم Azarquiel وقد ذاعت جداوله الفلكية، ذيوعاً عظيماً، وكانت في كثير من المواطن أصح من غيرها من الجداول القديمة، وتوفي الزرقالي سنة 480 هـ (1087 م). وأبو القاسم أصبغ بن السمح الغرناطي المتوفى سنة 438 هـ (1038 م)، وكان بارعاً في الهندسة والفلك، وله كتب قيمة في الهندسة وزيج فلكي. وأبو الوليد هشام الوقشي، وكان أبرع علماء عصره في الهندسة والفلسفة والنحو واللغة، وتلميذه أبو القاسم سعيد بن أحمد الطليطلي صاحب كتاب " طبقات الأمم " وهو تاريخ للعلوم. وقد كانت الجداول الفلكية التي وضعها أولئك العلماء المسلمون فيما بعد، أقيم مرجع لألفونسو ملك قشتالة في اقتباس جداوله. وقد اشتهر ألفونسو العالم بالأخص باعتماده على مصادر العلوم الأندلسية، ولاسيما في عصر الطوائف، واقتباسه تقاليد العلماء الأندلسيين في هذا العصر، الذي سبقه بنحو قرنين. وكانت سرقسطة، وطليطلة، وقرطبة، من أعظم مراكز ¬_______ (¬1) أورده ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " - الجزء الرابع من مخطوط المكتبة الوطنية بباريس.

الدراسات الفلسفية والرياضية في القرن الحادي عشر الميلادي. وكان المقتدر بن هود وولده المؤتمن، من العلماء المبرزين في الفلسفة والرياضيات والفلك. وكتب المؤتمن رسالته " الإستكمال " في الرياضية. وأثارت بحوث هذين الأميرين العالمين إعجاب الدوائر العلمية في العصور الوسطى (¬1). كانت هذه الجمهرة الحاشدة من الأدباء والشعراء والعلماء، التي حفل بها عصر الطوائف تملأ قصور الطوائف، وتعيش في كنف أمرائها، سواء بطريق الخدمة في الوزارة أو الكتابة أو القضاء أو غيرها. أو في ظل الصحبة والرعاية المجردة لأولئك الأمراء. وكان أولئك العلماء والأدباء، ينتقل معظمهم من دولة إلى أخرى، ومن قصر إلى قصر، وفقاً للأحوال والظروف، إذ كانت هذه القصور جميعاً تتنافس في اجتذاب أعلام الكتاب والأدباء إليها، وفي رعايتهم والإغداق عليهم، وكان بعضهم ينقطع إلى أمير بذاته، ويعيش في كنفه وتحت رعايته، وكان بعضهم يستحوذ على سياسة الدولة، ويسيرها وفق رأيه، أو يخوض غمار الدسائس والفتن فيذهب ضحية تدخله. وقد كان ابن عباس وزير زهير العامري، وأبو عبد الله البزلياني وزير المعتضد بن عباد، وابن عمار وزير ولده المعتمد، أسطع أمثلة لأولئك الوزراء المغامرين، وقد دفع كل منهم حياته ثمناً لمغامراته. وكان من آثار ازدهار الحركة الفكرية في عصر الطوائف، ذيوع المكتبات العامة والخاصة ذيوعاً يلفت النظر. ذلك أن كل مدينة أندلسية غدت عاصمة لمملكة كبيرة أو صغيرة. وكان أمراء الطوائف يتنافسون في اقتناء الكتب النفيسة والنادرة، وقد كانت تنهال على شبه الجزيرة من سائر أنحاء العالم الإسلامي. وقد لبثت قرطبة بالرغم مما أصابها من آثار الفتن والحروب الأهلية، مركز العلوم والدراسات الممتازة، وبقيت بالرغم مما أصاب المكتبة الأموية الكبرى من التبديد المؤلم، مثوى لكثير من المجموعات النفيسة الخاصة. وكانت إشبيلية، حاضرة بني عباد، هي الثانية بعد قرطبة، في تقدم العلوم والثقافة، وكانت تحتوي، فضلا عن مكتبة بني عباد الملوكية العظيمة، على عدد كبير من المكتبات الخاصة. وكانت ألمرية أيضاً من الحواضر التي اشتهرت بمكتباتها القيمة. وكان ¬_______ (¬1) يراجع في تفاصيل النهضة الفكرية في عصر الطوائف رسالة ابن حزم عن الحركة العلمية بالأندلس، وقد نشرت في نفح الطيب ج 2 ص 126 وما بعدها، ورسالة الشقندي وقد نشرت أيضاً في نفح الطيب ج 2 ص 138 وما بعدها. ويراجع أيضاً. R.M.Pidal: ibid ; p. 79-84

الوزير أحمد بن عباس وزير زهير العامري، فضلا عن علمه الغزير، من أعظم هواة الكتب، ويقال إن مكتبته العظيمة كانت تضم أربعمائة ألف مجلد. واشتهرت بطليوس في ظل بني الأفطس بتقدمها العلمي والثقافي. وكذا كانت طليطلة في ظل بني ذى النون مركزاً عظيماً للبحوث العلمية. واشتهر بنو ذى النون كذلك بجمع الكتب، وكانت لديهم مكتبة عظيمة. وكانت توجد غير المكتبات الملكية، مكتبات كثيرة أخرى خاصة وعامة، في سائر القواعد الأندلسية. وكان لهذه الثروات المكتبية، تأثيرها بلا ريب، في تقدم الحركة الفكرية والثقافية، في عهد الطوائف (¬1). وقد امتدت هذة النهضة الفكرية والأدبية التي ازدهرت في عصر الطوائف إلى عهد المرابطين. وقد كان أولئك المرابطون يتسمون بالخشونة والبداوة، ويضطرمون بالأفكار الرجعية العتيقة، ويمقتون مظاهر الحضارة الأندلسية الرفيعة، فركدت في ظلهم دولة التفكير والأدب، وانفرط عقد الحلقات الأدبية الزاهرة، التي كانت تحفل بها قصور الطوائف، ومع ذلك فقد بزغت في عهدهم بعض أضواء مستمدة من تراث عصر الطوائف، وظهرت فيه عدة من الشخصيات اللامعة، مثل أبي القاسم خلف بن عباس القرطبي الطبيب الأشهر المتوفى سنة 516 هـ (1122 م)، وابن باجّة الطبيب الفيلسوف المتوفى سنة 533 هـ (1139 م). وأبو بكر الطرطوشي المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، والفتح بن خاقان المتوفى سنة 535 هـ (1140 م)، وابن بسام الشنتريني المتوفى سنة 542 هـ (1147 م). بيد أن ظهور هؤلاء العلماء والأدباء الأعلام في هذه الفترة لم يكن إلا أثراً من آثار النهضة الفكرية في عصر الطوائف. * * * وقد حظى عصر الطوائف، بعدة من أكابر العلماء والأدباء والمؤرخين الذين عنوا بتاريخه وتدوين حوادثه وخواصه، وتاريخ أعلامه. وفي مقدمة هؤلاء الفيلسوف ابن حزم. وبالرغم من أن ابن حزم لم يكن مؤرخا ًبالمعنى الصحيح لعصر ¬_______ (¬1) راجع في ذلك فصلا للأستاذ خوليان ربيرا عنوانه: Bibliofilos y Bibliotecas في كتابه Disertaciones y Opusculos en la Espana Musulmana. وراجع الإحاطة لابن الخطيب (القاهرة 1956)، ج 1 ص 267.

الطوائف، إلا أنه يقدم لنا في رسالته المسماة " نقط العروس "، وفي بعض رسائله الأخرى، طائفة من الوقائع والملاحظات الصادقة عن عصر الطوائف وشخصياته، أشرنا إليها واقتبسنا منها فيما تقدم. ثم المؤرخ الكبير أبو مروان حيان بن خلف ابن حيان، وقد ولد بقرطبة سنة 377 هـ (987 م) وتوفي بها سنة 469 هـ (1076 م)، وكان أبوه خلف بن حيان من وزراء المنصور بن أبي عامر. وبرع ابن حيان في الأدب والرواية حتى غدا من أعلامها وخاصة محققيها، وكانت نشأته الأرستقراطية، وعلائق أسرته بالأوساط العليا، تتيح له حسن الاطلاع والوقوف على شئون الدولة، ودراسة مختلف التيارات السياسية. وشهد ابن حيان في شبابه سقوط الدولة العامرية، وما تلاه من ترنح الخلافة الأموية ثم سقوطها، وقيام دول الطوائف في بداية القرن الخامس الهجري، وتولى هو الوزارة لبني جهور، وشهد سقوط دولتهم، وخصص لها كتاباً من كتبه. ولا ريب أن هذه الأحداث المثيرة، التي مزقت وحدة الوطن الأندلسي، قد أذكت مخيلة ابن حيان، وصقلت قلمه، وأمدته بكثير من التعليقات الصائبة، والملاحظات النقدية القوية، التي نراها ماثلة في معظم ما كتبه عن حوادث عصره. وأعظم آثار ابن حيان كتابه " المقتبس في تاريخ رجال الأندلس " أو " المقتبس في أخبار أهل الأندلس ". وهو تاريخ ضخم للأندلس حتى عصره أى عصر الطوائف. وقد انتهت إلينا منه عدة قطع مخطوطة (¬1). وقد ضمنه ابن حيان، عن عصر الطوائف وأحداثه التي شهد الكثير منها بنفسه، أقيم الروايات وأنفسها، وأحفلها بالتعليقات النقدية. وكتب ابن حيان غير المقتبس، كتابه " المتين " وهو أيضاً تاريخ للأندلس تبالغ الرواية في ضخامته، ولكن لم يصل إلينا شىء منه, وكتاب المآثر العامرية، وهو أيضاً كتاب ضخم يقص فيه ابن حيان سيرة المنصور ابن أبي عامر وغزواته، ولكنه لم يصل كذلك إلينا. وأسلوبه التاريخي يتسم بروح علمي ونقدي بارز. ويشيد ابن بسام بمجهوده التاريخي، وينقل عنه شذوراً ضافية، ولكنه يحمل عليه لمواقفه المتناقضة أحياناً ¬_______ (¬1) يوجد منه جزء كبير مخطوط عن عهد عبد الرحمن الناصر بالخزانة الملكية بالرباط، وقطعتان مخطوطتان أخريان بخزانة القرويين الكبرى بفاس، وقطعة صغيرة مخطوطة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد. وهذا عدا الجزء الذي نشره المستشرق الإسباني الأب ملشيور انتونيا (باريس سنة 1937). (راجع في ذلك كتابي دولة الإسلام في الأندلس - الطبعة الرابعة ص 7 - 9).

بين المديح والذم، والتقدير والانتقاص، وذلك حسبما أشرنا إليه في موضعه في أخبار دولة بني جهور (¬1). وجاء بعد ابن حيان تلميذه أبو عبد الله الحميدي المتوفى سنة 488 هـ (1095 م). وقد عنى في معجم تراجمه (¬2)، بترجمة كثير من العلماء والأدباء، والفقهاء والمحدثين، في عصر الطوائف. وكتب المؤرخ والأديب الكبير أبو الحسن على بن بسام الشنترينى معجمه التاريخي والأدبي الضخم بقرطبة، عقب انتهاء عهد الطوائف بقليل، في سنتي 502 و 503 هـ. وقد عاصر ابن بسام، قبل أن يغادر موطنه مدينة شنترين البرتغالية نحو سنة 480 هـ، قبيل استيلاء النصارى عليها بأعوام قلائل (¬3)، أواخر عهد الطوائف، وأوائل عهد المرابطين، وعاش وقتاً في إشبيلية، ثم غادرها إلى قرطبة، حيث كتب مؤلفه. ويعتبر كتاب " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة "، وهو مؤلف ضخم يحتوي على أربعة مجلدات أو أقسام كبيرة، من أهم وأنفس مصادرنا عن الطوائف سواء من النواحي التاريخية أو الأدبية أو الاجتماعية. وبالرغم من أن الصفة الأدبية تغلب عليه، بما يورده من تراجم أكابر الأدباء والكتاب والشعراء، ومن منثورهم ومنظومهم، فإنه مع ذلك يتضمن طائفة كبيرة من الفصول والشذور التاريخية، المنقولة عن ابن حيان وغيره من المؤرخين المعاصرين، أو المكتوبة بقلم ابن بسام ذاته. ويصارحنا ابن بسام في مقدمته بالدافع النفسي الذي دفعه إلى تصنيف " الذخيرة "، وهو أنه رأى انصراف أهل عصره وقطره إلى أدب المشرق والتزود منه والإعجاب به، وإهمال أدب بلدهم، فأراد بوضع الذخيرة، وجميع ما تضمنه، من رائق المنثور والمنظوم، أن يبصر أهل الأندلس ْبتفوق أدبائهم، وروعة إنتاجهم، وأن الإحسان ليس مقصوراً على أهل المشرق. ومن الواضح أيضاً أن ابن بسام أراد أن يعارض بكتابه محاسن أهل الجزيرة أى جزيرة الأندلس، أديب المشرق الكبير أبي منصور الثعالبي صاحب ¬_______ (¬1) راجع الذخيرة القسم الأول المجلد الثاني ص 84 و 85 و 113. (¬2) وهو المسمى " جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس ". وقد صدرت منه طبعة جديدة بالقاهرة في سنة 1372 هـ. (¬3) راجع الذخيرة القسم الأول المجلد الأول ص 8. وقد سقطت شنترين في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة في سنة 486 هـ (1093 م).

" يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر "، فالذخيرة واليتيمة بذلك صنوان يدعو كل منهما إلى تذوق محاسن قطره. ونجد إلى جانب ابن بسام كاتباً أديباً ومؤرخاً آخر، هو الفتح بن خاقان المتوفى سنة 529 هـ (1134 م) صاحب كتابي " القلائد " و " المطمح ". وقد أورد لنا في " القلائد " (¬1) تاريخ طائفة كبيرة من أمراء الطوائف ووزرائهم من الكتاب والشعراء والقضاة، يقدمهم إلينا في أسلوب مسجع، يغلب عليه التكلف، ويتضمن مع ذلك نبذاً وحقائق تاريخية هامة، وكذا في المطمح أو " مطمح الأنفس ومسرح التأنس " فقد تحدث عن طائفة من الأعيان الذين تناولهم في القلائد، وتحدث عن غيرهم بنفس الأسلوب المسجع. ونجد أخيراً شاعراً وكاتباً كبيراً، هو أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، وزير بني الأفطس والراثي لدولتهم، المتوفى سنة 520 هـ (1126 م) وهو الذي سبق ذكره، يقدم لنا في رسالته عن " القضاء والحسبة " صوراً هامة عن شئون القضاء والحسبة، وما يتعلق بها من أحوال الناس والمجتمع في عهد الطوائف، تبدو فيها روح النقد والتشاؤم، وهو ينوه في رسالته بما كان يجرى في إشبيلية، حيث كان يقيم، من ضروب الفساد، ويدعو إلى الكف عن أمور كانت تجرى في عهده، منها ألا يدخل النساء المسلمات الكنائس المشفوعة تحوطاً من فسق القساوسة، وألا تقرع النواقيس في بلاد المسلمين، إذ هي لا تضرب إلا ببلاد النصارى، وألا يبيع النصارى واليهود كتب العلوم الإسلامية لأنهم يترجمونها وينسبونها إلى أعيانهم، وألا يتولى الأطباء اليهود والنصارى علاج المسلمين. إلى غير ذلك مما سبق أن أشرنا إليه. ومما جاء في ختام رسالته قوله: " وبالجملة فإن الناس قد فسدت أديانهم وإنما ... الدنيا الفانية والزمان على آخره. وخلاف هذه الأشياء، هو ابتداء الهرج، وداعية الفساد، وانقضاء العالم. ولا يصلح ذلك إلا نبي بإذن الله. فإن لم يكن زمن نبي، فالقاضي مسؤول عن ذلك كله، ومن كان في عون المسلمين، كان الله في عونه، فعليه أن يصرح بالحق، ويجري إلى الإصلاح والعدل ¬_______ (¬1) هو كتاب " قلائد العقيان " وقد طبع بالقاهرة سنة 1283 هـ.

والتخلص، وينظر لنفسه، فعسى يتخلص، والله بعزته يسدده، ويوفقه للخير ... " (¬1). - 3 - الخواص الفنية وكما ازدهرت العلوم والآداب في عصر الطوائف، فكذلك ازدهرت الفنون والصناعات، وكانت قصور الطوائف مثوى للفنون الجميلة، ومظهراً حياً لكل ما تمخض عنه ذلك العصر من زخرف وترف وإناقة، وكانت بالأخص منتديات زاهرة للموسيقى، وما يتبعها من الغناء. وكان معظم أمراء الطوائف من عشاق الموسيقى يتنافسون في اقتناء القينات الحسان البارعات في العزف والغناء، ويبذلون في ذلك الأموال الطائلة، حتى لقد بذل أحدهم، وهو هذيل بن رزين صاحب شنتمرية الشرق ثلاثة آلاف دينار ثمناً لإحدى هؤلاء القينات، وكان في قصورهم منهن أسراب وأسراب، ولاسيما في قصور بني عباد بإشبيلية، وبني ذى النون بطليطلة، وكان المعتضد بن عباد يعشق الموسيقى، ويصحب الموسيقيين معه أثناء حملاته الحربية. وكذلك ازدهرت الزراعة بالأندلس في عصر الطوائف. ونحن نعرف ما امتاز به أهل الأندلس من البراعة في الفنون الزراعية، وكيف حولوا وديان الأندلس إلى مهاد ورياض نضرة، وكيف اتخذت فنون الزراعة على أيديهم طابعاً علمياً واضحاً. وقد كان أهل الأندلس في الواقع من أنبغ الشعوب في فلاحة الأرض وتربية الماشية، وغرس الحدائق. وتنظيم طرق الري والصرف، ومعرفة أحوال الجو، وكل ما يتعلق بفنون الزراعة وخواص النبات، وكانت مزارعهم وحدائقهم، مضرب الأمثال في الجودة والتنسيق والنماء. ويرجع ازدهار الزراعة في عصر الطوائف إلى شغف ملوك الطوائف بإنشاء الحدائق والبساتين اليانعة، وتربية الغراس والزهور النادرة. وقد ظهر في عصر الطوائف، عدد من علماء النبات ¬_______ (¬1) نشرت رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة ضمن مجموعة تتضمن ثلاث رسائل في الحسبة، نشرت بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال، وصدرت ضمن مطبوعات المعهد الفرنسي للآثار بالقاهرة.

والزراعة، ولاسيما في طليطلة وإشبيلية، حيث كانت حدائق بني ذى النون في الأولى، وحدائق بني عباد في الثانية، تشغل مساحات واسعة، وتتطلب عناية الخبراء الممتازين. وكان من علماء النبات والفلاحة البارعين في طليطلة ابن وافد الطبيب المشهور، وكان يشرف على حدائق بني ذى النون. وأبو عبد الله بن بصّال العالم الزراعي، الذي عاش في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي. وقد اشتهر ابن بصّال بتجاربه العلمية الناجحة في توليد الغراس، ومكافحة الآفات الزراعية، وكتابه " الفلاحة " الذي انتهى إلينا، وهو المشتق من دراساته وتجاربه العملية، يشهد ببراعته وتفوقه في هذا الميدان. ولما سقطت طليطلة في أيدى النصارى، غادر ابن بصّال طليطلة إلى إشبيلية، وعهد إليه هنالك بالإشراف على بساتين بني عباد. وكان من هؤلاء العلماء أيضاً أبو عمر أحمد بن محمد بن حجاج، وقد عاش في إشبيلية، وألف كتاباً في الزراعة اسمه " المقنع " لم يصل إلينا. وأبو عبد الله محمد ابن مالك الطغنري، وهو غرناطي عاش في أواخر القرن الحادي عشر، وتتلمذ على ابن بصّال، ووضع كتاباً في الفلاحة سماه " زهر البستان ونزهة الأذهان ". وكان منهم بقرطبة ابن لونكو الذي عاش في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري، وكان أيضاً من تلاميذ تلك المدرسة الزراعية الزاهرة. وقد توفي في سنة 498 هـ (1104) (¬1). وأما عن الصناعات، فقد كانت كذلك في عصر الطوائف رائجة زاهرة، وكانت تشمل كثيراً من الصناعات الهامة مثل صناعات الحديد والنحاس والزجاج والنسيج. وكانت صناعة النسيج بالأخص، من أهم وأشهر الصناعات أيام الطوائف، وكان بمدينة ألمرية وحدها، خمسة آلاف منسج، تنتج أفخم وأجمل أنواع الأقمشة. وكانت السفن من مختلف ثغور المشرق، ومن الثغور الإيطالية، تقصد إلى ألمرية وغيرها من الثغور الأندلسية محملة بالسلع من كل ضرب، ثم تعود محملة بالسلع الأندلسية. وكانت دول الطوائف ذات الثغور، مثل إشبيلية وألمرية، وبلنسية ودانية وسرقسطة، تجني من التجارة الخارجية أرباحاً طائلة. ¬_______ (¬1) راجع مقدمة كتاب الفلاحة لابن بصّال المنشور بعناية المستشرق الإسباني Millas Vallicross الأستاذ محمد عزيمان (تطوان 1955).

والخلاصة أن دول الطوائف تقدم إلينا ذلك المزيج المدهش من الضعف والقوة، ضعف البناء السياسي والعسكري، وقوة التراث المادي والحضاري، ومن الانحلال الاجتماعي الشامل، والتقدم الفكري اللامع. وقد كان أبرز ما في ذلك المزيج المتناقض، ضعف الروح الدينية والوطنية، بصورة لم تعرفها الأمة الأندلسية في تاريخها من قبل قط، بل ولم تعرفها فيما بعد، حتى في أسوأ عصور الفتنة، والتفكك السياسي والعسكري، التي كان يقابلها من الناحية الأخرى فترات قوة وتفوق من جانب الممالك الإسبانية النصرانية. ولكن الأندلس لم تبد قط في أية فترة من هذه الفترات تجاه اسبانيا النصرانية، مثل ما أبدته أيام الطوائف من التخاذل والاستسلام، ومن ضعف العقيدة الدينية والوطنية، ومن إهدار لمقتضيات الكرامة القومية، فعصر الطوائف وحده هو الذي يقدم إلينا تلك الخواص المؤلمة، التي تتناقض في مجموعها وفي تفاصيلها، مع طبيعة الأمة الأندلسية، ومع ما اتصفت به طوال تاريخها، من الشجاعة والشهامة والإباء، والتفاني في الذود عن الدين والوطن. وفي وسعنا أن نلمح في تاريخ الإمارات والجمهوريات الإيطالية في عصر الإحياء، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كثيراً من آثار تلك الخواص التي غلبت على عصر الطوائف بالأندلس. فهنالك الأمراء الطغاة، والحروب الأهلية الطاحنة، تمزق وحدتها وتفرق كلمتها. وهنالك استعداء العدو الخارجي كل منها على الأخرى، ثم التخاذل في الدفاع عن الوطن. وهنالك الانحلال الديني والأخلاقي والاجتماعي الشامل. ونجد إلى جانب ذلك كله نهضة علمية وأدبية. وفنية زاهرة، من أروع ما عرفته إيطاليا في تاريخها، يرعاها الأمراء الطغاة، ويمدونها بالبذل الوفير. وهنالك أخيراً تجارة وصناعات رائجة. ورخاء شامل، وحياة كلها متعة واستهتار. ولا ريب أن هذا التماثل في الخواص بين العصرين، يرجع إلى حد كبير، إلى التماثل بين ما كان يجوزه كل منهما من الظروف السياسية والاجتماعية.

االوثائق والملحقات

- 1 - رسالة كتب بها الأمير أبو يعقوب يوسف بن تاشفين إلى الناصر بدين الله تميم بن المعز بن باديس بالمهدية. يصف فيها بلاد الغرب، وجوازه للأندلس للجهاد بها، وهزيمته للأذفونش أمير النصارى في رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة. (منقولة عن المخطوط رقم 448 الغزيري بمكتبة الإسكوريال ( Fol. 49R.-53V) وهو مخطوط ناقص من أوله ولا عنوان له). " الحمد لله الذي من علينا بالإسلام، وفضلنا بمحمد عليه السلام، أحمده حمداً يوجب المزيد من آلايه، والسبوغ من سر الله ونعمائه. كان من قضايه جل شأوه، وتقدمت أسماؤه، لما أراد قمع المردة الطغاة من زناتة وغيرهم في بلاد المغرب، سبّب لنا إليهم المطلب، فقفونا آثارهم، وأخلينا منهم ديارهم، وكذلك نفعل بالقوم الظالمين، فقومنا الدّين، ومهدنا بها المسلمين، فصفت لنا ضمائرهم، وخلصت إلى ألله تعالى نياتهم، وسرايرهم، حتى وصلنا طنجة الركاب، وأذقنا برغواطة سوم العذاب، ففتح الله لنا وبها، وهو خير الفاتحين، وأسرع الحاسبين، لا إله غيره وهو أرحم الراحمين. ولما بلغنا من استحواذ النصارى، دمرهم الله، على بلاد الأندلس ومعاقلها، وإلزام الجزية لرؤسائهم، واستيصال أقالمها، وإيطايهم البلاد داراً داراً، لا يتخوفون عسكراً يخرج إليهم، فيبدد جمعهم، ويفل حدهم، وهم مع ذلك كله يقتلون الشيب والشبان، ويأسرون النساء والصبيان. فخوطبا عن الجواز إلى الأندلس من جميع الأحواز، المرة بعد المرة، وألوتنا الأعذار إلى وقت الأقدار، ولم نجد للجواز باباً، ولا لدخول البحر أسباباً، فانضم لنا منهم الريس الأجل المعتمد على الله، المولاّ بنصر الله، أحسن الله في كل الأمور عونه، وأقر بكل صالحة عينه، فعزمنا على الغزو، وجوزنا للعدو أسوداً ضارية، وسباعاً عادية، شيباً وشباناً، بسواعد قوية، وقلوب في سبيل الله نقية، قد عرفوا الحرب وجربوها، فهي المهم وهم بنوها، يتلمظون تلمظ الفهود، ويزءرون إليها زءر الأسود، فشحنا بهم القوارب،

وأوسعناهم على ظهور المراكب، فخرجنا في مرسى الجزيرة الخضراء من دياره، وفقه الله، ففزع الناس من كل أفق إليهم، ووفدوا من كل قطر إليهم، متعجبين من هيأتهم، محتقرين لزيهم ونغماتهم، لا يروعهم منهم حاشى الخيل والدرق، وهم مع ذلك لا ينالون إلا بعد جف الريق ومسح العرق، وقدروا أنهم طعم للسيوف، وغرض للحتوف، وسعد للأرماح، ونهب للسلاح، فكل استصغرهم، والجميع منهم احتقرهم، وتبلغ إلينا أخبارهم وأقوالهم، وتنتهي إلينا أفعالهم، ثم اتبعناهم جيشاً بعد جيش، بخيول كالفحول، عليها الكهول، وعدد من كل أمرد، على أجرد، يتسابقون إلى اللقاء في الفضاء، تسابق الحين والقضاء. ومع هذا كله إن أهل الأندلس مستبشرون بنصرهم على أيدينا، وإزاحة غمتهم بسببنا، وعساكرنا تتزيد، وجوازنا يتأكد، وكان آخر من جاز منا ومعنا، قطعة من صنهاجة بني عمي، فعسر البحر حينئذ للجواز، واضطربت في الأمواج، فاستصرخنا الباري تعالى جده، وعظم اسمه، إن، كان في جوازنا خيرة للمسلمين أن يسهل علينا، فما استكملت من كلامي، حتى سهل الله المركب، وقرب المطلب. فخرجنا من الحين في مرسى الجزيرة الخضراء المذكورة، والتأم شعبتنا مع من جاز من عسكرنا، فعملنا على السير، وكان قد تقدم إلينا بالعدوة من قبل الأدفونش أمير النصارى رسالة يخاطبنا فيها بالجواز إلينا إذا عجزنا عنه، وفرقنا منه، نعطوه المراكب، ونسلموا إليه الشواني والقوارب، ليرد علينا ويقاتلنا في مأمننا، فلم نلتفت إليه، ولاعرجنا عليه. ووصلنا أيدينا بالريس الأجل المعتمد على الله المؤيد بنصر الله، واستوثقنا منه غاية الاستيثاق، وبنينا معه على اللحاق بهم، والورود عليهم، ونحن في ذلك كله لما نقل إلينا، وورد علينا من رؤساء الأندلس، مستبطئين سريرة المخبتِين، لابسين قسوة الصالحين، وقلوبنا شتى، حتى لحقنا إشبيلية حضرته، عمرت ببقايه، وقد تجمع له من جنوده أعداد، ومن حشمه وعبيده وخيله ورجله أجناد، فصرنا إلى مدينة بطليوس، وأقمنا بها أياماً منتظرين لوفد الرؤساء من جميع أقطار الأندلس، فأخبرنا وصح عندنا أن كل واحد منهم مشتغل مع قطعة كثيرة من النصارى، قد تغلبوهم على حصونهم، وأذلوهم في بلادهم، وأضعفوهم، وشجعوهم على مر ادهم، فحمدنا الله تعالى، ودعونا بتيسير المراد، واستنقاذ

العباد. فجمعنا عساكرنا وسرنا إليه، وصرنا إلى قفل قورية من بلاد المسلمين صرفها الله، فسمع بنا، وقصدنا قصدنا، وورد ورودنا، واحتل بفنائها منتظراً لنا، فبعثنا إليه نحضه على الإسلام، ودخوله في ملة محمد عليه السلام، أو ضرب الجزية عليه وإسلام ما كان من المال والبيوت لديه، كما أمرنا الله تعالى، وبين لنا في كتابه، من إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فأبا وتمرد، وكفر ونخر، وعمل على الإقبال علينا، وحث في الورود علينا، فلحقنا وبيننا وبينه فراسخ، فلما كان بعد ذلك، برزنا عليه أياماً، فلم يجبنا، فبقينا وبقوا، ونحن نخرج الطلايع إليه، ونتابع الوثوب عليه، وبنينا على لقايه يوم الخميس لإحدى عشر ليلة خلت لرجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة. فلما كان يوم الجمعة ثانية، ورد علينا بكتايب قد ملأت الآفاق، وتقلبت تقلب الحتوف للأحداق، قد استلموا الدروع للكفاح، وربطوا في سوقهم الألواح، وبطونهم ملأ من الخمور، يقدرون أن الدائرة علينا تدور، ونحن في أخبيتنا صبيحة اليوم المذكور، كل منا ساه وجميعنا لاه، فقصد أشدهم شوكة، وأصلبهم عوداً، وأنجدهم عديداً، محلة المعتمد على الله المؤيد بنصر الله، وفقه الله، عماد رؤساء الأندلس وقطبهم، لا يقدرون عسكراً إلا عسكره، ولا رجال إلا رجاله، ولا عديداً إلا عديده، وداود من أصحابنا منا إلى إزايه، فهبطوا إليه لفيفاً واحداً، كهبوط السيل، بسوابق الخيل، فلما كان معه من جنده ومن جميع الطبقات، الذين كانوا يدخرون من قبله الأموال والضياع، استكت آذانهم، واضطربت أضلاعهم، ودهشت أيديهم، وزلزلت أقدامهم، وطارت قلوبهم، وصاروا كركب الحمير، فرّوا يطلبون معقلا يعصمهم، ولا عاصم إلا الله، ولا هارباً منه إلا إليه، فلحقوا من بطليوس بالكرامات، لما عاينوا من الأمور المعضلات، وأسلموه أيده الله، وحده في طرف الأخبية، مع عدد كثير من الرجالة والرماة، قد استسلموا للقضاء، فوثبوا عليه وثب الأسد على الفرايس، يعظمون الكنايس، فحبسهم حيناً وحده مع من إليه ممن ذكرناه، وبسطوا منهم الأرض، ولم يبق من الكل إلا البعض، ولجأ في الأخبية، بعد أن عاين المنة، وتخلصه الله بنيته في المسلمين وبلغه أمنيته، بعد أن وقف وقفة بطل مثله، لا أحد يرد عليه، ولا فارس من فرسانه وعبيده يرجع إليه، لايروعه أحد منهم فيهزم، ولا يهابهم فيسأم،

ثم قصدت كتيبته سوداً كالجبل العظيم أو الليل البهيم، عسكر داود وأخبيته، فجالوا فيها جولاناً، وقتلوا من الخلق ألواناً، واستشهد الكل بحمد الله وصاروا إلى رضوان الله، ونحن في ذلك كله غافلون، حتى ورد علينا وارد، وقصد إلينا قاصد، فخرجنا من وراء الشعب، كقطع اللهب، بجميع من معنا، على الخيل المسومة العراب، يتسابقن الطعن والضراب، فلما رأونا، ووقعت أعينهم علينا، ظنوا أن الدائرة فينا ولدينا، وأنا طعم أسيافهم ولقاء رماحهم، فكبرنا وكبر الكل معنا، مبتهلين لله وحده لا شريك له، ونهضنا للمنون الذي لا بد منه ولا محيص لأحد عنه، وقلنا هذا آخر يومنا من الدنيا، فلنموتوا شهداء، فحملوا علينا كالسهام، فثبت الله أقدامنا، وقوي أفئدتنا، والملائكة معنا، والله تعالى ولى النصر لنا، فولوا هاربين، وفروا ذاهبين، وتساقط أكثرهم بقدر الله تعالى دون طعنة تلحقه ولا ضربة تثخنه، وأضعف الرعب أيديهم، فطعناهم بالسمهرية دون الوخز بالإبر، وضاقت بهم الأرض بما رحبت، حتى أن هاربهم لا يرى غير شىء إلا ظنه رجلا، فتكت فيهم السيوف، على رغم الأنوف، فو الله لقد كانت تقع على الدروع فتفريها، وعلى البيضات فتبريها، وزرقوا الرجالة منا على خيلهم الرماح، فشكوهم بها فرمحت بهم، فما كنت ترى منهم فارساً إلا وفرسه واقف على رأسه لا يستطيع الفرار، الكل يجر عنانه، كأنه معقل بعقاله، ونحن راكبون على الجواد الميمون، العربي المصون، السابق اللاحق، المعد للحقائق، وما منا إلا من له جرناز فيه سيفان، وبيدنا الثالث، عسى أن يحدث من حادث، فصاروا في الأرض مجدلين، موتى معفرين، وقد تراجع ْالناس بعد الفرار، وأمنوا من العثار، وتضافروا مع عسكرنا وغيرهم، يقطعون رؤوسهم، وينقلون بإزاء المحلات، حتى علت كالجبال الراسيات، عدد لا يقدر، ومدد لا يحزر، والتجريد فيهم، والأيدي متعاودة لبطونهم، واشتأصلنا أكابرهم، وحللنا دون أماطيهم وأمانيهم، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون. ْوانقطع من عسكرهم نحو ألفي رجل أو أقل، والأذفونش فيهم على ما أخبرنا، قد أثخنوا جراحاً بإزاء محلاتهم، يرتادون الظلام للهروب في المقام، والله لقد كان الفرسان والرجالة يدخلون محلتهم، ويعثرون في أخبيتهم، وينتهبون أزودتهم وهم ينظرون شزراً نظر التيوس إلى شفار الجازرين، إلى أن جن الليل وأرخى

سدوله، ولوا هاربين، وأسلموا رحايلهم صاغرين، فكم من دِلاص على البقاع ساقطة، وخيول على البقاع رابضة، ولقد ارتبط كل فارس منا الخمسة الأفراس أو أزيد. وأما البغال والحمير فأكثر من ذلك. وأما الثياب والمتاع فناهيك، والأسرة بأوطية الحرير، والثياب والأوبار عدد ليلهم، ولا يكلون في الانتقال، ولا يسئمون من شريط الأموال، ولحقوا قورية ومنها حيث ألقت رحلها أم قشعم، فصححنا ضمائرنا، وأخلصنا للمعتمد على الله نياتنا وسرايرنا، ورجعنا بحمد الله غانمين منصورين، لم يستشهد منا إلا الفرقة التي قدر الله عليها بذلك، وقدرنا أن الكل منهم هلك لقلة معرفتهم وجهالتهم بقتال النصارى، وتراميهم للشهادة، قدس الله أرواحهم، وكرم مثواهم وضريحهم، وجعل الجنة ميعاداً بيننا وبينهم، وفقدنا من أكابرنا نحو عشرين رجلا ممن شهدت نجدته في المغرب، وانقلبت خير منقلب. ولحقنا إشبيلية حضرته عمرت ببقايه، وأقمنا عنده أياماً، ورفعنا عنه مودعين لا تودع قاطع، ولا يمنعنا منه متى أحب مانع، ولحقنا الجزيرة الخضراء، ونحن نريد أشياء أسأل الله تمامها وإنجازها، وأن يسهل المراد ويوفقنا للسداد، ومتى تنفس منهم متنفس، وأرجح إلى أحدهم نفس، يذكرون ما لقوا، ويتذاكرون ما بقوا، وسنستدرجهم من حيث لا يعلمون، ولا وأملي لهم إن كيدي متين، حتى لا يبقى على أديم الأرض منهم حي، ولا يحس منهم أنسي. والحمد لله رب العالمين على ما قضى وخول وأعطى، وهذا كله منّاً منه علينا لا منّاً عليه، وصلى الله على محمد خاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات الله النعيم، وآله الطيبين، وسلم تسليما، والسلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته ".

- 2 - بعض " فصول " الكتاب الذي بعث به أمير المسلمين يوسف بن تاشفين إلى بلاد العدوة عقب موقعة الزلاّقة. (منقولة عن كتاب الأنيس المطرب بروض القرطاس - طبعة بسالة ص 96 - 98). " أما بعد حمد الله، المتكفل بنصر أهل دينه الذي ارتضاه، والصلاة على سيدنا محمد أفضل رسله، وأكرم خلقه وأسره، فإن العدو الطاغية، لعنه الله، لما قربنا من حماه، وتوافقنا بإزائه، بلغناه الدعوة، وخيرناه بين الإسلام والجزية والحرب، فاختار الحرب، فوقع الاتفاق بيننا وبينه، على الملاقات في يوم الاثنين الخامس عشر لرجب، وقال الجمعة عيد المسلمين، والسبت عيد اليهود، وفي عسكرنا منهم خلق كثير، والأحد عيدنا نحن، فافترقنا على ذلك وأضمر اللعين خلاف ما شرطناه، وعلمنا أنهم أهل خدع، ونقض عهود، فأخذنا أهبة الحرب لهم، وجعلنا عليهم العيون، ليرفعوا إلينا أحوالهم، فأتتنا الأنباء في سحر يوم الجمعة الثاني عشر من رجب المذكور أن العدو قد قصد بجيوشه نحو المسلمين، يرا أنه قد اغتنم فرصته في ذلك الحين، فنبذت إليه أبطال المسلمين، وفرسان المجاهدين، فتغشته قبل أن يتغشاها، وتعدته قبل أن يتعداها، وانقضت جيوش المسلمين في جيوشهم انقضاض العقاب على عقيرته، ووثبت عليهم وثوب الأسد على فريسته، وقصدنا برايتنا السعيدة المنصورة في سائر المشهدة المنتشرة، ونظروا إلى جيوش لمتونة نحو ألفنش، فلما أبصر النصارى رايتنا المشتهدة المنتشرة، ونظروا إلى مواكبنا المنتظمة المظفرة، وأغشتهم بروق الصفاح، وأضلتهم سحائب الرماح، ونزلت بحوافر خيولهم رعود الطبول بذلك الفياح، فالتحم النصارى بطاغيتهم ألفنش، وحملوا على المسلمين حملة منكرة، فتلقاهم المرابطون بنيات خالصة، وهمم عالية، فعصفت ريح الحرب وركبت دائم السيوف والرماح بالطعن والضرب. وطاحت المهج، وأقبل سيل الدماء في هرج، ونزل من سماء الله على أوليائه النصر العزيز والفرج، وولى ألفنش مطعوناً في إحدى ركبتيه طعنة أفقدته إحدى ساقيه في خمس مائة فارس من ثمانين

ألف فارس ومائتي ألف راجل، قادهم الله إلى المصارع والحتف العاجل، وتخلص لعنه الله إلى جبل هنالك، ونظروا النهب والنيران في محلته من كل جانب، وهو من أعلى الجبل ينظرها شزراً، ويحيد عنها صبراً، ولايستطيع عنها دفعاً، ولا لها نصراً، فأخذ يدعو بالثبور والويل، ويرجو النجاة في ظلام الليل، وأمير المسلمين بحمد الله قد ثبت في وسط مواكبه المظفرة، تحت ظلال بنوده المنتشرة، منصور الجهاد، مرفوع الأعداد، ويشكر الله تعالى على ما منحه من نيل السؤال والمراد، فقد سرح الغارات في محلاتهم تهدم بناءها، وتصطلم ذخائرها وأسبابها، وتريه رأي العين دمارها ونهبها، وألفنش ينظر إليها نظر ْالمغشى عليه، ويعض غيظاً وأسفاً على أنامل كفيه، فتتابعت البهرجة الفرار رؤساء الأندلس المنهزمين نحو بطليوس والغار، فتراجعوا حذاراً من العار، ولم يثبت منهم غير زعيم الرؤساء والقواد، أبو القاسم المعتمد بن عباد، فأتى إلى أمير المؤمنين، وهو مهيض الجناح، مريض عنة وجراح، فهنأه بالفتح الجليل، والصنع الجميل، وتسلل ألفنش تحت الظلام فاراً لا يهدى ولا ينام، ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربع مائة فلم يدخل طليطلة إلا في مائة فارس، والحمد لله على ذلك كثيراً. وكانت هذه النعمة العظيمة، والمنة الجسيمة، يوم الجمعة الثاني عشر لرجب سنة تسع وسبعين وأربع مائة، موافق الثالث والعشرين لشهر أكتوبر العجمي ".

- 3 - رسالة لابن (إسحق) عن المقتدر بالله إلى ابن عباد يعرفه بأمر أخيه صاحب لاردة. (منقولة عن المخطوط رقم 488 الغزيري بمكتبة الإسكوريال Fot.118V - 119R) " سيدي، وأعلى عددي، وأقوى عمدي، وأزكى ذخري لأبدي، ونعمة الله المستطيلة بيدي، المناهضة بعضدي، ومن أطال الله بقاه في عز رفيع المراتب، وحرز منيع الجوانب، إذ أحكام الفتن، وحوادث الزمن، لا تزال تحل على كل ما لا يقع بإيثار، ولا يجري على حكم واختيار، فرب كريهة لا يلقى المرء عن اقتحامها معدلا، ومساءة لا يزال عن التزامها مرحلا، وقديماً جَدّ الجفاء العقوق، وأبطل التجني الحقوق، وقد يخرج الحليم، ويتغيس الحميم، وتقطع الرحم، وتنبذ الذمم، لاسيما عن مجاذبة ما يمنع الحسد، باتراً أواصر الإخاء والإجمال، وتحاسد القرابة داء قديم، وخلق في الناس معلوم، وإني أيدك الله، بليت من المظفر أخي بظالم لا يؤمل منه إنصاف، ومتحمل لا تستنزله ألطاف، وحاسد لا يرجى استرضاؤه، وموجب لنفسه حقاً لا يوجب مضاؤه، إذا سألته نصفة أبدا منه أنفه، وإن سمته عدلا مال إلى الجور ميلا، وإن خفضت له جناح الذل، أوطأني جهر الجفا، وإن أقبلت عليه بناظر الود، أول من صفحة الإبداء، وإن استدنيته شحط، وإن استرضيته سخط، وإن حكمته تشطط، وإن أغضيت له تسلط، وأنا في أثناء ذلك كله أحاوله على أخلاقه، وألبسه على أخلاقه، وأستمع منه بغير مستمع، وأرفع منه بغير مرفع، وعقارب مضرته تدب، وعواصف معرته تهب، وأذاه قاصد إلى في خاصتي، ومفسد على بطانتي، لا يألو في مساءتي سعياه اجتهاداً، ولا آلو إلى مسرته تأنياً وانقياداً، آخذاً بالحجة عليه، وتقدماً بالجميل إليه، وطمعت أن تكون نظرة تريه مواقع ظلمه، وتعرفه جور حكمه، ولا يزداد إلا اغتراراً، ولا يبدى إلا استكباراً إلى أن سولت له نفسه أموراً كان فيها اضطلاع الإسلام، وحاول أحوالا تمامها هادية ... ورام معاجلتي بالتي ليحس فيها استبقاء، ولا بعدها بقاء، وسألني مع هذا الاجتماع بي ليسوسني ... الإذعان إلى مطالبه، والموافقة في مذاهبه، فأجبته

رجاء أن تكون المشافهة تستلبه، والملاطفة تلينه وتغريه فأبى إلا ..... وانبساطاً. فلما رأيته عن سوء معتقده غير ..... وعن فساد رأيه غير راجع، وغرني جماحه، وأعوزني استصلاحه، ونقلني عن سجيتي بكره، وكدر صفوي من كل وجه، راجحت في أمره بين أن أرضى الله عز وجل في قطيعته بالنظر لعباده، والحماية لبلاده، فما أطمع ........ وطأ نواحيها، وأمنع ممن رامه، وأدفع عنه من أراد اهتضامه، وأن أبتهل .... برحم عن نفسي، فرفع الله عن ذلك منزلتها، وبسط عليه مقدرتها، فرأيت النظر في قطع مضرته أولى، والسعي في حسم علته ومعرته أحمى، فأنفذت ذلك بعد استخارة الله تعالى فيه، وألزمته البقاء بقصبة منتشون، وللنفس يعلم الله مما حملني عليه ارتماض وشفاق، ولما يؤثره الرحم من ذلك إزعاج وإقلاق، إلا أنه لم يوجد إلى غير ذلك سبيلا، ولا جعلني إلى سواه مخيلا، وكان فيما يأتيه أعق، وبما جره القدر إليه بحكم اعتقاده أحق، وقد يستسهل المرء المكاره ما لم يجد عنها مذهباً، ويركب حد السيف إذا لم يجد سواه مركباً، والله يشهد لقد طوى جوانحي مما ساقني إليه على لواعج مزعجة، وخرق منضجة، وكتابي هذا من لاردة، وقد استقرت بحمد الله على الدعة أسباب قريرها، واتصل بجميل عونه تدبيرها، وتقضي أبقاك الله وكيد ما بيننا مقاسمتك الحال، وتعرفك المبدي منها والمآل، فإنك الشريك في الحلو والمر، والقيم في النفع والضر، وفي خلال هذا أعزك الله ما وردني ابن فلان خاصتك سلمه الله بكتابك الكريم، المشتمل على أحفل البر، والمقتضي لأجزل الشكر، ووقف به من حقائق الأحوال لديك على كل ما بسط أملي، وأكد جدلي، وعظمت نعم الله ...... وقد صدر أبقاه الله متحملا من صحة ودي، وثبات عهدي، وارتباط عقدي، .... الأحوال عندي ما يطلعك من ذلك كله على الجملة الكافية والجلية الشافية ".

- 4 - رسالة خاطب بها أبو عامر بن غرسية أبا عبد الله بن الحداد يعاتبه فيها ويفضل العجم على العرب وكتب بها من لاره (منقولة عن مخطوط الإسكوريال رقم 538 الغزيري لوحة 26 - 29) سلام عليك ذا االروى المروي الموقوف قريضه على حللة بجانة، أرش اليمن، بزهيد الثمن، كأن ما في الأرض إنسان الا من غسّان، أو من آل ذي حسان. وإن كان القوم أقنوك، وعن العالم أغنوك، على حسب المذكور، فلما هذا الإعمال للكور، وترك الوكور. وقل ما تأخذ الشعرة في الرحيل إلا عن الربع المحيل، ولو أن القوم خلطوك بالآل، لما أحوجك إلى الخبط في الآل. مه مه، من أحوجك إلى ركوب المهمة وثقف، وودك لا نقف، على من اضطرك إلى الايغال، وباعك بيع المسامح بك لا المغال، وعوضك من الأندية، يجوب الأودية، ومن المآلف بقطع المتالف، وحملك على مخالفة الحَصان، ومحالفة الحِصان، ووكلك بمسح الأرض، ذات الطول والعرض، فإذا يممت تبالة، تتباله، وصرت ضغثاً على إبالة، تتعلل باليمين، ضنا بالعلق الثمين. أأحسبك أزريت، وبهذا الجيل البجيل ازدريت، وما دريت، أنهم الصهب الشهب، ليسوا بعرب، ذوي أينق جرب، أساورة أكاسرة، مُجد نُجد بُهم، لا رعاة شويهات ولا بهم، شغلوا بالماذي والمرّان عن رعي البعران، وبجلب العز، عن حلب المعز، جبابرة قياصرة، ذوو المغافر والدروع، للتنفيس عن روع المروع، حماة السروح، نماة الصروح، صقورة، غلبت عليهم شقورة، وشقورة الخرصان، لكنهم خَطَبة بالخرصان. ما ضرهم أن شهدوا مجادا ... أو كافحوا يوم الوغى الأنداد أن لا يكون لونهم سوادا

أرومة رومية، وجرثومة أصفرية. نمتهم ذوو الأحساب والمجد والعلى ... من الصهب لا راعو غضاً وأفان من القوم الملس الأدم، لم تُعرق فيهم الأقباط، ولا الأنباط، حسب حريّ، ونسب سريّ، أمكم لأمنا كانت أمة، إن تنكروا ذلك تلفوا ظلمة، ولا تهايل، في التكايل، فما سسنا قط قرودا، ولا حكنا برودا، ولا لكنا عرودا، فلا تَهاجر، بني هاجَر، أنتم أرقاؤنا وعبدتنا، وعتقاؤنا وحفدتنا، منَنَّا عليكم بالعتق، وأخرجناكم من ربق الرق، وألحقناكم بالأحرار، فغمطتم النعمة، فصفعناكم صفعا، يشارك سفعا، اضطركم إلى سكنى الحجاز، وألجأكم إلى ذات المجاز، رُزُن، رُصُن. جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم ... بعد الممات جَمال الكُتْب والسير ْإذا قامت الحرب على ساق، وأخذت في اتساق، وقرعت الظنابيب، وأشرعت الأنابيب، وقلصت الشفاه، وفغر الهدان فاه، وولى قفاه، ألفيتهم ذمرة الناس، عند احمرار الباس، الطعن بالأسل، أحلى عندهم من العسل. مستسلمين إلى الحتوف كأنما ... بين الحتوف وبينهم أرحام من أمنياتهم، حلول منياتهم، لهم على القدمة اليدان، على التنائي والتدان. من الألى غير زجر الخيل ما عرفوا ... إذ تعرف العُرب زجر الشَّاء والعكر بُصُرٌ صُبر، تزدان بهم المحافل والجحافل، قيول على خيول، كأنها فيول، كواكب المواكب، نجوم الرجوم، من العجم، ضراغمة الأجم، بنو غاب، منتفون من كل عاب، لم تلدهم صواحب الرايات، بل تبجحت عليهم سارة الجمال، ربة الآيات، شُمخ، بُذخ، بررة أقيال، جررة أذيال. بخ بخ، أحلتهم سيوفهم سِطة الأرضين، فما قنعوا بذلك ولا رضين، حتى دوخوا المشارق والمغارب، واستوطنوا من المجد الذروة والغارب. بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كتشهاق العفا هَمَّ بالنهق شرهوا برنات السيوف، لا بربات الشنوف، وبركوب السروج، عن

الكلب والفرُّوج، وبالنفير عن النقير، وبالجنائب عن الحبائب، وبالخب عن الحب، وبالسليل عن الشليل، وبالأمر والذمر، عن معاقرة الخمر والزمر، وباللقيان عن العقيان، وعن قنيان القيان، طِياتهم خطياتهم، وغلاتهم، آلاتهم وحصونهم، حصنهم أقيال، آباؤهم من بين الأنام أقتال. أولئك قومي إن بنوا شيّدوا البنى ... وإن حاربوا جدّوا وان عقدوا سدّوا وُضُحٌ رُجح، لا حفزة عكر، ولا قفزة أكر، ملوك جلة، لا محرِقوا جلة، ندس، غنوا بالإستبرق والسندس. عن البيت المقيظ المشتى، المجموع من النعيجات الست. بسل لا حراس مسل، ولا غراس فسل، مُلَّك لقاح، ليس منهم في ورد ولا صدر شرّاب دَرِّ اللقاح، بل شرابهم النبيذ، وطعامهم الحنيذ، لا زهيد الهبيد في البيد، ولا مكون الوكون، ولا منهم من احتشا، بمذموم الكُشا، ولا في سائر الاحفاش، من وليد وناش، من اغتذى بالأحناش. فلا يقعقع لهم بالشِّنان، ولا يوعوع لهم بالشنآن، فكف أيها الشان، فلهم عظيم الشان. واليد الطولى إذ تخلصوكم من أكف الحبشان، صنيع منيع. ومنة لايشوبها منة، فيالها منحة، لكنها أعقبت محنة، إذ صادفت كفرة، لاشكرة، إيهاً إذ تأبطتم تيهاً، معشر البداة العداة. اعتقدتم غِلاَّ، فاستثرتم صلا. أما علمتم ان الدولة النوشروانية، والمملكة الأزدشيرية، بقروا أجوافكم، وخلعوا أكتافكم، ثم عطفوا ورأفوا، وملكوكم الحيرة بعد عظيم الحيرة، قللا ذللا. تتخيرون البنات عند البيات مبهورات لا ممهورات. فبرم من ذلك غسّانكم ونُعمانكم، وكان برمه سببا لدرء أمانكم، فأصبح بعد جر الذيول، مدوساً بأخفاف الفيول؛ والكرام بنو الأصفر، الأطهر الأظهر, عطفتهم عليكم الرحم الإبراهيمية، والعمومة الإسماعيلية. فسمحوا لكم من الشام بأقصى مكان، بعد ما كان، من سيل العرم ما كان، يؤدي نعمانكم وغسانكم لقروم الأعاجم، الإتاوة على الجماجم. هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا به بعد أبوالا F.28A مهلا بني الأماء، عن الغمز والإيماء، فنحن عُرق غُرق، في الأنساب الصميمة، والأحساب العميمة، فمن يهولنا أو يروعنا،

وقد رسخت في المجد أصولنا وفروعنا، ومن يطولنا، وكل الورى قد شمله فضلنا وطولنا: شرفٌ ينطح النجوم بروقيه ... وعزٌّ يقلقل الأجيالا حُلُم، عُلُم، ذوو الآراء الفلسفية الأرضية، والعلوم المنطقية الرياضية، كحملة الاسترلوميقي. والموسيقي، والعَلَمة، بالارتماطيقي، والجومطريقي، والقومة بالألوطيقي والبوطيقي، ما شئت من تدقيق، وتحقيق، حبسوا أنفسهم على العلوم البدنية والدينية، لا على وصف الناقة الفدنيّة، فعلهم ليس بالسفساف، كفعل نائله وإساف. أصغر بشأنكم، إذ بزق خمر، باع الكعبة أبو غبشانكم، وإذ أبو رغالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستيصالكم. أزيدك أم كفاك وذاك أني ... رأيتك في انتحالك كنتَ أحمق فلا فخر معشر العربان الغربان، بالفديم، المفرِّي للأديم، لاكن الفخر يابن عمنا، الذي بالبركة عمّنا، الإبراهيمي النسب، الإسماعيلي الحسب، الذي انتشلنا الله تعالى به وإياكم من العماية والغواية، أما نحن فمن أهل التثليث وعبادة الصلبان، وأنتم من أهل الدين المليث وعبادة الأوثان، ولاغرو أن كان منكم حبره وسبره، ففي الرغام يلقى تبره، والمسك بعض دم الغزال. لله مما قد برا صفوة ... وصفوة الخلق بنو هاشم وصفوة الصفوة من بينهم ... محمد النور أبو القاسم بهذا النبي الأمي أفاخر من تفخّر، وأكابر من تقدم وتأخر، الشريف السلفين، والكريم الطرفين، الملتقي بالرسالة، والمنتقي للأداء والدلاّلة، أصلي عليه عدد الرمل، ومدد النمل، وكذلك أصلي على واصلي جناحه، سيوفه ورماحه، أصحابه الكرام، عليهم من الله أفضل السلام. يابن الأعارب ما علينا باس ... لم أحك إلا ما حكاه الناس هذا: ولم أشتم لكم عرضا ولاكن ... حَدوَت بحيث يُستمع الحداء

ثم أجح بشاعر غسّان، لا ساسان في هذا العيد بالوعيد، وأحر في في هذا الفصل بعدم الوصل. لقد غَم آخرك، لكن بالرغم أخرك إذ أضربت عن مديح، علقنا الربيح، معز الدولة، شهمنا الرئيس وسهمنا النفيس قَيل الأمم، وسيل الأمم، معنى المعاني، ومغنى المغاني، ذي الرياسة الساسانية، والنفاسة النفسانية، فاذهب يا غثّ المذهب، وابتغ في الأرض نفقا، أو في السماء مرتقى، فهده أليّة، جلبت عليك بليّة، أو حُك من البسيط المديد، ما تستجير به من بطشنا الشديد، إذ نحن معشر الموالي، لا نوالي، إلا من هو لعظيمتنا موالي، وحذار حذار ان تقرع سن الندم، ولات حين مندم، قبل أن تجمع ذنوبك على ذنوبك، وكُربك في كَرَبك، فمن أبصر أقصر، وما حرّف، من صديقه خرّف. فلا تتبشع ممضَّ العتا ... ب يلقاك يوما بلقياه لاق فإن الدواء حميد الفعال ... وإن كان مُرَّا كريه المذاق يا معتقل علم الشعر، والمستقل بقلم النظم والنثر: قد استحييت منك فلا تكلني ... إلى شىء سوى عذر جميل وقد أنفذت ما حقي عليه ... قبيح الهجو أو شتم الرسول وذاك على انفرادك قوت يوم ... إذا أنفقت إنفاق البخيل وكيف وأنت علويّ السجايا ... وليس إلى اقتصادك من سبيل وقد يقوى الفصيح فلا تقابل ... ضعيف البر إلا بالقبول وإن الوزن وهو أصح وزن ... يقام صَغَاه بالحرف العليل فإن يك ما بعثت به قليلا ... فلي حال أقل من القليل نجزته من كلام المعري والسلام عليك ما سبح الفَلَك وسبّح المَلَك، ورحمة الله وبركاته.

دول الطوائف جدول تاريخي مفصل دولة بني جهور في قرطبة أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور 422 - 435 هـ: 1031 - 1044 م أبو الوليد محمد جهور 435 - 457 هـ: 1044 - 1064 م عبد الملك بن محمد بن جهور 457 - 463 هـ: 1064 - 1070 م. المعتمد بن عباد يستولي على قرطبة سنة 463 هـ دولة بني عباد في إشبيلية القاضي محمد بن إسماعيل بن عباد 414 - 433 هـ: 1023 - 1042 م عباد بن محمد المعتضد 433 - 461 هـ: 1042 - 1069 م محمد بن عباد المعتمد 461 - 484 هـ: 1069 - 1091 م. إشبيلية تسقط في أيدي المرابطين دولة بني الأفطس في بطليوس عبد الله بن محمد بن مسلمة المنصور 413 - 437 هـ: 1022 - 1045 م محمد بن عبد الله المظفر 437 - 461 هـ: 1045 - 1068 م يحيى بن محمد المنصور 461 - 464 هـ: 1068 - 1072 م عمر بن محمد المتوكل 464 - 488 هـ: 1072 - 1094 م. بطليوس تسقط في أيدي المرابطين دولة بني يحيى في لبلة أبو العباس أحمد بن يحيى 414 - 434 هـ: 1023 - 1042 م محمد بن يحيى عز الدولة 434 - 443 هـ: 1042 - 1051 م فتح بن خلف ناصر الدولة 443 - 445 هـ: 1051 - 1053 م. لبة تسقط في يد المعتضد بن عباد دولة بني مُزين في باجة وشلب الحاجب عيسى محمد ... - 432 هـ: ... - 1041 م محمد بن عيسى عميد الدولة 432 - 440 هـ: 1041 - 1048 م

عيسى بن مُزين المظفر 440 - 445 هـ: 1048 - 1053 م محمد بن عيسى الناصر 445 - 450 هـ: 1053 - 1058 م عيسى بن محمد المظفر 450 - 455 هـ: 1058 - 1063 م. شلب تسقط في يد المعتضد بن عباد دولة بني البكري في ولبه وجزيرة شلطيش عبد العزيز البكري عز الدولة 403 - 443 هـ: 1012 - 1051 م. ولبة وشلطيش تسقطان في يد المعتضد دولة بني هارون في شنتمرية الغرب سعيد بن هارون 417 - 433 هـ: 1026 - 1041 م محمد بن سعيد المعتصم 433 - 443 هـ: 1041 - 1051 م. شنتمرية الغرب تسقط في يد المعتضد دولة بني ذى النون في طليطلة إسماعيل بن ذى النون الظافر 427 - 435 هـ: 1036 - 1043 م يحيى بن إسماعيل المأمون 435 - 467 هـ: 1043 - 1075 م يحيى بن إسماعيل بن يحيى القادر 467 - 478 هـ: 1075 - 1085 م. طليطلة تسقط في يد ألفونسو السادس دولة بني مناد في غرناطة زاوي بن زيري 403 - 410 هـ: 1013 - 1019 م حبوس بن ماكسن 411 - 428 هـ: 1020 - 1037 م باديس بن حبوس المظفر 428 - 465 هـ: 1037 - 1073 م عبد الله بن بلقين 465 - 483 هـ: 1073 - 1090 م. المرابطون يستولون على غرناطة دولة بني برزال في قرمونة محمد بن عبد الله بن برزال 404 - 434 هـ: 1013 - 1042 م عزيز بن محمد المستظهر 434 - 459 هـ: 1042 - 1067 م. قومونة تسقط في يد ابن عباد دولة بني دمّر في مورور نوح بن أبي تزيري الدمري 403 - 433 هـ: 1013 - 1041 م

محمد بن نوح عز الدولة 433 - 445 هـ: 1041 - 1053 م مناد بن محمد عماد الدولة 445 - 458 هـ: 1053 - 1066 م. مورور تسقط في يد ابن عباد دولة بني خزرون في أركش محمد بن خزرون عماد الدولة 402 - 420 هـ: 1011 - 1029 م عبدون بن محمد بن خزرون 420 - 445 هـ: 1029 - 1053 محمد بن محمد بن خزرون القائم 445 - 461 هـ: 1053 - 1068 م. أركش تسقط في يد ابن عباد دولة بني يفرن في رندة هلال بن أبي قرة اليفرنى 406 - 445 هـ: 1015 - 1053 م باديس بن هلال 445 - 449 هـ: 1053 - 1057 م أبو نصر فتوح بن هلال 449 - 457 هـ: 1057 - 1065 م. رندة تسقط في يد ابن عباد مملكة ألمرية 1 - خيران العامري 405 - 419 هـ: 1014 - 1028 م زهير العامري 419 - 429 هـ: 1028 - 1038 م عبد العزيز المنصور 429 - 433 هـ: 1038 - 1041 م 2 - معن بن صمادح 433 - 443 هـ: 1041 - 1051 م محمد بن معن المعتصم 443 - 484 هـ: 1051 - 1091 م أحمد بن محمد معز الدولة 484 هـ - 1091 م. المرابطون يستولون على ألمرية مملكة مرسية 1 - خيران العامري 403 - 419 هـ: 1012 - 1028 م زهير العامري 419 - 429 هـ: 1028 - 1038 م أبو بكر بن طاهر 429 - 455 هـ: 1038 - 1063 م أبو عبد الرحمن بن طاهر 455 - 471 هـ: 1063 - 1078 م (حكم بنو طاهر باسم عبد العزيز المنصور صاحب بلنسية وولده عبد الملك). المعتمد بن عباد يستولي على مرسية

2 - ابن عمار 471 - 473 هـ: 1078 - 1081 م ابن رشيق 473 - 484 هـ: 1081 - 1091 م. المرابطون يستولون على مرسية مملكة دانية والجزائر 1 - مجاهد العامري الموفق 400 - 436 هـ: 1009 - 1044 م على بن مجاهد إقبال الدولة 436 - 468 هـ: 1044 - 1076 م 2 - المقتدر بن هود صاحب سرقسطة 468 - 474 هـ: 1076 - 1081 م المنذر بن هود 474 - 483 هـ: 1081 - 1091 م. المرابطون يستولون على دانية مملكة بلنسية الفتيان مظفر ومبارك 400 - 408 هـ: 1009 - 1017 م لبيب العامري 408 - 411 هـ: 1017 - 1021 م عبد العزيز المنصور 411 - 452 هـ: 1021 - 1061 م عبد الملك بن عبد العزيز 452 - 457 هـ: 1061 - 1065 م. المأمون بن ذى النون يستولي على بلنسية نائبه أبو بكر بن عبد العزيز 457 - 478 هـ: 1065 - 1085 م عثمان بن أبى بكر 478 - ... هـ: 1085 - ... م القادر بن ذى النون 478 - 485 هـ: 1085 - 1092 م القاضي ابن جحّاف 485 - 487 هـ: 1092 - 1094 م السيد إلكمبيادور والقشتاليون 487 - 495 هـ: 1093 - 1102 م. المرابطون يستولون عل بلنسية إمارة شنتمرية الشرق هذيل بن عبد الملك بن رَزين 403 - 436 هـ: 1012 - 1045 م عبد الملك بن هذيل 436 - 496 هـ: 1046 - 1103 م يحيى حسام الدولة 496 - 497 هـ: 1103 - 1104 م. المرابطون يستولون عل شنتمرية الشرق إمارة ألبونت عبد الله بن قاسم 400 - 431 هـ: 1009 - 1039 م

محمد بن عبد الله يمن الدولة 431 - 434 هـ: 1039 - 1042 م أحمد بن محمد عز الدولة 434 - 440 هـ: 1042 - 1048 م عبد الله بن محمد جناح الدولة 440 - 495 هـ: 1048 - 1102 م. المرابطون يستولون على ألبونت مملكة سرقسطة 1 - المنذر بن يحيى التجيبي 408 - 414 هـ: 1017 - 1023 م يحيى بن المنذر المظفر 414 - 420 هـ: 1023 - 1029 م المنذر بن يحيى معز الدولة 420 - 430 هـ: 1029 - 1039 م 2 - سليمان بن هود المستعين 431 - 438 هـ: 1039 - 1046 م أحمد بن سليمان المقتدر 438 - 474 هـ: 1046 - 1081 م يوسف بن أحمد المؤتمن 474 - 478 هـ: 1081 - 1085 م أحمد بن يوسف المستعين 478 - 503 هـ: 1085 - 1110 م عبد الملك بن أحمد عماد الدولة 503 - ... هـ: 1110 - ... م. المرابطون يستولون على سرقسطة

ثبت المراجع

ثبت المراجع - 1 - تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر (بولاق). تاريخ ابن الأثير (الطبعه الأهلية 1303 هـ). وفيات الأعيان لابن خلكان (بولاق). نهاية الأرب للنويري. (القسم التاريخي، ومعظمه لا يزال مخطوطا). نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري (الطبعة الأهلية 1302 هـ). البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب لابن عذارى المراكشي (الجزء الثاني المنشور بعناية العلامة دوزي (1849) والثالث المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (باريس 1930). الإستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوي (القاهرة 1306 هـ). الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني (المجلدات الثلاثة المنشورة بعناية كلية الآداب بجامعة القاهرة وما نشر منه في موسوعة دوزي عن بني عباد Hist. Abbad، والقسم المخطوط المنوه عنه فيما بعد. كتاب الصلة لابن بشكوال (ضمن المكتبة الأندلسية، والقاهرة سنة 1955 م) التكملة لكتاب الصلة لابن الأبار القضاعي (ضمن المكتبة الأندلسية). بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس للضبي (ضمن المكتبة الأندلسية والقاهرة 1955 م). الحلة السيراء لابن الأبار القضاعي (القسم المنشور بعناية العلامة دوزي ليدن 1847 م). والأصل الكامل المخطوط المنوه عنه فيما بعد. (وطبعة القاهرة الصادرة بتحقيق الدكتور حسين مؤنس (1964 م) في مجلدين). جذوة المقتبس لأبى عبد الله الحميدي (القاهرة). المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي (القاهرة 1332 هـ). الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس لابن أبي زرع الفاسي المنشور بعناية المستشرق كارل تورنبرج (أبسالة 1843 م). الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية (طبع تونس).

العصر الثالث عصر المرابطين والموحدين فى المغرب والأندلس

دولة الإسلام في الأندلس تأليف محمَّد عبد الله عِنَانْ العصر الثالث عصرُ المرابطين والمُوَحّدينْ في المغرب والأندلس القسْم الأول عصْر المُرابطين وبدَاية الدّولة الموحّدية

_ الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة الطبعة: الثانية، 1411 هـ - 1990 م

الطبعة الثانية 1411 هـ = 1990 م مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر 68 شارع العباسية. القاهرة. ت: 827851

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة حينما عولت على كتابة تلك السيرة المشجية، الحافلة بالعبر - تاريخ الأندلس - لم يكن يجول بخاطري، أن المهمة تقتضي حياة بأسرها، وأن الأعوام سوف تمر تباعاً، دون أن تصل إلى غايتها. وقد مضى الآن مذ أصدرت القسم الأول من " دولة الإسلام في الأندلس " في سنة 1942، عشرون عاماً، كرست خلالها، معظم أوقاتي وجهودي، لإتمام هذه المهمة. ومنذ اثنتي عشر عاماً، وأنا دائب التردد على اسبانيا والمغرب، أنقب باستمرار في مكتباتهما، ودور محفوظاتهما، عن كل ما يتعلق بهذه السيرة من مصادر، ووثائق مخطوطة، وغير مخطوطة. عربية أو قشتالية، حتى أضحت هذه المهمة، مهمة حياتي، لا أدخر في تحقيقها وسيلة ولا جهداً. وقد استطعت خلال هذه الحقبة الطويلة، أن أكتب تاريخ الأندلس منذ الفتح إلى نهاية دول الطوائف، في ثلاثة مجلدات، وأن أكتب في نفس الوقت تاريخ المرحلة الأخيرة من دولة الإسلام في الأندلس، أعني تاريخ مملكة غرناطة حتى سقوطها، ثم تاريخ الأمة الأندلسية المغلوبة واستشهادها المؤسي، ومحنتها الأخيرة، بإخراج بقاياها المتنصرة من أوطانها القديمة، وذلك في مجلد كبير، هو " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين ". وكانت الثغرة التي بقيت بين نهاية عهد الطوائف، وقيام مملكة غرناطة، وهي عصر المرابطين والموحدين، وهي ثغرة تستغرق من الزمن نحو مائة وخمسين عاماً - كانت تروعني دائماً بطول مداها، وتشعب آفاقها، وخصوصاً بالمغرب. ولكن، كان لابد لإتمام المهمة التي كرست لها بقية حياتي، وهي تسطير تاريخ الأندلس منذ الفتح إلى النهاية، أن أقتحم هذا الميدان الوعر، وأن أعكف على كتابة تاريخ هذا العصر، بالرغم من كل ما يكتنفه من صعاب وغموض، حتى تجبر

الثغرة، وتتصل المراحل، ويغدو تاريخ الأندلس، والأمة الأندلسية، كله، وقد استكملت حلقاته، منذ بدايته إلى نهايته. وانه ليملأ نفسي اليوم غبطة، أنني قد استطعت بعون الله، أن أتمم هذه المهمة، وأن أكتب تاريخ عصر المرابطين والموحدين، في المغرب والأندلس، بعد أعوام من العمل الشاق، والجهد المتواصل، والتنقيب المستمر، في مكاتب مدريد، والإسكوريال، والرباط، وفاس، والقاهرة، ولندن، وأكسفورد، والفاتيكان. وقد حرصت فضلا عن تقصي المصادر والوثائق، على دراسة المواطن الجغرافية والاستراتيجية دراسة عملية، فزرت بالمغرب سائر عواصمه التاريخية، وزرت منطقة جبال الأطلس ومدينة تينملّل، مكة المهدي ابن تومرت، ودرست طريق مسير الجيوش المرابطية والموحدية، إلى شبه الجزيرة الإسبانية، وزرت مواقع العبور إليها من جانبي المضيق. وأما بالأندلس فإني لم أترك قاعدة أو مدينة أندلسية قديمة حتى زرتها، ودرست معالمها القديمة، وآثارها الأندلسية الباقية. وقد حرصت بنوع خاص على أن أدرس مواقع المعارك العظيمة، التي نشبت يين الموحدين وبين اسبانيا النصرانية، في شنترين، وفي شلب، ثم الأرك، وفي العقاب. وقد قضيت عدة أيام في دراسة مواقع هاتين المعركتين العظيمتين الحاسمتين - الأرك والعقاب - وقمت لذلك برحلة خاصة، طفت فيها بسهل الأرك، ومواقع قلعة رباح القديمة. ثم قصدت إلى جبال سييرّا مورينا التي تفصل بين الأندلس وبين قشتالة، وصعدت إلى آكامها، وتجولت في هضابها، وطفت بسائر الأماكن التي وقعت فيها معركة العقاب، من وعر ومن سهل، وهي المعركة التي سحقت فيها الجيوش الموحِّدية، وانتهت بانحلال سلطان الموحدين، وانحلال الأندلس، ثم سقوط سائر قواعدها العظيمة، فيما لا يزيد عن ثلاثين عاماً. وكانت هذه الدراسات الجغرافية، والطبوغرافية، تمدني بكثير من أسباب الإيضاح والإدراك لظروف هذه االمواقع، والنتائج التي انتهت إليها، وتعاون على الدقة في وصف مراحلها وتطوراتها. وثمة مسألة أخرى جديرة بالتنويه، وهي أن كتابة تاريخ عصر المرابطين والموحدين، تعتبر قبل كل شىء تسطيراً لتاريخ المغرب، ولا يشغل فيه تاريخ الأندلس سوى حيز يسير، فقد كانت الأندلس أو شبه الجزيرة الأندلسية، في هذا العصر الذي استطال زهاء قرن ونصف، ولاية مغربية، داخل الإمبراطورية

المغربية الكبرى، المرابطية، ثم الموحدية. بيد أن حكم المرابطين، ثم الموحدين لولاية الأندلس، والظروف العسكرية، والإدارية، والاجتماعية، التي أحاطت بحكم كل من هاتين الدولتين العظيمتين للأمة الأندلسية، لا يمكن أن تفهم إلا على ضوء التفاصيل الكاملة لحكم كل منهما للامبراطورية المغربية الكبرى. ومن ثم فقد كان لزاماً عليّ أن أكتب تاريخ عصر المرابطين والموحدين بالمغرب كاملا، بالرغم مما يحيق بهذه المهمة من صعاب لا نهاية لها، سواء من الناحية الجغرافية أو القبلية، أو ناحية الاستيعاب التاريخي. وإني لأرجو أن أكون قد وفقت إلى بعض ما طمحت إليه، من عرض تاريخ هذه الفترة الهامة من تاريخ الإمبراطورية المغربية الكبرى، في صورته الحقيقية الكاملة. هذا مع العلم بأني قد استعرضت في كتابي " دول الطوائف "، وهو الذي يتناول العصر الثاني من كتاب " دولة الإسلام في الأندلس " نشأة المرابطين، وفتوحهم في المغرب، وقيام الدولة المرابطية الكبرى، على يد عاهلها العظيم يوسف بن تاشفين، ثم عبور المرابطين إلى الأندلس، لإنجاد أمراء الطوائف في موقعة الزلاّقة، وما تلا ذلك من فتح المرابطين لدول الطوائف، واستيلائهم على شبه الجزيرة الأندلسية، ومن ثم فإني لم أجد موضعاً لتكرار ما سبق أن كتبت في هذا الشأن. ولهذا فقد بدأت كتابي هذا، بالتحدث عن خاتمة عهد يوسف بن تاشفين. وقد رأيت أن أستعرض في فصل خاص، أهم المصادر المخطوطة وغير المخطوطة، التي كانت قبل غيرها، عمادي في البحث والدرس. ومن المحقق أن هذه المصادر، بالرغم مما تقدمه إلينا أحياناً من مواد أصيلة ومعاصرة، لا شك في أهميتها ونفاستها، لا تقدم إلينا سوى القليل، ولا تعالج إلا بعض نواحي المسائل الكبرى، التي يعرضها لنا تاريخ الدولتين المرابطية والموحدية، بيد أنها من جهة أخرى تلقى أضواء كثيرة على النواحي السياسية والإدارية لحكم المرابطين والموحدين، ولاسيما لشبه جزيرة الأندلس، فقد كانت لكل من الدولتين في حكم الأندلس، أوضاع ومبادىء خاصة. وأود أن أشير هنا إلى أني قد جريت في كتابة تاريخ عصر المرابطين، والموحدين، وهو العصر الثالث من كتاب " دولة الإسلام في الأندلس " - على نفس الأسلوب الذي جريت عليه في كتابة العصرين الأول والثاني، ثم الرابع

(نهاية الأندلس)، وحرصت على أن أستعرض نظم الحكم والأوضاع السياسية والدينية، لكل من الدولتين، المرابطية والموحدية، وسير الحركة الفكرية الأندلسية، والأحوال الاجتماعية في ظل كل منهما، وذلك بقدر ما تمدنا به المصادر والوثائق التي بين أيدينا. كما خصصت لتاريخ اسبانيا النصرانية مكانها المعتاد، وفقاً لما جريت عليه في العصور الأخرى. وكذلك عنيت عناية خاصة بتزويد الكتاب بالخرائط التاريخية، والرسوم الطبوغرافية، التي تبين مواقع المعارك الكبرى، وقد زرتها بنفسي كما تقدم، وأرجو أن يكون في ذلك ما يسهل مهمة القارىء والباحث، في فهم أوضاع هذه المعارك وظروفها وتطوراتها. وقد ألحقت بنهاية الكتاب طائفة من الوثائق الهامة المرابطية والموحدية، والوثائق الأخرى التي رجعت إليها، ومنها ما لا يزال مخطوطاً لم ينشر بعد، وذلك تسهيلا لمهمة الباحثين في هذا الميدان، في التزود بمعلومات أوفى عن الموضوعات التي تتناولها. وإنه لا يسعني في الختام، إلا أن أقدم جزيل الشكر والعرفان لسائر الهيئات العلمية والمكتبية، التي ساهمت في تسهيل مهمتي، في البحث والمراجعة، والتصوير والنقل، وفي مقدمتها معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، ومكتبة الإسكوريال، ومكتبة مدريد الوطنية، وخزانة الرباط، وخزانة جامع القرويين بفاس، وقسم المخطوطات بالمتحف البريطاني، والمكتبة البودلية بأكسفورد، ودار الكتب المصرية، فقد كان لي من ذخائر هذه الهيئات، والمكتبات الجليلة، خير منهل، وخير معين لي، في تأليف هذا الكتاب. القاهرة في رجب سنة 1383 الموافق مارس سنة 1963 محمد عبد الله عنان

بيان عن المصادر كان عصر المرابطين والموحدين، من حيث المصادر والوثائق، من أشق مراحل هذه السلسلة من تاريخ المغرب والأندلس، التي نضطلع بكتابتها منذ أعوام طويلة، وذلك نظراً لاستطالة مداه، وتشعب نواحيه، وكثرة ثغراته الغامضة. وقد بذلنا خلال الأعوام التي قضيناها في كتابة تاريخ هذا العصر، جهوداً مضنية، في استيعاب مصادره، وتقصي الوثائق التي تكشف عن أحداثه وخواصه، وقمنا في هذا السبيل بعدة رحلات إلى اسبانيا والمغرب وانجلترا. وقد رأينا أن نستعرض في هذا البيان الموجز، أهم المصادر والوثائق المخطوطة والمنشورة، التي كانت عمادنا في كتابة هذا التاريخ، وسوف نعود في نهاية الكتاب، فنخص المصادر بثبت عام شامل، يضمها جميعاً من مخطوط ومنشور، ومن عربية، ولاتينية وقشتالية، وغيرها. كتاب " المن بالإمامة " نستطيع أن نقول إن هذا الكتاب، أو بالحري القسم الذي وصلنا منه، هو أهم مصادرنا المخطوطة عن المرحلة الأولى من تاريخ الدولة الموحدية. واسمه الكامل هو حسبما جاء في الصفحة الأولى، من المخطوط الوحيد الذي انتهى إلينا، " كتاب تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين، بأن جعلهم الله أئمة، وجعلهم الوارثين، وظهور الإمام أمير الموحدين على الملثمين، وفي مساق ذلك خلافة الإمام الخليفة أمير المؤمنين [وأحد] الخلفاء الراشدين ". وأما مؤلفه، فقد ورد اسمه في صفحة العنوان على النحو الآتي: " أنهى تأليفه، وأبدع تحبيره وتصنيفه، عبد الملك ابن محمد بن صاحب الصلاة الباجي رحمه الله ". ويحفظ هذا المخطوط بمكتبة جامعة أكسفورد المسماة " بالمكتبة البودلية " Bodleian Library ، وهو مسجل في فهرس المخطوطات الشرقية بها، المنشور باللاتينية في سنة 1787 في صفحة 167، برقم DCCLVIII (1758)، فهو بذلك من أقدم مخطوطاتها الشرقية. وهذا المخطوط عبارة عن مجلد ضخم، يقع في 194 لوحة مزدوجة، أعني

في 388 صفحة كبيرة الحجم (نحو 30 في 20 سم) في كل منها 19 سطراً، وفي كل سطر نحو تسع كلمات، ومكتوب بخط أندلسي كبير واضح، وهو سليم جيد الحفظ، ما عدا ورقته الأولى فهي قديمة باهتة، ومجلد بجلد متين. وليس في بداية المخطوط أو نهايته ما يدل على تاريخ كتابته، ولكن يبدو من كتابته وحالته، أنه ربما يرجع إلى القرن الثامن أو التاسع الهجري (الرابع عشر أو الخامس عشر). ولا يضم هذا المخطوط من كتاب " المن بالإمامة " سوى " السفر الثاني " وذلك حسبما سجل في صفحة العنوان، وحسبما ورد في ختام المخطوط على النحو الآتي: " كمل السفر الثاني من كتاب تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين بأن جعلهم الله أئمة وجعلهم الوارثين وصلى الله على محمد وآله، يتلوه الثالث بحول الله سنة تسع وستين وخمسماية، خبر وصول العلج الطاغية ". ويبدو من عنوان الكتاب الذي تقدم ذكره، أن السفر الأول منه، يتضمن تاريخ قيام الموحدين، وظفرهم بالتغلب على المرابطين، وتاريخ أول خلفاء الموحدين عبد المؤمن بن علي، وهذا السفر الأول من الكتاب لم يصل إلينا، كما لم يصل إلينا سفره الثالث الذي أشير إليه في ختام المخطوط. وأما السفر الثاني وهو الوحيد الذي انتهى إلينا، فيبدأ بحوادث سنة 554 هـ، وينتهي بحوادث سنة 568 هـ، وهي فترة قصيرة من الناحية الزمنية، ولكنها حافلة بالحوادث الهامة، التي يعرضها لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان شاهد عيان لكثير منها، في تفصيل شاف؛ على أن الأحداث التاريخية ليست أهم ما يتضمنه كتاب " المن بالإمامة ". ذلك أن أهم وأنفس ما يتضمنه الكتاب، هو تلك المجموعة من الرسائل والوثائق الموحدية الصادرة عن الخلفاء والأمراء الموحدين، التي ينقلها إلينا ابن صاحب الصلاة، وتلك التفاصيل الدقيقة التي يقدمها إلينا عن نظم الحكم الموحدية، وعن الشئون الإدارية والمالية، وهذه الوثائق والتفاصيل تلقي أكبر ضوء على خواص الحكم الموحدي، والدولة الموحدية. وبالرغم من أن السفر الثاني الذي انتهى إلينا من كتاب " المن بالإمامة " ينتهي كما تقدم بحوادث سنة 568 هـ، وبالرغم من أن البحث لم يظفر حتى يومنا، بالحصول على نص السفر الثالث من الكتاب، فإنا نستطيع مع ذلك أن نعثر بكثير من النبذ والشذور التي يتضمنها هذا السفر المفقود من الكتاب، وقد نقلها إلينا مؤرخ متأخر هو ابن عذارى المراكشي في كتابه الجامع " البيان المغرب "

الذي سوف نتحدث عنه فيما بعد، وهذه الشذور تمتد حتى معركة الأرك في سنة 591 هـ، وحتى وفاة الخليفة يعقوب المنصور في سنة 595 هـ. ولابن صاحب الصلاة في عرض الحوادث والشئون أسلوب خاص، جزل نوعاً، وإن كان يلجأ أحياناً إلى السجع الركيك، والتنميق المتكلف، وهو يبدو سواء بأسلوبه، أو طريقة عرضه للحوادث، وتقديمه الأشخاص، مؤرخ بلاط أثير، يحرص كل الحرص على الإشادة بسادته وبأعمالهم، يغمرهم خلال حديثه بالألقاب الفخمة، والدعوات الرنانة، ولا يفوته كلما ذكر اسم الموحدين أن يقرنه بقوله " أعزهم الله "، ثم هو يلجأ أحياناً في وصف الخلفاء والأمراء إلى عبارات من المديح المسجع والملق المغرق. بيد أنه مع ذلك لا يحجم في بعض الأحيان، عن النقد، والتنديد بأعمال وتصرفات يراها جديرة بذلك (¬1). وقد كان مؤلف كتاب " المن بالإمامة " من أدباء عصره وكتابه. وهو عبد الملك بن محمد بن أحمد بن محمد بن ابراهيم الباجي، ويكنى أبا مروان وأبا محمد، ويعرف بابن صاحب الصلاة وبصاحب التاريخ (¬2). وهو كما يبدو من اسمه أندلسي من أهل باجة. وفد على إشبيلية مذ نزل بها الموحدون، واتخذوها عاصمة لولاية الأندلس، واتصل بالبلاط الموحدي منذ البداية، وخدم فيه كاتباً وشاعراً، وكان ضمن الوفود التي لقيت الخليفة عبد المؤمن حين زيارته لجبل طارق في سنة 555 هـ (1160 م). وقد عنى، وهو من أهل باجة، وهي المنطقة التي قامت بها ثورة ابن قسيّ وأنصاره المريدين، بأن يؤلف كتاباً عن " ثورة المريدين "، وهوكتاب يشير إليه في غير موضع من " المن بالإمامة " ولكنه لم يصل إلينا. وقد وصفه ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " بقوله: " وكان أديباً محسناً، عنى بحفظ التواريخ وتقييدها، وصنف " تاريخ ثورة المريدين بالأندلس " و" دولة بني عبد المؤمن، ومن أدرك بحياته من بنيه " (¬3)، ومن الواضح أنه يعني بذلك كتاب " المن بالإمامة ". ولم يقدم لنا أحد ممن تعرض ¬_______ (¬1) مثال ذلك ما ورد في حديثه عن غزوة وبذة التي قام بها الخليفة أبو يعقوب يوسف، ثم عن غزوة شنترين التي انتهت بمصرع الخليفة المذكور (ص 97 و 134 و 135 من القسم الثالث من البيان المغرب). (¬2) كتاب التكملة لابن الأبار (المكتبة الأندلسية) رقم 1726. (¬3) كتاب " الذيل والتكملة " لابن عبد الملك المراكشي، الجزء الرابع من مخطوط المكتبة الوطنية بباريس.

لترجمة ابن صاحب الصلاة، تاريخ مولده أو وفاته. وقد ذكر المستشرق الإسباني بونس بويجس في معجمه نقلا عن المستشرق أماري أنه توفي سنة 578 هـ (1182 م) (¬1)، وتابعه في ذلك الأستاذ بروكلمان في تاريخ الأدب العربي (¬2)، وهو تاريخ خاطىء، لا يتفق مع سياق كتاب " المن بالإمامة " ذلك أن ابن صاحب الصلاة، يذكر لنا في مؤلفه حوادث شهدها ترجع إلى سنة 594 هـ، مثل الاحتفال بإتمام بناء صومعة جامع إشبيلية الأعظم، ورقع التفافيح الذهبية إلى قمتها، بحضرة الخليفة يعقوب المنصور، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة 594 هـ، عقب عوده ظافراً من معركة الأرك الشهيرة ( Fol. 171. v.) ، بل يبدو مما ينقله ابن عذارى في " البيان المغرب " من شذور عن وفاة المنصور في سنة 595 هـ، ثم عن حوادث الأعوام الأولى من خلافة ابنه الناصر. وهي شذور يبدو فيها أسلوب ابن صاحب الصلاة واضحاً، أن مؤلف كتاب " المن بالإمامة " قد عاش في أواخر القرن السادس، بل وإلى أوائل القرن السابع، وأنه قد توفي على الأرجح حوالى سنة 605 هـ (1208 م) (¬3). وأما مولده فيمكن أن نضعه بين سنتي 520 و 530 هـ (1126 - 1135 م). كتاب نظم الجمان ومن أهم مصادرنا المخطوطة عن أواخر عهد المرابطين، وأوائل عهد الموحدين قطعة كبيرة مخطوطة من كتاب نظم الجمان لابن القطان، تتضمن السفر الثالث عشر من هذا الكتاب. وعنوانه على النحو الآتي: " السفر الثالث عشر من كتاب نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان ". وفي داخل المخطوط، توصف القطعة بأنها " الجزء السادس، من هذا الكتاب. في ذكر ما انتهى إلينا من أخبار القرن السادس، وهو المائة السادسة من الهجرة الكريمة ". ويحتوي هذا المخطوط على ثمانية وستين لوحة مزدوجة كبيرة الحجم (136 صفحة) في كل صفحة منها ¬_______ (¬1) Pons Boigues: Ensayo Bio - Bibliografico sobre los Historiadores y Geograficos Arabigo - Espanoles, p. 246. (¬2) C. Brockelmann: Geschichte der Arabischen Litteratur, Supp. 1. p 554. (¬3) راجع بعض هذه الشذور التي ينقلها ابن عذارى في البيان المغرب: القسم الثالث الذي يجرى نشره الآن بعناية الأستاذة: هويثي ميرانده ومحمد بن تاويت ومحمد ابراهيم الكتاني عن معهد مولاي الحسن بتطوان: ص 207 - 211 و 213، و 219 و 220 و 223 و 225.

تسعة عشر سطراً بخط مغربي كبير، والنص كله مشكول بالمداد الأحمر، وأحياناً بخط مذهب، والمخطوط قديم مبتور الآخر، وليس هناك ما يدل على تاريخ كتابته. بيد أنه يمكن أن نرجعه إلى القرن الثامن الهجري. ويبدو من خطه المنمق وعناوينه المذهبة، أنه ربما كتب برسم أحد الأمراء أو الكبراء. وأما عن مؤلف الكتاب، ابن القطان، فليس لدينا عنه تفاصيل شافية، وقد ذكر اسم المؤلف في صفحة العنوان بأنه " الإمام العالم أبو النجوم الباجي " وذكر في رأس الصفحة الأولى أنه " ابن القطان " (¬1). وقد ورد في لوحة 67 أمن المخطوط ما يدل على أن المؤلف كان حياً، في عهد الخليفة الموحدي المرتضي (646 - 665 هـ) وهو الذي حكم قبل آخر الخلفاء الموحدين. ويتناول المخطوط أخبار المرحلة الأخيرة من حكم المرابطين منذ سنة 508 هـ (1114 م)، وأخبار بداية ظهور المهدي ابن تومَرت، وتقدم دعوته، وتصنيف أصحابه، ومرحلة الصراع الأولى بين الموحدين والمرابطين، وأخبار الأندلس خلال هذه الفترة، وذلك حتى أخبار سنة 533 هـ (1138 م). وأهم ما يتميز به هذا القسم من مؤلف ابن القطان أنه ينفرد بإيراد رسالتين هامتين لم تذكرا في غيره وهما، رسالة " الكافية في براهين الإمام المهدي "، وهي رسالة خاطب بها أبو عبد الرحمن بن طاهر عميد مرسية، الخليفة عبد المؤمن بن علي، ورسالة وجهها عبد المؤمن إلى الطلبة والمشيخة والأعيان بالأندلس (سنة 543 هـ)، يشرح فيها ¬_______ (¬1) وردت في التكملة لابن الأبار (المكتبة الأندلسية) رقم 1920، ترجمة " لعلي بن محمد ابن عبد الملك بن يحيى بن ابراهيم الكتامي الحميري الفاسي، أبى الحسن بن القطان " جاء فيها أنه " كان من أبصر الناس بصناعة الحديث، وأحفظهم لأسماء رجاله، وأشدهم عناية بالرواية، ورأس طلبة العلم بمراكش. ونال بخدمة السلطان دنيا عريضة. وله تواليف، ودرس وحدث. وتوفي على قضاء سجلماسة في ربيع الأول سنة ثمان وعشرين (أي وستمائة) ". وعثرنا أيضاً في " الذيل والتكملة " لابن عبد الملك المراكشي على ترجمة طويلة للمذكور، جاء فيها انه " فاسي سكن مراكش، وكان ذاكراً للحديث، مبحراً في علومه، وكان معظماً عند الخاصة والعامة من آل عبد المؤمن، حظى كثيراً عند المنصور منهم، فابنه الناصر، فالمستنصر بن الناصر، فأبى محمد عبد الواحد أخى المنصور، ثم أبى زكريا المعتصم بن الناصر، وكان المنصور يؤثره على غيره من أهل طبقته. وكان مرجوعاً إليه في الفتاوى " (الجزء الخامس من مخطوط المتحف البريطاني لوحة 13). على أن ما ورد في المخطوط، مما يدل على أن ابن القطان كان حياً في عهد الخليفة المرتضي؛ يجعلنا نتردد في الاعتقاد بأنه هو صاحب الترجمة التي أوردها ابن الأبار، ثم ابن عبد الملك، لما هنالك من الفارق الزمني الملحوظ. وربما كان المترجم هو أبو المؤرخ.

قواعد السياسة الشرعية الموحدية، ولاسيما في مطاردة المنكر، وفي شئون المكوس والمغارم. ويبدي ابن القطان فيما يورده من أخبار الموحدين، حماسة ظاهرة في تأييد المذهب الموحدي، والدولة الموحدية، ويذكر الإمام المهدي، وخلفاءه الموحدين بمنتهى الخشوع والإجلال (¬1). القسم الثالث من كتاب البيان المغرب كان كتاب " البيان المغرب " لابن عذارى المراكشي، منذ البداية من أهم مصادرنا في كتابة تاريخ الأندلس. ولقد انتفعنا خلال كتابة العصرين الأول والثاني من هذا التاريخ، في كتابينا " دولة الإسلام في الأندلس " و " دول الطوائف " بجزئيه الأول والثاني، اللذين نشرا منذ أكثر من قرن بعناية العلامة دوزي، ثم بجزئه الثالث الذي نشر بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال. وقد كان من المفروض أن ننتفع بجزئه الرابع الذي صدر بعد ذلك بمدينة تطوان في سنة 1956، وهو الذي يتناول بقية عهد المرابطين، وعهد الموحدين. ولكن اكتشافاً جديداً في منتهى الأهمية غير هذا الاتجاه، وهو العثور في الخزانة الناصرية بثامجروت على مقربة من زاكوره بالمغرب، على مخطوط جديد موسوم " بالجزء الثالث " من " البيان المغرب "، وهو عبارة عن مجلد كبير يحتوي على 463 صفحة كبيرة. في كل منها واحد وعشرون سطراً. ويبدأ بحوادث سنة 533 هـ في أواخر عهد الدولة المرابطية، بحملة تاشفين بن علي بن يوسف لمقاتلة الموحدين بقيادة عبد المؤمن بن علي. وينتهي بحوادث سنة 665 هـ، بخلافة إدريس أبى دبوس الواثق بالله آخر الخلفاء الموحدين، وحملته إلى السوس، ويزيد في البداية ستين صفحة، وفي النهاية ست وستين صفحة عن الجزء الرابع المطبوع، هذا فضلا عما يمتاز به في مواطن كثيرة، من زيادات في النص، وفي الشعر، ومن تصحيحات كثيرة أخرى. ولقد اغتبطنا أيما غبطة باكتشاف هذا المرجع النفيس من مراجع عصر الدولة ¬_______ (¬1) إن هذا الجزء المخطوط من كتاب " نظم الجمان " يوجد اليوم في حوزة معهدنا المصري للدراسات الإسلامية بمدريد، وهو الذي سهل لي مشكوراً سبيل مراجعته ودراسته. وقد علمت أن هذا المخطوط قد أعد للنشر محققاً بعناية صديقي الدكتور محمود علي مكي وكيل المعهد المذكور.

الموحدية. ويجري فيه ابن عذارى على طريقته أحياناً من تصنيف روايته إلى فصول، وأحياناً إلى حوليات سنوية. ثم هو يجري أيضاً في أسلوبه على طريقته من إلتزام الحيدة في إيراد الحوادث وتقديم الأشخاص، وعدم التورط في المديح أو الذم، ويترك هذه المهمة في الإشادة أو الانتقاص، لمن ينقل عنهم من مؤرخي الدولة الموحدية. ومن أهم مميزات هذا القسم من " البيان المغرب " ما ينقله إلينا ابن عذارى خلال روايته، من شذور عديدة من المعاصرين من مؤرخي الدولة الموحدية، ولاسيما ابن صاحب الصلاة، حيث ينقل إلينا الكثير من " السفر الثالث " من كتاب " المن بالإمامة ". وهو الجزء المفقود من هذا المؤلف حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل (¬1). هذا، وفضلا عن ذلك، فقد انتفعنا من تراث ابن عذارى بقطعة مخطوطة من أربع وخمسين لوحة، عن أصل دولة المرابطين، وولاية يوسف بن تاشفين وفتوحه في المغرب، ودخول المرابطين بلنسية، وأخبار علي بن يوسف، وقصة إحراق كتاب الإحياء، وولاية تاشفين بن علي، وغزوة ألفونسو المحارب، وغير ذلك. وكان المرحوم الأستاذ ليفي بروفنسال قد عثر بهذه القطعة بين أضابير مكتبة جامع القرويين بفاس، ونشر منها بعض شذور، عن بعض الوقائع الهامة التي وردت فيها، ثم نشرها أخيراً بنصها الكامل الأستاذ هويثي ميرانده في مجلة هسبيرس تمودا في عدد سنة 1961م. وكان من حسن الحظ أننا عثرنا خلال بحثنا في " خروم " (دشت) مكتبة جامع القرويين بفاس، بأربع صفحات كبيرة من كتاب " البيان المغرب " تتناول حوادث سني 511 هـ إلى 514 هـ، وفيها تفاصيل هامة عن سقوط سرقسطة في يد ألفونسو الأرجوني (512 هـ)، وعن موقعة كتندة، وعن ثورة قرطبة ضد المرابطين (514 هـ)، وتفاصيل أخرى. وكان اختفاء هذه الصفحات يكون ثغرة في مجموعة الأوراق المخطوطة المتقدمة، التي عثر بها الأستاذ بروفنسال، فجاء عثورنا عليها متمماً لهذه المجموعة المتناثرة من كتاب البيان المغرب. ¬_______ (¬1) سبق أن أشرنا إلى أنه يجري الآن نشر هذا القسم الثالث من البيان المغرب برعاية معهد مولاي الحسن بتطوان، وتحقيق الأساتذة أمبروسيو هويثي ميرانده، ومحمد بن تاويت، ومحمد ابراهيم الكتاني، وقد أنجز منه حتى اليوم معظمه.

وانتفعنا كذلك ببضعة أوراق مخطوطة من كتاب " صلة الصلة " لابن الزبير، وهي أيضاً من محتويات " خروم " مكتبة القرويين. أما عن حياة ابن عذارى، وأصله ونشأته، فلسنا نعرف الكثير، وكل ما نعرفه أنه يسمى أبو عبد الله محمد المراكشي، وأنه قد عاش في أواخر القرن السابع الهجري، في بداية دولة بني مرين، وفي بداية القرن الثامن، وقد كان لهذا الظرف الزمني بلا ريب تأثير كبير، فيما يلتزمه في روايته عن تاريخ الموحدين، من الحيدة، وضبط النفس، وعدم التورط في عبارات الملق، التي يكثر منها مؤرخون مثل ابن صاحب الصلاة، وابن القطان. الرسائل المرابطية إن مصادر العصر المرابطي التي بين أيدينا، وفي مقدمتها البيان المغرب، وروض القرطاس، والحلل الموشية، ينقصها الكثير مما يلقي ضياء حقيقياً على أحوال الدولة المرابطية ونظمها وخواصها، وعلى اتجاهات السياسة المرابطية الدينية والسياسية، سواء بالمغرب، أو الأندلس. بيد أنه كان من حسن الطالع، أننا وقفنا خلال بحوثنا بمكتبة الإسكوريال على طائفة عديدة من الرسائل والوثائق المرابطية، التي تسد فراغاً كبيراً في هذا الميدان، وتلقي أضواء كثيرة على خواص الدولة المرابطية ونظمها وسياستها، هذا فضلا عما تلقيه من أضواء على طائفة كبيرة من الأحداث العسكرية الأندلسية الهامة التي وقعت خلال العصر المرابطي. وتجتمع هذه الرسائل أولا في المخطوطين رقم 488 ورقم 538، من فهرس الغزيري، وثانياً في المخطوط رقم 519 الغزيري، وثالثاً في مجموعة أخرى يضمها مخطوط معهد الدراسات الإسلامية بمدريد. وأهم هذه الرسائل فيما يختص بالعصر المرابطي، هو المجموعة التي يضمها المخطوط الأول، وهو رقم 488، وهو مخطوط قديم مبتور الآخر وليس له عنوان كل معين، ولكن جاء في الورقة الأولى منه ما يأتي: " جمع هذا الكتاب قصائد كثيرة لعلماء يطول تفسير أسمائهم، للفتح بن خاقان، ولابن عبد الصمد، وللبستي، ولابن عمار، وابن اللبانة، وابن زيدون، وابن حبيب .. ورسائل شتى ورحلة ابن جبير، ونسخة بيعة والسلام ". على أن أهم ما يحتويه المخطوط هو خمس رسائل، كتبت عن أهم الأحداث العسكرية التي وقعت بالأندلس أيام

المرابطين، الأولى رسالة يوسف بن تاشفين عن موقعة الزلاّقة، والثانية رسالة ابن شرف عن فتح أقليش، والثالثة رسالة أهل سرقسطة حينما حاصرها النصارى إلى الأمير أبى الطاهر تميم بن يوسف، والرابعة رسالة لعلي بن يوسف عن هزيمة القلعة. والخامسة رسالة أهل بلنسية إلى علي بن يوسف عند نزول ألفونسو المحارب عليها، وهذا عدا وثيقة موحدية هامة هي بيعة أهل قرطبة بولاية العهد، لمحمد الناصر ولد الخليفة الموحدي يعقوب المنصور. ويضم المخطوط الثاني، وهو رقم 538، عدة رسائل مرابطية، أخرى، عن أواخر العهد المرابطي بالأندلس، أهمها رسالة وجهها تاشفين بن علي بن يوسف إلى الفقهاء والوزراء والكافة ببلنسية يحثهم على التزام الجهاد والسنن الرفيعة، وأداء الصلاة، ومجانبة الخمر، والرفق بالرعية، والتزام مذهب مالك في الأحكام، ومطاردة كتب الغزالي. وتعتبر هذه الرسالة من أهم الوثائق المرابطية الدستورية، هذا إلى عدة رسائل ثانوية أخرى تلقي أضواء مختلفة على جوانب من أواخر العصر المرابطي بالأندلس (¬1). ويضم المخطوط الثالث، وهو رقم 519، وهو خاص " بترسيل الفقيه الكاتب أبى عبد الله بن أبي الخصال ومقاماته ومعارضته "، عدة رسائل مرابطية وجهت إلى علي ابن يوسف، ورسائل أخرى أدبية، متبادلة بين أكابر كتاب ذلك العصر، وبين ابن أبي الخصال. تلقي ضوءاً على بعض جوانب أدبية واجتماعية من ذلك العصر. أما المجموعة الثالثة، فيضمها مخطوط حصل عليه معهد الدراسات الإسلامية من تركة المرحوم الأستاذ ليفي بروفنسال، وهو نفس المخطوط الذي يضم مجموعة الرسائل الموحدية التي نشرها (سنة 1941) تحت عنوان " مجموع رسائل موحدية من إنشاء كتاب الدولة المؤمنية ". وقد نشرت هذه الرسائل أخيراً، وعددها إحدى وعشرون رسالة بمجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (¬2)، وهي تلقي أضواء كثيرة على نواح مختلفة من العصر المرابطي، سياسية وعسكرية وإدارية. ¬_______ (¬1) نشرت معظم الرسائل المشار إليها في المخطوطين السابقين بعناية صديقي الدكتور حسين مؤنس مدير معهد الدراسات الإسلامية بمدريد خلال الأعوام الأخيرة في فترات مختلفة، وذلك بمجلة معهد الدراسات الإسلامية (سنة 1954 و 1955). (¬2) قام على نشر هذه الرسائل وتحقيقها والتمهيد لها صديقي الدكتور محمود علي مكي وكيل معهد الدراسات الإسلامية، ونشرت بالمجلدين السابع والثامن من مجلة المعهد (سنة 1959 - 1961).

ويمكننا أن نشير في هذا الموطن أيضاً، إلى وثيقة مرابطية هامة. أوردها لنا ابن الخطيب في الإحاطة، وهي كتاب تولية العهد الصادر من يوسف بن تاشفين لولده علي. الرسائل الموحدية حسبنا أن نشير في هذا الموطن، أولا إلى مجموعة الرسائل الموحدية التي نشرت بعناية الأستاذ بروفنسال والتي سبقت الإشارة إليها، وهي من أهم الوثائق التي تلقي كثيراً من الضوء، على معظم الأحداث الهامة، التي وقعت في عهد الخليفة عبد المؤمن بن علي، وولده الخليفة أبى يعقوب يوسف، فولده الخليفة يعقوب المنصور، فولده الخليفة محمد الناصر. وقد وقفنا إلى جانب ذلك على مجموعة من الرسائل المخطوطة، وردت في مخطوط الإسكوريال رقم 518 الغزيري (ديرنبور 520) وهو كتاب " زواهر الفكر وجواهر الفكر " لمحمد بن علي بن عبد الرحمن المرادي المكني بابن المرابط، وهو حسبما ورد في آخره مكتوب في سنة 721 هـ. وهو عبارة عن مجموعة كبيرة من الرسائل الأندلسية، ومنها عدة رسائل بقلم القاضي الكاتب أبى المطرف بن عميرة عن حوادث بلنسية أيام الفتنة الأخيرة، التي انتهت بسقوطها في أيدي النصارى، ورسالة كتب بها عن أهل شاطبة إلى ابن هود، وظهير موحدي صادر عن الخليفة الرشيد إلى المتوطنين من أهل شرقي الأندلس برباط الفتح، ورسائل وقصائد لابن الأبار، وغيرها. وهذه الرسائل تكشف عن كثير من الظروف والأحداث التي وقعت في شرقي الأندلس، في أواخر عهد الموحدين. وأواخر عهد الإسلام به. التراجم المخطوطة كان من أهم مصادرنا المخطوطة طائفة كبيرة من التراجم وردت في موسوعتين هامتين، الأولى، " كتاب الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة " لقاضي الجماعة أبى عبد الله محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي المراكشي المتوفى فيما يرجح في أواخر القرن السابع الهجري، والثانية كتاب " الإحاطة في أخبار غرناطة " للوزير لسان الدين ابن الخطيب المتوفى سنة 776 هـ (1375 م). وكتاب التكملة موسوعة جليلة من التراجم، وبها عدد كبير من تراجم أعلام إلعصرين المرابطي والموحدي، من فقهاء وكتاب وأدباء وشعراء. وقد رجعنا

إلى أجزائها المخطوطة الموجودة في دار الكتب المصرية (الجزء المخطوط الموسوم بالسفر الخامس، والأجزاء المصورة، وبها تراجم حرف الميم حتى الياء)، وفي المتحف البريطاني (الرابع والخامس رقم 7940) وخزانة الرباط (الأول مصور مخطوط باريس)، والإسكوريال (قطعة فقط رقم 1682 الغزيري وبها تراجم حرف السين حتى أوائل حرف ع)، ونقلنا منها عدداً كبيراً من التراجم. وقد كان من أهم ما انتفعنا به من هذه التراجم، هو الشذور والنبذ التاريخية العديدة، التي وردت خلالها عن أحداث العصرين المرابطي والموحدي، ومنها أحياناً روايات هامة وحيدة لم ترد في أية مصادر أخرى، هذا فضلا عن التعريف بكثير من الأعلام الذين تنفرد هذه الموسوعة النفيسة بإيراد تراجمهم. وكذلك الشأن في كتاب الإحاطة لابن الخطيب، فقد وردت به تراجم عديدة لأمراء وزعماء من المرابطين والموحدين، وكذلك لكثير من أعلام هذا العصر من فقهاء وكتاب وشعراء، وكان انتفاعنا عظيماً بهذه التراجم، ولاسيما التي وردت منها بالقسم المخطوط من الإحاطة (الإسكوريال رقم 1673 و 1674 الغزيري)، وقد ورد خلالها كثير من الشذور التاريخية الهامة، منقولة عن مصادر ضاعت مثل كتاب " الأنوار الجلية في أخبار الدولة المرابطية " وغيره. أما عن كتب التراجم المطبوعة، فحسبنا أن نشير إلى وفيات الأعيان لابن خلكان، والصلة لإبن بشكوال، وصلة الصلة لابن الزبير، وبغية الملتمس للضبي، والتكملة والحلة السيراء لابن الأبار، والأخيران يضمان كثيراً من التراجم والنبذ التاريخية الهامة المتعلقة بعصري المرابطين والموحدين. وثائق ومصادر أخرى وليس في نيتنا أن نتحدث في هذا البيان الموجز عن المصادر المخطوطة، عن المصادر المطبوعة، وهي كثيرة يتعذر حصرها. بيد أنه يجدر بنا أن نشير فقط إلى طائفة من هذه المصادر التي تعتبر إلى جانب المصادر المخطوطة، من أهم المراجع الرئيسية عن عصر المرابطين والموحدين. فمنها كتاب "المعجب " لعبد الواحد المراكشي، و " الحلل الموشية " لمؤلف مجهول، و" روض القرطاس " لابن أبى زرع الفاسي، وهذه المراجع الثلاثة تتناول عصر المرابطين والموحدين معاً، وهي لمؤلفين عاشوا في عصر الموحدين أو قريباً منه.

ومنها ما يختص بالموحدين وعصرهم، وفي مقدمتها مؤلفا المهدي محمد بن تومَرت، وهما " أعز ما يطلب " و" الموطأ "، وأولهما يضم خلاصة مذهبه وتعاليمه، والثاني يضم شروحه لأحكام مذهب مالك. ويليهما كتاب " أخبار المهدي ابن تومَرت وابتداء دولة الموحدين " وهو من تصنيف أبى بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق أحد أصحاب المهدي، وهو أهم وأقيم مصادرنا عن نشأة المهدي ونسبه وأصحابه، وحركاته الأولى، ثم غزوات خليفته عبد المؤمن. وهناك مصدر هام آخر جدير بالذكر، وهو " رحلة التجّاني " وهي رحلة قصيرة قام بها أبو محمد عبد الله بن محمد التجّاني بين سنتي 706 و 708 هـ، في أنحاء تونس وطرابلس، وهي تتضمن طائفة كبيرة من النبذ والشذور التاريخية القيمة عن الأحداث والمعارك التي وقعت في أنحاء إفريقية وبلاد الجريد، بين بني غانية والموحدين، وهي من أدق وأوفى الروايات التي انتهت إلينا عن هذه الفترة. وكذلك رحلة ابن جُبير الأندلسي، ففيها إشارات ونبذ هامة، تتعلق بالموحدين؛ أما عن المصادر الجغرافية المتعلقة بالمغرب والأندلس، فلدينا ثلاثة من أهمها وأقيمها، هي كتاب " المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب "، المستخرج من كتاب " المسالك والممالك " (لأبي عبيد البكري)، و " وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس " المستخرج من كتاب " نزهة المشتاق " للإدريسي وكتاب " الإستبصار" (لمؤلف مجهول) وهو أحدثها من الناحية التاريخية. وهذا كله إلى المصادر النصرانية من لاتينية وقشتالية وغيرها، معاصرة أو محدثة، وقد ذكرت تباعاً في مواطنها، ولا داعي للتحدث عنها هنا.

صفحة من الأوراق المخطوطة التي عثرنا عليها من كتاب " البيان المغرب " لابن عذراى بخزانة جامع القرويين بفاس، وهي من أوراق الجزء الخاص بعصر المرابطين.

صفحتان من المخطوط رقم 538 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال، وهما من رسالة الأمير تاشفين بن علي إلى الفقهاء والوزراء والصلحاء والكافة ببلنسية، المؤرخة في أوائل جمادى الأولى سنة 538 هـ.

صفحتان من مخطوط كتاب " نظم الجمان " لابن القطان المحفوظ بمعهد الدراسات الإسلامية بمدريد.

تمهيد الأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية فى عصر المرابطين والموحدين

تمهيد الأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية في عصر المرابطين والموحدين كانت موقعة الزلاّقة (479 هـ - 1086 م)، موقعة الحسم، في مصاير اسبانيا المسلمة، سواء إزاء اسبانيا النصرانية، أو إزاء المرابطين. فقد انقشع الخطر الداهم الذي كان يهددها بالفناء العاجل، مذ سقطت طليطلة حصن الأندلس من الشمال في أيدى النصارى، وقد كتبت لها حياة جديدة. ولكن الزلاّقة، كانت من جهة أخرى نذيراً بأعظم تحول وقع في مصايرها منذ الفتح، ذلك أن المرابطين الذين قدموا إليها إخواناً في الدين، وأصدقاء مجاهدين منجدين، انقلبوا عقب الزلاّقة إلى أعداء فاتحين. وما كاد الموقف يتضح لعاهل المرابطين يوسف ابن تاشفين عقب النصر، وتبدو له دول الطوائف الأندلسية على حقيقتها، دويلات متخاذلة متنابذة، يسودها الإنحلال، ويقضم أسسها الترف والخور، حتى قرر أمره تجاه أمراء الطوائف. وسواء أكان هذا القرار قد أملته شهوة الفتح، ورغبة الاستيلاء على هذه البلاد الخضراء الغنية الساحرة، أم كان بقصد حمايتها من النصارى، والتحوط بذلك لسلامة المغرب، بصون جناحه الدفاعي من الشمال - الأندلس - فقد نفذ عاهل المرابطين قراره، واستولت جيوشه تباعاً على دول الطوائف، في فترة لا تتجاوز عشرين عاماً، فيما بين سنتي 483 و502 هـ (1090 - 1109 م)، وذلك حسبما فصلناه من قبل في كتابنا " دول الطوائف ". وأضحت الأندلس من ذلك الحين ولاية مغربية، تخضع لحكومة مرّاكش، وتحكمها القبائل البربرية المغربية، بعد أن كان المغرب قبل ذلك بنحو قرن فقط، ولاية أندلسية تخضع لخلافة قرطبة الأموية. ونحن نعرف أن البربر قد اضطلعوا في فتح الأندلس بأعظم قسط، ولكنهم لم ينالوا نصيبهم الحق، في حكم هذه البلاد الجديدة، وغلب سلطان العرب سادة البربر عند الفتح. وعلى الرغم من أن البربر كانت لهم ما بين آونة وأخرى، في ظل الدولة الأموية، بعض

الحظوة، وكان لهم في ظل الدولة العامرية قسط بارز من النفوذ والسلطان، وعلى الرغم من أنهم نالوا قسطهم من أسلاب الخلافة، وقامت لهم في عهد الطوائف عدة من الدول القوية، بلغت في ظل بني حمّود مرتبة الخلافة، فإنهم في ظل المرابطين، يبسطون لأول مرة سلطانهم كاملا على الأندلس، ويستأثرون فيها بالحكم والسيادة، وتختفي خلال ذلك رياسة الأسر والزعامات الأندلسية. أجل إن عهد المرابطين بالأندلس لم يكن طويل الأمد. ذلك أنه لم يدم أكثر من زهاء نصف قرن. ولكن سلطان البربر على الأندلس يمتد بعد انتهاء الدولة المرابطية، على يد وريثتها الدولة الموحدية، أكثر من قرن آخر. وفي وسع المؤرخ أن يلاحظ ما بين هذين العهدين، من أوجه التماثل التي تجمع بينهما، وأن يلاحظ في نفس الوقت أوجه الخلاف والتناقض التي تباعد بينهما، وتسبغ على كل منهما خواصه ومميزاته. إن المرابطين والموحدين، ينتمي كلاهما إلى طائفة من تلك القبائل البربرية، التي أخذت على كر العصور في حكم المغرب وسيادته بأوفر نصيب، فالمرابطون ينتمون بالأخص إلى لمتونة وكدالة ومسّوفة، وينتمي الموحدون بالأخص إلى هرغة ومصمودة وهنتانة وكومية. وقد نشأت كلتا الدولتين، المرابطية والموحدية، في ظروف متشابهة، كأنما رسمت لكل منهما على نسق واحد، فكلتاهما قامت على أسس دينية، وعلى يد فقيه وداعية متعصب؛ فكان داعية الدولة المرابطية، الفقيه عبد الله بن ياسين، وكان داعية الدولة الموحدية، المهدي محمد بن تومرت، وتحولت كلتاهما إلى ملك سياسي على يد زعيم موهوب وقائد بارع، فكان زعيم الدولة المرابطية الذي وطد دعائمها، وشاد ملكها السياسي، يوسف بن تاشفين، وكان قرينه عبد المؤمن بن علي، هو الذي وضع أسس الدولة الموحدية، ووطد دعائمها. واستطاعت الدولة الموحدية، بعد أن قضت على الدولة المرابطية، أن تسيطر على نفس الرقعة الإقليمية الشاسعة، التي كانت تحتلها، سواء في المغرب أو الأندلس، وإن كانت الأندلس لم تخلص للموحدين إلا بعد فترة من الصراع المحلي، ولاسيما ضد الثورة في شرقي الأندلس. وفضلا عن ذلك، فقد كانت تجمع بين الدولتين، بالنسبة للأندلس، إذا أغضينا عن العوامل الإقليمية والسياسية، التي كانت تحرك هاتين الدولتين، إلى بسط سيادتهما على هذا الإقليم الغني الساحر - كانت تجمع بينهما فكرة الجهاد،

وحماية الأندلس، من عدوان الممالك الإسبانية النصرانية. وهنا تبدو وجوه الخلاف بين الدولتين. ذلك أنه بالرغم من وحدة الغاية، فقد كان المرابطون يضطرمون بروح جهاد قوية خالصة، وقد استطاعوا في ظل هذا الروح الدافع أن يصدوا عن الأندلس عدوان اسبانيا النصرانية، وأن يحرزوا بعد الزلاّقة، النصر في عدة مواقع مماثلة، حاسمة في صدع قوى اسبانيا النصرانية. وإذا استثنينا موقف المرابطين من سقوط سرقسطة، وهو السقطة العسكرية المرابطية البارزة خلال هذا الكفاح، فإن الصراع الذي اضطلع به المرابطون ضد الممالك الإسبانية النصرانية، كان صراعاً قوياً وناجحاً، وقد أحرز المرابطون خلاله ضد النصارى عدة من الانتصارات الباهرة، ولاسيما في أقليش (سنة 501 هـ - 1108 م)، وفي إفراغة (528 هـ - 1134 م). وقد استطاع المرابطون على وجه العموم حتى أواخر عهدهم، الذي استطال بالأندلس زهاء خمسين عاماً، أن يحافظوا على رقعة الوطن الأندلسي، ولم يصدع من كفاحهم ضد النصارى، سوى قيام الثورة عليهم في مختلف القواعد، عند ظهور الموحدين وعبورهم إلى الأندلس. أما الموحدون فبالرغم من أنه كانت تحدوهم مثل الروح، التي كانت تحدو المرابطين، في محاربة اسبانيا النصرانية، والذود عن الأندلس، فإنهم لم يحرزوا مثلما أحرز المرابطون من التوفيق في هذا الكفاح. وقد بذل الموحدون بالفعل جهوداً فادحة في سبيل الاضطلاع بحركة الجهاد بالأندلس، وصد عدوان اسبانيا النصرانية عنها، وقد عبرت جيوشهم الجرارة مراراً إلى شبه الجزيرة، مزودة بكميات هائلة من العتاد والسلاح، ولكنهم وهم في إبان قوتهم، لم يحوزوا توفيقاً في حملاتهم الغازية ضد النصارى، فتحطمت حملة الخليفة أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ضد القشتاليين، تحت أسوار وبذة (567 هـ -1172 م)، وتحطمت حملته الثانية ضد البرتغاليين تحت أسوار شَنترين (580 هـ - 1184 م)، ومنيت الجيوش الموحدية بهزيمة فادحة، وهلك الخليفة نفسه في الموقعة. ويرجع هذا الفشل إلى عدة أسباب، منها اختلال نظام الجيوش الموحدية، وضعف قيادتها، واختلال وسائل تموينها، كما يرجع إلى اشتداد ساعد مملكة البرتغال، واستغراقها معظم جهود الموحدين، في ولاية الغرب الأندلسية؛ ولم تبرز الجيوش الموحدية في جهادها ضد النصارى إلا في معركة الأرك العظيمة، التي أحرز فيها الخليفة يعقوب المنصور، انتصاره الباهر على القشتاليين، في شهر رجب سنة 591 هـ

(يوليه سنة 1195 م). على أن هذا النصر العظيم، لم يلبث أن محت آثاره موقعة العقاب المشئومة، التي أحرز فيها القشتاليون نصرهم الساحق على الجيوش الموحدية بقيادة الخليفة محمد الناصر ولد المنصور، وذلك في صفر سنة 609 هـ (يونيه سنة 1212 م)، والتي كانت ضربة قاضية، لقوى الموحدين بالأندلس والمغرب، ولم يمض على وقوعها سوى أعوام قلائل حتى انهار سلطان الموحدين بالأندلس، وأخذت قواعد الأندلس الكبرى تسقط تباعاً في أيدي النصارى في وابل من المحن المؤلمة. كانت قصة الجهاد في سبيل الله، وقصة حماية الأندلس من عدوان النصارى، تجثم وراء هذه المعركة الطويلة المستمرة بين المرابطين والموحدين من ناحية، وبين اسبانيا النصرانية من ناحية أخرى، وكان المرابطون والموحدون، تحملهم في هذا الصراع المستمر ضد اسبانيا النصرانية، فضلا عن غريزة الاحتفاظ بالنفس، نزعة لا شك فيها من الجهاد الإسلامي، والذود عن معاقل الإسلام وتراثه في " جزيرة الأندلس ". وهم قد عبروا البحر أول ما عبروا إلى الأندلس، تدفعهم تلك النزعة النبيلة، ولم تخمد نزعة الجهاد في صدورهم طوال الوقت الذي كانت تضطرم فيه المعارك باستمرار، بينهم وبين اسبانيا النصرانية، وكثيراً ما غزت الجيوش المرابطية والموحدية، أراضي اسبانيا النصرانية من تلقاء نفسها، طلباً للجهاد ليس غير، وقد عبر الخلفاء الموحدون إلى الأندلس في جيوشهم الجرارة مراراً، لمتابعة هذا الجهاد، الذي كان شعارهم دائماً في محاربة النصارى في شبه الجزيرة الإسبانية. * * * ولقد كان من الطبيعي أن تنشب بين المرابطين والموحدين، وهم سادة الأندلس الجدد، وبين زعماء الأندلس المحليين معركة السلطان والملك. ولقد كانت هذه المعركة التي تغذيها عوامل مختلفة، هي محنة الأندلس الحقيقية، وكانت تتجدد من خلالها صور المعارك الانتحارية، التي أثخنت الأندلس أيام الطوائف بجراحها الدامية. على أنه مهما كانت بواعث الأسف والأسى، التي تقترن بمثل هذه المعارك، ومهما كان لنا أن نستنكرها وأن نحكم عليها، فإنه يصعب على المؤرخ، أولا أن يحدد المسئولية في شأنها أو أن يلقي تبعتها على فريق بعينه، وثانياً أن يتجاهل العوامل القومية والوطنية، التي كانت من ورائها. وهي في ذلك تفترق عن معارك

الطوائف، التي لم تكن تحدوها سوى الأطماع والأهواء الشخصية الوضيعة. ومما يلاحظ أن الثورة على سلطان المرابطين في الأندلس، لم تضطرم إلا في آواخر عهدهم في شبه الجزيرة، في نفس الوقت الذي اضطرم فيه المغرب بثورة الموحدين الجارفة، وتضعضع سلطان المرابطين في عقر دولتهم، وتعذر عليهم إرسال الإمداد إلى ما وراء البحر. على أن هذه الثورة كانت في الواقع أقدم عهداً وأعمق جذوراً، إذ هي ترجع إلى عهد الفتح المرابطي ذاته. وكانت الأندلس، حينما اشتدت عليها وطأة اسبانيا النصرانية، وعجزت دول الطوائف الضعيفة المتنابذة، عن رد عدوانها، وجاء سقوط طليطلة نذيراً بالخطر الداهم، قد استقبلت المرابطين إخواناً في الدين منجدين منقذين، وأكد نصر الزلاّقة الباهر ومن بعده جواز يوسف بن تاشفين الثاني لنصرة الطوائف في حصار حصن لييط (أليدو) (481 هـ -1088 م) هذا الاعتبار وهذا المعنى. على أن فكرة الاستنصار بالمرابطين لم تكن دون توجس، ودون تخوف من العواقب. وقد ذكرنا فيما تقدم من كتابنا " دول الطوائف " كيف عارض المعتمد بن عباد ولده الرشيد، في فكرة الاستنصار بالمرابطين، وحذره من مقدمهم وقوله: " يا أبت أتدخل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدد شملنا " وكيف أنه كان ثمة بين أمراء الطوائف، ورجالات الأندلس، من لم ترقه هذه الفكرة، توجساً من عواقبها (¬1). وقد تحققت هذه المخاوف، وانهار ذلك المعنى النبيل الذي بثه نصر الزلاّقة لأمد قصير، وانقلب المنقذون إلى فاتحين، واستولى المرابطون على دول الطوائف واحدة بعد أخرى، واقترن هذا الفتح في بعض الأحيان بكثير من العنف، والقسوة، وسقط عدد من أمراء الطوائف مدافعين عن أنفسهم وملكهم. وكان لهذا التحول بلا ريب أعظم صدى في جنبات الأندلس، وأعمق أثر في نفوس الأمة الأندلسية. ومن جهة أخرى فإن أساليب الحكام والقادة المرابطين، في حكم هذا القطر الجديد، لم تكن لينة ولا رفيقة، وذلك بالرغم مما كان يحدوها ويوجهها في معظم الأحيان من جانب أمير المسلمين، من النيات الطيبة والنصائح المثالية لعماله وقادته، باتباع العدل، والرفق بالرعية، وكانت أساليب هؤلاء ¬_______ (¬1) راجع كتاب دول الطوائف، ص 78، والحلل الموشية ص 27 و 28، وأعمال الأعلام لابن الخطيب (طبع بيروت) ص 245 وكتاب التبيان للأمير عبد الله بن بلقين ص 103 و 104.

الحكام والقادة، ومعظمهم من أقارب أمير المسلمين وأصهاره، تجافي بعنفها وخشونتها ما جبلت عليه الأمة الأندلسية المتحضرة المترفة، من الأساليب المهذبة الرقيقة. ومن ثم فإنه لا يدهشنا أنه لم يمض سوى خمسة عشر عاماً فقط، على وفاة عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين، حتى اضطرمت الثورة في قرطبة حاضرة الأندلس يومئذ، ضد المرابطين في سنة 515 هـ (1121 م)، في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك وفقاً لقول الثوار " ذباً عن الحُرَم والدماء والأموال " (¬1). ولم تكن هذه الفورات وأمثالها، في البداية سوى محاولات للتنفس من حكم المرابطين المتزمت المرهق. ولم تقو الفكرة الوطنية الأندلسية وتتبلور إلا فيما بعد، في أواخر عهد المرابطين، حينما اضطرمت الأندلس كلها، من شرقها إلى غربها، بالثورة ضدهم، وقام أحمد بن قسيّ في غرب الأندلس، في ميرتلة وشلب وباجة سنة 539 هـ (1144 م)، وقام في نفس العام أبو جعفر ابن حمدين في قرطبة، وأبو الحسن على ابن أضحى في غرناطة. وفي نفس الوقت انهار سلطان المرابطين تباعاً في شرقي الأندلس، وقام القاضي ابن عبد العزيز أولا في بلنسية، ومرسية. ثم نهض ابن عياض فغلب عليهما بعد طائفة من الأحداث والانقلابات المتوالية، ودعا بالرياسة لسيف الدولة ابن هود. وتقلد ابن هود الرياسة الإسمية، وهو في تقلده إياها، يمثل الفكرة القومية الأندلسية، ولما قتل ابن هود في موقعة البسيط، التي نشبت بين قوات بلنسية وابن هود، وبين القشتاليين وذلك في سنة 540 هـ (1146 م) دعا ابن عياض لنفسه، وغلب على شرقي الأندلس كله، إلى أن لقي مصرعه في معركة نشبت بينه وبين القشتاليين في سنة 542 هـ (1147 م). وعندئذ خلفه في الرياسة نائبه وصهره محمد بن سعد بن مردنيش، وسرعان ما اشتد ساعده، وبسط سلطانه القوي على سائر القواعد الشرقية من بلنسية حتى قرطاجنة. وكان ابن مردنيش يمثل الفكرة القومية الأندلسية في أعمق صورها، وقد شهر علم النضال ضد الموحدين أعواماً طويلة، حتى تبددت قواه، ثم خبت فورته بوفاته، وذلك كله حسبما نفصل بعد في مواضعه. وكان سلطان المرابطين قد انهار نهائياً في شرقي الأندلس، قبل ثورة ابن مردنيش بعدة أعوام، وإن كان بفضل الجهود العنيفة التي بذلها قائد المرابطين القوي ابن غانية، قد لبث في بعض القواعد الوسطى والغربية لفترة قصيرة أخرى. ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 63.

كانت هذه الفورات المتعاقبة التي اضطرمت ضد المرابطين في مختلف القواعد الأندلسية، في تلك الفترة العصيبة من أيامهم، تتسم بالرغم من اتخاذها في بعض نواحيها صورة الحرب الأهلية، بالطابع الوطني، وتمثل بوضوح فكرة تحرير الأندلس من النير المرابطي. ولم يكن أولئك الزعماء الخوارج، يحجمون في سبيل تحقيق غايتهم، أو في سبيل التطاحن فيما بينهم، عن الإستعانة بالنصارى، وهي وسيلة شائنة، خطرة في نفس الوقت، تتحطم لديها سائر الاعتبارات الوطنية والدينية. بيد أنه يجب أن نذكر أنها نفس الوسيلة اليائسة التي لجأ إليها أمراء الطوائف، حينما استشفوا نية عاهل المرابطين في القضاء عليهم، فلم يحجموا عن الالتجاء إلى ملك قشتالة، ألفونسو السادس، أخطر أعدائهم، والمنتزع لقواعدهم وأراضيهم، والتحالف معه على رد الجيوش المرابطية. وكان الملوك النصارى يسارعون بتلبية أمثال هذه الدعوات، ليس فقط انتهازاً لما تقدمه إليهم من فرص الضرب والتفريق بين الأمراء المسلمين، واستنزاف قواهم، وانتزاع ما يمكن انتزاعه منهم من الأموال والأراضي، ولكن كذلك شعوراً منهم بالخطر المشترك، الذي يهدد الوطن المشترك - شبه الجزيرة الإسبانية - من جراء تغلب القبائل البربرية المرابطية عليه، واستقرارها فيه، وقد تمثلت هذه الظاهرة فيما بعد أيام الموحدين، أصدق تمثيل، في ثورة محمد بن سعد بن مردنيش، وفي تحالفه المستمر الوثيق مع الملوك النصارى، ضد الموحدين. * * * ونستطيع أن نقول إنه منذ انهارت ثورة ابن مردنيش في شرقي الأندلس بوفاته سنة 567 هـ (1072 م)، واستولى الموحدون على مملكة مرسية، خلُصت الأندلس كلها لطاعة الموحدين، وغاضت النزعة القومية الأندلسية، واستسلمت الأندلس لحكم سادتها من وراء البحر، واستطاع الموحدون أن يوطدوا سلطانهم في الجزيرة مدى نصف قرن آخر، وسطع البلاط الموحدي في إشبيلية، التي جعل الموحدون منها حاضرة الأندلس، وخصوها بمنتهى الرعاية، وعملوا على تحصينها، وتجميلها بطائفة من الصروح الفخمة، وقامت منشآتهم العمرانية العظيمة بإشبيلية، وغيرها من قواعد الأندلس، من قصور ومساجد وحصون وقناطر وأسوار، تشيد بهمتهم وقوة سلطانهم، وفخامة دولتهم. والتف حول البلاط الموحدي سواء بإشبيلية أو المغرب، أعلام الأندلس من كل

ضرب، من فقهاء وعلماء وكتاب وشعراء، وحشد الخلفاء الموحدون إلى جانبهم أقطاب البيان والتفكير الأندلسيين، واتخذوا منهم وزراء وكتاباً وأطباء، وخدم علماء وفلاسفة عظام، مثل ابن طُفيل، وابن زهر، وابن رشد، في بلاط الخليفة الموحدي. وهكذا استقام الأمر بالأندلس في ظل الحكم الموحدي مدى نصف قرن آخر، وشغل الموحدون داخل إمبراطوريتهم العظمية بالمغرب، بتوطيد سلطانهم، وقمع نزعات العصيان المحلية، وشغلوا بالأخص بمكافحة بني غانية، والقضاء على ثورتهم وحركاتهم المخربة بإفريقية، وهي ثورة اقتضت منهم أفدح الجهود، وكادت في بعض الأحيان أن تقضى على سلطانهم في إفريقية. ثم كان عهد الخليفة الناصر ابن المنصور، وكانت حملته المشئومة إلى الأندلس، وكانت نكبة العقاب الساحقة (609 هـ)، وما ترتب عليها من انهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة؛ عندئذ تغيرت الأمور، وتجهمت الحوادث، ولم يقتصر الأمر عندئذ على استطالة الممالك النصرانية، وضغطها على مختلف نواحي الأندلس، وتحفزها لافتتاح قواعدها الكبرى، ولكن حدث في نفس الوقت أن أخذت بوادر الثورة تتحرك داخل الأندلس، تغذيها العوامل القومية القديمة، ضد حكم وهنت دعائمه. وكان موطن هذه الثورة الجديدة، شرقي الأندلس، وكان على رأسها زعيمان ينتمي كلاهما إلى بيت من البيوت الثائرة القديمة، أولهما زيان بن مردنيش، والثاني أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود؛ وبينما انحصرت حركة زيان ببلنسية، إذا بدعوة ابن هود تجتاح مرسية وألمرية وغرناطة ومالقة، وكانت حركة ابن هود تمثل فكرة الأندلس القومية أصدق تمثيل، وترى إلى تحرير الأندلس من نير الموحدين، والنصارى معاً، ولكن موارده وقواته، لم تكن تسمح له بأن يضطلع بمثل تلك المهمة الفادحة. ومن جهة أخرى، فقد نهض النصارى لانتهاز الفرصة السانحة، وانتزاع قواعد الأندلس الكبرى، خلال تلك الغمار المضطرمة، فقام ألفونسو التاسع ملك ليون بانتزاع قواعدها الغربية، ماردة وبطليوس وغيرها (627 هـ) ثم قام فرناندو الثالث بانتزاع قرطبة عاصمة الخلافة القديمة (شوال سنة 633 هـ - يونيه 1236 م) - وذلك في الوقت الذي تخلى فيه ابن هود عن إنجادها، وشغل بالعمل لتوطيد سلطانه في جنوبي الأندلس. وكان لسقوط قرطبة أعمق وقع في تلك الأندلس المفككة المنهوكة القوى، ولكنه كان أمراً محتوماً لا سبيل إلى اتقائه.

ولم يمض قليل على ذلك، حتى توفي ابن هود في أوائل سنة 635 هـ، وهو في إبان قوته وطموحه، وانهارت بوفاته أماني ومشاريع كثيرة، وفي العام التالي استطاع خايمي الأول أو الفاتح ملك أراجون، أن يستولي على بلنسية عاصمة الشرق (صفر سنة 636 هـ - سبتمبر 1238 م) وكان قد استولى قبل ذلك في سنة 628 هـ على الجزائر الشرقية. وفي الوقت الذي أخذ يتوالى فيه سقوط القواعد الشرقية والوسطى، في أيدي النصارى، كان محمد بن الأحمر من جانبه، يعمل بكل ما وسع لبسط سلطانه على القواعد الجنوبية. وهكذا أضحت الأندلس مرة أخرى مسرحاً لغمار متوالية من الحوادث والفتن التي تمزق أوصالها، وتجعلها فريسة هينة لعدوها الخالد - إسبانيا النصرانية - ينتزع قواعدها وأراضيها تباعاً، ولا تجد وسيلة ناجعة لدفع هذا العدوان الجارف، بعد أن انهار سلطان الموحدين وقواهم بالأندلس، وبعد أن فقدت الأندلس منعتها ومواردها العسكرية القديمة، في ظل حكم الدولة الغالبة. ولم تفق الأندلس من تلك المحنة الطاحنة، إلا وقد فقدت قواعدها الكبرى شرقاً وغرباً - قرطبة، وبلنسية، ومرسية، وشاطبة، ودانيه، وجيان، وإشبيلية وبطليوس، وماردة، وشلب، وغيرها وغيرها - وأضحت أنقاضاً متناثرة، تجتمع أشلاؤها الدامية في الجنوب، فيما وراء نهر الوادي الكبير، ولاح من خلال ذلك كله، أن ساعة الأندلس الأخيرة قد دنت، وأنه لم يبق على اسبانيا النصرانية إلا أن تجتني بقية تراثها الممزق، وأن تختتم هذه السلسلة من معارك " الإسترداد " " La Reconquista " العظيمة بضربة أخيرة، تكون هي القاضية على حياة اسبانيا المسلمة، لولا أن شاء القدر أن تلتئم هذه الأنقاض المتناثرة من تراث الأندلس الكبرى، وأن تبعث من بينها قوة فتية جديدة، تتمثل في قيام مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام في الأندلس. تلك هي الخطوط العريضة لصورة العصر، الذي نحاول أن نضطلع باستعراض أحداثه، وشرح ظروفه وخواصه، - عصر المرابطين والموحدين.

الكتاب الأول الدولة المرابطية فى أوج سلطانها

الكِتاب الأول الدولة المُرابطية في أوج سُلطانها

الفصل الأول يوسف بن تاشفين

الفصْل الأوّل يوسف بن تاشفين خواص إمارته ولامع خلاله يوسف بن تاشفين وبداية زعامته. أبو بكر بن عمر اللمتوني. المرابطون ينشرون الإسلام في غانة ومالي. يوسف يتسمى بأمير المسلمين. ظروف تسميته بهذا اللقب. اعترافه بطاعة الخليفة العباسي. رواية ابن خلدون. ما يؤيد هذه الرواية. رواية ابن العربي عن رحلته. فتوى الإمام الغزالي عن موقف أمراء الطوائف وعن حق يوسف في استصدار المرسوم الخلافي. كتاب الإمام الغزالي ليوسف. كتاب أبى بكر الطرطوشي. اخيار يوسف لولده على لولاية العهد. المرسوم الصادر بذلك. كتاب البيعة والتولية. خلال يوسف ومناقبه. بساطته المؤثرة. براعته العسكرية. عدله وإيثاره للفقهاء. موقفه من الضرائب والمكوس. سيادة الأمن والرخاء في عهده. وزيره عبد الرحمن بن أسباط. كاتبه ابن القصيرة. مرض يوسف ووفاته. تحقيقه لوحدة المغرب والأندلس. الدولة المرابطية الكبرى. - 1 - كان مما اقتضاه سياق الكلام عن تاريخ دول الطوائف، أن نتحدث عن نشأة الدولة المرابطية وقيامها في المغرب، والتجاء أمراء الطوائف، حينما لاح خطر اسبانيا النصرانية قوياً على الأراضي والقواعد الإسلامية في شبه الجزيرة، وحينما جاء سقوط طليطلة في شهر صفر سنة 478 هـ (مايو سنة 1085 م) نذيراً بتفاقم هذا الخطر، - التجائهم إلى إخوانهم فيما وراء البحر، إلى المرابطين، يطلبون منهم الإنجاد والغوث، ثم عن عبور بطل المرابطين يوسف بن تاشفين في جيوشه الجرارة المتوثبة إلى الأندلس، وخوض الجيوش الإسلامية المتحدة - المرابطية والأندلسية - لمعركة الزلاّقة ضد الجيوش النصرانية المتحدة، في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر سنة 1086 م)، وإحرازها لانتصارها الباهر الذي قمع عدوان اسبانيا النصرانية إلى حين، وأخيراً عن انقلاب المرابطين من منقذين إلى فاتحين، واستيلائهم على إمارات الطوائف تباعاً، وضم الأندلس إلى الدولة المرابطية الكبرى. وقد تتبعنا خلال ذلك كله حياة زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين، منذ

نشأته، حتى فوزه بإنشاء الدولة المرابطية في المغرب، وما تلا ذلك من عبوره إلى شبه الجزيرة غير مرة، وفوزه بملك الأندلس، ثم وفاته في مستهل شهر المحرم سنة 500 هـ (2 سبتمبر سنة 1106 م) بعد حياة حافلة بعظائم الحوادث، وجلائل الأعمال. ولسنا نجد بعد أن استعرضنا ذلك كله، بتفاصيله الشاملة في كتابنا " دول الطوائف "، مجالا لتكرار الكلام في هذه الموضوعات. بيد أنه لا يسعنا، ونحن نزمع الكلام هنا عن عصر المرابطين في المغرب والأندلس، إلا أن نرتد بأبصارنا إلى بعض ما تقدم من المواطن، وأن نستزيدها فيما أوجزنا فيه منها، حتى ينتظم السياق، وتكمل وحدة الموضوع. وأول ما يعرض لنا في ذلك، هو العود إلى بعض مواطن، في حياة البطل المغربي العظيم، يوسف بن تاشفين زعيم المرابطين، ونبدأ في ذلك بصفته وألقابه الملوكية، وهو ما تناولناه فيما تقدم بطريقة عابرة. كانت رياسة المرابطين الزمنية، حينما أنشأ الفقيه عبد الله بن يايسن الجزولي، طائفة المرابطين في أول أمرها، لزميله وصديقه يحيى بن إبراهيم الكدالي، ولما توفي هذا الرئيس ندب عبد الله بن ياسين مكانه للرياسة الأمير يحيى بن عمر بن تلاكاكين اللمتوني ليتولى شئون الحرب والجهاد. وكانت هذه أول مرحلة في رياسة لمتونة الزمنية لطائفة المرابطين. ولما توفي الأمير يحيى في سنة 447 هـ، عين مكانه للقيادة أخوه أبو بكر بن عمر. ولما وضع المرابطون خططهم لافتتاح بلاد السوس في سنة 448 هـ، ندب الأمير أبو بكر ابن عمه يوسف بن تاشفين ليكون قائداً لمقدمة الجيش المرابطي. وهذه هي أول مناسبة تاريخية، يذكر فيها اسم البطل المرابطي، ولم يكن له يومئذ من الرياسة، سوى صفة القيادة لجناح من أجنحة الجيش المرابطي. وهنا ظهرت براعته العسكرية، فيما اضطلع به المرابطون يومئذ من الفتوحات المتوالية في أنحاء المغرب، وهي التي فصلنا أطوارها فيما تقدم. ولما توفي عبد الله بن ياسين قتيلا في بعض المعارك التي نشبت في أراضي برغواطة في سنة 451 هـ (1059 م)، استأثر الأمير أبو بكر اللمتوني بزعامة المرابطين الروحية والزمنية معاً، وتحققت بذلك رياسة لمتونة، وبدأت الدولة المرابطية اللمتونية، وقوام سلطانها، ما تم يومئذ من فتوح المغرب.

ولما وقع الخلاف بين لمتونة ومسّوفة وغيرها من القبائل المرابطية، في بلاد القبلة قاعدتهم بالصحراء، واعتزم أبو بكر أن يسير بنفسه لتلافي الأمر، عهد بشئون المغرب إلى ابن عمه يوسف بن تاشفين (453 هـ)، وقسمت الجيوش المرابطية عندئذ إلى قسمين، تولى يوسف إمرة أحدهما ليتم به إخضاع المغرب، وسار أبو بكر إلى الصحراء في القسم الآخر. وقد أشرنا من قبل إلى خاتمة أبى بكر، وكيف أنه حينما عاد بعد إتمام مهمته في الصحراء إلى المغرب ولقي يوسف (سنة 465 هـ)، ورأى من عظمة سلطانه وقوته، ما أدرك معه أن كل أمل قد غاض في استرداد إمارته على المغرب، قد ارتد ثانية إلى الصحراء، وهنالك اخترق مشارف الصحراء الكبرى، ودخل منطقة النيجر الوسطى، ولبث حيناً يقوم بغزوات متوالية في قلب مملكة السودان، وعاصمتها يومئذ مدينة غانة، وفي مملكة مالي، وهو يعمل على نشر الإسلام بين تلك القبائل السود، التي كانت يومئذ تدين بالنصرانية، والتي تضع الرواية تاريخ إسلامها في سنة 469 هـ (1076 م) (¬1). واستمر يتابع الجهاد والغزو حتى توفي قتيلا في بعض المعارك في سنة 480 هـ (1087 م). أما يوسف فقد عني من جانبه بإتمام فتوح المغرب واستطاع أن يخضع معظم نواحيه، وأنشأ مدينة مرّاكُش (462 هـ - 1069 م) لتكون قاعدة لملكه، وعاصمة للأقطار المغربية المترامية التي تم له افتتاحها (¬2). وهنا يتشح يوسف بن تاشفين بثوب الملك السياسي والإمارة الفعلية. وقد كان مذ ندب لقيادة الجيش المرابطي، وتوالت على يديه فتوح المغرب، يتشح بثوب الرياسة والإمارة القَبَلي. وهنا تختلف الرواية في أصل ألقابه الملوكية، وأوضاعها. والتاريخ يعرف يوسف بن تاشفين " بأمير المسلمين، وناصرالدين ". فمتى كان اتخاذه لهذا اللقب؟ وفي أي ظروف وقع ذلك؟ ¬_______ (¬1) الحلل الموشية (طبع تونس) ص 7. (¬2) هذا هو التاريخ الذي يضعه ابن عذارى لإنشاء مراكش في البيان المغرب (من أوراق مخطوطة وجدت بمكتبة جامع القرويين بفاس، ونشرت أخيراً بعناية الأستاذ هويثي ميرانده في مجلة Hespéris عدد سنة 1961 ص 55). ويتابعه صاحب الحلل الموشية فيضع تأسيسها في نفس التاريخ (الحلل الموشية ص 6). ويضع الشريف الإدريسي تاريخ إنشاء مراكش في سنة 470 هـ (راجع المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس المنشور بعناية دوزي ص 67). ويضع صاحب كتاب " الاستبصار " تاريخ إنشائها في سنة 459 هـ (ص 208). ويضع صاحب روض القرطاس تاريخ إنشائها في سنة 454 هـ، (طبعة تورنبرج ص 89)، ويتابعه في ذلك ابن خلدون (كتاب العبر ج 6 ص 184).

هنالك روايتان في ذلك. الأولى خلاصتها أن يوسف بن تاشفين لما كثرت فتوحه، وترامت أطراف مملكته، وكان يقتصر عندئذ على التسمى " بالأمير " اجتمعت إليه أشياخ لمتونة، وأعيان دولته، وقالوا له أنت خليفة الله في أرضه، وأن حقه يسمو على لقب الإمارة، واقترحوا عليه أن يتسمى " بأمير المؤمنين " فأبى واعتذر بأن هذا اللقب إنما يتسمى به خلفاء بني العباس، سلالة النبي، وأصحاب الحرمين، وأنه يعتبر في المغرب رجلهم والقائم بدعوتهم، ولكنه استجاب إليهم في التسمي " بأمير المسلمين " و " ناصر الدين " وكان ذلك في سنة 466 هـ، وخُطب له بذلك في المنابر، وخوطب في العُدوتين، وخرج بذلك كتابه إلى النواحي، وهذا نصه بعد الديباجة: " أما بعد حمد الله، أهل الحمد والشكر، ميسر اليسر، وواهب النصر، والصلاة على محمد المبعوث بنور الفرقان والذكر، وإنا كتبنا إليكم من حضرتنا بمراكش حرسها الله في نصف محرم سنة ستة وستين وأربعمائة، وأنه لما منّ الله علينا بالفتح الجسيم، وأسبغ علينا من أنعمه الظاهرة والباطنة، وهدانا وهداكم إلى شريعة نبينا محمد المصطفي الكريم، صلى الله عليه أفضل السلام، وأتم التسليم، رأينا أن نخصص أنفسنا بهذا الاسم، لنمتاز به على سائر أمراء القبائل، وهو أمير المسلمين وناصر الدين، فمن خطب الخطبة العلية السامية، فليخطبها بهذا الاسم إن شاء الله تعالى، والله ولي العدل، بمنه وكرمه، والسلام " (¬1). ولكن هذه الرواية تعارضها رواية أخرى ربما كانت أكثر قبولا. ذلك أنه يوجد لدينا أكثر من نص يؤيد القول، بأن تلقب يوسف بن تاشفين بهذا اللقب، وقع عقب انتصاره في موقعة الزلاّقة، وهذا ما يوضحه لنا صاحب " روض القرطاس " إذ يقول، إن يوسف كان يُدعى أولا بالأمير، فلما فتح الأندلس وصنع غزاة الزلاّقة، وأذل الله تعالى بها ملك الروم، بايعه في ذلك اليوم أي عقب النصر، ملوك الأندلس وأمراؤها الذين شهدوا معه تلك الغزاة، وكانوا ثلاثة عشر ملكاً، وسلموا عليه " بأمير المسلمين ". وخرجت كتبه مصدرة عنه بذلك إلى ¬_______ (¬1) هذه هي رواية صاحب الحلل الموشية ص 16 و 17، وكذلك ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص 60). وفي بعض الروايات المتأخرة أن يوسف بن تاشفين تسمى بالفعل بأمير المؤمنين وخطب له بهذا الاسم ولبنيه من بعده (المؤنس في أخبار إفريقية وتونس) لابن دينار ص 99، وهي رواية ضعيفة.

العُدوة وبلاد الأندلس، فقرئت على المنابر، وفيها يخبرهم بما فتح الله عليه من النصر والظفر والفتح العظيم. ثم يزيد على ذلك بأن يوسف هو أول من تسمى بأمير المسلمين من ملوك المغرب (¬1). وهذه الرواية يؤيدها ابن الخطيب في الإحاطة إذ يقول لنا بإيجاز في ترجمة يوسف: " تسمى بأمير المسلمين لما احتل الأندلس، وأوقع بالروم وكان قبل يدعى الأمير يوسف " (¬2). ونحن نرجح هذه الرواية الأخيرة لأنها أكثر اتفاقاً مع منطق الحوادث ودلالتها. أما اعتراف يوسف بن تاشفين بطاعة الخليفة العباسي، فمسألة تتفق عليها معظم الروايات. ويقول ابن الأثير، وهو من أقدم مصادرنا في ذلك، إن يوسف بعد أن تم له افتتاح ممالك الطوائف، والاستيلاء على الأندلس، وعاد إلى حضرة ملكه مراكش، جمع الفقهاء وأحسن إليهم، فذكروا له أنه ينبغي أن تكون ولايته صادرة من الخليفة لتجب طاعته على الكافة، وأنه يجب أن يأتيه منه تقليد بحكمه للبلاد، ويُرجع ابن الأثير هذا النصح إلى علماء الأندلس خاصة، ويقول لنا إن يوسف أرسل على أثر ذلك إلى الخليفة المقتدي بأمر الله، فوافته الخلع والأعلام والتقليد، ولُقب بأمير المسلمين وناصر الدين. ومعنى ذلك أن يوسف تسمى بهذه الألقاب الملوكية، أو أنها خلعت عليه فقط حينما أتاه المرسوم أو التقليد العباسي بذلك. وفي ذلك تختلف رواية ابن الأثير عن باقي الروايات (¬3). ومن جهة أخرى فإن ذلك لابد أن يكون قد وقع قبل سنة 487 هـ (1094 م) وهي السنة التي توفي فيها الخليفة المقتدي بأمر الله. ويبدو من كلام صاحب " روض القرطاس " وابن الخطيب ما يؤيد ذلك، وأن صدور هذا التقليد العباسي ليوسف قد وقع عقب انتصار الزلاّقة (479 هـ)، وأن يوسف قد ضرب السّكة عقب ذلك، وأصدر الدينار المرابطي الجديد وفي أحد وجهيه " لا إله إلا الله، محمد رسول الله " وتحت ذلك " أمير المسلمين يوسف بن تاشفين "، ونقش في مداره: " ومن يتبع غير الإسلام ديناً، فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين " وكتب في الوجه الآخر " الإمام عبد الله أمير المؤمنين العباسي " (¬4). ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 88، وراجع وفيات الأعيان لابن خلكان (بولاق) ج 2 ص 488. (¬2) الإحاطة في أخبار غرناطة، مخطوط الإسكوريال (رقم 1673 الغزيري) لوحة 393. (¬3) تاريخ ابن الاثير ج 10 ص 52 و 145. (¬4) روض القرطاس ص 88، وابن الخطيب في مخطوط الإحاطة السالف الذكر لوحة 393.

على أن ابن خلدون يقول لنا بالعكس إن يوسف قد كتب في شأن تقليده إلى الخليفة المستظهر بالله، ولد المقتدي بالله وخلفه، وأنه بعث إليه في ذلك الغرض سفارة على رأسها عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبو بكر وهو الحافظ الشهير فيما بعد " فتلطفا في القول، وأحسنا في الإبلاغ، وطلبا إلى الخليفة أن يعقد ليوسف على المغرب والأندلس " فصدر له عهده بذلك، وعاد السفيران يحملان التقليد بولاية يوسف على ما تحت نظره من الأقطار والأقاليم، وأذيعت محتويات هذا التقليد بين الناس. وكذلك كتب الإمام الغزالي، والقاضي الطرطوشي إلى يوسف يحضانه على العدل والتمسك بالخير، ويفتيانه في شأن ملوك الطوائف (¬1). ولقد وقفنا نحن على ما يؤيد هذه الرواية الأخيرة - رواية ابن خلدون - تأييداً قاطعاً، وحصلنا على نص الرواية التي سجلها ابن العربي عن مهمته، وعن لقائه بالإمام الغزالي في بغداد، وما استصدره من الفتوى الخاصة بموقف يوسف من أمراء الطوائف، ومن الخلافة، كما حصلنا على النص الكامل للخطاب الذي كتبه الإمام الغزالي عن هذا الموضوع، إلى يوسف بن تاشفين، وحمله الفقيه ابن العربي معه عند عوده إلى الأندلس. ونحن نعرف أولا أن الفقيه ابن العربي وولده أبا بكر، قد رحلا إلى المشرق في مهمتهما المذكورة في مستهل ربيع الأول سنة 485 هـ، وإن كانت رحلتهما قد اتخذت يومئذ طابع السفر لطلب العلم (¬2). وكان يوسف قد اشترك بعد الزلاّقة، مع أمراء الطوائف في حصار حصن لييط Alédo في سنة 481 هـ (1088 م) وشهد عندئذ من تمردهم، ونفاقهم، وجنوحهم إلى ممالأة النصارى، ما أحفظه عليهم. ثم جاز جوازه الثالث إلى الأندلس في سنة 483 هـ (1090م)، وكان عندئذ قد اعتزم أمره في افتتاح ممالك الطوائف، وأخذ يستولي عليها تباعاً، وكان يهمه إلى جانب الحصول على المرسوم الخلافي، أن يحصل على سند شرعي يبرر تصرفه نحو أولئك الأمراء. فلما وصل الفقيه أبو محمد العربي وولده أبو بكر إلى بغداد، لقى الإمام أبا حامد الغزالي، قطب فقهاء المشرق يومئذ، وشرح له ¬_______ (¬1) ابن خلدون - كتاب العبر - ج 6 ص 188. وقد ورد في هذا النص أن يوسف خاطب " المستنصر العباسي ". ونحن نعتقد أن ذلك تحريف من الناسخ، وأن المقصود هو الخليفة المستظهر. (¬2) ابن بشكوال في " الصلة " في ترجمة ابن العربي رقم 1297.

أحوال الأندلس، وخلال أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وما اضطلع به من أعمال الجهاد وإعزاز الدين، وما كان عليه ملوك الطوائف من تفرق وتخاذل، واستعداء للنصارى، وكيف تخلف بعضهم عن مشاركته في الجهاد مجاملة للمشركين. فلما قام بحصار النصارى، عقب جوازه الثاني، في حصن لييط، تخلف بعض رؤساء الشرق عن معاونته، وقالوا إن طاعته ليست بواجبة لأنه ليس إماماً شرعياً من قريش. ووقف يوسف على رسالة وجهت من بعضهم إلى العدو، يشجعه على المقاومة والصمود، وكان جواب يوسف لأولئك الزعماء المتمردين، أنه خادم أمير المؤمنين المستظهر، وأن الخطبة تجري باسمه على أكثر من ألفي منبر، وتضرب السكة باسمه. وطلب الفقيه ابن العربي إلى الإمام الغزالي أن يزوده فيما تقدم بفتوى تبين حكم الشرع فيه، وأن يزوده بكتاب إلى أمير المسلمين. فأما الفتوى فقد جاء فيها " أن يوسف كان على حق في إظهار شعار الإمامة للخليفة المستظهر (¬1)، وأن هذا هو الواجب على كل ملك، استولى على قطر من أقطار المسلمين، وإذا نادى الملك المشمول بشعار الخلافة العباسية، وجبت طاعته على كل الرعايا والرؤساء، ومخالفته مخالفة للإمام، وكل من تمرد واستعصى، فحكمه حكم الباغي، ومن حق الأمير أن يرده بالسيف، وأن يقاتل الفئة المتمردة على طاعته، لاسيما وقد استنجدوا بالنصارى، وهم أعداء الله، في مقاتلة المسلمين، وهم أولياء الله، وأن يستمر في قتالهم حتى يعودوا إلى طاعة الأمير العادل، المتمسك بطاعة الخلافة العباسية، ومتى تركوا المخالفة، وجب الكف عنهم، وذلك عن المسلمين منهم دون النصارى. وأما ما يظفر به من أموالهم فمردود عليهم وعلى ورثتهم، وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم في القتال مهدورة لا ضمان فيها، وحكمهم بالجملة في البغي على الأمير المتمسك بطاعة الخلافة، المستولى على المنابر والبلاد بقوة الشوكة، وحكم الباغي على نايب الإمام، فإنه وإن تأخر عنه صريح التقليد لاعتراض العوايق المانعة، من وصول المنشور بالتقليد، فهو نايب بحكم قرينة الحال، إذ يجب على إمام المصر أن يأذن لكل مسلم عادل، استولى ¬_______ (¬1) عثرنا على نص رواية ابن العربي، وعلى نص فتوى الإمام الغزالي في المخطوط رقم 1275 ك (المكتبة الكتانية) المحفوظ بخزانة الرباط وعنوانه " مجموع أوله كتاب الأنساب " (لوحة 128 و 129)، كما عثرنا فيه على نص كتاب الإمام الغزالي إلى يوسف بن تاشفين. ويبدو من ذكر الخليفة المستظهر في رواية ابن العربي وفي فتوى الغزالي أنهما يرجعان إلى سنة 487 هـ، وقد تولى المستظهر الخلافة بعد وفاة أبيه المقتدي في 16 المحرم سنة 487 هـ.

على قطر من أقطار الأرض، أن يخطب له، وينادي بشعاره، ويحمل الخلق على العدل والنصفة، ولا ينبغي أن يظن بالإمام توقف في الرضا بذلك والإذن فيه، وأن توقف في كتبه المنشور، فالكتب قد يعوق عن انشايها، وإيصالها المعاذير. وأما الإذن والرضى بعدما ظهر حال الأمر في العدل والسياسة، وابتغاء المصلحة للتفويض والتعيين، فلا رخصة في تركه، وقد ظهر حال هذا الأمير بالاستفاضة ظهوراً لا يشك فيه. وإن لم يكن عن إيصال الكتب وانشايه عايق، وكانت هذه الفتنة لا تنطفي، إلا بأن يصل إليهم صريح الإذن والتقليد بمنشور، مقرون بما جرت العادة بمثله في تقليد الأمراء، فيجب على حضرة الخلافة بذل ذلك، فإن الإمام الحق عاقلة الإسلام، ولا يحل له أن يترك في أقطار الأرض فتنة ثايرة، إلا ويسعى في إطفائها بكل ممكن ". هذا هو نص فتوى الإمام الغزالي لابن العربي عن حكم الشرع في موقف ملوك الطوائف، حسبما شرحه ابن العربي للإمام، وعن حق يوسف في الحصول على المرسوم الخلافي بولايته على ما فتحه من الأقطار بسيفه. وقد عاد الإمام الغزالي بعد ذلك، فكتب إلى يوسف كتاباً يعرض فيه بالتفصيل إلى قصة ملوك الطوائف، حسبما رواها له ابن العربي، وإلى ما كانت عليه الأندلس في ظل حكمهم من التخاذل والذل، والصغار والهوان، وإلى استطالة النصارى عليها، لما كان يسودها من تفرق الكلمة واختلاف الرأي، حتى انتهى النصارى بأن رتبوا الجزية على المسلمين. ثم يشير إلى صريخ الطوائف إلى يوسف، وإلى جوازه البحر للجهاد، وإلى ما وفقه الله من دحض شوكة النصارى، وأنه حينما طلب يوسف إلى ملوك الطوائف أن يرفعوا المظالم عن المسلمين، عادوا فجنحوا إلى ممالأة النصارى، فسأله المسلمون عندئذ إنزالهم عن البلاد، فاستجاب لرغبتهم، ورفع المظالم وقطع الفساد، وينوه بما أبداه يوسف من العمل بأحكام الله، ومن إيثار العلماء والاستماع لرأيهم فيما يفتون إليه من الأحكام، ثم يشير بعد ذلك إلى ما أصدره من فتوى في شأن ملوك الطوائف، وإلى ما كان ابن العربي بصدده من السعى إلى استصدار المرسوم الخلافي بولاية يوسف على جميع بلاد المغرب، وتمكين طاعته، وإلى ما كان يبثه ابن العربي من دعاية واسعة للإشادة بحكم يوسف وخلاله، سواء في العراق أو في المشاهد الكريمة بأرض الحجاز. ولم يثبت الغزالي بخطابه تاريخاً معيناً، ولكن يبدو من نصه أنه كتبه قبل " مسيره إلى سفر

الحجاز ". ونحن نعرف من حياة الغزالي أن ذلك كان في سنة 488 هـ (¬1). وكذلك حصل ابن العربي من العلامة أبى بكر الطرطوشي، حين مروره على ثغر الإسكندرية، وهو في طريق العودة، على خطاب آخر برسم أمير المسلمين يوسف. ويسدي الطرطوشي في كتابه النصح إلى يوسف بأن يحكم بالحق وفقاً لكتاب الله، وأن يكون شفيقاً على رعيته شفقة الرجل على أهله، وأن يعمل لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ويجري الطرطوشي في إسداء نصحه على طريقته في إيراد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأقاصيص الخلفاء والصحابة (¬2). وتوفي الفقيه ابن العربي في ثغر الإسكندرية في فاتحة سنة 493 هـ (¬3)، وعاد ابنه أبو بكر دونه إلى الأندلس في نفس العام، وهو يحمل الرسالتين - رسالة الغزالي ورسالة الطرطوشي - وكذلك مرسوم الخليفة المستظهر إلى عاهل المرابطين. وهكذا يبدو أنه مما لا مراء فيه، أن مؤسس الدولة المرابطية الكبرى، كان ينضوي من الناحية السياسية تحت لواء الخلافة العباسية وأنه كان يُدعى حتى قبل صدور هذا التقليد في الخطبة ليوسف بعد الدعاء للخليفة العباسي، في سائر نواحي المغرب والأندلس. وسنرى فيما بعد كيف أن هذه الرعاية الأدبية العباسية للدولة المرابطية، تمتد إلى ما بعد عهد يوسف، وأن الخليفة العباسي يسبغ في مراسلاته على عاهل المرابطين بعض الألقاب الخاصة. - 2 - عرفنا فيما سبق كيف آلت إمارة المغرب إلى يوسف بن تاشفين، مذ عهد إليه بشئونه ابن عمه الأمير أبو بكر اللمتوني في سنة 453 هـ (1061 م)، وكيف ارتد هذا الأمير إلى الصحراء وهنالك توفي، وخلصت إمارة المغرب نهائياً ليوسف، وقامت الدولة المرابطية الكبرى، بالمغرب والأندلس، في ظل عاهلها الكبير. ¬_______ (¬1) ورد نص خطاب الغزالي في مخطوط المكتبة الكتانية المشار إليه (لوحات 130 - 133) وقد نشرناه كاملا في باب الوثائق. (¬2) ورد نص خطاب الطرطوشي في المخطوط المشار إليه (لوحة 133 و 134). (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 337.

وأراد يوسف في أواخر حياته، وبعد أن تم له افتتاح الأندلس، أن يؤثل ملكه، وأن يطمئن لمصاير دولته العظيمة، وذلك باختيار ولي عهده. وكان ليوسف من البنين خمسة هم، أبو بكر سير، وعلي، وتميم، والمعز، وإبراهيم، ومن البنات ثلاث هن كوتة ورقية وتميمة (¬1). وكان أبو بكر أكبر بنيه وولي عهده فيما يظهر، وقد استخلفه أبوه على المغرب حينما عبر البحر لأول مرة إلى الأندلس، في شهر ربيع الأول سنة 479 هـ، استجابة لصريخ الطوائف. ولما انتهت معركة الزلاّقة بظفر المسلمين الباهر، وارتدت الجيوش المرابطية إلى إشبيلية في طريقها إلى العودة، تلقي يوسف نبأ وفاة ولده أبى بكر، وكان قد تركه مريضاً في سبتة، ويقول لنا صاحب القرطاس، إن هذا النبأ المحزن. وصل إلى يوسف في يوم النصر ذاته (¬2). وكان هذا الحادث سبباً في تعجيل يوسف بالعودة، بل يقال لنا أيضاً إنه كان سبباً في إحباط خطط يوسف، وتركه كل فكرة في مطاردة الجيوش النصرانية المنهزمة (¬3). وفي سنة 495 هـ (1101 م)، قرر يوسف أمره في ولاية عهده، ووقع اختياره في ذلك على ولده أبى الحسن علي، ولم يكن علي أكبر أولاده، إذ كان أكبرهم عندئذ، أبو الطاهر تميم، ولكنه آثر علياً لما آنسه فيه من الورع والنباهة والحزم، وأصدر مرسومه بولايته لعهده في نفس العام، وإليك نص هذا المرسوم بعد الديباجة، وهو من إنشاء الوزير الفقيه أبى محمد بن عبد الغفور، وقد كان من أعلام البلاغة في هذا العصر: " أما بعد فإن أمير المسلمين، وناصر الدين، أبا يعقوب يوسف بن تاشفين، لما استرعاه الله على كثير من عباده المؤمنين، خاف أن يسأله الله غدا عما استرعاه، كيف تركه هملا لم يستنب فيه سواه. وقد أمر الله بالوصية فيما دون هذه العظيمة، وجعلها من أوكد الأشياء الكريمة، كيف في هذه الأمور العائدة بمصلحة الخاصة والجمهور. وأن أمير المسلمين بما لزمه من هذه الوظيفة، وخصه الله بها من ¬_______ (¬1) كانت الأميرة تميمة بنت يوسف بن تاشفين تشتهر بجمالها، ورجاحة عقلها، وأدبها، وكانت تنظم الشعر الجيد. سكنت فاس مدة (ابن الأبار في التكملة، وجذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام بمدينة فاس، ص 105 و 106). (¬2) روض القرطاس ص 98. (¬3) F. Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides en Espana (Zaragoza 1899) p. 2

النظر في هذه الأمور الدينية الشريفة، قد أعز الله رماحه وأحدّ سلاحه، فوجد ابنه الأمير الأجل، أبا الحسن أكثرها ارتياحاً إلى المعالي واهتزازاً، وأكرمها سجية وأنفسها اعتزازاً، فاستنابه فيما استرعى، ودعاه لما كان إليه دعى، بعد استشارة أهل الرأي على القرب والنأي، فرضوه لما رضيه، واصطفوه لما اصطفاه، ورأوه أهلا أن يسترعي فيما استرعاه، فأحضره مشترطاً عليه الشروط الجامعة بينها وبين المشروط، فقبل ورضى، وأجاب حين دعى، بعد استخارة الله الذي بيده الخيرة، والاستعانة بحول الله الذي من آمن به شكره. وبعد ذلك مواعظ ووصية، بلغت من النصيحة مرامي قصية، يقول في خاتمة شروطها، وتوثيق ربوطها، كتب شهادته على النائب والمستنيب، من رضى إمامتهما على البعيد والقريب، وعلم علماً يقيناً بما وصاه في هذا الترتيب، وذلك في عام خمسة وتسعين وأربعمائة " (¬1). وكان من الشروط التي اشترطها يوسف على ولده وولي عهده علي، فيما يختص بالدفاع عن الأندلس، هو ألاّ يعين في مناصب الحكام والقضاة في الولايات والحصون والمدن إلا المرابطين من قبيلة لمتونة، وأن ينشىء بها جيشاً مرابطياً ثابتاً، قوامه سبعة عشر ألف فارس، توزع على مختلف القواعد، فيرابط منها بإشبيلية سبعة آلاف، وبقرطبة ألف، وبغرناطة ألف، وفي شرقي الأندلس أربعة آلاف، وتوزع الأربعة آلاف الباقية على الثغور والحصون المتاخمة لأراضي العدو. هذا ويحسن أن يعهد إلى الأندلسيين بحراسة الحدود النصرانية، فهم أكثر خبرة بأحوال النصارى، وأكثر دربة على قتالهم من المرابطين. وفي سنة 496 هـ، (1102 م) (¬2) جاز يوسف بن تاشفين إلى الأندلس جوازه الرابع والأخير، ومعه ولداه أبو الحسن على وأبو الطاهر تميم (¬3). وكان يوسف يقصد بهذا الجواز النظر في شئون الأندلس ومصالحها، وكان يقصد بالأخص أن ينظم البيعة لولده على الذي اختاره لولاية عهده. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن علياً لم يكن مع والده في هذا الجواز، وإنه بالعكس كان يقيم عندئذ في سبتة التي ولد بها ¬_______ (¬1) أورد نص هذا المرسوم صاحب الحلل الموشية (ص 56 و 57). (¬2) وفي رواية أخرى أن هذا الجواز قد وقع في سنة 497 هـ (ابن خلدون - كتاب العبر ج 6 ص 188). ولكن التاريخ الذي يحمله كتاب التولية وهو ذو الحجة سنة 496 هـ، يؤكد صحة الرواية الأولى. (¬3) الحلل الموشية ص 55.

ونشأ (¬1). ونحن نرجح الرواية الأولى بحضور على مع والده إذ كان هو المقصود بتنظيم البيعة، ومن المعقول أن يكون حاضراً في حفل تنظيمها. وفي أواخر سنة 496 هـ، كان يوسف بقرطبة، عاصمة الخلافة، وكانت يومئذ قاعدة للحكم المرابطي في الأندلس، وجمع يوسف أعيان قبيلة لمتونة، وأشياخ المرابطين والفقهاء، وأخذ البيعة عليهم جميعاً لولده علي، وصدر كتاب التولية والبيعة عن يوسف لولده، مدبّجاً بقلم وزيره وكاتبه أبى بكر بن القصيرة علم البلاغة، وإمام النثر والترسل يومئذ، وإليك نص الكتاب المذكور: " هذا كتاب تولية عظيم جسيم، وتوصية حميم كريم، صدرت على الرضا قواعده، وأكدت بيد التقوى معاقده، وسددت إلى الحسنى مقاصده، وأبعدت عن الهوادة والهوى مصادره وموارده، أنفذه أمير المسلمين، وناصر الدين، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين أدام الله أمره، وأعز نصره، وأطال فيما يرضيه منه، ويرضى به عنه عمره، غير محاب ولا تارك في النصيحة لله ولرسوله والمسلمين، موضع ارتياب لمرتاب، للأمير الأجل أبى الحسن عليّ ابنه، المتقبل هممه وشيمه، المتأثل حلمه وتحلمه، الناشىء في حجر تقويمه وتأديبه، المتصرف بين يدي تخريجه وتدريبه، أدام الله عزه وتوفيقه، ونهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه، وقد تهمم، بمن تحت عصاه من المسلمين، وهدى في انتقاء من يخلفه هدو المتقين، ولم ير أن يتركهم بعد سدى غير مدينين، واعتام في النصاب الرفيع، واختار واستنصح أولي الرأي والدين، واستشار فلم يوقع بعد طول تأمل وتراخي مدة، وتمثل اختياره في اختيار من فاوضه في ذلك من أولي التقوى والحنكة، واستشارة [الأعلية] ولا صار بدونهم الارتياد والاجتهاد إلا إليه، ولا التقى رواد الرأي والتشاور إلا لديه، فولاه عن استحكام بصيرة، وبعد طول مشورة، عهده، وأفضى إليه الأمر والنهي والقبض والبسط بعده، وجعله خليفته الساد في رعاية مسده، وأوطأ عقبه جماهير الرجال، وناط به مهمات الأمور والأعمال، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسنة، في أحد عصا أو أطاع، ولا ينام عن حماة الحدب والخوف بالإضطجاع، ولا يتلين دون معلن بشكوى، ولا يتصام عن مستصرخ لدى بلوى، وأن ينتظم أقصى البلاد وأدناها في سلك تدبيره، ولا يكون بين ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 101.

القريب والبعيد في إحصائه وتقديره. ثم دعا أدام الله تأييده لمبايعته، أدام الله عزه، من حضر و .. من المسلمين، فلبوا مسرعين وأتوا مهطعين، وأعطوا صفقة إيمانهم متبرعين متطوعين، وبايعوه على السمع والطاعة، والتزام سنن الجماعة, وبذل النصيحة جهد الاستطاعة، ومناصفة من ناصفه، ومحاربة من حاربه, ومكايدة من كايده، ومعاندة من عانده، لا يدخرون في ذلك على حال المنشط مقدرة، ولا يحجون في حالتي الرضا والسخط إلى معذرة، ثم أمر بمخاطبة ساير أهل البلاد لتبايعه، كل طائفة منهم في بلدها، وتعطيه كما أعطاه من حضر, صفقة يدها، حتى ينتظم في التزام طاعته القريب والبعيد، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته الغايب والشهيد، وتطمين من أعلام الناس وخيارهم نفوس قلقة، وتنام عيون لم تزل مخافة أقذائها مورقة، ويشمل الناس كافة السرور والاستبشار، وتتمكن لديهم الدعة، ويمهد القرار، وتنشأ لهم في الصلاح آمال، ويستقبلهم جد صالح وإقبال، والله يبارك بيعة رضوان، وصفقة رجحان، ودعوة يمن وإيمان، إنه على ما يشاء قدير، لا إله إلا هو نعم المولى ونعم النصير. شهد على إشهاد أمير المسلمين بكل ما ذكر عنهم فوق هذا من بيعته .. حمله عنه ممن التزم البيعة المنصوصة قبل، وأعطى صفقته طائفاً متبرعاً، وبالله التوفيق، وكتب بحضرة قرطبة في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة " (¬1). - 3 - وقد سبق أن عرضنا من قبل في كتاب " دول الطوائف " إلى لمحة من خلال يوسف وصفاته (¬2)، ونود هنا أن نبسط القول في ذلك. إن شخصية البطل المرابطي العظيم تنطوي على كثير من الصفات اللامعة، التي جعلت من حياته المديدة الحافلة، نموذجاً مثالياً لهذا النوع من البطولة الساذجة الرائعة معاً. والواقع أن أروع ما في صفاته، تلك الهالة الوضاءة من البساطة المؤثرة، التي لبثت شعار حياته كلها، والتي لم تتأثر بتطورات الأحداث السياسية التي ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن الخطيب نص هذه الوثيقة في " الإحاطة " في ترجمته لأبى بكر بن القصيرة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 71 و 72). وفي بعض الروايات أن البيعة عقدت لعلي في غرناطة (كتاب الاكتفاء في أخبار الخلفاء، لأبن الكردبوس، مخطوط أكاديمة التاريخ بمدريد لوحة 164 أ) وهذا ما ينقضه ختام الوثيقة. (¬2) كتاب دول الطوائف ص 302 و 303.

خاضها، والفتوح العظيمة التي حققها، والتي جعلت من الدولة المرابطية الكبرى، في ظله، أعظم دولة قامت في المغرب الإسلامي، من حيث المدى الإقليمي، ومن حيث القوى والموارد الزاخرة، إذ كانت تمتد من تونس شرقاً إلى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن ضفاف نهر الإيبرو والتاجُه في شبه الجزيرة الإسبانية شمالا، إلى قلب الصحراء الإفريقية الكبرى جنوباً. فقد لبث البطل المرابطي، عاهل هذه الدولة الشامخة، على حالته الأولى، مذ كان زعيماً محلياً من زعماء الصحراء، بدوياً متقشفاً يرتدي الصوف الخشن، ولا يلبس غيره قط، ويقتصر في طعامه على الشعير ولحوم الإبل وألبانها، لا يأكل سواها قط (¬1)، ولم يتأثر طول حياته، بأية نزعة من ترف القصور، ولا عيشها الناعم ولا مغرياتها المفسدة، بالرغم من هذا الملك الباذخ، وهذه الدنيا العريضة التي كانت تحت أقدامه. ويكفي أن نتأمل مدى لحظة عابرة، ما كانت عليه قصور الطوائف الأندلسية من الفخامة والبذخ الطائل، وما كان يغرق فيه أمراؤها الأصاغر من العيش الرخو الوثير المترف، تتألق ثيابهم الفخمة بالذهب والجوهر، وتحيط بهم أكواب الشراب وأسراب الغلمان والجواري والفتيات - يكفي أن نتأمل ذلك، لنرتفع بحياة البطل المرابطي، إلى ذرى الإكبار والإجلال والإعجاب. وقد كانت هذه البساطة المؤثرة التي طبعت حياة يوسف بن تاشفين، تقترن في نفس الوقت بطائفة من الصفات المعنوية النبيلة، التي تجعل من صاحبها عماداً حقيقياً للملك، وتتوطد بها أسس الدولة العظيمة. فقد كان يوسف يتمتع بكثير من الذكاء والفطنة، والعزم والشجاعة والحزم، والكرم والجود، وكان فضلا عن ذلك كثير التقى والورع. وإلى ذلك يشير ابن الصيرفي مؤرخ الدولة المرابطية بقوله: " كان رحمه الله خائفاً لربه، كتوماً لسره، كثير الدعاء والاستخارة، مقبلا على الصلاة، مديماً للاستغفار " (¬2). ويلحق بذلك شغف يوسف بالجهاد، فقد كان بطلا مجاهداً حقاً، وقد أنفق من عمره أعواماً طويلة في الجهاد في سبيل الله، مذ ندبه ابن عمه الأمير أبو بكر اللمتوني لقيادة المرابطين. وقد تجلت هذه النزعة للجهاد فيما بعد بصورة رائعة، في استجابته لصريخ الطوائف، وفي موقعة الزلاّقة العظيمة، وفيما خاضته الجيوش المرابطية، في مختلف ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 87. (¬2) ابن الخطيب عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 393).

أنحاء الأندلس، ولاسيما في الولايات الشرقية في بلنسية وسرقسطة من معارك عديدة، ضد الجيوش النصرانية، ولم يكن غريباً في مثل الظروف التي كانت تجوزها اسبانيا المسلمة يومئذ، من تخاذل أمراء الطوائف وتنابذهم، وتراميهم على أعتاب الملوك النصارى، وإشفاق البطل المرابطي، أن ينتهي الأمر باستيلاء النصارى على الأندلس، أن ينفذ يوسف مشروعه في القضاء على ممالك الطوائف، ووضع الأندلس تحت حماية جيوشه القوية المظفرة، ولم يكن في ذلك ما يصدع من نزعة الجهاد، التي كانت من أبرز صفات يوسف، والتي لبثت الجيوش المرابطية تضطرم بها من بعده عصراً. وكان يوسف بن تاشفين جندياً عظيماً، وقائداً من أعظم قواد العصور الوسطى، وقد أبدى في سائر فتوحه المتوالية لأقطار المغرب، كفاية عسكرية واضحة، ولم يكن ظفره المستمر راجعاً إلى كثرة جيوشه ومقدرتها، بقدر رجوعه إلى براعته في تنسيق الخطط، وتنظيم القيادة، وانتهاز الفرص السانحة. وأشد ما تبدو هذه البراعة في حوادث موقعة الزلاّقة وتطوراتها، فإن النصر الباهر الذي أحرزته الجيوش المرابطية والأندلسية، في هذه الموقعة، يرجع بالأخص إلى شجاعة يوسف وثباته، وبراعة خططه، وقد كان من حسن طالع يوسف، أنه استطاع أن يعتمد في حروبه ومشاريعه العسكرية، على معاونة طائفة من أقدر القواد وأشجعهم، مثل سير بن أبى بكر، وداود بن عائشة، والأمير مزدلي، ومحمد بن الحاج وغيرهم ممن سبق ذكرهم في مختلف المواطن والحوادث. وإلى جانب براعته العسكرية، كان يوسف يمتاز بمقدرة إدارية فائقة، وكان هذا الزعيم الصحراوي الموهوب، يحكم الإمبراطورية المرابطية الضخمة، بحزم وكفاية تدعو إلى الإعجاب، وكان إلى جانب ورعه وتقواه، صارماً شديد الوطأة، حريصاً على استتاب النظام والأمن، دائباً على تفقد بلاده وشئون رعيته. ويلخص لنا ابن الصيرفي طريقة يوسف وصرامته في قمع المعارضين والخوارج على القانون في قوله: " أكثر عقابه لمن تجرأ أو تعرض لانتقامه الاعتقال الطويل، والقيد الثقيل، والضرب المبرح، إلا من انتزى أو شق العصا، فالسيف أحسم لانتشار الداء " (¬1). ويبدو من ذلك أن يوسف لم يكن يلجأ إلى تطبيق عقوبة ¬_______ (¬1) ابن الخطيب نقلا عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 393). وكذلك الحلل الموشية ص 59، وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر، هسبيرس ص 65).

الإعدام إلا في حالة العصيان أو الثورة، وأنه فيما عدا ذلك فإن أقصى عقوبة تطبق في الجرائم العادية، هي " الاعتقال الطويل، والقيد الثقيل "، وهو ما تعبر عنه القوانين الجنائية الحديثة، بعقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة. وقد نوهت معظم الروايات بحب يوسف للعدل وإيثاره، والعمل على توطيده، كما نوهت باحترامه لأحكام الشرع، والحرص على تطبيقها، وتعظيمه للعلماء والفقهاء، والرجوع إليهم والأخذ بآرائهم وفتاويهم. وهو ما يجمله ابن الصيرفي في قوله: " يواصل الفقهاء، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها بآرائهم، ويقضي على نفسه، وغيره بفتياهم، ويحض على العدل، ويصدع بالحق، ويعضد الشرع " (¬1). وقد رأينا فيما تقدم في غير موطن، كيف كان يوسف يلجأ إلى رأى الفقهاء في أخطر الأمور، ومن ذلك استشارته إياهم، أولا في مسألة العبور إلى الأندلس، واستجابة صريخ الطوائف، وثانياً في خلع ملوك الطوائف، وانتزاع ممالكهم، ولم يكتف يوسف في ذلك بفتاوى فقهاء المغرب والأندلس، بل لجأ في نفس الوقت الى فقهاء المشرق، وحصل على آراء أعلام مثل أبى حامد الغزالي، وأبى بكر الطرطوشي (¬2). ومما يروى في ذلك أن الإمام الغزالي كان يعجب بورع يوسف وجميل صفاته، وميله إلى أهل العلم، حتى أنه اعتزم الرحلة إلى المغرب وزيارة هذا الأمير الأمثل. ولكنه لما وصل إلى الإسكندرية وأخذ في التأهب للسير إلى المغرب، ورد إليه الخبر بوفاة أمير المسلمين، فارتد عن عزمه وعاد من حيث أتى (¬3). وكان من أبرز مظاهر تمسك يوسف بأحكام الشرع، وآراء الفقهاء، موقفه من الضرائب والمغارم التي يسوغ للأمير فرضها على رعيته، فهو قد ألغى الضرائب والمكوس، التي لم يجز الدين فرضها، واكتفى بفرض ما يجيزه الشرع من ذلك، مثل الزكاة والأعشار وأخماس الغنائم، وجزية أهل الذمة. وقد كان لهذه السياسة الضريبية الرفيقة، بالأخص في الأندلس، أطيب الأثر، إذ كان ملوك الطوائف يرهقون رعيتهم بالفروض، ¬_______ (¬1) ابن الخطيب نقلا عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال). وراجع الحلل الموشية ص 59. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 187 و 188. ويلاحظ أن الطرطوشي كان في الأصل من فقهاء الأندلس ولكنه نزح إلى المشرق (راجع كتاب دول الطوائف ص 284). (¬3) ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 488، وكتاب المؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن دينار ص 106.

والمغارم الفادحة، تغذية لقصورهم الفخمة، وبذخهم الطائل، وقد كان تماديهم في ذلك، من الأسباب التي التُمست لخلعهم والقضاء على سلطانهم. بيد أن يوسف كان يلجأ في بعض الأحيان إلى فرض الإتاوات على رعاياه، مساهمة منهم في نفقات الجهاد المستمر، الذي كان يضطلع به، وقد كان يلجأ في جواز ذلك أيضاً إلى فتاوى الفقهاء. ومن ذلك ما وقع له مع قاضي ألرية، أبى عبد الله محمد بن يحيى المعروف بابن الفراء، فإنه قرر بعد موافقة الفقهاء، أن يطالب أهل المغرب والأندلس بمعونة مالية للمساهمة في أعمال الجهاد. وكتب إلى قاضي ألمرية المذكور يأمره بتحصيل هذه الإتاوة وإرسالها، فأبى القاضي، وكتب إلى يوسف يطعن في شرعية هذه الإتاوة، وفي رأي الفقهاء الذين أجازوها، ويطالب يوسف، إن كانت خزائنه ناضبة حقاً، بأن يمثل في المسجد الجامع بحضرة أهل العلم، وأن يحلف علناً بأنه ليس لديه في بيت مال المسلمين درهم ينفقه عليهم، أسوة بما فعل عمر بن الخطاب، حين أراد فرض مثل هذه الإتاوة، وعندئذ يجوز له تحصيلها (¬1). ومن جهة أخرى فإن يوسف لم يكن يحجم في بعض الأحيان، عن تحصيل الأموال بطرق استثنائية كفرض المغارم على اليهود والنصارى من آن لآخر، لظروف وأسباب خاصة. وقد ذكر لنا صاحب الحلل الموشية طرفاً من ذلك (¬2). وكان المغرب يتمتع في ظل يوسف بكثير من الإستقرار والأمن والرخاء، بعد الفتن والحروب المضطرمة، التي لبثت قبل الفتح المرابطي، زهاء نصف قرن، تمزق أوصاله، وتودى بأمنه وسلامه. ولما تم استيلاء المرابطين على الأندلس، وشعرت الأمة الأندلسية أنها أصبحت في مأمن من عدوان اسبانيا النصرانية، أتيح لها أيضاً أن تتمتع بشىء من الاستقرار والسكينة، وذلك بالرغم مما كانت تشعر به من شدة وطأة الحكم المرابطي، وجفاء أساليبه، وخشونة حكامها الجدد من زعماء البربر، وبعدهم عن تلك الكياسة التي كان يمتاز بها الأمراء والحكام من مواطنيهم. وعلى أي حال فقد عرفت الأندلس في الأعوام الأخيرة من حياة يوسف، وقبل أن يشتد عليها ضغط النير المرابطي، وتستيقظ مشاعرها الوطنية الدفينة، فترة طيبة من الهدوء والاستقرار، يصفها لنا المؤرخ فيما يلي: " أقامت بلاد الأندلس في مدته (أي مدة يوسف) سعيدة حميدة في رفاهة عيش، ¬_______ (¬1) وفيات الأعيان ج 2 ص 485، والإستقصاء للسلاوي (طبعة القاهرة) ج 1 ص 122، 123. (¬2) الحلل الموشية ص 13 و 59.

وعلى أحسن حال، لم تزل موفورة محفوظة، إلى حين وفاته " (¬1). وكان يوسف فضلا عن حسن اختياره لقادته، يحسن اختيار معاونيه من الكتاب والوزراء. وكان كاتبه قبل أن يجوز جوازه الأول إلى الأندلس، أديباً أندلسياً من أهل ألمرية هو عبد الرحمن بن أسباط، أو أسبط. وكان قد نشأ أديباً مغموراً يشتغل في باب الديوان بألمرية أيام بني صمادح. وفي سنة 472 هـ عبر البحر إلى العدوة، ولحق بمراكش يبحث وراء طالعه، واتصل بحاشية الأميرة الحرة زينب زوجة يوسف، فأسند إليه منصب الكتابة. ولما توفيت الأميرة أقره يوسف لكتابته، فظهر في هذا المنصب، ونال حظوة وجاهاً عريضاً، " وكان رجلا حصيفاً سكوناً عاقلا " وكان يوسف يثق في مقدرته وحصافته، وحسن معرفته بشئون الأندلس. وقد لعب عبد الرحمن بن أسباط دوراً هاماً في تدخل يوسف في أحوال الأندلس، واستجابته لصريخ الطوائف، وهو الذي أشار عليه، حينما قرر الجواز إلى شبه الجزيرة، بأن يطالب ابن عباد بثغر الجزيرة ليكون مركزاً أميناً لجواز جيوشه وعودتها إلى العدوة (¬2). ومما هو جدير بالذكر أن يوسف بن تاشفين كان لا يعرف العربية، وكان ابن أسباط يجيد اللغة البربرية التي يتحدث بها يوسف (¬3) وكان هذا من أسباب حظوته. ولما توفي ابن أسباط في سنة 487 هـ، تولى الكتابة ليوسف من بعده، كاتب من أعظم كتاب الأندلس يومئذ، هو محمد بن سليمان بن القصيرة العروف بأبى بكر بن القصيرة، وهو الذي يصفه ابن الصيرفي بقوله: " الوزير الكاتب الناظم الناثر القائم بعمود الكتابة، والحامل للواء البلاغة، الذي لا يشق غباره، ولا تخمد أنواره، اجتمع له براعة النثر، وجزالة النظم " (¬4)، وهو الذي كتب عن يوسف حين مثوله بقرطبة في سنة 496 هـ، كتابه بتولية ولده علي ولاية عهده حسبما تقدم. ولما توفي يوسف استمر أبو بكر في الكتابة لولده علي حتى وفاته في سنة 508 هـ (1114 م)، وفي استخدام يوسف لهذين الكاتبين الأندلسيين البليغين، بالرغم من عدم معرفته بالعربية، ما يدل، على حصافته، وبعد نظره، وإدراكه لأهمية الأساليب العالية في الترسل، وقد ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 59. (¬2) الحلل الموشية ص 32. (¬3) ابن خلكان ج 2 ص 482. (¬4) ابن الخطيب عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوطة الإسكوريال السالفة الذكر).

كان ثمة بين يوسف وبين الخلافة العباسية، وبينه وبين أكابر فقهاء المشرق مراسلات كثيرة. ومن جهة أخرى فقد كانت المراسيم المرابطية، تصدر في أحيان كثيرة باللغتين البربرية والعربية، لتقف عليها الكثرة الغالبة من الرعايا، وهي المتكلمة بالعربية، ومما زاد في أهمية منصب الكتابة في الدولة المرابطية، وشغله بأعلام الكتاب البلغاء، فتح الأندلس، وخضوعها للحكم المرابطي، ووجوب مخاطبتها بنفس الأساليب العربية العالية التي كانت سائدة فيها. وأما عن شخص يوسف، فإن الرواية تصفه بأنه كان معتدل القامة، أسمر اللون، نحيف الجسم، خفيف العارضين، رقيق الصوت (¬1). - 4 - في سنة 498 هـ، مرض أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واستمر يعاني من مرضه حتى اشتدت به العلة في العام التالي، ومازالت حالته تسوء شيئاً فشيئاً، حتى حم القضاء، وتوفي في يوم الإثنين مستهل شهر المحرم سنة 500 هـ (2 سبتمبر سنة 1106 م)، بقصره بمراكش، عن مائة عام كاملة، وبعد أن وصلت الدولة المرابطية الكبرى على يديه إلى ذروة عظمتها وقوتها. فكان لوفاته وقع عظيم في المغرب والأندلس، ورثاه جماعة من شعراء العصر، منهم أبو بكر بن سوار، وقد أنشد على قبره مرثية مؤثرة جاء فيها: ملك الملوك وما تركت لعامل ... عملا من التقوى يشارك فيه يا يوسف ما أنت إلا يوسف ... والكل يعقوب بما تطويه اسمع أمير المؤمنين وناصر الـ ... ـدين الذي بنفوسنا نفديه جوزيت خيراً عن رعيتك التي ... لم ترض فيها غير ما يرضيه وصل الجهاد إلى الجهاد موفقاً ... حتم القضاء بكل ما تقضيه ويجىء ما دبرته كمجيئه ... فكأن كل مغيّب تدريه متواضعاً لله مظهر دينه ... في كل ما يبديه ويخفيه (¬2) وقد ترك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين عند وفاته إمبراطورية من أعظم الإمبراطوريات التي حكمها الإسلام، تشتمل على قطرين من أعظم وأهم الأقطار ¬_______ (¬1) وفيات الأعيان ج 2 ص 488. (¬2) ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة المشار إليها، هسبيرس ص 64 و 65 و 66).

الإسلامية في العصور الوسطى، هما المغرب والأندلس، وتمتد فيما بين تونس شرقاً، والمحيط الأطلنطي غرباً، وفيما بين نهر التاجُه في قلب اسبانيا شمالا، وبلاد السودان ونهر النيجر جنوباً. ويكفي لكي نقدر روعة المعجزة العسكرية والسياسية، التي حققتها عبقرية يوسف، أن نرتد نصف قرن فقط إلى ما قبل وفاته، وأن نلقي نظرة عابرة على ما كان عليه المغرب والأندلس يومئذ. فقد كان المغرب عندئذ فريسة لأشنع ضروب التفرق والفوضى، تتقاسم أقطاره وقواعده التالدة، عدة كبيرة من الزعامات القَبَلية، وتقوم فيه إمارات عديدة، متخاصمة متنابذة، وتجتاح الحروب الأهلية الصغيرة مروجه وبواديه، ويسود الفقر والاختلال والفوضى سائر نواحيه. وقد كان قيام المرابطين في جنوبي المغرب، وانتظامهم إلى قوة مصلحة غازية، في هذه الآونة، وسيرهم لافتتاح أقطار المغرب وقواعده، وظفرهم بالتغلب على إماراته وقواعده المتفرقة، وضمها تحت لوائهم في وحدة متماسكة ودولة موحدة، كان ذلك في الواقع عمل إنقاذ قومي من أعظم ما وقع في تاريخ المغرب. وقد اضطلع يوسف بن تاشفين في ذلك كله حسبما رأينا بأوفر نصيب. وكان له في تحقيقه أعظم الفضل. ولما قامت الدولة المرابطية الكبرى، تتوسطها عاصمتها العظيمة مراكش، وتوطدت دعائم الحكم المرابطي، ساد في المغرب نوع من النظام والأمن، لم يكن له به عهد منذ بعيد، وعم الرخاء، واستطاع الناس أن ينعموا بكثير من الاستقرار والهدوء. ووقعت نفس المعجزة في الأندلس، فبعد أن لبثت زهاء نصف قرن، تعاني في ظل أمراء الطوائف، وفي ظل دولهم الضعيفة المتنابذة، مصائب التفرق، والحروب الأهلية المتوالية، وبعد أن استطال عليها النصارى ومالوا على دول الطوائف، فأذلوها واستباحوا حماها، واستصفوا أموالها، وبدأوا بانتزاع قواعدها، وبعد أن لاح لأهل الأندلس أن الآخرة قد دنت، وأنه لن يمضي سوى القليل، حتى تقضي اسبانيا النصرانية على دول الطوائف كلها، وتنتزع سائر قواعدها وأراضيها، وتسقط الأندلس كلها في يد العدو الخالد، وينطفيء نور الإسلام من تلك الديار العزيزة، بعد ذلك كله جاء جواز يوسف بن تاشفين وجيوشه المرابطية إلى الأندلس، نذير الإنقاذ، وانقشاع الخطر الداهم، وكُتبت لإسبانيا المسلمة حياة جديدة. ثم كان افتتاح المرابطين لدول الطوائف، وبسط سيادتهم على الأندلس، فرُدت إليها وحدتها الإقليمية القديمة، وبالرغم مما اقترن

بهذا الفتح المرابطي من مظاهر العنف والقسوة، وبالرغم مما كان ينطوي عليه بالنسبة للأمة الأندلسية من معاني الافتئات والاغتصاب، وسيطرة القبائل البربرية على حريات الأندلس ومصايرها، فإنه كان أيضاً عمل إنقاذ لاشك فيه، وكانت سيطرة المرابطين على اسبانيا المسلمة في تلك الفترة العصيبة من حياتها، هي أوكد ضمان بصونها، والذود عنها، وحمايتها من عدوان اسبانيا النصرانية. وهكذا استطاع يوسف في مدى نصف قرن أن يحقق وحدة المغرب، وأن يحقق وحدة الأندلس معاً، وأخيراً أن يحقق الوحدة بين الدولتين الإسلاميتين العظيمتين في ظل الدولة المرابطية الكبرى. ولما توفي يوسف كانت هذه الدولة المرابطية الكبرى تمثل بشطريها - المغرب والأندلس - وفقاً لقول المؤرخ " مُلكاً مؤسساً، وجنداً مجنداً، وسلطاناً قاهراً ومالا وافراً " (¬1). بيد أن هذه الدولة العظيمة بالرغم مما كان يبدو من توطدها وقوتها ورخائها، كانت تحمل في ثنيتها بعض عوامل الوهن الخفية، التي تسترها المظاهر الخادعة، وهي كانت تدين بوحدتها وقوتها قبل كل شىء إلى عبقرية مؤسسها العظيم. فلما اختفى يوسف من الميدان، فقدت الدولة المرابطية أعظم قادتها وحماتها: فقدت تلك اليد الموجهة المرشدة، التي كانت تقودها دائماً نحو التوطد والظفر، وتلك العقلية الراجحة، التي كانت تستشف الحوادث البعيدة من خلال الحجب، وتعمل على تداركها، وتوجيهها إلى الغاية المرغوبة. ¬_______ (¬1) ابن الخطيب عن ابن عذارى في الإحاطة في ترجمة علي بن يوسف (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 292).

الفصل الثانى أمير المسلمين على بن يوسف وأحداث عصره

الفصْل الثاني أمير المسلمين علي بن يوسف وأحداث عصره علي بن يوسف يخلف أباه. الثورة في فاس وإخفاقها. على يعبر إلى الأندلس. أعماله وعوده. أمره إلى أخيه تميم باستئناف الغزو. خروج تميم في قواته إلى قشتالة. مسيره إلى حصن أقليش واقتحامه إياه. أهبة ألفونسو السادس لرد الغزاة. مسير القشتاليين إلى أقليش. موقف الجيش المرابطي. عدد الجيشين المتحاربين. التحامهما في معركة عنيفة. مصرع الإنفانت سانشو وهزيمة القشتاليين. خسائر النصارى والمسلمين. إتمام الاستيلاء على أقليش. الروايات النصرانية عن الموقعة. عبور على إلى الأندلس. غزوه لأراضي قشتالة، استيلاؤه على طلبيرة. محاصرته لطليطلة. رفع الحصار وعوده إلى قرطبة ثم إلى مراكش. غزو الأمير سير اللمتوني لأراضي البرتغال. استيلاؤه على يابرة وأشبونة وشنترين. غزو مزدلي والى قرطبة لأراضي قشتالة. استيلاؤه على حصن أرجنة ومحاصرته لطليطلة. القتال بين القشتاليين والمرابطين. رفع الحصار وعود المرابطين. وفاة مزدلي وولاية ولده محمد لقرطبة. غزو القشتاليين لولاية قرطبة. خروج المرابطين لردهم. هزيمة المرابطين ومصرع محمد بن مزدلي وأكابر لمتونة. هزيمة مرابطية أخرى. وفاة الأمير سير والى إشبيلية. التعريف بسير ومزدلي. من أسباب نشاط الغزو المرابطي. أحوال سرقسطة. استيلاء المرابطين عليها. إنتهاء ملك بني هود. ابن الحاج والي سرقسطة. الحرب بين المرابطين وبين عماد الدولة بن هود. غزو ابن الحاج وابن عائشة لإمارة برشلونة. هزيمة المرابطين ومصرع ابن الحاج. أحوال الجزائر الشرقية. افتتاح النصارى لها. أهبة علي لإنقاذها. مسير الأسطول المرابطي إلى الجزائر. استيلاء المرابطين عليها. إحراق كتاب الإحياء في قرطبة. نفوذ الفقهاء وأثرهم في هذا الحادث. عبور على إلى الأندلس للمرة الثالثة. غزوه لأراضي البرتغال واقتحامه لمدينة قلمرية. عوده إلى المغرب. عبوره إلى الأندلس للمرة الرابعة. الثورة في قرطبة. مختلف الروايات في شأنها. مغزى هذه الثورة وأسبابها. موقف علي منها. النقاش بينه وبين ابن رشد. تسوية الحادث وعودة علي. لما توفي أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين، في يوم الاثنين مستهل شهر المحرم سنة خمسمائة (2 سبتمبر سنة 1106 م)، بقصره بمراكش، خلفه في نفس يوم وفاته ولده أبو الحسن علي، وكان قد اختاره كما تقدم لولاية عهده، منذ سنة 495 هـ، وأصدر له عهد التولية بقرطبة في شهر ذي الحجة سنة 496 هـ، مؤثراً إياه بذلك على ولده الأكبر أبى الطاهر تميم. وعقدت البيعة لعلي في نفس اليوم، قبل أن يُواري جثمان العاهل الراحل، وكان أول من بايعه بمحضر من أشياخ لمتونة وباقي قبائل صنهاجة، والأكابر والقادة، أخوه تميم معلناً بذلك طاعته

لأخيه، واحترامه لإرادة أبيه، ثم بايعه من بعده سائر من حضر من الأشياخ والأكابر، وكتب علي في نفس الوقت إلى سائر قواعد المغرب والأندلس وبلاد القبلة بالصحراء، يعلمهم بموت أبيه، واستخلافه إياه من بعده، ويأمرهم بأخذ البيعة له (¬1). وكان علي وقت تبوئه الملك، فتى في نحو الثالثة والعشرين من عمره، وكان مولده بثغر سبتة سنة 477 هـ (1084 م)، عقب سقوطه في أيدي المرابطين بأشهر قلائل، وأمه أم ولد رومية اسمها قمر، وتسمى أيضاً " فاض الحسن ". وقد أنفق على فيما يبدو حداثته في سبتة (¬2). ولما توفي الأمير أبو بكر أكبر أولاد يوسف وولي عهده بسبتة في سنة 479 هـ عقب نصر الزلاّقة، وأخذ يوسف يبحث عن خلفه بين أولاده، اتجهت نيته لاختيار ولده علي، لما آنسه فيه منذ صغره من ذكاء ونجابة، وكان يصطحبه في كثير من المهام، ولاسيما عند جوازه الأخير إلى الأندلس، حينما عبر إليها ليتفقد أحوالها، وليعقد بها بيعة العهد لعلي. وكان يوسف قبيل وفاته بقليل، قد أوصى ولده علياً بثلاثة أمور، أولها ألاّ يفعل شيئاً لإثارة أهل جبل دَرَن، ومن وراءه من المصامدة وأهل القبلة، والثاني أن يهادن بني هود أمراء سرقسطة، وأن يتركهم حائلا بينه وبين النصارى، والثالث أن يعطف على من أحسن من أهل قرطبة، وأن يتجاوز عمن أساء منهم (¬3)، هذا فضلا عما اشترطه عليه حين خصه بولاية عهده، من الأمور المتعلقة بشئون الأندلس الدفاعية، وهو ما سبق أن أشرنا إليه فيما تقدم. وكان علي بن يوسف أميراً وافر الهمة والذكاء والعزم، وكانت تحدوه رغبة صادقة، في أن يسير على نهج أبيه في الحكم، وفي متابعة الجهاد، وهو قد سار بالفعل وفق هذا المنهج، وحقق في ظله طائفة من جلائل الأعمال، وهو ما يجمله المؤرخ في قوله: " فاقتفى أثر أبيه، وسلك سبيله في عضد الحق، وإنصاف المظلوم، وأمن الخايف، وقمع المظالم، وسد الثغور، ونكاية العدو، فلم يعدم التوفيق في أعماله، والتسديد في حسن أفعاله " (¬4). ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 102. (¬2) روض القرطاس ص 101. (¬3) الحلل الموشية ص 60. (¬4) ابن عذارى البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 67)، ونقله ابن الخطيب في الإحاطة في ترجمة علي بن يوسف (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 292).

ولأول ولايته وقعت ثورة محلية لم تكن على شىء من الخطورة، ولكنها كانت أول بادرة في الانتقاض والخروج. وذلك أنه حينما كتب إلى القواعد والثغور بأخذ البيعة له، أتته البيعة من سائر البلاد إلا من مدينة فاس، عاصمة المغرب القديمة، وقد كان واليها عند وفاة يوسف، حفيده يحيى بن الأمير أبى بكر أخى علي المتوفى، فرفض أداء البيعة لعمه علي، وأعلن الخلاف، ووافقه على ذلك جماعة من قواد لمتونة، فبادر علي بالسير في بعض قواته إلى فاس، فخشى يحيى البادرة على نفسه، خصوصاً بعد أن تخلى عنه أنصاره، وفر من المدينة، ودخلها علي بن يوسف، وذلك في الثاني من ربيع الآخر سنة 501 هـ، وأخمدت هذه الثورة الصغيرة في مهدها. وسار يحيى صوب تلمسان ملتجئاً إلى واليها الأمير مزدلي، فلقيه بالطريق، وكان قادماً ليقدم بيعته إلى علي، فاستجار به ووعده مزدلي، بأن يسعى لدى علي في العفو عنه، واختفى يحيى في أحواز فاس حتى لقى مزدلي الأمير وقدم إليه بيعته، وشفع لديه في ابن أخيه، فعفى عنه علي، وخيره بين الإقامة في ميورقة أو في الصحراء، فاختار يحيى الصحراء، ثم سار منها إلى الحجاز فقضى فريضة الحج، وعاد إلى المغرب، واستأذن عمه علياً في سكنى مراكش، فأذن له. ولكن بدت منه عندئذ بعض بوادر مريبة، فخشى علي من نياته، وأمر بالقبض عليه ونفيه إلى الجزيرة الخضراء، فاعتقل بها حتى توفي (¬1). ولم يكد على يفرغ من قمع الثورة في فاس، حتى أزمع الجواز إلى الأندلس لتفقد أحوالها، وتنظيم شئونها، فخرج من مراكش في جيش من المرابطين ومصمودة، وعبر البحر من سبتة إلى الجزيرة الخضراء في منتصف سنة 500 هـ (أوائل سنة 1107 م)، وهناك بادر إليه زعماء الأندلس ورؤساؤها، وقضاتها، وفقهاؤها وأدباؤها وشعراؤها، فقدموا إليه بيعتهم وطاعتهم، وأنشده الشعراء قصائدهم، فعنى بالنظر في مطالبهم، وغمر الجميع بعطفه وصلاته (¬2). وعمد علي في الوقت نفسه إلى إجراء طائفة من التغييرات الإدارية الهامة، فعزل أخاه أبا الطاهر تميما عن ولاية المغرب، وعينه لولاية غرناطة بالأندلس، وجعله قائداً أعلى للجيوش المرابطية فيما وراء البحر. وعين لولاية قرطبة أبا عبد الله ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 103. (¬2) الحلل الموشية ص 62، وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 67).

محمداً بن أبى بكر اللمتوني، وعين لولاية المغرب أبا عبد الله محمداً بن الحاج، فلبث والياً على فاس وسائر أنحاء المغرب زهاء ستة أشهر. ثم عينه علي لولاية بلنسية وشرقي الأندلس، ومن بلنسية، سار ابن الحاج في القوات المرابطية إلى سرقسطة ودخلها في سنة 502 هـ (1109 م) حسبما نفصل بعد (¬1). ولما عاد علي إلى المغرب، كتب في أوائل سنة 501 هـ إلى أخيه تميم والي غرناطة، وقائد الجيوش المرابطية بالأندلس، أن يستأنف الجهاد، وأن يغزو أرض النصارى. وقد كانت غرناطة يومئذ قاعدة الحكم المرابطي في الأندلس بعد قرطبة. والظاهر أن هذا الاختيار كان يرجع لأسباب استراتيجية تتعلق بموقع غرناطة، وإنما كتب علي لأخيه ولم يعبر إلى الأندلس، حسبما يبدو من أقوال صاحبي الحلل الموشية وروض القرطاس. فإنه يبدو من الرواية الأولى (¬2)، أن علياً لم يعبر عبوره الثاني إلى الأندلس إلا في سنة 503 هـ (1110 م). وتمر الرواية الثانية على مسألة جواز على بالصمت. ويؤيد ذلك بنوع خاص رسالة كتب بها الأمير تميم إلى أخيه علي عقب الموقعة التي نشبت بينه وبين النصارى، وهي رسالة سوف نتحدث عنها فيما بعد. ولم يصدر علي أمره باستئناف الغزو والجهاد عفواً، فقد كان ثمة ما يبرره ويستدعيه. ذلك أنه لما مرض أمير المسلمين يوسف بن تاشفين في سنة 498 هـ، وذاع أمر مرضه في الأندلس، ونقلت عن الأحوال في المغرب والأندلس إلى قشتالة أقوال وصور زائفة، اعتقد ألفونسو السادس ملك قشتالة الشيخ أن الفرصة قد سنحت ليستأنف غزواته في أراضي المسلمين، فبعث حملة من نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة مقاتل، سارت نحو أحواز إشبيلية، وعاثت فيها، واستولت على كثير من الغنائم والسبي، فخرج الأمير سير بن أبى بكر والي إشبيلية في قواته لرد الغزاة، ولحقت به عساكر غرناطة بقيادة أبى عبد الله بن الحاج واليها يومئذ، وطارد المسلمون القشتاليين، وردوهم على أعقابهم، وقتلوا منهم نحو ألف وخمسمائة (¬3)، ولما تولى علي بن يوسف الملك بعد ذلك بقليل، لم ينس أمر هذا ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 103، والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة هسبيرس ص 67، و 68). (¬2) الحلل الموشية ص 63. (¬3) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص 64 و 65).

العدوان وما يدل عليه من تحفز النصارى، فرأى أن يبادرهم بالغزو، وأن يهاجمهم في قلب أراضيهم. وصدع تميم بأمر أخيه، وجهز جيشاً حسن الأهبة، وخرج من غرناطة في العشر الأخيرة من شهر رمضان سنة 501 هـ (أوائل مايو سنة 1108 م) وسار في قواته شمالا صوب جيّان، وكانت الجنود والإمداد تهرع إليه في طريقه. ولبث في جيان أياماً قلائل، حتى وافته حشود قرطبة بقيادة واليها أبى عبد الله محمد بن أبى رنق، ثم سار إلى بيّاسة شمال شرقي جيان. واتجه منها شمالا صوب أراضي قشتالة، وانضمت إليه في الطريق حشود مرسية بقيادة واليها أبى عبد الله محمد بن عائشة، وحشود بلنسية بقيادة واليها محمد بن فاطمة. واخترقت القوات المرابطية أراضي قشتالة وعاثت فيها. ثم اتجهت صوب بلدة أقليش الحصينة، وهي التي وقع الاختيار على مهاجمتها، فوصلت إلى ظاهرها في يوم الأربعاء الرابع عشر من شوال (27 مايو). وقد كانت أقليش في ذلك العصر من أمنع معاقل كورة شنتبرية، وهل محلة حصينة، تقع في شمال جبال طليطلة، وجنوب غربي وبذة، أنشأها الفتح بن موسى بن ذى النون في أواخر القرن الثالث الهجري أيام الأمير عبد الله (¬1) واتخذها مستقراً ومعقلا، وغدت دار بني ذى النون، حتى ظهروا أيام المنصور ابن أبى عامر، وحكموها أيام اضطراب الخلافة، ثم انتقلوا منها إلى حكم طليطلة على يد إسماعيل بن ذى النون في أوائل المائة الخامسة. ولما سقطت طليطلة في أيدي القشتاليين في صفر سنة 478 هـ (1085 م) وانتهى سلطان بني ذى النون في تلك المنطقة، كانت أقليش ضمن القواعد والحصون العديدة، التي استولى عليها القشتاليون نتيجة لافتتاح مملكة طليطلة. وما كادت القوات المرابطية تصل إلى أقليش حتى طوقتها، وهاجمتها بعنف، ولم يستطع النصارى المدافعون عنها، أن يثبتوا طويلا أمام شدة المهاجمين، فسقطت في أيديهم في اليوم التالي وهو يوم الخميس 15 شوال (28 مايو)، وفي الحال ¬_______ (¬1) جاء في الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 28، أن أقليش بناها الفتح بن موسى ذى النون وفيها كانت ثورته وظهوره في سنة 160 هـ، وفي ذلك تحريف واضح، لأن ثورة الفتح ابن موسى ذى النون كانت في مستهل عهد الناصر بعد سنة 300 هـ، وإذاً فإن الصحيح والمعول عليه هو أن إنشاء أقليش قد وقع في أواخر القرن الثالث.

دخلتها القوات المرابطية، وقوضت صروحها، وهدمت كنائسها، ودكت هياكلها، وهرع المسلمون الذين كانوا بها - وكان ما يزال منهم بقية كبيرة فضلت التدجّن والبقاء تحت حكم النصارى - والتجأوا إلى معسكر الجيش المرابطي، لائذين بحمايته، وشرحوا لإخوانهم في الدين أحوال المدينة، وظروف المدافعين عنها (¬1). والتجأ المدافعون من النصارى إلى قصبة أقليش الحصينة، وامتنعوا بها في انتظار الغوث والإنجاد من مواطنيهم. والواقع أنه مذ تحركت الجيوش المرابطية، ونفذت إلى أراضي قشتالة، كان الملك الشيخ ألفونسو السادس ملك قشتالة وقادته، يبذلون أقصى جهودهم في إعداد العدة لرد الغزاة. وكان ألفونسو السادس قد هدمه الإعياء والمرض، ولم يستطع لضعفه أن يسير بنفسه لملاقاة الغزاة وإنقاذ القلعة، فجهز حملة قوية بقيادة كبير قواده ألبر هانس - وهو أشهر قواد قشتالة في ذلك العصر، وقد خاض من قبل وقائع كثيرة ضد المسلمين، ولاسيما في منطقة بلنسية - وزميله غرسيه أردونيث مؤدب ولي العهد سانشو، وهو أيضاً من أكابر القادة، ومعهما عدة أخرى من قادة منطقة طليطلة من قلعة النسور، وقلعة النهر أو قلعة عبد السلام ( Alcala de Henares) وغيرهما. بيد أن أهم شخصية مثلت في تلك الحملة كانت شخصية الأمير الصبي (الإنفانت) سانشو ولد ألفونسو السادس وولي عهده، وهو الذي رزق به من " زائدة " حظيته أو زوجته المسلمة المتنصرة، التي كانت زوجة للفتح بن المعتمد بن عباد، والتي فصلنا قصتها في موضعها من كتاب " دول الطوائف " (¬2)، وكان يومئذ صبياً في الحادية عشرة من عمره. وكان مستشارو الملك - أو زوجته زائدة - قد نصحوا بإرساله على رأس الجيش لكي يثير منظره الفتى حماسة الجند، فنزل عند رأيهم، وبعثه مع مؤدبه غرسيه أردونيث كونت دي قبره. ويشير صاحب روض القرطاس إلى تلك الواقعة، ويفسرها بتفسير طريف يقول فيه " فأشارت عليه زوجته (أي ألفونسو) أن يوجه ولده عوضاً عنه فيكون مقابلا لتميم، لأن تميم ابن ملك المسلمين، وشانجُه ¬_______ (¬1) استقينا هذه المعلومات من رسالة الأمير تميم التي سبقت الإشارة إليها والتي سوف ننشر نصها في باب الوثائق. (¬2) كتاب دول الطوائف ص 333 - 337.

(سانشو) ابن ملك الروم، فسمع منها، فبعث ولده شانجه في جيوش كثيرة من زعماء الروم وأنجادهم " (¬1). وزحف الجيش القشتالي بسرعة لإنجاد قلعة أقليش. وفي تلك الأثناء، في عصر يوم الخميس 15 شوال (28 مايو) كانت الأنباء قد ترامت عن قرب مقدمه إلى العسكر المرابطي. وهنا تختلف الرواية في تصوير موقف الجيش المرابطي، وموقف قائده الأعلى الأمير أبى الطاهر تميم. ذلك أن صاحب روض القرطاس يقول لنا إن تميماً حين علم باقتراب القشتاليين، أراد الارتداد والإحجام عن لقائهم، فنصحه محمد بن عائشة ومحمد بن فاطمة وغيرهما من قواد لمتونة بالبقاء وملاقاة العدو، وهونوا عليه الأمر، خصوصاً وأن القادمين لا يزيد عددهم عن ثلاثة آلاف فارس. فنزل تميم عند النصح، فلما وافى القشتاليون عند مغيب الشمس، ورأى تميم وفرة حشودهم، أراد الفرار والإحجام عن لقائهم، ولكنه لم يجد سبيلا إلى ذلك، وصمم قواد لمتونة على لقاء العدو ومناجزته (¬2). بيد أن تميماً يصور لنا الموقف في رسالته التي يصف فيها الموقعة والتي سبقت الإشارة إليها تصويراً آخر. فيقول لنا إنه حين مقدم القشتاليين، استدنى إليه" القائدين المجربين، ذوي النصيحة والآراء الصحيحة، أبا عبد الله محمد بن عائشة، وأبا عبد الله محمد بن فاطمة وأنهم بعد المشاورة، اجتمعوا على كلمة الله متعاقدين، وخضعوا إلى حكمه مستسلمين " ثم يقول: " ونهضنا بجملتنا، من محلتنا والصبر يفرغ علينا لامه، والنصر يبلغ إلينا سلامه، وتوجهنا إلى الله نقتفي سبيله، ونبتغي دليله " فكان اللقاء، وكانت الموقعة. ولم تقدم إلينا الروايات بيانات كافية عن عدد الجيشين المتحاربين. بيد أنه يستفاد من أقوالها عن الجيش المرابطي، الذي كان يتكون من حشود غرناطة وقرطبة وشرقي الأندلس ومن انضم إليه من المتطوعة المجاهدين خلال مسيره، أنه كان يضم عدة آلاف من الفرسان، إذ كانت حامية غرناطة تتكون من ألف فارس، ومثلها حامية قرطبة، وكانت الحامية المرابطية بشرقي الأندلس تتكون من أربعة آلاف فارس. أما الجيش القشتالي القادم للنجدة، فمن المرجح أنه كان متفوقاً على المرابطين في الكثرة، يدل على ذلك إحجام تميم في البداية عن لقائه، وتوجسه ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 104. (¬2) روض القرطاس ص 104.

من تفوقه العددي. هذا عدا من كان من القشتاليين بالقصبة وهم حسبما تصفهم الرواية " جمع عظيم من الروم " (¬1). ومن جهة أخرى، فإنه لدينا عن عدد الجيش القشتالي روايتان إسلاميتان، الأولى تقدره بعشرة آلاف فارس، وهذه هي رواية ابن القطان وقد كتب بعد الموقعة بقرن ونصف، في أواخر عهد الموحدين (¬2)، والثانية تقدره بسبعة آلاف فارس، وهي رواية ابن عذارى، وهو يقول لنا مشيراً إلى مقدم القشتاليين لإنجاد قلعة أقليش، " وفي خلال ذلك وصل إليه (حصن إقليش)، ولد ألفونسو شانجُه من زوج المأمون بن (عباد) التي كانت تنصرت بنحو سبعة آلاف فارس " (¬3). وفي فجر يوم الجمعة 16 شوال سنة 501 هـ، الموافق 29 مايو سنة 1108 م، بدت طلائع المعركة، وتقدم المرابطون قليلا في اتجاه أقليش للقاء القشتاليين. وأقبل القشتاليون يقودهم ألبر هانس وغرسيه أردونيث كونت دي قبره وكونتات طليطلة، وبينهم الأمير الفتى الإنفانت سانشو فوق فرسه، وقد ارتدى حلة الفرسان. وبدأ الهجوم ووقعت الصدمة الأولى حسبما ينبئنا تميم في رسالته ضد قوات قرطبة، وقائدها ابن أبى رنق، فارتد إلى الوراء. وعندئذ تقدمت قوات مرسية وبلنسية، وتقدم تميم في قواته إلى قلب المعركة، ونشب بين الفريقين قتال بالغ العنف، يصفه لنا تميم في رسالته عن الموقعة في عبارات حماسية مضطرمة. ومما جاء فيها: " فعند ذلك اختلطت الخيل، بل سال السيل، وأظلم الليل، واعتنقت الفرسان، واندقت الخرصان، ودجا ليل القتام، وضاق مجال الجيش اللهام، واختلط الحسام بالأجسام، والأرماح بالأشباح، ودارت رحى الحرب تغر بنكالها. وثارت ثائرة الطعن والضرب تفتك بأبطالها ". وتجمع الروايات الإسلامية والنصرانية معاً، على أن الموقعة كانت مضطرمة رائعة، وأن الفريقين المتحاربين، قاتل كلاهما بمنتهى العنف والشدة. وبينما القتال على أشده إذ وقع ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 103. (¬2) أوردها في كتابه " نظم الجمان لترتيب ما سلف من أخبار الزمان ". وتوجد منه قطعة مخطوطة هي " السفر الثالث عشر " ضمن نسخة محفوظة بالمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (وقد وصفناها في بيان المصادر) لوحة 7 أ. وقد نقل إلينا رواية ابن القطان هذه عن الموقعة الأستاذ هويثي في كتابه: Las Grandes Batallas de la Reconquista, p. 118 & 119 (¬3) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر- هسبيرس ص 68). وراجع كتابي " دول الطوائف " ص 336.

حادث كان حاسماً في مصير المعركة. ذلك أن الأمير الصبي سانشو ابن ملك قشتالة، ازدلف إلى قلب المعمعة إلى جانب مؤدبه غرسية أردونيث أو الكونت دي قبره، فلم يلبث أن أحاطت بهما ثلة من الفرسان المسلمين، وتوالت عليهما الطعان، فسقط الفتى من فوق جواده، وقد أصابته طعنة قاتلة، وسقط فوقه الكونت دي قبره مدافعاً عنه (¬1)، فدب الهرج إلى صفوف القشتاليين وكثر القتل بينهم، ولجأ الكثيرون منهم إلى الفرار، وسقط معظم القادة والكونتات قتلى، وارتد ألبا رهانيس في فلول القشتاليين صوب طليطلة، وحاول الكونتات السبعة الذين كانوا يؤلفون حاشية الأمير القتيل، الفرار إلى حصن بلنشون القريب، فلحقت بهم جماعة من المسلمين المدجنين وقتلتهم عن آخرهم، وعرف مكان مصرعهم فيما بعد " بالكونتات السبعة ". وهكذا تمت الهزيمة الساحقة على الجيش القشتالي، وأحرز المسلمون نصرهم الباهر، في ذلك اليوم المشهود. هكذا كانت أدوار موقعة أقليش الشهيرة، التي أعادت بروعتها، وانتصار المرابطين الساحق فيها، ذكريات موقعة الزلاّقة. وتعرف الموقعة في الرواية النصرانية " بموقعة الكونتات السبعة " نسبة إلى الكونتات السبعة الذين كانوا حاشية لولي عهد قشتالة. وتقدر بعض الروايات الإسلامية خسائر القشتاليين فيها بنيف وثلاثة وعشرين ألفاً (¬2). وتجاريها في ذلك بعض الروايات النصرانية، فتقدر خسائر القشتاليين بعشرين ألفاً (¬3). بيد أنه يبدو مما سبق أن ذكرناه عن عدد الجيشين المتحاربين، ومما ذكره الأمير تميم في رسالته عن الموقعة، أن خسائر النصارى لم تكن بهذه النسبة المغرقة، وإن كان مما لا ريب فيه أنها كانت فادحة. ويقول لنا الأمير تميم في رسالته إنه أمر عقب الموقعة بجمع رؤوس القتلى من النصارى، فجمعت الدانية منها، وتركت النائية، فبلغ ما جمع منها أكثر من ثلاثة آلاف رأس، ميزت منها رؤوس غرسية أردونيث (أردونش) أو الكونت دي قبره، وقواد طليطلة، وكدست، وأذن من فوقها المؤذنون وفقاً للتقليد المأثور. واستولى ¬_______ (¬1) ويقدم إلينا ابن القطان رواية أخرى عن مصرع " الإنفانت " سانشو، فيقول إنه أفلت من قلب المعركة في ثمانية من النصارى ولجأ معهم إلى حصن بلشون (بلنشون)، وكان فيه رعية لهم من المسلمين، فاختبأ عندهم رجاء أن يسلموا من القتل، فلحق بهم المسلمون وقتلوهم وقتل معهم ولد أذفونش (المخطوط السالف الذكر لوحة 7 ب). (¬2) روض القرطاس ص 104. (¬3) M. Lafuente: Historia General de Espana (Barcelona 1899) V. III. p. 202

المرابطون في نفس الوقت على مقادير هائلة من الأسلاب والغنائم، من المال والخيل والبغال والسلاح والدروع وغيرهما. وأما عن خسائر المسلمين في الموقعة، فإنه يبدو أنها كانت أيضاً ذات شأن، وإن لم يكن لدينا من أقوال الرواية الإسلامية أرقام معينة. وكل ما ذكر عن ذلك عبارة أوردها صاحب روض القرطاس في ختام كلامه عن المعركة يقول فيها: " واستشهد جماعة من المسلمين رحمهم الله " وقول ابن القطان: " واستشهد في هذه الوقيعة الإمام الجزولي وكان رجل صدق، وجماعة من الأعيان والعربان " (¬1). على أننا نستنتج ذلك من إحجام المرابطين، عن مطاردة فلول الجيش القشتالي مطاردة شاملة والتوغل في أرض النصارى. وغادر الأمير تميم في قواته ميدان المعركة عائداً إلى غرناطة، مكللا بغار الظفر، وكتب إلى أخيه أمير المسلمين على بالفتح، رسالته التي سبق ذكرها. وترك قوات مرسية وبلنسية تحت إمرة قائديها لحصار قلعة أقليش، فلبثا على حصارها فترة، ولما رأيا مناعتها تظاهرا بالانسحاب، وارتدا في قواتهما قليلا ورتبا الكمائن، فخرج النصارى من القلعة، فانقض عليهم المسلمون، وأمعنوا فيهم قتلا وأسراً، واحتلوا القصبة، وبذلك تم استيلاؤهم على أقليش، وترتب على ظفر المسلمين باحتلال هذه القلعة المنيعة، أن سقطت في أيديهم عدة من البلاد والحصون المجاورة، مثل وبذة وقونقة وأقونية وكونسويجرا، وغيرها (¬2). وتعنى الروايات النصرانية بذكر معركة أقليش عناية خاصة، وهي لا تخرج في مجملها عما تقدمه إلينا الروايات الإسلامية من التفاصيل، ولاسيما ما أورده الأمير تميم في خطابه الرسمي عن الموقعة. بيد أن الروايات النصرانية تفيض بنوع ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 104. وابن القطان في المخطوط السالف الذكر (لوحة 7 ب). (¬2) راجع في حوادث موقعة أقليش، روض القرطاس ص 103 و 104، وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 68)، وابن القطان في نظم الجمان (المخطوط المشار إليه، لوحه 6 و 7)، ورسالة الأمير تميم الرسمية عن المعركة وهي التي أنشأها الكاتب ابن شرف، وقد نشرناها في باب الوثائق منقولة عن مخطوط الإسكوريال رقم 488 الغزيري لوحات 54 - 58، ونشرها الأستاذ هويثي في كتابه Las Grandes Batallas de la Reconquista ص 120 - 126. ويشير ابن خلدون إلى المعركة إشارة عابرة (ج 6 ص 188). وأورد عنها ابن الكردبوس خلاصة موجزة (كتاب الإكتفا - مخطوط أكاديمية التاريخ السالف الذكر)، ولم يذكرها صاحب الحلل الموشية. ومن المراجع القشتالية F. Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides, p. 8-10 ; Lafuente: Hist. General de Espana, Vol II. p. 201 & 202

خاص في تفاصيل مصرع الإنفانت سانشو، ومصرع مؤدبه غرسية أردونيث، فتذكر لنا كيف سقط الأمير عن جواده الجريح، وكيف حجبه الكونت غرسية بدرعه وجسمه، وأخذ يدافع عنه وهو مسجى، حتى قتل بدوره، وتشيد بفروسية الكونت، ورائع صفاته. ثم تصف لنا كيف وقع النبأ المحزن على الملك الشيخ ألفونسو السادس وقع الصاعقة، وكيف استسلم إلى التأوه والنواح بمحضر من سادته. والواقع أن الملك الشيخ لم يستطع احتمال تلك الصدمة الأليمة طويلا، إذ توفي بعد ذلك بنحو عام في 30 يونيه سنة 1109 م. ثم تنحرف الرواية النصرانية بعد ذلك إلى منحدر الأسطورة، فتزعم أن الملك ألفونسو أراد أن ينتقم لمصرع ولده، فسار إلى قرطبة وحاصرها، وفيها علي بن يوسف " أمير المؤمنين "، وأن النصارى أسروا ذات ليلة جماعة من المسلمين حاولوا مهاجمتهم، وتبين أن رئيسهم عبد الله، وهو من أشراف قرطبة، هو الذي قتل ابن عبّاد حمو الملك ألفونسو، ووالد زوجته ماريا، التي كانت تسمى زائدة، وأنه أمر بتقطيع أشلاء عبد الله هذا وحرقها، وأحرق معه عدداً من الأشراف المسلمين، وأنه أخيراً استطاع أن يرغم علياً أمير المؤمنين على طلب الصلح، وأداء ضريبة فادحة لقشتالة (¬1). وكانت موقعة أقليش، بعد الزلاّقة (479 هـ)، واستيلاء المرابطين على بلنسية، (495 هـ)، أعظم نصر أحرزه المرابطون على قوات قشتالة، وهو نصر كان من أثره توطيد سلطان المرابطين في المناطق الوسطى والشرقية في شبه الجزيرة، وفي إعلاء سمعتهم العسكرية والدفاعية. - 2 - ونستطيع أن نقول أيضاً إن حملة أقليش كانت فاتحة لبرنامج منظم من الغزوات المرابطية لأراضي النصارى. ذلك أنه لم يمض سوى عام وشهرين على موقعة أقليش، حتى عبر أمير المسلمين علي بن يوسف البحر إلى الأندلس للمرة الثانية في جيوشه الجرارة، وكان عبوره من سبتة، في الخامس عشر من محرم سنة 503 هـ (أغسطس 1109 م). وكان عبوره في تلك المرة بقصد الجهاد خاصة، أو حسبما يقول لنا صاحب الحلل الموشية " برسم الجهاد، ونصر الملة، وإعزاز الكلمة ". ¬_______ (¬1) يراجع في ذلك بالأخص: Primera Cronica General de Espana (Ed. M. Pidal) , Parte II. p. 554. 556

وسار إلى غرناطة، وأقام بها مدى حين " ريثما تلاحقت حشوده وتأهبت متطوعته وجنوده ". وتقدر الرواية الجيوش المرابطية الغازية هذه المرة، بنيف ومائة ألف فارس وثلاثمائة ألف راجل. وهو تقدير يحمل طابع المبالغة. ولما تكاملت الحشود، سار علي في قوات ضخمة، صوب قرطبة، فأقام بها شهراً يضع خططه، ويستكمل أهباته. ثم غادر قرطبة على رأس قواته، وعبر جبال الشارات (سييرّا مورينا) ثم جبل طليطلة، وانقض المرابطون كالسيل على أراضي ولاية طليطلة، فعاثوا فيها وانتسفوا زروعها، وخربوا ديارها، وسبوا كثيراً من ْالسكان، واستولوا على كثير من القلاع والحصون، وهبت ريح من الرعب والروع على النصارى في تلك الأنحاء. وتقول لنا الرواية الإسلامية إن المرابطين ساروا أولا إلى مدينة طلبيرة الواقعة على نهر التاجُه غربي طليطلة، واقتحموها عنوة، وقتلوا معظم سكانها النصارى. واستنقذوا من كان بها من أسرى المسلمين، ولجأت جماعة من النصارى الذين بها إلى القصبة، ثم تسربوا منها ليلا إلى النهر ناجين بأنفسهم، فاستولى المرابطون على القصبة، وانتهبوا سائر ما في المدينة من السلاح والمتاع، وردوا كنيستها كما كانت جامعاً، وندب لها أمير المسلمين والياً من قبله، ورتب بها حامية قوية. ويضع ابن القطان تاريخ اقتحام المرابطين لطلبيرة في منتصف شهر المحرم سنة 503 هـ، ولكن المرجح أنه وقع بعد ذلك بنحو شهر أو شهرين، إذ كان عبور أمير المسلمين إلى شبه الجزيرة حسبما تقدم في منتصف المحرم (¬1). وافتتح المرابطون من حصون أحواز طليطلة سبعة وعشرين، ثم استولوا على مجريط ووادي الحجارة، وقصدوا بعد ذلك إلى طليطلة فضربوا حولها الحصار. ولكن الرواية النصرانية تقدم إلينا تفصيلا آخر للغزوة المرابطية، فتقول لنا إن المرابطين بعد أن عاثوا في أراضي قشتالة الجنوبية، ساروا أولا إلى طليطلة، واقتحموا منيتها (ضاحيتها) الخضراء الواقعة على نهر التاجُه، وهي التي كانت من قبل جنة لبني ذى النون، ثم ضربوا الحصار حول عاصمة قشتالة، وكان يدافع عنها قائد قشتالة الأول ألبار هانيس في حامية قوية، ولم يلبث المرابطون على حصار طليطلة وفقاً للرواية الإسلامية سوى ثلاثة أيام. ثم غادروها بعد أن ¬_______ (¬1) ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص 70). وابن القطان في " نظم الجمان " (المخطوط السالف الذكر لوحة 3 أو 5 أ).

قطعوا ثمارها، وانتسفوا زروعها (¬1)، ولكن الرواية القشتالية تقول لنا بالعكس إن الحصار قد دام سبعة أيام، بذل المرابطون فيها جهوداً فادحة، وضربوا أسوارها بالمجانيق ضرباً شديداً، وحاولوا حرق بعض أبراجها، ولكن جهودهم ذهبت كلها سدى، واستطاع القشتاليون، اعتماداً على حصانة مدينتهم، وأسوارها المنيعة العالية، أن يردوا كل محاولات المرابطين، وفي اليوم السابع، خرج ألبار هانيس في قواته، واشتبك مع المرابطين في معركة شديدة، واضطر المرابطون على أثرها إلى رفع الحصار، ومغادرة المدينة بعد أن أحرقوا آلات الحصار (سنة 1110 م). ثم تقول الرواية القشتالية إن المرابطين ساروا بعد ذلك إلى طلبيرة، فاقتحموها وقتلوا حاميتها، ثم ساروا من بعدها شمالا، واستولوا على مجريط ووادي الحجارة وقناليش وغيرها من قواعد هذه المنطقة. وهنا دب الوباء في الجيش المرابطي، فاضطر علي بن يوسف أن يغادر أراضي العدو، وأن يعود أدراجه إلى قرطبة. وعلى أي حال فإن الروايات المختلفة العربية والقشتالية تتفق على أن هذه الغزوة المرابطية لأراضي قشتالة، كانت من حيث ضخامة حشودها وأهباتها، واتساع نطاقها، بالغة الأثر في ردع القشتاليين ونذيرهم (¬2). وعاد علي بن يوسف على أثر ذلك إلى مراكش، ولكن الغزوات المرابطية استمرت على نشاطها وشدتها، في أنحاء شبه الجزيرة. ففي نفس الوقت الذي كانت فيه الجيوش المرابطية تحت أسوار طليطلة سار جيش مرابطي زاخر بقيادة الأمير سير بن أبى بكر والى إشبيلية صوب الغرب إلى أراضي البرتغال. وكانت هذه المملكة النصرانية الجديدة الناشئة في كنف قشتالة، قد بدأت في ظل أميرها هنري البرجوني، صهر ملك قشتالة ألفونسو السادس وزوج ابنته غير الشرعية، تريسا، تنمو ويشتد ساعدها بسرعة، وكانت قاعدتها يومئذ ¬_______ (¬1) هذه رواية ابن عذارى في البيان المغرب، في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر. ولكن صاحب روض القرطاس يقول لنا إن المرابطين لبثوا على حصار طليطلة مدة شهر (روض القرطاس ص 105). (¬2) تراجع تفاصيل هذه الغزوة في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص 70) وروض القرطاس ص 105، والحلل الموشية ص 62، وابن خلدون ج 6 ص 188. وكتاب الاكتفاء لابن الكردبوس (مخطوط أكاديمية التاريخ السالف الذكر لوحة 164). وراجع أيضاً: F. Codera: Dec. y Dis. de los Almoravides, p. 232 & 234 وكذلك M. Lafuente Hist. General de Espana VoL. III. p. 229

قُلُمرية، ومن ثم فإن الرواية الإسلامية تعرف أميرها " بصاحب قُلُمرية ". وكانت يومئذ تضم عدة من القواعد الإسلامية القديمة من قواعد ولاية الغرب. فسار الأمير سير في قواته صوب بطليوس، ثم زحف على يابُرة وافتتحها على الفور، ثم قصد إلى أشبونة فاستولى عليها هي وضاحيتها شنترة، وسار بعد ذلك شمالا، واستولى على مدينة شنترين، الواقعة على نهر التاجُه، ويستفاد من الرسالة التي وجهها سير بفتح هذه المدينة إلى أمير المسلمين، وهو من إنشاء كاتبه الوزير أبى محمد عبد المجيد بن عبدون، أن المرابطين هاجموها أولا فاستعصت عليهم، فضربوا حولها الحصار حتى سلمت، وكان قد قتل من حاميتها عدد كبير، فسلم الباقون، وأسروا سائر من بها. وقد كانت شنترين، حسبما ورد في هذه الرسالة من أعظم قلاع الغرب وأكثرها موارد لوقوعها في بسيط وافر الخصب (¬1)، ووصل سير في زحفه نحو الشمال إلى مقربة من مدينة قلمرية عاصمة الإمارة. ولم تستطع القوات البرتغالية بقيادة الكونت هنري، دفعاً للقوات المرابطية الغازية. وكان افتتاح المرابطين لهذه القواعد الغربية في سنة 504 هـ (1111 م) وتقول الرواية الإسلامية إن الأمير سير، افتتح في هذه الغزوة أيضاً مدينة بطليوس وبرتقال (¬2). ولكن بطليوس كانت في أيدي المرابطين منذ انتزعوها من بني الأفطس في سنة 488 هـ (1094 م). وأما برتقال، وهي تعني في الجغرافية الأندلسية ثغر بورتو، فهي تقع في أقصى شمالي البرتغال، وفي شمال قُلُمرية، ومن ثم فإن المرابطين لم يصلوا في زحفهم إليها ولم يفتتحوها. ومما هو جدير بالذكر أنه على أثر هذه الغزوة، وفد على مدينة إشبيلية المنصور بن عمر المتوكل بن الأفطس قادماً من أراضي قشتالة، وكان قد سار إليها في أمواله وذخائره، والتجأ إلى ملك قشتالة ألفونسو السادس، حينما غزا المرابطون مملكة بطليوس سنة 488 هـ، وقتلوا أباه عمر المتوكل وأخويه. وقيل إنه اعتنق النصرانية يومئذ. ولما وصل إلى إشبيلية، أخذ إلى حضرة أمير المسلمين بمراكش فكانت له لديه منزلة ملحوظة. ولم يمض قليل على ذلك حتى سارت حملة مرابطية جديدة صوب قشتالة، ¬_______ (¬1) راجع الرسالة المذكورة في المعجب للمراكشي ص 90 - 93. (¬2) روض القرطاس ص 105.

بقيادة الأمير أبى محمد مزدلي والي قرطبة (¬1)، وكان أمير المسلمين علي بن يوسف قد أسند إليه ولاية قرطبة وغرناطة منذ سنة 505 هـ. وولى أخاه أبا الطاهر تميما والي غرناطة ولاية تلمسان بالمغرب. وعاث المرابطون في أراضي قشتالة، وخربوا ربوعها بالنار والسيف، واستولوا على حصن أرجنة أو أرلبة Oreja وقتلوا حاميته، وسبوا كثيراً من النساء والأطفال، ثم قصدوا إلى مدينة طليطلة عاصمة قشتالة، وضربوا حولها الحصار مرة أخرى (507 هـ - 1114 م). وكان ألبار هانيس قائد قشتالة الأكبر، عندئذ في منطقة قونقة، وكان قد استطاع انتزاع قونقة، من المرابطين (1111 م)، ولكنها لم تلبث في يد القشتاليين سوى فترة يسيرة. فلما ترامت إليه أنباء الغزوة المرابطية، وحصار المرابطين لطليطلة، هرع لمدافعتهم في جيش قوامه عشرة آلاف فارس. ونشبت بين القشتاليين والمرابطين تحت أسوار المدينة المحصورة، معارك عديدة، منى فيها كل من الفريقين بخسائر، وفقد القشتاليون وفقاً لأقوال الروايتين العربية والنصرانية سبعمائة قتيل، ولكنهم استطاعوا أن يحملوا المرابطين على رفع الحصار، بعد أن نجحوا في إحراق آلاتهم الثقيلة (¬2). وتقول الرواية العربية إن ألبار هانيس حينما أقبل لنصرة مواطنيه، وسار مزدلي للقائه، فر أمامه ليلا ولم يجرأ على مقاتلته، وعاد مزدلي على أثر ذلك إلى قرطبة ظافراً، ثم تقص علينا خبر غزوة أخرى قام بها مزدلي في منطقة وادي الحجارة، وأن صاحبها " الزند غرسيس " حينما سار مزدلي لقتاله، لجأ إلى الفرار واحتوى مزدلي على محلته وسائر أثقاله وأمتعته (¬3) وهي غزوة لم تشر إليها الرواية النصرانية. وتزيد الرواية العربية على ذلك أن الأمير مزدلي توفي في شوال سنة 508 هـ (1115 م) أعني في العام التالي لحصار طليطلة، وذلك أثناء غزوة قام ضد القشتاليين على مقربة من حصن مسطانية (¬4) الواقع في طريق قرطبة. وكتب بنبأ وفاته إلى أمير المسلمين على بن تاشفين، فأمر بتولية ولده محمد بن مزدلي مكانه على قرطبة، وبتولية ولده عبد الله على غرناطة. ولم يمكث محمد في ولاية ¬_______ (¬1) ويقول ابن الكرديوس في كتاب " الاكتفاء " إن الحملة كانت بقيادة الأميرين مزدلي، وسير ابن أبى بكر (مخطوط أكاديمية التاريخ السالف الذكر لوحة 165 أ). (¬2) M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 230 (¬3) روض القرطاس ص 105. (¬4) ابن الخطيب عن ابن الصيرفي في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 180)؛ والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة هسبيرس ص 77).

قرطبة سوى أشهر قلائل، ثم خرج في عسكره ليرد القوات القشتالية التي اقتربت من أراضي ولاية قرطبة، ونشب بين الفريقين قتال عنيف سقط فيه محمد بن مزدلي وعدد كبير من زعماء لمتونة منهم الأمير محمد بن الحاج، والأمير أبو إسحق ابن دانية، والأمير أبو بكر بن واسينو، وجملة وافرة من الحشم وأهل الأندلس، وذلك في مستهل صفر سنة 509 هـ (27 يونيه 1115 م). ولما وصل خبر هذه النكبة إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، بادر فندب لولاية قرطبة ابن عمه الأمير أبا بكر يحيى بن تاشفين، فقدم إليها على عجل، وما كاد يستقر بها حتى حشد قواته، وسار في أثر القشتاليين صوب بياسة، ولحق به عبد الله بن مزدلي صاحب غرناطة في قواته ونشبت بين المرابطين والنصارى معركة جديدة، هزم فيها المرابطون مرة أخرى، وقتل منهم عدد جم، وذلك في اليوم الثامن والعشرين من جمادى الثانية سنة 509 هـ (أواخر أكتوبر 1115 م) (¬1). وكان الأمير سير بن أبى بكر اللمتوني والي إشبيلية، والقائد العام للجيوش المرابطية في إسبانيا قد توفي قبيل وفاة الأمير مزدلي بقليل في جمادى الأول في سنة 507 هـ (1114 م)، فعين مكانه لولاية إشبيلية محمد بن فاطمة فلبث على ولايتها حتى توفي سنة 515 هـ (1121 م). وهكذا فقد المرابطون في شبه الجزيرة بوفاة مزدلي، وسير بن أبى بكر، قائدين من أعظم قواد لمتونة وألمعهم. وقد كان مزدلي، وهو مزدلي بن تيولتكان بن الحسن بن محمد بن ترقوت (تُرجوت)، من أركان الدولة اللمتونية والعصبة الصنهاجية، وكان من أقارب يوسف بن تاشفين لالتقائهما في ترقوت. ويصفه ابن الخطيب بأنه كان "بطلا ثبتاً، بهمة من البهم، بعيد الصيت، عظيم الجلد، أصيل الرأي، مستحكم الحنكة، طال عمره، وحمدت مواقفه، وبعدت غاراته، وعظمت في العدو وقائعه " (¬2) وقد كان من أعظم أعمال مزدلي استرجاعه لمدينة بلنسية من أيدي جنود السيد الكمبيادور بعد وفاته وجنود قشتالة، وذلك في سنة 495 هـ (1102 م). وكان ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر- هسبيرس ص 77). وروض القرطاس ص 105. ومما يلفت النظر أن صاحب البيان يذكر هنا الأمير محمد بن الحاج، وهو والي سرقسطة بين قتلى موقعة قرطبة. بيد أننا سنرى، فيما بعد أن هناك رواية أخرى تضع مقتله في العام السابق وفي غزوة أخرى بالثغر الأعلى. (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 180).

قد وُلّي بلنسية ثم قرطبة، وغرناطة أيام يوسف، ثم وُلّي قرطبة قبيل وفاته ببضعة أعوام من قبل علي بن يوسف. وأما سير بن أبى بكر، فقد كان أيضاً من أعظم زعماء لمتونة وقادتها، وقد ظهر بنوع خاص بشجاعته وبراعته العسكرية الفائقة في موقعة الزلاّقة (479 هـ). ولما جاز أمير المسلمين يوسف بن تاشفين جوازه الثالث إلى شبه الجزيرة في سنة 483 هـ، وبدأ افتتاح دول الطوائف بالاستيلاء على غرناطة، فوض عند عودته إلى المغرب بشئون الأندلس إلى الأمير سير، وعهد إليه بافتتاح ممالك الغرب الأندلسية، فافتتح سير مملكة إشبيلية من أيدي بني عباد (484 هـ)، ثم افتتح مملكة بطليوس من أيدي بني الأفطس (488 هـ)، في الظروف والمناظر العنيفة المروعة، التي فصلناها في كتابنا " دول الطوائف ". وكانت آخر الغزوات العظيمة التي قام بها سير، هي افتتاحه لقواعد الغرب من يابرة حتى أشبونة سنة 504 هـ هـ (1111 م) حسبما تقدم من قبل. ويجب أن نلاحظ أنه كان من أسباب نشاط الغزوات المرابطية في تلك الفترة، وإقدامها على مهاجمة طليطلة عاصمة قشتالة ومحاصرتها غير مرة، ما وقع في اسبانيا النصرانية عقب وفاة ألفونسو السادس دون وارث (1109 م)، وقيام ابنته أورّاكا في العرش، من حروب أهلية حول السلطان بين أوراكا وزوجها ألفونسو الأول ملك أراجون من جهة، وبينها وبين أشراف جلِّيقية أنصار ولدها ألفونسو ريمونديس من جهة أخرى، وضعف الجبهة الدفاعية النصرانية بذلك، وعجزها عن القيام بغزوات كبيرة في أراضي المسلمين، وخصوصاً بعد مصرع ألبار هانس قائد قشتالة الكبير في إحدى هذه المعارك الأهلية، وقد كان هذا القائد الشهير زميل السيد الكمبيادور ومعاونه، من أعظم قادة اسبانيا النصرانية في هذا العصر. - 3 - وشملت موجة الغزو المرابطي شرقي الأندلس كذلك. ونحن نعرف أن المرابطين بقيادة أبى عبد الله محمد بن الحاج والي بلنسية، قد استولوا على سرقسطة من أيدي بني هود في أواخر سنة 503 هـ (1110 م) حسبما سبق أن فصلناه من قبل في تاريخ مملكة سرقسطة. وكان يوسف بن تاشفين قد أوصى ولده علياً

فيما أوصاه، بأن يهادن بني هود ملوك سرقسطة، وأن يتركهم في ملكهم حائلا بينه وبين النصارى. وكانت هذه سياسة فطنة، تتفق مع ظروف سرقسطة وموقعها في الثغر الأعلى بين الممالك النصرانية. ولكن الحوادث سارت في طريق آخر، واختلف أهل سرقسطة مع ملكهم عبد الملك بن المستعين بن هود الملقب بعماد الدولة، لارتمائه في أحضان النصارى، وتغليبهم في مصالح الدولة. وكتبوا إلى أمير المسلمين علي بن يوسف يدعونه لامتلاك بلادهم. وكان على بعد أن تلقي فتوى الفقهاء بوجوب خلع عماد الدولة، وفقاً لرغبات أهل سرقسطة، بعد أن زحفت الجنود المرابطية بالفعل من بلنسية نحو الشمال - قد أراد أن يبقى على رياسة بني هود استجابة لضراعة عماد الدولة، ولكن الحوادث سبقته، وانتهى المرابطون بالاستيلاء على سرقسطة، وذلك في اليوم العاشر من ذي القعدة سنة 503 هـ (يونيه 1110 م) ودخل ابن الحاج قصر " الجعفرية " الشهير واستقر فيه. وكان عماد الدولة حينما شعر بمقدم المرابطين، قد غادر سرقسطة في أهله وأمواله إلى حصن روطة المنيع، الواقع على نهر خالون (شلون). وهكذا انتهت مملكة سرقسطة، وانتهى ملك بني هود، وامتد سلطان المرابطين بذلك، إلى قلب الثغر الأعلى. ولبث ابن الحاج والياً على سرقسطة بضعة أعوام، وهو يحوطها بحمايته ويرد عنها أطماع النصارى، المحيطين بها من الشرق والغرب والشمال، ويقوم بغزو أراضيهم والعيث فيها من آن لآخر. وفي سنة 504 هـ (1111 م) زحف ألفونسو الأول ملك أراجون (المحارب) (¬1)، نحو سرقسطة ومعه عماد الدولة عبد الملك ابن المستعين حتى أصبح قريباً منها، وخرج محمد بن الحاج في قواته لمدافعته، وقدمت الجند المرابطية من مرسية على عجل يقودها واليها محمد بن عائشة، فلما رأى ألفونسو تفوق المرابطين، ارتد أدراجه، وطاردته العساكر المرابطية حيناً، واستمر المرابطون على غزواتهم المخربة في أراضيه. وسارت قوة منهم بقيادة علي ابن كنفاط اللمتوني صوب قلعة أيوب، وحاصرت بعض حصون عبد الملك بن هود، فاستغاث عبد الملك بحليفه وحاميه ألفونسو، وقدمت لمعاونته نجدة من النصارى، فانهزم المرابطون وأسر قائدهم ابن كنفاط، وبقي في أسر عبد الملك مدة ثم أخلي سبيله (¬2). ¬_______ (¬1) تسمى الرواية الإسلامية ألفونسو المحارب " ابن رذمير " نسبة إلى اسم أبيه " سانشو راميرز ". (¬2) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر- هسبيرس ص 73).

ولما اشتدت موجة الغزو المرابطي لأراضي قشتالة، خرج ابن الحاج في قواته من سرقسطة في شهر صفر سنة 508 هـ (يوليه 1114 م)، وانضم إليه في لاردة محمد بن عائشة في قواته. وسارت القوات المرابطية المتحدة شرقاً، واخترقت أراضي إمارة برشلونة، وهي تثخن فيها، وتستولي على مقادير عظيمة من السبي والغنائم، واستمرت كذلك حتى وصلت إلى ظاهر مدينة برشلونة العظيمة. وعندئذ بعث ابن الحاج الغنائم والسبي مع بعض قواته لتعود من الطريق الكبير، واتجه هو بباقي قواته غرباً ليسير من طريق البرية، وهو أقصر وأقرب إلى سرقسطة، ولكنه فوجىء خلال الطريق بقوات كثيفة من النصارى متأهبة في كمائنها، فنشب القتال بين الفريقين، وقاتل ابن الحاج وقواته قتالا عنيفاً، حتى سقط معظمهم، وفي مقدمتهم - وفقاً لهذه الرواية - قائدهم الباسل، ونجا ابن عائشة وقليل من صحبه، بيد أن ابن الحاج، وفقاً لرواية ابن عذارى المتقدمة لم يقتل في هذه الموقعة، وإنما قتل في العام التالي في موقعة قرطبة التي سبق ذكرها. ولما علم أمير المسلمين على بهذه النكبة، وما أصاب محمداً بن عائشة على أثرها من الذهول، عين صهره زوج أخته الأمير أبا بكر بن ابراهيم بن تافلوت والي مرسية، أيضاً والياً على بلنسية وطرطوشة وسرقسطة، وأمره بالسير لغزو النصارى. فجمع ابن تافلوت سائر قواته، وسار شمالا إلى برشلونة، وهو يثخن في أراضيها بالنار والسيف ثم حاصرها. وأقام على حصارها عشرين يوماً، حتى خرج إلى لقائه أميرها رامون برنجير في قوات برشلونة وأربونة، ونشبت بين الفريقين معارك عنيفة قتل فيها كثير من النصارى، وخسر المسلمون نحو سبعمائة قتيل، وارتد المرابطون بعد ذلك صوب أراضيهم (¬1). وكان أبو عبد الله محمد بن الحاج من أكابر زعماء لمتونة وقوادها، وكان يتصل بصلة القرابة المتينة ليوسف بن تاشفين، إذ يرجع نسبه إلى ترقوت أو ترجوت جد العاهل المرابطي، وعرف بابن الحاج، إذ قام أبوه بأداء الفريضة وقد ظهر منذ البداية، مذ عبر إلى شبه الجزيرة مع يوسف بن تاشفين في سنة 484 هـ، بمقدرته وأعماله العسكرية البارزة، أولا حين افتتاحه لقرطبة من يد ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 104 و 105، وراجع أيضاً: F. Codera: ibid ; p. 20-22 هذا وقد سبق أن أتينا على رواية ابن عذارى التي تقول بمقتل ابن الحاج ضمن من قتلوا من أمراء لمتونة في موقعة قرطبة في سنة 509 هـ.

ابن عباد، ثم في محاربته للقشتاليين، في غير موقعة. ولما تولى علي بن يوسف، عينه أولا والياً للمغرب، ولكنه لم يمكث في هذا المنصب سوى أشهر قلائل، ثم ندبه لولاية بلنسية وشرقي الأندلس، في سنة 501 هـ. ومن بلنسية سار ابن الحاج إلى سرقسطة، استجابة لدعوة أهلها، وانتزعها من يد بني هود، واستقر والياً لها حسبما تقدم. وكان من أعظم الأعمال التي حققها أمير المسلمين علي بن يوسف يومئذ، استرداده للجزائر الشرقية واستنقاذها من أيدي الغزاة النصارى. وقد سبق أن تحدثنا، عند كلامنا عن مملكة دانية، عن أخبار الجزائر الشرقية وأحوالها، وكيف أنه حينما سقطت مملكة دانية في يد المقتدر بن هود في سنة 468 هـ، (1076 م)، وانتهت بذلك رياسة علي بن مجاهد موفق الدولة، كان على حكمها، (أي الجزائر)، عبد الله المرتضي، وكيف أن المرتضي أعلن استقلاله عندئذ، واستبد بحكمها. ولما توفي المرتضي في سنة 486 هـ، خلفه في حكم الجزائر فتى من أخص فتيانه هو مبشر بن سليمان، فضبط شئونها بحزم وكفاية، وتلقب بناصر الدولة، واستمر على حكمها فترة طويلة، وهو بمعزل عن حوادث شبه الجزيرة. وكانت الجيوش المرابطية خلال ذلك، تستولى تباعاً على قواعد الأندلس الشرقية، فاستولت على بلنسية في سنة 495 هـ، ثم استولت بعد ذلك على سرقسطة وقواعد الثغر الأعلى (502 هـ). بيد أن مبشراً لم يفكر بالرغم من وجود الجيوش المرابطية على مقربة منه في ثغور اسبانيا الشرقية، أن ينضوي تحت لواء المرابطين، أو يعقد الحلف معهم، واستمر على استقلاله بحكم الجزائر، حتى دهمتها الغزوة النصرانية الكبرى. وقد سبق أن فصلنا في أخبار مملكة دانية، من كتابنا " دول الطوائف " قصة الغزو النصراني للجزائر الشرقية، وكيف أنه لما كثرت غارات البحارة المسلمين على الشواطىء الإيطالية الشمالية والغربية، وشواطىء قطلونية الإسبانية، عقدت جمهوريتا بيزة (بيشه) وجنوة، وإمارة برشلونة حلفاً لافتتاح الجزائر، وفي أوائل سنة 508 هـ (1114 م) خرج من مياه جنوة أسطول الغزو، وقوامه نحو ثلاثمائة سفينة، ومعه وحدات بحرية أخرى من برشلونة وفرنسا، وفرض الغزاة على مدينة ميورقة عاصمة الجزائر حصاراً محكماً صارماً، وقاسى المسلمون أهوالا من الحصار الذي استمر زهاء عام، وفي أواخر سنة 508 (أوائل

سنة 1115 م) اقتحم الغزاة أسوار ميورقة ودخلوها، واحتلوا قصر المُدَينة، وعاثوا في أنحائها، قتلا ونهباً وسبياً، وقتلوا من سكانها جملة عظيمة، وكانت محنة مروعة. وفي خلال ذلك، كان المرابطون يرقبون تطور الحوادث في الجزائر. ولم يكن أمير المسلمين بغافل عن أهمية الجزائر، وأهمية موقعها بالنسبة لحماية شواطىء الأندلس الشرقية. ولما حاصر النصارى ميورقة، بعث مبشرٌ بصريخه إلى أمير المسلمين، ولكنه توفي خلال الحصار، وحاول خلفه القائد أبو الربيع سليمان, أن يغادر الجزيرة ليسعى في طلب النجدة، فأسره النصارى. ولكن صريخ مبشر وصل إلى أمير المسلمين على يد بحار جرىء هو القائد أبو عبد الله بن ميمون، استطاع أن يخترق الحصار بسفينته تحت جنح الظلام، ولم يستطع النصارى لحاقاً به. وكان أمير المسلمين، قد أتم عندئذ أهباته البحرية الضخمة، فبعث لإنجاد الجزائر واستنقاذها أسطولا ضخماً قوامه نحو ثلاثمائة سفينة، وأقلعت السفن المرابطية بسرعة صوب الجزائر، بقيادة أمير البحر المرابطي ابن تفرتاش أو (تافرطاش). ولما علم البيزيون وحلفاؤهم بمقدم هذا الأسطول الإسلامي الضخم، وأدركوا أن لا أمل لهم في مدافعته، غادروا ميورقة مثقلين بالغنائم والسبي، بعد أن استصفوا ثرواتها وخربوا ربوعها، وأحرقوها وقتلوا معظم أهلها، ووصلت السفن المرابطية في أثرهم إلى الجزيرة في أواخر سنة 509 هـ (1116 م) واحتلها المرابطون وشرعوا في تعميرها، وعاد إليها الفارون من سكانها. وتزيد الرواية الإسلامية على ذلك أنه لما انصرفت السفن النصرانية ناجية إلى أوطانها، دهمتها العواصف والأمواج العالية، فحملت منها أربع سفن صوب ثغر دانية، فطاردها القائد أبو السداد، حتى غرقت منها واحدة، وتمكن من أسر الثلاث الأخرى (¬1). وعين أمير المسلمين والياً للجزائر هو وانور بن أبى بكر اللمتوني، وبذلك أضحت الجزائر الشرقية جزءاً من الإمبراطوربة المرابطية الكبرى. ودخلت في عهد جديد من تاريخها. وسنرى فيما بعد، أى دور خطير تلعبه الجزائر الشرقية، كمركز للثورة " المرابطية " المريرة، التي حمل لواءها بنو غانية حكام ¬_______ (¬1) ابن الكردبوس في كتاب الاكتفاء (مخطوط أكاديمية التاريخ السالف الذكر لوحة 165 ب).

الجزائر، ضد الدولة الموحدية قاهرة الدولة المرابطية، ووريثة ملكها في المغرب والأندلس (¬1). - 4 - في بداية سنة 503 هـ (1109 م) وقع في قرطبة حادث كبير الدلالة، عميق الأثر، بالرغم من عدم أهميته الظاهرة، هو إحراق كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام أبى حامد الغزالي، ويقول ابن القطان إن هذا الحادث وقع " في أول عام ثلاثة وخمسمائة "، ومعنى ذلك أنه وقع قبيل عبور علي بن يوسف إلى شبه الجزيرة بأسابيع قلال. وكان أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، في أواخر عهده على صلة طيبة بالإمام الغزالي، وكان يستفتيه باعتباره عميد فقهاء المشرق، في عظائم الأمور، ومن ذلك أنه استفتاه في مسألة خلع ملوك الطوائف (¬2)، وكان الغزالي من جانبه يقدر يوسف ونصرته للإسلام، حتى قيل إنه اعتزم أن يسير إلى المغرب لرؤياه، ولكنه حينما وصل إلى الإسكندرية، علم بوفاة يوسف (سنة 500 هـ)، فعدل عن رحلته (¬3). ولكن الأمور تغيرت في عهد ولده علي. وكان علي يتسم بنوع من الورع والزهد، ويميل إلى إيثار الفقهاء ومشاورتهم، فاشتد نفوذ الفقهاء بالمغرب والأندلس في عهده، حتى أصبح لا يقطع في أمر من الأمور، صغيراً كان أو كبيراً إلا برأيهم، وهكذا علت مكانتهم، واشتد نفوذهم، حتى سيطروا فيما بعد على الدولة. وكان من أشدهم نفوذاً لدى أمير المسلمين، قاضي قرطبة أبو عبد الله محمد بن حَمْدين. وكان الفقهاء عندئذ يؤثرون علم الفروع بعنايتهم، وهو علم العبادات، والمعاملات، ويهملون علم الأصول، أو أصول الدين. وكان لا يحظى لدى أمير المسلمين إلا من برع في علم الفروع (¬4). فلما وصلت كتب ¬_______ (¬1) يراجع في أخبار غزو النصارى للجزائر الشرقية واستنقاذها على يد المرابطين، ابن خلدون ج 4 ص 165، وروض القرطاس ص 105، والروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 188، وراجع كتابي " دول الطوائف " ص 201 - 204 ومن المراجع القشتالية: A. Campaner y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamita en las Islas Baleares (Palma 1888) p. 105-135 ركذلك: P. y Vives: Los Reyes Taifas, p. 41 (¬2) ابن خلدون في العبر ج 6 ص 187 و 188، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 247. وراجع كتابي دول الطوائف ص 327. (¬3) ابن خلكان ج 2 ص 488، والمؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن دينار ص 106. (¬4) المراكشي في المعجب ص 95 و 96.

الإمام الغزالي إلى المغرب والأندلس، وفي مقدمتها كتاب " الإحياء "، وقرئت وذاع ما فيها، سخط الفقهاء المرابطون، وأنكروا كثيراً من المسائل التي وردت في كتاب " الإحياء " " وزعموا أنها مخالفة للدين، وكان أبو القاسم ابن حَمْدين (¬1) من أشد الفقهاء مبالغة في ذلك حتى أنه قال " بتكفير " من قرأ كتاب " الإحياء ". ورفع ابن حمدين ومعه فقهاء قرطبة، الأمر إلى علي بن يوسف، وأجمعوا على وجوب مطاردة كتاب " الإحياء " وإحراقه؛ فأخذ على برأيهم، وجمعت نسخ الكتاب واحتفل بإحراقها في رحبة المسجد الجامع بقرطبة أمام الباب الغربي بعد أن أشبعت جلودها بالزيت، ونفذت كتب أمير المسلمين، إلى سائر أنحاء الأندلس والمغرب بإحراقه حيثما وجد، وانتزعت نسخه من أصحابها، وتوالى إحراق الكتاب في سائر أنحاء المغرب، وشدد أمير المسلمين في ذلك حتى إنه أنذر بعقوبة الإعدام ومصادرة المال لكل من وجد عنده (¬2)، واستمرت هذه المطاردة لكتاب الإحياء وباقي كتب الغزالي طوال أيام المرابطين، وجدد المرسوم بذلك في أواخر عهد تاشفين بن علي بن يوسف (سنة 538 هـ) حسبما نذكر بعد. والحقيقة أن حملة الفقهاء المرابطين على كتاب الإحياء، لم تكن راجعة لأمور تتعلق بالعقيدة أو لأنه يخالف الدين في شىء، بل كانت ترجع قبل كل شىء إلى ما ورد فيه من حملة لاذعة على علماء الفروع، والتنويه بجهلهم، وسخف مجادلاتهم السطحية، ووصف الغزالي لهم بأنهم " مجانين " " وكونهم يجهلون علم الأصول، الذي ينوه الغزالي بأهميته وعظيم قدره (¬3). ويحمل ابن القطان على هؤلاء الجهلة الذين قاموا بإحراق هذا "الكتاب العظيم "، ويقول لنا إن إحراقه كان سبباً لزوال ملكهم، واستئصال شأفتهم، ثم ينقل إلينا قصة وجود المهدي ابن تومرت في حلقة الإمام الغزالي بالمشرق، ووقوف الغزالي ¬_______ (¬1) هو أخو القاضي أبو جعفر أحمد بن حمدين الثائر فيما بعد بمدينة قرطبة. (¬2) ابن القطان في " نظم الجمان " (المخطوط السالف الذكر لوحة 6 أ)، ونقله ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 76)، والحلل الموشية ص 76، والمعجب ص 96. (¬3) المؤنس في أخبار إفريقية وتونس ص 106 و 107، وراجع مقدمة العلامة جولدسيهر الفرنسية لكتاب " محمد بن تومرت ": Mohamed ibn Toumert et la Théologie de l'Islam dans le Maghreb au XI eme Siècle p. 35 & 36

منه على ما تم من إحراق كتابه بقرطبة، ودعائه " أن يمزق الله ملكهم كما مزقوه، وأن يذهب دعوتهم كما أحرقوه ". بيد أننا سوف نرى فيما بعد، عند الكلام على نشأة ابن تومرت وظهوره، بطلان هذه القصة، وما يحيط بها من المتناقضات المنطقية والزمنية. - 5 - ولم يمض قليل على استرداد المرابطين للجزائر الشرقية حتى عبر أمير المسلمين علي بن يوسف البحر إلى الأندلس للمرة الثالثة منذ جلوسه، وذلك في أواخر المحرم سنة 511 هـ الموافق لشهر مايو سنة 1117 م (¬1)، أعني في بداية الصيف، وهو الفصل المفضل للعبور والجهاد، على نحو ما وقع في الجواز الثاني. وفي روض القرطاس أن هذا العبور قد وقع سنة 513 هـ، بعد سقوط سرقسطة وقواعد الثغر الأعلى، وأنه هو الجواز الثاني لأمير المسلمين، وهو تحريف واضح في التاريخ والوصف. ولا تقدم إلينا الرواية الإسلامية عن هذا الجواز، وما اقترن به من الحوادث تفاصيل شافية، ويكتفي صاحب الحلل الموشية وابن الخطيب كلاهما، بالإشارة إليه في كلمات عابرة. ولكن صاحب روض القرطاس وابن عذارى يقدمان لنا عنه بعض التفاصيل. وفي الرواية الأولى، أن علياً جاز إلى الأندلس برسم الجهاد وإصلاح شئونها، وجازت معه جموع غفيرة من المرابطين والمتطوعة من العرب وزناتة والمصامدة وسائر قبائل البربر، وأنه سار في قواته صوب قرطبة وعسكر خارجها، فأتته الوفود للسلام عليه، ووقف منها على أحوال البلاد، وكان من تصرفاته عندئذ، أن عزل القاضي أبا الوليد بن رشد (الجد) عن قضاء قرطبة، وولى مكانه أبا القاسم ابن حمدين (¬2). ولكن سوف نرى أن هذا التصرف قد وقع في مناسبة لاحقة. أما ابن عذارى فإنه يقول لنا، إن علياً قصد عند عبوره إلى مدينة إشبيلية، وهناك لحقت به العساكر العدوية والأندلسية، وقصدت إليه وفود العلماء والفقهاء والمجاهدين من قرطبة، وكذلك جموع المتطوعة من غرناطة. وأما ما يتعلق بغزوات على في هذا الجواز، فتتخلص في أنه سار في قواته نحو أراضي البرتغال، وغزا قُلُمرية (ويسميها صاحب روض القرطاس سنبرية، ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 62، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 147، والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر- هسبيرس ص 79). (¬2) روض القرطاس ص 106.

وابن عذارى قلمورية)، وأثخن في تلك الأنحاء تخريباً وقتلا وسبياً، ولم تستطع قوات الملكة تيريسا ملكة البرتغال يومئذ، أن تقوم بأية أعمال دفاعية ذات شأن، وفر أمامه النصارى في كل مكان، واعتصموا بالمعاقل المنيعة، وأنه على العموم " دوخ بلاد الشرك بجيوش لا تحصى " (¬1). ويستفاد من أقوال الرواية النصرانية أن علياً وصل بقواته إلى أحواز قلمرية، وبعد أن حاصرها، دخلها عنوة، وذلك في يوم 22 يونيه سنة 1117 م، وهو يوافق يوم 18 صفر سنة 511 هـ (¬2). ويقول لنا ابن عذارى إن حصار قلمرية استمر عشرين يوماً، ومعنى ذلك أنه بدأ في 2 يونيه الموافق 28 من المحرم، فإذا ذكرنا أن علياً قد عبر إلى الأندلس في أواخر المحرم، وفقاً لرواية ابن عذارى، فإنه تبدو ثمة في التواريخ ثغرة واضحة. وإذن فلا بد أن يكون عبور علي قد وقع في أوائل المحرم، أو أن تكون قلمرية قد سقطت في أيدي المرابطين، بعد التاريخ الذي تحدده الرواية النصرانية، بشهر أو نحوه، وهو ما يفسح لمسير على وغزوته بضعة أسابيع، وهي أقل ما يمكن أن تستغرقه مثل هذه الغزوة. والظاهر أن علياً لم يحتفظ بقُلُمرية لأية مدة، فقد انصرف عنها عقب افتتاحها إلى إشبيلية حسبما يقول ابن عذارى. ويفسر ذلك موقع قلمرية النائي، وصعوبة الاحتفاظ بها في منطقة يحيط بها النصارى من كل صوب. وتذكر لنا الرواية الإسلامية نبأ غزوة قام بها في نفس الوقت القائد عبد الله ابن فاطمة، ومنصور بن الأفطس - وهو الذي سبق أن ذكرنا خبر عوده من أراضي النصارى إلى إشبيلية والتجائه إلى حماية أمير المسلمين - في أرض النصارى، وهي غزوة عادا منها إلى إشبيلية مثقلين بالسبي والغنائم الكثيرة (¬3). - 6 - وقضى أمير المسلمين علي بن يوسف، عقب عوده من الأندلس، بحاضرته مراكش، زهاء أربعة أعوام، وفي أوائل سنة 515 هـ (ربيع سنة 1121 م)، عبر إلى شبه الجزيرة مرة أخرى في جيش عظيم من صنهاجة وزناتة ومصمودة وغيرها من قبائل البربر، وقيل أن حشوده لم تبلغ في أية عبور سابق ما بلغته هذه ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 63. (¬2) F. Codera: Dec. y Dis. de los Almoravides, p. 236 (¬3) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة هسبيرس ص 79).

المرة من الضخامة والأهبة. وكان هذا هو الجواز الرابع لأمير المسلمين. وقد اختلفت الرواية في بواعثه، وقيل إن علياً اهتز لما بلغه من توالي المحن على جيوشه في شبه الجزيرة، وبخاصة لما أصابها في كتندة من هزيمة ساحقة، فعبر إلى الأندلس، لتدارك الموقف، وإصلاح الأمور، والعمل على توطيد سمعة الجيوش المرابطية (¬1)، بيد أنه كان ثمة باعث أهم وأخطر، وهو الذي تردده أكثر من رواية، وهو قيام الثورة ضد المرابطين في قرطبة. ويلخص لنا صاحب الحلل الموشية الحادث في أن أمير المسلمين كان قد ولّى على قرطبة الأمير أبا يحيى بن روادة، فحدث بينه وبين أهلها نفور وسوء تفاهم فثاروا عليه، وحدثت بينهم وبين من كان بها من المرابطين فتنة كبيرة، ونهب العامة قصر الوالي، ودور المرابطين، واشتدت الحال (¬2). ولكن ابن عذارى يقدم إلينا رواية أخرى يقول فيها: إنه في سنة 514 هـ، " نفذ أمر أمير المسلمين إلى البلاد الأندلسية، بإحياء المجانيق والآلات الحربية، فلما كمل منه المختص بغرناطة، خرج لمشاهدة التجربة لها والرمي بها أجداي بن سير اللمتوني صاحب الأعنة. فتزاحم هناك الجم الغفير، فرام الفسحة، وأشار برسيخ كان في يده فأصاب صبياً في مقتله فقضى لوقته، وانفض اللفيف، وتهرجت البلدة. فاسترضى ولي الدم بدفع الدية، فسكنت الثورة، وأمهل الله القاتل ثم أخذه. ولما كمل ما أنشىء منها بقرطبة، وقد جاء عيد النحر، فخرج ثانية عامل البلدة لمشاهدة التجربة، وقد أقبل السواد الأعظم الذي لا يطاق، بمجمع حضور العيد، وحضور كل ذاعر وناعق، من كل حدب وشاهق، فكثر التدافع والتزاحم، ودهم الحشم، فكثر بينهم التزاحم، وأقبل لفيف الربض الغربي، فالتقى بأسهم على القصر، ورام صاحبه المدافعة بحشمه وخدمه فغلبوا، واقتحم القصر عليه و [انتهب] جميع ما فيه، وخرج هو فاراً بنفسه، وركب القاضي أبو الوليد بن رشد في أعلام الفقهاء، فردع العامة، وقمع السفلة " (¬3). وأخيراً يقدم إلينا ابن الأثير عن هذه الثورة تفاصيل أوفى، ومن نوع خاص، فيقول إنه لما كان يوم الأضحى (من سنة 514 هـ)، خرج الناس متفرجين، فمد عبد من عبيد أبى بكر يده إلى امرأة وأمسكها. فاستغاثت فأغاثها الناس، ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 106. (¬2) الحلل الموشية ص 63. (¬3) ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة التي عثر بها المؤلف في مكتبة القرويين).

فوقع بين العبيد وأهل قرطبة فتنة عظيمة، ونشب القتال بينهم حتى دخل الليل، ووصل الخبر إلى الوالي الأمير أبى بكر، واجتمع إليه الفقهاء والأعيان، واقترحوا عليه تهدئة للحال أن يقتل واحداً من العبيد الذين أثاروا الفتنة، فأنكر ذلك وغضب، وفي اليوم التالي استعد للقتال وأظهر السلاح، والعدد، فاجتمع لقتاله أهل قرطبة بزعامة الأعيان والفقهاء وهزموه، فتحصن بالقصر فحاصروه، وفر منهم بعد مشقة، فنهبوا القصر وأحرقوا دور المرابطين، ونهبوا أموالهم، وأخرجوهم من قرطبة على أقبح صورة (¬1). تلك هي تفاصيل الفتنة القرطبية التي أهمت أمير المسلمين، وحملته على المبادرة إلى العبور إلى الأندلس. بين أن هذه الحوادث الظاهرة، كانت تحمل في ثنيتها، عوامل أخطر وأبعد مدى، فلم يكن الأمر في الواقع متعلقاً بحادث شغب عابر، ولكنه كان أعمق جذوراً، وكان أول فورة علنية ضد الحكم المرابطي. وقد سبق أن أشرنا إلى أن أساليب المرابطين في الحكم لم تكن تتسم بكثير من الرفق والكياسة، وأنها كانت بالعكس تتسم بالضغط والخشونة. ولم ينجح المرابطون مذ غلبوا على الأندلس، منذ نحو ربع قرن، أن ينشئوا في البلاد المفتوحة نظاماً مدنياً للحكم، فبقيت الأندلس في أيامهم، تعاني ضغط الحكم العسكري المرهق، وكانت تزمت المرابطين الديني، وحجرهم على الأفكار والعقائد، سبباً آخر من أسباب التذمر لدى العقلاء والمفكرين. وكانت الحاميات المرابطية المكونة من أخلاط البربر، تعامل جموع الشعب بصلف وتعال وجفاء، وكانت جموع الشعب من جانبها تحقد عليها، وتنظر إليها بعين المقت والحفيظة، وهذا إلى ما كان يشعر به الشعب الأندلسي بصفة عامة من ألم نفسي عميق لفقد استقلاله وحرياته، في ظل أولئك السادة الجدد، الذين عبروا الى الأندلس باسم إنقاذها، ثم انتهوا بأن فرضوا عليها نيرهم الحديدي. ولم تك ثورة قرطبة سوى أولي البوادر المادية لهذه الثورة النفسية. ومن ثم فقد قدر أمير المسلمين خطورتها، وبادر بالقدوم إلى الأندلس لمعالجة الموقف، وكان في استعداداته العسكرية الضخمة ما ينم عن توجسه من عواقب هذه الفورة التي ربما وجدت صداها في بعض القواعد الأخرى. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 10 ص 197.

ووصل علي بن يوسف بحشوده إلى ظاهر قرطبة في شهر ربيع الآخر سنة 515 هـ (يوليه سنة 1121 م)، وهو ينوي أن يخمد الهياج بشدة، فأغلقت قرطبة دونه أبوابها، واستعد أهلها للدفاع عن أنفسهم، واستفتوا فقهائهم، فأفتوا بأنه متى عرضت الحقائق فيما حدث على أمير المسلمين، وتبين منها أن الأمر لم يكن عدواناً من أهل قرطبة، وإنما كان بالعكس دفاعاً عن الحرم والدماء والأموال، فإن أصر أمير المسلمين على موقفه، واستمع لنصح المفسدين، وجب القتال دفاعاً عن النفس والحرم (¬1). ويقول لنا ابن الأثير من جهة أخرى، إن أمير المسلمين، بادر عند مقدمه بحصار قرطبة، فقاتله أهلها قتال من يريد أن يحمي دمه وحريمه وماله، وأنه لما رأى شدة قتالهم، دخل السفراء بينه وبينهم، وسعوا في الصلح (¬2). على أنه يبدو أنه لم يكن ثمة قتال، وإنما تذرع أمير المسلمين بالهدوء والصبر، وأقام أمام المدينة فترة، حتى تردد إليه وجوه قرطبة وأعيانها. ويقول لنا ابن عذارى إن أمير المسلمين استدعى القاضي أبا الوليد بن رشد (الجد) قاضي قرطبة وفقهاء المدينة، وجرت بينهم أحاديث طويلة في أمر الثورة والانتزاء على الرياسة، واقتحام قصر الوالي وانتهابه، وذكّر أعيان قرطبة أمير المسلمين بوصية أبيه، في أن يقبل من أحسن من أهل قرطبة، وأن يتجاوز عمن أساء منهم. وكان محمد بن داود قاضي إشبيلية في ركاب أمير المسلمين، فجعل يعظم الأمر، ويبالغ في تصوير شناعته، ويقول إنه اجتراء وعصيان وضلال. ودافع القاضي ابن رشد من جهة أخرى عن موقف أهل المدينة، وبين أنهم لم يشقوا عصا ولا نبذوا طاعة، وأنه كان من واجب الوالي أن يعاقب المذنب من عبيده، فقال أمير المسلمين فتمكنوا منهم، فقال ابن رشد ليس لنا قدرة على حصرهم، وإنما يحصرهم صاحب الأمر، ثم بعد ذلك يأمر الصفح عنهم. وانتهت المفاوضات بالاتفاق على أن يقوم أهل قرطبة بالتعويض عما نهب من المرابطين، وارتضى أمير المسلمين هذا الاتفاق، ولكنه غضب لموقف ابن رشد وإيضاحاته، فصرفه عن القضاء، وولى مكانه أبا القاسم بن حَمْدين، وأمر كذلك بصرف الأمير عبد الله ابن تينغمر عن غرناطة، وأسند نظر غرناطة إلى أخيه الأمير أبى الطاهر تميم، وكان يومئذ بفاس، فاستحثه إلى الحضور، ولبث تميم والياً على غرناطة مدى ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 63. (¬2) ابن الأثير ج 10 ص 197.

عامين، ثم عين بعد ذلك والياً لإشبيلية مكان الأمير أبى بكر بن علي بن يوسف، فلبث واليها حتى وفاته في سنة 520 هـ (¬1). ولم يمكث علي بن يوسف هذه المرة طويلا بالأندلس، إذ وافته أنباء مزعجة من مراكش، عن قيام محمد بن تومَرت المهدي ببلاد السوس الأقصى، واستفحال أمره (¬2). ¬_______ (¬1) ابن عذارى في البيان المغرب (من الأوراق المخطوطة، التي عثر بها المؤلف والتي سبقت الإشارة إليها)، وروض القرطاس ص 106 وكذلك: F. Codera: ibid ; p. 237 & 238 (¬2) الحلل الموشية ص 64، 74.

الفصل الثالث سقوط سرقسطة

الفصل الثالِث سقوط سرقسطة سرقسطة وخواص موقعها. موقف أمرائها من الملوك النصارى. إستيلاء المرابطين عليها. أطماع قشتالة وأراجون نحوها. تربض ألفونسو ملك أراجون بها. ولاية الأمير أبى بكر بن ابراهيم لسرقسطة. حكمه اللامع ووفاته. ندب عبد الله بن مزدلي لولاية سرقسطة. أهبة أراجون وحلفائها من النصارى الصليبيين لافتتاحها. محاصرة النصارى لسرقسطة. اختلاف الروايات الإسلامية حول حوادث الحصار. رواية ابن عذارى عن القتال بين أهل سرقسطة والنصارى. عبد الله بن مزدلي ومدافعته للنصارى. صمود المدينة واستمرار الحصار. نضوب الموارد ووفاة ابن مزدلي. مقدم المرابطين بقيادة الأمير تميم. استغاثة أهل سرقسطة بالأمير وإحجامه. الرسالة التي وجهها قاضي سرقسطة إلى الأمير بالاستغاثة واللوم. ما تدلة به هذه الرسالة. بواعث إحجام المرابطين وعوم الاعتداد بها. اضطرار أهل سرقسطة إلى طلب الهدنة. الإتفاق على تسليم المدينة، وشروط هذا التسليم. تسليم سرقسطة، وتحويلها إلى مدينة نصرانية. هجرة أهلها المسلمين. الآثار المترتبة على سقوط سرقسطة. استيلاء ألفونسو المحارب على طرسونة وقلعة أيوب. اهتمام علي بن يوسف بهذه الحوادث. سير الجيوش المرابطية لمقاتلة الأراجونيين. موقعة كتندة وهزيمة المسلمين. سقوط قلعة دروقة. - 1 - مضت ثلاثة وثلاثون عاماً، مذ سقطت طليطلة في يد ألفونسو السادس ملك قشتالة، وجاشت الأندلس بهزتها العنيفة، التي تمخضت عن مقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة نصرة لإخوانهم في الدين، وإحرازهم لنصرهم الباهر في الزلاّقة (479 هـ)، ثم استقرارهم بعد ذلك سادة في الأندلس. ثم شاء القدر، بعد أن لمعت الجيوش المرابطية في غير موقعة وغزوة في أراضي اسبانيا النصرانية، أن تفجع الأمة الأندلسية مرة أخرى، بفقد قاعدة جديدة من قواعدها العظيمة، هي سرقسطة قاعدة الثغر الأعلى. كانت سرقسطة - وقد اشتق اسمها العربي من اسمها الروماني Caesar Augusta - تمثل منذ عهد الإمارة، زعامة الأسر العربية، والرياسة المحلية، في الثغر الأعلى، واستمرت هذه الزعامة قائمة خلال القرن الخامس الهجري، أولا في بني هاشم التجيببيين، ثم في خلفائهم بني هود، حتى وضع مقدم المرابطين حداً

لحياة دول الطوائف، وكانت سرقسطة حسبما تقدم من قبل، آخر القواعد التي سقطت في أيديهم، وذلك في أواخر سنة 503 هـ (1110 م). وقد أشرنا من قبل إلى ما يمتاز به موقع سرقسطة الخاص من الناحيتين الإستراتيحية والقومية. فأما من الناحية الإستراتيجية، فقد كان بُعد سرقسطة عن موسّطة الأندلس، ومركز الحكومة الرئيسية، وموقعها الحصين على الضفة اليسرى لنهر إيبرو (إبرة)، ومناعة أسوارها العالية، تعاون المنتزين بها على تحدي الحكومة المركزية، وتوطيد استقلالهم المحلي، وكانت من جهة أخرى تجعلها حاجزاً طبيعياً بين أراضي المسلمين، وأراضي النصارى. وأما من الناحية القومية، فإن وقوع مملكة سرقسطة المسلمة بين المالك النصرانية - بين إمارة برشلونة من الشرق ومملكتي أراجون ونافار (نبرّة) من الشمال، ومملكة قشتالة من الغرب - كان يحتم عليها أن تتبع نحو جيرانها النصارى، سياسة خاصة، يغلب عليها طابع السلم والتهادن، والملق والخضوع أحياناً في صورة أداء للجزية، وذلك ْحتى تأمن شر أولئك الجيران الطامعين الأقوياء، وكان ملوك سرقسطة فوق ذلك يستخدمون في جيوشهم كثيراً من النصارى المرتزقة، ومن هؤلاء أحياناً قادة مبرزون مثل السيِّد الكمبيادور، وأحياناً كانوا يعتمدون على التحالف مع الملوك النصارى. وهكذا كانت مملكة سرقسطة تُحمل بموقعها وظروفها الخاصة، على اتباع سياسة، تجعلها في شبه عزلة عن باقي الإمارات المسلمة. وقد كان هذا شأنها، حينما قدم المرابطون إلى شبه الجزيرة الإسبانية، وحينما بدأت جيوشهم تستولي تباعاً على قواعد الأندلس الوسطى، ثم الشرقية. ودخل المرابطون مدينة سرقسطة حسبما قدمنا، في أواخر سنة 503 هـ، (1110 م)، استجابة لصريخ أهلها، وكانت آخر القواعد الأندلسية التي استولوا عليها. وشعر المرابطون منذ الساعة الأولى بهذا المركز الدقيق، الذي تحتله سرقسطة في قلب هذا المعترك من الإمارات النصرانية المتوثبة، وشعروا بفداحة مهمتهم في حمايتها والاحتفاظ بها. وكانت مملكة أراجون القوية جارة مملكة سرقسطة من الشمال قد استطاعت أن تنتزع منها بعض قواعدها الشمالية الهامة مثل مونتشون، والمنارة، ووشقة، وبربشتر، ولم يبق لسرقسطة من قواعدها، سوى تطيلة ولاردة وإفراغة، وثغرها على البحر المتوسط طرطوشة.

وكانت مدينة سرقسطة هدفاً لأطماع قشتالة وأراجون معاً. ففي صيف سنة 1085 م (478 هـ) حاصرها ألفونسو السادس ملك قشتالة على أثر استيلائه على طليطلة، محاولا الاستيلاء عليها، ولم يرفع الحصار عنها إلا حينما وافته الأنباء بمقدم المرابطين إلى شبه الجزيرة. فغادرها على عجل ليجمع سائر قواته، وليقي هزيمته في الزلاّقة في شهر رجب 479 هـ (أكتوبر 1086 م). ولما رأى المستعين ابن هود ملك سرقسطة يومئذ، اشتداد ضغظ النصارى على مملكته، ورأى جهة أخرى انسياب الجيوش المرابطية إلى شرقي الأندلس، واقترابها من الثغر الأعلى، اعتزم أن يتقرب من المرابطين، وأن ينضوي تحت لوائهم، فبعث إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين سفارتين متواليتين، وكان يوسف يرى أن تترك سرقسطة، حاجزاً بين المرابطين والنصارى، وبهذا أوصى ولده علياً قبيل وفاته، ولكن الحوادث تطورت فيما بعد، وانتهت باستيلاء المرابطين على سرقسطة وباقي قواعد الثغر الأعلى. - 2 - لما استقر المرابطون في سرقسطة تحت إمرة قائدهم محمد بن الحاج أول ولاتها من اللمتونيين، كانت حوادث الثغر الأعلى، تنذر باقتراب الخطر الداهم، وكان النصارى قد أنشأوا منذ سنة 1091 م (484 هـ) على ضفة نهر إيبرو اليسرى شمالي سرقسطة حصناً قوياً، يقع على قيد أربعة فراسخ فقط منها، واتخذوه قاعدة للضغط عليها، وإرهاقها من آن لآخر، وكان ألفونسو الأول ملك أراجون الملقب بالمحارب El Batallator ، والمسمى " ابن رذمير " في الرواية العربية، يترقب الفرص لمهاجمة سرقسطة، وسبر غور المدافعين عنها، وكانت قواته قد وصلت شرقاً حتى ظاهر لاردة، وأحتلت قلعة تاماريت القريبة منها وذلك في سنة 1107 م. ولما احتل المرابطون سرقسطة، سار إليها ألفونسو في العام التالي (504 هـ - 1111 م) وحاول مهاجمتها، فردته عنها القوات المرابطية بقيادة ابن الحاج ومحمد ابن عائشة والي مرسية. ثم شغل ألفونسو بعد ذلك حيناً بالحرب التي نشبت بينه وبين زوجته أورّاكا ملكة قشتالة، وانتهز المرابطون، من جهة أخرى، تلك الفرصة، فقاموا ببعض الغزوات المخربة في أراضي إمارة برشلونة، وحاصروا الثغر العظيم ذاته حسبما فصلنا ذلك من قبل. ولما قتل ابن الحاج حين عودته من

تلك الغزوة (508 - 1114 م)، خلفه في ولاية سرقسطة الأمير أبو بكر بن ْابراهيم بن تافلوت المسّوفي والي مرسية، وهو ابن عم أمير المسلمين علي بن يوسف وصهره - زوج أخته - فلبث في ولايتها زهاء عامين. وقد كان هذا الأمير من خيرة أمراء الدولة المرابطية، كرماً وجوداً وشجاعة، وظهوراً في ميدان الفضائل، وقد أقام خلال عهده القصير بسرقسطة بلاطاً فخماً كبلاط الملوك، واستوزر الفيلسوف الشهير أبا بكر بن الصائغ المعروف بابن باجّة، وخاض حياة باذخة فخمة، ومن حوله الأدباء والندماء، وانهمك في اللذات والشراب، وذلك كله بالرغم مما كانت تجوزه سرقسطة يومئذ من ظروف حرجة واحتمالات خطرة. بيد أنه يبدو من إشارة لابن عذارى، أنه سار في سنة 510 هـ، إلى حصن روطة وغزاه، وأنه غزا كذلك برجة وبها عماد الدولة بن هود؛ ويبدو من إشارة أخرى لابن الخطيب، أنه قد خاض خلال تلك الفترة مع النصارى، بعض معارك دفاعية، كان لهم فيها التفوق على القوات المرابطية. ويبدو من جهة أخرى أن ألفونسو ملك أراجون، هو الذي كان يضطلع بهذه الغزوات المرهقة (¬1). ثم توفي الأمير أبو بكر سنة 510 هـ أو في سنة 511 هـ، على قول آخر (¬2). ولما اتصل نبأ وفاته بالأمير أبى إسحاق إبراهيم بن يوسف، أخى أمير المسلمين علي بن يوسف، وهو يومئذ والى مرسية، بادر بالسير إلى سرقسطة فنظر في شئونها، وضبط أحوالها، ولما اطمأن إلى توطيد أمورها عاد إلى مرسية مقر ولايته (¬3). وإنه لما يلفت النظر أنه لم يعين في تلك الآونة العصيبة، التي لاح فيها الخطر داهماً على سرقسطة، والٍ جديد يخلف على الفور واليها المتوفى، خصوصاً وقد كان أمير المسلمين علي بن يوسف موجوداً في تلك الفترة بالذات (511 هـ - 1117 م) في شبه الجزيرة، عقب جوازه الثالث إليها. وأعجب من ذلك هو أن علي بن يوسف، بدلا من أن يتجه بجيوشه الجرارة العابرة معه، إلى مواطن الخطر في الثغر الأعلى، يؤثر أن يضطلع بغزوات عقيمة في أراضي البرتغال، يستولي ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة، هسبيرس ص 78)، والإحاطة لابن الخطيب (القاهرة 1956) ج 1 ص 416، حيث يقول في ترجمة الأمير أبى بكر " توفي بسرقسطة في سنة عشر وخمسمائة، بعد أن ضاق ذرعاً بطاغية الروم، الذي أناخ عليه بكلكله ". (¬2) يقول بالرواية الأولى ابن الخطيب (الهامش السابق). ويقول بالثانية ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة التي عثر بها المؤلف في مكتبة جامع القرويين بفاس). (¬3) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر).

خلالها على مدينة قُلُمرية، ثم يتركها عقب افتتاحها. وعلى أي حال، فإنه بعد أن لبثت سرقسطة حيناً دون والٍ، نُدب عبد الله بن مزدلي والى غرناطة ليكون والياً لبلنسية وسرقسطة، وذلك فيما يبدو في أواخر سنة 511 هـ (أواخر 1117 م) (¬1). وهنا يحيق الغموض بحركات النصارى وحركات والي سرقسطة الجديد. ذلك أنه من المسلم به، ومن المتفق عليه في الروايتين العربية والإفرنجية، أن حصار النصارى لسرقسطة بدأ في شهر صفر سنة 512 هـ، الموافق لشهر مايو سنة 1118 م. ونقول هنا حصار النصارى بصفة عامة، لأن الجيش المحاصر لم يكن مكوناً فقط من الأرجونيين، أعداء سرقسطة الأصليين، بل كان يضم طوائف عديدة أخرى من الفرنج. والواقع أننا نجد أنفسنا في هذا الموطن أمام حملة صليبية حقيقية. ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه ملك أراجون ألفونسو المحارب، يوالي الضغط على سرقسطة، ويجد في انتزاع حصونها الأمامية حتى أنه استولى على تطيلة في سنة 1117 م، ووصل في أوائل سنة 1118 م إلى موريلا القريبة منها، كان صدى دعواته وحركاته ضد المسلمين يعمل عمله في الناحية الأخرى من جبال البرنيه، وكانت الحرب الصليبية الأولى، قد انتهت قبل ذلك بعشرين عاماً في الشرق باستيلاء الصليبيين على بيت المقدس (1099 م) وازدادت الروح الصليبية اضطراماً، في فرنسا وفي اسبانيا. ففي سنة 1117 م، عبرت حملة قوية من الفرنج أهل بيارن بقيادة جاستون دي بيارن وأخيه سانتولو - وكانا قد اشتركا بالمشرق في الحرب الصليبية الأولى -، إلى اسبانيا، لتشترك مع الأرجونيين في افتتاح سرقسطة. وفي العام التالي (1118 م) عقد بمدينة تولوز (تولوشة) مؤتمر من أساقفة آرل، وأوش، ولاسكار، وبنبلونة، وببشتر، وتقرر فيه أن ترسل حملة صليبية أخرى إلى اسبانيا يقودها الكونت دي تولوز، وحشدت فوق ذلك قوات كبيرة من البشكنس، ومن قطلونية، ومن أورقلة تحت إمرة سادة هذه المناطق، وكان بين المقاتلين كثير من الأساقفة ورجال الدين (¬2). وتنوه الرواية الإسلامية بضخامة هذه الحملات الفرنجية التي اشتركت في حصار سرقسطة وافتتاحها، وتصفها إحدى الروايات بأنها كانت أمماً كالنمل والجراد، أو أنها أقبلت في عدد لا يحصى أكثره من ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 105. (¬2) يراجع في ذلك مقال عن افتتاح سرقسطة بقلم الأستاذ Mar'a Lacarra J. نشر بمجلة الأندلس Al-Andalus (1947) Fas. I. p. 78-80

خريطة: الثغر الأعلى وما يليه مواقع حروب المرابطين والنصارى حتى موقعة إفراغة سنة 528 هـ.

من الجند والرماة (¬1)، وفي روية أخرى أن الفرنج بلغوا خمسين ألف فارس (¬2). - 2 - وهكذا اجتمعت الجيوش النصرانية المتحدة من الأرجونيين والفرنج، وسارت لافتتاح سرقسطة، وفي بعض الروايات أن الذي بدأ بالحصار هو الجيش الفرنجي الذي يقوده جاستون دي بيارن، وأن ألفونسو المحارب قدم بعد ذلك في قواته من قشتالة (¬3). وبدأ حصار سرقسطة وفقاً للرواية الإسلامية في مستهل شهر صفر سنة 512 هـ (¬4)، ويوافق ذلك يوم 22 مايو سنة 1118، وهو التاريخ الذي تضعه الرواية الفرنجية. وهنا يبدأ الغموض في تعقب حوادث الحصار، ونجد أنفسنا أمام طائفة من الروايات المتناقضة، فهناك أولا القول بأن سرقسطة انتهت بعد حصار دام أشهراً، أو دام بالتحديد تسعة أشهر، بالتسليم صلحاً. وهذه رواية ابن الكردبوس في " الإكتفا " وابن عبد المنعم الحميري في الروض المعطار (¬5). بيد أن هذه رواية ضعيفة أو بعبارة أخرى رواية ناقصة. وأما الروايات الأخرى وهي عديدة، عربية وإفرنجية، فإنها تتفق في أنه وقعت خلال الحصار معارك عديدة بين المسلمين والنصارى، وأن سرقسطة لم تسلم صلحاً، وإنما أرغمت على التسليم إرغاماً، بعد أن برّحت بأهلها أهوال الحصار، وبعد أن هزم أهلها في غير معركة، وهزم المرابطون الذين تصدوا للدفاع عنها. وتقدم إلينا الرواية الإسلامية تفاصيل مختلفة عن حوادث الحصار، والمعارك التي سبقته أو اقترنت به، فيقول لنا صاحب روض القرطاس، إن عبد الله بن مزدلي لما ولي سرقسطة في سنة 511 هـ، سار إليها من غرناطة، فوجد ابن رذمير قد أذاق أهلها شراً، فاشتبك معه عبد الله في عدة معارك شديدة حتى هزمه، وأخرجه من البلدة، ولبث عبد الله بعد ذلك عاماً آخر في سرقسطة ثم توفي، فبقيت دون أمير " فأتاها ابن رذمير فنزلها، وأتى ألفنش أيضاً في أمم لا تحصى من قبائل الروم، فنزل لاردة من بلاد الجوف، فاتصل الخبر بأمير المسلمين علي ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 106، والبيان المغرب (من الأوراق المخطوطة السالفة الذكر). (¬2) الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 98. (¬3) مقال الأستاذ لاكارا السالف الذكر ص 80. (¬4) ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر). (¬5) ابن الكردبوس (مخطوط أكاديمية التاريخ السالف الذكر لوحة 164 ب) والروض المعطار ص 97 و 98.

ابن يوسف، فكتب إلى أمراء الأندلس بالمسير إلى أخيه تميم، وكان والياً على شرق الأندلس، ليسيروا معه لاستنقاذ سرقسطة ولاردة، فقدِم على تميم، عبد الله بن مزدلي، وأبو يحيى بن تاشفين صاحب قرطبة، بعساكرهما، فخرج تميم بن يوسف من بلنسية مع أمراء لمتونة، فقصد نحو لاردة، وكان بينه وبين ألفنش قتال عظيم، أقلعه عن لاردة خاسئاً خاسراً بعد أن بذل جهده في قتالها، وفقد عليها من جيوشه ما يزيد على العشرة آلاف رجل، ورجع تميم إلى بلنسية " (¬1). وربما كانت رواية ابن عذارى أكثر وضوحاً واتساقاً. فهو يقول لنا إنه في سنة اثنتي عشرة وخمسمائة ولّى أمير المسلمين علي بن يوسف أخاه الأمير أبا الطاهر تميماً إمرة بلاد شرقي الأندلس لما ضيق العدو عليها، وأعمل عزمه وحزمه إليها، وذلك أنه لما رأى " أذفونش " ضعف سرقسطة، وتفرق الجيش عنها، بعد موت الأمير أبى بكر بن إبراهيم، جد في الحشد إليها واستجاش للإفرنجة، فأقبلت في عدد لا تحصى، أكثرهم جند ورماة، فاحتل سرقسطة مستهل صفر من هذه السنة (512 هـ) فخرج المسلمون إليهم، ونشبت الحرب بينهم، فحمل الروم عليهم، فانهزم الناس، وهم في أثرهم إلى ربض الدباغين، إلى القنطرة، فازدحموا بها، وقد حصل الروم معهم فيها. فبادر المسلمون بإلقاء النار عليها، فاحترقت القنطرة إلى أقصاها، ولولا المناجزة بين الربض والمدينة لكانت الحالقة، وبات الناس على الأسلحة، وخمسوا أبواب المدينة، واتصل الحصار وتواترت الحرب، وكان أذفونش قد تخلف عن .. فلحق بعد نصف شهر، فتعاضد العدو، وقد أمد، وزاد كلبه واشتد، ولنحو الشهر تغلبوا على قصر ... بالجعفرية، وهو قبيل ميل من سرقسطة، وكان عبد الله بن مزدلي أوان نزول الروم على سرقسطة بالعسكر، على جيان لحماية ذلك الثغر عن عدو طليطلة ". ويزيد ابن عذارى على ذلك، أنه لما توالى تضييق العدو على سرقسطة وحصارها وهزيمة أهلها، وتحريق قنطرتها، ونزول العدو على قصرها المعروف بالجعفرية، اتصل الخبر بعبد الله بن مزدلي، فسار الجيش إليها ولحق به مدد من جيش قرطبة، فقويت نفوس أهل سرقسطة، ولحق الجيش بطرسونة، ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 105 و 106، ويلاحظ ما في هذه الرواية من تناقض أولا في القول بموت عبد الله بن مزدلي ثم مثوله ثانية للقتال مع الأمير تميم، وثانياً في التفرقة بين ابن رذمير وألفنش وابن رذمير هو ألفونسو المحارب، وهما شخص واحد.

وقد شد العدو غارته عليها، فجد في اتباعه وأدركه غير بعيد، فهزم الله العدو، وأظهر على يد عبد الله بن مزدلي عجائب في هذه الغزوة لم يعهد مثلها، منذ مدة بعيدة قبلها. ثم احتل بتطيلة، وتلوم بها، وأقلع الفرنج عن سرقسطة، فرأى الأمير عبد الله بعد تلومه أن ينهض إليها، فترك الحمولة ومدد قرطبة، وانتخب أنجاد العسكر، وصمم إلى سرقسطة، فدخلها في أوائل جمادى الآخرة، وقد استنشق أهلها ريح الحرب. وفي خلال ذلك اعتل الأمير عبد الله المذكور، فتوفي في رجب، فكتم وفاته أياماً، ثم انبث الخبر وعلم به رذمير، ففغر على البلد فمه، وألقى عليه زوره. وقد نفدت الأقوات، وبلغ الميقات، فدخله بالمعاهدة والأمنة في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان المعظم من السنة المؤرخة (أعني 512 هـ) " (¬1). وعلى أي حال، فإنه بالرغم مما يوجد بين الروايتين من اختلاف في الوقائع والتفاصيل، يمكننا أن نستخلص منهما حقيقتين هامتين: الأولى أنه وقعت قبل حصار سرقسطة، أو خلال الحصار، معارك شديدة بين المسلمين والنصارى، والثانية هو أن عبد الله بن مزدلي، آخر ولاة سرقسطة المسلمين، قد اشترك بقواته في هذه المعارك وأبلى فيها. وثمة مسألة أخرى، ينفرد بها صاحب روض القرطاس، وهي أن القوات المرابطية المشتركة، سارت لاستنقاذ سرقسطة بقيادة الأمير أبى الطاهر تميم، واشتبكت عند لاردة في موقعة شديدة مع ألفونسو المحارب، وأنزلت به هزيمة ساحقة، وأن تميماً عاد على أثر ذلك إلى مقر ولايته بلنسية، وهذه مسألة سوف نعود إلى مناقشتها. - 3 - بدأ حصار سرقسطة حسبما قدمنا، في مستهل شهر صفر سنة 512 هـ (22 مايو سنة 1118 م)، وطوقتها قوات كثيفة من الفرنج والأرجونيين، والبشكنس والقطلان وغيرهم. وكانت سرقسطة، فضلا عن حصانتها الطبيعية بموقعها جنوبي نهر إيبرو على ضفته اليسرى، تعتمد في الدفاع على أسوارها العالية القوية، وهي ترجع إلى أصل روماني، وعلى قلعتها المنيعة، وكان قصرها الشهير المسمى بالجعفرية، نسبة إلى مؤسسه أبى جعفر المقتدر بن هود، يقع خارج الأسوار، غربي سرقسطة على قيد نحو ميل منها، وعلى مقربة من النهر، ومن ثم فقد احتله ¬_______ (¬1) البيان المغرب من الأوراق المخطوطة التي عثر بها المؤلف في مكتبة جامع القرويين بفاس.

النصارى لأول مقدمهم. وجاء المحاصرون معهم بأبراج خشبية عالية تجري على بكرات لكي يستطيع المهاجمون بها محاذاة الأسوار العالية، لينصبوا فوقها الرعدات، وجاءوا كذلك بعشرين منجنيقاً ضخمة لدك الأسوار (¬1)، وكان الذي يشرف على آلات الحصار واستعمالها، طائفة من أهل بيارن ممن اشتركوا في حصار بيت المقدس. وتمرسوا في استعمال هذه الآلات. واستمر حصار سرقسطة سبعة أشهر. والظاهر أنه استطال أكثر مما قدر ألفونسو المحارب وحلفاؤه. ذلك أنه في الوقت الذي كان فيه أهل سرقسطة، يعانون ويلات الحصار داخل الأسوار، كان المعسكر النصراني منذ مقدم الخريف، يعاني من نقص المؤن، ويهدده الجوع بشبحه المروع، حتى لقد فكر قادة الجيش النصراني في رفع الحصار، لولا أن شجعهم أسقف وشقة وزملاؤه، ووضعوا تحت تصرفهم ذخائر عدة من الكنائس يجلبون بثمنها الأقوات (¬2). أما في داخل سرقسطة، فقد كانت الأقوات تنضب يوماً بعد يوم، خصوصاً وأن أهل المدينة المحصورة لم يتمكنوا من جني محاصيلهم لتبكير النصارى في فرض الحصار، وكان من العسير عليهم أن يتلقوا أية مؤن من الخارج، لإحكام الحصار حول المدينة، من ناحية النهر وناحية البر. ومضت الأشهر تباعاً والحال تشتد شيئاً فشيئاً، حتى " فنيت الأقوات، وفنى أكثر الناس جوعاً " (¬3). ووقع خلال ذلك حادث زاد في وجوم أهل المدينة، وارتباك تدابير الدفاع، هو وفاة واليها عبد الله بن مزدلي، في أوائل جمادى الآخرة (سبتمبر 1118 م). والظاهر أنه لم يخلفه في الرياسة أحد من أهل المدينة، فترك الأمر فوضى وأخذت الخاتمة المروعة تدنو شيئاً فشيئاً. وهنا وقبل أن نتحدث عن خاتمة سرقسطة الإسلامية، يحق لنا أن نتساءل أولا، ما الذي حدث خلال الحصار من الحوادث والوقائع؟ وهل نشبت بين المسلمين والنصارى عندئذ بعض المعارك؟ ثم ماذا كان موقف المرابطين، وهل حاولوا إنقاذ المدينة المحصورة؟ وفي أي الظروف؟ فأما ما وقع خلال هذه المرحلة الأخيرة من الحصار من الحوادث والوقائع، فإن معظم الروايات الإسلامية تلتزم الصمت إزاء ذلك. بيد أنها في موطن واحد ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 106. (¬2) الأستاذ Lacarra في مقاله السالف الذكر بمجلة الأندلس والمراجع. (¬3) روض القرطاس ص 106.

تذكر لنا ما يؤيد هذه الحقيقة الهامة، وهي أن جيشاً مرابطياً بقيادة الأمير أبى الطاهر تميم - وقد كان عندئذ حسبما تقدم والياً لشرقي الأندلس - وصل في أواخر أيام الحصار (نحو منتصف شهر شعبان الموافق شهر ديسمبر) إلى مقربة من سرقسطة، وذلك فيما يرجح بقصد محاولة إنقاذها، فخرج إلى الأمير تميم زعيمان من زعماء المدينة، هما الفقيه علي بن مسعود بن إسحق بن إبراهيم بن عصام الخولاني وهو من أكابر علماء سرقسطة وحفاظها وأدبائها، وكان متولياً قضاء ميورقة، والخطيب أبو زيد بن منتيال، وحدثاه باسم أهلها بمحضر أبى الغمر الشايب بن غرون، عن أهبات النصارى، ووجوب مناجزة العدو، ولكن الأمير تميماً " جبن عن ذلك " وكان انتقاله بالجيوش عن سرقسطة، حسبما يقول ابن الأبار صاحب هذه الرواية، سبباً في نجاح النصارى في الاستيلاء على المدينة (¬1). بيد أن إحدى الروايات النصرانية، تقول لنا بالعكس إنه قد وقعت في يوم 6 ديسمبر سنة 1118 معركة عنيفة بين قوات ألفونسو المحارب، وجيش قوي من المرابطين انتهت بظفر النصارى، ولم تمض على ذلك أيام قلائل حتى سلمت المدينة، وذلك بعد أن انتهت المهلة الممنوحة للمحصورين (¬2). على أنه توجد وثيقة مخطوطة هامة تؤيد ما جاء في الرواية الأولى وتؤكده، وهذه الوثيقة هي عبارة عن رسالة مؤثرة، بل مبكية، كتبها قاضي سرقسطة ثابت ابن عبد الله، وجماعة من أهلها إلى الأمير تميم يتضرعون إليه، في عبارات مؤثرة، ولكن أبيه حازمة باسم الدين والوطن، أن يتقدم لإنجاد سرقسطة وإنقاذ أهلها، وألاّ ينكص على عقبيه أمام النصارى، وقد استهلت هذه الرسالة بالتاريخ الذي كتبت فيه، وهو يوم الثلاثاء السابع عشر من شعبان (512 هـ)، أعني لستة أشهر ونصف من بدء الحصار، وقبل تسليم المدينة بثمانية عشر يوماً فقط، وفيها يصف الكاتب ما عاناه أهل سرقسطة من أهوال الحصار والجوع، ثم يشير إلى مقدم الأمير، تميم بعساكره، ويلومه على إحجامه عن لقاء النصارى في قوله: ¬_______ (¬1) وردت هذه الرواية خلال ترجمة ابن الأبار للفقيه علي بن مسعود الخولاني، وقد نشرت مع تراجم أخرى ملحقاً لتراجم " التكملة " وذلك في كتاب المستشرقين الإسبانيين G.Palencia و M. Alarcon, تحت عنوان Miscalanea de Estudios y Textos Arabes (Madrid 1916) p. 205 وعثرنا على نفس هذه الترجمة أيضاً في كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (المخطوط المصور المحفوظ بالخزانة العامة بالرباط) الجزء الأول. (¬2) أوردها الأستاذ Lacarra في مقاله السالف الذكر.

" وما كان إلا أن وصلت وصل الله برك بتقواه، على مقربة من هذه الحضرة، ونحن نأمل منك بحول الله أسباب النصرة، بتلك العساكر التي أقر العيون بهاؤها، وسر النفوس زهاؤها، فسرعان ما انثنيت وما انتهيت، وارعويت، وما أدنيت، خايباً عن اللقاء، ناكصاً على عقبيك عن الأعداء، فما أوليتنا غَنَاء، بل زدتنا بلاء وعلى الداء داء، بل أدواء، وتناهت بنا الحال جهداً والتواءً، بل أذللت الإسلام والمسلمين، واجترأت فضيحة الدنيا والدين. فيالله وياللإسلام، لقد اهتضم حرمه وحماه أشد الاهتضام، إذ أحجمت أنصاره عن إعزازه أقبح الإحجام، ونكصت عن لقاء عدوه وهو في فئة قليلة، ولمة رذيلة، وطايفة قليلة ". ثم يشير الكاتب بعد ذلك إلى أهمية سرقسطة الدفاعية وعواقب سقوطها الوخيمة على مركز المرابطين في شبه الجزيرة في قوله: " فما هذا الجبن والفزع، وما هذا الهلع والجزع، بل ما هذا العار. والضيع، أتحسبون يا معشر المرابطين، وإخواننا في ذات الله المؤمنين، إن سبق على سرقسطة القدر، بما يتوقع منه المكروه والحذر، أنكم تبلغون بعدها ريقاً، وتجدون في ساير بلاد الأندلس عصمها الله، مسلكاً من النجاة أو طريقاً - كلا والله ليسومنّكم الكفار عنها جلاء وفراراً، وليخرجنّكم منها داراً فداراً، فسرقسطة حرسها الله هي السد الذي إن فتق، فتقت بعده أسداد، والبلد الذي إن استبيح لأعداء الله، استبيحت له أقطار وبلاد، فالآن أيها الأمير الأجل، هذه أبواب الجنة قد فتحت، وأعلام الفتح قد طلعت، فالمنية ولا الدنية، والنار ولا العار، فأين النفوس الأبية، وأين الأنفة والحمية، وأين الهمم المرابطية، فلتقدح عن زنادها، بانتضاء حدها، وامتضاء جدها، واجتهادها، وملاقاة أعداء الله وجهادها، فإن حزب الله هم الغالبون ". ويتوجه الكاتب في ختام رسالته، بالضراعة إلى الأمير أن يقبل على سرقسطة، وألا يتأخر قبل وقوع الكارثة فيقول: " ولن يسعك عند الله، ولا عند مؤمن، عذر في التأخر والارعواء من مناجزة الكفار والأعداء. وكتابنا هذا أيها الأمير الأجل، اعتذار تقوم لنا به الحجة في جميع البلاد، وعند ساير العباد، في إسلامكم إيانا إلى أهل الكفر والإلحاد، ونحن مؤمنون، بل موقنون إجابتك إلى نصرتنا، وإعدادك إلى الدفاع عن

حضرتنا، وأنك لا تتأخر عن تلبية نداينا، ودعاينا إلى استنقاذنا من أيدي أعداينا. . فأقبل بعسكرك على مقربة من سرقسطة، عصمها الله، ليخرج الجميع عنها، ويبرأ إلى العدو وقمه الله منها، ولا تتأخر كيفما كان طرفة عين، فالأمر أضيق، والحال أزهق، فعدِّ بنا عن المطل والتسويف، قبل وقوع المكروه والمخوف، وإلا فأنتم المطالبون عند الله بدماينا وأموالنا، والمسئولون عن صبيتنا وأطفالنا، لإحجامكم عن أعداينا، وتثبطكم عن إجابة نداينا، وهذه حال نعيذك أيها الأمير الأجل عنها، فإنها تحملك من العار ما لم تحمله أحداً، وتورثك وجميع المرابطين الخزى أبدا. . ومهمى تأخرتم عن نصرتنا، فالله ولي الثار لنا منكم، ورب الانتقام، وقد بريتم بإسلامنا للأعداء، من نصر الإسلام، وعند الله لنا لطف خفي، ومن رحمته ينزل الصنع الخفي، ويغنينا الله عنكم، وهو الحميد المغني " (¬1). كتبت هذه الرسالة المؤثرة قبيل سقوط سرقسطة بفترة يسيرة، وإنه لتبدو من تلك الفقرات التي نقلناها منها، حقيقة لا شك فيها، وهي أن جيشاً مرابطياً بقيادة الأمير أبى الطاهر تميم، قدم إلى سرقسطة قبيل سقوطها لاستنقاذها من أيدي النصارى، وعسكر على مقربة منها، وتقول إحدى الروايات النصرانية، إن هذا الجيش قد وصل إلى حصن سانتا ماريا الواقع على بعد ثمانية عشر كيلومتراً من سرقسطة (¬2) ولكن ما الذي فعل هذا الجيش بالضبط؟ وهل بذل أية محاولة جدية لاستنقاذ سرقسطة والدخول مع النصارى في معركة حاسمة؟ إنه مع استثناء الرواية النصرانية التي أشرنا إليها من قبل، والتي تقول بأن معركة عنيفة وقعت بين ¬_______ (¬1) نشرنا هذه الرسالة بأكملها في باب الوثائق. وقد نقلناها عن مخطوط الإسكوريال رقم 488 الغزيري، لوحة 59 أإلى 61 ب. هذا وقد نشر هذه الرسالة وانتفع بها من قبل صديقي الدكتور حسين مؤنس في بحث عنوانه " الثغر الأعلى الأندلسي في عصر المرابطين " (مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة - المجلد الحادي عشر الجزء الثاني ديسمبر سنة 1949). بيد أنه ذهب في التمهيد إليها (ص 133) إلى نتيجة نحسب أنها لا يمكن أن تدلي بها، فذكر أنها بالمقارنة بالوثيقتين الأخريين المنشورتين بعدها، قد كتبت في سنة 523 هـ أعني بعد سقوط سرقسطة بإحدى عشر عاماً. هذا في حين أن نص الرسالة وفقراتها المتوالبة تدلي قطعاً بأنها كتبت وقت حصار سرقسطة وقبيل سقوطها بقليل، في شهر شعبان سنة 512 هـ، ومن الواضح أنها دعوة يائسة موجهة إلى قائد المرابطين يومئذ الأمير أبى الطاهر تميم، بأن يتقدم بجنده، وقد كان على مقربة من سرقسطة، لإنجاد المدينة المحصورة وإنقاذها قبل فوات الوقت. وأقطع دليل على صحة هذا الرأي فضلا عن نص الرسالة ذاته، هو أن الأمير أبا الطاهر تميم قد توفي بقرطبة في سنة 520 هـ (روض القرطاس ص 106). (¬2) مقال الأستاذ Lacarra السالف الذكر، نقلا عن المؤرخ Zurita

المرابطين والنصارى، هزم فيها المرابطون، ثم سلمت المدينة على أثر ذلك، يبدو مما جاء في هذه الرسالة، أن الجيش المرابطي التزم الجمود والإحجام، ولم يبذل أية محاولة لإنقاذ المدينة، ثم ارتد بعد ذلك على أعقابه، وهذا ما يؤيده رواية ابن الأبار التي سبقت الإشارة إليها. ثم يؤيده أيضاً مع اختلاف في تصوير الوقائع، ما ورد في روض القرطاس، من أنه بعد سقوط سرقسطة، وصل من العدوة جيش من عشرة آلاف فارس، بعثه أمير المسلمين على لاستنقاذها، فوجدها قد فرغ منها وملكها العدو، ونفذ حكم الله فيها (¬1). - 4 - وإنه ليحق لنا أن نتساءل بعد ذلك عن البواعث التي حملت قائد الجيش المرابطي الأمير أبا الطاهر تميم، على اتخاذ هذا الموقف السلبي، في مثل هذه الآونة العصيبة من حياة المدينة المسلمة العظيمة، وحملت الجيش المرابطي على الإحجام عن لقاء العدو في محاولة يائسة لإنقاذها. فأما من الناحية العسكرية، فإنه يمكن أن يقال إن ذلك قد يرجع إلى تفوق النصارى في الكثرة على الجيش المرابطي، تفوقاً خشي معه الأمير تميم أن يدخل في معركة غير مأمونة العواقب. وتميمٌ لم يكن من أكابر القادة المرابطين، وإنما كان يقود الجيش بصفته الأميرية، ولم يكن انتصاره، في موقعة أقليش راجعاً إلى مقدرته وصفاته الخاصة، وإنما كان راجعاً بالأخص إلى شجاعة قائديه المجربين محمد بن عائشة، ومحمد بن فاطمة، ولولاهما لما اشتبك في المعركة ولآثر الارتداد. وكان الجيش المرابطي قد فقد إلى ذلك الحين معظم قادته العظام، أمثال سير بن أبي بكر، ومزدلي، وعبد الله بن فاطمة، ومحمد بن الحاج، ويمكن أن يقال أيضاً إن موقع سرقسطة بعيداً عن مراكز تموين الجيش المرابطي وإمداده في بلنسية ومرسية وقرطبة، لم يكن مما يشجع على القيام بأية محاولة عسكرية خطيرة. على أن هذه الأعذار العسكرية وأمثالها، لم تكن تكفي لتبرير موقف الجيش المرابطي، وإحجامه عن القيام بعمل إنقاذ مشرف، واتقائه بذلك صدع هيبته في أنحاء شبه الجزيرة، ولوم التاريخ والأجيال. وإنما قد ترجع البواعث الحقيقة لتقاعس المرابطين عن المغامرة بإنقاذ سرقسطة، إلى أنهم كانوا يشعرون بأن الاحتفاظ بهذه المنطقة النائية من شبه الجزيرة - منطقة الثغر الأعلى - كان يلقي ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 106.

عليهم مسئوليات عظيمة، لوقوعها بين أعداء أقوياء يتربصون بها باستمرار، وأن سرقسطة لم تكن بظروفها وروح شعبها كثيرة الولاء لحكمهم، ومن ثم فإن المرابطين لم يعنوا فيما يبدو، بأن يتجشموا في سبيل إنقاذها تضحيات عسكرية عظيمة. وهكذا تركت سرقسطة لمصيرها، واضطرت بعد أن عانت من أهوال الحصار، وعصف الجوع والحرمان والمرض، أشنع الخطوب والمحن، وبعد أن يئس أهلها من إجابة صريخهم، وتلقي الإنجاد من أي مكان، أن يخاطبوا ألفونسو (ابن رذمير) أن يمنح أهلها هدنة مؤقتة (لم تعين لنا الرواية مدتها)، فإذا لم يأتهم الإنجاد المنشود، سلمت إليه المدينة، وتعاهد الفريقان على ذلك، ثم مضى هذا الأجل دون أن يتلقى المحصورون أية معونة، فاضطرت المدينة إلى التسليم (¬1). وتلخص الرواية العربية الوحيدة - وهي رواية ابن الكردبوس - شروط هذا التسليم فيما يلي: أن تسلم سرقسطة إلى ملك أراجون (ابن رذمير)، ومن أحب المقام بها من أهلها فله ذلك، على أن يؤدي جزية خاصة، ومن أحب أن يرحل إلى حيث شاء من بلاد المسلمين، رحل وله الأمان التام، وعلى أن يسكن الروم (الأرجونيون والفرنج) المدينة، والمسلمون ربض الدباغين، وعلى أن كل أسير يفلت للروم من المدينة ويحصل عند الإسلام، فلا سبيل لمالكه إليه ولا اعتراض له عليه. وقد كان ربض الدباغين من أحياء سرقسطة المتطرفة، ويقع على ضفة النهر اليمني، حسبما يبدو ذلك من أقوال ابن عذارى التي تقدم ذكرها. وكانت سياسة الملوك النصارى، فيما يتعلق بمن يبقى من السكان المسلمين في المدن المفتوحة، هو أن يسمح لهم بالبقاء في منازلهم داخل المدينة لمدة سنة أو نحوها، ثم يلزمون بعد ذلك بالانتقال إلى الأرباض، وهي الأحياء المتطرفة أو الضواحي، وقد منح سكان سرقسطة وفقاً للرواية النصرانية هذا الامتياز بالبقاء في أحيائهم داخل المدينة مدى عام، ينتقلون بعده إلى ربض الدباغين، وغيره من الأرباض الخارجية، وهذا هو ما اتبع فيما بعد في عهود تطيلة وطرطوشة وغيرهما من قواعد الثغر المفتوحة. ويضيف ابن الكردبوس إلى ما تقدم، أنه ما كاد ملك النصارى يستقر بالمدينة، حتى غادرتها كثرة أهلها المسلمين، وأنه لما شهد جموعهم الزاخرة ركب بنفسه إليهم، وأمرهم أن يبرزوا جميع ما لديهم، فأبرز الفارون أموالا لا تحصى، ولكنه ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 106.

بعد أن رآها سمح لهم بالاحتفاظ بها، وتركهم يسيرون إلى حيث شاءوا في أمان، ووجه معهم من رجاله من يشيعهم إلى داخل أعماله، ولم يأخذ منهم سوى مثقال واحد عن كل أحد من الرجال والنساء والأطفال (¬1). وتضح الرواية الإسلامية تاريخ تسليم سرقسطة في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان سنة 512 هـ، وهو يوافق 18 ديسمبر سنة 1118 م (¬2)، وتضع الرواية النصرانية هذا التاريخ في يوم 11 ديسمبر، أو في 18 ديسمبر (¬3). ودخل ألفونسو الأرجوني وحلفاؤه المدينة، بعد أن قطع لأهلها المسلمين العهود المذكورة، وسمح لهم مدى فترة قصيرة باستبقاء قاضيهم ابن حفصيل، وبالإحتكام إلى شريعتهم. ولكن مسجد سرقسطة الجامع، حول منذ السادس من يناير سنة 1119 م إلى كنيسة سلمها ألفونسو المحارب إلى الرهبان البرنارديين، وسميت كنيسة لاسيو La Seo أي الكنيسة العظمى. وفي رواية أخرى أن مسجد سرقسطة الجامع لم يحول إلى كنيسة إلا بعد ذلك بثلاثة أعوام في أكتوبر سنة 1121 م، وأنه حول عندئذ إلى كنيسة سميت باسم " سان سالبادور " San Salvador (¬4) ، وجعلت سرقسطة عاصمة مملكة أراجون، وجعل منها مركز لأسقفية، ومنح سكانها النصارى امتيازات الأشراف، وعن الكونت جاستون دي بيارن " سيدا " للمدينة المفتوحة في ظل ألفونسو، وأقطع الحي الذي كان يقطنه النصارى المعاهدون، وعهد إليه بالإشراف على توزيع الغنائم على الجند الفاتحين، وكوفيء سائر الفرسان الذين عاونوا في الفتح (¬5). وهكذا سقطت سرقسطة، بعد أن حكمها المسلمون منذ الفتح أكثر من أربعة قرون، وبعد أن لعبت في تاريخ الثغر الأعلى الأندلسي، أعظم دور، سواء من الناحية العسكرية أو السياسية أو الحضارية. ولما سقطت الحاضرة الإسلامية، ودخلها النصارى، غادرها معظم أعيانها ¬_______ (¬1) ابن الكردبوس في كتاب " الاكتفاء " (مخطوط أكاديمية التاريخ لوحة 164 أ). (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 225، والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة السابقة الذكر). وذكر المقري أنه كان في يوم الأربعاء الرابع من رمضان (نفح الطيب ج 2 ص 585). (¬3) راجع مقال الأستاذ Lacarra السالف الذكر حيث يشير إلى الروايات النصرانية. (¬4) مقال الأستاذ Lacarra السالف الذكر. (¬5) M. Lafuente: ibid ; V. III. p. 238. وكذلك " تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين " ترجمة محمد عبد الله عنان، الطبعة الثانية، ص 145.

وأكابرها المسلمين، من الحكام والعلماء والقضاة وغيرهم، على نحو ما وقع عند سقوط طليطلة. ويقول لنا ابن الكردبوس، إن من غادرها من أهلها عند دخول النصارى بلغ خمسين ألفاً، بيد أنه يبدو هذا العدد مبالغ فيه. ولما رأى ملك أراجون كثرة المهاجرين من المسلمين فيما بعد، وخشى أن ينهار عمران المدينة، أصدر أمره بمنع هجرة المسلمين إلا بإذن خاص، وكان المهاجرون يقصدون بالأخص بلنسية، وقواعد شرقي الأندلس. وكان سقوط سرقسطة، بعد سقوط طليطلة، ضربة جديدة قاصمة للأندلس، وكان نذيراً بسقوط باقي قواعد الثغر الأعلى في يد مملكة أرجوان، التي لم تكن منذ ربع قرن تشغل سوى رقعة صغيرة في شمالي مملكة سرقسطة، ثم أخذت تنمو بسرعة على حساب المملكة الإسلامية، ثم كان نذيراً في نفس الوقت بتصدع الجبهة الدفاعية في شمالي شرقي الأندلس، وهي التي كانت سرقسطة معقدها المنيع، ومن ذلك الحين تواجه منطقة بلنسية، خطر العدوان النصراني المباشر من الشمال، كما كانت تواجهه من الغرب. وأخطر من ذلك كله ما أصاب هيبة المرابطين العسكرية بسبب هذه الضربة من تصدع وانهيار، وقد كانت هذه الهيبة، منذ الزلاّقة ثم أقليش في أوج قوتها، ثم أخذت منذ أقليش تخبو شيئاً فشيئاً، حتى جاء سقوط سرقسطة فأصابها بأول ضربة حقيقية، هزت من أركانها في أنحاء شبه الجزيرة، ومن ذلك الحين تضطرم اسبانيا النصرانية ضد المرابطين بروح مضاعف من التحدي والعدوان والثقة بالنفس. - 5 - وما كاد ألفونسو المحارب يستقر في سرقسطة وينظم شئونها، حتى اعتزم أن يتابع ظفره بافتتاح ما بقي من قواعد الثغر الأعلى ومعاقله، وكانت تطيلة قد سقطت في يده قبيل سقوط سرقسطة بنحو عامين في سنة 1117 م (511 هـ)، فسار في قواته نحو طرسونة الواقعة جنوب غربي تطيلة واستولى عليها، وأعاد بها مركز الأسقفية القديمة، ثم سار منها إلى برجه (¬1) الواقعة في جنوب تطيلة، واستولى عليها، وافتتح عدة أخرى من الحصون والبلاد الواقعة في تلك المنطقة، ومنها ألاجون، ومالن، ومجايون وأبيلا وغيرها، وتمت هذه الفتوح كلها في سنة 1120 م ¬_______ (¬1) طرسونة هي بالاسبانية Tarazona وبرجه هي Borja

(513 هـ) (¬1). ثم عبر ألفونسو جبال سييرا مولينا التي تفصل بين أراجون وقشتالة، وزحف على قلعة أيوب وكانت من أمنع ما بقي من معاقل الثغر الأعلى، فاستولى عليها كذلك. وكانت أنباء هذه المحن المتوالية، التي نزلت بمسلمي الثغر الأعلى، وتوالى سقوط قواعده في أيدي النصارى، قد وصلت إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فاهتم لها، وكتب إلى أخيه الأمير أبى إسحق ابراهيم بن يوسف، والي إشبيلية منذ وفاة واليها السابق القائد محمد بن فاطمة في سنة 511 هـ، بتجهيز الجيوش، والمبادرة إلى السير لقتال ملك أراجون (ابن رذمير)، ووضع حد لعدوانه، وكتب في نفس الوقت إلى القادة والرؤساء بالأندلس أن ينهضوا بقواتهم مع أخيه، وأن يكونوا تحت إمرته. فحشد إبراهيم قواته، ووافته قوات قرطبة بقيادة واليها ابن زيادة، وقوات غرناطة بقيادة واليها الأمير محمد بن تينغمر اللمتوني، وقوات مرسية بقيادة أبى يعقوب ينتان بن علي، وجماعة أخر من الرؤساء والقادة، وعدد كبير من المتطوعة. وسار الأمير إبراهيم في هذه القوات الجرارة صوب الشمال. وكان ألفونسو قد انتهى وفقاً لبعض الروايات من افتتاح قلعة أيوب، وسار منها لافتتاح دروقة قرينتها في المنعة والأهمية، والواقعة في جنوبها. وفي رواية أخرى أنه لم يكن قد انتهى بعد من افتتاح قلعة أيوب، حينما اقتربت منه الجيوش المرابطية. وكان ألفونسو حينما علم بتحرك المرابطين وسيرهم إلى قشتالة قد استقدم سائر قواته، واجتمع له وفقاً لأقوال الرواية الإسلامية زهاء اثنى عشر ألف فارس، غير المشاه والرماة وهم جموع غفيرة لا تحصى. ووقع اللقاء بين المسلمين والنصارى في ظاهر بلدة صغيرة تسمى كَتُندة أو قَتُندة على مقربة من دورقة، وذلك في الرابع والعشرين من شهر ربيع الأول - وعلى قول آخر ربيع الثاني - سنة 514 هـ (يونيه أو يوليه سنة 1120 م). ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، كانت الدائرة فيها على المسلمين، فهزموا هزيمة شديدة، أو " هزيمة منكرة " على قول ابن الأثير وكثر القتل فيهم، وسقط منهم في ميدان القتال، وفقاً لأقوال الرواية الإسلامية نحو عشرين ألفاً من المتطوعة، وتنوه الرواية الإسلامية بنوع خاص بمن استشهد في الموقعة من العلماء والفقهاء، وفي ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 106، وكذلك M. Lafuente: ibid ; V. III. p. 238. ونقل ْالمقري عن ابن اليسع أن تطيله وطرسونة قد سقطتا في أيدي النصارى في سنة 524 هـ (1130 م) وهذا مناقض لما يذكره روض القرطاس وتؤيده الرواية النصرانية من أن سقوط طرسونة وغيرها من معاقل الثغر الأعلى كان في سنة 513 هـ (1120 م).

مقدمتهم العلامة أبو علي الصدفي، وأبو عبد الله بن الفراء قاضي ألمرية، وارتد الأمير إبراهيم بن يوسف في فلول الجيش المرابطي إلى بلنسية (¬1). وكانت نكبة جديدة ساحقة لاسبانيا المسلمة، ولهيبة المرابطين العسكرية. ومما هو جدير بالذكر أن الأمير إبراهيم هذا الذي قاد المرابطين في تلك الموقعة، هو الذي ألّف الفتح بن خاقان باسمه كتابه " قلائد العقيان " وأهداه إليه في مقدمته، في عبارات فخمة رنانة (¬2). وعلى أثر الموقعة استولى ألفونسو على قلعة دروقة، وأنشأ على مقربة منها، عند منابع نهر " خلوكا " محلّة جديدة محصنة، سميت قلعة " مونريال "، لتكون حاجزاً لصد الجيوش الإسلامية، التي تنساب من طرق مرسية وبلنسية، ولتكون في نفس الوقت منزلا لجمعية دينية جديدة من الفرسان، أسست لحماية الدين. ¬_______ (¬1) تراجع في حوادث موقعة كتندة، ابن الأثير ج 10 ص 208، وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر) والمقري في نفح الطيب ج 2 ص 580. وكذلك ابن الأبار في كتابه " المعجم في أصحاب الإمام القاضي أبى علي الصدفي " (المكتبة الأندلسية - المجلد الرابع ص 7). ومن المراجع القشتالية: F. Codera: ibid ; p. 262-267, M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 239 (¬2) كتاب قلائد العقيان - المقدمة - ص 3 و 4.

الفصل الرابع الصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين

الفصل الرابع الصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين النصارى المعاهدون. موقفهم من الحكومة الإسلامية. تحفزهم للإيقاع بالمسلمين. نصارى غرناطة. هدم كنيستهم في قولجر. اتصالهم بألفونسو المحارب وتحريضه على غزو الأندلس. خروج أفونسو إلى الغزو. اختراقه أراضي الثغر إلى بلنسية. مسيره إلى جزيرة شقر فدانية فشاطبة. اختراقه لأراضي مرسية حتى بسطة ثم وادي آش. تأهب المرابطين لرد النصارى وإحاطتهم بغرناطة. وصف ابن الصيرفي لأحوال المدينة. انضمام المعاهدين للجيش الأرجوني. مسير ألفونسو نحو الشمال. ملاحقة الجيوش المرابطية له. نشوب المعركة في فحص الرنيسول بين المسلمين والنصارى. مسير ألفونسو إلى الجنوب حتى شلوبانية. عوده صوب غرناطة فوادي آش. المناوشات المستمرة بينه وبين المرابطين. اتجاهه نحو مرسية فبلنسية. انحلال قواته وعوده إلى بلاده. ما تدل عليه غزوة ألفونسو المحارب. ضعف الدفاع عن الأندلس. خطر النصارى المعاهدين. معاقبتهم بالتغريب وفقاً لفتوى ابن رشد. التعتيب والأسوار بالأندلس. نشاط الغزو النصراني بالثغر الأعلى. عودة ألفونسو المحارب إلى غزو أراضي بلنسية. موقعة القلاعة. رواية ابن القطان. الوثاثق الرسمية المرابطية عن الموقعة. كتاب أمير المسلمين لأهل بلنسية. ألفونسو يشغل بالحرب في قشتالة وفرنسا. نشاط المرابطين في غزو أراضي الثغر. تحفز ألفونسو لافتتاح قواعد الثغر الباقية. زحفه عل مكناسة واستيلاؤه عليها. زحفه على مدينة إفراغة. مبادرة المرابطين إلى مدافعته. محاصرته لإفراغه وتصميمه على أخذها. وصول الجيوش المرابطية بقيادة ابن غانية. نشوب المعركة الحاسمة بين الفريقين تحت أسوار إفراغة. الهزيمة الساحقة على النصارى. موت ألفونسو المحارب وما يقال حوله. أهمية النصر المرابطي وآثاره. ألفونسو المحارب وخلاله. تأملات حول موقف المرابطين بعد نصر إفراغة. بنو هود يستقرون في روطة. عماد الدولة بن هود. ولده سيف الدولة. انضواؤه تحت حماية ملك قشتالة. نزوله له عن قاعدة روطة. بعض الروايات الخاصة بذلك. نهاية رياسة بني هود. 1 - غزوة ألفونسو الكبرى للأندلس لم تمض بضعة أعوام على سقوط سرقسطة، حتى وقعت بالأندلس حادثة عدوان لم يسبق لها مثيل في تاريخ الغزوات النصرانية، من حيث اتساع نطاقها، وخطورة العوامل الموجهة لها، ونعني بذلك الغزوة الكبرى التي قام بها ألفونسو المحارب ملك أراجون في قلب الأندلس، بناء على تحريض النصارى المعاهدين. ولقد تحدثنا من قبل، في كتابنا " دول الطوائف " عن أحوال النصارى المعاهدين، وظروف حياتهم في ظل الحكومات الإسلامية المتعاقبة، منذ عصر الإمارة والخلافة، ثم في ظل دول الطوائف، وأشرنا إلى ما كانت تتمتع به

طوائف المعاهدين، في ظل هذه الحكومات الإسلامية، من ضروب الرعاية والتسامح، والتمتع بمزاولة شعائرهم، وتقاليدهم، والاحتكام إلى قوانينهم وقضاتهم، والتحدث بلغتهم الخاصة، دون حيف أو ضغط متعمد يلحق بهم، ودون مطاردات دينية من أي نوع تعصف بأمنهم وسلامهم، وأنهم كانوا يؤلفون في مختلف القواعد الإسلامية، في مجتمعات متقدمة مزدهرة، ويشغلون في أحيان كثيرة في القصر وفي الحكومة، مناصب النفوذ والثقة، وإن كانت التواريخ النصرانية تؤثر مع ذلك كله أن تقدم إلينا مجتمع المعاهدين في صور قاتمة، وتزعم بأنهم كانوا ضحية الجور والإرهاق، يعانون من ضغط الحكومة الإسلامية المادي والأدبي، في صور وأوضاع شتى. وقد أشرنا في نفس الوقت إلى ما كان يتسم به أولئك النصارى المعاهدون من نكران الصنيعة، وعدم الولاء للحكومات الإسلامية، بالرغم مما كانت تحيطهم به من ضروب الرعاية والتسامح، وكيف أنهم لم يدخروا دائماً وسعاً في الكيد لها، والتآمر على سلامتها، ومداخلة أعدائها النصارى الإسبان، وتحريضهم عليها، ومعاونتهم على الإيقاع بها في كل فرصة سانحة، وضربنا لذلك عديد الأمثلة التاريخية، التي تسجل على النصارى المعاهدين أعمال الخيانة والغدر، والتآمر مع أعداء الأندلس المسلمة على القضاء عليها (¬1). ولما سقطت سرقسطة في أيدي النصارى، وتوالت انتصارات ألفونسو المحارب، وتوالت محن المسلمين في الثغر الأعلى، وظهر التخاذل على الجيوش المرابطية، أخذت طوائف المعاهدين في التحفز، ولاح لها أنها تستطيع أن تعمل عملا مثمراً لضرب الأندلس، بالتفاهم مع عاهل الثغر الأعلى، وإمداده بما وسعوا من ضروب الإمداد والعون. وكان أشد طوائف المعاهدين نشاطاً في تدبير هذه المؤامرة الكبرى، نصارى ولاية غرناطة، وكانوا من أكبر طوائف المعاهدين عدداً، وأغناهم مالا، وأكثرهم ازدهاراً ومقدرة ونفوذاً، وكانت لهم خارج غرناطة، تجاه باب إلبيرة، في طريق قرية قولجر، كنيسة عظيمة شامخة، فريدة في العمارة والطراز، فما استولى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين على غرناطة، خاطبه الفقهاء في ¬_______ (¬1) يراجع الفصل الخاص بذلك من كتاب " دول الطوائف " ص 395 - 401.

هدمها لما يدلي به صرحها الشامخ من تطاول المعاهدين، فأمر بتحقيق رغبتهم، وخرج أهل غرناطة لهدم الكنيسة المذكورة، في آخر جمادى الآخرة سنة 492 هـ، فصيرت في الحال ركاماً، وغدت قاعاً صفصفاً (¬1). ويحاول دوزي أن يصور هذا الحادث - هدم الكنيسة - في صورة اضطهاد عام أنزله المرابطون بالنصارى المعاهدين، ويقول لنا إن هذا الاضطهاد شمل هدم الكنائس بصفة عامة، وشمل أيضاً أشياء أخرى لا يستطيع أن يتكهن بها، لأن الرواية الإسلامية تلتزم الصمت إزاء ذلك، ومن ثم فإنه يحاول أن يصور لنا استدعاء النصارى المعاهدين لألفونسو المحارب في صورة الإستغاثة والانتقام لما نزل بهم من صنوف الاضطهاد المضني (¬2). ويتابعه في هذا المعنى المستشرق الإسباني سيمونيت، فيقول لنا إن نصارى مملكة غرناطة، كان قد وقع عليهم اضطهاد شديد من جراء تعصب المرابطين، فهدمت كنائسهم، وطورد قساوستم وانتهكت رسومهم، وبعد أن صبروا على هذا الاضطهاد أعواماً، اعتزموا أن يطلبوا عون الملك ألفونسو المحارب، وكان قد اشتهر في أنحاء شبه الجزيرة بقوته وفتوحاته وانتصاراته ضد الكافرين (يريد المسلمين) (¬3). ولكن سنرى أن هذا الاستدعاء لملك أراجون، وما اقترن به من صنوف الاستعداد والتحفز الخطر، لم يكن كما قدمنا، سوى مؤامرة كبرى دبرها النصارى المعاهدون لضرب الأندلس المسلمة في الصميم. ذلك أنه لما ترددت أصداء انتصارات ألفونسو المحارب، في جنبات الأندلس، وشعر المعاهدون بأن فرصة العمل قد سنحت، بعثوا إليه بكتبهم ورسلهم المتوالية، يلحون عليه في غزو الأندلس وافتتاح غرناطة. وقد كانت غرناطة حسبما تقدم قاعدة الحكم المرابطي في الأندلس، وكان لهذه الصفة فيما يبدو أثرها في قيام المعاهدين بها، بالدور الرئيسي في هذه المؤامرة. وبعث أولئك المعاهدون إلى ألفونسو زماماً يشتمل على أسماء اثنى عشر ألفاً من أنجاد مقاتليهم، على أهبة لمعاونته، وأنه يوجد غيرهم جموع غفيرة مستترة على قدم الأهبة، وبعثوا إليه في نفس الوقت بأوصاف غرناطة، وما تشتمل عليه من الثروات والمحاصيل الجمة، ¬_______ (¬1) الإحاطة في أخبار غرناطة لابن الخطيب (القاهرة 1956) ج 1 ص 114. (¬2) Dozy: Recherches. V. I. p. 348 & 349 (¬3) F. J. Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana, p. 745

والعيون والأنهار الغزيرة، وما تمتاز به من حسن الموقع، وروعة العمارة، وازدهار العمران، وكونها عاصمة الأندلس. وكان لهذه الدعوة المقرونة بالعون والإنجاد، وهذا الإغراء بصفات الحاضرة الإسلامية التالدة، أثرها في نفس ألفونسو المحارب، وفي شحذ همته، وإذكاء أطماعه، وكان يشعر عندئذ أن الظروف ممهدة، وأن تضعضع قوى المرابطين منذ موقعة كتُندة، مما يسهل له السبيل إلى اختراق الأندلس، وتحقيق الغاية المنشودة. فخرج من سرقسطة في أول شعبان سنة 519 هـ (سبتمبر سنة 1125 م) في قوة مختارة من أربعة آلاف، وقيل في خمسة آلاف فارس مع أتباعهم من من الرجّالة والرماة، وقد بلغوا خمسة عشر ألفاً، وكان معه الكونت جاستون دي بيارن الذي اشترك في حملة سرقسطة، وفي ركبه عدد من رجال الدين في مقدمتهم أسقفا سرقسطة ووشقة، وقد تعاهدوا جميعاً وتحالفوا بالإنجيل على ألا يفر أحد منهم (¬1)، وهكذا كان للحملة طابعها الصليبي، الذي طبع سائر الغزوات والحملات النصرانية، منذ حصار سرقسطة. وسار ألفونسو بحملته شرقاً، واخترق أراضي لاردة وإفراغه الإسلامية، وهو يعيث فيها، ثم انحرف جنوباً ودخل أراضي مملكة بلنسية، وهو ينسف الزروع ويحرق القرى، وقاومته في بلنسية قوة مرابطية، بقيادة أبى محمد يدّر بن ورقاء (أواخر شهر رمضان)، وكان من الصعب أن تجتمع القوات المرابطية للوقوف في وجهه، لأنه حرص على إخفاء وجهته الحقيقية، ولبث طول الوقت متحركاً في قواته. وفي أثناء ذلك كانت جموع المعاهدين تهرع إلى الانضمام إليه حيثما وجد، حتى اجتمعت له أعداد وفيرة، وكانوا يدلونه على الطرق والمسالك، ويكشفون له مواطن الضعف لدى المسلمين، في المدن والحصون التي يمر بها. ولما غادر بلنسية سار منها إلى جزيرة شُقْر فقاتلها أياماً، ثم رحل منها إلى دانية، فعاث في واديها، وقاتلها ليلة عيد الفطر من هذه السنة، واستمر في مسيره مخترقاً شرقي الأندلس مرحلة مرحلة، ومنازلا سائر قواعده وحصونه، ماراً بشاطبة، وألش وأوريولة، حتى وصل إلى مرسية، ثم اجتاز منها إلى بيرة، فالمنصورة، فبرشانة، حيث توقف أياماً. ثم سار إلى مدينة بسطة، وحاول منازلتها وافتتاحها، لسهولة موقعها، وضعف ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 67. وهو الذي يأخذ بالتقدير الأول. ويأخذ ابن عذارى في البيان المغرب بالتقدير الثاني (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 83).

خريطة: خط سير الذهاب والعودة لغزوة ألفونسو المحارب للأندلس سنة 519 - 520 هـ.

تحصيناتها، ولكنه لم ينجح، فغادرها إلى وادي آش، ونزل بقرية القصر القريبة منها، وأخذ ينازل منها وادي آش، ويقاتلها أياماً، وذلك في أوائل شهر ذي القعدة من السنة المذكورة، واستمر في محاولته زهاء شهر، ولكنه لم ينل منها مأرباً. وهنا نجد وصفاً دقيقاً لبقية هذه الغزوة الجريئة في أقوال مؤرخ غرناطي معاصر تقريباً، هو أبو بكر ابن الصيرفي في كتاب الدولة المرابطية ومؤرخها في كتابه " الأنوار الجلية في أخبار الدولة المرابطية "، وهو مؤلف لم يصل مع الأسف إليا، ولم نتلق منه سوى شذور يسيرة، على يد بعض المؤرخين اللاحقين، مثل ابن عذارى، وابن الخطيب، وصاحب الحلل الموشية (¬1). يقول لنا ابن الصيرفي، إنه لما اقترب ألفونسو المحارب بقواته من غرناطة، تناجي النصارى المعاهدون بغرناطة باستدعائه، فافتضح تدبيرهم، وهمّ أميرها باعتقالهم، فأعياه ذلك، وتسلل المعاهدون من كل صوب إلى محلة الغزاة، وكان المشرف على شئون الأندلس يومئذ الأمير أبو الطاهر تميم، وقاعدته كما هو معروف بغرناطة، فحشد سائر قواته، وأمده أخوه أمير المسلمين على بجيش وفير، وكان حينما سمع بعدوان ابن رذمير، قد أمر بإعداده في العدوة، وعبوره إلى الأندلس على وجه السرعة، وانضمت إليه قوات مرسية وإشبيلية، وأحاطت الجيوش المرابطية الجرارة بغرناطة، حتى صارت كالدائرة، وصارت المدينة في وسطها كالنقطة. وتحرك ألفونسو من وادي آش، ونزل قرية دجمة غربي وادي آش، في منتصف المسافة بينها وبين غرناطة، فاشتد القلق بغرناطة، وصلى الناس صلاة الخوف يوم عيد النحر، واستعدوا بالسلاح. ويصف ابن عذارى حال غرناطة في قوله: " وجاءت الطلائع منبئة .. وانقطعت السابلة والواردة، ¬_______ (¬1) ترجم لنا ابن الخطيب لابن الصيرفي في الإحاطة، فقال هو " يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري يكنى أبا بكر ويعرف بابن الصيرفي، من أهل غرناطة، كان نسيج وحده في البلاغة والجزالة والتبريز في أسلوب التاريخ والتملي من الأدب والمعرفة باللغة والخبر. قال أبو القاسم (الملاحي)، من أهل المعرفة بالأدب والعربية واللغة والتاريخ، ومن الكتاب المجيدين والشعراء المطبوعين المكثرين. كتب بغرناطة عن الأمير أبى محمد تاشفين، وله فيه نظم حسن. وألف في تاريخ الأندلس كتاباً سماه " الأنوار الجلية في أخبار الدولة المرابطية "ضمنه العجائب إلى سنة ثلاثين وخمسمائة، ثم وصله إلى قرب وفاته. وكتاباً آخر في ذلك سماه " قصص الأنبياء، وسياسة الرؤساء ". توفي بغرناطة في حدود السبعين وخمسمائة (مخطوط الإحاطة بمكتبة الإسكوريال رقم 1673 الغزيري لوحة 415).

وقلت المرافق، وتزاحم الناس في المدينة [وسكنت] المساجد والمصاطب، والرحاب، وكثر الجزع والإرجاف والموجان .. والأسوار معمورة بأهل البلدة، وليس في الدور غير الصبية والنسوة " (¬1). وفي ظهر اليوم التالي وصل النصارى إلى مقربة من شرق المدينة، وكان عددهم قد بلغ عندئذ زهاء خمسين ألفاً، ونشب القتال بينهم وبين المسلمين. قال ابن الصيرفي: " وتوالى الحرب على فرسخين منها، وقد أجلى السواد، وتزاحم الناس بالمدينة، وتوالى الجليد، وأظلت الأمطار ". ولبث ألفونسو بحملته بضع عشرة ليلة، وهو ملتزم السكون بسبب الجليد والأمطار، والمعاهدون يمدونه بالأقوات والمؤن. ثم أقلع عن غرناطة، وقد ارتفع طمعه عنها، لما لمسه من وفرة الجيوش المدافعة عنها، وذلك في يوم 26 ذي الحجة سنة 520 هـ (21 يناير سنة 1127 م)، وأنحى ألفونسو باللائمة على المعاهدين، وزعيمهم ابن القلاّس، لتقاعسهم، وعدم وفائهم بما التزموه، فردوا اللوم إليه، واحتجوا ببطئه وتلومه حتى تلاحقت الجيوش، وأنهم قد أضحوا بذلك عرضة للهلاك على يد المسلمين. وسار ألفونسو إلى قرية مرسانة، ثم إلى بيش (¬2) ثم اتجه شمالا إلى قلعة يحصب، ثم انحدر غرباً نحو قبرة واللسانة (¬3) والجيوش الإسلامية تلاحقه، وتناوشه في معارك صغيرة، وكانت قوات إشبيلية قد تحركت عندئذ بقيادة واليها الأمير أبى بكر ابن أمير المسلمين، وانضمت إلى باقي الجيوش المرابطية في مطاردة العدو. ثم أقام ألفونسو بقبرة أياماً، وسار منها إلى بلاي (¬4) فاللسانة ثم انحدر جنوباً، والمسلمون في أثره حتى قرية شيجة (¬5) القريبة من غرناطة، وهنالك في فحص الرينسول (¬6) وقعت بينه وبين المسلمين معركة، كان فيها الظهور في البداية للمسلمين. ولما جن الليل وقع في المعسكر الإسلامي حادث أثار فيه الاضطراب. وذلك أن الأمير تميماً أمر بنقل خبائه، من وهدة ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 84). (¬2) مرسانة وبالإسبانية Maracena وبيبش وبلإسبانية Beas قريتان من أعمال غرناطة تقع الأولى في شمالها الشرقي والأخرى في شمالها الغربي. (¬3) قلعة يحصب هي اليوم بالإسبانية Alcala la Real، وقبرة هي Cabra، واللسانة هي Lucena. (¬4) هي قرية Poley القديمة، وتسمى اليوم Aguilar (¬5) شيجة هي قرية Espejo الإسبانية. (¬6) فحص الرينسول أو أرنسول يقع جنوبي غرناطة وبالإسبانية Arinsol.

كان فيها إلى نجدة، فظن الناس أنه ينوي الانسحاب، فاختل الأمر، وكثر الفرار، وفي الغد هجم النصارى على محلة المسلمين، واستولوا عليها، ووقعت الهزيمة على المسلمين (مارس سنة 1127 م). وسار ألفونسو بعد ذلك في قواته نحو الجنوب الشرقي، واخترق جبال سييرّا نفادا (جبل الثلج)، وانحدر إلى الشاطىء نحو وادي شلوبانية العميق المتحصن المجاز، ويروى أنه قال عند رؤيته: " أي قبر هذا لو ألفينا من يرد علينا التراب ". ثم سار غرباً نحو مدينة بلِّش مالقة، وأنشأ بها مركباً صغيراً يصيد له حوتاً، أكل منه " كأنه نذر كان عليه وفي به، أو حديث أراد أن يخلد عنه ". ثم عبر جبال سييرّا نفادا مرة أخرى، عائداً إلى غرناطة، وعسكر بقرية دلر على مقربة منها، ثم انتقل منها إلى قرية هَمْدان الواقعة في جنوبها، وهنالك وقعت بينه وبين المسلمين معركة شديدة ثم انتقل بعد يومين إلى " المرج " La Vega، وفرسان المسلمين في أثره تضيق عليه، ثم نزل بعين أطسة، وهي على أتم الأهبة والحذر، وسار بعد ذلك إلى وادي آش، وقد أصيب كثير من عسكره، خلال المناوشات العديدة التي وقعت بينه وبين المسلمين، ولما رأى أنه لم يحقق بغزوته الطويلة المدى، أي هدف يذكر، عول على العود إلى بلاده، فاتجه شرقاً نحو مرسية، فشاطبة فبلنسية، وقد لحق بعسكره خلال السير نحو عشرة آلاف من النصارى المعاهدين، الذين فروا من مواطنهم خيفة الانتقام والهلكة، هذا والعساكر الإسلامية تلاحقه في كل موطن، والوباء يعصف بعسكره، حتى وصل إلى بلاده مفلولا، قد حطمه وجنده الإعياء والوهن، وذلك بعد أن أنفق في غزوته خمسة عشر شهراً، وهو مع ذلك، " يفخر بما ناله في سفره من هزيمة المسلمين، وفتكه في بلادهم وكثرة ما أسر وغنم " (¬1). تلك تفاصيل غزوة ألفونسو المحارب الشاملة، لأقطار الأندلس الشرقية والجنوبية، وهي قد انتهت بعد المعارك والمناوشات العديدة, التي خاضها مع المسلمين، إلى فشل مطبق، ولم يحقق ملك أراجون من ورائها أية نتيجة عملية. ¬_______ (¬1) راجع في تفاصيل غزوة ألفونشو المحارب للأندلس، الحلل الموشية ص 66 - 70، وابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 116 - 119، وكلاهما ينقل رواية ابن الصيرفي مفصلة. وابن عذارى في البيان المغرب، وهو يقدم لنا نفس الرواية. ولكن مزيدة بمعلومات وتفاصيل أخرى (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 84 و 85). وراجع ابن الأثير ج 10 ص 224.

ولكنها مع ذلك قد كشفت عن حقيقة هامة، وهي أن نظم الدفاع عن الأندلس، لم تكن يومئذ وفق ما يجب من المتانة والإحكام، وأن خطط القيادة المرابطية، منذ نكبة سرقسطة لم تكن كفيلة، بردع عدوان الممالك النصرانية. ولم يكن أدل على هذه الحقيقة من أن ملكاً من ملوك اسبانيا النصرانية، استطاع أن يخترق الأندلس من الثغر الأعلى، حتى شاطى البحر المتوسط، دون أن تستطيع قوة إسلامية، مرابطية أو غيرها، أن تقف في سبيله. وثمة حقيقة أخرى كانت جديرة بالاعتبار، وهي أن النصارى المعاهدين الذين يعيشون في ظل الحكومة الإسلامية، ويتمتعون برعايتها، لم يكونوا يشعرون نحوها بذرة من الولاء، بل كانوا يمثلون خطراً داخلياً على الأندلس، ولا يدخرون وسعاً في الكيد لها، وممالأة أعدائها، وتحريضهم على التنكيل بها، وقد سبق أن أشرنا من قبل في كتابنا " دول الطوائف " إلى هذه الحقيقة، وبينا كيف كانت الأحقاد والشكوك، تحيط بمجتمع المعاهدين، وبالأخص منذ سقوط طليطلة، وكيف أن بعيدي النظر من الوزراء والفقهاء، كانوا ينصحون بالحذر منهم، ويدعون إلى ردعهم والتضييق عليهم، كما فعل الوزير الكاتب عبد المجيد بن عبدون في رسالته عن الحسبة (¬1). ولقد كانت دعوة المعاهدين لألفونسو المحارب، ومعاونتهم له في غزو الأندلس، على هذه الصورة البعيدة المدى، تمثل بالنسبة لهم ذروة الجحود والاجتراء والخيانة، ومن ثم فقد كان لابد من أن يحدث موقفهم أسوأ الأثر في الأمة الأندلسية والحكومة الإسلامية، وكان لابد أن تتخذ في حقهم إجراءات رادعة، تكفل قمع دسائسهم وعدوانهم بصورة حاسمة. وهذا ما حدث بالفعل عقب انتهاء غزوة ألفونسو المحارب، فإن ما حدث على أثرها من بوادر السخط على المعاهدين، والتوجس من مكائدهم، حمل كبير الجماعة في قرطبة القاضي أبا الوليد بن رشد، على أن يعبر البحر إلى المغرب، ثم قصد إلى أمير المسلمين علي بن يوسف بمراكش، وشرح له أحوال الأندلس، وما منيت به على يد المعاهدين، وما جنوه عليها من استدعاء النصارى، وما يترتب على ذلك من " نقض العهد والخروج على الذمة "، وأفتى بتغريبهم ووجوب إجلائهم عن أوطانهم، وهو أخف ما يؤخذ به في عقابهم. فأخذ أمير المسلمين بهذه الفتوى، وصدر عهده إلى جميع بلاد الأندلس، بتغريب المعاهدين إلى العُدوة ¬_______ (¬1) كتاب " دول الطوائف " ص 399 و 400.

(المغرب)، فنفيت منهم جموع غفيرة، وسيق الكثير منهم إلى مكناسة، وسلا وغيرهما من بلاد العدوة، " وهلك منهم خلال العبور والسفر عدد جم، وتفرقوا شذر مذر، وضم أمير المسلمين منهم عدداً إلى حرسه الخاص، امتازوا فيما بعد بالإخلاص والبراعة. على أن هذا التغريب لم يكن شاملا، فقد بقيت في غرناطة وفي قرطبة وفي غيرهما من القواعد، جماعات من النصارى المعاهدين، لأسباب مختلفة، لتنمو وتزدهر مرة أخرى. وقد وقع تغريب المعاهدين في شهر رمضان سنة 521 هـ (أواخر سنة 1127 م) وكانت نكبة بالغة لم يصب المعاهدين مثلها منذ بعيد (¬1). وينوه المستشرق سيمونيت بما أصاب المعاهدين من جراء هذا النفي من الآلام والمحن، ويقول أن العناية الإلهية شاءت أن ترد هذه القسوة، بما أنزل بعد ذلك بقرون بالموريسكيين أو العرب المتنصرين عند نفيهم من اسبانيا من قسوة مماثلة. وهذه مقارنة غير موفقة، لأن ما أنزلته اسبانيا بالموريسكيين قبل النفي وخلاله، من ضروب القسوة المروعة، يندر أن نجد له مثيلا في صحف الاستشهاد القومي. 2 - التعتيب والأسوار وقد كانت سنة 520 هـ، هذه وهي التي وقعت فيها غزوة ألفونسو المحارب والنصارى المعاهدين للأندلس، واشتدت في نفس الوقت حركة محمد بن تومرت المهدي بالمغرب، سنة التحصينات، والمنشآت الدفاعية، سواء في المغرب أو الأندلس. فأما في المغرب، فقد شرع أمير المسلمين علي بن يوسف في تسوير حاضرته مراكش، وكانت حين إنشائها في سنة 462 هـ، قد أقيم السور فقط حول المسجد والقصبة اللتين ابتناهما يوسف بن تاشفين. وبقيت المدينة ذاتها دون أسوار تحميها. وكان الذي أشار على أمير المسلمين بتسويرها، القاضي أبا الوليد ابن رشد، حينما اشتدت حركة المهدي، واستفتى أمير المسلمين فقهاء المغرب، والأندلس في أمره، فأفتى ابن رشد بوجوب إنشاء أسوار للمدينة، تقوم بحمايته وحماية الساكنين معه. وشرع أمير المسلمين في بناء أسوار مراكش في جمادى الأولى ¬_______ (¬1) يراجع في ذلك الحلل الموشية ص 66 و 70، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 119 و 120، والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 86). وأشباخ في " تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين " (الطبعة الثانية) ص 147 - 150. وراجع: F. J. Simonet Historia de los Mozarabes (Madrid 1896) p. 746-751

سنة 520 هـ (1126 م) وهذه هي رواية صاحب الحلل الموشية وابن عذارى (¬1). ويضع ابن القطان رحلة ابن رشد إلى مراكش وبناء سورها وفقاً لنصحه في سنة 522 هـ. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، ويتابعه ابن خلدون إن بناء أسوار مراكش كان في سنة 526 هـ (¬2). والرواية الأولى أرجح فيما يبدو، لأن القاضي ابن رشد توفي في أواخر سنة 520 هـ (أواخر سنة 1126 م). وحشد أمير المسلمين جموعاً غفيرة من الفعلة والصناع فتم بناء السور في نحو ثمانية أشهر. كما تم بناء الجامع ومناره. وبلغت النفقة على السور وحده سبعين ألف دينار من الذهب العين، ثم أصلح هذا السور، وأنشئت به أبراج جديدة وزيد فيه حتى شمل مقابر المدينة، وذلك في سنة 530 هـ. وبعث أمير المسلمين علي بن يوسف في الوقت نفسه، كتابه إلى الأندلس، بوجوب إنشاء الأسوار، فأرجىء النظر في ذلك حتى صرف الأمير تميم عن ولاية الأندلس وجاز إلى مراكش وهنالك توفي، وقُدِّم أبو عمر ينالة اللمتوني على غرناطة، وقدم أبو حفص عمر بن أمير المسلمين على قرطبة. وعمد ينالة إلى تعتيب غرناطة وفرض " المعتب " (إتاوة الدار) على سائر أهلها، واشتد في تحصيل المال، وأصلحت الأسوار وأكملت في أقرب وقت. ثم جاء سيل شديد فصدم الأسوار، وسقطت منها أجزاء كبيرة مما يلي باب الرملة وباب إلبيرة، وهلك كثير من الناس. وتولى أهل قرطبة إصلاح أسوارهم ورمِّها على سالف عادتهم، دون تعتيب ودون ضغط. وكذلك فعل أهل إشبيلية نحو أسوارهم، فجمعت النفقة بأيسر أمر، ودون أجحاف، وأقيمت الأسوار وأصلحت. وتولى النظر في إصلاح أسوار ألمرية رجل من أهلها يعرف بابن العجمي، فاستعمل الحزم والرفق معاً، وأبدى الناس إقبالا على أداء الإتاوة المطلوبة، وأصلحت الأسوار وأكملت دون ضغط ولا إرهاق. واستمر ينالة اللمتوني، والياً على غرناطة، حتى عزل عنها في جمادى الأولى سنة 522 هـ، أي بعد سنة وتسعة أشهر. وكان ظلوماً جائراً، وكان من أعمال ظلمه أن استدعى فقهاء جيّان وعلماءها إلى غرناطة، ثم قبض عليهم، وأودعهم السجن دون جريرة، وسار إلى الغزو في شرقي الأندلس، وتركهم في المطبق، ¬_______ (¬1) الحلل الموشية عن 70 و 71، وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر هسبيرس ص 86)، ونظم الجمان (المخطوط لوحة 33 ب). (¬2) روض القرطاس ص 89، وابن خلدون ج 6 ص 184، وفي كتاب " الإستبصار في عجائب الأمصار " أن سور مراكش قد أنشىء في سنة 514 هـ وهي رواية ضعيفة (ص 209).

فلما نمى ذلك إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، أمر بعزله، وعين ولده أبا حفص عمر والي قرطبة والياً لغرناطة. فلما وصل إلى غرناطة بادر بالإفراج عن الفقهاء والعلماء المعتقلين، وردهم إلى بلدهم مكرمين، واستراح الناس من ظلم ينالة وجوره (¬1). 3 - موقعة القلاعة لما عاد ألفونسو المحارب من حملته الأندلسية الفاشلة، عاد إلى استئناف ْنشاطه في أراضي الثغر ضد المرابطين. وكان المسلمون ما يزالون يحتلون من الثغر الأعلى، المنطقة الواقعة شرقي سرقسطة، فيما بين نهري سنكا وسجرى فرعي إبرة، وأهم قواعدها لاردة وإفراغة ومكناسة الواقعة عند ملتقى إبرة وسجرى، وكذلك المنطقة الممتدة بعد ذلك على طول نهر إبرة، حتى مصبه عبر ثغر طرطوشة، وكان ألفونسو يرمي إلى إجلاء المسلمين عن هذه المنطقة، حتى يكفل اتصال مملكته بالبحر المتوسط عن طريق ثغر طرطوشة الهام. وكان ثغر طرّكونة الواقع شمال طرطوشة، قد سقط في أيدي النصارى قبل ذلك بنحو أربعين عاماً. ونحن نذكر أن هذا الثغر كان من أعمال مملكة سرقسطة أيام بني هود، وأنه لما توفي المقتدر بن هود في سنة 474 هـ (1081 م) قسمت مملكته بين ولديه يوسف المؤتمن وأخيه المنذر، وأن المنذر بن هود اختص بالجانب الشرقي من مملكة سرقسطة وفيه ثغر طرّكونة وطرطوشة. تم توفي المنذر بن هود في سنة 483 هـ (1090 م) وخلفه ولده الطفل سليمان الملقب بسعد الدولة، وكان الكونت رامون برنجير الثاني أمير برشلونة، ومن ورائه أحبار قطلونية، يتوقون إلى انتزاع ثغر طرّكونة من المسلمين وإعادته كما كان مركزاً رئيسياً للكنيسة القطلونية، فكتبوا بذلك إلى البابا أوربان الثاني، وهو محرك الحرب الصليبية الأولى في المشرق، فشجع مشروعهم وباركه، وأسبغ عليه الصفة الصليبية، وأصدر طائفة من المنح والمزايا الدينية لمن يشتركون في هذه الحملة. وكتب إلى سائر الأمراء والبارونات والفرسان ورجال الدين، في البلاد المجاورة، يحثهم على الاشتراك في هذه الحرب المقدسة، وهكذا جهزت حملة صليبية قوية لافتتاح طرّكونة، على رأسها رامون برنجير، وجاءت وفاة المنذر بن هود في تلك الآونة بالذات مشجعة للغزاة. وسارت الحملة إلى طرّكونة واستطاعت انتزاعها من المسلمين بسهولة (1090 م) لضعف وسائلها الدفاعية، وتخلي المستعين بن هود صاحب سرقسطة عن إنجادها، ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 86 و 87).

ولأن الجيوش المرابطية، لم تكن قد وصلت يومئذ في زحفها نحو الشمال، إلى الثغر الأعلى. وبسقوط طرّكونه في يد أمير برشلونة، وضمها إلى مملكة قطلونية، لم يبق من ثغور مملكة سرقسطة القديمة سوى طرطوشة، وكان ألفونسو المحارب يتوق إلى انتزاع هذا الثغر، ولكنه كان مضطراً إلى أن يخوض قبل ذلك معارك عديدة مع المرابطين، الذين يسيطرون على منطقتي لاردة وإفراغة، وما وراءهما من الأراضي حتى مصب نهر إبرة. ومن ثم فإنه ما كاد يعود من حملته الأندلسية، حتى أخذ يعد العدة لتنفيذ مشروعه. ولم يمض سوى عامين حتى خرج في قواته من سرقسطة، وزحف شرقاً نحو نهر سِنكا في اتجاه إفراغة ولاردة. وكانت هذه المنطقة قد غدت منذ سقوط سرقسطة، مسرحاً للصراع المستمر بين المسلمين والنصارى، وكانت للمرابطين فيما يبدو حاميات قوية في تلك القواعد، وكانت لهم فوق ذلك قوات متحركة، تنساب بسرعة من شرقي الأندلس، من منطقة بلنسية، كلما هم النصارى بالعدوان. على أنه يبدو أن ألفونسو المحارب، لم يرد أن يشتبك في هذه المنطقة من الثغر الأعلى مع المرابطين في صراع حاسم، قبل أن يقضي على قواتهم في جنوبي الثغر، وقد كانت تلاحقه نحو الشمال باستمرار. ومن ثم فقد سار في قواته جنوباً نحو أراضي بلنسية، وكان علي بن يوسف قد علم من عماله في بلنسية وما والاها أن ألفونسو المحارب يتأهب لغزو أراضي المسلمين، فخشي عليّ أن تكون حركة شاملة كالتي قام بها المحارب في قلب الأندلس، وأمر بحشد قوات من السود تتكفل بنفقاتها مختلف المدن، كل وفق طاقتها، ثم أرسلت هذه الحشود إلى مرسية - وواليها يدِّر بن ورقا - تعزيزاً للجيوش المرابطية في شرقي الأندلس. وهنا يحيق شىء من الغموض حول تفاصيل الموقعة التي نشبت على أثر ذلك بين الأرجونيين والمرابطين، وحول موقعها. وتذكر لنا الرواية الإسلامية الوحيدة التي لدينا عن الموقعة - وهي رواية ابن القطان - أن الموقعة نشبت في مكان يعرف بالقليعة أو القلاعة، وأن القليعة هذه تقع على مقربة من جزيرة شقر جنوبي بلنسية، وكان ابن رذمير (ألفونسو الأرجوني) يرابط بقواته بها. وهكذا نشبت في القليعة معركة عنيفة بين المرابطين والأرجونيين، ويضع ابن القطان تاريخها في سنة 523 هـ (1129 م)، ويقول لنا إن قوات المسلمين كلها كانت بقيادة

ابن مجور، وأن المسلمين أصيبوا فيها بهزيمة فادحة، وفنى معظمهم قتلا وأسراً، واحتوى العدو على سائر أسلابهم ومتاعهم ودوابهم، وبلغت خسارتهم نحو اثنى عشر ألفاً بين قتيل وأسير (¬1). أما الغموض الذي يحيق بأمر هذه الموقعة، فيأتي مما تذكره لنا الرواية النصرانية وهو أن القلعة أو القلاعة هذه Alcolea، إنما هي بلدة صغيرة محصنة تقع على الضفة اليسرى لنهر سِنكا أحد أفرع نهر إبرة، على مقربة من إفراغة، ولها قصبة منيعة؛ ومعنى ذلك أن الموقعة نشبت بين المرابطين والأرجونيين في الثغر الأعلى، لا في أراضي بلنسية. وتضيف الرواية النصرانية إلى ذلك أن ألفونسو المحارب استولى على أثر الموقعة على بلدة القلاعة، وحصنها ثم أقطعها لأحد أكابر رجاله ممن أبلوا في خدمته (¬2). ثم إنه يوجد من جهة أخرى في الرواية النصرانية ما يفيد أن ألفونسو المحارب قد حاصر بلنسية في أوائل سنة 1129 م، وهو مما يعزز قول الرواية الإسلامية في أن المعركة قد نشبت بين الأرجونيين والمسلمين في أراضي بلنسية. هذا، وإلى جانب رواية ابن القطان المتقدمة عن الموقعة، توجد لدينا عنها وثيقتان مرابطيتان، تلقيان عليها، وعلى تاريخ وقوعها، مزيداً من الضياء، ويستخلص منهما ما يأتي: أولا - أن الموقعة وقعت في " القلعة " أو" القلاعة ". ونحن نرجح قول الرواية الإسلامية في تحديد موقع القلاعة، بأنه على مقربة من جزيرة شقر. وثانياً - أن وقوعها كان في النصف الأول من سنة 523 هـ (النصف الأول من سنة 1129 م). وثالثاً - أن المرابطين، أصيبوا في تلك الموقعة بهزيمة شديدة، وقد كانوا بقيادة الأمير أبى محمد بن أبى بكر بن سير اللمتوني، وهو ابن أخت علي بن يوسف، المعروف بابن قنونه، باسم أمه أخت الأمير. والوثيقة الأولى هي عبارة عن رسالة كتب بها أمير المسلمين علي بن يوسف إلى الأمير أبى محمد بن أبى بكر من حضرة مراكش، ومؤرخة في السابع من شهر شعبان سنة 523 هـ، وذلك رداً على كتابه الذي أرسله إلى أمير المسلمين ينبئه ¬_______ (¬1) ابن القطان في " نظم الجمان " (المخطوط السابق ذكره لوحة 34 ب). (¬2) M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 240

فيه بخبر الموقعة. والرسالة من إنشاء كاتب الأندلس وإمام النثر بها يومئذ، أبى مروان بن أبى الخِصَال، وقد كان يتولى الكتابة في بلاط مراكش، وفيها ينحى أمير المسلمين باللوم القارص على قائده أبى محمد بن أبى بكر، وينوه بتقصيره وخذلانه في عبارات لاذعة يقول فيها: وإن لبيان العذر لتلك الحال لقصير، وإن الله على ذلك المشهد المضيع لمطلع بصير، توافقتم مع عدوكم، وأنتم أوفر منه عدة وأكثر جمعاً، وأحرى أن تكونوا أشد عن حريمكم منعاً، وأقوى دونه دفعاً، فثبت وزللتم، وجدّ ونكلتم، وشد عقد عزيمته وحللتم، وكنتم في تلك الوقعة قرة عين الحاسد، وشماتة العدو الراصد، وقد كانت نصبة توليكم بين يديه بشيعة هائلة، ودعامتكم لولا إنثناؤه عنكم ماثلة، فشغله عنكم من غررتموه من الرّجل الذي أسلمتوه للقتل، وفررتم، ونصبتموهم دريئة للرماح ثم طرتم، ولولا مكان من أوردتموه من المسلمين ولم تصدروه، وخذلتموه من المجاهدين ولم تنصروه، لانكشف دون ذلك الرماح جنتكم ووقاؤكم، وأصيبت بها ظهوركم وأقفاؤكم، عاقبكم الله بما أنتم أهله " (¬1). والوثيقة الثانية عبارة عن رسالة كتب بها أيضا أمير المسلمين علي بن يوسف إلى قادة الجيش المرابطي الذين هزموا في موقعة " القِلاعة "، مؤرخة في الحادي عشر من شعبان سفة 523 هـ من حضرة مراكش، رداً على كتابهم في وصف المعركة، وفيها يقول إنه لا محيص عن القدر، وإنه لم يأل جهداً في العمل لإعلاء كلمة الإسلام، وبذل الأموال وحشد الرجال، وإنه لو استطاع أن يكون حاضراً بنفسه لديهم لفعل، ثم يطمئنهم ويؤكد لهم أنه لا هم له إلا الذياد والدفاع عنهم والتوفر عليه بأقصى جهد (¬2). وإنه ليبدو لنا من رسالة ثالثة كتبها أمير المسلمين علي بن يوسف إلى قاضي بلنسية وساير الفقهاء والوزراء والأعيان والعامة، عند نزول ابن رذمير عليها، أن ألفونسو الأرجوني، بعد أن أحرز نصره في موقعة القلاعة المتقدمة الذكر، قد سار بقواته شمالا مخترقاً أراضي ولاية بلنسية، وأنه اقترب من ثغر ¬_______ (¬1) يراجع نص هذه الوثيقة بأكمله في باب الوثائق. وقد نقلناها عن مخطوط الإسكوريال رقم 488 الغزيري (لوحة 71 ب - 72 أ) وسبق أن نشر هذه الوثيقة وعلق عليها الدكتور حسين مؤنس في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه (مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1949). (¬2) يراجع نص هذه الرسالة في باب الوثائق. وقد نقلناها عن نفس المخطوط (لوحة 72 ب و 73 أ) وسبق أن نشر هذه الوثيقة أيضاً الدكتور حسبن مؤنس في بحثه السالف الذكر.

بلنسية، ورابط أمامه حيناً. والواقع أن ابن القطان يذكر لنا بعد حديثه عن موقعة القلاعة، أن قوة من النصارى أغارت على غليرة Cullera الواقعة على البحر على مقربة من جنوبي بلنسية، واكتسحت ما وجدت (¬1)، وعندئذ وجه قاضي بلنسية الخطيب أبو الحسن إلى أمير المسلمين رسالة استغاثة، هي التي يرد عليها في رسالته. وقد صدرت رسالة أمير المسلمين من حضرة مراكش مؤرخة في السابع من شعبان سنة 523 هـ، في نفس اليوم الذي أرخت فيه الرسالة الأولى، الموجهة إلى الأمير محمد بن أبى بكر بلومه، وتقريعه على تخاذله في " القلاعة ". وفي هذه الرسالة يشير أمير المسلمين برفق إلى هزيمة جنده في القلاعة، وأن ذلك لم يكن إلا بسبب تخاذلهم، وعدم اعتبارهم بمواعظه، ثم يطمئن أهل بلنسية، ويؤكد لهم أنه لن يتركهم إلى الضياع، ولن يألو جهداً للذب عنهم، وأنه قد كتب إلى سائر ولاته، بإرسال الأقوات، والتعجيل بإنفاذها في أقرب وقت، وأنه يضعهم من باله في أعز مكان، ويختتمها بالدعاء لأهل بلنسية " بأن يشد الله أزرهم، ويصح أمرهم، ويسد ثغرهم، ويحفظ الألفة عليهم " (¬2). والظاهر أن ألفونسو المحارب، قد اكتفى في زحفه بأعمال العيث والتخريب، ولم يحاول مهاجمة بلنسية ذاتها (¬3). 4 - موقعة إفراغة شغل ألفونسو المحارب، عقب غزوته الكبرى خلال الأندلس، بضعة أعوام، بالحرب مع منافسه ملك قشتالة الفتى ألفونسو ريمونديس ولد زوجه أورّاكا، ولما انتهت هذه الحرب بعقد الهدنة بين قشتالة وأراجون في سنة 1130 م، حوّل ألفونسو المحارب نشاطه إلى وجهة أخرى، غير العدوان على الأندلس. فعبر جبال البرنيه في بعض قواته إلى فرنسا، وحاصر مدينة بيونة الواقعة شمال نافار، ولم توضح لنا الرواية النصرانية بواعث هذه الحركة، من جانب ملك أراجون، ولكن الظاهر، أنه قام بها إنجاداً لبعض أتباعه من السادة الفرنج، الذين تجاور أراضيهم نافار، وانتهى الحصار باستيلاء ألفونسو على بيونة (سنة 1131 م)، ثم عاد إلى أراجون، ليستأنف تدبير مشاريعه ضد الأندلس. ¬_______ (¬1) نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 34 ب). (¬2) نشرنا هذه الوثيقة في باب الوثائق، منقولة عن مخطوط الإسكوريال السالف الذكر (لوحة 72 ب - 73 أ). (¬3) M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 240

وكانت الجيوش المرابطية في الثغر الأعلى وشرقي الأندلس، خلال هذه الفترة، التي شغل فيها ألفونسو المحارب بحروبه في قشتالة وجنوبي فرنسا، تقوم بالإغارة على الأراضي النصرانية المجاورة والعيث فيها، وكانت تخرج بالأخص من طرطوشة ولاردة، وهما أهم القواعد التي بقيت بأيدي المسلمين في الثغر الأعلى، لتجتاح أراضي النصارى المجاورة في أراجون وإمارة برشلونة. ووقعت بين المسلمين والنصارى في تلك الفترة، عدة معارك، وشغل الكونت رامون برنجير الثالث أمير برشلونة، بمعاونة حلفائه الأرجونيين لرد غارات المسلمين. فلما عاد ألفونسو المحارب إلى استئناف نشاطه ضد المسلمين، كان أهم ما يشغله هو الاستيلاء على ما بقي من قواعد الثغر الأعلى، وإجلاء المسلمين عنها. وكانت هذه القواعد، تنحصر أولا في لاردة وإفراغة ومكناسة الواقعة، في المثلث الواقع بين نهري سنكا وسجرى فرعي نهر إبرة (الإيبرو)، وثانياً في ثغر طرطوشة الواقع على البحر المتوسط عند مصب إبرة. وكان ثغر طرطوشة كما قدمنا بالأخص هدف ملك أراجون، إذ كان الاستيلاء عليه، يحقق له الاستيلاء على ما بقي من مجرى نهر إبرة، ويضمن له سلامة الملاحة في هذا النهر العظيم، ويصل ما بين مملكته وبين البحر. ومن ثم فقد وضع ألفونسو مشروعه الكبير من شقين، يتضمن الأول الاستيلاء على القواعد الإسلامية، الواقعة في مثلث نهري سنكا وسجرى، ثم يتبعها بالشق الثاني وهو الاستيلاء على طرطوشة. وأعد ألفونسو حملة جديدة قوية للبدء في تنفيذ مشروعه، واشترك في هذه الحملة كثير من الأشراف والفرسان الفرنسيين، على غرار ما حدث في حملة سرقسطة، وبدأ ألفونسو بالزحف على مدينة (مكننسة) مكناسة الواقعة عند ملتقى نهري سجرى وإبرة، وهي قاعدة حصينة، ولكن الدفاع عنها لم يكن ميسوراً لوقوعها في السهل المكشوف، فهاجمها النصارى بشدة، واضطرت إلى التسليم بعد مقاومة عنيفة، وذلك في يونيه سنة 1133 م (أواخر سنة 527 هـ). واتجه ألفونسو بعد ذلك إلى الاستيلاء على مدينتي إفراغة ولاردة، وبدأ الزحف على إفراغة وهي تقع على الضفة اليمنى لنهر سنكا على مسافة قريبة من شمال مكناسة. ولم يكن الاستيلاء على إفراغة بالأمر الهين، لموقعها الحصين فوق الربى العالية في نهاية منحدر وعر ضيق، تصعب مهاجمته، ويسهل الدفاع عنه. ومن جهة أخرى، فقد شعر المرابطون، من أهبة ألفونسو وعنف تحركاته، أن

المعركة الحاسمة بينهم وبين النصارى في الثغر الأعلى، أضحت على وشك الوقوع. وكانوا مذ وقفوا على حركات ألفونسو وأهباته، لافتتاح قواعد الثغر الباقية، قد رأوا من باب التحوط والاستعداد، أن يعقدوا التفاهم والسلم مع أمير برشلونة رامون برنجير الثالث، وذلك خشية أن ينتهز الفرصة فيهاجمهم من جانبه، ويضطر المرابطون إلى القتال في جبهتين، فاتفقوا على أن يؤدوا له جزية سنوية قدرها اثنا عشر ألف دينار، وذلك عن أمر علي بن يوسف وتوجيهه، فغضب لذلك ألفونسو، وأقسم بأنه سوف ينتزع تلك البلاد التي تؤدي عنها الجزية، ويقطع بذلك منفعتها عن الطرفين الخصيمين (¬1). ومن ثم فإنه ما كادت مكناسة تسقط في يد العدو، حتى بادر المرابطون في الثغر، وفي وسط شرقي الأندلس، إلى التأهب للدفاع عن إفراغة ولاردة، وهرع الزبير بن عمرو اللمتوني من قرطبة إلى الثغر الأعلى، في ألفي فارس، ومعه مقادير وفيرة من المؤن. وهرع إليه الأمير أبو زكريا يحيى بن غانية والي بلنسية ومرسية، في قوة تقدرها الرواية بخمسمائة فارس، وكان من أعظم وأشجع القادة المرابطين. وكذلك حشد عبد الله بن عِياض والي لاردة قواته. وكان أهل إفراغة حينما ضيق عليهم ألفونسو الحصار، وأخذت مواردهم في النضوب، قد كتبوا إلى يحيى بن غانية باعتباره عميد القادة المرابطين، بطلب الإنجاد والأقوات، وأنذروه في كتابهم، بأنه إن لم يفعل خضعوا لألفونسو، وسلموه المدينة. ولكن ابن غانية لم يكن في حاجة إلى مثل هذا النذير، وكانت مهمة إنجاد إفراغة وإنقاذها تلقي لديه، ولدى سائر القادة المرابطين منذ البداية منتهى الغيرة والاهتمام (¬2). وفي تلك الأثناء كان ألفونسو قد وصل بقواته إلى إفراغة، وضرب حولها الحصار، فقاومته حاميتها وأهلها بقيادة واليها سعد بن محمد بن مردنيش أشد مقاومة، واضطر أن يرفع الحصار غير مرة، ثم يعود إليه، وحملته هذه المقاومة ذاتها، على مضاعفة جهوده في التضييق على المدينة المحصورة، والتصميم على أخذها. وأقسم ألفونسو تحت أسوار إفراغة، كما أقسم أبوه سانشو راميرز قبل ذلك بأربعين عاماً، تحت أسوار وشقة. أن يفتتح إفراغة أو يموت دونها، وأقسم معه عشرون من سادته، وأمر ألفونسو كذلك أن يؤتى برفات القديسين إلى المعسكر ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر). (¬2) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر).

إذكاء لحماسة الجند، وأن يتولى الأساقفة والرهبان قيادة الصفوف أسوة بالقوامس (الكونتات). وهنا تختلف الروايتان الإسلامية والنصرانية في تصوير الوقائع، وبينما تقول الرواية الإسلامية إنه ما كادت الجيوش المرابطية تصل إلى إفراغة، حتى نشبت الموقعة الحاسمة بين المسلمين والنصارى، إذا بالرواية النصرانية تقدم إلينا تفصيلا آخر، وهو أنه ما كادت القوات المرابطية تصل إلى ظاهر إفراغة، وتتقدم إلى إنجادها، حتى وقعت بينها وبين النصارى معركتين متواليتين، وهزم المرابطون في الموقعتين، ولجأوا إلى الفرار، وعندئذ دب اليأس إلى أهل المدينة وعرضوا التسليم ببعض الشروط، فرفض ألفونسو كل عرض للتسليم، وصمم على اقتحام المدينة بالسيف، فانقلب المحصورون إلى مقاومة اليأس، ونظم المرابطون قواتهم، وعادوا إلى محاولة إنقاذ المدينة، ودبروا كميناً جذبوا إليه الأرجونيين، على يد قافلة من المؤن. وهنا نشب القتال واضطرمت الموقعة. وعلى أي حال، فقد نشبت بين المرابطين وبين النصارى تحت أسوار إفراغة، موقعة من أشد وأعنف، مما عرف في تاريخ المعارك الحاسمة في الثغر الأعلى. وتقدر الرواية الإسلامية قوات المرابطين بنحو ثلاثة آلاف فارس (¬1)، وهو تقدير لا يتفق في نظرنا مع ضخامة المعركة ونتائجها، وتقدرهم الرواية النصرانية بعشرة آلاف فارس (¬2). وأما الجيش النصراني، فتقدره الرواية الإسلامية بإثنى عشر ألف فارس (¬3). ومن المرجح على أي حال، أن القوات النصرانية كانت تتفوق في الكثرة على المسلمين. ووقع بين الفريقين قتال شديد مروع، وأبدى المسلمون يقيادة ابن غانية ضروباً رائعة من البراعة والبسالة، وقاتل الأرجونيون كذلك بفيض من الشجاعة، وكان ملكهم يقود المعركة بنفسه، وخرج أهل إفراغة، فانقضوا على النصارى من الخلف، فاشتد الأمر على النصارى، وكثر القتل فيهم، وهلكت منهم عدة كبيرة من القادة والأكابر، ومزقت صفوفهم تمزيقاً، وأصيبوا بهزيمة ساحقة، لم يصبهم مثلها منذ موقعتي الزلاّقة وأقليش (¬4)، واستولى ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 13، وهو يحدد القوات المرابطية على النحو الآتي: قوات قرطبة ألف فارس، وقوات مرسية وبلنسية خمسمائة فارس، وقوات لاردة مائتا فارس. (¬2) M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 248. وكذلك أشباخ في تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين (الترجمة العربية) ص 164. (¬3) ابن الأثير ج 11 ص 13. (¬4) راجع في تحديد معالم الموقعة خريطة الثغر الأعلى (ص 91 من هذا الكتاب).

المسلمون على محلتهم وعتادهم وسلاحهم، وكان ذلك في اليوم السابع عشر من يوليه سنة 1134 م (23 رمضان سنة 528 هـ) (¬1). وتختلف الرواية اختلافاً بيناً في مصير ألفونسو المحارب. ومعظم الروايات النصرانية على أنه سقط خلال الموقعة. ويؤيد هذه الرواية صاحب " الأخبار الطليطلية "، وردريك الطليطلي، وثوريتا، وغيرهم. ولكن الذي يثير ريباً حولها، هو أن جثة ألفونسو المحارب لم توجد قط بين ضحايا الموقعة (¬2). وأما الرواية الأخرى، فهي أن ألفونسو توفي بعد الموقعة بأيام قلائل، ويروى مؤرخ قطلوني معاصر في وصفه للمعركة، أنه حين تمت الهزيمة الساحقة على النصارى، عمد ألفونسو إلى الفرار بصحبة فارسين فقط، ولجأ إلى دير القديس " خوان دي لابنيا " في سرقسطة، وهنالك توفي غماً ويأساً، لثمانية أيام فقط من الموقعة، وذلك في 25 يوليه سنة 1134 م. وهذا ما تؤيده الرواية الإسلامية مع خلاف يسير. فإن ابن الأثير يقول لنا في حديثه عن الموقعة، أن ابن رذمير (ألفونسو) لحق عقب هزيمته بمدينة سرقسطة، " فلما رأى من قتل من أصحابه، مات مفجوعاً بعد عشرين يوماً من الهزيمة " (¬3) ويقول ابن القطان أن ابن رذمير فر في شرذمة قليلة جداً، ولحق بمدينة سرقسطة، واله العقل، مخبول الذهن، ثم خرج منها إلى وشقة فأقام بها مختلا أشهراً قليلة ثم حان أجله (¬4). ويقول لنا صاحب الروض المعطار، إن ألفونسو فر عقب هزيمته، وأوى إلى حصن خرب في رأس جبل شاهق، مع الفل الذي بقي معه، ثم غادره متسللا بالليل حينما أحدق به المسلمون (¬5). ¬_______ (¬1) تختلف الرواية العربية في تاريخ الموقعة فيضعه ابن عذارى في سنة 528 هـ (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 100). ويقول لنا ابن القطان إنها وقعت في سنة 529 هـ ويقول في موضع آخر إنها وقعت سنة 528 هـ (المخطوط السابق ذكره) ويضعها ابن الأثير في سنة 529 هـ (ج 11 ص 13). ويقول لنا صاحب الروض المعطار إنها وقعت في رمضان سنة 525 هـ (صفة جزيرة الأندلس ص 24). ولكن الرواية لنصرانية تحدد لنا تاريخها تحديداً دقيقاً واضحاً، وهو يوليه سنة 1134، الموافق لرمضان سنة 528 هـ. (¬2) يراجع في ذلك M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 243، والهامش حيث يعدد الروايات النصرانية المؤيدة لسقوط ألفونسو في الموقعة. وراجع أيضاً: F. Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides, p. 269-272 (¬3) ابن الأثير ج 11 ص 13. (¬4) في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره). (¬5) الروض المعطار ص 25.

وقد كان لنصر المرابطن في إفراغة، صدى عميق في سائر أرجاء الأندلس، وفي اسبانيا النصرانية بنوع خاص، وعادت سمعة المرابطين العسكرية، إلى سابق مكانتها في شبه الجزيرة، وذاع صيت يحيى بن غانية، قائد المرابطين في ذلك اليوم المشهود، وسنرى فيما بعد كيف يضطلع ابن غانية في قيادة المرابطين في شبه الجزيرة بأعظم دور. وقد نظم الشاعر أبو جعفر بن وضاح المرسى، في واقعة إفراغة، ومديح ابن غانية قصيدة يقول فيها: شمرت برديك لما أسبل الواني ... وشب منك الأعادي نار غيان دلفت في غاية الخَطِّىّ نحوهم ... كالعين يهفو عليها وطف أجفان عقرتهم بسيوف الهند مصلتة ... كأنما شربوا منها بغدوان هون عليك سوى نفس قتلتهم ... من يكسر النبع لم يعجز عن البان وقفت والجيش عقدٌ منك منتثرا ... إلا فرائد أشياخ وشبان والخيل تنحط من وقر الرماح بها ... كأن نصالها ترجيع ألحان وكان من أثر مؤوقعة إفراغة، وهلاك ألفونسو المحارب، أن انقشع الخطر مدى حين، عما بقي بأيدي المسلمين من أراضي الثغر الأعلى، وعن شرقي الأندلس، واختفت من ميدان الصراع بين المسلمين والنصارى، شخصية خطرة كانت تهدد بمشاريعها البعيدة المدى وتصميمها المستميت، سلام المسلمين، وسلامة الوطن الأندلسي. وقد كان ألفونسو المحارب في الواقع، مثل فرناندو الأول، وألفونسو السادس، من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية، في العصور الوسطى. وكان افتتاحه لسرقسطة، فاتحة عصر جديد لمملكة أراجون، كما كان افتتاح ألفونسو السادس لطليطلة فاتحة عصر جديد لمملكة قشتالة، وقد غدت مملكة أراجون في ظله، باتحاد مملكة نافار معها، منذ عهد أبيه سانشو، قرينة مملكة قشتالة من حيث ترامى الرقعة، وضخامة الموارد، وقوة المراس في مناجزة الأندلس، وقد استطاع هو أن يوطد حدود مملكته، وأن يوسع رقعتها، بافتتاحه سرقسطة وتطيلة وطرسونة وقلعة أيوب ودورقة وغيرها، من القواعد الإسلامية، وكانت أمامه، بزواجه من أورّاكا ملكة قشتالة، فرصة لأن يغدو قيصراً لإسبانيا الكبرى، ولكن ما نشب بين الزوجين من خلاف حول السلطان، وما أبداه أشراف قشتالة من بغض لنير أراجون - كان كفيلا بتحطيم مثل هذا المشروع، وكانت الحرب

الأهلية التي نشبت من جراء ذلك بين قشتالة وأراجون، تتيح للمسلمين أوقاتاً للتهادن، كما تتيح لهم فرص الغزو في الأراضي النصرانية. والرواية الإسلامية نفسها تشيد بعظمة ألفونسو المحارب. ويصفه ابن الأثير في قوله " وكان من أشد ملوك الفرنج بأساً، وأكثرهم تجرداً لحرب المسلمين وأعظمهم صبرا " (¬1). هذا وسوف نعني عند الكلام عن تاريخ اسبانيا النصرانية في عهد المرابطين، بالتحدث عن أحوال أراجون وقشتالة في عهد ألفونسو المحارب. ومما هو جدير بالملاحظة، أن المرابطين، بالرغم من نصرهم الساحق في موقعة إفراغة، وتمزيقهم للجيش الأرجوني شر ممزق، لم يفكروا في الاستفادة من نصرهم بالزحف تواً على سرقسطة، ومحاولة استردادها، وقد كانت على مقربة من ساحة نصرهم، وكان سحق الجيش الأرجوني، وهلاك عاهله، مما يشجع على الاضطلاع بمثل هذه المحاولة، ولكن المرابطين قنعوا في ذلك الموطن بالنصر، وانصرفوا إلى قواعدهم، على غرار ما حدث عقب نصر الزلاّقة، حيث أحجم عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين عن مطاردة القشتاليين، وانتهاز فرصة انهيار الجيش القشتالي لمحاولة استرداد طليطلة؛ ومن الغريب أن المرابطين كانوا في نفس الوقت الذي اضطرمت فيه معركة إفراغة سنة 528 هـ يقومون بغزوات مخربة عقيمة في أراضي قشتالة، بقيادة الأمير تاشفين، ولد أمير المسلمين علي بن يوسف، ولو أنهم حشدوا مزيداً من قواتهم في الثغر الأعلى، على أثر انتصارهم في إفراغة بقيادة قائدهم البطل يحيى بن غانية، لكانت لديهم بلا ريب فرصة مرجحة، لاسترداد الثغر الإسلامي العظيم - سرقسطة - وفي رأينا أن المرابطين، بإحجامهم عن استغلال ظفرهم في الزلاّقة وإفراغة، وإحجامهم في الحالة الأولى عن محاولة استرداد طليطلة، وفي الثانية عن محاولة استرداد سرقسطة، قد ارتكبوا في الحالتين خطأ عسكرياً لاشك في خطورته، وكانت له في الحالتين نتائج بعيدة المدى. 5 - خاتمة ملك بني هود بالثغر الأعلى لما دخل المرابطون سرقسطة بدعوة أهلها، في أواخر سنة 503 هـ (1110 م) كان قد غادرها آخر ملوكها من بني هود، عبد الملك بن أحمد المستعين بن هود الملقب بعماد الدولة. ولم يكن عبد الملك قد حكم سوى فترة يسيرة، دب الخلاف ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 13.

خلالها بينه وبين أهل سرقسطة لمحالفته النصارى وانضوائه تحت لوائهم، حسبما فصلناه من قبل في كتاب " دول الطوائف ". وسار عبد الملك في أهله وأمواله إلى قاعدة روطة المنيعة، الواقعة على الضفة اليسرى لنهر خالون أحد أفرع نهر إبرة الجنوبية، على قيد خمسة وثلاثين كيلومتراً من سرقسطة. وكان بنو هود قد أنشأوا هذه القاعدة، وحصنوها وزودوها بالأبنية الضخمة، وأعدوها لتكون لهم عند الضرورة ملجأ ومثوى. وفي بعض الروايات أن الذي أنشأ حصن روطة، وأسبغ عليه مناعته الفائقة، هو المستعين والد عبد الملك، وأنه حفر فيه إلى الوادي سرباً أتقن أدراجه، تنيف على أربعمائة درج فلا ينقطع فيه الماء (¬1). واستمر عبد الملك في هذه القاعدة، وأنشأ بها إمارة صغيرة. والظاهر أن إمارة روطة كانت تشمل يومئذ، رقعة من الأراضي، تمتد شمالا حتى برجة الواقعة شمال غربي سرقسطة، على مقربة من تطيلة، يدل على ذلك ما يذكره صاحب البيان المغرب في أخبار سنة عشر وخمسمائة من أن الأمير أبا بكر صاحب سرقسطة، خرج إلى الغزو، وهاجم حصن روطة، وأثخن في أنحائه، ثم تحرك إلى برجة، وبها عماد الدولة بن المستعين بن هود، فضيق عليها، وبالغ في إرهاقها، حتى صالحه أهلها، فرجع عنها إلى سرقسطة (¬2). وعلى أي حال فإنه يبدو أن العداء كان مستحكماً، بين عماد الدولة وبين المرابطين، ومن ثم فقد وضع عماد الدولة نفسه تحت حماية ملك أراجون القوي، ألفونسو المحارب، خشية من نقمة المرابطين سادة سرقسطة، واستمر عبد الملك عماد الدولة، في حكم إمارته الصغيرة نحو عشرين عاماً، حتى توفي بحصن روطة في شعبان سنة 524 هـ (1130 م). وكانت سرقسطة قد سقطت في تلك الأثناء في أيدي النصارى، وأصبح ألفونسو المحارب سيد هذه الأنحاء بلا منازع. وتوجد ثمة رواية مفادها أن عماد الدولة بن هود، لبث أميراً بسرقسطة، تحت حماية المرابطين، حتى سقطت المدينة في أيدي النصارى، وعندئذ فر منها إلى روطة (¬3). بيد أن هذه الرواية ضعيفة لا تؤيدها أية رواية أخرى. وينقضها بالعكس، ما سبق أن ذكرناه من توالي الولاة المرابطين على سرقسطة، مذ دخلها ابن الحاج حتى سقوطها في أيدي النصارى في سنة 512 هـ (1118 م). ¬_______ (¬1) ابن الكردبوس في كتاب " الإكتفاء " (مخطوط الأكاديمية السالف الذكر لوحة 165 ب). (¬2) ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 78). (¬3) ابن الكردبوس في كتابه السالف الذكر (المخطوط لوحة 165 ب).

ولما توفي عماد الدولة خلفه في إمارة روطة وأعمالها، ولده أبو جعفر أحمد ابن عبد الملك، وتلقب بسيف الدولة المستنصر بالله، وكذلك المستعين بالله، واستمر في حكم روطة وما حولها من الحصون والأراضي، وحذا حذو أبيه في محالفة النصارى، والانضواء تحت حماية ألفونسو المحارب ملك أراجون. بيد أنه ما لبث أن شعر بوطأة هذا النير، ورأى أن يتجه إلى الناحية الأخرى من اسبانيا النصرانية، إلى ناحية قشتالة. وكان ملك قشتالة الفتى ألفونسو ريمونديس، الذي تسميه الرواية العربية أدفنش بن رمند باسم أبيه ريموند الأرجوني، وبالسُّليطين أي الملك الصغير - لأنه تولى الملك وهو حدث، وأضحى بعد وفاة أمه أورّاكا في سنة 1126 م، ملكاً على ليون وقشتالة ولمّا يجاوز الحادية والعشرين. وكان ألفونسو ريمونديس، بعد أن انتهى النضال بينه وبين خصمه ومنافسه ألفونسو المحارب، زوج أمه القديم بظفره، وأضحى سيد قشتالة القوي، يبدو لسيف الدولة حليفاً أفضل. وتعرف الرواية اللاتينية " سيف الدولة " معرفة جيدة، وتسمية " سفادولا " Zafadola، وتقول لنا إن سيف الدولة عرض على أولاده ووزرائه، فكرة التحالف مع ملك قشتالة والانضواء تحت لوائه، فوافقوا عليها، وأنه بعث إلى ملك قشتالة برغبته في زيارته، وبأن يرسل إليه بعض فرسانه لحمايته، خوفاً من المرابطين، فبعث إليه الملك ببعض أكابر فرسانه، وصحبوه إلى بلاط طليطلة، فاستقبله الملك بترحاب وعطف، وعامله معاملة ملك، وقدم إليه طائفة من الهدايا النفيسة، وتأثر سيف الدولة بما رآه من فخامة بلاط قشتالة، وكريم معاملته، فأعلن أنه ينضوي تحت لوائه وحمايته، ويضع نفسه هو وأولاده تحت تصرفه، ثم نزل له عن حصن روطة، مقابل حصون وبلاد في منطقة طليطلة وإسترامادورة، أعطاه إياها ملك قشتالة، فانتقل إليها ووضع نفسه في خدمته (¬1). وتقدم إلينا لي بعض الروايات النصرانية الأخرى، قصة سيف الدولة في صيغة أخرى، فتقول إن سيف الدولة لما برم بحماية ملك أراجون المرهقة، وخشي من انقلاب رعيته عليه لمحالفته للملوك النصارى، قرر أن يعترف بحماية ملك قشتالة، ونزل له عن روطة اليهود، وغيرها من المواقع المنيعة، الباقية من مملكته الصغيرة، ¬_______ (¬1) تراجع هذه الرواية في A. P. Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) T. I. p. 466-467 وكذلك في F. Codera: Dec. y Dis. de los Almoravides, p. 24-26

فاستقبله ملك قشتالة بترحاب، وأعطاه في مقابل ذلك، عدة أمكنة في قشتالة وليون (سنة 1132 م) (¬1). وتحدثنا الرواية العربية عن سيف الدولة المستنصر بن هود، وعن تنازله عن حصن روطة لملك النصارى، ولكنها تختلف في تفاصيل ذلك. ويضع ابن الاثير هذا التنازل في حوادث سنة 529 هـ (1134 م)، ويقول لنا إن المستنصر ابن هود، عقد في هذه السنة الصلح مع " السليطين " (ألفونسو ريمونديس). وكان " السليطين " قد أكثر من غزو بلاد المستنصر وقتالها حتى ضعف عن مقاومته، فرأى أن يريح نفسه وجنده مدة، فاستقر بينهما الصلح لمدة عشر سنين، على أن يسلم المستنصر حصن روطة، وهو من أمنع الحصون وأحصنها، وتسلم النصارى الحصن " وفعل المستنصر فعلة لم يفعلها قبله أحد " (¬2). ويقدم إلينا ابن الكردبوس عن هذه الواقعة رواية ضافية، ينفرد فيها بتفاصيل خاصة، خلاصتها أن طاغية الروم الإنبرطر الملقب بالسُّليطين، هو الذي راسل المستنصر، وعرض عليه أن يتخلى له عن روطة ويعوضه عنها بقشتالة ما هو أحسن وأفيد، بحيث يغدو أقرب إلى بلاد غربي الأندلس، وأنه سوف يخرج معه بنفسه إلى طائفة من البلاد المتاخمة لقشتالة يدعو أهلها لطاعته، وأنه على يقين من أن أهل هذه البلاد سوف يستجيبون إلى دعوته، لأن المرابطين قد أذاقوهم العذاب، وهم يكرهونهم، ويتمنون زوال دولتهم، وأخيراً أنه لم يبق من أبناء الملوك المسلمين سواه، أى المستنصر، وهكذا تخلى المستنصر لملك قشتالة عن روطة وهي " معقل ما أبصر مثله من يعقل ". وعوضه عنها ملك قشتالة بقرى ومزارع مغلة في بلاده. ثم خرج معه إلى غربي الأندلس، في قوات كثيفة، فما قصد موضعاً إلا ألفاه ممتنعاً، ولم تستجب إلى دعوته أية قرية، أو أي موضع، وخشي أهل هذه البلاد جميعاً، إن أطاعوه وانضموا تحت لوائه، فإن العدو يغلبهم ويملكهم، وهذا رجع المستنصر من مشروعه بأخسر صفقة (¬3). ويستفاد من رواية ابن الكردبوس هذه، أن ملك قشتالة، كان يرمي إلى استخدام المستنصر ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 247 (¬2) ابن الأثير ج 11 ص 13. (¬3) وردت رواية ابن الكردبوس في كتاب " الإكتفاء " (مخطوط أكاديمية التاريخ السابق الذكر لوحة 165 ب).

في إنشاء إمارة متاخمة لقشتالة من ناحية الجنوب الغربي، تتكون من بعض البلاد والقرى الإسلامية النائية المجاورة لحدود قشتالة، وذلك لكي يجعل منها قاعدة أمامية لعدوانه على أراضي الأندلس، ووسيلة للضرب والتفريق بين المسلمين في تلك المنطقة، بيد أنه فشل في مشروعه واقتصر سيف الدولة المستنصر، في مقامه بقشتالة، على الأماكن والأراضي التي منحت له ليعيش فيها. ويقول لنا ابن الأبار إن ملك قشتالة عوضه عن روطة بنصف مدينة طليطلة (¬1). وهذه الرواية تدعو إلى التأمل، لأن طليطلة كانت في ذلك الوقت عاصمة مملكة قشتالة، وتقول لنا الرواية اللاتينية السالفة الذكر إن ملك قشتالة منح المستنصر حصوناً وبلاداً في منطقة طليطلة وإسترامادورة، وهو أقرب إلى المعقول، وربما شملت هذه الأماكن حيًّا أو دوراً في طليطلة ذاتها. ويضع ابن الأبار تاريخ تنازل المستنصر عن روطة في شهر ذي القعدة سنة 534 هـ (1139 م). وهناك رواية أخرى يقدمها إلينا ابن الخطيب، وهي تختلف في مضمونها عما تقدم، وخلاصتها أن المستنصر بن هود لجأ إلى حماية ابن رذمير، أعني ألفونسو المحارب ملك أراجون، وليس إلى حماية ملك قشتالة، وأن ابن رذمير عوضه عن روطة بأماكن من أعمال مدينة تُطيلة في شمالي الثغر فانتقل إليها بأهله وأمواله (¬2). وهكذا انتهت بتخلي المستنصر عن قاعدة روطة وأعمالها، رياسة بني هود فيما تبقى من أنقاض مملكة سرقسطة القديمة. وأقام المستنصر في مقره الجديد في كنف ملك قشتالة بضعة أعوام أخرى، إلى أن سنحت له فرصة للتدخل في حوادث الأندلس، وشق طريقه إلى الرياسة من جديد، وهو ما سنعنى به في موضعه المناسب. ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 225. (¬2) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 176.

الفصل الخامس الأمير تاشفين بن على وغزواته وأعماله فى شبه الجزيرة

الفصل الخامِسُ الأمير تاشفين بن علي وغزواته وأعماله في شبه الجزيرة قاعدة التولية لدى المرابطين. علي بن يوسف يولي ولده تاشفين شئون الأندلس. الخلاف حول تاريخ هذه التولية. خروج تاشفين إلى غزو قشتالة. غزوة لوالي إشبيلية. القشتاليون يغزون أراضي قرطبة. غزوة ينتان بن علي لأراضي أراجون. تاشفين يفتتح حصن السكة. عود القشتاليين إلى غزو أراضي قرطبة. مسير تاشفين إلى لقائهم وهزيمتهم. غزو القشتاليين لأراضي إشبيلية وردهم. عودهم إلى الغزو بقيادة ملكهم ألفونسو ريموندس. التقاء تاشفين وقواته بالنصارى قرب بطليوس. هزيمة القشتاليين وفرارهم. خروج تاشفين إلى الغزو. اللقاء في موقعة البكار. هزيمة المرابطين في البداية ثم ثباتهم وانتصارهم. قصيدة أبى بكر الصيرفي في مديح تاشفين ونصحه. إيضاح عن مكان الموقعة. حوادث أندلسية مختلفة. غزوة قشتالية لأراضي الأندلس. توغل القشتاليين وعيثهم حتى أراضي شريش. غزوات جديدة لتاشفين في أراضي قشتالة. غزوة قشتالية أخرى لأراضي قرطبة. نقل قاعدة الحكم المرابطي من غرناطة إلى قرطبة. التنويه بتاشفين وحسن إدارته. عود تاشفين إلى المغرب. اختياره لولاية العهد مكان أخيه سير. ظروف هذه التولية وبواعثها. - 1 - وضح مما تقدم، مما ذكرناه في أخبار ولاة الأندلس وأقاليمها، أن الدولة المرابطية، كانت تعتمد في حكم الأندلس على عصبية القبيل والأسرة، فيتولى الحكم بها الأمراء من أبناء أمير المسلمين وقرابته وأصهاره، ويتولى هؤلاء كذلك قيادة الجيوش المرابطية، ويضطلع بالقيادة العامة ولد الأمير. وقد طبقت هذه القاعدة منذ البداية، فكان الأمير سير ابن أبى بكر اللمتوني قائد الجيوش المرابطية، ومتولي شئون الأندلس في عهد يوسف بن تاشفين، ثم كان أبو الطاهر تميم ولد يوسف متولي القيادة العامة، منذ وفاة والده، وولاية أخيه علي بن يوسف، وكذلك متولي لشئون الأندلس، وقاعدته الإدارية غرناطة. ولبث تميم في منصبه عدة أعوام، قاد فيها الجيوش المرابطية منذ موقعة أقليش في سنة 501 هـ (1108 م)، حتى سقوط سرقسطة في سنة 512 هـ (1118 م)، وموقعة كتُندة في سنة 514 هـ (1120 م). وفي سنة 516 هـ (1122 م)، ولّي الأمير تميم ولاية إشبيلية إلى جانب ولاية غرناطة ثم صرف عن إشبيلية في العام التالي، ووُلي

إشبيلية الأمير أبو بكر بن علي بن يوسف. واستمر الأمير تميم بعد ذلك والياً على غرناطة، ومتولياً لسائر شئون الأندلس، حتى توفي سنة 520 هـ (1126 م). ومما هو جدير بالذكر أن القاضي أبا الوليد بن رشد، حينما عبر إلى العدوة في هذا العام نفسه، على أثر غزوة ألفونسو المحارب، بممالأة النصارى المعاهدين، كان يقصد - إلى جانب سعيه لدى أمير المسلمين علي بن يوسف في تغريب المعاهدين - أن يسعى كذلك في عزل أخيه تميم عن ولاية الأندلس، وتعيين غيره (¬1). ولكن القدر عجل بوفاة تميم. فعندئذ عهد أمير المسلمين علي بن يوسف بئشون الأندلس، إلى ولده تاشفين بن علي، فعبر إليها في جيش مرابطي جديد من خمسة آلاف فارس، ولم يلبث أن بدأ سلسلة جديدة من الغزوات في أراضي قشتالة. وتختلف الرواية في تاريخ تولية تاشفين لشئون الأندلس. فهناك قول بأن توليته كانت في سنة 520 هـ عقب عزل عمه تميم (¬2)، وهناك قول آخر بأن هذا التعيين كان في سنة 522 أو 523 هـ (¬3)، تم هناك قول ثالث بأنه كان في سنة 526 هـ (¬4). بيد أنه يبدو من أقوال صاحب البيان المغرب عن غزوات تاشفين بالأندلس، وهي أقوال تؤيدها الرواية النصرانية، أن تاشفين كان موجوداً بالأندلس منذ سنة 522 هـ، وأنه قد التقى في هذا العام ذاته بالقشتاليين على مقربة من قلعة رباح (¬5). وهذه الرواية يؤيدها أيضاً ما يذكره لنا ابن القطان في حوادث سنة 522 هـ، وهو أن علياً بن يوسف، عزل ولده الأمير أبا بكر عن ولاية إشبيلية، وغربه مكبولا إلى الصحراء، لأنه لم يرض عن بيعة أخيه، وتوليه شئون الأندلس، وعين مكانه لولاية إشبيلية أجداي والي قرطبة (¬6). ويؤيد ابن عذارى واقعة عزل الأمير أبى بكر ولكنه لا يذكر شيئاً عن تغريبه، ويقول لنا إن الذي خلفه في ولاية إشبيلية هو عمر بن سير، وذلك في شعبان سنة 522 هـ (¬7). وفضلا عن ذلك، فإن صاحب البيان المغرب، ينقل إلينا عن ابن الوراق رواية ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 107. (¬2) روض القرطاس ص 106. (¬3) ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 454 و 457. (¬4) ابن خلدون ج 6 ص 186. (¬5) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 90). (¬6) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره). (¬7) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة- هسبيرس ص 110).

أخرى مفادها أن ولاية تاشفين للأندلس كانت في سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وأنه قدم إلى غرناطة في السابع والعشرين لذي حجة من هذا العام (¬1). وعلى أي حال فإن حديث غزوات تاشفين في شبه الجزيرة يبدأ بالفعل قبل هذا التاريخ. ويستفاد من رواية صاحب روض القرطاس أن تاشفين قد عبر إلى شبه الجزيرة منذ سنة 520 هـ، وأنه خرج في أواخر هذا العام أو أوائل العام التالي في جيشه، وفي أجناد الولايات، غازياً إلى أراضي طليطلة، فعاث في أحوازها، واقتحم اثنين من حصونها، ثم سار نحو الغرب، والتقى بالنصارى في موضع يعرف " بفحص الضباب " فهزمهم هزيمة شديدة، وافتتح ثلاثين حصناً من حصون هذه المنطقة وكتب إلى أبيه بالفتح (¬2). وقام الأمير تاشفين بعد ذلك بعدة غزوات في أراضي قشتالة، وخاض مع القشتاليين معارك عديدة. وبالرغم من أن الرواية العربية تحدثنا عن غزوات تاشفين ووقائعه في عبارات حماسية، فإنها لا تقدم إلينا تفاصيل شافية عن هذه الوقائع. وكذلك فإن الرواية النصرانية ليست دقيقة ولا واضحة في هذا الموطن. وفي وسعنا أن نتتبع غزوات الأمير تاشفين وحروبه مع النصارى منذ سنة 522 هـ (1128 م)، ففي تلك السنة غزا القشتاليون أراضي الأندلس بجيش ضخم، ووصلوا في زحفهم إلى جبال الكرس، على مقربة من قلعة رباح، فخرج الأمير تاشفين إلى لقائهم، فارتدوا عائدين إلى بلادهم. وفي العام التالي، أعني في سنة 523 هـ (1129 م)، سير الأمير تاشفين جيش إشبيلية بقيادة واليها عمر بن سير اللمتوني، فأغار على أطراف قشتالة، فخرج إليه زهاء ثلاثمائة فارس للعدو وقاتلوه بشدة، فانهزم المرابطون، وقتل وأسر الكثير منهم. وكانت هذه الهزيمة ترجع بالأخص إلى تهاون عمر بن سير وعدم تحوطه، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فألزمه بدية من أسر، وعزله عن ولاية إشبيلية، وولى مكانه الأمير أبا زكريا يحيى بن علي الحاج. وفي سنة 524 هـ (1130 م) انحدرت القوات القشتالية جنوباً حتى أصبحت على مقربة من قرطبة، فاستغاث واليها عبد الله بن تينغمر بالأمير تاشفين، فبادر إليها في قواته، فارتد القشتاليون أدراجهم، ولم يشاءوا الاشتباك مع المرابطين، ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 91). (¬2) روض القرطاس ص 107.

وتحول الأمير تاشفين بقواته إلى جيان، فلبث بها قليلا يرقب الحوادث، ثم سار منها إلى غرناطة (¬1). وتوفي في أوائل هذا العام محمد بن يوسف بن يدّر والي بلنسية، فعين مكانه ينتان بن علي وهو الابن الأصغر لعلي بن يوسف. وخرج ينتان بقواته غازياً في أراضي أراجون، فلقيه النصارى بقيادة الكونت جاستون دي بيارن (وتسميه الرواية العربية غشتون) فهزم النصارى، وقتل الكونت وسيق رأسه إلى غرناطة وطيف بها على رمح؛ ثم حملت إلى أمير المسلمين بمراكش، فطيف بها هنالك أيضاً. وفي رمضان من نفس هذا العام، خرج الأمير تاشفين بجيش غرناطة ومتطوعتها، واتصل به جيش قرطبة إلى حصن السكة Aceea من عمل طليطلة، وكان ملك قشتالة، قد شحنه بالمقاتلة للإغارة على أراضي المسلمين، فحاصره تاشفين، وافتتحه عنوة، وقتل من كان به، وأسر قائده تليو فرنانديث - وكان من مشاهير فرسان قشتالة - وكذلك ضباطه، وتزيد الرواية النصرانية على ذلك، أن القتلى من حامية الحصن بلغوا مائة وثمانين، وأن تاشفين سار بعد ذلك إلى حصن بارجاس فقتل من رجاله خمسين. واستمر في تقدمه حتى وصل إلى " سان سرفاندو " من ضواحي طليطلة، ثم ارتد بعد ذلك بقواته جنوباً وعاد إلى غرناطة، فاستقبله الناس أفخم استقبال (¬2). وفي صفر سنة 525 هـ (يناير 1131 م)، هزم المرابطون قوة من القشتاليين كانت تغير على الحدود وتضيق على المسلمين. وفي هذا العام أسندت ولاية قرطبة إلى ابن أخت علي بن يوسف، عبد الله ابن أبى بكر المعروف بابن قنونة. وفيه شبت النار بسوق الكتانين بقرطبة، واتصلت بسوق البز، فأتت عليه وأسفرت عن خسائر فادحة، ورجم الناس ابن المناصف صاحب السوق لتقصيره في المعونة (¬3). وفي ربيع الأول سنة 526 هـ (يناير 1132 م)، نمى إلى الأمير تاشفين أن ¬_______ (¬1) نقلنا أخبار هاتين الغزوتين، عن البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 91). (¬2) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 91). وابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 67 أ). (¬3) نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 68 ب).

القشتاليين خرجوا من طليطلة متجهين صوب قرطبة، فبادر بالسير إلى قرطبة، تم اتجه إلى لقاء العدو في قواته الخفيفة، وترك الثقل بحصن أرجونة، وفي تلك الأثناء كان القشتاليون قد وصلوا إلى حصن شنت إشتيبن على مقربة من جيان، واستولوا عليه، ثم ساروا إلى قرية براشة. وهناك التقى الفريقان، ووقعت بينهما معركة عنيفة، هزم فيها القشتاليون وقتل منهم عدد جم، وأسر قائد القشتاليين وعدة من أكابر ضباطه، واستولى المرابطون على مقادير وافرة من الأسلحة والدواب والثياب، وسار الأمير تاشفين بالأسرى والغنائم إلى قلعة رباح القريبة من ميدان المعركة، فأصلح أحوالها وحصن أسوارها، وترك الأسرى لدى أهلها، ليفتدوا بهم من يستطيعون من أسراهم، ثم عاد في قواته ظافراً إلى غرناطة (¬1). وقد سجل لنا ابن القطان من أحداث هذا العام بعض صور أخرى غير أخبار الحرب والغزوات، فذكر لنا أن المجاعة اشتدت فيه بقرطبة، وانتشر الوباء بين الناس، وكثر الموت، وبلغ سعر المد من القمح خمسة عشر ديناراً، وذاعت الفوضى وكثر أهل الشر، فجد الوالي ابن قنونة في مطاردة أهله، وقتل الكثير منهم. وفي أواخر هذا العام، أعني 526 هـ، خرج جيش من القشتاليين بقيادة الكونت ردريجو كونثالث إلى ناحية إشبيلية وأغاروا على أراضيها من جهة حصن القليعة، وعاثوا فيها قتلا وسبياً، ثم انحدروا فجأة إلى الشَّرْف (¬2) على مقربة من المدينة وقتلوا من أهله جموعاً غفيرة، وأخذ والى المدينة عمر بن الحاج اللمتوني على غرة، فبادر في قواته إلى لقاء القشتاليين بالوادي على ضفة النهر، وبعث سرية من فرسانه إلى الضفة الأخرى، فأسرت بعض القشتاليين وجاءت بهم فأمر الوالي بضرب أعناقهم أمام أعين إخوانهم في الضفة الأخرى، فاضطرم القشتاليون سخطاً وحماسة، واقتحموا النهر كالسيل المنهمر، وأطبقوا على المرابطين، ووقعت بينهما معركة عنيفة، قتل فيها عمر بن الحاج ومعظم جنده، فأغلقت المدينة ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 459. والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة المشار إليها هسبيرس ص 94 و 95). (¬2) إقليم " الشرف " في الجغرافية الأندلسية، هو السهل الممتد غرباً من إشبيلية حتى لبلة، وجنوباً حتى شاطىء المحيط، ويشمل حصن القصر، ولبلة، وولبة، وجزيرة شلطيش، وجبل العيون. وقد سمي بهذا الاسم لأنه " مشرف من ناحية اشبيلية " (الإدريسي في نزهة المشتاق. الجزء الخاص بوصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس طبعة دوزي ص 174 و 178).

أبوابها دون الغزاة، واشتد الخوف بالناس، وكان ذلك في منتصف رجب من السنة المذكورة (¬1). وزحف القشتاليون على إشبيلية حتى صاروا على قيد فرسخين منها، وهم يثخنون في إحوازها قتلا وسبياً وتخريباً، وكان الأمير تاشفين، حينما نمى إليه عدوان القشتاليين قد نهض في قواته إلى إشبيلية، فطارد العدو وطهر منه الوادي، وارتد النصارى إلى بلادهم مثقلين بالغنائم والسبي. وتزيد الرواية الإسلامية على ما تقدم، أن الأمير تاشفين سار في قواته نحو الغرب ومعه ابن قنونة والي قرطبة، والتقى بقوة من النصارى، كانت قد أغارت على أحواز يابرة، فهزمها المرابطون، وقتلوا معظم رجالها، وأنقذوا منها الغنائم والأسرى (¬2). بيد أنه لم يمض قليل عن ذلك، حتى بدت نيات القشتاليين واضحة في استئناف العدوان على نطاق واسع، ففي أوائل سنة 528 هـ (1134 م) حشد ألفونسو ريمونديس (ألفونسو السابع) أو ألفنش بن رمند كما تسميه الرواية العربية، جيشاً ضخماً من آلاف عدة، وبه كثير من أبطال قشتالة وأنجادها المشهورين، وقصد إلى ناحية بطليوس، وعاث في أحوازها، وخرب أراضيها، فنهض إليه الأمير تاشفين من إشبيلية في قوات ضخمة، ووقف من أدلائه وطلائعه على خط سير العدو، ورابط للقائه في مكان يقع شرقي بطليوس على مقربة من سهل الزلاّقة، الذي اشتهر بانتصار جده العظيم يوسف بن تاشفين فيه، على ألفونسو السادس (479 هـ)، وما كادت طلائع العدو تبدو، وقد ملأت جموعه وغنائمه السهل، حتى تأهب المرابطون للقائه بحماسة وتوثب. ونظم الجيش الإسلامي مثلما نظم يوم الزلاّقة في وحدات متناسقة، فاحتل المرابطون، وعلى رأسهم الأمير تاشفين القلب، تتقدمهم البنود البيض مكتوبة بالآيات، اصطفت إلى جانبيه القوات الأندلسية تتقدمها الرايات الحمراء بالصور الهائلة، واحتل الجناحين أهل الثغور وذوو الجلاد، وعليهم الرايات المرقعات، واحتل المقدمة أنجاد زنانة، ولفيف الحشم ذوو العمائم، وأمامهم الأعلام المصبغات، ونشبت بين الفريقين ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 97) ونظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 71 ب)، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 460. (¬2) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 72 أ).

خريطة: مواقع غزوات المرابطين التي قام بها علي وتاشفين في أراضي قشتالة والبرتغال.

معركة عنيفة، دارت فيها الدائرة على القشتاليين، فهزموا شر هزيمة، ولجأوا إلى الفرار، وقد قتلت وأسرت منهم جموع غفيرة، واستنقذ المسلمون الأسرى والغنائم من أيدي القشتاليين، وكان ذلك في جمادى الأولى من سنة 528 هـ (مارس سنة 1134) وقفل الأمير تاشفين في قواته ظافراً إلى قرطبة. ثم سار منها إلى غرناطة فاستقبل استقبالا فخماً، وأنشده الشعراء مهنئين، فمن ذلك قصيدة طويلة جاء فيها: أما وبيض الهند عنك خصوم ... فالروم تبذل ما ظباك تروم تمضي سيوفك في العدا ويردها ... عن نفسه حيث الكلام وخيم دار هجمت بيوتها بظباك فأبدأ ... على قمم الملوك هجوم (¬1) وفي شهر ذي الحجة من نفس العام (528 هـ) خرج الأمير تاشفين أثر عيد النحر، بقوات غرناطة وقرطبة وقوات المجاهدين من الخيل والرجل، إلى الغزو، فسار نحو الغرب، وقد انضم إليه جيش إشبيلية " بفحص الريحانة " ثم سار إلى موضع تسميه الرواية " بالبكار " وهو طريق للعدو لا محيص منها. ولما رأى القشتاليون القوات المرابطية، وضعوا خطة لاجتذابها إلى هذا الموضع، وأقبل المرابطون بالفعل إليه، وندب القشتاليون نخبة من أنجادهم تبلغ نحو ألفين، فانقضت على المرابطين فجأة عند دخول الظلام، في هذا الموضع الحرج، واستطاعت أن تخترق صفوفهم في عدة مواضع، فدب الخلل بالجيش المرابطي، ونفرت الخيل وشردت واقتحمت الأخبية، وعلا الصياح بين المسلمين، وفروا من كل جانب، ووصلت سرية من النصارى إلى خيمة الأمير تاشفين، فأشار إليه بعض خاصته بأن يبادر بالفرار، فأبى، فأحدق به فرسان الأندلس وأنجاد المرابطين، وحالوا بينه وبين العدو، ووقعت بين الفريقين معركة عنيفة، والأمير تاشفين ثابت فوق فرسه، متشح بسيفه ودرعه، يشدد الضرب والطعان، قال المؤرخ " فلم ير أربط منه جأشاً ولا أشهم نفساً، في مطلع ذلك الهول "، واستطاع أحد الجند العبيد أن يقضي على قائد القشتاليين المهاجمين بطعنة نافذة، ثم انجلت الظلمة عن هزيمة النصارى، وقد اجتمعت من القتلى من الجانبين أكداس ضخمة. وفي صباح الغد سار الأمير تاشفين في قواته إلى حصن قشرش، وهو من ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة هسبيرس - ص 97)، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 460 و 461. ولم يذكر لنا ناظم هذه القصيدة.

حصون المسلمين ثم غادره عائداً إلى قرطبة (¬1). وقد وجه إليه كاتبه أبو بكر يحيى ابن الصيرفي بهذه المناسبة قصيدة ضافية، يهنئه فيها بالسلامة، ويحذره من خدع الحرب، ويسدي إليه بعض النصائح فيما يجب أن يكون عليه القتال. وهي طويلة في نحو ستين بيتاً، نقتطف منها الأبيات الآتية: يا أيها الملأ الذي يتقنع ... من منكم البطل الهمام الأورع ومن الذي غدر العدو به دجى ... فانفض كل وهو لا يتزعزع تمضي الفوارس والطعان يصدها ... عنه ويدمرها الوفاء فترجع والليل مرضج الترايك بينهم ... صبح على هام الكماة ملمع عن أربعين ثنت أعنتها دجى ... ألفان ألف حاسر ومقنع لولا رجال كالجبال تعرضت ... ما كان هذا السيل مما يودع فثبتّ والأقدام تزلق والردى ... حول السرادق في الأسنة تقرع لا يعظمن على الأمير فإنها ... خدع الحروب وكل حرب يخدع ولكل يوم حنكة وتمرس ... وتجارب في مثل نفسك تنجع يا شجع الأبطال ليلة أمسه ... اليوم أنت مع التجارب أشجع ومنها في نصائح الحرب: واحذر كمين الروم عند لقائها ... واخفض كمينك خلفها إذ تدفع لا تبقين النهر خلفك عندما ... تلقي العدو فنشره متوقع اجعل مناجزة العدو عشية ... ووراءك الصدف الذي هو أمنع وصدمه أول وهلة لا ترتدع ... بعد التقدم فالنكوص يضعضع وجاء في ختامها في مخاطبة تاشفين وتهنئته: يا تاشفين أقم لجيشك عذره ... بالليل والقدر الذي لا ينفع هجم العدو دجى فروّع مقبلا ... ومضى يهيم وهو منك مروع كم وقعة لك في ديارهم انثنت ... عنها أعزتها تذل وتخضع النعمة العظمى سلامتك التي ... فيها من الظفر الرضى والمَقْنع كادت تكون ولو إذاً لتزلزلت ... عنها البسيطة والجبال الخُشَّع وهوت بأندلس عقاب لم تدع ... فيها لذكر الله صوت يرفع ¬_______ (¬1) نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 75). والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 98 و 99).

لا ضَيّع الرحمن سعيك إنه ... سعي به الإسلام ليس يُضيّع نستودع الرحمن منك وديعة ... فهو الحفيظ لكل ما يستودع (¬1) وتشير الرواية القشتالية إلى هذه الموقعة (¬2)، ولكنها كالرواية العربية لا توضح لنا مكان وقوعها توضيحاً كافياً، والظاهر مما تشير إليه أقوال صاحب البيان المغرب، من أن الأمير تاشفين، سار غداة المعركة في قواته إلى حصن " قشرش " أنها وقعت على مقربة من هذا المكان. وتقع قشرش أو قاصرش Caceres، جنوبي نهر التاجه وشمال شرقي بطليوس وغربي ترجالُه. أما تاريخ الموقعة، فتضعه الرواية العربية حسبما تقدم، في أواخر شهر ذي الحجة من سنة 528 هـ (أوائل أكتوبر سنة 1134 م). ومما تجدر ملاحظته أن وقوعها جاء لنحو ثلاثة أشهر فقط من موقعة إفراغة، التي هزم فيها ألفونسو المحارب وفقد حياته، هذا في حين أنه يبدو من أقوال الرواية النصرانية، أنها وقعت قبل موقعة إفراغة. ومما يلفت النظر، ما يذكره لنا ابن القطان غير مرة من هجوم أسراب الجراد على بسائط الأندلس وإتلافها في هذين العامين الأخيرين. وقد ذكر لنا أنه في العام الذي وقعت فيه الغزوة السابقة - وهو يضع تاريخها في سنة 229 هـ - " محت الجراد ما على الأرض من زرع وكلأ، وأمر الناس بالخروج إليها فساقوا منها خمسة آلاف عدل، وثلاثمائة وثلاثين عدلا، وما غاب عن العيون أكثر تركت في الموضع الذي قتلت فيه ولم تحمل ". ومما يذكر من أحداث هذه الفترة أيضاً، أنه في سنة 529 هـ، وقع بقرطبة هياج شديد، وثارت العامة ضد اليهود على أثر ظهور قتيل مسلم في بعض أحيائهم، واقتحموا منازل اليهود، ونهبوها، وقتل خلال ذلك عدد منهم. ووقعت في نفس الوقت بعض اضطرابات بمدينة إشبيلية، من جراء ثورة العامة ضد قاضيها أبى بكر بن العربي، وكان يشتد في زجرهم، ومعاقبتهم بمختلف العقوبات الأليمة المبتكرة (¬3). ¬_______ (¬1) راجع الحلل الموشية حيث يشير إلى هذه الموقعة بإيجاز (ص 92)، ثم يورد قصيدة ابن الصيرفي كلها (ص 93 - 96). (¬2) M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 248 (¬3) البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر- هسبيرس ص 101).

وفي نفس هذا العام، وقع حادث مروع بجامع قرطبة، هو مصرع قاضي قرطبة أحمد بن خلف التجيبي (أو أبو عبد الله بن الحاج وفقاً لابن القطان). وثب به أحدهم فطعنه بخنجره، وهو راكع حين صلاة الجمعة، فسقط مضرجاً بدمه، ووقع بالجامع هرج عظيم، وأخرج المرابطون منه أميرهم تاشفين في حراسة قوية، وقبض على القاتل وقتل لحينه في صحن الجامع، وتوفي القاضي في مساء نفس اليوم، وهو الخامس والعشرون من صفر سنة 529 هـ (¬1). وتقص علينا الرواية النصرانية غزوة قام بها القشتاليون في سنة 1133 م ومعهم سيف الدولة المستنصر بن هود، في أراضي الأندلس، على غرار غزوة ألفونسو المحارب، وتقول لنا إن ألفونسو ريمونديس ملك قشتالة قسم جيشه لهذا الغرض إلى قسمين، بقصد تسهيل التموين والحركة، سار هو على رأس أحدهما، وقاد الآخر سيف الدولة، والدون ردريجو كونثالث دي لارا زعيم ليون. وعبر الجيشان جبال سييرَّا مورينا، (جبل الشارات)، واجتمعا على مقربة من قرطبة، وكان الفصل فصل الحصاد فأمر ملك قشتالة بانتساف حقول القمح والكروم والزيتون وغيرها، فساد الرعب بين المسلمين وهجروا السهول والقرى، إلى الحصون ومغائر الجبال، ووصل الجيش النصراني في زحفه إلى أحواز إشبيلية، وهو يحرق المزارع والقرى والقلاع المهجورة، ويدمر المساجد ويحرق المصاحف، ويقبض على الفقهاء ويعذبهم. وشمل هذا العيث المروع الذي كانت تقوم به سريات خفيفة من الفرسان النصارى، سائر المنطقة الواقعة ما بين قرطبة وإشبيلية، وامتلأت صفوف القشتاليين من الغنائم والأسرى والأقوات، ومن ثم سار ملك قشتالة إلى شريش، فخربها وهدمها، ثم سار إلى قادس. ولما رأى ذلك أمراء الأندلس، بعثوا إلى سيف الدولة يطلبون إليه أن يعمل ملك النصارى، على تحريرهم من نير المرابطين، فبعث إليهم بعد التفاهم مع ملك قشتالة يحثهم على انتزاع الحصون ومقاتلة المرابطين، وعندئذ يأتي هو وملك قشتالة لإنجادهم. بين أن الملك اعتزم أن يعود أدراجه على الأثر، وألا يغامر بالبقاء في أرض لا يأمن مغبتها، وارتد إلى منطقة طليطلة (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 10 و 101)؛ وابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره). (¬2) M. Lafuente: ibid ; (cit. Cronica Alionso VII) ; Vol. III. p. 249

وتقدم إلينا الروايات الإسلامية أنباء هذه الغزوة في عبارات موجزة. ويضع ابن القطان حدوثها في سنة 526 هـ (1132 م)، ويقول لنا إنه في هذه السنة خرج السليطين (ألفونسو ريمونديس) وابن هود إلى بلد المسلمين، فهبطوا إلى إشبيلية، وانبسطت خيلهم، واقتحمت ما وجدت، ثم هبطوا إلى شريش، فدخلوها وقتلوا كل من فيها، وبالغوا في النكاية بالمسلمين، ثم رجعوا إلى بلادهم. ويقول لنا ابن عذارى نقلا عن ابن حمادة، إن العدو وصل إلى حومة شريش والبحيرة، ولم يلقه أحد من المسلمين. ويضع تاريخ هذه الغزوة في سنة 527 هـ، (1133 م) متفقاً بذلك مع الرواية النصرانية (¬1). ولكن الرواية العربية من جهة أخرى تشير إلى غزوات ثلاث أخيرة قام بها الأمير تاشفين. وبالرغم من أنها تذكر لنا التاريخ والمكان في كل غزوة، فإنها لا تقدم لنا عنها تفاصيل شافية. وقد وقعت الأولى في سنة 530 هـ (1135 م)، وفيها التقى الأمير تاشفين بالقشتاليين في مكان يعرف " بفحص عطية " فهزمهم، وقتل منهم جموعاً غفيرة. وفي العام التالي أعني سنة 531 هـ (1136 م)، غزا الأمير تاشفين أرض قشتالة، واقتحم مدينة كَرَكى على مقربة من قلعة رباح فلم يجد بها أحداً. وقد أورد لنا ابن الخطيب بهذه المناسبة أبياتاً نظمها الكاتب الكبير أبو عبد الله ابن أبى الخصال يمتدح فيها الأمير تاشفين، ويشير إلى موقعة كركى، وفيها يقول: الله أعطاك فتحاً غير مشترك ... ورد عزمك عن فوت إلى درك أرسل عنان جواد أنت راكبه ... واضمم يديك ودعه في يد الملك قد كان بعدك للأعداء مملكة ... حتى استدرت عليهم كورة الفلك فما تركت كميا غير منفغر ... ولا تركت نجيعاً غير منسفك فصحبتهم جنود الله باطشة ... والصبح من عبرات الفجر في مُسُك (¬2) ووقعت الغزوة الثالثة في سنة 532 هـ (1137 م)، وكانت لمدينة " أشكونية " (أو أشكلونة Escalona وفقاً لصاحب نظم الجمان) وقد كانت حسبما يقول لنا صاحب الروض المعطار من أعمال كورة تدمير أي مرسية (¬3). وهذا ¬_______ (¬1) نظم الجمان (المخطوط السابق الذكر لوحة 72 أ)، والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة هسبيرس ص 96). (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة - مخطوط الإسكوريال السالف الذكر (لوحة 29). (¬3) الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 22 و 172.

ما لا يمكن قبوله لأن ولاية تدمير كانت كلها من الأراضي الإسلامية. بيد أن الرواية النصرانية تلقي بعض الضوء على أخبار هذه الغزوة ومكانها، فتقول لنا إن الأمير تاشفين، قام قبيل عبوره إلى العدوة باجتياح أراضي بلدتي وبذة، وألاركون، وهما من أعمال مقاطعة قونقة الواقعة على الحدود، ثم دخل قونقة وأخضعها. وكان أهلها قد أعلنوا الخروج والثورة وذلك في سنة 1137 م (¬1)، وتقول الرواية الإسلامية إن تاشفين دخل أشكلونة (ألاركون؟) عنوة، وقتل كل من كان بها وسبى نساءها، واحتوى على أسلابها. ومنها عدة من النواقيس العظيمة، ودخل قرطبة وبين يديه الأسلاب والغنائم، فكان يوماً مشهوداً. ثم تضيف الرواية إلى ذلك قولها إن الأمير تاشفين حمل من سبى هذه الغزوة عند عبوره إلى العدوة في نفس العام ستة آلاف سبية (¬2). وأخيراً، فإن تاشفين قبيل مغادرته للأندلس، وحين خروجه من قرطبة قاصداً إلى العدوة، بلغه قيام النصارى بغزو منطقة جيان، فاستعد للسير إلى لقائهم. وكان القشتاليون قد خرجوا في حشود عظيمة، وساروا نحو الوادي الكبير، واقتربوا من بيّاسة وأبَّدة، وعاثوا في تلك المنطقة، واستعدوا لعبور النهر، ولكن الأمطار هطلت بشدة، واستمرت على هطلها عشرين يوماً حتى فاض النهر، وعجزت الخيل المغيرة عن عبوره، ووضع القشتاليون بعض المعادي فوق الماء، وحاولوا عبور النهر، فانكسر بعضها وغرق من كان فيها، وتبعهم قائد جيان فأوقع بجماعة منهم، وانصرف النصارى بعد أن هاجموا حصن شبيوطة من عمل أبدة وعجزوا عن اقتحامه. أما تاشفين فإنه لبث يترقب السير إلى الشمال، مدى أسابيع، والأمطار تهطل والسيول تغمر الطرق والبسائط وتعوقه عن السير. فلما بلغه انصراف النصارى، ارتد من فوره صوب طريق العودة، وجاز البحر عائداً إلى حضرة مراكش، وكان ذلك في سنة 532 هـ (¬3). - 2 - ومما هو جدير بالذكر أن الأمير تاشفين، كان حينما ولاه أبوه شئون الأندلس عقب وفاة عمه أبى الطاهر تميم، قد اتخذ مقره في غرناطة، التي جعلتها الدولة ¬_______ (¬1) A. P. Ibars: Valencia Arabe ; p. 478 (¬2) نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 79). وروض القرطاس ص 107. (¬3) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق الذكر).

المرابطية مركز الإدارة العامة لشئون الأندلس، وكان الحاكم العام المرابطي يعتبر أحياناً في نفس الوقت والياً لغرناطة، وكان من بين معاونيه يومئذ الكاتب والشاعر والمؤرخ البارع، أبو بكر يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري، المشهور بابن الصيرفي صاحب كتاب " الأنوار الجلية في تاريخ الدولة المرابطية ". تولى له منصب الكتابة، فحظى لديه وكانت له فيه مدائح جمة (¬1). بيد أنه لم تمض بضعة أعوام على تولي تاشفين لمنصبه، حتى صدر إليه مرسوم أبيه أمير المسلمين من مراكش في العشرين من رجب سنة 526 هـ (¬2)، بتعيينه والياً لقرطبة وبأن يجعل قرطبة " دار سكناه ومقر مثواه "، وأن يستخلف على غرناطة عند مغادرتها، أبا محمد الزبير بن عمر، ليقوم بالولاية على شئونها. وقد كان الزبير هذا من زعماء لمتونة المرموقين، ويشيد ابن الخطيب بذكره ويصفه " بندرة الزمان كرماً وبسالة، وحزماً وأصالة " (¬3). ويوصي أمير المسلمين ولده في هذا المرسوم الذي دبجه قلم الوزير الكاتب أبى عبد الله بن أبى الخصال بقوله: " وعلى مقرر ما درك من العمل، فازدد من التيقظ باتساع ذرعك، وامتداد مسعاك، واستعن بالله في إعلانك وإسرارك، وخذ من أوقات ليلك الأوقات المباركة، واجعل لنظرك حظاً من سهرك، ولفكرك مستمنحاً من يديك، على مستظهر عين المشورة في مواطن الاشتباه، فإن الله سبحانه يقول لرسوله: " وشاورهم في الأمر " (¬4). ويستفاد مما تقدم أن علي بن يوسف قرر أن ينقل مركز حكم الأندلس، من غرناطة إلى قرطبة لأسباب رآها، وهي أسباب ربما كانت سياسية وعسكرية في نفس الوقت. ودخل تاشفين قرطبة والياً في شعبان من هذه السنة (526 هـ)، وعزل واليها السابق عبد الله بن قنونة، وسير إلى إشبيلية فاعتقل بها لأسباب لم توضحها الرواية، وذلك بالرغم من قرابته لأمير المسلمين (¬5). ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيري لوحة 415). (¬2) والظاهر أن ابن خلدون قد اعتبر أن هذا المرسوم، هو مرسوم تولية تاشفين ولاية الأندلس، ولذلك فإنه يضع تاريخ توليته لهذا المنصب في سنة 526 هـ (كتاب العبر ج 6 ص 186). (¬3) ابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 458. (¬4) نقل إلينا صاحب البيان المغرب بعض محتويات هذا المرسوم (وقد وردت في الأوراق المخطوطة السابقة الذكر - هسبيرس ص 95 و 96). وقد نشرنا في باب الوثائق بعض فقراته. (¬5) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 72 أ).

وقد استوفينا فيما تقدم، ما وقفنا عليه من تفاصيل الغزوات والحروب التي قام بها الأمير تاشفين خلال وجوده في شبه الجزيرة. أما عن أعماله الإدارية وأسلوبه في الحكم، فلم نتلق الكثير. وقد لخص لنا ابن الصيرفي مؤرخ الدولة المرابطية، سيرته في ذلك في عبارات موجزة خلاصتها، أن الأمير تاشفين عنى منذ ولايته لشئون الأندلس بإصلاح الحصون، وسد الثغور، وإذكاء العيون على العدو، وتنظيم الجيش، واقتناء الخيل والسلاح، وتكوين فرق الرماة، وتوسيع الأرزاق على الجند، واستنهاض هممهم، كما عني بالغزو ومباشرة الحرب، فقام بعدة غزوات توجت بالظفر على العدو، وافتتح فيها عديد الحصون. وأما عن أسلوبه في الحكم، فإنه سار في حكم الأندلس وتمهيد أحوالها بالحزم، والتزم العدل في معاملة الرعية، وكذلك في معاملة الجند، فملك قلوب الجميع بعدله ورفقه، " ولم يكن منه إلا الجد، ولم تُنل عنده الحظوة إلا بالغناء والنجدة " (¬1). وهذه أقوال يؤيدها صاحب البيان المغرب، ويجملها في قوله: " وساس (أي تاشفين) أهل الأندلس سياسة طار بها ذكره، من الاستقامة، واتباع ناموس الشريعة " (¬2). وتنوه الرواية في نفس الوقت بصفات تاشفين الشخصية، فتقول لنا إنه " كان بطلا شجاعاً حسن الركبة والهيئة لولا بخل أخل به، وأنه كان يسلك طريق ناموس الشريعة، ويميل إلى طريقة المستقيمين، وقراءة كتب المريدين. وقيل إنه لم يشرب قط مسكراً، ولا استمع إلى قينة، ولا اشتغل بلذة صيد، ولا غير ْذلك مما يلهو به الملوك من ساير اللهو " (¬3). وينوه ابن الصيرفي بورعه وتقواه، وصيامه وقيامه (¬4). - 3 - لبث الأمير تاشفين والياً على الأندلس، وقائداً عاماً للجيوش المرابطية بها ¬_______ (¬1) ابن الخطيب عن ابن الصيرفي، في الإحاطة ج 1 ص 456، وراجع أيضاً الحلل الموشية ص 90. (¬2) البيان المغرب في الأوراق المخطوطة المتقدمة الذكر. (¬3) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 90)، والإحاطة ج 1 ص 456. (¬4) الإحاطة ج 1 ص 457.

حتى سنة 532 هـ (1137 م) وقيل بل حتى سنة 531 هـ (¬1). وهو إلى جانب مهامه الإدارية يضطلع بالغزوات المستمرة في أراضي النصارى حسبما فصلناه من قبل. ثم وصلته أوامر أبيه أمير المسلمين بالعودة إلى المغرب، فعبر البحر إلى العدوة في أوائل جمادى الأولى من هذا العام (532 هـ)، ودخل مراكش في أول رجب، وفي ركبه عدد كبير من سبى غزوة أشكونية حسبما تقدم، فاستقبله أبوه أعظم استقبال، وسعد بلقائه أو " فرح به " على قول المؤرخ. وكان مما يتصل بذلك ما يرويه لنا ابن عذارى، من أن أمير المسلمين علياً، كان قد مرض في العام السابق (530 هـ)، واشتد به المرض، حتى كثرت الإشاعات، وساءت الظنون، وسرى القلق إلى بلاد الأندلس، فلما تلقى تاشفين خطاب والده بالعود، أسرع بالاستجابة والقفول (¬2). وفي العام التالي، أعني في سنة 533 هـ (1138 م) أصدر أمير المسلمين علي بن يوسف مرسوم ولاية عهده لولده الأمير تاشفين، عقب وفاة ولده الأكبر وولي عهده سير. وأخذ له البيعة بذلك وفقاً للقاعدة التي وضعها مؤسس الدولة المرابطية يوسف بن تاشفين، باختيار أمير المسلمين لولي عهده في حياته من بين أبنائه، وعقد البيعة له. ولاختيار تاشفين لولاية العهد قصة فصلتها الرواية، وهي أنه في سنة 522 هـ اختار أمير المسلمين علي بن يوسف ولده الأمير سيراً لولاية عهده من بعده (¬3)، وجعل له الأمر في بقية حياته، واختار في نفس الوقت ولده الأمير تاشفين لولاية الأندلس، وولاه مدينة غرناطة وألمرية، ثم قرطبة بالإضافة إلى ما في يده. وأبدى تاشفين في أداء مهام منصبه مقدرة وهمة مشكورة، وظهر بالأخص في ميدان الجهاد ضد النصارى، وذاع صيته في شبه الجزيرة وفي العدوة، فكبر ذلك على أخيه سير ولي العهد، وخاطب سير أباه في ذلك، وأعرب عن قلقه وامتعاضه لما ناله أخوه من بعد الصيت وحسن الذكر، وأنه قد غطى بذلك على اسمه، ونال إعجاب أهل المملكة، وأنه لم يبق له معه اسم ولا ذكر، فحاول أمير المسلمين أن يرضي ولده وولي عهده سير، باستدعاء أخيه تاشفين من الأندلس، ولما وصل تاشفين إلى مراكش، نظمه أبوه في حاشية أخيه " وصار من جملة من يتصرف بأمر أخيه، ويقف ببابه كأحد حجابه ". وكان علي بن يوسف متأثراً ¬_______ (¬1) " روض القرطاس " ص 107. والإحاطة ج 1 ص 454 و 461. (¬2) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 103). (¬3) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 34 أ).

في هذا التصرف بنفوذ حظيته قمر أم ولده سير، وكان عظيم الإيثار والإرضاء لها، وهي التي حملته على عزل تاشفين وإخماله إرضاء لأخيه. ولكن شاء القدر أن يتوفى سير فجأة وفي حادث مروع مشين معاً وذلك في أوائل سنة 533 هـ. وتلتزم الرواية الإيجاز والتحفظ في شأن هذا الحادث، ويقول لنا ابن عذارى، إن سيراً كان يركن إلى الراحة والبطالة، ويصطحب أهل الفكاهة والمجون، وأنه اقتحم ليلا على أخيه تاشفين في داره، فضربه حتى مات، وقيل غير ذلك. والظاهر، وهو ما تصرح به بعض الروايات، أن الأمر يتعلق بمحاولة مشينة، فإن ابن القطان يقول لنا، إن علي بن يوسف كان قد فتن بولده سير، وقدمه ولي عهده، ولم يكن أهلا لشىء، فعكف على البطالة، ودخل متسوراً على أخيه عمر يريد زوجته، فجرح جراحة عجلت منيته، فجزع عليه أبواه. وكان مصرع سير على هذا النحو في آخر صفر سنة 533 هـ (¬1). وعندئذ تدخلت قمر مرة أخرى لتحمل عليّ بن يوسف على تقديم ولده الأصغر إسحاق لولاية العهد، وكانت قد تبنته وعنيت بتربيته عند موت أمه. ولكن علياً اعتذر بصغر سنه وبأنه لم يبلغ الحلم، وأنه سوف يستدعي الناس إلى الجامع لأخذ رأيهم في ذلك. واستدعى علي الناس وأكابر المرابطين، وعرض عليهم الأمر، فهتفوا جميعاً باسم تاشفين، فنزل علي عند هذه الرغبة، وعقد البيعة بولاية العهد لولده تاشفين وذلك في الثامن من شهر ربيع الآخر، ونقش اسمه في السكة، وقلده النظر في الأمور السلطانية، وكتب إلى سائر بلاد العدوة والأندلس ببيعته، فوصلت البيعات من كل جهة مؤيدة للبيعة، ومؤرخة بشهر رجب سنة 533 هـ (1138 م) (¬2). على أن استدعاء الأمير تاشفين من الأندلس إلى العدوة، ثم أخذ البيعة له على هذا النحو، لم يكن يرجع فقط إلى ما تقدم من العوامل والظروف، وإنما كان راجعاً بالأخص إلى ما وقع في تلك الأثناء بالمغرب، من تطورات وأحداث عظيمة، ترتبت على ظهور المهدي محمد بن تومرت، ودعوته الدينية الجديدة، وما تلاها من قيام دولة الموحدين في تينملّل، واضطرام الصراع المرير بينها وبين المرابطين. وهو ما سنعني بذكره وتفصيله في موضع آخر. ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 104)، وابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 82 ب). (¬2) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 104). وابن الخطيب عن ابن الوراق في الإحاطة ج 1 ص 454، 455.

الفصل السادس شرق الأندلس

الفصل السادِس شرق الأندلس ولاية بلنسية ومرسية. يحيى بن غانية. ندبه لحماية الشرق. أصله ونشأته. ولايته لشرقي الأندلس. مسيره في القوات المرابطية لإنجاد حصن أرنية. تقدمه نحو طليطلة. ما تقوله الرواية النصرانية عن انصراف المرابطين. الغزوات في غربي الأندلس. أخبار الجزائر الشرقية، ولاتها بعد الفتح المرابطي. وانور بن أبي بكر. محمد بن علي بن غانية. استقلاله بحكم الجزائر، وقيام دولة بني غانية بها. - 1 - كان شرقي الأندلس في عهد المرابطين، يشتمل بعد سقوط سرقسطة، على ولايتي بلنسية ومرسية، وكان يتبع بلنسية سائر الأراضي والقواعد الممتدة شمالا من شاطبة حتى الثغر الأعلى، ومن البحر غرباً حتى قونقة، ويتبع مرسية سائر الأراضي والقواعد الواقعة على ضفتي نهر شقورة، والممتدد جنوباً حتى ولاية ألمرية. وقد سبق أن أتينا على ذكر ولاة بلنسية ومرسية، منذ الفتح المرابطي حتى سقوط سرقسطة. وكان والي مرسية قبيل سقوط سرقسطة، الأمير أبو إسحق إبراهيم ابن يوسف بن تاشفين، أخو أمير المسلمين علي بن يوسف، وكان والي بلنسية أخوه الآخر الأمير أبو الطاهر تميم. وقد فصلنا في حديثنا عن سقوط سرقسطة، الدور الذي قام به الأمير تميم في حوادث الحصار، والدور الذي قام به أخوه إبراهيم في موقعة كتُندة المشئومة (514 هـ) وهو يومئذ والي إشبيلية. وخلف الأمير إبراهيم في ولاية مرسية، أبو محمد يدّر بن ورقا، أو حسبما يسميه صاحب البيان المغرب محمد ين يوسف يدِّر، والظاهر أنه تولى في نفس الوقت ولاية بلنسية. ولما شعر يدِّر باشتداد وطأة الغزوات النصرانية، في شرقي الأندلس، طلب إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، أن يوجه إليه يحيى بن غانية لمعاونته، فاستجاب أمير المسلمين إلى طلبه، وبعث إليه بابن غانية، وكان ذلك في سنة 515 هـ (1121 م). ويقول لنا صاحب البيان المغرب إن ابن غانية،

وفد عندئذ إلى شرقي الأندلس والياً لمرسية (¬1). ولكن الظاهر أنه قدم إليه بصفة قائد للجيوش المرابطية، وأنه لم يتشح بثوب الولاية إلا فيما بعد، حينما توفي يدِّر في سنة 534 هـ (¬2). وهو الأمير أبو زكريا يحيى بن علي بن غانية الصحراوي، الذي لعب فيما بعد في حوادث الأندلس في أواخر العهد المرابطي، أعظم دور، واضطلعت أسرته - بنو غانية - فيما بعد، في الجزائر الشرقية، وفي إفريقية، ضد الموحدين، بأخطر صراع. وقد سُمِّي بنو غانية، باسم أمهم غانية، وهي لمتونية من قرابة يوسف بن تاشفين، وربما كانت تسميتها بهذا الإسم دلالة على أصلها الإقليمي، أو بعبارة أخرى نسبة إلى بلاد غانة، وهي التي افتتحها المرابطون عند مطلع نهضتهم في مشارف الصحراء الكبرى. وتلقيب الولد باسم الأم دون الأب، من الأمور الذائعة في أسر لمتونة، خصوصاً متى كانت الأم تمتاز بصفاتها وخلالها العالية. ولدينا من ذلك أمثلة أخرى، مثل الأمير محمد بن عائشة، ولد يوسف ابن تاشفين، والقائد محمد بن فاطمة. وكان والد يحيى، علي بن يوسف، من زعماء قبيلة مسُّوفة أحد بطون صنهاجة. وربى يحيى وأخوه محمد، الذي ولي حكم الجزائر الشرقية فيما بعد، في بلاط مراكش، في عهد يوسف وولده علي، ثم عبر إلى الأندلس وهو فتى، وعاش في كنف الأمير أبى عبد الله محمد بن الحاج اللمتوني، والي قرطبة في أواخر عهد يوسف، وتزوج أمه غانية بعد وفاة أبيه على، فندبه لحكم مدينة إستجّة، فكانت أول ولاية أسندت إليه. ولما تولى علي بن يوسف الأمر بعد أبيه، عزل ابن الحاج عن ولاية قرطبة، لانضمامه إلى الخوارج عليه، المناصرين لابن أخيه يحيى بن أبى بكر والي فاس، وقد ذكرنا خبر خروجه في بداية حكم علي وفشل ثورته، فانفصل عندئذ يحيى بن غانية عن ابن الحاج وجماعته. ثم عفا عليٌّ عن ابن الحاج وغيره من القادة الموالين ليحيى، وعيّن ابن الحاج لولاية المغرب مكان أخيه أبى الطاهر تميم بن يوسف، الذي وُلِّي حكم الأندلس، ثم نُدب ابن الحاج بعد ذلك لولاية بلنسية، ومنها سار إلى سرقسطة، وقد فصلنا أخباره وغزواته فيما تقدم. ولسنا نجد في الأعوام التالية، أثراً لأخبار يحيى بن غانية، بين مختلف ¬_______ (¬1) ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة هسبيرس ص 81). (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال رقم 1673 الغزيري) لوحة 391.

الولاة، والظاهر أنه كان عندئذ ينتظم في قيادة الجيش، لما ظهر من فائق شجاعته وبراعته. ثم كان ندبه لولاية مرسية، أو لمعاونة واليها يدِّر في سنة 515 هـ (1121 م) حسبما تقدم. ومن ذلك الحين يلمع اسم يحيى في حوادث شبه الجزيرة لمعاناً شديداً، فهو يقوم بقيادة الجيوش المرابطية في شرقي الأندلس بكفاية وبراعة، وهو يكرر الغزو لأراضي النصارى في أراجون وقطلونية، وقد كان له فيما يبدو دور ملحوظ في مقاومة قوات ألفونسو المحارب حينما اخترق شرقي الأندلس، في غزوته التي قام بها استجابة للنصارى المعاهدين (سنة 519 هـ) ومر فيها بأراضي بلنسية، واجتاز إلى جزيرة شُقْر، وقاتل أهلها أياماً، ثم تحول إلى دانية، واتجه بعد ذلك صوب شاطبة ومرسية. وقاومه المسلمون أينما حل. ولما توفي يدّر والي بلنسية ومرسية في سنة 524 هـ، كما تقدم، ولّى يحيى علي شرقي الأندلس (¬1)، بيد أنه كان أكثر انشغالا بشئون الحرب والقيادة، وكان ينيب عنه في حكم بلنسية ومرسية أخاه لأمه، المنصور بن محمد بن الحاج. ولما حاصر ألفونسو المحارب إفراغة، هرع يحيى في قواته لإنجادها، مع من هرع إليها من ولاة الأندلس الآخرين. وقاد يحيى قوات الإنجاد في المعركة التي نشبت تحت أسوار إفراغة بشجاعته، براعته المأثورتين، فكانت الهزيمة الساحقة على النصارى في رمضان سنة 528 هـ (يوليه سنة 1134 م) حسبما فصلنا ذلك في موضعه (¬2). ولبث يحيى بن غانية، بعد موقعة إفراغة، والياً على شرقي الأندلس بضعة أعوام أخرى. وتقص علينا الرواية الإسلامية قصة غزوة أخرى، في الأراضي النصرانية، اشترك فيها ابن غانية. وخلاصتها أن القشتاليين ضربوا الحصار بقوات كثيفة، حول حصن " أرنبة " أو أرلبة (¬3) الواقع شرقي طليطلة، على الحدود بين ولاية قونقة وقشتالة، وكان من أمنع الحصون الإسلامية في تلك المنطقة، وضيق النصارى على حامية الحصن، وقطعوا عنها الأقوات، فنهض والي قرطبة الأمير عبد الله بن أبى بكر، واستمد الأمير تاشفين، واستمد في نفس الوقت يحيى بن غانية والي مرسية وبلنسية، وهرعت القوات المرابطية، من قرطبة ومرسية ومن ¬_______ (¬1) ولكن ابن عذارى يقول لنا إن الذي ولي على شرق الأندلس بعد وفاة يدر، هو ينتان بن علي اللمتوني (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 91). (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 391).وراجع Gaspar Remiro: Murcia Musulmana (Zaragoza 1905) p. 152-154. (¬3) وهو الحصن الذي يسمى بالإسبانية حصن Oreja، أو حصن أورليا Aurelia.

إشبيلية، واجتمعت تحت قيادة ابن غانية، وسارت مسرعة لإنجاد الحصن وإمداده بالمؤن. واستعد القشتاليون للقاء المسلمين بقوات جديدة. ويضع صاحب البيان المغرب تاريخ هذا الحصار في سنة 525 هـ (1130 م) (¬1). ولكن الرواية النصرانية، تضعه بعد ذلك بعدة أعوام في سنة 1137 م. وليس هنالك في الرواية الإسلامية، ما يدل على أن موقعة حدثت في هذا الموطن بين المسلمين والنصارى. وكذلك فإن الرواية النصرانية، تقول لنا إن هذا اللقاء بين المسلمين والنصارى في أراضي طليطلة، انتهى إلى خاتمة تتسم بالفروسة. وذلك أن الجيش المرابطي، وقد كان وفقاً لأقوال هذه الرواية، يتكون من ثلاثين ألف فارس، سار من طريق طليطلة. وكان ملك قشتالة ألفونسو السابع (ألفونسو ريمونديس) قد عهد بحماية طليطلة إلى حامية قوية تشرف عليها زوجه الملكة برنجيلا، فلما وصل الجيش المرابطي إلى ظاهر أسوار طليطلة، خرجت الملكة برنجيلا إلى شرفة " القصر " العالي المطل على نهر التاجُه، وبدت للقادة المسلمين مع وصائفها، وقد ازدانت بأفخر الثياب والحلي، وبعثت إلى ابن غانية رسولها، يؤنبه بلسانها لأنه قدم لمهاجمة بلد تدافع عنه امرأة، في حين أن الإمبراطور ينتظرهم في جيشه عند حصن أرنبة (أوريخا)، فدهش ابن غانية وزملاؤه القواد المسلمون، واخذوا بذلك المنظر، ولم يسعهم إلا أن ينحنوا قبالة الملكة المطلة عليهم، تكريماً لها وتعظيماً، ثم استأنفوا سيرهم، دون أن يقوموا بأية محاولة. أما حامية حصن " أرنبة " فقد اضطرت في النهاية إلى التسليم (أكتوبر سنة 1137 م) ولكن سمح لها أن تخرج بالأمان وأن تسير إلى قلعة رباح (¬2). وهكذا يبدو مما تقدم، أنه لم تقع في شرقي الأندلس، في الفترة التي تلت سقوط سرقسطة، وموقعة كتُندة، حوادث خاصة بهذه المنطقة، سوى الغزوات المحلية العارضة، والتي لم تقدم إلينا الرواية عنها تفاصيل شافية، وقد كان شرقي الأندلس، يردد صدى الحوادث العامة في شبه الجزيرة ويشترك فيها، كما تشترك باقي الولايات الأندلسية، وقد كانت الجيوش المرابطية كلها، سواء في شرقي الأندلس أو غربه، تعمل دائماً في حركات موحدة شاملة. أما عن أخبار الغزوات في الناحية الأخرى من الأندلس، فإن الرواية ¬_______ (¬1) البيان المغرب الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص 94). (¬2) راجع: A. P. Ibars: Valencia Arabe (cit. Cronica Adefonsi Imperatoris) p. 481

الإسلامية تقدم إلينا بعض التفاصيل الموجزة، عن بعض الأحداث التي وقعت عقب مغادرة تاشفين بن علي لشبه الجزيرة. ومن ذلك أن الزبير بن عمر والي قرطبة، خرج في قواته غازياً لأرض النصارى، وافتتح حصن مورة (سنة 533 هـ). وفي نفس العام ردت قوات شنترين ويابرة عسكراً من النصارى (البرتغاليين) حاول غزو الأراضي الإسلامية، وقتلت وأسرت منه جملة وافرة، واحتوت على أسلابه. وفي أواخر هذا العام غزا ألفونسو ريمونديس ملك قشتالة أرض الأندلس، وحاصر حصن إربلية، فسارت قوات الأندلس من مختلف الأنحاء لرده وإنجاد الحصن، ولكنها تخلفت في الطريق، ثم عادت من حيث أتت، واضطر الحصن، بعد أن أرهق الحصار أهله إلى التسليم (¬1). - 2 - تحدثنا فيما تقدم من أخبار أمير المسلمين علي بن يوسف، عما وقع في أوائل عهده من استرداده للجزائر الشرقية (جزائر البليار) من البيزيين والجنويين في أواخر سنة 509 (1116 م). ولما كانت الجزائر الشرقية، تلحق دائماً بشرقي الأندلس، فإنه يجدر بنا أن نتناول هنا، طرفاً من أخبارها في تلك الفترة. وقد ذكرنا عندئذ، أن أمير المسلمين عين لولاية الجزائر عقب استردادها، وانور بن أبي بكر اللمتوني (¬2) بيد أنه يبدو من بعض الرسائل السلطانية المرابطية التي بين أيدينا، أنه قد سبقت ولاية وانور ولاية قصيرة الأمد للقائد أبى السداد والي دانية. ففي رسالة صادرة عن علي بن يوسف من حضرة مراكش، في الحادي والعشرين من ربيع الأول سنة 510 هـ، أعني عقب استرداد الجزائر ببضعة أشهر، يشير أمير المسلمين إلى موت القائد أبى السداد والي ميورقة، ويسند ما كان تحت نظره إلى واليها الجديد، ويسدي إليه النصح بأن يحسن السيرة في أهل الجزيرة، وأن يسلك طريق الرفق والعدل والحق، وأن يستعمل الحزم في ضبط أحوالها، وأن يسعى في استرجاع من خرج من أهلها، وأن يستنيب من يرضاه في النظر على الأسطول والتخلص بثغر دانية، وأن يبذل جهده في ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 82 ب). (¬2) هذه رواية ابن خلدون في كتاب العبر ج 4 ص 165.

استمالة الناس، وتهدئة روعهم ولاسيما بعد الذي " أحدثه السفيه المعتوه ابن أبي السداد من إيحاشهم وترويعهم " (¬1). ويستفاد من هذه الرسالة أن القائد ابن أبي السداد، وقد كان والياً لثغر دانية، حسبما تقدم ذكره، قد وُلي على ميورقة عقب استردادها في أواخر سنة 509 هـ، وأنه توفي بعد قليل من ولايته، وأنه لم يحسن السيرة مع أهل الجزائر خلال ولايته القصيرة. وعلى أثر وفاته، قام أمير المسلمين علي بن يوسف باختيار خلف له. وبالرغم من أن اسم الوالي الجديد لم يرد في الرسالة، ولا في ديباجتها، فإنه يبدو من المرجح أنه لم يكن سوى وانور بن أبى بكر، وهو أول وال حقيقي، وليها عقب الاسترداد. أما إغفال أبى السداد في رواية ابن خلدون وغيره، فالظاهر أنه يرجع إلى قصر ولايته، التي لم تتجاوز بضعة أشهر. ولبث وانور بن أبى بكر والياً على الجزائر زهاء عشرة أعوام. وكان ظلوماً صارماً، فعصف بأهل الجزائر واشتد في إرهاقهم. وكان من أهم أسباب سخطهم عليه " أنه أراد أن يرغمهم على ترك ثغر ميورقة، وإنشاء مدينة أخرى داخل الجزيرة "، تكون بعيدة عن البحر. وأخيراً اضطرمت الجزيرة بالثورة وغلب الثوار على وانور. وقضبوا عليه ووضعوه في الأصفاد، وبعثوا إلى أمير المسلمين يشرحون أحوالهم وظلاماتهم، فاستجاب على إلى صريخهم، وعين والياً جديداً للجزائر، هو محمد بن علي بن غانية المسّوفي، أخى يحيى بن غانية الأصغر، وكان عندئذ يتولى النظر على بعض أعمال قرطبة، فقدم إلى الجزائر في سنة 520 هـ (1126 م)، وأقر أهلها على ما فعلوه بواليهم السابق وانور، وبعثه مصفداً إلى مراكش لينظر هنالك في أمره (¬2). وقد شاء القدر أن يكون تعيين محمد بن غانية لولاية الجزائر الشرقية، ممهداً لتطور أحوالها، ودخولها في عهد جديد من تاريخها، وقيام دولة جديدة مستقلة بها هي دولة بني غانية. ذلك أن محمد بن غانية ضبط الجزائر، وحكمها بقوة وحزم، وطالت أيامه بها، حتى توفي أمير المسلمين علي بن يوسف ¬_______ (¬1) وردت هذه الرسالة ضمن مجموعة من الرسائل المرابطية نشرت بمجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد بعناية الدكتور محمود مكي (العدد السادس) سنة 1961، ص 185 - 186. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 165، والمعجب للمراكشي ص 151، 152. وراجع أيضاً: A. Campaner y Fuertes: Bosquejo Hist. de la Dominacion Islamita en las Islas Baleares ; p. 137 وكذلك: Alfred Bel: Les Benou Ghania (Paris 1903) p. 5 & 18

(537 هـ)، واضطربت أحوال الدولة المرابطية في المغرب، وقامت الثورة في أنحاء الأندلس على المرابطين، وولى أخوه يحيى بن غانية قرطبة وما إليها من قبل تاشفين بن علي بن يوسف في سنة 538 هـ، وأخذ يخوض من ذلك التاريخ مع الثوار ومع النصارى، حروب ووقائع مستمرة، إلى أن توفي بغرناطة في سنة 543 هـ. وفي خلال ذلك كان محمد بن غانية، يعمل في مركزه النائي على توطيد سلطانه بالجزائر والاستقلال بها لنفسه ولعقبه. ومع ذلك فقد لبث على ولائه للدولة المرابطية وزعامة لمتونة، واستمر يدعو في الخطبة لأمير المسلمين، ولبني العباس. وكان خلال اضطرام الفتنة بالأندلس يستقبل اللاجئين من فلول المرابطين بالجزائر، ويشملهم بحمايته ورعايته. وليست لدينا تفاصيل شافية عن حوادث الجزائر في تلك الفترة. ويبدو أنها كانت تجوز عندئذ فترة استقرار وسلام، بعيدة عما تجيش به شبه الجزيرة من الحوادث والخطوب. وكان محمد بن غانية حينما شعر بتوطيد سلطانه، وتمكن استقلاله بحكم الجزائر، قد اختار لولاية عهده ولده الأكبر عبد الله. وهنا تختلف الرواية، فقيل إن عبد الله خلف أباه بعد وفاته على حكم الجزائر، ثم خلفه بعد وفاته أخوه الأصغر إسحاق. وقيل إن إسحاق حقد على أخيه عبد الله حينما عين لولاية العهد، ودبر مؤامرة قتل فيها أخوه وأبوه، وتولى هو على أثرها حكم الجزائر، وذلك في سنة 550 هـ (1155 م) (¬1). ونحن نقف في تتبع أحداث الجزائر الشرقية عند هذا الحد، لنستأنفه في فرصة أخرى في موضعه المناسب. ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 152، وابن خلدون ج 6 ص 190، وكذلك: A. Bel Les Benou Ghania, p. 19

الكتاب الثانى المهدى محمد بن تومرت والصراع بين المرابطين والموحدين وقيام الدولة الموحدية بالمغرب

الكتابُ الثاني المهْدي محمّد بن تومَرت والصِّراع بين المرابطين والموحّدين وقيام الدّولة الموحّدية بالمغرِب

الفصل الأول محمد بن تومرت نشأته وظهوره

الفصل الأوّل محمد بن تومرت نشأته وظهوره حركة ابن تومرت وخصائصها المحلية. أول ظهور لابن تومرت في مراكش. أصله ومولده. معنى كلمة " تومرت ". نسبته البربرية. انتسابه إلى آل البيت. ما يحيط بهذه النسبة من الريب. نشأته. رحلته في طلب العلم إلى الأندلس، ثم المشرق. قصة لقائه بالإمام الغزالي. سقم هذه القصة وبطلانها. ما ينقضها من الناحية الزمنية. ما يطبعها من ألوان الأسطورة. نفي البحث الحديث لصحتها. تأثر ابن تومرت بتعاليم الأشعرية وبآراء الغزالي. عوده بعد إتمام دراسته إلى المغرب. دعوته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. نزوله بالمهدية. سفره إلى بجاية. ما وقع بها من هرج من جراء دعايته لإزالة المنكر. المناظرة بينه وبين طلبتها. مغادرته لبجاية، ونزوله بملالة. لقاؤه بعبد المؤمن بن علي وما يقال في ذلك من روايات وأساطير. مسيره إلى وانشريش ثم إلى فاس ومكناسة. نظرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. تفسيرها وفقاً لابن حزم. تعليق العلامة جولدسيهر على النظرية. نزول ابن تومرت بمراكش. استمراره في حملته دون هوادة. مظاهر الخلل والفساد في العاصمة المرابطية. تعرضه لأخت الأمير وما وقع بسبب ذلك من الهرج. أمير المسلمين يأمر بمناظرته. قبول ابن تومرت. ما وقع في هذه المناظرة. الأصول والفروع. تحريض الفقهاء للأمير على قتل ابن تومرت. اقتصاره على اعتقاله ثم نفيه من مراكش. مسيره إلى أغمات ثم إلى السوس. تجوله في بلاد المصامدة. نزوله بجبل إيجليز في هرغة. عكوفه على ربث دعوته والتبشير بنظرية المهدي. إعلانه لإمامته وأنه هو المهدي. مبايعة أصحابه له بهذه الصفة. أصحاب المهدي ومراتبهم. تلقيبه بالمهدي والإمام المعصوم. ملخص شريعته. وضعه لكتب الدعوة لأصحابه. ما يدل على أن ابن تومرت كان يضمر مشروعه ويعمل له. ننتقل الآن إلى ناحية أخرى من تاريخ الدولة المرابطية، وهي ناحية طارئة عليها، وقد شاء القدر بأن تحول وجهة سيرها من التقدم والتوطد، إلى الإدبار والانحلال المفاجىء، فبينما هي في أوج قوتها ورسوخها، إذا بها تجد نفسها فجأة أمام فورة دينية صغيرة، يضطلع بها فقيه متواضع، وتضطرم بسرعة مدهشة، حتى تغمر كل شىء فيها، وتستغرق كل قواها ومواردها، ثم تنتهي بعد صراع قصير الأمد، بالقضاء عليها: تلك هي ثورة المهدي ابن تومرت. إن التاريخ الإسلامي، قلما يقدم إلينا حركة أكثر تواضعاً في بدايتها، وأبعد مدى في نتائجها، من تلك الحركة التي قام بها محمد بن تومرت السوسي، المتشح بثوب المهدي، والتي أسفرت عن قيام دولة من أعظم الدول الإسلامية،

وأضخمها رقعة، وأعظمها قوة وسلطاناً، هي الدولة الموحدية الكبرى. ولقد كانت حركة ابن تومَرت هي الثانية من نوعها في المغرب الإسلامي، وكانت الأولى هي حركة الشيعة، التي أسفرت عن قيام الدولة الفاطمية في إفريقية (تونس)، والتي كان زعيمها الروحي وأول خلفائها عبيد الله يتشح كذلك بثوب المهدي المنتظر. وبالرغم من أن الدولة الفاطمية قد انتقلت بعد ذلك إلى مصر، فإن نشاطها وفتوحاتها، وسلطانها الروحي والسياسي، قد استمرت بالمغرب ردحاً من الزمن، على يد ولاتها من القبائل البربرية، التي كانت هي المادة الآدمية التي استندت إليها في قيامها وتوطدها بالمغرب. بيد أن حركة المهدي ابن تومرت هي حركة مغربية مستقلة، لم تنبعث كما هو الشأن في قيام الدولة الفاطمية، من الدعوة الشيعية المشرقية، وإن كانت مع ذلك تستند إلى نظرية المهدي المنتظر، وهي بذلك تمتاز بتخصصها القوي وصبغتها المحلية البربرية العميقة، كما تمتاز بأساسها الديني الواضح، الذي انبعثت منه، قبل أن تتطور بسرعة إلى حركة سياسية، يتزعمها الإمام المعصوم والمهدي المنتظر، وهي تتجه في خصومتها المذهبية إلى الصراع المحلي المحض، وتستمد لمقوماتها العوامل الدينية المحلية، التي اختص بها المغرب منذ عصور. ثم هي فوق ذلك تمثل معركة قومية داخلية، تضطرم بين فريقين من القبائل البربرية، تستظل كل منهما بشعارها الديني الخاص. فقد رأينا كيف قام المرابطون في البداية للجهاد في سبيل الله، وإحياء السنة ومحاربة البدع والضلالات، والانحراف عن أحكام الإسلام، وقد كان يومئذ يسود كثيراً من القبائل البربرية، ثم رأينا كيف استقرت رياسة الدولة المرابطية في قبيلة لمتونة، وحليفاتها كدالة ومسُّوفه وغيرها من بطون صنهاجة. وكذلك فإن حركة ابن تومرت، قامت في البداية على شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأت رياسته السياسية في وطنه بالسوس الأقصى، وفي قبيلته هَرْغة، وغيرها من بطون مَصْمودة، وإذن فقد كانت المعركة بين المرابطين والموحدين، تصطبغ في نفس الوقت بالصبغتين الدينية والقومية. - 1 - في أواخر سنة 514 هـ (1120 م) وقعت بمدينة مراكش أول بادرة مؤذنة ببداية الثورة الدينية التي اضطلع بها محمد بن تومرت ضد الدولة المرابطية.

ففي ذات يوم جمعة، من هذه السنة، دخل إلى المسجد الجامع رجل صغير القد، متواضع الهيئة، وجلس على مقربة من المحراب بإزاء الموضع المخصص لجلوس أمير المسلمين، فلما اعترض على ذلك بعض سدنة الجامع، تلا الآية " إن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ". ولما حضر أمير المسلمين علي بن يوسف، نهض سائر الحضور، إلا ذلك الرجل، فلما انتهت الصلاة بادر الرجل بالسلام على عليّ، وقال له فيما قال " غير المنكر في بلدك، فأنت المسئول عن رعيتك " وبكى. فلم يجبه أمير المسلمين بشىء. ولما عاد إلى القصر سأل عنه، فقيل له إنه قريب العهد بالوصول، وهو يؤلف الناس ويقول لهم إن السنة قد ذهبت، فأمر علي بن يوسف، وزيره عمر بن ينتان أن يكشف عن أمره ومقصده، فإن كانت له حاجة ينظر في قضائها، فقال الرجل ليس لي حاجة، وما قصدي إلا تغيير المنكر (¬1). كان هذا الرجل هو محمد بن تومرت، وكان قد آب من رحلته إلى المشرق، ونزل بمراكش، بعد أن طاف ببعض مدن المغرب الشمالية، وهو يدعو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأصل هذا الرجل من قبيلة هَرْغة إحدى بطون مصمودة الكبرى، من قوم بها يعرفون " بايسرغينن " وهم الشرفاء في لغة المصامدة. وقد ولد بضيعة، تقع في جنوبي السوس الأقصى، تسمى " بإيجلي ان وارغن " (¬2). وقد اختلف في تاريخ مولده. وتضعه الرواية فيما بين سنتي 471، و 491 هـ، ويقول لنا ابن الأثير إنه توفي في سنة 524 هـ عن إحدى وخمسين عاماً أو خمسة وخمسين عاماً، مما يجعل تاريخ مولده في سنة 469 هـ، أو 473 هـ، ويضع ابن خلكان تاريخ مولده في العاشر من محرم سنة 485 هـ، وابن الخطيب في سنة 486 هـ، وابن سعيد في سنة 491 هـ، ويضعه الغرناطي في سنة 471، وهو أقدم تاريخ ينسب إليه مولد ابن تومرت (¬3). وأما عن نسبته فإن الرواية أشد تبايناً واختلافاً. ومن المتفق عليه أنه أبو عبد الله محمد بن عبد الله، ووالداه من أهل السوس، وكان أبوه رجلا فقيراً، وأمه من قوم يعرفون ببني يوسف من مسكالة من عمل السوس، وبنو يوسف هم أخواله، ومولده ¬_______ (¬1) البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة التي عثرنا بها). (¬2) المعجب ص 99، وابن خلدون ج 6 ص 224 و 225. (¬3) يراجع في مولد ابن تومرت، الزركشي في تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية (تونس 1289 هـ) ص 1، وابن الأثير ج 10 ص 205، وابن خلكان ج 2 ص 52.

بموضع يسمى " نومكران "، وهو موضع لا ماء فيه، وإنما يشرب أهله من ماء المطر. وهنالك كانت دار أسرته (¬1). وكان يقال لوالده تومَرت وأمغار، ومعناه في لغة المصامدة، الضياء الذي يوقد في المسجد، ومن ثم فقد عرفه التاريخ باسمه الذائع، وهو محمد بن تومرت، كما عرفه بلقبه الديني وهو المهدي، ويفسر لنا مؤرخه " البيذق " معنى كلمة " تومرت " التي لصقت بأبيه، فيقول لنا، إن اسم أبيه عبد الله، شهر في صغره إلى كبره " بتومرت بن وجلّيد ". وذلك أنه لما ولد فرحت به أمه وسرت، فقالت باللسان المغربي " آتومَرت آينُو أيَّسك آييوي "، ومعناه: يا فرحتى بك يا بني. وكانت إذا سئلت عن ابنها وهو صغير، تقول باللسان المغربي " يك تومرت "، ومعناه صار فرحاً وسروراً، فغلب عليه اسم تومرت، وترك دعاؤه باسم عبد الله الذي سمي به أولا (¬2). ومن المحقق الذي لا يقبل ذرة من الجدل، أن ابن تومرت بربري الجنس ينتسب إلى هَرْغة ومصمودة، ومع ذلك فإنه نظراً لانتحاله صفة المهدي والإمام المعصوم، لم يعدم رواية تنسبه لآل البيت، إذ لابد، وفقاً لأسطورة المهدي المنتظر، أن يكون المهدي منهم. ومن ثم فإننا نجد إلى جانب نسبة ابن تومرت البربرية المحضة، نسبة أخرى ترجعه إلى آل البيت. أما نسبته البربرية فهي أنه محمد بن تومرت بن نيطاوس بن ساولا بن سفيون بن أنكليدس بن خالد. أو أنه محمد بن عبد الله بن وجلّيد بن يامصال بن حمزة بن عيسى. وهذه النسبة الثانية تمد بعد ذلك على يد بعض الرواة إلى آل البيت على النحو الآتي: ابن عبيد الله ابن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن فاطمة بنت رسول الله (¬3). وأما نسبته العربية العلوية فهي أنه محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن هود بن خالد ابن تمام بن عدنان بن صفوان بن سفيان بن جابر بن يحيى بن عطاء بن رباح بن ياسر ابن العباس بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. ويؤيد هذه النسبة ابن رشيق في شجرة أنساب الخلفاء والأمراء، وابن القطان، وابن صاحب الصلاة، مؤرخا ¬_______ (¬1) ابن القطان في " نظم الجمان " (المخطوط السابق ذكره لوحة 14 ب). (¬2) كتاب " أخبار المهدي ابن تومرت وابتداء دولة الموحدين " لأبى بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق، المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (باريس سنة 1928) ص 30، وقد قرنت به ترجمة فرنسية. (¬3) أخبار المهدي بن تومرت ص 21.

الدولة الموحدية (¬1)، ويقول لنا المراكشي، إنه رأى بخط المهدي نسبته المتصلة بالحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (¬2). بيد أنه يوجد إلى جانب ذلك من المؤرخين، من ينكر هذه النسبة على ابن تومرت ويعتبره دعيًّا فيها. ومن هؤلاء ابن مطروح القيسي، وهو يصف ابن تومرت بأنه " رجل من هرغة من قبائل المصامدة يعرف بمحمد بن تومرت الهرغي ". وقال بعضهم إنه من قبيلة جنفيسة (¬3). ونحن لا نرى في هذه النسبة العربية النبوية التي يدعيها ابن تومرت لنفسه، والتي يؤيدها بعض المؤرخين من أولياء الموحدين وكتاب دولتهم، إلا نحلة باطلة، وثوباً مستعاراً، أراد به ابن تومرت أن يدعم به صفة المهدي التي انتحلها شعاراً ْلإمامته ورياسته الدينية والسياسية، ومما يلفت النظر أن كثيراً من القبائل والأسر البربرية التي تشق طريقها إلى السلطان، تحاول دائماً أن تنتحل الأنساب العربية، كما هو الشأن في بني حمّود الذين يرجعون نسبتهم إلى آل البيت، وفي قبيلة صَنهاجة ْوهي الأم الكبرى للمتونة، صاحبة الرياسة في الدولة المرابطية، فإنها تزعم أنها تنتمي في الأصل إلى العرب اليمانية (¬4). وليست لدينا أية تفاصيل شافية عن نشأة ابن تومَرت وحداثته. وكل ما يقال لنا من ذلك أنه نشأ في بيت نسك وعبادة، وشب قارئاً محباً للعلم، وكان يسمى في حداثته " أسافور"، ومعناه الضياء لكثرة ما كان يسرج القناديل بالمساجد التي يلازمها (¬5). ولكن الرواية تتبع سيرة حياته منذ سنة 500 هـ (1106 م)، ففي تلك السنة، أو السنة التالية (501 هـ) حسبما ينقل إلينا ابن القطان، عن الشيخ يحيى ابن وسنا من أهل خمسين أصحاب المهدي - غادر ابن تومرت وطنه بالسوس في ْطلب العلم، وعبر البحر إلى الأندلس، ودرس في قرطبة حيناً، ثم جاز من ثغر ألمرية إلى المشرق (¬6)، ومر في طريقه على المهدية، وأخذ بها على الإمام المازري، ثم قصد إلى الإسكندرية ودرس بها على الإمام أبى بكر الطرطوشي، وقضى ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 75، وابن خلدون ج 6 ص 225 و 226، والزركشي ص 1. (¬2) المعجب ص 99. (¬3) روض القرطاس ص 110. (¬4) روض القرطاس ص 75. (¬5) ابن خلدون ج 6 ص 226. (¬6) ابن القطان في " نظم الجمان " (المخطوط السابق ذكره لوحة 2 أ).

بعد ذلك فريضة الحج، ثم سافر إلى بغداد، وهنالك درس الفقه والأصول على أبى بكر الشاشي الملقب بفخر الإسلام، ودرس الحديث على المبارك بن عبد الجبار وغيره (¬1). وفي بعض الروايات أن ابن تومرت لقي الإمام أبا حامد الغزالي ودرس عليه في بغداد، وقيل بل لقيه بالشام أيام تزهده (¬2). ونحن نقف قليلا عند هذه الرواية، التي يرددها كثير من مؤرخي المشرق والمغرب، إذ متى وأين كان هذا اللقاء، وفي أي الظروف؟ لقد خرج ابن تومرت من وطنه في طلب العلم في سنة 500 أو 501 هـ، وقضى فترة في الأندلس، وفي المهدية، وفي الإسكندرية، ثم سافر لقضاء فريضة الحج، وقصد على أثر ذلك إلى بغداد، وإذن فيكون من المرجح أنه لم يصل إليها قبل سنة 504 و 505 هـ. وقد كان الإمام الغزالي ببغداد يضطلع بالتدريس في المدرسة النظامية بين سنتي 484 و 488 هـ (1091 - 1095 م). وفي سنة 488 هـ غادر العاصمة العباسية، في رحلته التأملية الشهيرة التي استطالت حتى سنة 499 هـ، والتي زار فيها دمشق وبيت المقدس والإسكندرية ومكة والمدينة. وإذن فيكون من المستحيل مادياً، أن يكون ابن تومرت الذي غادر وطنه لأول مرة في سنة 500 هـ، قد استطاع أن يلتقى بالغزالي في بغداد أو غيرها من المدن التي زارها في خلال رحلته، ثم إنه ليس من المحتمل أن يكون هذا اللقاء قد وقع عند عودة الغزالي إلى بغداد. ذلك أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، ثم رحل منها إلى نيسابور حيث قام بالتدريس فيها استجابة لدعوة السلطان ملك شاه، ثم غادرها بعد قليل إلى مسقط رأسه طوس، وانقطع بها للعبادة والتأليف حتى توفي في جمادى الثانية سنة 505 هـ (ديسمبر سنة 1112 م). ويتضح من ذلك جلياً بطلان قصة اللقاء بين ابن تومرت والإمام الغزالي من الناحية التاريخية. وفضلا عن ذلك فإنه يوجد دليل مادي آخر على بطلان هذه القصة أو الأسطورة. ذلك أنها تقرن بواقعة أخرى خلاصتها أن ابن تومرت حينما لقي الإمام الغزالي، وأخبره بما وقع من إحراق المرابطين لكتابه " إحياء علوم الدين " بالمغرب والأندلس، تغير وجهه، ورفع يده إلى الدعاء، والطلبة يؤمنون، فقال " اللهم مزق ملكهم كما مزقوه، وأذهب دولتهم كما أحرقوه "، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 1 ص 226، والحلل الموشية ص 75، والزركشي ص 1، والمعجب ص 99. (¬2) الحلل الموشية عن ابن القطان ص 75، والمعجب ص 99، وروض القرطاس ص 110 وابن خلكان ج 2 ص 48، والزركشي ص 1.

وأن ابن تومرت، رجا الإمام عندئذ أن يدعو الله أن يكون ذلك على يده، فاستجاب الإمام، ودعا الله بذلك (¬1). وينقض هذه الواقعة من أساسها، أن قرار المرابطين بحرق كتاب " الإحياء " قد صدر لأول مرة في سنة 503 هـ في أوائل عهد علي بن يوسف، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان، أعني بعد أن غادر الغزالي بغداد إلى نيسابور لآخر مرة، وقبيل وفاته بنحو عام. فأين إذن ومتى كان لقاء ابن تومرت به؟ وكيف نستطيع إزاء هذه المفارقات الزمنية، أن نصدق تلك القصة التي نسجت حول حرق كتاب الإحياء؟ هي أسطورة إذن، نسجت كما نسجت نسبة ابن تومرت إلى آل البيت، لتغدو هالة تحيط بشخصه وسيرته، وتذكي عناصر الخفاء القدسية، حول شخصه وإمامته. وقد اختير الإمام الغزالي لبطولتها بالذات لتبوئه يومئذ أسمى مكانة من العلم والدين والورع في العالم الإسلامي، ولشهرته الذائعة في المغرب، وصلاته المعروفة بعاهل المرابطين يوسف بن تاشفين، وتأثيره الشرعي لديه، وتأييده لدولته. ويبدو لون الأسطورة في هذه القصة التاريخية بنوع خاص، فيما تزعمه الرواية من أن الإمام الغزالي، حين رؤيته لابن تومرت، شهد من صفاته وشمائله، وتبين فيه من العلامات والآثار، ما يدل على أمره ومستقبله، وأنه كان يقول لجلسائه " لابد لهذا البربري من دولة، أما إنه يثور بالمغرب الأقصى، ويظهر أمره، ويعلو سلطانه، ويتسع ملكه، فإن ذلك ظاهر عليه في صفاته، وباين عنه في شمائله ". ثم تزيد الرواية على ذلك، أن بعض الصحب نقل ذلك إلى ابن تومرت، وأخبره أن ذلك عند الشيخ في كتاب، فلم يزل ابن تومرت يجتهد في خدمة الشيخ ويتقرب إليه، حتى اطلع على الأخبار التي كانت فيه، فلما تحقق من ذلك اعتزم الرحيل إلى المغرب ليتابع قدره، ويبحث عن مصيره (¬2). ولم يقف أمر هذه الأسطورة التي تجمع بين الغزالي وابن تومرت عند هذا الحد، بل لقد كان من آثارها أنه يوجد كتاب منسوب للغزالي عنوانه " سر العالمين، وكشف ما في الدارين " أو بعنوان أقصر " السر المكنون " وقد جاء في ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 76 و 377 والبيان المغرب (الأوراق المخطوطة السابق ذكرها - هسبيرس ص 76). (¬2) روض القرطاس ص 110 و 111.

أوله ما يأتي: " أول من استنسخه، وقرأه عليّ بالمدرسة النظامية سراً من الناس في النوبة الثانية بعد رجوعي من السفر، رجل من أرض المغرب يقال له محمد ابن تومرت من أهل سلمية، توسمت فيه الملك " (¬1). وليس أشد إمعاناً من ذلك كله في عالم الأسطورة. ومن ثم فإنا نجد كثيراً من المؤرخين والمفكرين يرفضون هذه الأسطورة والأخذ بها، فابن الأثير ينفيها بصراحة ويقول لنا " والصحيح أن ابن تومرت لم يجتمع به (أي الغزالي) " (¬2). ويبدي ابن خلدون ريبه فيها، ويحملها على محمل الزعم، وكذلك يعاملها ابن الخطيب (¬3). وكذلك فإن البحث الحديث ينكرها وينفيها. ومن أصحاب هذا الرأي المستشرق الألماني ميللر (¬4)، والعلامة المستشرق إجناس جولدسيهر. ويستعرض جولدسيهر بنوع خاص ما في هذه القصة من مفارقات ومتناقضات تاريخية ثم يقول: " ويبدو من ذلك كله أنه يحق لنا أن نلغي من ترجمة ابن تومرت قصة الغزالي، فهي غير مقبولة إطلاقاً، سواء من حيث ترتيب الحوادث الزمنية، أو من حيث منطق الحوادث نفسها. وكل ما هنالك أننا نرى فيها تحقيقاً لحاجة الناس، بأن يجدوا سبباً موجباً، غير الصفات الشخصية، لارتفاع رجل، وصل في لمعة نور خارقة إلى السلطان، وإلى سحق الدولة القائمة " (¬5). على أن ذلك كله لا يعني أن ابن تومرت لم يتأثر في تعاليمه الدينية بآراء الغزالي ونظرياته. ومن المسلم به أن ابن تومرت، قد تأثر خلال درسته بالمشرق بالنظريات المشرقية في علوم الكلام والأصول والسنة. ويقول لنا ابن خلدون، إنه تأثر بتعاليم الأشعرية، وأخذ عنهم، واستحسن طريقتهم في الانتصار للعقائد السلفية والدفاع عنها، وفي تأويل المتشابه من القرآن والحديث (¬6)، وهي ¬_______ (¬1) هذا ما ورد في مقدمة العلامة جولدسيهر الفرنسية لكتاب " أعز ما يطلب " الآتي ذكره (ص 19) ولكنا نجد هذه العبارة في مخطوطي دار الكتب المصرية من هذا الكتاب (رقم 180 و 204 مجاميع). (¬2) ابن الأثير ج 10 ص 101. (¬3) ابن خلدون ج 6 ص 226، وابن الخطيب في الإحاطة في (القاهرة 1956) في ترجمة إدريس بن يعقوب بن عبد المؤمن ج 1 ص 417 و 418. (¬4) A. Muller: Der Islam in Morgen und Abendland (Berlin 1885) B. II. p. 641 (¬5) مقدمة العلامة جولدسيهر ( I. Goldziher) لكتاب محمد بن تومرت (أعز ما يطلب) Le Livre de Mohamad Ibn Toumert (Alger 1903) Introduction, p. 12 (¬6) ابن خلدون ج 6 ص 226.

مسائل سوف نعود إليها حينما نتحدث عن تعاليم المهدي الدينية. وأما فيما يتعلق بتأثير الغزالي، فإن هذا التأثير يظهر في آراء ابن تومرت ومشاريعه الدينية، وخصوصاً فيما أبداه ابن تومرت من المعارضة للتقاليد الدينية الكائنة بالمغرب، وإن هذه المعارضة كانت تعكس في صور كثيرة، ما كان قائماً من نظرية الغزالي الكلامية، وبعض النظريات الأخرى في المشرق. على أن هذا التأثر بتعاليم الغزالي، لم يصل في رأي جولدسيهر إلى الأعماق، ولم يكن كبيراً، ويلاحظ جولدسيهر بالأخص أن المهدي، بالرغم مما يوصف به في تراجمه من الورع والزهد، لم يبد قط ميلا إلى المعارف الصوفية، وإلى ذلك الجهد النفسي الذي يسمح للإنسان بالحياة في ضمير الحقائق الدينية، وهو الغرض الأساسي في بحوث الغزالي الدينية. هذا إلى ما كان بينهما من خلاف في المناهج، وفي علم الشريعة، وفي بعض النقط الكلامية الأخرى (¬1). - 2 - ولما أتم محمد بن تومرت بغيته من الدراسة بالمشرق، اعتزم العودة إلى المغرب، وكان قد قطع في دراسته وبحوثه مرحلة بعيدة المدى، حتى غدا على قول ابن خلدون: " بحراً متفجراً من العلم، وشهاباً وارياً من الدين ". وركب ابن تومرت البحر من الإسكندرية في أواخر سنة 511 هـ (1117 م) , ويقال إنه أخرج منفياً من الإسكندرية، لما ترتب من شغب على نشاطه في مطاردة المنكر. بيد أنه استمر في دعوته إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو على ظهر السفينة التي أقلته، فألزم ركابها بإقامة الصلاة وقراءة القرآن، واشتد في ذلك حتى قيل إن ركاب السفينة ألقوه إلى البحر، فلبث أكثر من نصف يوم يسبح إلى جانبها دون أن يصيبه شىء، فلما رأوا ذلك أنزلوا إليه من رفعه من الماء، وقد عظم في نفوسهم، وبالغوا في إكرامه (¬2). ولما وصل إلى المهدية، نزل بمسجد من مساجدها، وليس معه سوى ركوة ماء وعصا، فتسامع به الناس، وأقبل الطلاب يقرأون عليه مختلف العلوم، وكان إذا شاهد منكراً من آلات الملاهي، أو أواني الخمر، بادر إلى إزالته وكسرها، وأصابه ¬_______ (¬1) مقدمة جولدسيهر الفرنسية لكتاب محمد بن تومرت السابقة الذكر ص 20. (¬2) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 15 ب)، والمعجب ص 99 و 100.

بسبب ذلك بعض الأذى. ووصل خبره إلى الأمير يحيى بن تميم بن المعز بن باديس ملك إفريقية، فاستدعاه مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته، واستمع إلى مناقشاته أعجب به وأكرمه سأله الدعاء (¬1). ثم غادر المهدية إلى بجاية، وجرى فيها على نفس أسلوبه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان يقوم بدعوته بلا كلل، حتى وقعت ذات يوم بسبب تشدده في إزالة المنكر، ضجة وشعب، وكان والي البلدة العزيز بن المنصور بن حماد الصنهاجي، رجلا فظاً قاسياً، فسخط عليه هو وخاصته، وأراد البطش به. ويفصل لنا ابن القطان بعض ما فعله ابن تومرت لإزالة المنكر ببجاية، وبعض ما كان بها من المناكر والبدع، فيقول إن ابن تومرت لما دخل بجاية لقى بها الصبيان في زي النساء بالضفائر والأخراس والزينة، وشواشي الخز، وألفى الأرذال قد فتنوا بذلك، وانهمكوا فيه، فشدد في مطاردته، وفي إزالة هذا الزي المنكر. ثم إنه حضر عيداً فرأى فيه من اختلاط الرجال بالنساء والصبيان المتزينين المتكحلين صوراً مثيرة، فزجرهم، ونغص عليهم اجتماعهم، فوقع الهرج، وسرى الشر، وسُلب النساء حليهن. وسأل العزيز عن ذلك، فعرف بأنه لا سبب لهذا الهرج سوى الفقيه السوسي، وذلك حسبما كان يعرف ابن تومرت مذ كان بالمشرق. فأمر بجمع الطلبة لمناظرته، فاجتمعوا في دار أحدهم على طعام وشراب، واستدعى ابن تومرت للحضور، فأبى، فقصد إليه الكاتب عمر بن فلفول، فلاطفه وتضرع إليه حتى قبل المناظرة، واجتمع بالطلبة، وسألوه فأجابهم عن كل ما سألوا؛ وسألهم فما استطاعوا الإجابة عن شىء. وتضرع إليه ابن فلفول عندئذ بأن يترك ما هو بسبيله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (¬2). وخشى ابن تومرت العاقبة، فغادر بجاية إلى ناحية قريبة منها تسمى ملالة، ونزل في كنف أصحابها وهم من أعيان صنهاجة، فآووه وأكرموه، وطلب إليهم والى بجاية تسليمه إليه، فأبوا، ولبث بينهم حيناً يدرس العلم، وكان إذا فرغ يجلس على صخرة بقارعة الطريق قريباً من ملالة. وفي ذات يوم وفد إليه كهل وفتى حسن التكوين، رائع الجمال، ولم يكن هذا الفتى الوسيم سوى عبد المؤمن بن علي بن عَلْوي، الذي شاء القدر أن يغدو فيما بعد أعظم أصحاب المهدي، وأعظم قادته، وخليفة ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 10 ص 202، وابن خلكان ج 2 ص 49. (¬2) ابن القطان في " نظم الجمان " (المخطوط السابق ذكره لوحة 16 ب و 17 أ).

تراثه ودولته. وكان قد قدم مع عمه من بلده القريب من تلمسان، في طريقه إلى المشرق، ليطلب العلم، ويقضي فريضة الحج، فسأله ابن تومرت عن شخصه وعن أحواله، ولما وقف على مقصده، قال له إن العلم والشرف والذكر التي يطلبها موجودة، وإنها تنال بصحبته، ودعاه إلى معاونته فيما هو قائم به، من إماتة المنكر، وإحياء العلم، وإخماد البدع. ويقدم إلينا ابن القطان عن لقاء عبد المؤمن بابن تومرت رواية أخرى، خلاصتها أن ابن تومرت حينما خرج من بجاية، واتخذ مقره في رابطة ملالة، وأقبل عليه طلبة العلم، كان ممن وفد عليه منهم الفقيه عبد الواحد بن عمر التونسي، وتعلق به ولازمه حيناً، وكان التونسي من فقهاء رباط تلمسان، فلما توفي، اتفق أصحابه وتلاميذه على استدعاء ابن تومرت ليقوم بالتدريس مكانه، فوجهوا إليه عبد المؤمن، وكان من تلاميذ التونسي المذكور (¬1). وأعجب عبد المؤمن كذلك بشخصية ابن تومرت وغزير علمه، وعول على البقاء إلى جانبه. وهنا تدخل الأسطورة مرة أخرى، فيقال إن ابن تومرت قد اطلع على كتاب في الجفر من علوم آل البيت، ورأى فيه صفة رجل يظهر بالمغرب الأقصى، من ذرية الرسول، وان إستقامة أمره، وتوطد مركزه، يكون على يد رجل من أصحابه، هجاء اسمه كاسم عبد المؤمن، ويجاوز وقته المائة الخامسة، وأنه، أي ابن تومرت، كان يبحث عن هذا الرجل أينما حل، فلما رأى عبد المؤمن وسمع اسمه " أدرك أنه هو الشخص المبتغى " (¬2). وقيل إن ابن تومرت التقى بعبد المؤمن بموضع يعرف بفنزارة من بلاد متيجة، وأن عبد المؤمن كان عندئذ يشتغل بتعليم صبيان القرية المذكورة (¬3). وبقى عبد المؤمن إلى جانب ابن تومرت، وانقطع إليه واختص به، ودرس عليه حيناً بملالة، تم غادرا ملالة معاً، وذهبا إلى وانشريش، وهنالك انضم إليهما رجل من قبيلة هرغة، أي قبيلة ابن تومرت، هو أبو محمد البشير. وقصد ابن تومرت وصحبه بعد ذلك إلى تلمسان، وقد تسامع الناس بخبره، وذاع صيته، فاستدعاه قاضيها، وهو ابن صاحب الصلاة، وأنبه على مسلكه، ومخالفته لعقائد أهل قطره، وطلب إليه العدول عن دعوته، فأعرض ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 3 ب). (¬2) ابن خلكان ج 2 ص 49، والمعجب ص 100. (¬3) المعجب عن 100.

عنه ابن تومرت، وسار مع صحبه إلى فاس، ثم إلى مكناسة. وهنالك اشتد في مطاردة المنكر، فاعتدى عليه الغوغاء بالضرب والأذى، فغادرها إلى مراكش (¬1). ونظرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي اتخذها ابن تومرت شعاراً له، هي فكرة يختص بها الإسلام، وهي مشتقة مما ورد في القرآن من قوله: " ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر "، وقوله: " كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر "، ومما ورد في الحديث مما شُهد بصحته قوله: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "، وقوله: " لا طاعة في معصية، إنما الطاعة في المعروف، وعلى أحدكم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة ". وأساس هذه الفكرة الإسلامية، هو التضامن الاجتماعي، والمسئولية العامة عن حماية المجتمع من المنكر والرذائل التي ينهي عنها الدين. وقد تناول الإمام الفيلسوف ابن حزم القرطبي هذه النظرية في كتابه الجامع " الفِصَلْ " وشرح لنا أصولها ومغزاها، وذكر لنا فيما يتعلق بتطبيق هذا الشعار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بأنه قد ذهبت طوائف من أهل السنة والمعتزلة والخوارج والزيدية، إلى أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك. فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع، ولاييئسون من الظفر، ففرض عليهم ذلك، وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر، كانوا في سعة من ترك التغيير باليد. ويزيد ابن حزم على ذلك، أنه يجب إن وقع شىء من الجور وإن قل، أن يكلم الإمام في ذلك ويمنع منه، فإن امتنع وراجع الحق وأذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء، ولإقامة حد الزنا والقذف والخمر، فلا سبيل إلى خلعه، وهو إمام كما كان لا يحل خلعه، فإن امتنع من إنفاذ شىء من هذه الواجبات عليه ولم يراجع، وجب خلعه وإقامة غيره ممن يقوم بالحق لقوله تعالى: " وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " (¬2). ويعلق الإمام الغزالي أهمية كبيرة على تلك الفكرة، ويصف الأمر بالمعروف ¬_______ (¬1) راجع الحلل الموشية ص 77 و 78، وابن خلدون ج 6 ص 227. (¬2) ابن حزم في " الفصل في الملل والأهواء والنحل " (القاهرة 1321 هـ) ج 4 ص 171 و173، و 176.

بأنه " هو القطب الأعظم في الدين ". ومن الطبيعي أن يكون الحاكم أو رئيس الدولة (الإمام)، هو المسئول الأول عن تنفيذ هذا المبدأ الأخلاقي، وأن يبذل ما في وسعه في قمع ما يخالف الشرع من الأعمال والذنوب، بيده، أي بواسطة مأموريه، ثم بلسانه أي بالوعظ والحث على التزام أحكام الشرع. وقد كان منصب الحسبة في مختلف الدول الإسلامية في العصور الوسطى، مظهراً من مظاهر العمل على محاربة بعض أنواع المنكر، بيد أن هذه المطاردة للمنكر لم تكن وقفاً على الدولة، أو ممثليها الرسميين، وإنما كان حق الحسبة يمتد إلى كل مسلم، فلكل مسلم أن يعمل أو أن ينبه على الأقل لإزالة كل منكر يراه، أو مخافة لأحكام الشرع. وهذا المبدأ ما يزال مسلماً به في عصرنا في سائر المجتمعات الإسلامية، وإن كان الشرع يقصر استعماله على التنبيه أو تبليغ السلطات المختصة. يقول العلامة جولدسيهر معلقاً على هذا المبدأ: " كان أولئك الذين يحاولون تغيير المنكر، وتغيير وجه الأمور، رجال متحمسون مخلصون، ولكنه كان أيضاً ذريعة لمغامرين أذكياء يحاولون الوصول إلى السلطان بطريقة سهلة فيسبغون الصبغة الدينية على حركة ثورية، وقد كان مبدأ الأمر بالمعروف، شعار الحركات لقلب أسر حاكمة، ورفع آخرين إلى مكانها، وهو يبدأ بنقد الأسرة الحاكمة، ثم يتلو ذلك شهر السيف، وإثارة الجموع. فإذا نجح ذلك، تم الوصول إلى الغاية المنشودة ". " وقد كان هذا الشعار كلمة تجمُّع لثورات أسر في المشرق، وكذلك في إفريقية الشمالية، التي كانت دائماً مهاداً خصبة لأولئك الذين يريدون إقامة صرح سياسي فوق أسس دينية. ولم تكن بين هذه ثمة حركة، لا في أوائلها، ولا في تقدمها، تضارع في اتساع نطاقها، تلك الثورة التي أدت في أعوام قلائل، إلى طرد المرابطين، وتأسيس الإمبراطورية الموحدية القوية في اسبانيا وشمال إفريقية ". وبالرغم من أن جولدسيهر يرى بصفة عامة أن ابن تومرت لم يتأثر بتعاليم الغزالي، فإنه في هذا الموطن يقول لنا إن ابن تومرت ربما تأثر في نظرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنفوذ الغزالي، لأنه يعلق على هذه النظرية أهمية قصوى، ويصفها كما تقدم " بالقطب الأعظم للدين " (¬1). ¬_______ (¬1) مقدمة جولدسيهر الفرنسية لكتاب " محمد ابن تومرت " أو أعز ما يطلب: Mohamed Ibn Toumert et la Théologie de l'Islam dans le Magreb au XI Siècle, p. 96-95 & 87-85

ونزل ابن تومرت بالحاضرة المرابطية، وكان ذلك في سنة 514 هـ (1120 م) وعكف على طريقته في مطاردة المنكر وإزالته، كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، والتقى في المسجد الجامع بأمير المسلمين علي بن يوسف، وجرى بينهما ما سبقت الإشارة إليه من الأحاديث. واستمر ابن تومرت في حملته الدينية الأخلاقية دون هوادة. وقد كانت مراكش وغيرها من المدن المغربية، تبدي أيام المرابطين كثيراً من مظاهر التسامح الديني، أو بعبارة أخرى كثيراً من مظاهر الاستهتار والفساد، فقد كانت الخمر تباع علناً وفي الأسواق، وكان النبيذ يشرب دون تحفظ، وكانت الخنازير تمرح في أحياء المسلمين، وكان القصف ذائعاً بسائر صنوفه، ومظاهر التدين ضعيفة باهتة، هذا إلى ما كان يسود الإدارة من تفكك، والقضاء من انحلال واغتصاب لأموال اليتامى، وغير ذلك من ضروب الفساد (¬1)، وهو ما يلخصه المراكشي في قوله مشيراً إلى عهد علي بن يوسف بن تاشفين " واختلت حال أمير المسلمين بعد الخمسمائة، اختلالا شديداً، فظهرت في بلاده مناكر كثيرة، وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد، ودعواهم الاستبداد .. واستولى النساء على الأحوال، وأسندت إليهن الأمور، وصارت كل امرأة من لمتونة ومسّوفة، مشتملة على كل مفسد وشرير وقاطع سبيل، وصاحب خمر وماخور، وأمير المسلمين في ذلك كله يتزايد تغافله، ويقوي ضعفه " (¬2). ووقع ذات يوم حادث زاد في لفت الأنظار لابن تومرت ولدعوته. وذلك أن الصورة أخت أمير المسلمين خرجت في موكبها، ومعها عدد من الجواري الحسان، وهن جميعاً سافرات على عادة المرابطين، من سفور النساء، واتخاذ الرجال اللثام. ورأى ابن تومرت هذا الموكب، وأنكر على النساء سفورهن، وأمرهن بستر وجوههن، وضرب هو وأصحابه دوابهن، فسقطت الأميرة عن دابتها، ووقع الاضطراب والهرج، ورفع الأمر إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، ففاوض الفقهاء في شأن هذا الداعية المضطرم. وكانت المعلومات التي جمعت عنه منذ حادثة المسجد، هو أنه حديث العهد بالوصول إلى مراكش، وأنه يؤلف الناس، ويقول لهم إن السنة قد ذهبت. وكان علي بن يوسف قد أمر وزيره ينتان بن عمر أن يكشف عن مذهبه، وعن أحواله ومطلبه، فإن كانت له ¬_______ (¬1) مقدمة جولدسيهر الفرنسية لكتاب محمد بن تومرت السالفة الذكر ص 97. (¬2) المعجب ص 99.

حاجة ينظر في قضائها، وكان جواب ابن تومرت حسبما أشرنا من قبل، أن لا حاجة له إلا تغيير المنكر (¬1). ورأى أمير المسلمين أن يناظر الفقهاء هذا الرجل. وكان الفقهاء المرابطون يحقدون على ابن تومرت لاعتناقه مذهب الأشعرية، وما يملي به من تأويل المتشابه، ولحملته عليهم، وإنكاره لجمودهم إزاء مذهب السلف، وإقراره كما جاء، وذهابه إلى حد تكفيرهم، فأغروا الأمير باستدعائه للمناظرة معهم (¬2)، وقبل ابن تومرت هذا التحدي، وأبدى في مناظرته للفقهاء المرابطين تفوقاً ظاهراً. وقد ورد ذكر هذه المناظرة في كتاب " أعز ما يطلب "، الذي دونه الخليفة عبد المؤمن بن علي عن إملاء ابن تومرت، وملخص ذلك أن المهدي، أو " الإمام المعصوم، المهدي المعلوم " كما يوصف، طلب إلى مناظريه أن يختاروا من ينوب عنهم لمناظرته، فقدموا من اختاروه، وكان مما سألهم المهدي، أن قال لهم طرق العلم هل هي منحصرة أم لا، فأجاب مقدمهم المذكور، نعم هي منحصرة في الكتاب والسنة والمعاني التي نبهت عليها، فقال المهدي، إنما السؤال عن طرق العلم هل هي منحصرة أم لا، فلم تذكر إلا واحداً منها، ومن شرط الجواب أن يكون مطابقاً للسؤال، فلم يفهم مناظره قوله، وعجز عن الجواب. ثم سألهم المهدي عن أصول الحق والباطل ما هي، فعاد مناظره إلى جوابه الأول، فلما رأى المهدي عجزهم عن فهم السؤال، وعجزهم عن الجواب، شرع يبين لهم أصول الحق والباطل، فقال إنها أربعة وهي " العلم والجهل، والشك والظن "، ثم أخذ يشرح ماهية كل منها في كلام طويل، ثم يستعرض الكتاب بعد ذلك آراء المهدي مفصلة عن " الجهل " و " الشك "، و" الظن "، ثم عن " الأصل والحقيقة " ويقسمها إلى أقسام عديدة، وكل قسم منها إلى فصول مختلفة (¬3). وكان جل من حضر ذلك المجلس من الفقهاء المرابطين، من علماء الفروع، وليست لهم معرفة بعلم الأصول. ونقول بهذه المناسبة إن علم الأصول أو أصول الدين، يقوم على دراسة الشريعة واشتقاقها من الكتاب والسنة، ودراسة النصوص الشرعية، والأدلة العقلية، وتفاصيل العقائد، وأصول الفقه ¬_______ (¬1) البيان المغرب في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 227. (¬3) كتاب محمد بن تومرت أو أعز ما يطلب (الجزائر سنة 1903) ص 1 - 5 و 11 - 18.

أى مصادر الشريعة، ومعرفة النبوة والرسالة، وكل ما يتعلق بذلك. وأما علم الفروع، فإنه يقتصر على دراسة فرائض العبادات والمعاملات وأحكامها، والحدود والأقضية، أو بعبارة أخرى، على دراسة الجانب العملي والدنيوي من الشريعة. وقد كانت الدراسات المفضلة في ظل المرابطين هي علم الفروع. ويقول لنا المراكشي، خلال حديثه عن نفوذ الفقهاء أيام علي بن يوسف، إنه لم يكن يحظى عنده إلا من أتقن علم الفروع أعني فروع مذهب مالك، ثم يستطرد قائلا: " فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعمل بمقتضاها، ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نُسي النظر في كتاب الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء " (¬1). وقد كان أخص ما تمتاز به هذه المناظرة الدينية، هو أن ابن تومرت أبدى في مناقشته تمسكه بأصول الشريعة، إزاء الفقهاء المرابطين، وهم أقطاب علم الفروع، وأراد أن يبين جهلهم بمناهج الشريعة الحقيقية، فجعل المناقشة تجري على الأصول لا الفروع، وأبدى في عرضه لأصول الشريعة، أنه يرجع خاصة إلى القرآن والحديث، ولا يرجع قط قول مستخرج، ولا يعتبر الإجتهاد مرجعاً من مراجع الشريعة (¬2). ولم يكن بين الفقهاء المرابطين من استطاع أن يقدر براعة ابن تومرت، وتبحره في علوم الدين، سوى فقيه أندلسي هو مالك بن وهيب قاضي مراكش، وقد كان من أكابر العلماء والأدباء، وكان متمكناً من علوم الدين والفلسفة، ولكنه كان لا يظهر من علمه إلا ما يروج في ذلك الزمان (¬3). فبين لأمير المسلمين خطورة هذا الرجل، وخطورة دعوته وتعاليمه، وقال له إن هذا رجل، لا يبغي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكنه يبغي تضليل العامة، وإثارة الفتنة، والوصول إلى السلطان، وأشار عليه بقتله، وأشار البعض الآخر على أمير المسلمين، باعتقال الرجل وسجنه، وعبر عن ذلك أحدهم بقوله للأمير: " ألقه في الكبول لئلا يسمعك الطبول ". وخالفهم في ذلك الوزير ينتان بن عمر، وقال ¬_______ (¬1) المعجب ص 95 و 96. (¬2) جولدسيهر في مقدمته الفرنسية السالفة الذكر لكتاب محمد بن تومرت ص 39 و 40. (¬3) المعجب ص 102، ويقول لنا المراكشي إن مالك بن وهيب هذا، قد وضع كتاباً فريداً في بابه اسمه " قراضة الذهب في ذكر لئام العرب " ضمنه لئام العرب في الجاهلية والإسلام، وأنه رأى هذا الكتاب في خزانة بني عبد المؤمن.

لعلي بن يوسف إن هذا وهن في حق الملك، ونوه بضعف الرجل وضآلة شأنه. فأمر علي بن يوسف وزيره أن يعتقله لديه أياماً حتى يرى فيه رأيه. ولم تمض أيام على ذلك، حتى جاءت الأنباء بوقوع الفتنة في قرطبة، وأخذ علي بن يوسف في التأهب للعبور إلى الأندلس. فطلب إلى وزيره أن يأتيه بابن تومرت، وحضر بين يديه، وقال له علي بلغني عنك ما صنعت ببجاية وغيرها فتورع الناس عن قتلك، فعرفني بحقيقة غرضك، فقال ابن تومرت غرضي تغيير المنكر، ورفع المغارم، وألا تولي من قبيلتك أحد، وان تتركوا اللثام لأنه من شأن النساء، ولا تجوز به صلاة، فزجره أمير المسلمين، وأمر بإخراجه من مراكش. وكان ذلك في أوائل سنة 515 هـ (¬1). - 3 - غادر محمد بن تومرت وصحبه مدينة مراكش إلى أغمات، وفي بعض الروايات أنه بالعكس استمر حيناً يقيم في خيمة بين مقابر المدينة، وينهال عليه الناس والطلاب، وهو يبث فيهم الدعوة ضد المرابطين، ويرميهم بالتجسيم والكفر، ثم انتهى بأن أعلن بطلان بيعة علي بن يوسف وخلع طاعته عن أعناق أصحابه وتابعيه (¬2)، ولكنه اضطر أن يغادر مكانه حينما بلغه أن القوم يضمرون اعتقاله وقتله (¬3). ولما حل ابن تومرت بأغمات استمر فيها على طريقته من مطاردة المنكر والحملة على المرابطين، واتخذ لصلاته ودعايته مسجداً خارج أغمات، فأمر صاحب المدينة بإخراجه وإبعاده (¬4). فعندئذ قصد ابن تومرت وصحبه إلى بلاد السوس، ولحق بجبال المصامدة، وذهب أولا إلى مسفيوة، ثم إلى هنتانة، ثم إلى إيكلين، ومر في خلال ذلك بكثير من المحلات البربرية، وهو يتوقف أوقاتاً في بعضها، ويبني المساجد، وينضم إليه الصحب والأتباع. وقد فصل لنا أبو بكر الصنهاجي صاحب ابن تومرت، برنامج رحلته منذ خروجه من أغمات، ومسيره ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر)، وروض القرطاس ص 112، والحلل الموشية ص 73 و 74، وابن الأثير ج 10 ص 202، والمعجب ص 102 و 103، وراجع كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 68 و 69. (¬2) ابن القطان نقلا عن ابن الراعي (نظم الجمان المخطوط لوحة 10 ب). (¬3) هذه هي رواية أبى بكر الصنهاجي أحد أصحاب المهدي في كتابه " أخبار المهدي ابن تومرت " (ص 69) ونقلها صاحب روض القرطاس (ص 113). (¬4) البيان المغرب في الأوراق المخطوطة المشار إليها، وابن خلدون ج 1 ص 227.

خلال جبال المصامدة، ومن لقيه خلال رحلته من الصحب والأتباع. ورحل ابن تومرت وصحبه بعد ذلك إلى قرية إيجليز أوجبل إيجليز من بلاد هرغة، بلده وموطن قومه وعشيرته، ونزل في مكان منيع لا يصل إليه أحد إلا من طريق لا يسلكها إلا الراكب بعد الراكب، وتدافع عنها أقل عصبة من الناس (¬1)، وهنالك انهال إليه المصامدة من كل فج، وكثر صحبه وأتباعه، وهو يدعوهم إلى التوحيد، وإلى قتال المجسمين المرابطين، وعكف على تدريس العلم. وكان يعني بالأخص بأن يشرح لأنصاره وتلاميذه نظرية المهدي المنتظر والإمام المعصوم، وما ورد فيها من الأحاديث والأقوال المأثورة، ويبث الخاصة من دعاته بين رؤساء القبائل يمهدون لتلك الدعوة ويبشرون بها. ولما شعر ابن تومرت بأن دعايته قد أتت ثمرتها، وأضحى الميدان ممهداً للعمل، اعتزم أن يعلن إمامته (¬2). وفي اليوم الخامس عشر من رمضان سنة 515 هـ (ديسمبر سنة 1121 م) قام ابن تومرت خطيباً في أصحابه وأعلن إليهم أنه المهدي المنتظر (¬3) في خطبة قصيرة ينقل إلينا نصها ابن القطان في " نظم الجمان " فيما يلي: " الحمد لله الفعال لما يريد، القاضي بما يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وصلى الله على سيدنا رسول الله، المبشر بالإمام المهدي، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلا، كما ملئت جوراً وظلماً، يبعثه الله إذا نُسخ الحق بالباطل وأزيل العدل بالجور. مكانه المغرب الأقصى منبته وزمانه آخر الزمان، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام، ونسبه نسب النبي صلى الله تعالى وملائكته الكرام المقربون عليه وسلم، وقد ظهر جور الأمراء، وامتلأت الأرض بالفساد، وهذا آخر الزمان، والإسم الاسم والنسب النسب، والفعل الفعل ". (¬4) وعلى أثر ذلك، وفي ظل شجرة خروب وارفة، هرع إلى المهدي عشرة من أصحابه الملازمين له، وبايعوه على أنه المهدي المنتظر والإمام المعصوم، وهؤلاء العشرة الأوائل من أصحاب المهدي هم: تلميذه وألصق الناس به عبد المؤمن بن علي، ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 33 أ). (¬2) المراكشي في المعجب ص 103. (¬3) هذه رواية روض القرطاس (ص 113)، ويؤيدها ابن خلدون، (ج 6 ص 228)، والحلل الموشية ص 78، والزركشي ص 4، ويقول ابن عذارى إنها كانت في سنة 518 هـ (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 82). (¬4) نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 23 أ). الحلل الموشية ص 78.

وكان أول من بايعه، وأبو محمد عبد الله بن محسن الوانشريشي المسمى بالبشير، وعبد الله بن ملويات، وأبو حفص عمر بن يحيى الهنتاني، وأبو حفص عمر بن على أزناج (أصناك)، وسليمان بن مخلوف، وإبراهيم بن إسماعيل الخزرجي وأبو محمد عبد الواحد الحضرمي، وأبو عمران موسى بن تمارى، وأبو يحيى أبو بكر بن يكيت. وسمي هؤلاء العشرة بالمهاجرين الأولين وبالجماعة (¬1)، ثم بايعه من بعدهم خمسون رجلا، فسموا أهل خمسين، وهم الطبقة الثانية من أصحاب المهدي (¬2). تم بايعه من بعدهم سبعون آخرون فسموا أهل سبعين، وهم الطبقة الثالثة. وكانت هذه الطبقات الثلاث تضم أخلص أنصار المهدي، وأقدرهم. وقسم ابن تومرت بعد ذلك بقية أصحابه وأنصاره، إلى طبقات تلي هذه، فالطبقة الرابعة تتكون من طلبة العلم، والطبقة الخامسة تتكون من الحفاظ، وهم صغار الطلبة، والطبقة السادسة تتكون من أهل الدار وهم أقارب المهدي وعشيرته وخاصة خدمه. وقد ذكر لنا ابن القطان نقلا عن ابن صاحب الصلاة أسماء هؤلاء الخدم الذين كانوا يلازمونه ليل نهار. والطبقة السابعة تتكون من أهل هرغة بلد المهدي وموطن قبيلته، والطبقة الثامنة تتكون من أهل تينملّل، والطبقة التاسعة من أهل جدميوه، والطبقة العاشرة من أهل جنفيسة، والطبقة الحادية عشرة من أهل هنتانة، والثانية عشر تتكون من الجند، والثالثة عشرة من الغزاة والرماة. ويقول ابن القطان إن الطبقة الثانية عشر كانت تتكون من أهل القبائل، والثالثة عشرة من الجند. ويضيف إلى ذلك طبقة أخرى، هي الرابعة عشرة، وهي طبقة " الفرات "، وهم الأحداث الصغار الأميون، ووضع المهدي فيما بعد نظاماً خاصاً لمهام هذه الطبقات ورُتَبها، وجعل لكل منها مهمة تختص بها، ورتبة لا تتعداها، سواء في السفر أو الحضر، وشرع القتل جزاء لمن خالف الأوامر؛ ومن تخلف عن الحضور أدب، فإن تمادى قتل، ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 79، وروض القرطاس ص 113. ويذكر لنا ابن القطان اسمين آخرين هما أبو الربيع سليمان بن الحضرمي، وأبو عبد الله محمد بن سليمان مكان أبي محمد عبد الواحد الحضرمي، وسليمان بن مخلوف (نظم الجمان لوحة 33 ب). ويورد أبو بكر الصنهاجي في كتابه أخبار المهدي بن تومرت أسماء أخرى، ويذكر نفسه ضمن العشرة الأوائل (ص 73). وكذلك يذكر ابن خلدون بعض أسماء أخرى (ج 6 ص 228). (¬2) ذكر لنا أبو بكر الصنهاجي صاحب كتاب أخبار المهدي ابن تومرت أسماء " أهل خمسين " ص 33 و 34.

ومن لم يحفظ حزبه عزر بالسياط، وكل من لم يتأدب بما أدب به، ضرب بالسوط مرة أو مرتين، فإن تمادى في تصرفه وترك امتثال الأوامر قتل، ومن داهن على أخيه أو أبيه أو ابنه أو من يكرم عليه قتل. وشدد المهدي في تنفيذ شريعته وضبط الأمور بحزم، وكان هذا النظام هو أساس الدولة الموحدية المستقبلة (¬1). ولما كملت بيعة ابن تومرت على هذا النحو، لقبه أنصاره بالمهدي والإمام المعصوم، وكانوا من قبل يقتصرون على تلقيبه بالإمام. وسمي المهدي وأصحابه وأهل دعوته بالموحدين. ويقول لنا ابن خلدون، إنه اختار لهم هذه التسمية تعريضاً بلمتونة في أخذهم بالعدول عن التأويل وميلهم إلى التجسيم (¬2). ووضع لهم في التوحيد كتاباً باللغة البربرية سماه " المرشدة " يحتوي على معرفة الله تعالى، والعلم بحقيقة القضاء والقدر، والإيمان بما يجب لله تعالى، وما يجب على المسلم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتضمن الأعشار والأحزاب والسور، وقال لهم إن من لا يحفظ هذا التوحيد، فليس بموحد، وإنما هو كافر لا تجوز إمامته، ولا تؤكل ذبيحته. قال صاحب روض القرطاس " فصار هذا التوحيد عند قبائل المصامدة كالقرآن العزيز، لأنه وجدهم قوماً جهلة لا يعرفون شيئاً من أمر الدين ولا من أمر الدنيا " (¬3). ووضع لهم بالبربرية كتباً أخرى في العقيدة منها كتاب سمي " بالقواعد " وآخر سمي " بالأمانة "، ودونها كذلك بالعربية، وكان ابن تومرت أبرع أهل عصره في إتقان اللغتين العربية والبربرية. ثم وضع بالعربية فيما بعد، كتابه في العقيدة والعلم والإمامة الذي رواه عنه تلميذه وخليفته عبد المؤمن بن علي والذي يفتتحه بقوله " أعز ما يطلب " وهي عبارة أصبحت تعتبر عنواناً للكتاب ذاته (¬4). وسوف نتحدث في فصل خاص عن محتويات هذا الكتاب، وعن عقائد المهدي وآرائه الدينية والسياسية بصفة عامة. ولبث المهدي بن تومرت يبث دعوته، ويعمل على توطيدها في نفوس أنصاره، بفصاحته وذلاقته، ورقيق وعظه، وأعوانه من المخلصين القادرين يجوبون جبال المصامدة، ويدعون إلى إمامته ومهديته، والناس يفدون عليه من كل صوب جموعاً غفيرة، يبايعونه بالإمامة، ويتبركون برؤيته، حتى ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 10 أوب). (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 229. (¬3) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 34 أ). وروض القرطاس ص 114. (¬4) روض القرطاس ص 80، وابن خلدون ج 6 ص 226.

استفحل أمره، وعلا صيته، وكثر جمعه، وأضحى يمثل بما تنطوي عليه حركته من القوى الأدبية والمادية الضخمة، خطراً داهماً على سلطان المرابطين. وإنه ليحق لنا أن نتساءل هنا، هل كان محمد بن تومرت يضمر منذ الساعة الأولى مشروعه في انتحال صفة المهدي توسلا إلى نيل السلطان، وأنه مذ عاد عقب دراسته بالمشرق إلى المغرب، كان يضطرم بهذه الأمنية الكبيرة، أم أنه حمل على مشروعه، بما رآه من نجاح دعوته، وتكاثر أتباعه، وشعوره بقوة ملأه؟ يلوح لنا أن ابن تومرت كان يضطرم بأطماعه منذ الساعة الأولى، وأنه كان في بداية أمره يتخذ الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ستاراً يتحسس به طريقه، حتى تسنح له فرصة العمل المثمر. يؤيد ذلك ما سبق أن نقلناه عن المراكشي من أن ابن تومرت، كان خلال محادثاته لتلاميذه وأنصاره، يعني بأن يشرح لهم بالأخص نظرية المهدي المنتظر، والإمام المعصوم، ويبعث رسله ودعاته لإذاعتها بين القبائل. وتؤيده كذلك رسالة أشار إليها ابن القطان، قال إنها وجهت من المهدي في آخر شهر رمضان سنة 511 هـ إلى الفقيه القاضي علي بن أبي الحسن الجذامي وفيها يقول بعد البسملة: " أقول، وأنا محمد بن عبد الله بن تومرت، وأنا مهدي آخر الزمان " (¬1). وقد يؤيده أيضاً ما تردده تراجمه المختلفة من قصة لقائه بالإمام الغزالي، وما ينسب إلى الغزالي، حينما وقف منه على ما فعل المرابطون بكتبه، من دعائه بتمزيق دولتهم، وزوال ملكهم، وأن يكون ذلك على يده، أي على يد ابن تومرت، وما تردده هذه التراجم أيضاً من أن ابن تومرت، قد اطلع في بعض كتب الجفر والملاحم السرية على ما رود فيها بشأن قدره ومصيره، وأنه وقف منها على العلامات والشواهد الخاصة التي يتميز بها المهدي المنتظر، وهي علامات كانت كلها متوفرة فيه (¬2). ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 14 أ). (¬2) المراكشي في المعجب ص 103. وراجع أيضاً جولدسيهر في مقدمته الفرنسية لكتاب محمد بن تومرت التي سبقت الإشارة إليها ص 99.

الفصل الثاني الصراع بين المرابطين والموحدين

الفصل الثاني الصراع بين المرابطين والموحدين المرحلة الأولى علي بن يوسف يرسل جيشاً لمحاربة المهدي. تحصن المهدي بجبل إيجليز. نزول الموحدين للقاء المرابطين. هزيمة المرابطين وفرارهم. أمير المسلمين يرسل جيشاً آخر لمحاربة الموحدين. هزيمة المرابطين للمرة الثانية، ثم للمرة الثالثة. أثر هذا الظفر في توطيد أمر المهدي وتقوية شيعته. المهدي يوجه رسالة إلى المرابطين. غزوات المهدي للمرابطين ثم للقبائل الخارجة. افتتاحه لجبال ْدرن. انتقاله من جبل إيجليز إلى تينملل. رواية عن استيطان المهدي لتينملل، وفتكه بقبيلة هزميرة. استعداد المهدي لمرحلة جديدة من الصراع ضد المرابطين. تمييزه لأصحابه عن يد محمد البشير. قصة البشير ومعجزاته المزعومة. بعث المهدي قواته لغزو المرابطين. غزوها لكيك وأغمات. هزيمة المرابطين في الموقعتين. حشد المهدي لسائر قواته. يعهد بقيادتها إلى محمد البشير وعبد المؤمن بن علي. زحف الموحدين على مراكش. تفاصيل عن المعارك التمهيدية بين الموحدين والمرابطين. استعداد علي ابن يوسف للدفاع. اللقاء الأول بين المرابطين والموحدين تحت أسوار مراكش. هزيمة المرابطين والتجاؤهم إلى داخل المدينة. حصار الموحدين لمراكش. اجتماع الحشود المرابطية من سائر الأنحاء. نشوب معركة جديدة بين الفريقين في بقعة البحيرة. هزيمة الموحدين وتمزيق قواتهم. مصرع قائدهم البشير ومعظم زملائه. انسحاب عبد المؤمن في فلوله، وفتك القوات المرابطية بها. ارتداد الموحدين إلى تينملل. فداحة النكبة التي أصابت الجيش الموحدي. الخلاف حول تاريخ معركة البحيرة. مرض المهدي ووفاته. صفاته وخلاله وأحكامه. سفكه للدماء. خداعه واستغلاله لسذاجة الجماهير. تصدي ابن خلدون للدفاع عن صفته ونسبه وعن صحة دعوته. بواعث هذا الدفاع، وما يتسم به من سقم وتناقض. مثل الداعية المخاتل الساعي إلى انتزاع السلطان. حكومة المهدي التيوقراطية. الإتفاق على خلافة عبد المؤمن. قبر المهدي في تينملل. - 1 - كان واضحاً، أن محمد بن تومرت أو المهدي حسبما نسميه منذ الآن، كان مذ شعر بتوطيد أمره، وتضخم أنصاره وجموعه، يتأهب لمحاربة المرابطين. وهو قد أعلن ذلك لأنصاره " الموحدين " بالفعل مذ تمت بيعته وتسمى بالمهدي، وأخذ الموحدون في التأهب للحرب، بعد أن رتبهم المهدي، وجعل لكل عشرة منهم نقيباً. وسنرى فيما بعد كيف تنتظم الجيوش الموحدية وفق منهاج جديد، وتتخذ لها في الحروب خططاً مبتكرة، كانت من أهم أسباب ظفرها. وقد رأينا فيما تقدم، كيف اضطر أمير المسلمين علي بن يوسف أن يعبر

البحر إلى الأندلس في أوائل سنة 515 هـ، حينما سمع بأمر الفتنة التي حدثت بقرطبة، وكيف أنه لم يمكث عندئذ طويلا بالأندلس، ولم يضطلع بأية أعمال أو غزوات جديدة، لما بلغه من تفاقم حركة ابن تومرت في بلاد السوس، وكان قبل ذلك بأشهر قلائل فقط قد سرحه، عقب المناظرة التي وقعت بينه وبين الفقهاء، واكتفى بإبعاده عن حاضرته مراكش، فسار ابن تومرت إلى بلاد السوس، وهنالك كشف عن حقيقة نياته ومشاريعه البعيدة المدى. ولما عاد أمير المسلمين إلى مراكش حاول أن يستدرك ما فاته، وأن يدبر أمر القبض على ابن تومرت، ولكن الأمر كان أخطر من ذلك وأعظم، ولم يكن أمامه سوى محاربة الرجل، الذي تحول في فترة قصيرة من فقيه متواضع يدعو إلى تغيير المنكر، إلى داعية سياسي خطر، يتشح بثوب الإمامة المهدية، ويجمع تحت لوائه قوى جرارة. فبعث لقتاله والي السوس أبا بكر بن محمد اللمتوني، وقيل إبراهيم بن تيعشت في جيش من الأجناد والحشم، فقصد إلى السوس الأقصى، وكان المهدي قد صعد عندئذ إلى جبل إيجليز من شعب جبال المصامدة، وتحصن فيه مع أنصاره، وكان لهذا الجبل طريق واحد ضيق وعر لا يستطيع أن يسلكه سوى فارس واحد، وتصعب مهاجمته على أية قوة محاربة، فلما قدم المرابطون نزلوا في شرقي الجبل بمكان وعر، فخرج المهدي من معقله، وعقد مجلساً لأصحابه ووعظهم، وقال لهم: أنظروا إلى أعدائكم، واعلموا أن كل ما جاءوا به من خيل وعدة، إنما هو هدية من الله تعالى لكم، على غربتكم وفقركم، فأعطاكم وأغناكم. ثم جهز لقتالهم جيشاً من أنصاره من أهل هرغة وهنتانة وتينملل، وزوده بالأعلام البيض، وندب لقيادته محمداً البشير الوانشريشي أحد أصحابه العشرة، فنزل الموحدون من الجبل، وما كاد اللقاء يقع بين الجيشين حتى هزم المرابطون وركنوا إلى الفرار، واستولى الموحدون على أسلابهم من الخيل والسلاح، وطاردوهم حتى مدينة مراكش، ووقع هذا النصر الأول لجيوش المهدي، في شهر شعبان سنة 516 هـ (أغسطس سنة 1123 م) (¬1). وكان لهذا النصر أثر بالغ في ذيوع أمر المهدي، وتضاعف صيته، وتضخم ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 37 أ)، والحلل الموشية ص 80، وروض القرطاس ص 114، وابن خلدون ج 6 ص 228.

شيعته، وكان له بالأخص أثره في تقوية الروح المعنوية لدى جموع الموحدين. وبادر علي بن يوسف فجهز جيشاً آخر، أضخم عدة وعدداً، وسيره تحت إمرة الأمير أبى إبراهيم إسحاق، وكان الموحدون قد كثر جمعهم، وقويت نفوسهم، وتزودوا بما غنموه من المرابطين من الخيل والسلاح. فلما التقى الجمعان للمرة الثانية سرى إلى الحشم والجند المرابطين رعب مفاجىء، وانهزموا أمام الموحدين دون قتال، وقتل منهم عدد وافر، واستولى الموحدون على محلتهم، وسائر عُددهم، وكان لهذه الهزيمة الثانية أسوأ وقع في نفس علي بن يوسف، فجهز على الأثر جيشاً عظيماً ثالثاً، وعهد بقيادته إلى الأمير سير بن مزدلي اللمتوني، فلم يكن في قتال الموحدين أسعد حظاً من سابقيه، فأصيب كذلك بهزيمة شديدة وقتلت من جنده جملة وافرة، وكانت نكبة جديدة للمرابطين. وبدا عندئذ، لعليّ بن يوسف على ضوء هذه الهزائم المتوالية لجيوشه، أن المسألة ليست فتنة محلية، وأن المهدي لم يكن ثائراً عادياً، بل إن الأمر أجل من من ذلك وأخطر، وأن محاربة الموحدين أضحت بالنسبة للدولة المرابطية، معركة حياة أو موت. وشعر المهدي من جهة أخرى أنه أضحى من حيث توطد أمره، ووفرة حشوده، وروح شيعته المعنوية، التي أذكاها الظفر، ندًّا قوياً للمرابطين، وأنه يسير قدماً في هزيمتهم وتحطيم دولتهم، وأنه لن يمضي سوى القليل، حتى ينزعهم سلطانهم، ويقيم دولته الموحدية الجديدة على أنقاض دولتهم، وكان من أثر هذه الثقة بالظفر النهائي، أن وجه المهدي إلى المرابطين، رسالة يدعوهم فيها إلى طاعته، وينذرهم فيها بسحقهم إذا لم يستجيبوا. وإليك نص هذه الرسالة التي يوردها لنا صاحب الحلل الموشية: " إلى القوم الذين استزلهم الشيطان، وغضب عليهم الرحمن، الفئة الباغية، والشرذمة الطاغية، لمتونة، أما بعد، قد أمرناكم بما نأمر به أنفسنا من تقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأن الدنيا مخلوقة للفناء، والجنة لمن اتقى، والعذاب لمن عصى، وقد وجبت لنا عليكم حقوق بوجوب السنة، فإن أديتموها كنتم في عافية، وإلا فنستعين بالله على قتالكم حتى نمحو آثاركم، ونكدر دياركم، ويرجع العامر خالياً، والجديد بالياً، وكتابنا هذا إليكم إعذار وإنذار، وقد أعذر من أنذر، والسلام عليكم، سلام السنة، لا سلام الرضى " (¬1). ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 81.

وقعت هذه المرحلة الأولى من الصراع بين الموحدين والمرابطين في سنة 516 هـ (1122 م) وربما كذلك في سنة 517 هـ. وقد ذكر لنا أبو بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق، وقد كان حسبما يقرر لنا من حشم المهدي وخاصته، في روايته في باب غزوات المهدي، أو المعصوم كما يسميه، أن هذه الغزوات الأولى بلغت تسع غزوات متوالية كانت كلها ضد المرابطين، إلا واحدة منها، وهي الغزوة السابعة، فقد كانت لقبيلة هسكورة، وكان من أبرز الوقائع في مقاتلة المرابطين واقعتان، الأولى نشبت بين المرابطين أو الحشم حسبما ينعتهم ابن القطان، وبين الموحدين في بلدة تادرارت، وكانت معركة عنيفة هزم فيها الموحدون، وفني معظمهم أو قتلوا جميعاً حسبما يروى ابن القطان. ونشبت الموقعة الثانية في آنسا، وكانت الدائرة في هذه المعركة على الموحدين، فقتلت منهم جملة كبيرة. أما غزوة هَسْكورة، فلأنها كانت من القبائل المتخلفة عن بيعة المهدي، والاعتراف بطاعته، وفي هذه الغزوة اشترك المهدي بنفسه في القتال، وأصيب بجراح، وأسرع أنصاره بحمله وإنقاذه (¬1). والواقع أن المهدي لم يقتصر في بداية أمره على مقارعة المرابطين أو لمتونة، ولكنه شغل في نفس الوقت بمحاربة القبائل المجاورة المتخلفة عن بيعته وطاعته، مثل هسكورة، ورَجراجة، وهزرجة، وغجرامة، وكثير من بطون المصامدة، وكان بعض هذه القبائل مثل هزرجة وهسكورة من حلفاء لمتونة، فكان المهدي يشتد في قتالهم ويرغمهم على الطاعة قبيلة بعد أخرى، حتى دانت له سائر القبائل الخارجة، من المصامدة ومن غيرهم (¬2)، وجاز المهدي بعد ذلك إلى جبال دَرَن، فاحتوى على سائر بلادها ومحلاتها من بلدة تامبوت إلى ماغوصة إلى جنفيسة، تم جاز إلى تادرارت حيث وقعت هزيمة الموحدين الأولى، فأغار عليها الموحدون وقتلوا أهلها قتلا ذريعاً. وأنفق المهدي في تلك الحروب والغزوات المحلية زهاء ثلاثة أعوام، من سنة 516 إلى سنة 518 هـ (1122 - 1124 م)، وبذلك استطاع أن يبسط سلطانه المطلق على منطقة السوس كلها. وفي سنة 518 هـ، غادر المهدي جبل إيجليز بعد أن أقام فيه ثلاثة أعوام، ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 74 - 78، وابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 46 أ). (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 228، وروض القرطاس ص 115، والزركشي ص 4.

خريطة: المغرب البلاد ومنازل القبائل عند بداية الدولة الموحدية.

وسار في صحبه إلى تينملّل، وهي محلة صغيرة من عمل هرغة تقع فوق ربوة عالية في سفح جبل دَرَن من شعب جبال الأطلس على قيد نحو مائة كيلومتر من جنوب غربي مراكش، فقسم أرضها وديارها على أصحابه، وابتنى بها حصناً في قمة الجبل يشرف عليها من عل، وابتنى كذلك داراً ومسجداً، وأدار حول وهداتها سوراً. وكان اختيار المهدي لهذه البلدة يرجع بالأخص إلى حصانة موقعها الفائق، وكان الوصول إليها من الغرب من طريق ضيق لا يتسع إلا لفارس واحد، ومن الشرق كذلك من طريق في بطن الجبل تحت راكبها حافات وفوقه حافات، والسير فيها خطر شاق. وهكذا استقر المهدي في تينملّل، وجعلها مقر رياسته، ومركز جهاده، وبذلك أضحى على مسافة قليلة من العاصمة المرابطية الكبرى (¬1). ويقدم إلينا اليسع بن أبى اليسع عن استيطان المهدي لتينملل رواية، خلاصتها أن أهلها بعثوا إليه بطاعة قبيلتهم هزميرة الجبل، وأن سكناه لديهم أصلح له، وأقرب إلى بث دعوته، فسار إليهم، ونزل بتينملل، فأكرمه أهلها أيما إكرام، وأكدوا له خضوعهم وطاعتهم، وبايعوه، فرأى المهدي من كثرتهم وحصانة بلدهم ما راق لديه، وكان يخرج إلى الشريعة في خارجها، ويجلس على حجر مربع أمام المحراب، ويعظ الناس، فلاحظ أن قبيلة هزميرة يحضرون دائماً متقلدين سلاحهم. فسألهم يوماً لم تمسكون سلاحكم، وإخوانكم الموحدون لا يمسكونه؟ فتركوا حمل السلاح مدة. وكان المهدي قد توجس من كثرتهم وقوتهم، ونظر في أمرهم. فجاءوا ذات يوم إلى سماع الوعظ دون سلاح. وكان الموحدون بالعكس قد تقلدوا سلاحهم، فانقضوا عليهم، وأوسعوهم قتلا، فقتلوا منهم في ذلك اليوم وفقاً لرواية اليسع نحو خمسة عشر ألف، وسبيت نساؤهم، ونهبت أموالهم، وقسمت أراضيهم بين الموحدين. ثم ابتنى المهدي سوراً حول تينملل، وأقام في قمة الجبل حصناً يكشف ما وراءه. وأخذ يبعث بقواته إلى الأماكن المجاورة من أراضي قبيلة تينملل أو هزميرة فيغيرون عليها، ويقتلون أهلها، ويسبون ويغنمون. ووقعت هذه الحوادث كلها، حسبما يخبرنا ابن القطان في سنة 518 هـ (¬2) (1124 م) ¬_______ (¬1) أتيح لي خلال إحدى زياراتي للمغرب أن أزور بلدة تينملل، وأن أتأمل موقعها الحصين في سفح جبال الأطلس، وهي اليوم بلدة صغيرة تحتوي على مساكن قليلة وأمامها مسجد المهدي وهو في حالة خربة، وعلى مقربة منه موضع تظلله الأشجار، قيل لنا إنه قبر المهدي. (¬2) ابن القطان عن اليسع، في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 46 ب و 47 أوب).

وأخذ المهدي بعد ذلك يتأهب للمرحلة التالية، وربما الحاسمة، في صراعه مع المرابطين. وكان قد اعتاد أن يسميهم " بالمجسمين ". وترجع هذه التسمية إلى حديث نقله إلينا أبو بكر الصنهاجي في كلامه عن الغزوة التاسعة، وذلك أن المهدي سأل أنصاره الموحدين في هذه الغزوة، وكان مشاركاً فيها، عما يقوله المرابطون عنهم، فقالوا إنهم لقبونا بالخوارج، فقال المهدي " سبقونا بالقبيح " لو كان خيراً أحجموا عنه، لقبوهم أنتم، فإن الله ذكر في كتابه: " فمن اعتدى عليكم، فاعتدوا عليه " قولوا لهم أنتم أيضاً " المجسمون ". ومن ذلك الحين يطلق الموحدون على خصومهم المرابطين لقب المجسمين، ويشير إليهم المهدي في سائر كتاباته بهذا اللقب (¬1). ورأى المهدي، استعداداً لهذا الصراع، أن يستوثق من ولاء أنصاره، فأمر أن ينادي في الجيش بدعوة الناس كافة، وندب أبا محمد البشير لتمييز الناس، فكان يخرج قوماً عن يمينه ويسميهم أهل الجنة، ويخرج آخرين عن يساره ويسميهم أهل النار، وهم الذين يشك في ولائهم، وفي اعتقادهم أن ابن تومرت هو المهدي المعلوم. ويقول لنا ابن القطان، إن البشير كان يطلق أهل اليسار، وهم يعلمون أن ليس لهم إلا القتل فلا يفر منهم أحد، وكان إذا اجتمع منهم كثير قتلهم قراباتهم، وقتل الأب ابنه، والابن أباه والأخ أخاه، ولم تقل لنا الرواية، ماذا كان مقياس الولاء أو المروق في هذا التمييز، ولكن المفروض أنه انتهى بسحق المنافقين والمثبطين من صفوف الموحدين (¬2). ولمحمد البشير هذا، وهو كما نذكر من أصحاب المهدي العشرة، قصة ذكرها لنا ابن القطان نقلا عن اليسع في أخبار سنة 519 هـ، وهي التي وقع فيها التمييز. وذلك أن البشير كان منذ البداية يتظاهر بالبله، ويلتزم الصمت والعزلة، وتأخذه سنات من النوم، ففي ذات يوم خرج المهدي إلى الناس، وقال لهم، أتعرفون البشير، فقالوا ومن هو؟ فقال لهم هو الونشريشي، وأنتم تعلمون أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، وتعرفون أنه لايثبت على آية، ولكن الله قد جعله مبشراً لكم، مطلعاً على أسراركم، وهو من آيات الله تعالى في هذا الأمر. وكان المهدي ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 77، وراجع كتاب ابن تومرت مهدي الموحدين أو كتاب أعز ما يطلب ص 258. (¬2) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 50 أ)، ونقل هذه الرواية ابن عذارى (في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر هسبيرس ص 82)، وابن خلدون ج 6 ص 228.

قد عنى سراً بتحفيظ القرآن للبشير، فاستعرضه أمامهم، وقرأه عليهم في أربعة أيام، وركب أمامهم حصاناً فأتقن ركوبه، ثم قال لهم المهدي، إن البشير هذا مطلع على الأنفس محدث، وأنه يوجد إلى جانب الموحدين، أقوام منافقون، وقف البشير على دخيلتهم، وأنه لابد من النظر في أمورهم حتى يتم العدل (¬1). وفي العامين التاليين، وقعت بين الموحدين والمرابطين بضعة معارك، يصعب استجلاء تفاصيلها. وكان علي بن يوسف قد بعث جيشاً ليحاول اقتحام تينملل معقل المهدي ففشل وهزم. وكانت خطة المهدي، أن يلتزم الدفاع في معاقله الجبلية الوعرة، وألا يهبط إلى السهل، ليحمل أعداءه المهاجمين أن يصعدوا إليه إذا شاءوا قتاله (¬2)، وكانت هذه الخطة تكبد المرابطين مشقات جمة، وكان الفشل مصيرهم دائماً كلما حاولوا القيام بدور الهجوم. وفي سنة 520 هـ بدأ المهدي في تنفيذ خطته من الاضطلاع بالهجوم، وغزو لمتونة على نطاق واسع، فبعث جيشاً ضخماً من الموحدين بقيادة أبى محمد البشير، فغزا بهم أراضي كيك شمالي تينملل وغربي أغمات، فبعث علي بن يوسف لردهم جيشاً كبيراً حسن الأهبة، بقيادة أخيه الأمير أبى الطاهر تميم، فالتقى الجمعان على مقربة من جبل كيك، فوقعت الهزيمة على المرابطين، وجد الموحدون في مطاردتهم حتى جبل وريكة قبلي أغمات، فلقيتهم هناك قوات مرابطية جديدة بقيادة أبى بكر بن علي بن يوسف، وقيل بقيادة يطي اللمتوني، وجموع غفيرة من أهل أغمات وغيرهم، فانهزم المرابطون مرة أخرى، ووصل الموحدون في زحفهم إلى أسوار مراكش، ثم ارتد قائدهم البشير بقواته عائداً إلى الجبل، وأمر علي بن يوسف أن تسد جميع الطرق الصاعدة التي ينزل منها الموحدون من الجبال إلى السهل، حتى يعرقل بذلك نزولهم، ويتقي حرب المفاجأة التي درجوا عليها (¬3). وكان خلال الأعوام الثلاثة التي قضاها المهدي بجبل إيجليز قد عهد بحراسة طرق الجبل إلى الفلاكي الأندلسي، وهو مغامر وقاطع طريق من أهل إشبيلية، كان قد ذاع صيته، وتاب ودخل خدمة الأمير، فقام بمهمته خير قيام، وأقام ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 49 أوب). (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 75. (¬3) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر) وابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 87)، وابن خلدون ج 6 ص 228.

سلسلة من الحصون سد بها ثغرات الجبل، ثم كان له بعد ذلك شأن سوف نعود إليه. وكانت الحركة التالية أعظم المعارك التي اضطرمت بين الموحدين والمرابطين، وفيها وضع المهدي خطته لافتتاح مراكش والقضاء على الدولة المرابطية في عقر دارها. وكان المهدي قد بلغ عندئذ ذروة سلطانه ونفوذه بين قبائل المصامدة. ونفذت طاعته إلى أعماق تلك الهضاب، وبلغت جموعه أعظم حد من الكثرة والتوثب والظمأ إلى القتال، وكانت الانتصارات المتوالية التي أحرزتها جموع المهدي على المرابطين، تذكي من عزمه وثقته في بلوغ النصر النهائي. وعندئذ وجه المهدي رسالة بخطه قرئت على الموحدين في سائر النواحي، ووجهت بالأخص إلى جزولة ولمطة وهنكيسة ودرعة وصنهاجة القبلة وهسكورة القبلة. وسائر القبائل المجاورة، وفيها يستدعيهم ويأمرهم بالقدوم عليه، وكان المهدي إلى جانب تسميته للمرابطين بالملثمين والمجسمين، والحشم، قد أسبغ عليهم عندئذ اسماً جديداً هو " الزراجنة " وذلك تشبيهاً لهم بطائر يقال له الزرجان، وهو طائر أسود البطن أبيض الريش، لأنهم أي المرابطين " بيض الثياب وسود القلوب " (¬1). وهرعت الجموع إلى المهدي من كل صوب، وهي في غاية الاستعداد والأهبة، واجتمع منها جيش عظيم قوامه نحو أربعين ألف مقاتل، منهم أربعمائة فارس فقط، والباقي من الرجالة، وقدم المهدي على هذا الجيش أبا محمد البشير أعظم قواده، وعبد المؤمن بن علي. وجعل عبد المؤمن إمام الصلاة، ولم يصحب المهدي جيشه الجرار في هذه الغزوة لمرضه، ونزل الموحدون من سفوح الجبال إلى السهول يقصدون إلى مدينة مراكش. وهنا تضطرب الرواية أولا في تحديد تاريخ هذا الزحف الموحدي على العاصمة المرابطية، وثانياً في ترتيب الوقائع. فأما من حيث التاريخ فإن اليسع يضع تاريخ هذا الزحف في سنة 521 هـ (1127 م)، ولكن ابن القطان يعارضه، ويقول إنه في سنة 524 هـ وهي السنة التي توفي فيها المهدي، وأن هذا هو قول سائر المؤرخين. ويقدم إلينا ابن القطان تفاصيل بعض المعارك الأولى التي وقعت قبيل نشوب المعركة العامة تحت أسوار مراكش، فيقول إن معركة وقعت بين الموحدين وبين المرابطين بقيادة أبي بكر بن يندوج بكيك هزم فيها المرابطون، واستولى الموحدون على سائر سلاحهم ومتاعهم. ثم تلتها معركة ثانية، وكان المرابطون في جيش ضخم ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره).

بقيادة بكو بن علي بن يوسف، ومعه يطي بن اسماعيل، وكان الموحدون بقيادة محمد البشير، ووقعت المعركة في الجروبة، فانهزم المرابطون، وسقطت محلاتهم ومتاعهم ودوابهم وسائر أسلابهم في أيدي الموحدين؛ ثم وقعت معركة ثالثة أمام أغمات، وكان المرابطون قد جمعوا أشتات قواتهم واستعدوا للقاء الموحدين من جديد، وانضمت إليهم حشود عظيمة من أهل أغمات. وكانت القوات الموحدية عندئذ بقيادة عبد المؤمن بن علي وأبى حفص عمر بن أصناج، وأبى عمران موسى بن تماري. فنشبت بين الفريقين معركة هائلة، هزم فيها المرابطون، وقتل منهم ومن أهل أغمات جموع غفيرة، واستولى الموحدون على سائر محلاتهم وعتادهم وسلاحهم (¬1). ثم زحف الموحدون على مراكش، ورابطوا تجاه باب الشريعة، وكان علي بن يوسف قد حشد في تلك الأثناء قواته، واستعد للقاء الموحدين أعظم استعداد، وبلغ الجيش المرابطي يومئذ زهاء مائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، وكان تحت إمرة الزبير بن علي بن يوسف. والتقى الجمعان في ظاهر مراكش، فكتب عبد المؤمن تنفيذاً لتوصية المهدي، إلى علي بن يوسف يدعوه إلى ما يدعوا إليه المهدي، من قمع البدع، وإحياء السنة، والمبادرة إلى بيعة المهدي، فرد عليه أمير المسلمين يحذره عاقبة مفارقة الجماعة، ويذكره الله في سفك الدماء وإثارة الفتنة (¬2)، فلم يلتفت عبد المؤمن لتحذيره، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة، هزم فيها المرابطون، وقتلت منهم جموع غفيرة، وهرعت فلولهم مرتدة إلى المدينة، فازدحموا على الأبواب في الدخول، ومات منها في الزحام خلق كثير، وفر علي بن يوسف إلى داخل المدينة من باب المخزن، وأغلقت المدينة أبوابها فاحتاط بها الموحدون وضربوا حولها الحصار. واستمر حصار الموحدين لمراكش زهاء أربعين يوماً. وكان ما يزال بداخل المدينة جموع ضخمة من القوات المرابطية ومنها زهاء أربعين ألف فارس، وأعداد لا تحصى من الرجالة، وكان المرابطون يخرجون من وقت لآخر لقتال الموحدين، وتنشب بين الفريقين تحت الأسوار معارك طاحنة، يفنى فيها الكثير من الجانبين، وكان من أعنف ما وقع من هذه المعارك، معركة هزم فيها المرابطون قبالة باب دُكّالة، وهلك منهم عدد جم خلال الزحام الهائل، الذي وقع عند دخولهم من هذا ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره). (¬2) المراكشي في المعجب ص 106 و 107.

خريطة: أسوار مراكش وأبوابها في عهْد المرابطين.

الباب، وفرت منهم جموع لم يستطيعوا الدخول، حتى وصلوا إلى وادي أم الربيع، فلما عادوا بعد ذلك إلى المدينة أمر علي بن يوسف بحلق لحاهم، ومثل بهم ليكونوا عبرة لغيرهم (¬1). وفي تلك الأثناء كان علي بن يوسف قد استنفر سائر أمراء لمتونة وولاتها وقادتها، لموافاته بحشودهم، فقدمت إليه الأمداد من سائر النواحي، ووافاه بالأخص جيش ضخم حسن الأهبة، قام بحشده والى سجلماسة وانودين بن سير. وخرج علي ابن يوسف في قواته من المدينة، وانضمت إليه الأمداد الزاخرة، وتولى قيادة الجيوش المرابطية الشيخ أبو محمد وانودين بن سير. وكان الموحدون منذ بدء الحصار، قد ضربوا محلتهم خارج المدينة تجاه باب الدباغين وباب إيلان أمام بستان كبير، والبستان في اللغة المحلية يسمى بالبحيرة، ومن ثم فقد سميت المعركة التي تلت بموقعة البحيرة (¬2). ففي ظاهر تلك البقعة وقعت بين المرابطين والموحدين أعظم معركة نشبت في ذلك الصراع المروع، وكان المرابطون يتفوقون على الموحدين بكثرتهم تفوقاً ظاهراً، وكان الموحدون من جهة أخرى، قد أرهقتهم المعارك المتوالية التي اضطروا إلى خوضها خلال الحصار. وبدأ القتال بمعركة محلية نشبت بين جيش سجلماسة وحرس الأمير النصراني، وبين قوة من الموحدين، فهزم الموحدون في هذه الجولة الأولى، وكان لهذا النصر أثره في إذكاء روح المرابطين المعنوية، والتدليل على أن الموحدين ليسوا من المنعة كما بدوا في المعارك الأولى. ثم نشبت بين الفريقين معركة عامة، قاتل فيها الموحدون بشجاعة فائقة، ولكن المرابطين فضلا عن كثرتهم، كانت تحدوهم عندئذ، روح مضطرمة من التوثب والظمأ إلى الانتقام، فقاتلوا بشدة رائعة، حتى رجحت كفتهم وأصيب الموحدون بهزيمة شنيعة، وقتلت منهم جموع غفيرة يقدرها ابن القطان بأربعين ألفاً، ويقول إنه لم يسلم من الموحدين إلا أربعمائة بين فارس وراجل (¬3)، بل قيل بأن الجيش الموحدي، قد فني عن آخره ولم تبق منه سوى فلول يسيرة (¬4)، وسقط ¬_______ (¬1) ابن عذارى عن ابن القطان في (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر هسبيرس ص 88). (¬2) ابن الأثير ج 10 ص 205. (¬3) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 50 أ). وراجع ابن عذارى (في الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 93). (¬4) الحلل الموشية ص 85، وهو أيضاً قول عبد الملك بن صاحب الصلاة مؤرخ الموحدين (أورده صاحب الحلل ص 86).

في الميدان أبو محمد البشير أعظم قادة الموحدين، وسقط معه معظم الرؤساء والقادة ومن هؤلاء غير البشير، أربعة من أصحاب المهدي العشرة، سليمان بن مخلوف الحضرمي، وأبو عمران موسى بن تمارى الكدميوي، وأبو يحيى بن يكيت، وأبو عبد الله محمد بن سليمان. ومما هو جدير بالذكر أن البشير لم يعثر له بأثر، ولم توجد جثته، فذاع بين المتعصبين من المصامدة أنه رفع إلى السماء (¬1). ولكن الحقيقة هي أن عبد المؤمن بادر بدفنه في مكان سقوطه. ولم ينقذ البقية اليسيرة الباقية من الموحدين سوى دخول الليل وهطل الأمطار، فارتد قائدهم عبد المؤمن، وهو جريح قد أصيب في فخذه، في فلوله تحت جنح الظلام، متجهاً صوب أغمات، فطارده المرابطون، حتى أرض هيلانة، وهناك وقعت بينهما معركة أخرى، قاتل فيها الموحدون بشجاعة اليأس، ولكنهم هزموا مرة أخرى، وقتل منهم عدد جم يقدره ابن القطان بنحو اثني عشر ألفاً، وكان الموحدون قد عادوا فجمعوا أشتات قواتهم، وأوعبوا في الحشد. وارتد المرابطون بعد ذلك إلى مراكش، وسارت فلول الموحدين إلى تينملل. ويضع ابن القطان تاريخ هذه الهزيمة الساحقة للموحدين في يوم السبت الثاني من جمادى الأولى سنة 524 هـ (11 أبريل سنة 1130 م. وكان المهدي ابن تومرت عندئذ مريضاً، فلما وقف على أخبار النكبة التي أصابت جيشه، سأل هل " عبد المؤمن في الحياة "، ولما أجيب بالإيجاب، قال " الحمد لله قد بقي أمركم ". ويقول لنا أبو بكر الصنهاجي إنه هو الذي تولى إبلاغ المهدي نبأ نجاة عبد المؤمن، وينقل لنا عبارات المهدي بألفاظها (¬2). وهكذا أحرز المرابطون نصرهم الساحق على الموحدين، بعد أن منوا قبل ذلك بسلسلة من الهزائم المتوالية، ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة أن هزائم المرابطين بلغت قبل موقعة البحيرة نحو أربعين هزيمة، وأن المهدي اشترك في أربع من هذه الغزوات الظافرة، كما يذكر لنا أن الموحدين في موقعة البحيرة " قتلوا أجمعين، ولم ينج منهم إلا نفر يسير ". وعذا القول من مؤرخ الموحدين، يدلنا على فداحة النكبة التي نزلت بجيوش المهدي، في تلك الموقعة الهائلة. ولكن سوف نرى أن إحراز المرابطين لهذا النصر لم ينجهم من قدرهم المحتوم، وأن ما وضعه المهدي ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 28. (¬2) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 79.

من الأمل والثقة في طالع تلميذه وزعيم أصحابه، عبد المؤمن بن علي، كان ينم عن تنبؤ صادق وفراسة دقيقة (¬1). وقد سبق أن أشرنا إلى ما هنالك من خلاف حول تاريخ موقعة البحيرة، فإن اليسع يضع تاريخها في سنة 521 هـ، ويضعه ابن القطان في سنة 524، ويضع ابن خلدون تاريخها في سنة 522، ويقول لنا ان وقوعها كان لأربعة أشهر قبل وفاة المهدي، وهو يتفق بعد ذلك مع نفسه فيقول لنا إن المهدي توفي في نفس العام أي في سنة 522 هـ (¬2). ولكنه لما كان من المتفق عليه أن هزيمة الموحدين وقعت قبيل وفاة المهدي بأشهر قلائل، فإن هذه الرواية لا يمكن الأخذ بها، إذ أن المعول عليه أيضاً، هو أن المهدي توفي في سنة 524 هـ. ولدينا إلى جانب رواية ابن القطان رواية موحدية قاطعة، تضع تاريخ المعركة في سنة 524 هـ، هي رواية أبى بكر الصنهاجي أحد أصحاب المهدي الذين شهدوا الموقعة (¬3). ويأخذ بهذه الرواية ابن الأثير (¬4) وصاحب روض القرطاس (¬5)، والزركشي (¬6). وأما عن وفاة المهدي، فإن المتفق عليه، أنه كان مريضاً وقت موقعة البحيرة، وأن مرضه اشتد بعد وقوع الهزيمة، ولم يعش طويلا أو لم يعش بعد ذلك سوى أيام قلائل. وليس أدل على ذلك من أن الموحدين يسمون العام الذي توفي فيه المهدي وهو عام 524 هـ بعام البحيرة (¬7). ويصف لنا أبو بكر الصنهاجي، وقد كان شاهد عيان، تصرفات المهدي الأخيرة، فيقول لنا إنه استدعى الموحدين، فحشروا كلهم، ثم وعظ الناس حتى أضحى النهار، ثم دخل الدار فغاب ساعة، ثم خرج حاسر الرأس، وقال للناس إنني مسافر عنكم سفراً بعيداً، فضج الناس بالبكاء وودعوه، ثم دخل داره، ولم يره أحد بعد ذلك. ¬_______ (¬1) تراجع تفاصيل موقعة البحيرة في نظم الجمان لابن القطان (المخطوط السابق ذكره لوحة 40 أوما بعدها)، وابن الأثيرج 10 ص 205، والحلل الموشية ص 84 - 86، وابن خلدون ج 6 ص 228 و 229، وأخبار المهدي ابن تومرت ص 78 و 79، والمعجب ص 107. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 229. (¬3) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 28. (¬4) ابن الأثير ج 10 ص 204. (¬5) روض القرطاس ص 116. (¬6) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 4. (¬7) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 42 أ) وابن خلكان ج 2 ص 52.

والمعول عليه أن المهدي توفي في شهر رمضان سنة 524 هـ (أغسطس سنة 1130 م)، ويقول لنا أبو بكر الصنهاجي إنه توفي يوم الأربعاء أو يوم الخميس الخامس والعشرين من رمضان سنة 524 هـ (¬1)، وتؤيد هذه الرواية رواية موحدية أخرى، هي رواية عبد الملك بن صاحب الصلاة مؤرخ الدولة الموحدية، مع خلاف يسير في يوم الوفاة، وهي أن المهدي توفي يوم الأربعاء الثالث عشر من رمضان سنة 524 هـ (¬2)، وقال ابن القطان، ويتابعه صاحب الحلل الموشية إنه توفي يوم الاثنين الرابع عشر من رمضان سنة 524 هـ (¬3). وكان عمر المهدي عند وفاته، على قول ابن القطان، نحواً من خمسين سنة (¬4)، وعلى قول ابن الأثير إحدى وخمسين سنة أو خمساً وخمسين سنة (¬5) مما يرد تاريخ مولده في الحالة الأولى إلى سنة 474 هـ، وفي الثانية إلى سنة 473 هـ، وفي الثالثة إلى سنة 469 هـ، وقد سبق أن أشرنا إلى هذا الخلاف في تاريخ مولد المهدي. وكان المهدي ابن تومرت من أعظم الدعاة الدينيين، وأغزرهم علماً، وأشدهم دهاء، وأقواهم نفساً، وأشدهم تأثيراً في النفوس. وكان إلى جانب ذكائه ودهائه، يتمتع بمنطق قوي، ومحاجة قاطعة، وذلاقة مؤثرة. وكان خطيباً مفوهاً، فصيحاً في العربية والبربرية معاً، يستميل الجموع برائع بيانه ووعظه. وكان متمكناً من علوم القرآن والسنة ومن الأصولين، أصول الفقه وأصول الدين، شديد التقشف والزهد والورع، لم يلبس قط سوى ثياب الصوف من قميص وسراويل وجبة، وقد يرتدي الثياب المرقعة، ولا يقبل على شىء من متاع الدنيا، حتى قيل إنه كان يقتات من غزل أخت له في كل يوم، رغيفاً بقليل من سمن أو زيت، ولم يتحول عن ذلك حينما سما شأنه وأقبلت عليه الدنيا (¬6). وكان ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 83، وابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 42 أ). (¬2) أورده روض القرطاس ص 117. (¬3) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 42 أ)، والحلل الموشية ص 86. (¬4) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 33 أ). ونقله ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة سالفة الذكر - هسبيرس ص 94). (¬5) ابن الأثير ج 10 ص 205. (¬6) ابن القطان عن ابن صاحب الصلاة (في نظم الجمان المخطوط السابق ذكره لوحة 45 أ)، وابن خلكان (عن المغرب) ج 2 ص 52.

ظهوره في ذلك المجتمع البربري الساذج، الذي اختاره مسرحاً لدعوته، والذي كان يخيم عليه الجهل المطبق، وتعصف به الخرافات والأساطير، يتسم بصفات الزعامة الخارقة أو النبوة، ومن ثم فقد ألفى ابن تومرت الطريق ممهداً ليعلن دعوته، وليتشح بثوب المهدي المنتظر، وينتحل صفة الإمام المعصوم، وقد كان ابن تومرت من بين دعاة المهدية، أوفرهم عزماً وبراعة، وأشدهم تأثيراً وسحراً. وكان يدعو الناس إلى عبادة الله تعالى، ويخبرهم بأنه تعالى قد فرض عليهم الصلوات الخمس في يومهم وليلتهم، وفرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم، ويأمرهم بقراءة القرآن وحفظه، ولزوم الأحزاب التي ألفها لهم بعد صلاة الصبح، وبعد المغرب، وأمر المؤذنين، إذا طلع الفجر، أن ينادوا " أصبح ولله الحمد " إشعاراً بلزوم الطاعة وحضور الجماعة، وللغدو لكل ما يؤمرون به، وفرض عقوبة المخالفين. ولكن ابن تومرت إلى جانب هذه الصفات الخلابة، كان يتسم بطائفة من الصفات المثيرة، فقد كان شديد التعصب، صارم النفس، سفاكاً للدماء، غير متورع فيها ولا متحوط، يهون عليه سفك دم عالم من الناس في سبيل رأيه وبلوغ مقصده، لا تأخذه شفقة ولا رحمة في دماء خصومه، ويستحل سبي نسائهم وأولادهم ونهب أموالهم (¬1)، ويسبغ على هذا السفك المروع، صفة الشرعية، لما يزعمه من مخالفة خصومه لأحكام الكتاب والسنة، أو لمبدأ التوحيد الذي اتخذه شعاره. وقد رأينا فيما تقدم من مراحل صراعه مع خصومه أمثلة عديدة من هذا الإسراف المغرق في سفك الدماء، وربما كان فيما ذكر عن المهدي من أنه " كان حصوراً لا يأتي النساء " (¬2) ما يفسر بعض عوامل هذه القسوة المروعة، وهذا الظمأ إلى سفك الدماء. ويلاحظ العلامة جولدسيهر بهذه المناسبة أن ابن تومرت كان يبث في أذهان أنصاره بتدرج غير محسوس، فكرة محاربة المرابطين، وأنه حينما كان في بداية أمره، يقتصر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتبع ما يقضي به الدين من العمل على حقن الدماء، ولكنه منذ اتشح بصفة المهدي، أخذ يشهر الحرب، ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 117. (¬2) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 14 ب و 33 أ)، ونقله ابن خلدون ج 6 ص 229.

ويدعو إلى سفك الدماء، ويقول إن المحاربين الذين يسقطون في هذه المعارك، إنما هم شهداء في سبيل الله (¬1). كذلك تنوه الرواية بما جبل عليه ابن تومرت من الخداع والكيد والمكر، وكيف أنه لجأ إلى هذه الصفات في استهواء الجماهير وخداعها، واستغلال جهلها، وسذاجتها، حتى ذاعت دعوته، وتمكن أمره (¬2). ومن الغريب الذي يلفت النظر في هذا الشأن موقف العلامة الفيلسوف ابن خلدون من ابن تومرت ودعوته، فهو يدافع عن المهدي، وعن صحة دعوته وصدق إمامته، في نبذة طويلة يقول فيها: " ويلحق بهذه المقالات الفاسدة، والمذاهب الفائلة، ما يتناوله ضعفة الرأي من فقهاء المغرب من القدح في الإمام المهدي صاحب دولة الموحدين، ونسبته إلى الشعوذة، والتلبيس فيما أتاه من القيام بالتوحيد الحق، والنعي على أهل البغي قبله، وتكذيبهم لجميع مدعياته في ذلك، حتى فيما يزعم الموحدون أتباعه من انتسابه في أهل البيت، وإنما حمل الفقهاء على تكذيبه، ما كمن في نفوسهم من حسده على شأنه، فإنهم لما رأوا من أنفسهم مناهضته في العلم والفتيا وفي الدين بزعمهم، ثم امتاز عنهم بأنه متبوع الرأي، مسموع القول، موطأ العقب، نفسوا عليه ذلك، وغضوا منه بالقدح في مذاهبه، والتكذيب لمدعياته، وأيضاً فكانوا يؤنسون من ملوك لمتونة، أعدائه تجلة وكرامة لم تكن لهم من غيرهم، لما كانوا عليه من السذاجة، وانتحال الديانة، فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة، والانتصاب للشورى كل في بلده، وعلى قدره في قومه، فأصبحوا بذلك شيعة لهم، وحرباً لعدوهم، ونقموا على المهدي، ما جاء به من خلافهم، والتثريب عليم، والمناصبة لهم، تشيعاً للمتونة، وتعصباً لدولتهم ". ثم يقول دفاعاً عن المهدي: " وما ظنك برجل نقم على أهل الدولة ما نقم من أحوالهم، وخالف اجتهاده فقهاءهم، فنادى في قومه ودعا إلى جهادهم بنفسه، فاقتلع الدولة من أصولها، وجعل عاليها سافلها، أعظم ما كانت قوة، وأشد شوكة، وأعز أنصاراً وحامية، وتساقطت في ذلك من أتباعه نفوس لا يحصيها إلا خالقها، قد بايعوه على الموت، ووقوه بأنفسهم من الهلكة، فتقربوا إلى الله تعالى بإتلاف مهجهم في إظهار تلك الدعوة، ¬_______ (¬1) جولدسيهر في مقدمته الفرنسية السالفة الذكر لكتاب " أعز ما يطلب " ص 100. (¬2) روض القرطاس ص 114 و 117.

والتعصب لتلك الكلمة حتى علت على الكلم، ودالت بالعدوتين من الدول، وهو بحالة من التقشف والحصر، والصبر على المكاره، والتقلل من الدنيا، حتى قبضه الله، وليس على شىء من الحظ والمتاع في دنياه .. فليت شعري، ما الذي قصد بذلك إن لم يكن وجه الله، وهو لم يحصل له حظ من الدنيا في عاجله. ومع هذا فلو كان قصده غير صالح لما تم أمره، وانفسحت دعوته، سنة الله التي قد خلت في عباده " (¬1). وابن خلدون يقدم إلينا هذا الدفاع عن المهدي في معرض كلامه عن أخطاء المؤرخين وأوهامهم ودعاويهم المغرضة. وهو يقدم إلينا منها نماذج، يصاحبه التوفيق في بعضها ويخطئه في البعض الآخر. ونحن نرى أن التوفيق قد أخطأه في هذا الدفاع عن المهدي ابن تومرت، وعن صدق دعوته. وقد استعرضنا فيما تقدم من حديثنا عن حياة المهدي، ما يحملنا على الشك أولا، في صدق انتسابه إلى آل البيت، وثانياً في انتحاله دعوة المهدية، وهي دعوة نشك أيضاً في صدقها من الناحية الدينية والتاريخية. ونحن نعتقد أن مفكراً عظيماً، ومؤرخاً فيلسوفاً، وضعي العقلية، كابن خلدون، لا يمكن أن يؤمن بصدق هذه الدعوة، وإنما حمل ابن خلدون على الدفاع عن المهدي ودعوته، بواعث خاصة، أولها أن بني خلدون - أسرة المؤرخ - كانت مذ غادرت الأندلس في أوائل القرن السابع الهجري - قد نزلت بتونس، وعاشت في رعاية بني حفص ملوك الدولة الحفصية الموحدية التي أسسها الأمير أبو يحيى زكريا بن عبد الواحد بن أبى حفص عمر الموحدي، وتولى أجداد المؤرخ في ظلهم مناصب النفوذ والثقة، وبدأ هو حياته العامة في ظلهم، وعاش في كنفهم ردحاً من الزمن، وأهدى أول نسخة من مقدمته وتاريخه للسلطان أبى العباس الحفصي (سنة 784 هـ)، فلم يكن من المعقول أن يجاهر المؤرخ في مقدمته، بالطعن في إمامة المهدي ودعوته، وهي التي كانت أساساً لقيام الدولة الموحدية. وثانياً أنه ليس من المنطق السليم، أن يكون نجاح دعوة المهدي ابن تومرت، وما ترتب عليه من قيام الدولة الموحدية، دليلا على صدق هذه الدعوة، لأن النجاح السياسي والعسكري لداعية أو متغلب لم يكن قط في ذاته دليلا على صدق إمامة أو دعوة دينية، وثالثاً أن إنكار صدق دعوة المهدي ابن تومرت لم يكن قاصراً على الفقهاء المرابطين، الذين يعلل ابن خلدون طعنهم في هذه الدعوة بما كان يجيش في صدورهم من حقد على رجل يتفوق عليهم ¬_______ (¬1) ابن خلدون - المقدمة (بولاق) ص 22.

بعلمه، ويغض بهذا التفوق من مكانتهم ونفوذهم القديم لدى الدولة اللمتونية، بل شمل هذا الإنكار كثيراً من المؤرخين. ولا يكتفي ابن خلدون بالدفاع عن صحة دعوة المهدي، بل يقرن ذلك بالدفاع عن نسبه في آل البيت، وهو هنا في تدليله أضعف منطقاً، حينما يقول أنه لا دليل يعضد إنكار هذه النسبة، والناس مصدقون في أنسابهم. وهو إذ يشعر هنا بضعف منطقه، يقول لنا إن ظهور المهدي لم يكن يتوقف على نسبته، وإنما قام أمره بعصبيته القبلية في هرغة ومصمودة، وأن هذا النسب الفاطمي، كان أمراً خفياً عنده وعند عشيرته يتناقلونه بينهم (¬1). ويذكرنا موقف ابن خلدون في الدفاع عن دعوة المهدي ابن تومرت ونسبه، بموقفه عن نسب بني عبيد الخلفاء الفاطميين، فهو يتصدى لتأييده وإثباته، ويعتبر الطعن فيه من " الأخبار الواهية " التي عنى بتفنيدها في مقدمته، وأن هذا الطعن يرجع بالأخص إلى الأحاديث التي لفقت لبني العباس خصوم الفاطميين تزلفاً إليهم، ويعتمد هنا على نفس النظرية التي لجأ إليها في الدفاع عن دعوة المهدي، وهو أن ظهور الفاطميين، وقيام الدولة الفاطمية المترامية الأطراف، واتصال أمرها نحواً من مائتين وسبعين عاماً، كل ذلك لا يمكن أن يتم لدعيّ (¬2). وهي طريقة معكوسة في التدليل، ونظرية واضحة الضعف والسقم، إذ كان على بن خلدون أن يقدم لنا الأدلة المباشرة، على صحة نسب الفاطميين لآل البيت، كما قدم خصومهم الأدلة على بطلان هذه النسبة. وقد تناول كاتب مشرقي من كتاب النصف الأول من القرن الثامن الهجري هو الحسن بن عبد الله العباسي في كتابه " آثار الأول وترتيب الدول " مَثَل ابن تومرت وقصة ظهوره، في معرض الكلام عن الزهاد، والمغالطين باسم الزهد، والدعاة الذين يعمدون إلى الطعن في أحوال الملك، وإثارة الجماهير، وخطر تركهم، وأنه " ينبغي للملك أن ينظر في حالة هذه الطائفة، ويميز محقهم من مبطلهم، ويفرق بين الزاهد والمتزهد، وفيهم أصناف من أهل الغلط في طريق الزهد والمغالطة لأغراض أخر، منهم صنف يغلب عليهم محبة الرياسة والإمرة، ويتفق إعراض الملك عنهم وانقباضه لمخالفة طبعه لطباعهم "، وأن ذلك مما يحملهم على الطعن ¬_______ (¬1) ابن خلدون في المقدمة ص 23. (¬2) ابن خلدون في المقدمة ص 17 و 18.

على أحوال المَلِك، وإهماله لضوابط الشريعة، ثم يجمعون حولهم الجموع، ويقصون عليهم من الأمور، " ما يحركون به عزائمهم لتغيير المنكر، ونصرة الحق، فإن أهمل الملك أمرهم عظم وتفاقم، وكان منهم خطر عظيم ". ويعتبر هذا الكاتب مَثَل ابن تومرت، هو أقرب ما جرى في هذا المعنى، معنى الداعية المتزهد المخادع الذي يبطن انتزاع الرياسة، وأنه تذرع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعه طائفة يسيرة، حتى اشتهر أمره، ولم يعن الملك بشأنه، ولم يدر بخلده أنه قد يغدو خطراً على ملكه، حتى كثرت جموعه واشتدت شوكته، وانتهى بالاستيلاء على البلاد وقيادة الجيوش (¬1). وقد نجح المهدي في إقامة نوع من الحكومة الثيوقراطية (الدينية)، وكان الجماعة أو أصحابه العشرة الأوائل هم أعضاء وزارته، يبحث معهم جلائل الأمور، وعندئذ يخلو بهم ولا يحضر معه أحد سواهم. فإذا جرى البحث في أمور أقل أهمية، حضر الخمسون من الصحب في هيئة جمعية استشارية، وإذا جرى البحث في الشئون العادية حضر معهم السبعون. ومن جهة أخرى فقد ذكر لنا اليسع أسماء سبعة رجال، قال إنهم كانوا للمهدي رجال مشورته، وهم أبو سليمان من هرغة، وأبو الحسن، وأبو وزغيغ بن ياموهل بن ياوجان، وأبو دايور يغور ميوركن، من أهل تينملل؛ وقطران بن ماغليفة، وأبو محمد سكانة، وأبو عمران موسى بن واحمدين من أهل هنتانة (¬2). واتخذ المهدي شعاراً لجيوشه علماً أبيض كتب على أحد وجهيه، " الواحد الله. محمد رسول الله. المهدي خليفة الله "، وكتب على الوجه الثاني " وما من إله إلا الله. وما توفيقي إلا بالله. وأفوض أمري إلى الله " (¬3). وأما عن شخصه، فقد كان المهدي، حسبما تصفه الرواية، رجلا ربعة حسن التكوين، مفلج الثنايا، عظيم الهامة، أسمر مشوب بحمرة، غائر العينين، حديد البصر، أقنى، خفيف العارضين، له شامة سوداء في كفه الأيمن (¬4). ¬_______ (¬1) كتاب " آثار الأول وترتيب الدول " المنشور على هامش تاريخ الخلفاء للسيوطي (القاهرة سنة 1305 هـ) ص 61 و 62. (¬2) هذا ما نقله إلينا ابن القطان عن اليسع في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 10 ب و 33 ب). (¬3) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط في لوحة 43 ب). (¬4) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 14 ب)، وكذلك ابن خلكان ج 2 ص 52، وروض القرطاس ص 117.

صورة: تينملل: محراب جامع المهدي ابن تومرت. صورة: تينملل: إحدى واجهات جامع المهدي وأمامها لفيف من قبيلة جندافة.

ولما توفي المهدي، كتم أصحابه الأقربون موته حيناً تختلف الرواية في مداه. ويذهب ابن القطان، ويتابعه صاحب روض القرطاس، إلى أن هذا الكتمان استمر زهاء ثلاثة أعوام حتى سنة 527 هـ (¬1)، وهي رواية تحمل طابع المبالغة. وعلى أي حال، فقد كتمت وفاة المهدي حتى اتفق أصحابه على اختيار من يخلفه منهم، وقد كان هذا الخليفة الأول لدولة الموحدين هو عبد المؤمن بن علي، تلميذ المهدي وأحب أصحابه إليه، وكان أول ما عمله أن قام بمواراة المهدي في مثواه الأخير. ويقول لنا ابن القطان، وهو من أوثق مؤرخي الموحدين، إن المهدي دفن بتينملل دون تخصيص للمكان، ويقول لنا ابن خلدون إن عبد المؤمن قام بدفن المهدي في مسجده الملاصق لداره (¬2)، الكائن بتينملل. وقد أتيح لنا أن نزور تينملل، وأن نشهد مسجد المهدي. وتينملل اليوم محلة صغيرة (مدشر) تقع على سفح التل المنحدر إلى الوادي، وتظللها من الوراء البعيد آكام الأطلس العالية، ومن بينها قمة " طبوتقال " الشهيرة التي يزيد ارتفاعها على أربعة آلاف متر، وبها مساكن قليلة، ولا يعدو سكانها مائة من الأنفس، ولكنها مازالت تشتهر بكونها بلد المهدي ابن تومرت، وأما المسجد فهو قائم في سفح الجبل، وهو اليوم طلل دارس لا تقام فيه الشعائر، ولكن جدرانه وعقوده مازالت قائمة، وله محراب جميل. ولم نجد به ضريح المهدي حسبما تشير إلى ذلك الرواية التاريخية. بيد أنه توجد على قيد نحو ستين متراً من المسجد، بقعة صغيرة تظللها الأشجار، وتقع فوق ربوة منحدرة، فهذه البقعة تعينها الرواية المتواترة، وهي رواية قبيلة جندافة، التي تقطن هذه الناحية منذ أجيال، بأنها تضم رفات المهدي وبها قبره، وإن لم يك ثمة ما يدل على وجود قبر بها، ولا تميزها سوى بضعة أحجار زرقاء ظاهرة الرؤوس، يقال إنها شواهد القبر. وربما كانت هذه الرواية المتواترة في تعيين قبر المهدي، تتفق مع ما يقوله لنا ابن خلكان، من أن المهدي " قد دفن بالجبل، وان قبره هناك مشهور يزار " (¬3). وعلى أي حال فإن المتفق عليه هو أن المهدي يثوى ثواءه الأخير بتينملل مبعث دعوته، ومهد دولته، وذلك سواء داخل مسجده أو في بقعة قريبة منه. ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره)، وروض القرطاس ص 119، وابن خلدون ج 6 ص 229. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 229. (¬3) ابن خلكان ج 2 ص 52.

الفصل الثالث عقيدة المهدى ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية

الفصل الثالث عقيدة المهدي ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية تراث المهدي الفكري والديني. كتاب أعز ما يطلب ومحتوياته. فاتحته. طريق العلم. تحصيل الفقه. التواتر. رأي ابن تومرت في أصول الشريعة. حملته على الاجتهاد. تمسكه بالتفسير الظاهري. نظرية الإمام المعصوم هي السبب. معارضة الغزالي لهذه النظرية. ابن تومرت لم يتأثر بتعاليم الغزالي. تعليق العلامة جولدسيهر على ذلك. فكرة التوحيد عند ابن تومرت. نظريته في الإمامة. كيف يعرض لنا وجوب الإيمان بها. نظرية المهدي المنتظر. اعتمادها على الأحاديث الموضوعة. كيف يعرضها لنا ابن تومرت. وجوب طاعة المهدي باعتبارها طاعة الله ورسوله. قواعد علوم الدين والدنيا. تكفير من يشك في أمر المهدي. حملة ابن تومرت على المرابطين. العلامات التي ينسبها لهم. ما أحدثوه من المناكر. تحريم طاعتهم ووجوب جهادهم. نعته لهم بالمجسمين. حملته على اللثام. مظاهر الفساد أيام المرابطين. الطائفة التي تقوم آخر الزمان وتقاتل على الحق. استعارة فكرة التوحيد من المعتزلة. مناقضة فكرة التجسيم للتوحيد. حديث الصلاة والطهارة والغلول. تحريم الخمر. كتاب الجهاد تصنيف الخليفة أبي يعقوب يوسف. كتاب موطأ المهدي ومحتوياته. انتشار كتب المهدي بين البربر لكتابتها بالبربرية. نقف الآن قليلا في تتبع ذلك الصراع المرير، الذي اضطرم بين المرابطين والموحدين، لنستعرض طرفاً من عقائد المهدي وآرائه ومبادئه الدينية والسياسية. لقد انتهى إلينا لحسن الطالع من تراث المهدي، الفكري والديني، ما يلقي الضياء على تلك المبادىء والآراء، التي اتخذها سنداً لدعوته الدينية، والتي جعل منها عقيدة جديدة، يمكن أن توصف بالعقيدة الموحدية. ويجتمع تراث المهدي الفكري والديني في كتابين، أولهما يضم مبادئه، ونظرياته في الأصول، وفي الإمامة، وفي التوحيد والعلم، وهو أهم الكتابين، وقد عرف بكتاب (أعز ما يطلب) لاستهلاله بتلك العبارة، والثاني كتاب " الموطأ " أو " موطأ الإمام المهدي "، وقد وضعه المهدي في العبادات والمعاملات والحدود، أو بعبارة أخرى في علم الفروع، على مثل موطأ الإمام مالك. وقد وُصف الكتاب الأول في أصل نسخته المخطوطة بأنه " سفر فيه جميع

تعاليق الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، رضي الله عنه، مما أملاه سيدنا الإمام الخليفة أمير المؤمنين أبو محمد عبد المؤمن بن علي أدام الله تأييدهم، وأعز نصرهم ومكن سعودهم ". ومعنى ذلك أن الكتاب لم يصل إلينا من المهدي مباشرة، وأن الذي نقل إلينا تعاليم المهدي وآراءه ودونها، هو تلميذه عبد المؤمن بن علي أول خلفاء الموحدين. ويضم هذا الكتاب فصولا وأبواباً عديدة، ويشتمل على الكلام عن الجهل والشك والظن، والأصل والفرع والتواتر، وعن الصلاة، وكون الشريعة لا تثبت بالعقل، وعن العموم والخصوص، وعن العلم، وعن العقيدة ووجود الباري سبحانه، وعن التنزيهات والتسبيحات، ثم الكلام عن الإمامة وعلامات المهدي، وعن طوائف المبطلين من الملثمين والمجسمين وعلاماتهم، وعن الطائفة التي تقاتل عن الحق وتقوم بأمر الله، وعن علاماتها وخواصها، وعن التوحيد وثبوته، وما يتعلق بذلك من الإيمان بالله ورسوله، وعن تحريم الخمر وما ورد في ذلك، ويختتم الكتاب بفصل عن الجهاد، وهو منسوب للخليفة أبى يعقوب يوسف ولد الخليفة عبد المؤمن. - 1 - يفتتح المهدي كتابه بهذه الفقرة الرنانة التي أضحى مستهلها عنواناً لكتابه وهي: " أعز ما يطلب، وأفضل ما يكتسب، وأنفس ما يدخر، وأحسن ما يعمل، العلم الذي جعله الله سبب الهداية إلى كل خير، هو أعز المطالب، وأفضل المكاسب، وأنفس الذخائر، وأحسن الأعمال ". وأول ما يلفت النظر في أسلوب الكتاب جزالته، فالمهدي رغم أصوله ونشأته البربرية، يقدم الينا آراءه في أسلوب قوي، وبيان عربي متين، ولكنه إلى جانب ذلك مولع بالتصنيف والتقسيم، يكثر من ذلك في كل باب وفصل، وهذه النبذة التي يبدأ بها المهدي كتابه، والتي يحدثنا فيها عن فضل العلم وطرقه، تعتبر نموذجاً لما يتبعه في سائر الفصول من التصنيف والتقسيم المستمر لعناصر موضوعاته وآرائه: " والذي يستعين به طالب العلم على فتح ما انغلق، وكشف ما التبس، إخلاص النية، واغتنام الفوائد، والحرص على الزيادة، والرغبة إلى الله في

الهداية والتوفيق. والعلم نور في القلب تتميز به الحقائق والخصائص، والجهل ظلام في القلب تلتبس به الحقائق والخصائص. وطرق العلم منحصرة في ثلاثة: الحس، والعقل، والسمع. فالحس على ثلاثة أقسام: متصل ومنفصل، وما يجده الإنسان في نفسه. والعقل على ثلاثة أقسام: واجب وجائز ومستحيل. والسمع على ثلاثة أقسام: الكتاب والسنة والإجماع. والكلام الآن في الطريق الذي هو السمع فيما علق عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، رضى [الله عنه] في ذلك، أول هذا الأمر برباط هرغة ببلد السوس سنة خمس عشرة وخمسمائة، أن تحصيل الفقه في السُّنة بخمسة أوجه: "أحدها كيفية الأخذ والنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم. والثاني معرفة السند. والثالث معرفة ما يتعلق بالمتن. والرابع معرفة الصحيح والسقيم. والخامس معرفة الإستنباط والتأويل". ثم يتحدث عن الأخذ عن الرسول، وعن النقل، وتسمية التواتر والآحاد، ويقسم ذلك إلى أقسام وفروع عديدة (¬1). ويحدثنا خلال ذلك عن مناظرته للفقهاء المرابطين بأغمات، وما تلاه عليهم من إيضاح ما عجزوا عن الإجابة عنه، من تبيان أصول الحق والباطل، وفي رأيه أن هذه الأصول تنحصر في أربعة: هي العلم والجهل والشك والظن، وهو يفيض في شرح نظريته، وبيان الأدلة عليها، ثم يتحدث عن كل أصل من الأصول الأربعة، ويقول لنا إن الجهل والشك والظن هي من أصول الضلال، ويدلل على أقواله بالآيات القرآنية. ثم يفيض بعد ذلك في التحدث عن التواتر والأخبار المتواترة وأصولها وفروعها، ويقسمها إلى أقسام عديدة متفرعة، ويشرح دور الأصل والفرع في الإثبات في حديث طويل متعدد الأقسام والفروع. وهو يعتبر " التواتر " علماً ويفيض في بيان أقسامه وخصائصه، والدور الذي يؤديه كمصدر من مصادر العلم، وطريقة التمييز بين ما يثبت بالتواتر، وما يثبت بالآحاد. وهو يرى أن أفضل التواتر ما كان صادراً عن أهل المدينة، لأن " الإسلام والشرائع والرسول والصحابة، إنما كانوا في المدينة " ولهذا " صار عمل أهل المدينة حجة على غيرهم " (¬2)، ويحاول أن يدعم شروحه بما أثر عن الرسول والصحابة، من أقول وأعمال. ويحدثنا المهدي بعد ذلك عن " الصلاة " وعن معناها، وبيان فضلها، وحكمتها وتفاصيلها، وبيان أحكامها، وذلك في حديث طويل جداً، يتخلله ¬_______ (¬1) كتاب " أعز ما يطلب " للمهدي محمد بن تومرت (الجزائر سنة 1903) ص 2، 3. (¬2) كتاب محمد بن تومرت أو أعز ما يطلب ص 49.

كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية يحاول بها أن يدعم أقواله وآراءه (¬1). على أن هذه الشروح الجدلية، مهما دلت عليه من مقدرة في العرض، والسفسطائية، ليست هي أهم ما يعرض لنا ابن تومرت من نظرياته الدينية، وإنما تبدو أهمية تعاليمه ونظرياته في عدة مسائل خاصة، هي التي تعتبر قوام مذهبه الديني. وأول هذه المسائل هو رأى ابن تومرت في أصول الشريعة، وهو يرى قبل كل شىء " أن الشريعة لا تثبت بالعقل من وجوه، منها أن العقل ليس فيه إلا الإمكان والتجويز وهما شك، والشك ضد اليقين، ومحال أخذ الشىء من ضده "، و " منها ان الله سبحانه وتعالى مالك الأشياء يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه ما يشاء، فليس للعقول تحكم ولا مدخل فيما حكم به المولى ". وهو يقصد بإشارته هذه الرد على بعض من لا خلاق لهم " فيما ذهبوا إليه من أن الشريعة لا حكمة فيها، وأنها ليست على سنن العقل جارية، طعناً منهم في الدين، وجهلا بحكمة الله تعالى ". وهو يحمل في نفس الوقت على من " ذهبوا إلى الاستنباط من عقولهم، وتحسين الأشياء على مادتهم، وجعلوا أقيسة في الشرع عدولا منهم عن الحق، وذلك كله فاسد " (¬2)، وعنده أن أصول الشريعة تنحصر في عشرة وهي: أمر الله ونهيه، وخبره بمعنى الأمر، وخبره بمعنى النهي، وأمر الرسول ونهيه، وخبره بمعنى الأمر، وخبره بمعنى النهي، وفعله، وإقراره ". وتنحصر الفروع في خمسة: " وهي الواجب والمندوب والمحظور والمكروه والمباح ". وهو لا يخص الإجماع والقياس بالذكر، باعتبارهما من أصول الشريعة، ولكنه يقول إنهما داخلان فيما تقدم، ماثلين فيه، ثم يفيض في شرح ذلك على طريقته من تصنيف القياس إلى أقسام وفروع لا نهاية لها. ومما هو جدير بالذكر أنه يعتبر " قياس الوجود "، إنما هو" قياس المجسمة " وهم في نظره المرابطون، ويعتبره من ضروب القياس الفاسد (¬3)، ثم يعود إلى القياس في موضع آخر، فيقول إنه " لا فرق بين القياس العقلي والشرعي في الإضطراد إذا حقق كل معناه، فإن القياس العقلي هو المساواة فيما يجب ويجوز ويستحيل. والقياس الشرعي هو المساواة في الوجوب أو التحليل ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت أو أعز ما يطلب ص 63 - 163. (¬2) كتاب محمد بن تومرت أو عز ما يطلب ص 163. (¬3) كتاب محمد بن تومرت ص 165.

أو التحريم، فهذه الثلاث هي المعتبرة في القياس الشرعي، وهي مضطردة في جميع الشرع، فمتى خرج عن هذه الثلاث أو واحدة منها لم يصح قياس ولا يقاس بعضها على بعض لأنها متناقضة. ولا يصح القياس في المتناقضات، خلافاً لما ذهب إليه من لا معرفة عنده بالقياس، فقاسوا المتناقضات كالمحرمات على المباحات، ومزقوا الشرع كل ممزق (¬1). أما عن الاجتهاد كأصل من أصول الشريعة، فإن ابن تومرت يحمل عليه، ويقول مشيراً إلى إثبات النفي، إنه قلب للحقائق، وقلب الحقائق محال، ثم يقول " إن هذه القاعدة كثيرة الإلتباس، وعنها زل كثير من الناس، وبالجهل بها، وعدم التحقيق لها، قالوا كل مجتهد مصيب، فجعلوا هذه المقالة سلماً إلى هدم الشريعة، وإسناد الأحكام إلى غير مستندها، وعكس الحقائق عن موضوعها، وصيروا الحلال حراماً، والحرام حلالا، وجعلوا الشرع متناقضاً، واتبعوا قولة كل قائل، وإن تناقضت، واعتقدوا الحق في المجتهدات وإن تعارضت " (¬2). ومعنى ذلك بقول آخر أن ابن تومرت كان يأخذ في تفسير الشريعة بالمذهب الظاهري، فيما يقول به من وجوب الاعتماد في استقاء الأحكام على القرآن والسنة دون غيرهما، وقد كان الإمام الفيلسوف ابن حزم القرطبي، يرى فوق ذلك أن يطبق المذهب الظاهري على العقائد، ويرى أنه يجب أن يؤخذ بمعنى الكلمة المكتوبة والحديث الثابت، ويعتبرهما حاسمين. ومن الغريب أن الظاهرية لم تنتظم في ظل الموحدين إلى مدرسة مذهبية إلا بعد المهدي بنحو ستين عاماً في عصر الخليفة يعقوب المنصور، ففي هذا الوقت فقط، اعترف بأن الظاهرية هي المدرسة الفقهية الرسمية. بيد أنها لم تكن مدرسة ناجحة، وقد أخفقت في حل كثير من المسائل (¬3). وإنكار ابن تومرت لقيمة الاجتهاد كمصدر من مصادر الشريعة، ومعارضته لجهود المجتهدين. في تجديد الشريعة، والاستنباط في مجال الاجتهاد، من الأمور المنطقية، لأن ابن تومرت يتشح بثوب " الإمام المعصوم " الذي لا تبحث آراؤه، ولا ترد أحكامه. ويلاحظ العلامة جولدسيهر أن ابن تومرت يخالف بهذه النظرية سائر الآراء السنية التي تسلم بقيمة آراء المجتهدين في الإمامة وغيرها، ويفرض ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 173، 174. (¬2) كتاب محمد بن تومرت ص 25. (¬3) الأستاذ شتروتمان في دائرة المعارف الإسلامية (مقال الظاهرية، وابن حزم).

على أتباعه وجوب الاعتقاد في الإمام المعصوم، والإمام المعلوم، وذلك وفقاً لرأي الشيعة. فهم يعتبرون، حسبما يصوغ لنا رأيهم الشهرستاني " بأن الإمامة ليست قضية مصلحية، تناط باختيار العامة، وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أصولية، وهي ركن من أركان الدين، لا يجوز للرسول إغفاله وإهماله، ولا تفويضه إلى العامة وإرساله. ويجمعهم أي الشيعة القول بوجوب التعيين والتنصيص، وثبوت عصمة الأئمة وجوباً عن الكبائر والصغائر " (¬1). وكذلك يلاحظ جولدسيهر بهذه المناسبة أن ابن تومرت بموقفه من الاجتهاد، يعارض الإمام الغزالي، الذي يعلق أهمية كبيرة على مبادىء الاجتهاد. ومن جهة أخرى، فإن الغزالي يعارض نظرية الإمام المعصوم في غير كتاب من كتبه. وقد أشار إلى ذلك في إحدى رسائله، وهي " المنقذ من الضلال ". وفيها يحيل إلى ما سبق أن كتبه في ذلك من مختلف الفصول، ثم يحمل على فكرة " المعصوم " ويسخر منها في عبارة موجزة (¬2). ثم إن الخلاف بين ابن تومرت والغزالي لا يقف عند هذا الحد. والواقع أنه ليس من الحقيقة في شىء، أن يقال إن ابن تومرت قد تأثر بتعاليم الغزالي سواء من تتلمذه المزعوم عليه بالمشرق، أو بدراسة كتبه ونظرياته. وإليك ما يقوله لنا العلامة جولدسيهر في ذلك: " إن المستخلص من قراءة كتب الغزالي أن ابن تومرت لم يسترشد سواء في تعاليمه أو أعماله بتعاليم الغزالي، بل هناك ما هو أكثر، وهو أن التعصب الذي أبداه ابن تومرت نحو مسائل العقيدة، يدل على أنه لم يتأثر بنفوذ الغزالي الشخصي. ذلك أن طريقة " الأستاذ " الرفيقة الموفقة، وميوله المشبعة بالتوقير للإيمان التقليدي، هي أبعد مما نجده في تصرفات الثوري " المصمودي ". ولو أن الغزالي عاش مدة أطول ليتتبع حياة ابن تومرت، وطُلب إليه أن يصدر في شأنه فتوى، لأصدر فتواه بنقض عمل تلميذه المزعوم، وأنه لا يوجد أجدر بلوم الغزالي، من ذلك التقديم المغصوب " للتأويل " بين الطبقات الدنيا لشعب يتسم بالبداوة " (¬3). ¬_______ (¬1) كتاب الملل والنحل للشهرستاني المنشور على هامش الفصل والنحل لابن حزم " القاهرة " ج 1 ص 195. (¬2) المنقذ من الضلال (طبعة القاهرة سنة 1309 ص 19). وراجع مقدمة العلامة جولدسيهر الفرنسية لكتاب (محمد بن تومرت) Mohamed ibn Toumert et la Théologie de l'Islam dans le Maghreb au XI eme Siècle, p. 21,22 & 40 (¬3) جولدسيهر في مقدمته الفرنسية السالفة الذكر ص 83.

ثم يحدثنا ابن تومرت بعد ذلك عن " العموم والخصوص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، والناسخ والمنسوخ، والحقيقة والمجاز، والكناية والتعريض والتصريح، والأسماء اللغوية التي غلب عليها العرف وخصصها، والأسماء المنقولة من اللغة إلى عرف الشرع "، وهو يتناول هذه الأشياء على ضوء الدين، ويمثل لها بمختلف الآيات القرآنية. ثم يعود فيحدثنا من جديد عن العلم وفضله وتقاسيمه في فصل خاص، ينحو فيه منحاه المأثور في التصنيف والتقسيم. - 2 - بعد ذلك ينتقل بنا ابن تومرت إلى مسألة العقيدة، ويحدثنا عن التوحيد، وعن دلائل وجود الباري سبحانه، وتنزيهه عن التشبيه. وإذا كان التوحيد في الأصل ركناً من أركان الإسلام الأساسية، فإنه يعتبر هنا وبنوع خاص أساساً لمذهب ابن تومرت الديني والسياسي معاً، وهو يتحول على يد المهدي من صفته الدينية إلى فكرة سياسية، هي التي أضحت أساس الدولة الموحدية، ودعامة سلطانها الأولى. ويلاحظ العلامة جولدسيهر بهذه المناسبة، أن فكرة التوحيد لم يبق معناها فيما بعد، هو الاعتراف بوحدانية الله، ولكن غدا معناها الخضوع لحكومة الموحدين (¬1)، ويستشهد على ذلك بما ذكره ابن صاحب الصلاة في تاريخه من خضوع الزعيم الأندلسي إبراهيم بن همشك لحكومة الموحدين في سنة 564 هـ ووصفه ذلك الخضوع في قوله: " توحيد ابن همشك "، والتعبير عن رغبته في الاستسلام برغبته في " التوحيد والتوبة " (¬2) ويقدم إلينا ابن تومرت بعد ذلك صيغة التوحيد وصيغ التسبيح التي وضعها لأتباعه، وهي صيغ تردد مضمون عبارات التوحيد والتقديس التي عرفت منذ الأجيال (¬3). على أن أهم ما يتضمنه كتاب ابن تومرت، هو كلامه عن الإمامة وعن الإمام المعصوم، وعن المهدي وعلاماته، وعن قيام الطائفة التي تقوم في آخر الزمان لتقاتل في سبيل الحق. ويمكننا أن نعتبر هذا الفصل لب الكتاب، ولب مذهب ¬_______ (¬1) I. Goldziher: Materialien zur Kentniss der Almohaden Bewegung. (Z. der Mog. Gesellsch. 1887) , p. 70 (¬2) في كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين " (مخطوط أكسفورد السالف الذكر، لوحة 126 ب). (¬3) كتاب المهدي ابن تومرت ص 240 - 244، وقد نقلنا بعضها في باب الوثائق في نهاية الكتاب.

ابن تومرت كله، ولب دعوته السياسية كلها، فإن الإمامة الدينية، هي الشعار السياسي الذي انتحله ابن تومرت، دعامة لزعامته وسلطانه. ونظرية المهدي المنتظر، هي الثوب الروحي الذي اتشح به، لتأييد شرعية إمامته وقدسيتها. ونحن نعرف أن الإمامة هي شعار الدعوة الشيعية، الديني والسياسي، وأنها تخص بها آل البيت دون سواهم، وعلى كر العصور. ولكن ابن تومرت، في تمسكه بنظرية الإمامة، يبدو مستقلا، بعيداً عن الدعوة الشيعية، وممثلا لدعوة خاصة، وإن كان في نفس الوقت يحرص على أن ينتسب إلى آل البيت، حتى تتوفر فيه شرعية الإمامة، وإليك كيف يعرض لنا ابن تومرت نظرية الإمامة وخصائصها حين يقول: " هذا باب في العلم، وهو وجوب اعتقاد الإمامة على الكافة، وهي ركن من أركان الدين، وعمدة من عمد الشريعة، ولا يصح قيام الحق في الدنيا إلا بوجوب اعتقاد الإمامة في كل زمان من الأزمان إلى أن تقوم الساعة. ما من زمان إلا وفيه إمام لله قائم بالحق في أرضه من عاد إلى نوح، ومن بعده إلى ابراهيم .. ولا يكون الإمام إلا معصوماً من الباطل ليهدم الباطل، لأن الباطل لا يهدم الباطل، وأن يكون معصوماً من الضلال، لأن الضلال لا يهدم الضلال .. وأن يكون معصوماً من الجور لأن الجائر لا يهدم الجور بل يثبته، وأن يكون معصوماً من البدع، لأن المبتدع لا يهدم الكذب بل يثبته، وأن يكون معصوماً من العمل بالجهل، لأن الجاهل لا يهدم الجهل، وأن يكون معصوماً من الباطل لأن المبطل، لا يهدم الباطل، كما لا تدفع النجاسة بالنجاسة، وكما لا تدفع الظلمة بالظلمة، كذلك لا يدفع الفساد بالفساد، ولا يدفع الباطل بالباطل، وإنما يدفع بضده الذي هو الحق، لا يدفع الشىء إلا بضده، ولا تدفع الظلمة إلا بالنور، ولا يدفع الضلال إلا بالهدى، ولا يدفع الجور إلا بالعدل، ولا تدفع المعصية إلا بالطاعة، ولا يدفع الاختلاف إلا بالاتفاق، ولا يصح الاتفاق إلا باستناد الأمور إلى أولي الأمر، وهو الإمام المعصوم من الباطل والظلم " (¬1). ثم يعود ابن تومرت فيؤكد أهمية الإمامة كركن جوهري من أركان الدين، ووجوب اعتقادها والخضوع لها في قوله: " والإمامة هي عمدة الدين وعموده على الإطلاق في سائر الأزمان، وهو دين السلف الصالح، والأمم السالفة إلى إبراهيم وما قبله، فاعتقادها دين، والعمل بها ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 245 و 246.

دين، والتزامها دين، ومعناها الإتباع والاقتداء، والسمع والطاعة، والتسليم، وامتثال الأمر، واجتناب النهي، والأخذ بسنة الإمام في القليل والكثير " (¬1). وإنه لا يمكن أن تكون ثمة تأكيدات أخطر من هذه وأشد فعلا، وأبعد أثراً في النفوس، لتأكيد الزعامة الدينية والسياسية، والانضواء تحت لوائها، والإذعان لسلطانها. وقد كان المهدي يخاطب بأسلوبه القوي المنذر، مجتمعاً يسوده الجهل، وتسيطر عليه الخرافة، فكانت أقواله وتعاليمه تنساب إلى هذا المجتمع الساذج، كقرآن جديد. كيف لا وهو يؤكد بأنه " لا يكذب بهذا، إلا كافر أو جاحد أو منافق أو زائغ أو مبتدع أو مارق أو فاجر أو فاسق، أو رذل أو نذل، لا يؤمن بالله واليوم الآخر " (¬2). - 3 - ثم إن هذه الإمامة المطلقة الواجبة الطاعة في كل زمان ومكان، لابد أن تتوج بصفة خاصة تؤكد من شرعيتها وتزيد في قدسيتها، وتجعلها أقرب إلى مراتب النبوة، وتلك هي صفة المهدي المنتظر. وهي أسطورة من أقدم الأساطير الدينية في الإسلام. ويرجعها البعض إلى عصر النبي ذاته. وهنالك طائفة من " الأحاديث " تشير إلى هذه الأسطورة. وهنالك أيضاً طائفة من الأقوال المأثورة تنسب لجماعة من أكابر الصحابة. ولكن هذه الأحاديث والأقوال، موضع كثير من الجدل والريب، وهي على الأغلب من خلق الشيعة الذين استغلوا هذه الأسطورة على كر العصور، واتخذوها سبيلا إلى تحقيق السلطان السياسي. وخلاصة هذه الأحاديث والأقوال، " إنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من آل البيت، يؤيد الدين ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويعيد مجد الإسلام ودولته، ويسمى بالمهدي " أو على حد عبارتهم المأثورة، وهي أن المهدي يخرج في آخر الزمان " فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً ". وقد كان قيام الدولة الفاطمية الشيعية بإفريقية ثم بمصر، في أوائل القرن الرابع الهجري، أعظم وأروع استغلال لهذه الأسطورة. وهذا الثوب القدسي - ثوب المهدي المنتظر - هو الذي اعتزم محمد بن تومرت أن يتشح به، وأن يتوج به إمامته وسلطانه السياسي. ومن ثم فإنا نراه، بعد أن يحدثنا عن أهمية الإمامة. وكونها ركن الدين الركين، يعرض ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 253 و 254. (¬2) كتاب محمد بن تومرت ص 254.

لنا نظرية المهدي بقوة وحماسة. وهو يستهل كلامه بوصف مثير لأحوال العصر الذي تلا عصر النبوة والخلفاء الأربعة، وما ساد فيه من ضروب التفرق والهوى والفتن، وهو العصر الذي " يذهب فيه العلماء، ويظهر الجهال، ويذهب الصالحون، وتبقى الحثالة، ويذهب الأمناء وتبقى الخونة، وتذهب الأئمة، وتظهر المبتدعة، ويذهب الصادقون، ويظهر الدجالون، ويذهب أهل الحقائق، ويظهر أهل التبديل والتغيير والتلبيس والتدليس، حتى انعكست الأمور، وانقلبت الحقائق وعطلت الأحكام، وفسدت العلوم، وأهملت الأعمال، وماتت السنن، وذهب الحق، وارتفع العدل، وأظلمت الدنيا بالجهل والباطل، واسودت بالكفر والفسوق والعصيان، وتغيرت بالبدع والأهواء، وامتلأت بالجور والظلم والهرج والفتن ". ثم جاء المهدي في زمان الغربة، في الوقت الذي عكست فيه الأمور، وقلبت الحقائق، وبدّلت الأحكام " وخصصه الله بما أودع فيه من معاني الهداية، ووعده قلب الأمور عن عاداتها، وهدمها بهدم قواعدها، ونقلها إلى الحق بإذن الله، حتى تنتظم الأمور على سنن الهدى، وتستقيم على منهاج التقوى، وينهدم الباطل من قواعده، وتنهدم بانهدامه فروعه، ويثبت الحق من أصله، وتثبت بثبوته فروعه، ويظهر العلم من معادنه، ويشرق نوره في الدنيا بظهوره، حتى يملأها عدلا، كما ملئت قبله جوراً، بوعد ربه كما وعد، وبفضله كما سبق، هذا ما وعد الله للمهدي، وعد الحق الذي لا يخلفه " (¬1). وهذا المهدي، الذي تستحيل على يده شئون العالم، من الفساد الشامل، والظلم المطبق، إلى الصلاح والعدل الشامل، " لا ند له في الورى " ولن يجد " من يعانده، ولا من ينازعه، ولا من يخالفه، ولا من يضاده "، ومن ثم فإن ابن تومرت يؤكد لأتباعه وأنصاره وجوب طاعة المهدي، والإيمان برسالته، والإذعان لمشيئته، والاستسلام لحكمه، وذلك بصورة مطلقة يعرضها لنا على النحو الآتي: " فالعلم به واجب، والسمع والطاعة له واجب، واتباعه والاقتداء بأفعاله واجب، والإيمان به والتصديق به واجب على الكافة، والتسليم له واجب، والرضى بحكمه واجب، والانقياد لكل ما قضى واجب، والرجوع إلى علمه واجب، واتباع سبيله واجب، والاستمساك بأمره حتم، ورفع الأمور إليه بالكلية لازم ". ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 249 - 251.

وليس ذلك فقط، فإن طاعة المهدي، والاستسلام إليه، إن هي إلا طاعة الله ورسوله ذاتها، " فإن سنة المهدي هي سنة الله ورسوله، وأمره أمر الله ورسوله، وطاعته طاعة الله ورسوله، والانقياد له الانقياد إلى الله ورسوله، وموافقته موافقة الله ورسوله، وتعظيم حرماته تعظيم حرمات الله ورسوله. هو أعلمهم بالله، وأقربهم إلى الله، به قامت السموات والأرض، وبه كشفت الظلمات، وبه تدفع الأباطيل، وبه تظهر المعارف، وبموافقته تُنال السعادة، وبطاعته تنال البركات " (¬1). ْأما أولئك الذين تسول لهم أنفسهم مخالفة المهدي، ومعارضته أو الشك في أمره، فويل لهم. ولم ينس ابن تومرت أن يتوعد هؤلاء بشر النكال. ذلك أن من ناوأ المهدي " فقد تقمع في الردى، وليس له التطرق إلى النجاة ". ثم إن " أمر المهدي حتم، ومن خالفه يقتل، لا دفع له في هذا لدافع، ولا حيلة فيه لزائغ، ثبت بثبوت نصوص الكتاب، وقواطع الشرع، وبيان العلم، ودام ما دامت السموات والأرض بإذن الله الواحد القهار " (¬2). ويتحدث ابن تومرت بعد ذلك في فصل قصير عن " القواعد التي بني عليها علوم الدين والدنيا " يتناول فيه أموراً شتى، ومما جاء فيه: " أن القيام بأمر الله واجب، وأن الفساد يجب دفعه على الكافة، ولا يجوز التمادي فيه، وإن من منع فريضة واحدة كمن منع الفرائض كلها، وان التمادي على ذرة من الباطل، كالتمادي على الباطل كله، وأن الهوى لا يجوز إيثاره عن الحق، وان الدنيا لا يجوز إيثارها على الآخرة، وان الحق لا يجوز تلبيسه بالباطل، وأن العلم ارتفع، وأن الجهل عم، وأن الحق ارتفع، وأن الباطل عم، وأن الهدى ارتفع، وأن ْالضلال عم، وأن العدل ارتفع، وأن الجور عم، وأن الرؤساء الجهال استولوا على الدنيا، وأن الملوك الصم البكم استولوا على الدنيا، وأن الدجالين استولوا على الدنيا " ويختتم ابن تومرت هذا الفصل، بالعود إلى الكلام عن المهدي في فقرة يلخص فيها كل ما تقدم، ويؤكده بقوة، وذلك على النحو الآتي: " إن الباطل لا يرفعه إلا المهدي، وان الحق لا يقوم به إلا المهدي، وان المهدي معلوم في العرب والعجم، والبدو والحضر، وان العلم به ثابت في كل ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 252. (¬2) كتاب محمد بن تومرت ص 251 و 254.

مكان، وفي كل ديوان، وأن ما علم بضرورة الإستفاضة قبل ظهوره، يعلم بضرورة المشاهدة بعد ظهوره، وأن الإيمان بالمهدي واجب، وأن من شك فيه كافر، وأنه معصوم فيما دعا إليه من الحق، لا يجوز عليه الخطأ فيه، وأنه لا يكابر، ولا يضاد، ولا يدافع، ولا يعاند، ولا يخالف ولا ينازع، وأنه فرد في زمانه، صادق في قوله، وأنه يقطع الجبابرة والدجاجلة، وأنه يفتح الدنيا شرقها وغربها، وأنه يملؤها بالعدل، كما ملئت بالجور وأن أمره قائم إلى أن تقوم الساعة " (¬1). - 4 - لم ينس ابن تومرت في الوقت الذي يعرض فيه دعوته، ويشيد بنظريته الإمام المعصوم والمهدي المنتظر، وهي التي اتخذها دعامة لزعامته الدينية، وسلطانه السياسي، أن ينظم حملته ضد أصحاب الأمر القائم، ضد أولئك المرابطين، الذين كان يرمي إلى تحطيم دولتهم، والاستيلاء على تراثهم. ومن ثم فإنه يخصهم في كتابه بفصل، يشهر فيه عليهم الخصومة والبغض، ويحاول أن يسبغ على حملته لون القداسة، وأن يردها إلى أصول دينية، وهو ينعتهم " بالمبطلين، والملثمين، والمجسمين ". ويقول لنا إن لهم علامات خاصة يعرضها لنا في قوله: " جميع علاماتهم ظاهرة، منها ما ظهر قبل مجيئهم من كادم، ومنها ما ظهر بعد أخذهم البلاد، ومنها ما ظهر من أحوالهم وأفعالهم. فالذي ظهر منها قبل مجيئهم خمس، إحداهن أنهم الحفاة، والثانية أنهم العراة، والثالثة أنهم العالة، والرابعة أنهم رعاء الشاء والبهم، والخامسة أنهم جاهلون بأمر الله. والذي ظهر منها بعد أخذهم البلاد سبع، إحداهن أنهم في آخر الزمان، والثانية أنهم ملوك، والثالثة أنهم يتطاولون في البنيان، والرابعة أنهم يلدون مع الإماء ويستكثرون من الجواري، والخامسة أنهم صم، والسادسة أنهم بكم، يعني أنهم صم عن ْالحق لا يستمعون إليه، بكم عن الحق لا يقولون به، ولا يأمرون به، وكل ذلك راجع إلى الجهل والعدول عن الحق، والسابعة أنهم ما هم أهلا للأمانة في القيام بأمر الله. والذي ظهر من أحوالهم وأفعالهم ثمان، إحداهن أنهم في أيديهم سياط كأذناب البقر، والثانية أنهم يعذبون الناس ويضربونهم بها، والثالثة أن نساءهم رؤوسهن كأسنمة النجب، يعني أنهن يجمعن شعورهن فوق رؤوسهن حتى تكون شعورهن على تلك الصفة، والرابعة أنهم كاسيات عاريات، والخامسة أنهن مائلات يعني ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 257.

عن الحق والرشاد والسادسة أنهن مميلات يعني لغيرهن، والسابعة أنهم يغدون في سخط، والثامنة أنهم يروحون في لعنة. هذه علاماتهم، وجملة علاماتهم عشرون أخبر الرسول بجميعها قبل وجودهم، فظهرت كلها على وفق ما أخبر به " (¬1). ويحاول ابن تومرت أن يثبت صحة هذه العلامات بإيراد " أحاديث " تنسب روايتها إلى عمر بن الخطاب وإلى أبي هريرة، وفيها ذكر للعلامات المتقدمة، وأنها من علامات الساعة، و" أحاديث " أخرى يدمغ فيها الرسول أصحاب هذه العلامات، بالنار والسخط والغضب واللعنة، ويذكر فيها صفة نسائهن على النحو الذي تقدم ذكره (¬2). ويتناول ابن تومرت بعد ذلك مثالب المرابطين، وتحريم طاعتهم، والحض على جهادهم، في عدة أبواب رتبت كما يأتي: (1) باب فيما أحدثوه من المناكير والمغارم، وتقلبهم في السحت والحرام يأكلون فيه ويشربون، وفيه يغدون وفيه يروحون، وتجسيمهم وكفرهم أكبر. (2) باب في تحريم معونتهم على ظلمهم، وتصديقهم على كذبهم. (3) باب في معرفة أتباعهم الذين أعانوهم على ظلمهم، وصدقوهم على كذبهم، وبيان أفعالهم. (4) باب في وجوب مخالفتهم وتحريم الاقتداء بهم، والتشبه بهم، وتكثير سوادهم وحبهم. (5) باب في وجوب بغضهم ومعاداتهم على باطلهم وظلمهم. (6) باب في تحريم طاعتهم واتباع أفعالهم. (7) باب في وجوب جهادهم على الكفر والتجسيم وإنكار الحق، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم. (8) باب في وجوب جهاد من ضيّع السنة ومنع الفرائض. (9) باب في وجوب جهادهم على ارتكاب المناكر والفجور وتماديهم على ما لا يؤمرون به. (10) باب في وجوب جهادهم على العناد والفساد في الأرض (¬3). وهو خلال ذلك يحاول أن يؤيد أقواله وأحكامه بمختلف الأحاديث والآيات القرآنية. وهو ينعي على المرابطين بنوع خاص - وهو ينعتهم هنا بالمجسمين الكفار - مسألة اللثام، وتشبههم في ذلك بالنساء، في تغطية الوجوه بالتلثيم والتنقيب، وتشبه نسائهم بالرجال في السفور، وعدم التلثيم والتنقيب، وتحريم ذلك، ولعن ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 258 و 259. (¬2) كتاب محمد بن تومرت ص 260 و 261. (¬3) كتاب محمد بن تومرت ص 261 - 266.

من يرتكبه، وفقاً لحديث تنسب روايته لابن عباس، ونصه: " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء، شملتهم اللعنة جميعاً " (¬1). على أنه من الإجحاف البيّن أن تُنعى هذه المسألة بالذات - مسألة اللثام - على المرابطين، وتعتبر في حقهم جرماً يستوجب اللعن. ذلك أنها ليست سوى مسألة تقليد قومي وقَبَلي لا شأن له بالدين. وقد قيلت في أصل اللثام وسببه أشياء كثيرة، منها ما سبق أن أشرنا إليه من قبل، وهو أن أهل لمتونة - وهي قبيلة المرابطين - كانوا يتخذون في أعراسهم نوعاً خاصاً من الحجاب، ومنها أنه حدث ذات مرة في بعض حروبهم أن نساءهم كن يقاتلن معهم محجبات، حتى يحسبن بذلك في عداد الرجال، ومنها أنهم كانوا يلجأون إلى اللثام تخفياً من طلبة ثأر الدم، وأخيراً أن اللثام كان من ضرورات الحماية من لفح العواصف والرمال والحر والبرد. وما تزال عادة اللثام قائمة حتى اليوم بين بعض قبائل موريتانيا والسودان وغيرها، ويقال إن الحكمة في ذلك هو أن الرجال الأشراف لا يكشفون عن أنفسهم. وأما عن سفور النساء، فقد قيل إنه لكي يظهر انحطاطهن عن الرجال (¬2). وأما حملة ابن تومرت على المرابطين بسبب ما أحدثوه من " المناكر والمغارم " فإن لها ما يبررها. وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يسود العاصمة المرابطية، (مراكش) وقواعد المغرب الأخرى، أيام المرابطين، من مظاهر الاستهتار والفساد، ومن ذلك ذيوع الخمر والقصف علناً في الأسواق، وغير ذلك من مظاهر الخروج على الدين. وهذا ما يردده المراكشي في قوله مشيراً إلى على بن يوسف: " وكان رجلا صالحاً، إلا أنه كان ضعيفاً مستضعفاً، ظهرت في آخر زمانه مناكر كثيرة، وفواحش شنيعة، من استيلاء النساء على الأحوال واستبدادهن بالأمور، وكان كل شرير أو قاطع طريق، ينتسب إلى امرأة قد جعلها ملجأ له، وزراً على ما تقدم " (¬3). ومما هو جدير بالذكر أن أمثال هذه المناكر، لم تلبث أن ظهرت في دولة الموحدين، بعد ذهاب المهدي بفترة قصيرة. ومن ذلك أن ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 264. (¬2) الإستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوي ج 1 ص 98 و 99، وكذلك العلامة جولدسيهر في مقاله: Materialien zur Kentniss der Almohaden Bewegung (Z. der Morg. Gesellsch. 1887 p. 101) (¬3) المعجب ص 103.

عبد المؤمن أول الخلفاء الموحدين، أبى علي ولده الأكبر محمد إتمام بيعته لولاية العهد، لأنه كان مدمناً لشرب الخمر، ولنقائص أخرى كانت تنسب إليه (¬1). على أنه إذا كان المرابطون، أو كما ينعتهم ابن تومرت، طائفة المبطلين من الملثمين والمجسمين، كانوا يتصفون بما يرميهم به من العيوب والمثالب التي يستحقون من أجلها اللعنات، والتي تستوجب بغضهم ومعاداتهم ومجاهدتهم، فإن هناك طائفة أخرى بشر الرسول بظهورها، وهي التي تقاتل على الحق وتقاتل عنه، وتقوم به إلى آخر الزمان، وأن هذه الطائفة تقوم بأمر الله، لا يضرها من خذلها أو خالفها، وأنها ظاهرة على من عاداها إلى يوم القيامة، وأنها تقاتل على أمر الله وتقهر عدوها إلى قيام الساعة، وأنها تقاتل على الحق حتى تجتمع مع عيسى بن مريم، وحتى يقاتل آخرهم الدجال، وأن الله يفتح الدنيا كلها لأهل الغرب، وأخيراً أن هذه الطائفة ينصرها الله حتى تقوم الساعة. وبالرغم من أن ابن تومرت لا يقول لنا من هي هذه الطائفة بصريح العبارة، فإنه من الواضح أنه يعني بها طائفة الإمام المعصوم، والمهدي المعلوم، أو بالحري طائفته الخاصة، طائفة الموحدين، وهو يحاول هنا كعادته، أن يؤيد كل أقواله ونبوءاته بطائفة من الأحاديث (¬2). وقد سبق أن أشرنا إلى ما ذكره ابن تومرت، عند الحديث عن العقيدة، عن التوحيد ودلائل وجود الباري سبحانه. ويلاحظ العلامة جولدسيهر، أن ابن تومرت قد استعار عبارة " التوحيد "، ومعناها التعلق بفكرة الله وصفاته، من " المعتزلة "، فهم الذين يعطون إسم " التوحيد " في تعريفهم لفكرة الله، وهذا ما يوضحه لنا الشهرستاني في قوله عن المعتزلة: " واتفقوا على نفي رؤية الله تعالى بالأبصار في دار القرار، ونفي التشبيه عنه من كل وجه، جهة ومكاناً وصورة وجسماً وتحيزاً وانتقالا وزوالا وتغيراً وتأثراً، وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، وسموا هذا النمط " توحيداً " (¬3). ومن ثم فإن ابن تومرت، كان يُشَهِّر في ظل هذا التفسير لمعنى التوحيد، ¬_______ (¬1) المعجب ص 131. (¬2) كتاب محمد بن تومرت ص 267 - 270. (¬3) الشهرستاني في كتاب " الملل والنحل "، المنشور على هامش كتاب " الفصل " (القاهرة 1317 هـ) ص 55.

بالفكرة المادية التي كانت ذائعة في المغرب في ظل المرابطين، والتي تناقض فكرة التوحيد الحقيقية، ويعتبر المرابطين مسئولين عن فكرة " التجسيم "، و" التشبيه " الذائعة بين رعاياهم، وينادى من أجل ذلك بقتالهم، لأنهم هم السبب في نشر ذلك الإلحاد الذي يسود العقيدة، وأنهم يقيمون نظاماً دينياً، لا تتوّجه فكرة الله. ومتى كان المرابطون على هذا النحو من أهل الشرك، فيجب أن يشهر عليهم الجهاد في سبيل الله (¬1). ويعود ابن تومرت فيتناول التوحيد هنا من ناحية أخرى، وذلك كعادته في أبواب متعاقبة. أولها أن التوحيد، هو أساس الدين الذي بني عليه، ثم يحدثنا عن معنى التوحيد، وتفسير لفظه، وعن فضله، وعن شروط الشهادة، وكون التوحيد يهدم ما كان قبله من الفكر والآثام، وعن وجوب العلم بالتوحيد وتقديمه على العبادة، وعن كون التوحيد هو دين الأولين والآخرين من النبيين المرسلين، وكون دين الأنبياء واحد، وعن معرفة طريق إثبات العلم بالتوحيد. ثم يتلو ذلك التحدث عن الإيمان وفضله، والإيمان بالرسول، وعن معنى الإيمان والعلم، واتباع الكتاب والسنة، يتخلل ذلك كله طائفة من الآيات والأحاديث للشرح والتدليل (¬2). - 5 - يتناول ابن تومرت بعد ذلك طائفة من المسائل الدينية الأخرى التي لا تتصل أصلا بدعوته الدينية أو السياسية، ولكنها تتضمن مع ذلك، بعض وقائع وأقوال تتصل بهذه الدعوة. وهو قد تحدث من قبل في فصل خاص، عن الصلاة وفضلها وتفاصيلها. وهو يتحدث هنا عن الطهارة، وعن رفع العلم، ورفع الدين والموالاة. وفي هذا الفصل يكرر ما سبق ذكره، من الأحاديث المتعلقة بالناس، الذين يحملون سياطاً كأذناب البقر، والنساء الكاسيات العاريات، والمائلات رؤوسهن كأسنمة البخت، وهي التي يعدها بين علامات الملثمين المجسمين. ثم يحدثنا بعد ذلك عن " التبديل والتغيير بعد رسول الله ". وفي هذا الفضل يعود إلى ذكر المهدي، وما روي بشأنه من أحاديث، تدلى بأنه يكون من آل البيت، وأن اسمه يطابق اسم النبي، وأنه يملأ الأرض عدلا ¬_______ (¬1) جولدسيهر في مقدمته الفرنسية لكتاب " أعز ما يطلب " التي سبق ذكرها ص 56 و 61. (¬2) كتاب محمد بن تومرت ص 271 - 280.

كما ملئت جوراً، وأنه يكون من عترة الرسول من ولد فاطمة (¬1)، وما ورد في شأن خروج الدّجال وهزيمته (¬2). ثم يلي ذلك كلام طويل في بابين لا عنوان لهما، وكلاهما يفيض بالأحاديث والأقوال المأثورة المتعلقة بالجنة والنار (¬3). وبعد أن يحدثنا ابن تومرت عن " الغلول والتحذير منه " وهو الخيانة، ويقدم إلينا في ذلك طائفة من القصص النبوية، يختتم كتابه بفصل طويل في " تحريم الخمر ". وقد رأينا فيما تقدم من حياة ابن تومرت، كيف كانت الحملة على الخمر ومطاردتها، وإراقتها وكسر أوانيها، من أخص ما شغله في دعوته إلى إزالة المنكر، وكيف أنه كان يتعرض لصنوف من السخط والأذى، كلما نشط إلى ذلك، وهو يقرر أن الخمر محرمة " بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة " ويستعرض ما ورد في ذلك من الآيات والأحاديث، ويبين لنا أنواع الخمر المجمع على تحريمها في عصر الإسلام، وهي التي كانت تصنع من العنب والتمر والعسل والشعير، وهي كلها محرمة في رأيه قليلها وكثيرها، ومن الواجب إراقتها وكسر أوانيها، وهو يؤيد أقواله هنا بمختلف الأحاديث وأقوال الصحابة (¬4). أما الفصل الأخير من الكتاب، وهو الذي يلي " كتاب تحريم الخمر " وعنوانه " كتاب الجهاد " فهو ليس من تأليف ابن تومرت، وإنما هو من تأليف الخليفة أبى يعقوب يوسف، ولد الخليفة عبد المؤمن بن علي وذلك حسبما يبدو من النبذة التي اختتم بها الكتاب، وأشير فيها إلى تمام " كتاب الجهاد " وجميع تعاليق " الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، وذلك مما أملاه سيدنا الإمام الخليفة أمير المؤمنين .. وذلك في العشر الأواخر من شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة " (¬5). وكتاب الجهاد، والترغيب فيه، يضم طائفة كبيرة من الأحاديث التي وردت في فضل الجهاد، والحث عليه. وتبيان محاسنه، وفضل الشهادة في سبيل الله. ويلحق بذلك الكلام على الجهاد بالمال وما ورد فيه أيضاً من الأحاديث (¬6). وهذا ¬_______ (¬1) كتاب محمد بن تومرت ص 305 و 306. (¬2) كتاب محمد بن تومرت ص 309. (¬3) كتاب محمد بن تومرت ص 313 - 346. (¬4) كتاب محمد بن تومرت ص 313 - 376. (¬5) كتاب محمد بن تومرت ص 401. (¬6) راجع كتاب الجهاد (من كتاب محمد بن تومرت) ص 377 - 400.

الفصل وما ورد فيه من الأحاديث العديدة، يتفق تمام الإتفاق مع ما أثر عن مقدرة الخليفة أبي يعقوب يوسف العلمية، وبراعته في علم الحديث، والعلوم الشرعية، وتقدمه " في علم الإمام المهدي " (¬1). - 6 - إن كتاب " أعز ما يطلب " حسبما تبين من استعراض فصوله ومحتوياته، يمكن أن يعتبر وصية ابن تومرت العقدية والسياسية، ويمكننا أن نعتبر ما ورد فيه من تعاليم ومبادىء، خاصة بالإمامة والزعامة السياسية والدينية، أساس الدولة الموحدية الروحي والسياسي. على أن ابن تومرت قد ترك لنا بالعربية مؤلفاً آخر، هو كتاب "الموطأ " المسمى " موطأ الإمام المهدي " وهو كتاب ضخم يتناول فيه، على نسق " موطأ الإمام مالك "، أبواب العبادات والمعاملات والحدود. ونحن نعرف أن مذهب الإمام مالك (¬2) كان منذ أواخر القرن الثاني للهجرة، هو المذهب المفضل في المغرب والأندلس. وبالرغم من أن ابن تومرت قد درس بالمشرق، على عدد من أقطاب عصره، فإنه لبث على تقاليد علماء المغرب الراسخة، من اتباع المذهب المالكي، ومن ثم فإنه يقدم لنا ثمرة شروحه للعبادات والمعاملات والحدود، أو بعبارة أخرى لعلم الفروع، متسمة باسم موسوعة الإمام مالك، جارية على مذهبه وآرائه، بل إنه ليبدو، حسبما جاء في مقدمة ْ " موطأ " ابن تومرت، أن مصنفه ليس إلا مختصراً من مصنف الإمام مالك. فقد جاء في مقدمة طبعته التي نشرت بالجزائر في سنة 1323 هـ (1905 م)، ما يأتي: " قابلنا موطأ المهدي بموطأ الإمام مالك، من رواية يحيى بن يحيى، فوجدناه مختصراً منه بحذف الأسانيد مع تقديم وتأخير وزيادة تراجم وتفاصيل على أسلوب مفيد وترتيب سديد ". ويحتوي موطأ المهدي على سفرين: يتناول السفر الأول الكتب الآتية: الطهارة والصلاة، والجنائز والصيام، والاعتكاف والزكاة، والحج والجهاد، والإيمان والنذور. ويتناول السفر الثاني الكتب الآتية: الضحايا والعقيقة، والذبائح والصيد، والأشربة، والحدود، والنكاح، والطلاق، والرضاع، والبيوع، والشفعة، ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة " المخطوط السالف الذكر لوحة 46 أ. (¬2) الإمام مالك بن أنس (95 - 179 هـ) أحد أقطاب المذاهب الأربعة.

والرهن، والإجارة، والمساقاة، والفرائض، والعتق، والمكاتب، والتدبير، والعقول، والقسامة، والتعدي والغصب، والأقضية والجامع. ومن الواضح أنه ليس في كتاب " موطأ المهدي " ما يهمنا من الناحية التاريخية. بيد أننا نستطيع أن نتخذه دلالة على ما كان يتصف به ابن تومرت من النشاط العلمي، والمقدرة الفقهية، واجتهاده في أن يبصر قومه بأحكام الدين الصحيحة، ولا ريب أن كتب ابن تومرت كانت تنتشر بين قومه بالبربرية لغتهم القومية، فيزداد بذلك نفوذها وتأثيرها، وقد كان من أعظم مزايا ابن تومرت العلمية، مقدرته البارزة في إتقان اللغتين العربية والبربرية، وكان وعظه ومخاطبته لقومه بالبربرية، تنفذ إلى سويداء قلوبهم، وتزيدهم فتنة وبه وتعلقاً، وتعمل على توطيد مكانته الدينية والسياسية. وكانت كتب ابن تومرت، بعد القرآن والسنة، هي أشد الكتب الدينية احتراماً بين أقوام الموحدين على اختلاف قبائلهم، لأنها نظراً لكتابتها بالبربرية، كانت ذائعة، وكانت في متناول كل إنسان.

الفصل الرابع الصراع بين المرابطين والموحدين

الفصل الرابع الصراع بين المرابطين والموحدين المرحلة الثانية خلافة عبد المؤمن. مختلف الروايات حول تاريخها وكيفية وقوعها. أهل عبد المؤمن ونسبته العربية. أساطير حول قدره وتخصيصه بالخلافة. مولده ونشأته. اتصاله بابن تومرت. قيادته للجيوش الموحدية. عزمه على اسئناف الجهاد. خروجه من تينملل في القوات الموحدية. استيلاؤه عل تازاجورت وقصبة تادلة وعلى درعة وحصن تاسغيموت. عودته إلى تينملل. محاولة ابن ملوية وإخمادها. إنسلاخ الفلاكي الأندلسي عن المرابطين وانضمامه للموحدين. اتخاذ عبد المؤمن ألقاب الخلافة. غزواته في الأعوام التالية. استيلاؤه على تارودانت عاصمة بلاد السوس. هزيمة المرابطين وفرارهم. غزوه لأحياء بني ييغز. دفاع بني ييغز ثم جنوحهم إلى الطاعة. خروج عبد المؤمن إلى الغزو ثانية. تحركه إلى أرض حاحة ونزوله في أحياء بني ملول. إغارته عليها وقتله لأهلها. مسيره إلى أجر فرجان. لقاؤه بالمرابطين بقيادة تاشفين بن علي والربرتير. هزيمة المرابطين. مبادرة جزولة لإنجاد المرابطين. هزيمتها ومقتل معظمها. ارتداد تاشفين إلى مراكش. رواية ابن عذارى عن هذه الموقعة. خروج تاشفين والربرتير ثانية لمحاربة الموحدين. اللقاء في تيزغور. هزيمة المرابطين وجرح الربرتير. الربرتير وأصله وظروف التحاقه بخدمة المرابطين. قيادته للمرابطين في معارك أراضي كدميوه والسوس. غزو عبد المؤمن لأرض السوس. تبادل النساء الأسرى بين الفريقين. حملة عبد المؤمن الكبرى. مسيره إلى الشمال الشرقي. غزوه لعدد من القواعد والقلاع المرابطية. اختراقه لأرض فازاز واحتلاله لأزرو. مسيره شمالا نحو فاس. وصول القوات المرابطية بقيادة تاشفين والربرتير. مقاساتها لأهوال البرد. انحدار الموحدين إلى منطقة الأطلس الوسطى. احتلالهم لوادي ملوية. مسيرهم نحو أرض غياثة ونزولهم في جبل عفرا. نزول المرابطين قبالهم في السهل. عصف الرياح والأمطار بالمحلتين. رواية أخرى لابن القطان عن الحملة الموحدية إلى غياثة. مسير الموحدين إلى أرض لكاي. مسير المرابطين بقيادة تاشفين والربرتير في أثرهم. التحام الربرتير في بعض قواته مع الموحدين في تازغدرا. مسير الموحدين نحو القصر الكبير. مسير المرابطين في أثرهم. وصول الموحدين إلى المزمة. قصة مقتل ابراهيم أخى عبد المؤمن. اقتحام الموحدين لثغر مليلة وسبي نسائه. مسيرهم إلى تاجرا. الحملات الموحدية تقتحم وهران وبني واثون وجبل مديونة. ارتداد المرابطين إلى فاس وبقاء الموحدين قرب تلمسان. وفاة أمير المسلمين علي بن يوسف. بلوغ الدولة المرابطية ذروتها في عهده. استخدامه للمرتزقة النصارى. إنشاؤه للفرقة الأجنبية بقيادة الربرتير. عزمه على إقالة ولده تاشفين. بعض الأحداث التي وقعت في أواخر عهده. صفاته وخلاله. حشده لأعلام الكتابة في بلاطه. أولاده. اختلال الدولة المرابطية، وانشقاقها في أواخر عهده. خروج بني ومانو على تاشفين بن علي. مسير الربرتير لعقابهم. إنجاد الموحدين لهم. اقتحام الموحدين لبني عبد الواد وبني بيلومي. هزيمتهم ومصرع معظم أصحابهم على يد المرابطين. مسير عبد المؤمن من تلمسان إلى أرض

بيلومي. مسير تاشفين إلى تلمسان. إرساله حملة قوية ومعها الربرتير إلى منداس. طريقة عبد المؤمن المبتكرة في لقاء خصومه. معركة منداس الكبرى. هزيمة المرابطين الساحقة وغنائم الموحدين الوفيرة. غزو النورمانيين لسبتة ورد الأسطول المرابطي لها. مصرع الربرتير في معركة بينه وبين الموحدين. رواية ابن عذارى عن ذلك. مغادرة النصارى للمعسكر المرابطي. استنفار تاشفين لسائر الحشود المرابطية. مقدم ولده تاشفين إليه وتوليته عهده. سير الموحدين ونزولهم بالصخرتين قرب تلمسان. نزول المرابطين قبالهم في سطفسيف. وصول الحشود المرابطية. اشتباك الفريقين وهزيمة المرابطين في معركة بظاهر الصخرتين. مسير تاشفين في قواته إلى وهران. إرساله ولده ابراهيم إلى مراكش. مقدم بعض سفن الأسطول المرابطي إلى مياه وهران. مسير عبد المؤمن في أثر تاشفين. فتك الموحدين بأحياء لمتونة في تلك الجهة. نزول الموحدين فوق جبل وهران. مغادرة معظم القادة المرابطين لتاشفين. اقتحام الموحدين للمحلة المرابطية. فرار تاشفين وخاصته إلى الحصن المطل على البحر. إضرام الموحدين النار حول الحصن. فرار تاشفين في الليل وسقوطه ومصرعه. روايات أخرى عن مصرع تاشفين. فتك الموحدين بالمرابطين. فرار الفلول المرابطية من تلمسان. دخول عبد المؤمن تاجررت وقتله لأهلها. دخوله تلمسان وقتله لأهلها. روايات أخرى عن دخوله تاجررت وتلمسان. نزوله بتلمسان وتنظيمه لشئون المنطقة. مسيره إلى فاس. كانت خلافة عبد المؤمن بن علي، للمهدى ابن تومرت، في رياسة الموحدين، حدثاً ذا شأن، وكانت فاتحة عهد جديد في تاريخ الدولة الموحدية، هو عهد التوطد والنماء. وتختلف الرواية أيما اختلاف في ظروف تولية عبد المؤمن. فهناك القول ْبأن بيعة عبد المؤمن، قد تمت على أثر وفاة، المهدي أو بعدها بأيام قلائل، وأن المهدي هو الذي رشحه لخلافته قبيل وفاته وهذه هي رواية ابن القطان، إذ يقول لنا إنه لما توفي المهدي، كتم أصحابه وأهل الدار، وهم خدمته، وأخته شقيقته، موته، وبايعوا الإمام أمير المؤمنين (يريد عبد المؤمن) في الحين " بيعة سر"، ثم يقول في موضع آخر، إن عبد المؤمن بويع على أثر موت الإمام المهدي عام أربعة وعشرين وخمسمائة " بيعة خاصة ". وهناك قول آخر، بأنه لما توفي المهدي كتم أصحابه موته بعض الوقت، حتى يتفقوا على من يتولى الخلافة من بعده. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة مؤرخ الدولة الموحدية وكذلك ابن القطان، إن هذه المدة استطالت الى عام سبعة وعشرين وخمسمائة، أعني مدى ثلاثة أعوام، بويع من بعدها عبد المؤمن بيعته العامة، وذلك حين أعلن موت الإمام المهدي. ثم يقص علينا ابن صاحب الصلاة بعد ذلك قصة الحيلة، التي دبرها عبد المؤمن ليقنع الموحدين ببيعته، وهي تتلخص في قصة الطائر والشبل، اللذين دربهما خفية، خلال هذه المدة، الطائر على أن يدعو له بالخلافة، والشبل على أن

يجلس بين يديه وادعاً هادئاً. ثم دعوته بعد ذلك الأشياخ الموحدين إلى مجلسه، واستشارتهم في أمر من يتولى الخلافة، ودعاء الطائر له بنطقه " العز والتمكين للخليفة عبد المؤمن أمير المؤمنين " ومثول الشبل بين يديه، رابضاً مطيعاً لإشارته، وتأثر الحاضرين بذلك ومبايعتهم له (¬1). بيد أنه بغض النظر عما يطبع هذه الرواية من مبالغة، وجنوح إلى الأسطورة، فإنه توجد لدينا أكثر من رواية وثيقة تؤيد القول، بأن بيعة عبد المؤمن، قد تمت عقب وفاة المهدي، ووفقاً لسابق إشارته. من ذلك ما ذكره أبو بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق، وهو كما تقدم من أصحاب المهدي الأوائل، من أنه عقب وفاة المهدي في يوم الأربعاء أو يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة 524 هـ، بويع الخليفة أعني عبد المؤمن في يوم السبت الأقرب من هذا التاريخ (¬2). وما ذكره في موضع آخر من أنه عقب وفاة المهدي، قام عبد المؤمن بإعلان ذلك النبأ للناس، وعندئذ تقدم إليه أربعة من الصحب، اثنان من الجماعة، وهما عمر بن عبد الله الصنهاجي المعروف بعمر أصناك، وأبو إبراهيم إسماعيل، واثنان من أهل خمسين هما عبد الرحمن بن زكو، ومحمد ابن محمد، وبايعوه على ما بايعوا عليه المهدي، ثم تبعهم سائر الناس حتى دخل الليل، واستمرت البيعة ثلاثة أيام متواليات (¬3). ويأخذ صاحب " الحلل الموشية " بمجمل هذه الراوية، فيقول لنا إنه " لما توفي المهدي، تفاوض بقية أصحابه وهم أربعة، بمن يكون إمامهم بعده، فوقع اتفاقهم على عبد المؤمن، لما كانوا يشهدونه من تعظيم المهدي له، بمحضر أصحابه وجميع الموحدين، ويقبل عليه، ويستبشر بكلامه، فاتفقوا عليه وقدموه " (¬4). وكذلك يذكر لنا صاحب روض القرطاس أن المهدي بويع يوم الخميس الربع عشر من رمضان سنة 524 هـ، ويصف هذه البيعة، بالبيعة الخاصة التي بايعه فيها عشرة من أصحاب المهدي. وأما البيعة العامة فقد وقعت وفقاً لقوله في ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 45 أو 66 أ). وراجع رواية ابن صاحب الصلاة في روض القرطاس ص 119 و 120. (¬2) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 83. (¬3) كتاب أخبار المهدي بن تومرت ص 85، والمعجب ص 108، ويورد المراكشي اسمين آخرين مع عمر أصناك، هما عمر بن مرزاك، وعبد الله بن سليمان. (¬4) الحلل الموشية ص 107.

20 من ربيع أول سنة 526 هـ، بعد وفاة المهدي بنحو عامين بجامع تينملّل (¬1). وفضلا عن ذلك، فإن لدينا رواية المراكشي، وهو أيضاً من مؤرخي الموحدين، وهي رواية مفصلة واضحة، خلاصتها أن ابن تومرت استدعى قبل موته بأيام يسيرة، أصحابه من الجماعة وأهل خمسين، وهم من قبائل متفرقة لا يجمعهم إلا اسم المصامدة، فلما حضروا بين يديه، نهض متكئاً، وخطب فيهم فذكرهم بما كان عليه السلف الصالح، من الثبات في الدين، والعزيمة في الأمر، وما حدث من بعدهم من ظهور الفتنة، التي أضحى فيها العالم متجاهلا مداهناً، يقصد بعلمه الملوك، ويجتلب الدنيا، وكيف أن الله سبحانه قد خصهم بتأييده، وحقيقة توحيده، وهداهم بعد الضلالة؛ ثم حذرهم من الفرقة واختلاف الكلمة، وأن يكونوا على عدوهم يداً واحدة، ثم أعلن لهم اختياره، عبد المؤمن لخلافته قائلا في تزكيته " وهذا بعد أن بلوناه في جميع أحواله، من ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه، واختبرنا سريرته وعلانيته، فرأيناه في ذلك كله، ثبتاً في دينه، متبصراً في أمره ". وأنه على أثر ذلك قام القوم بمبايعة عبد المؤمن. ودعا لهم ابن تومرت، ومسح وجوههم وصدورهم. ثم توفي ابن تومرت بعد عهده بيسير، واجتمع أمر المصامدة على عبد المؤمن (¬2). وهكذا يبدو أن عبد المؤمن، تلقى بيعته عقب وفاة المهدي، وربما قبيل وفاته، وفقاً لرواية المراكشي، وليس من المستبعد أن يكون عبد المؤمن وأصحابه قد كتموا موت المهدي حيناً، حتى يجتنب الخلاف، ويستوثق الأمر؛ ذلك أنه لما توفي المهدي، أخذ كل زعيم، وكل قبيلة، تتطلع إلى اجتناء تراث المهدي، برياسة الموحدين، واشتد التنافس بينهم في ذلك، فخشي الجماعة والخمسون، أن يفسد الأمر، وأن تضطرم الفتنة، فاجتمعوا وتفاوضوا، ووقع اختيارهم على عبد المؤمن. وكان عبد المؤمن في الواقع، منذ البداية أرجح القوم مكانة، إذ كان أوثقهم صلة بالمهدي، وأشدهم اختصاصاً به، واستئثاراً بحبه وثقته، وكان يُنسب للمهدي قوله فيه وإنشاده كلما رآه: تكاملت فيك أوصاف خصصت بها ... فكلنا بك مسرور ومغتبط السنُّ ضاحكة والكف مانحة ... والصدر متسع والوجه منبسط (¬3). ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 121. (¬2) المعجب ص 108 و 109. (¬3) المعجب ص 110، ويقول ابن خلكان إن هذين البيتين ينسبان إلى أبى الشيص الخزاعي الشاعر المشهور (وفيات الأعيان ج 2 ص 391).

وفضلا عن ذلك كله فقد كان عبد المؤمن، غريباً بأصله وقبيلته عن المصامدة، ولم يكن له بينهم قبيل ولا طائفة، فكان ذلك مما شجع القوم على اختياره، اجتناباً لكل منافسة وخلاف (¬1). أما عن أصل عبد المؤمن ونسبه، فإن الرواية تختلف أيضاً، فهو وفقاً لرواية أبى بكر الصنهاجي، عبد المؤمن بن علي بن عَلْوي بن يعلي بن علي بن حسن ابن نصر بن الأمير بن نصر بن مقاتل بن كومي بن عون الله بن ورجايغ بن ينفر ابن مراو بن مطماط بن صطفور بن نفور بن رجيك بن يحيى بن هزرح بن قيس ابن عيلان. ثم يقول لنا أبو بكر معلقاً على هذا النسب، إنه صحيح حتى مقاتل ابن كومي بن عون الله، وأما ما ورد بعد ذلك من الأسماء إلى قيس بن عيلان ففيها اختلاف وتصحيف وتقديم وتأخير (¬2). وينتمي عبد المؤمن إلى قبيلة كومية، وهي بطن من بطون زناتة، وذلك سواء من أبيه أو أمه، إذ هي كومية أيضاً، فهو بذلك بربري الأصل، وحسبما تدلى بذلك أيضاً نسبته. ولكن عبد المؤمن هو خليفة المهدي، وهو أمير المؤمنين، وإذاً فلا بد أن يكون له - حسبما حدث في شأن المهدي - نسبة عربية أولا، ثم لابد أن تكون هذه النسبة متصلة بآل البيت. ومن ثم فإن الرواية تقول لنا إنه من ولد سليم بن منصور بن قيس بن عيلان بن مضر. وأما كيف تحولت نسبته العربية إلى النسبة البربرية، فهو أن جَدًّا من أجداده العرب، نزل بساحل تلمسان، فارًّا من بعض الفتن بالأندلس، وجاور بعض أحياء مطماطة، إخوة زناتة، فنسب بذلك إليهم بالجوار والحلف. وفي رواية أخرى أن نسبته ترجع مباشرة إلى آل البيت بانتسابه إلى جدته كنونة بنت إدريس بن إدريس بن عبد الله بن القاسم بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وإلى كنونة هذه أيضاً يرجع نسبة أمه تعلو بنت عطية، فهو إذن، وفقاً لهذه النسبة سليل آل البيت عن طريق أبيه وأمه (¬3). وقد كان عبد المؤمن نفسه، حسبما يروى لنا المراكشي، ينكر نسبته البربرية، ويقول إذا ذُكرت كمية (كومية) " لست منهم وإنما نحن لقيس عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. ولكُمية علينا حق الولادة بينهم، ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 119، وابن خلدون ج 6 ص 229. (¬2) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 21 و 22. (¬3) المعجب ص 109، وروض القرطاس ص 119.

والمنشأ فيهم، وهم الأخوال ". ويزيد المراكشي على ذلك، أنه أدرك من أولاد عبد المؤمن وأحفاده، من ينتسبون لقيس عيلان بن مضر (¬1). وكما نُسجت حول ابن تومرت ودعوته، واختيار القدر له ليكون مهدي آخر الزمان، هالة من الأساطير، لتؤكد قدسيته وصدق رسالته، فكذلك نسجت مثل هذه الهالة حول عبد المؤمن وخلافته للمهدي، لتؤكد أن القدر قد اختاره، كما اختار المهدي منذ الأزل، ليقوم بهذه الرسالة. وقد أورد لنا ابن القطان بعض ما ذكره أبو القاسم المؤمن في كتابه المسمى " فضائل الإمام المهدي "، من أقوال وأمارات للتدليل على صدق رسالته. ومن ذلك أنه جاء في كتاب أبى عبد الله الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين، الحض على الإيمان بالمهدي وطائفته، وذكر عبد المؤمن بن علي القيسي، وأنه هو الذي وعد بالنصر والتأييد والفتح. ويقول أبو القاسم، ان ذلك قد ورد أيضاً في كتاب يحيى بن زيد، وفي كتاب القاسم الأكبر، وفيه جميع ما ذكر من فضائل الإمام المهدي، وعلاماته ومواضعه ورجاله، والخليفة الآخذ عنه. وقد شرح ذلك كله صاحب كتاب " النصر" إدريس بن إدريس، وأورد لتأييده أحاديث عديدة. ثم ينقل إلينا ابن القطان بعد ذلك قول ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد في أرجوزة نظمها بعد ذكر " المهدي " ووفاته (¬2)، حيث يقول: ويرجع الأمر إلى عدنان ... لماجد قد خص من عيلان رب الفتوح صاحب الملاحم ... وقامع الأعراب والأعاجم وقول عبد الملك بن حبيب: صاحب المهدي يأتي بعده ... خيرة الأعراب طرا والعجم أقبل الملك به من نعته ... أشيب اللحية ليس بالهرم وأنه قد ورد ذلك أيضاً في بعض الأراجيز القديمة، وفيها شرح صفاته وأفعاله وفتوحه. ويزيد أبو القاسم المؤمن على ذلك كله أنه رأى بالقدس في رباط للنصارى اسم المهدي منقوشاً على رخامة بيضاء، كما رأى اسم عبد المؤمن خليفته، وأنه أي ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 109. (¬2) المقصود هنا " المهدي " بصفة عامة، وليس المهدي بن تومرت، لأن ابن عبد ربه قد عاش قبل المهدي ابن تومرت بنحو قرنين.

أبو القاسم ذكر ذلك للإمام المهدي، فأمر بكتمانه حتى يحين الوقت الذي يكون فيه ظهوره (¬1). وهكذا نرى كُتاب الدولة الموحدية ومؤرخيها يجدون في تقصي الأساطير، ونسجها حول إمامة المهدي ابن تومرت، وحول خلافة عبد المؤمن، حتى تتخذ الدعوة الموحدية، ومن بعدها الخلافة الموحدية، مكانتها من الرسوخ والقدسية. وكان مولد عبد المؤمن في آخر سنة 487 هـ (أول سنة 1095 م) بموضع يعرف بتاجرا على مقربة من مرسى هنين شمالي تلمسان، وقيل إنه ولد سنة 490 هـ، أو سنة 500 هـ (¬2). ويبدو سقم هذه الرواية الأخيرة، إذا ذكرنا أن عبد المؤمن قد لقي المهدي ابن تومرت عقب عوده من المشرق إلى المغرب في سنة 512 هـ، وكان يومئذ شاباً، ولم يكن غلاماً حدثاً. وكان والد عبد المؤمن فخّاراً يصنع الآنية من الطين، وهي المعروفة بالنوابيخ، وكان بالرغم من ضعته رجلا عاقلا محترماً من قومه (¬3). ويذكر لنا البيذق أن والد عبد المؤمن كان بالعكس قاضياً في زمانه وفي قومه (¬4). ونشأ عبد المؤمن منذ البداية محباً للقراءة والدرس، يلازم المساجد لتلاوة القرآن، ولما بلغ نحو العشرين من عمره، اعتزم الرحلة إلى المشرق ليتابع الدرس، وقد رأينا فيما تقدم كيف التقى هو وعمه بملالة على مقربة من بجاية بمحمد بن تومرت، وكان يومئذ يقود حملته المعروفة ضد المنكر، وكيف آنس فيه ابن تومرت نجابة وذكاء، وشعر أنه سوف يغدو أعظم معاونيه، وكيف استطاع أن يقنعه بالبقاء إلى جانبه يطلب العلم على يديه، ويعاونه فيما هو قائم به " من إماتة المنكر، وإحياء العلم، وإخماد البدع ". كان ذلك في أوائل سنة 512 هـ. وقد بقي عبد المؤمن من ذلك التاريخ إلى جانب ابن تومرت، ولازمه واختص به، يؤازره في دعوته، ويشاطره مصيره أينما حل، حتى كان من أمر ابن تومرت ما سبق ذكره من اشتداد دعوته الدينية ضد المرابطين، ثم التجاؤه وصحبه إلى تينملّل، وإعلانه أنه هو المهدي المنتظر، ومبايعة أصحابه وفي مقدمتهم عبد المؤمن له على ذلك. ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 53 ب و 54 أ). (¬2) الأولى هي رواية المراكشي (ص 109)، والثانية والثالثة أوردهما ابن خلكان في الوفيات (ج 2 ص 391). (¬3) ابن خلكان ج 2 ص 391، وروض القرطاس ص 119. (¬4) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 27.

وقد رأينا فيما تقدم. كيف كان عبد المؤمن، إلى جانب أبى محمد البشير، أعظم قادة الموحدين. وكيف أنه عقب هزيمة البحيرة الساحقة (أوائل سنة 524 هـ) ومقتل البشير، استطاع أن يجمع فلول الموحدين وأن ينقذها من الفناء المحقق، وأن يقودها بالرغم من مطاردة المرابطين إلى تينملل، وكيف أن المهدي، وقد كان في مرض موته، حينما أبلغ أمر الهزيمة، سأل عن عبد المؤمن، ولما علم بأنه سالم، قال لأصحابه " الحمد لله قد بقي أمركم ". - 1 - لم تخب فراسة المهدي في تلميذه وصاحبه الأثير، وخليفته من بعده، فقد شاءت العناية الإلهية أن يغدو عبد المؤمن مؤسس دولة الموحدين الحقيقي، وأن يقود الموحدين إلى ميادين النصر الباهر، وأن يحقق لهم سلطان الإمبراطورية الموحدية الكبرى في المغرب والأندلس. قضى عبد المؤمن بعد توليه الخلافة زهاء عام ونصف، ينظم شئون الموحدين ويؤلف قلوبهم، ويحشد جموعهم، ويستنفرهم إلى الجهاد. ولما كملت أهباته، اعتزم أن يستأنف الجهاد لمقاتلة أعداء الدولة الموحدية - المرابطين - وافتتاح البلاد من أيديهم، وإرغامهم على الطاعة، واستقر رأى الموحدين بعد البحث والتشاور على أن تكون أولى غزاتهم لقصبة تادلة في وادي درعة (¬1). فخرج عبد المؤمن من تينملّل في شهر ربيع الأول (وقيل في شوال) سنة 526 هـ (يناير سنة 1132 م) في جيش ضخم من الموحدين، قوامه ثلاثون ألف مقاتل، وسار أولا إلى قلعة تازاجورت، وكانت تدافع عنها حامية مرابطية بقيادة يدِّر بن ولجوط، فاقتحمها واستولى عليها، وسبى أهلها (¬2). وفي رواية أخرى أن قائد تازاجورت المرابطي كان يدعى يحيى بن مريم، وأن عبد المؤمن قتله وقتل معه نحو عشرين ألفاً من المجسمين، وأسر زوجته ميمونة بنت ينتان بن عمر، وصحبها معه إلى الجبل، حتى افتديت فيما بعد بمن كان من أسرى الموحدين في تلمسان (¬3) وسار عبد المؤمن ¬_______ (¬1) إن تادلة التي يذكرها بهذه المناسبة صاحب الحلل الموشية (ص 107)، وروض القرطاس (ص 121)، وابن خلدون (ج 6 ص 229) ليست هي بلدة تادلا الواقعة شمال شرقي مراكش، ولكنها هي المحلة الحصينة الواقعة شرقي وادي درعة، وذلك حسبما يستدل من سير الحملة الموحدية والمواقع التي استولت عليها، ومنها مدينة درعة. (¬2) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 85. (¬3) هذه رواية ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 70 أ).

بعد ذلك إلى درعة، واستولى عليها وعلى أحوازها، ثم غزا سائر محلات تلك المنطقة وعاد إلى تينملّل. وافتتح الموحدون في هذا العام حصن تاسغيموت، وهو حصن منيع يقع فوق الجبل، وبه حامية من هزرجة، فتواطأ معهم الموحدون على فتحه، واستطاعوا أن يدخلوه ليلا، وقتلوا واليه المرابطي أبا بكر بن وارصول ومن معه من المرابطين، وحملوا بابه الحديدي الضخم، وركب فيما بعد على سور تينملل. وكذلك افتتح الموحدون في نفس العام حصن جلاوة، افتتحه الشيخ أبو حفص عمر وجماعة من وجوه الموحدين، ودخلوه عنوة وقتلوا كل من فيه. وكان أهل جلاوة هم الذين جرحوا المهدي في إحدى غزواته، وقام الخليفة من ناحيته بافتتاح حصن هزرجة وأحرقه، وقتل معظم أهله. ثم دخل بلدة جشجال، وأحرقها أيضاً، وسار منها إلى أرض غجدامة، وافتتح بلدة أجلاحال. ودخل في هذا العام في طاعة الموحدين، بعض بطون من هزرجة وهسكورة، ثم ارتدوا وعادوا إلى الخروج والعصيان (¬1). ولما عاد عبد المؤمن إلى تينملل، كانت قد وقعت خلال غيبته في تلك الغزوة حادثة خطيرة، كادت تحدث صدعاً في صفوف الموحدين لو لم تخمد في المهد، وذلك أن أبا عبد الله بن يَعْلي الزناتي، الشهير بابن مَلْوية، وهو أحد أصحاب المهدي العشرة، وكان من أشد المعارضين لبيعة عبد المؤمن، انتهز فرصة ابتعاد عبد المؤمن بالجيش، وسار إلى مراكش، وتفاهم مع أمير المسلمين علي بن يوسف على مهاجمة تينملّل، وسحق حكومة الموحدين، فعهد إليه علي بن يوسف بقوة من المرابطين، فسار بها إلى تاماذاجوست مجمع قبيلة كنفيسة على مقربة من تينملّل، لكي يضمها إليه، ويسير بقواته المجتمعة لتدمير العاصمة الموحدية، وكان بتينملل عبد الله بن وسيدّرن أحد زعماء كنفيسة، فجمعهم فأعلنوا تمسكهم بالعهد الذي قطعوه للمهدي، ونعوا على ابن ملوية تلك الخيانة، وفي الحال قام واحد من أهل خمسين هو أبو سعيد يخلف بن الحسن آتيكي ومعه غلامه، وسار إلى محلة ابن ملوية في أسفل الجبل، وقتلاه، وحملا جثته إلى تينملل وصلبت بها، وأخمدت المحاولة في المهد. ولما عاد عبد المؤمن شكر لكنفيسة إخلاصها، وقسم الغنائم. ثم هبط ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 71 أ).

ثانية إلى الوادي، واستولى على أراضي صنهاجة القريبة (أصناجان) وولى عليها علي بن ناصر، وهو أحد زعمائها ومن أهل خمسين (¬1). ويضع ابن القطان في أخبار هذا العام - سنة 526 هـ - حادثاً من نوع خاص، هو انضمام الفلاّكي الأندلسي، وهو من قادة المرابطين، إلى الموحدين. وكان الفلاّكي حسبما تقدم أندلسي من أهل إشبيلية، وكان في بداية أمره شقياً وقاطع طريق، يتسم بالجرأة والشجاعة، ثم تاب وسلك سبيل الاستقامة، فعفا عنه والي إشبيلية، وقدمه على الرماة والرجّالة. ونمى خبره إلى علي بن يوسف، فاستقدمه إلى مراكش، وقدّمه على فرقة من الجند المرابطين، وعهد إليه بحراسة مخارج جبل دَرَن التي يهبط منها الموحدون إلى السهل لكي يعيق سبيلهم. ثم وجهه إلى السوس لمكافحة الموحدين، ووالي السوس حينئذ وانودين بن سير، فجد الفلاّكي في محاربة الموحدين ومكافحتهم. ثم فسد ما بينه وبين علي بن يوسف، فانضم إلى الموحدين مع طائفة من جنده، وأخذ يغير على حصون لمتونة، ويفعل بها مثلما كان يفعل من قبل بقواعد الموحدين، وأخذ يغير على جهات السوس وأغمات. واستمر في خدمة الموحدين مدى أعوام، ثم ارتد بعد ذلك، وفقاً لقول ابن القطان (¬2). بيد أنه لا يذكر لنا ماذا كان مصيره بعد هذا الارتداد. ومن جهة أخرى، فإن بعض الروايات تضع انضمام الفلاكي إلى الموحدين في تاريخ لاحق - في سنة 535 هـ - أي بعد التاريخ الذي يقدمه لنا ابن القطان بنحو تسعة أعوام (¬3). وفي العام التالي، أعني في سنة 527 هـ أعلنت بيعة عبد المؤمن الخاصة، وعقدت بيعته العامة، وذلك إذا أخذنا برواية كتمان وفاة المهدي مدلا ثلاثة أعوام، وهي حسبما تقدم رواية ابن صاحب الصلاة وابن القطان. ويضع ابن القطان هذا الحادث سهواً في أخبار سنة تسع وعشرين وخمسمائة، ومن الواجب لكي يكون متفقاً مع سابق روايته أن تكون سنة سبع وعشرين. ويقول لنا إنه في هذه السنة، ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 85، هذا ويروي لنا ابن القطان أن ابن ملوية قتل في سنة 518 هـ في مناسبة سابقة، خلاصتها أنه حينما قام المهدي بتدبير اغتيال قبيلة هزميرة وسبي نسائهم، ونهب أراضيهم، اعترض ابن ملوية، ونعى عليه هذا التصرف الدموي، وأنه لا يتفق مع ما يدعيه من العصمة، فأمر المهدي بقتله فقتل وصلب على الفور (نظم الجمان المخطوط لوحة 47 ب). (¬2) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره لوحة 39 ب و 75 أ). (¬3) هذه رواية صاحب الحلل الموشية (ص 83)، وربما كان هذا الانضمام المتأخر من جانب الفلاكي إلى الموحدين، هو انضمامه الثاني لا الأول.

كان الإعلان بموت المهدي والإعلان ببيعة الخليفة أمير المؤمنين، ثم يعلق على ذلك بعبارات رنانة يقول فيها: " فرفع الغطاء، وسطع الضياء، وبهرت الشمس ما دونها من السحاب، وتبلج الحق واضحاً بغير حجاب "، وبايعه الصحب على ما بايعوا عليه " الإمام المهدي"، واتصلت البيعة ثلاثة أيام " فأشرقت الأرض بنور إمامته، ونال أهلها عظيم حظوته وكرامته ". وعلى أثر ذلك اتخذ عبد المؤمن لقب " أمير المؤمنين "، والظاهر أنه لم يكن يلقب به قبل ذلك (¬1). ويوجد شىء من التناقض والغموض حول أعمال عبد المؤمن وحركاته في بضعة الأعوام التالية، من سنة 528 إلى سنة 532 هـ. ويقدم إلينا ابن القطان بعض التفاصيل عن حوادث هذه الفترة، فيقول لنا في أخبار سنة 528 هـ، إن الموحدين اشتبكوا مع المرابطين بقيادة ابراهيم بن يوسف المعروف بابن تاعياشت في معركة هزم فيها المرابطون وقتل قائدهم. ثم ينقل إلينا عن ابن الراعي، خبر فتح الموحدين لمدينة تارودانت. فيقول إنه لما استولى الموحدون على سائر بلاد السوس، ارتد المرابطون منهزمين إلى تيونوين، وعندئذ سار " العلج الأعرج " (والغالب أنه الربرتير الذي سوف يأتي ذكره) من أجرفرجان، فاقتحم طريق ايغيران في غفلة من الموحدين، وسبقهم بمن معه، فأتبعهم الموحدون حتى وصلوا إلى بلاد السوس. وكان العلج في نحو أربعمائة فارس، فلما وصل تيونوين، وعلم بمقدمه من كان قد فر إلى الأطراف من أهل السوس، هرعوا إلى الالتفاف حوله. ونقتبس هنا وصف ما تلا من أدوار المعركة من رسالة كتب بها الخليفة عبد المؤمن ونقلها إلينا ابن الراعي. وفيها يقول الخليفة: " فميزنا عسكراً مباركاً من خيل ورجل، فخرجوا إلى ناحية تارودانت، وبعثنا تلك الليلة سرية إلى أسفل السوس، فقتلوا وغنموا بقراً وغنماً وعبيداً، وسبو ذراريهم، ثم بعثنا سرية أخرى في الليلة التالية إلى بقية تلك الناحية، أعني أسفل السوس فقتلوا مقتلة أكثر من الأولى، وغنموا أكثر مما غنم أصحابهم. "وأما العسكر فقصدوا إلى تارودانت ودخلوها، وفر من كان بها من المرابطين، وقتل الموحدون من وجدوا بها، واستقر الموحدون بالمدينة، وأطلقوا النار في القصب، فارتفعت النار في الهواء. كل ذلك والمرابطون في تيونوين يشهدون ¬_______ (¬1) نظم الجمان (المخطوط السابق لوحة 74 ب و 75 أ) وراجع روض القرطاس عن ابن صاحب الصلاة ص 122.

النيران تحرق أوطانهم. ولما أيقن البربر وغيرهم بعجز العلج، انكسرت قلوبهم، وحقت الهزيمة عليهم ". وفي العام التالي سنة 529 هـ، سار عبد المؤمن لغزو بني ييغز، وذلك لأنهم كانوا قد قتلوا أبا محمد عبد العزيز الغيغائي من أصحاب الإمام المهدي، فلما نزل الخليفة على أحيائهم، وضعوا الأحطاب على ظهور الجمال، وأضرموا فيها النار، ودفعوها نحو محلة الموحدين، فوقع الهرج في المحلة الموحدية، وسار بنو ييغز في أثر جمالهم وهاجموا الموحدين، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة. وحاول رجلان من بني ييغز أن ينفذا إلى خيمة عبد المؤمن وأن يقتلاه، ولكن عبد المؤمن كان قد غادر خباءه تحوطاً وحذراً، فأخذ الرجلان وقتلا. وقضى عبد المؤمن في تلك الغزوة أربعين يوماً ثم قفل عائداً إلى تينملل. ويضيف ابن القطان إلى ما تقدم نقلا عن ابن صاحب الصلاة، أن عبد المؤمن كان قد وجه إلى بني ييغز بعض اخوانهم المجاورين لهم، لينصحوهم وينذروهم، وأن مساعيه في ذلك السبيل قد كللت بالنجاح، إذ انقاد بنو ييغيز وأذعنوا، ودخلوا في طاعة الموحدين. وهذا يفسر لنا النتيجة السلبية التي انتهت إليها معركة بني ييغز ضد الموحدين (¬1). ويحدثنا اليسع عن موقعة نشبت بين المرابطين والموحدين في سنة 530 هـ، فيقول إن عبد المؤمن سار في قواته إلى أجرفرجان ومصكروطن، فخرج إليه سير بن علي بن يوسف، ولي العهد يومئذ، في القوات المرابطية. ولبث عبد المؤمن حيناً معتصماً بالجبال يطاول العدو، ثم التقى الفريقان في مصكروطن. فهزم المرابطون، واستولى الموحدون على مقادير عظيمة من أسلابهم، من المال والسلاح (¬2). ومن جهة أخرى فإن البيذق أبا بكر الصنهاجي، مؤرخ الموحدين المعاصر، فيما يسطره لنا من غزوات عبد المؤمن يؤكد لنا عقب كلامه عن غزوة صنهاجة، أن الخليفة التقى مع الإبرتير وتاشفين، وفتح الله عليه في محاربتهم في البداية. وهذه أول مرة يلتقي فيها عبد المؤمن بجيش مرابطي يقوده الأمير تاشفين بن علي. وقد ذكرنا فيما تقدم من أخبار تاشفين، أنه لبث والياً على الأندلس، وقائداً للجيوش المرابطية بها حتى سنة 531 هـ (أو سنة 532 هـ)، وأنه عبر في أواخر ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره). (¬2) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 78 ب).

سنة 532 هـ إلى المغرب استجابة لدعوة أبيه، وذلك حينما تفاقمت هجمات الموحدين، وكثرت هزائم المرابطين. وإذن فلابد أن يكون هذا اللقاء الأول بين الموحدين، وبين الجيوش المرابطية بقيادة تاشفين قد وقع على الأقل في أوائل سنة 533 هـ. والواقع أن ابن القطان يقص علينا خبر موقعة حدثت في سنة 533 هـ بين المرابطين بقيادة الأمير تاشفين بن علي والربرتير وبين الموحدين، فيقول إن الخليفة عبد المؤمن تحرك في هذا العام من تينملل، ونزل في بلد بني ملول من منانة في أراضي حاحة، ونزل تاشفين بقواته في تاحكوط من حاحة، وكان علي بن يوسف قد قتل أعيان قبيلة منانة، فدخلت في طاعة الموحدين، ثم ارتدت غير مرة، فأقام عبد المؤمن في بني ملول شهراً وثلاثة أيام، وهو يغير على تلك الأحياء، ويقتلهم قتلا ذريعاً. ثم استولى على سائر أسلابهم من الحلي والثياب والأقوات وغيرها؛ وسار بعد ذلك إلى أحياء بني واجدزان، ثم إلى أحياء بني سوار من منانة الجبل، وقصد بعد ذلك إلى أجرفرجان، فتبعه تاشفين في قواته، وهنالك نشبت بين الفريقين معركة شديدة، هزم فيها المرابطون وقتل منهم عدد جم. ثم تجدد القتال بعد ذلك، فانهزم تاشفين مرة أخرى، وارتد إلى جهة الميزتابوت، واستولى الموحدون على أسلابه من السلاح والثياب والدواب والعبيد. وهرعت قوات جزولة من مراكش إلى مكان الموقعة لنجدة المرابطين، وطمعت في أن تنتزع الغنائم من الموحدين، فرتب لها عبد المؤمن الكمائن في مضايق الجبل، وقدم الغنائم بين يديه اجتذاباً لها، وخرجت جزولة، وهاجمت ساقة الغنيمة وقتلت بعض حراسها، فخرجت إليها الكمائن الموحدية وأمعنت فيها قتلا حتى أفنتها، واستولت على سائر أسلحتها ودوابها، وكانت جزولة تضم آلافاً من الفرسان والرجالة، وارتد عبد المؤمن صوب بلاد جنفيسة ظافراً. وجاء في رواية أخرى أن عبد المؤمن أراد أن يبني حائطاً في أضيق موضع من الجبل ليحول دون انصراف المرابطين حتى يهلكوا في تلك الهضاب، فأحس تاشفين بمشروعه، وارتد بقواته صوب مراكش، وتركته جزولة عند أحياء رَجراجة، فتصدت لها قوة من الموحدين، بقيادة الشيخ أبى حفص أصناج، ففتكت بها، واستاقت من خيلها إلى تينملل ثلاثة آلاف قسمت على الموحدين، ثم عادت جزولة بعد ذلك، فمالت إلى التوحيد، ودخلت في طاعة الموحدين (¬1). ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف الذكر لوحة 81 ب إلى 82 ب).

ويتفق ابن عذارى مع ابن القطان في حدوث الموقعة في سنة 533 هـ، ولكنه يقدمها إلينا في صورة أخرى، فيقول إن القوات المرابطية كانت بقيادة الأمير تاشفين، ومنهم جملة وافرة من قبائل جزولة، وإن اللقاء وقع بين المرابطين وبين عبد المؤمن في موضع ببني ملول، وان موقعة عظيمة نشبت بين الفريقين، في مفاوز وجبال ضيقة، استمرت شهراً وثلاثة أيام، ثم انجلت عن هزيمة تاشفين. فطارده عبد المؤمن حتى موضع يسمى إيمران تانورت. ويزيد ابن عذارى على ذلك، بأن أبناء جزولة رغبوا في الرجوع إلى بلادهم، فأذن لهم تاشفين، ونصحهم ألا يسلكوا طريق الجبال الوعرة، حتى لا يتعرضوا لمهاجمة الموحدين، ولكن جزولة لم يصغوا إلى نصحه. وكان عبد المؤمن قد رتب كمائنه في هذا الطريق الجبلي، فما كادت جزولة تسلك هذا الطريق، حتى انقض عليها الموحدون وفتكوا بهم فتكاً ذريعاً، واستولوا على نسائهم وخيلهم وسلاحهم، واستاقوهم إلى تينملل. ثم رغب أشياخ جزولة بعد ذلك في مسالمة الموحدين، والدخول في طاعتهم، فأصدر لهم عبد المؤمن أماناً وظهيراً بذلك (¬1). وفي سنة 534 هـ خرج تاشفين بجيش ضخم من لمتونة والحشم وزناتة، لقتال الموحدين ومعه فرقة من النصارى المرتزقة بقيادة " الإبرتير "، واستمرت المعارك بينه وبين الموحدين زهاء شهرين. ووقعت المعركة الأخيرة بينهما في شوال من هذا العام، وقتل فيها كثير من الفريقين. وعلى أثر ذلك ارتد تاشفين إلى مراكش وعاد الموحدون إلى تينملل (¬2). ويبدو من أقوال البيذق أنه قد وقعت في ذلك الوقت معارك أخرى، بين المرابطين والموحدين، بأرض " حاحة " غربي تينملل، وشمالي السوس الأدنى بموضع يسميه البيذق " تيزغور "، وأن الموحدين انتصروا أولا وأحرزوا بعض الغنائم، ولكن المرابطين استطاعوا أن يحاصروا الموحدين بعد ذلك بهذا الموضع زهاء ستين يوماً، حتى استنفد الموحدون غنائمهم. ثم نشبت بعد ذلك بين الفريقين موقعة جديدة، هزم فيها الموحدون أولا، ثم انقلبت الآية ووقعت الهزيمة على المرابطين. وعلى أثر ذلك ارتد تاشفين في قواته إلى مراكش، ومعه ¬_______ (¬1) ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة التي سبق ذكرها - هسبيرس ص 103)، وكذلك في القسم الثالث من البيان المغرب (نسخة تامجروت التي نشرت في تطوان ص 11). (¬2) ابن عذارى في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر (هسبيرس ص 104 و 105).

زميله قائد الروم المسمى " الإبرتير " جريحاً، وارتد عبد المؤمن في قوات الموحدين إلى تينملل (¬1). ويجدر بنا قبل الكلام عن المعارك التي اضطرمت بين الفريقين في تلك الفترة، والتي كان يشترك فيها " الإبرتير " قائد الروم باستمرار، أن نذكر كلمة عن هذا القائد النصراني. إن الإبرتير أو الربرتير (¬2) حسبما تسميه الرواية العربية، هو بالإفرنجية El Reverter أو Roberto، هو في الأصل سيد (فيكونت) من أشراف برشلونة، حدث بينه وبين أميرها برنجار رامون نزاع، فنزعه ألقابه وأمواله، فغادر برشلونة، وعبر البحر إلى المغرب، والتحق بخدمة الأمير علي بن يوسف. ونحن نعرف أن علي بن يوسف، كان يضم إلى حرسه الخاص، فرقة كبيرة من المرتزقة النصارى، وقد كانت هذه الفرقة الأجنبية تشترك إلى جانب الحشم، أو جند الحرس الخاص، في كثير من المعارك، وتبدي في القتال براعة وبسالة، وتعرف الرواية العربية هذه الفرقة " بالجند الروم "، وتذكر أعمالها في مواطن كثيرة. فلما وفد الربرتير، أو الكونت روبرتو، على بلاط مراكش، عهد إليه علي بن يوسف بقيادة حرسه من النصارى، لما آنسه من براعته وشجاعته. ويقول ابن صاحب الصلاة في وصف الربرتير " أنه كان من أكبر الطغاة بالأندلس نجدة وظهوراً متصلة " (¬3). وظهر الربرتير في الواقع في معظم المعارك التي اضطرمت بين المرابطين والموحدين. وترك الربرتير عند مقتله ولدين، اعتنق أحدهما الإسلام، وتسمى باسم على الربرتير، واشتهر فيما بعد بمشاركته في حوادث ميورقة والجزائر الشرقية حسبما نذكر في موضعه. ويبدو مما يذكره لنا البيذق، وابن عذارى أيضاً، أن الربرتير، هو الذي كان يقود الجيوش المرابطية في المعارك التي وقعت بين المرابطين والموحدين في أراضي كَدْميوَه والسوس، في ذلك العام أو في العام التالي، وتفصيل ذلك، هو أن الربرتير، التقى بقواته مع الموحدين بقيادة عبد المؤمن أولا في مكان يسمى ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 86. والبيان المغرب في الأوراق المخطوطة (هسبيرس ص 105). (¬2) ويسميه ابن الأبار " الربرتير "، ويقول إنه كان علماً لبني تاشفين من كبار قوادهم، وأبطال رجالهم كانت له في الحروب مقاوم شهيرة (الحلة السيراء ص 197 و 198). (¬3) ابن عذارى في القسم الثالث البيان المغرب (نسخة تامجروت) ص 16.

أمسيميصي، وهو يقع في أراضي كدميوه، شمال تينملّل، ولم تقع بين الفريقين موقعة حاسمة، فارتد كل منهما إلى أراضيه. ثم عاد الربرتير فخرج في قوات لمتونة، وخرج عبد المؤمن للقائه، فالتقيا بموضع يسمى آجظرورر، فهُزم المرابطون، وقتل منهم عدد جم، وارتد الربرتير في فلوله جريحاً إلى مراكش، وعاد الموحدون إلى تينملل. ويضع البيذق وكذلك ابن عذارى تاريخ هذه الموقعة في سنة 535 هـ (¬1). وخرج عبد المؤمن بعد ذلك في قواته إلى أرض السوس، وهاجم حصن تنلين، وكان يدافع عنه حاكمه المرابطي يرجين بن ويدّرن، فبدأ الموحدون بحصاره، ولكن قدمت القوات المرابطية عندئذ بقيادة الربرتير، فغادر الموحدون الحصن، ودخلوا أرض السوس، واستولوا تباعاً على إيرمناد ميمون، وتاسلولت ثم على تارودَنت قاعدة السوس الأدنى، ثم على حصن تيونوين. وهزم اللمتونيين في كل المواقع التي نشبت، واستولى الموحدون خلال ذلك على كثير من الغنائم، وسبوا النساء، وعادوا بالغنائم والأسرى إلى تينملّل. وكان من الحوادث التي وقعت في تلك الغزوة، وفقاً لرواية صاحب الحلل الموشية أن الفلاّكي الأندلسي انضم بمن معه إلى الموحدين (¬2)، وقد سبق أن ذكرنا أن هذا الانضمام قد وقع في تاريخ سابق، قبل ذلك بعد أعوام. وفي نفس الوقت هاجم الربرتير محلة تيغيغايين الموحدية، وسبى نسائها، وفي جملتهن زوجة يعزّي بن مخلوف, وأخذهن معه إلى مراكش، ولما عاد عبد المؤمن بالسبايا إلى تينملل، خاطبته تماجونت ابنة الوزير ينتان بن عمر، وكانت بين الأسرى، وذكرته بما قام به والدها ينتان من الشفاعة في المهدي، وقت أن كان بمراكش، وحرض الفقهاء عليّ بن يوسف على التنكيل به، وناشدته أن يسرحها هي وسائر النساء اللائي معها، فاستجاب عبد المؤمن إلى ضراعتها، وأطلق النساء، وبعثهن إلى مراكش معززات مكرمات، فبادر علي بن يوسف من جانبه، بإطلاق سراح نساء تيغيغايين، وفي مقدمتهن زوجة يعزّي بن مخلوف، وأرسلهن كذلك في أمن وكرامة إلى تينملل. وكان هذا عمل فروسية مشكورة من الجانبين (¬3). ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 87، وابن عذارى في الأوراق المخطوطة (هسبيرس ص 105). (¬2) الحلل الموشية ص 83. (¬3) راجع كتاب المهدي ابن تومرت ص 87 و 88.

- 2 - لبثت المعارك التي تضطرم بين المرابطين والموحدين، منذ وفاة المهدي ابن تومرت زهاء عشرة أعوام، منحصرة في مناطق الأطلس، جنوبي مراكش، في وادي درعة وبلاد السوس، وفي بلاد حاحة من أحواز تينملل، وقد كان النصر حليف الموحدين في معظم هذه المعارك. بيد أن انحصار الصراع في هذا النطاق المحدود من الإمبراطورية المرابطية، لم تترتب عليه أية نتائج حاسمة، ومن ثم فقد كان لزاماً على الموحدين أن ينقلوا مسرح الصراع إلى قلب الإمبراطورية المرابطية، حتى يتاح لهم أن يضربوها في الصميم. وأن يقضوا عليها القضاء الأخير. وهذا ما اعتزمه عبد المؤمن في الواقع، واستدعى من أجله سائر حشود الموحدين، من كل صوب وقبيل. وفي سنة 535 هـ (1140) خرج من تينملل بعد أن استخلف عليها صهره أبا عمران موسى بن سليمان، في جيش ضخم، يضم مجموعة كبيرة من الفرسان والرجّالة، وسار في طرقات الجبل نحو الشمال الشرقي. ويفصل لنا البيذق، وقد كان من شهود هذه الحملة الكبيرة، خط سير الجيش الموحدي، فيقول لنا إن عبد المؤمن سار أولا إلى موضع يسمى وانزال، ثم إلى موضع يسمى وفاد، وسار من وفاد إلى أشبار، وهي محلة تقع على مقربة من جنوب شرقي مراكش. وفي تلك الأثناء خرج جيش المرابطين بقيادة تاشفين من مراكش، فغادر الموحدون أشبار إلى مكان قريب يقع في الشمال الشرقي، ويسمى تاساوت، ولحق المرابطون بأشبار. ثم غادر الموحدون تاساوت إلى دمنات الواقعة شرقي مراكش، على قيد نحو سبعين كيلومتراً منها، وسار المرابطون في نفس الوقت إلى يمللُّو الواقعة شمال شرقي دمنات. ولم تقع خلال ذلك معارك ذات شأن بين الفريقين، ولكن القبائل والعشائر الواقعة في طريق الموحدين، كانت تدخل في طاعتهم تباعاً، واستمر الموحدون في مسيرهم شمالا بشرق حتى واويزغت، ثم إلى داي الواقعة جنوب تادلا. ووقعت خلال ذلك بين الفريقين معركة محلية في موضع يقال له تيزي، انتهت حسبما يقول البيذق بهزيمة " الفئة الباغية " أي المرابطين. ولما وصل الموحدون إلى داي، فر حاكمها المرابطي على بن ساقطرا، واستولى عليها الموحدون دون مقاومة. وأعلن من كان بها من

صنهاجة بيعتهم للموحدين، وطالبوا عبد المؤمن بالافراج عمن كان معه من أسرى صنهاجة، فأجاب مطلبهم. وسار الموحدون بعد ذلك حتى تازاجارت، وكان يدافع عنها حاكمها المرابطي يحيى بن ساقطرا، فاقتحموها، واستولوا على خيلها وغنائمها، واقتحموا من بعدها قلعة واوْما، وكان يدافع عنها يحيى بن سير، واستولوا عليها، ثم استمروا في سيرهم حتى آزروا، التي تقع في قلب منطقة فازاز على قيد نحو مائة كيلومتر من شمالي شرقي تادلا، فدخلوها ونزلوا بها. وبعث عبد المؤمن، بضعة فرق من جيشه لتخضع الأنحاء المجاورة فقامت بمهمتها، وعادت إلى آزور، وأرسل في نفس الوقت بعض الأشياخ إلى تينملل يحملون إليها أخبار الحملة، وليطمئنوا على أحوالها. ودخل أهل فازاز جميعاً في طاعة الموحدين (¬1). وغادر عبد المؤمن والموحدون آزور شمالا نحو فاس التي تبعد عنها زهاء ستين كيلومتراً. وكان تاشفين قد وصل في تلك الأثناء في القوات المرابطية ومعه الربرتير إلى فاس. ويصف لنا صاحب البيان المغرب سير الجيشين على هذا النحو في قوله: " كان الموحدون يمشون في الجبال المانعة حيث الأرزاق الواسعة، وكان تاشفين ينزل البسائط بعساكره، فما يجد من البرابر من يداخله ولا من يستعين به، فيواصله، وذلك بسبب إدباره إلى أن استقر عبد المؤمن بالجبال المجاورة لجهة فاس المعروفة بكراندة، ونزل تاشفين بحصن بالموضع المذكور " (¬2). وهكذا عسكرت الجيوش المرابطية والموحدية، كل منها على مقربة من فاس عاصمة المغرب القديمة، وكان ذلك حسبما يستخلص من أقوال البيذق، وابن عذارى، في أواخر سنة 535 هـ (1141 م). وكان الوقت شتاء، والشتاء قاسياً، والمطر ينهمر بشدة. والظاهر أن المرابطين لم يحتاطوا لقسوة الطقس فعصف بهم البرد، وأقاموا شهوراً دون حطب ولا فحم، حتى أنهم اضطروا لحرق أوتاد أخبيتهم، وخشب أبنيتهم، ومات كثير منهم من البرد. وفي أثناء ذلك خرجت القوات المرابطية من فاس ومكناسة، ومعها المؤن والميرة، تقصد إلى محلة المرابطين، ولكنها اختلفت أثناء الطريق واقتتلت، ففر البعض منها، وسار ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 89 و 90. (¬2) القسم الثالث من البيان المغرب (نسخة تامجروت) ص 12. وراجع أيضاً الحلل الموشية ص 96 و 97.

أحد قادتها. وهو يحيى بن علي، هو ومن معه إلى محلة الموحدين، وسلموا، واعترض الموحدون قوة أخرى منها يقودها ابن ولجوط على طريق مكناسة، وفتكوا بها، وقتلوا معظمها واستولوا على ما معها من المؤن والعتاد. وعبر الموحدون بعد ذلك إلى جبال الأطلس الوسطى، وهاجموا القواعد المرابطية في غريس الواقعة جنوب آزروا، وتودجا الواقعة شمال سجلماسة، وسيطروا على وادي مَلْوية الواقع في شرق آزروا، ودخل القادة المرابطون في تلك الأنحاء في طاعتهم. ولما شعر والي سجلماسة المرابطي أبو بكر بن صارة، باقتراب الموحدين من قاعدته، خرج إليهم، وقصد عبد المؤمن، وأعلن خضوعه، فتقبل منه ذلك عبد المؤمن، وصرف النظر عن مهاجمة سجلماسة، وعاد إليها واليها (¬1). وفي أواخر سنة 535 هـ، وأوائل سنة 536 هـ (صيف سنة 1141 م) نرى عبد المؤمن وجيوشه الموحدية تندفع نحو الشمال في غزوات مستمرة، تستغرق بضعة أعوام، وتشتبك مع الجيوش المرابطية المختلفة، في معارك متعاقبة، في أواسط المغرب وشماله، وقد بدأت هذه المعارك منذ المحرم من العام المذكور، حيث خرجت قوة موحدية بقيادة عبد الرحمن بن زجّو أحد أهل خمسين، وهاجمت صفرو واقتحمتها، واستولت على غنائمها. ثم لحقت ببقية الجيش الموحدي في جهة الفلاج، الواقعة شمال شرقي صفرو. وكان تاشفين قد غادر عندئذ أحواز فاس، وعسكر في جبل العرض الواقع في شرقها. وبعث الربرتير قائد الجند النصارى في قوة إلى الفلاج. فخرج إليه الموحدون بقيادة يحيى آغوال، ونشبت بين الفريقين معركة، هزم فيها الموحدون وقتل قائدهم، واحتز رأسه وأرسل إلى فاس. وعلى أثر ذلك سار الموحدون نحو أرض غيّاثة الواقعة شرقي فاس، وجنوبي رباط تازة، وهي من أرض زنانة، وضربوا محلتهم بها فوق جبل عفرا، وسار المرابطون في نفس الوقت إلى موضع في السهل يسمى النواظر، يقع على مقربة من جبل عفرا من ناحية تازا. وهنا دخل الشتاء بقره. وكان شتاء قاسياً توالت فيه الرياح العاصفة، والأمطار الغزيرة، بضعة أسابيع، فأغرقت السهول واكتسحت الوديان والقرى، وقاسى منها العسكران أيما عناء وشدة، وكان وقعها على ¬_______ (¬1) كتاب المهدي ابن تومرت ص 90.

المرابطين في السهل أشد وأنكى، حيث تساقطت الخيام، وعامت أوتادها لرخاوة الأرض، وغرقت الدور، ومات كثير من المرابطين برداً وجوعاً، وعزت الأقوات والوقود في المعسكرين، وبلغ سعر الشعير وفقاً لقول البيذق في معسكر الموحدين " ثلاثة دنانير للسطل، وبلغ الحطب عند تاشفين ديناراً للرطل "، ولم ترفع هذه الغمة إلا حينما دخلت طوالع الربيع، وكان ذلك حسبما يحدثنا البيذق سنة ست وثلاثين وخمسمائة (أوائل سنة 1142 م) (¬1). هذا ما يقوله لنا البيذق عن حملة الموحدين إلى غياثة، فهو أولا يضع تاريخها في سنة 539 هـ، وهو ثانياً لا يذكر لنا أنه قد وقعت هنالك أية معارك بين الموحدين والمرابطين، وإنما وقعت بعد ذلك في أماكن أخرى. ولكن ابن القطان يقدم إلينا رواية أخرى تختلف عن رواية البيذق اختلافاً بيناً، وهو أولا يضع تاريخها في سنة 532 هـ، ثم يقول لنا إنه لما نزل الموحدون بجبل غياثة خرج إليهم سير بن علي بن يوسف في القوات المرابطية، ونزل بجراندة عند وادي أبى جلوا، وهنالك وافته حشود المغرب بقيادة عبد الله بن يحيى بن تيفلويت، واجتمعت من حشود زناتة قوة أخرى من نيف وخمسة آلاف فارس بقيادة يحيى ابن فانّو، وفي أثناء ذلك وحّد زيري بن ماخوخ من أشياخ زناتة، ولحق بعبد المؤمن، وطلب عسكراً يقوده ضد المرابطين، فأسعفه الخليفة بما طلب، وقدم إليه عسكراً تحت إمرة أحد أشياخ الموحدين، فأخذ يهاجم الحشود المرابطية، ويقتل العدد الجم من رجالها، وينتهب سلاحها ومتاعها. ثم توفي قائد عسكر زناتة يحيى بن فانو، فخفله في القيادة ولده محمد. وأرسل زيري إلى إخوانه من مشايخ زناتة يحرضهم على النكث، وأن يعملوا لهزيمة المرابطين. ثم وجه الخليفة قوة موحدية مختارة مع زيري، فقصدت إلى محلة زناتة، وهاجمتها، ونشبت بين الفريقين معركة هزمت فيها زناتة، وانتصر الموحدون. وكان سير بن علي، قد علم أن عبد المؤمن يزمع السير إلى أرض غُمارة، فرتب له في الطريق ألفي فارس، تقيم وتستبدل باستمرار لتعيق سيره، واستمر ذلك مدى شهرين (¬2). ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 91، وابن الأثير ج 10 ص 305. وكذلك ابن عذارى في البيان المغرب (الأوراق المخطوطة السالفة الذكر). (¬2) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره لوحة 79 ب و 80 أ).

وهذا ما يقوله ابن القطان عن حملة غياثة. وربما اختلط عليه القول هنا بأخبار حملة موحدية أخرى. ونحن على أي حال نفضل الأخذ برواية البيذق، وهو معاصر وشاهد عيان. يقول البيذق إنه لما هدأت الرياح، وبدأ الربيع، استأنف الموحدون زحفهم. ويمضي البيذق، وقد كان من شهود هذه الحملة الشهيرة، فيصف لنا سير عبد المؤمن نحو الشمال تفصيلا. وكان أول موضع قصده الموحدون عندئذ، أرض لُكاي الواقعة شمالي شرقي فاس، في منتصف المسافة بينها وبين البحر المتوسط. وهنالك استولوا على قلعة الولجة من حصونها. وسار المرابطون بقيادة تاشفين والربرتير في أثر الموحدين، وحاولوا تطويقهم في أرض بني سلمان، ولكن الموحدين أحبطوا هذه الحركة بالسير إلى أرض بني غُمارة، من بطون صَنهاجة، الذين انضموا إليهم، ودخلوا في طاعتهم، ثم جازوا منها إلى أرض لُجاية. وعندئذ سار تاشفين والربرتير إلى أرض بني تاودا ونزلوا بها، فكان بينهم وبين الموحدين نهر ورغة وواديه .. وهنا خرج الربرتير في قوة مختارة من المرابطين والجند النصارى، واشتبك مع الموحدين في موضع يقال له تازغدرا، في معركة عنيفة، قتل فيها كثير من الفريقين، ثم ارتد الربرتير إلى بني تاودا، وسار الموحدون إلى تاغزوت، ثم إلى بني مزكلدة، ثم إلى إيلانة ثم إلى أيجن على مقربة من القصر الكبير. وسار تاشفين والربرتير في أثر الموحدين حتى موضع قريب من المعسكر الموحدي يسمى " نهليط ". وفي أيجن مرض عمر أزناج (أصناك) أحد الجماعة العشرة، ولما شعر بدنو أجله، قام فوعظ الموحدين وعظاً طويلا، وحثهم على طاعة الخليفة عبد المؤمن، ثم توفي مساء ذلك اليوم. وسار الموحدون بعدئد إلى تامقريت، ثم إلى وادي لو، أرض بني سعيد، وسار الربرتير في أثرهم حتى وصل إلى تيطاوين (تطوان)، فارتد الموحدون نحو الشمال حتى قلعة باديس الواقعة على شاطىء البحر المتوسط، ودخل في طاعتهم أهل تلك الأنحاء، ثم ساروا بعد ذلك إلى ثغر المزمّة (¬1)، في شرقي باديس ونزلوا به أياماً، هبت عليهم فيها رياح شديدة، كادت أن تهلك دوابهم، فسماها عبد المؤمن تاغزوت، ثم أقلع عنها إلى جبل تمسامان (¬2). ¬_______ (¬1) المزمة هي التي تسمى في الجغرافية الحديثة محرفة " الحُسيمة " Alhucemas. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 92 و 93، والبيان المغرب في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر.

خريطة: المغرب مواقع غزوة عبد المؤمن الكبرى سنة 535 هـ - 540 هـ.

وهنا يقص علينا البيذق قصة غريبة، خلاصتها أنه قد وفد عندئذ على الخليفة عبد المؤمن أخوه إبراهيم، فغمره الخليفة بإكرامه، وأعطاه الخيل والعبيد والخباء، وأنزله في موضع محمد بن أبى بكر بن يكيت، وقد كان أبوه ابن يكيت من أصحاب المهدي العشرة، فاستاء لذلك محمد ووثب بإبراهيم فقتله، فغضب الخليفة لمقتل أخيه أيما غضب، وطالب بقتل ابن يكيت، فاعترض عليه أبو حفص عمر اينتي، وابن واجاج، وقالا له، ألم يقل المهدي، " بأن أهل الجماعة وصبيانهم، عبيدهم كل من في الدنيا "، فصمت الخليفة عندئذ، وعدل عن قراره، ولكنه أمر أن يقسم المعسكر الموحدي إلى فرق أو بنود. وأن يكون لكل قبيلة بندها الخاص (¬1). وهنا يلاحظ الأستاذ هويثي بحق " أنه ليس أقطع دليلا من ذلك على التعصب الأعمى، الذي كان يضطرم به الموحدون الأوائل، ويدافعون به عن مزايا وامتيازات نظامهم الديني " (¬2). وفي أثناء ذلك خرج عبد الرحمن بن زجّو في قوة من الموحدين، وزحف على ثغر مليلة، واقتحمه، وحصل على غنائم كثيرة، كان من بينها مائة بكر، قسمها عبد المؤمن على أعيان الموحدين، فتزوجوهن، وبقيت منهن أميرتان، هما فاطمة بنت يوسف الزناتية، وابنة ماكسن بن المعز صاحب مليلة، فأخذ الشيخ اسماعيل أبو ابراهيم أحد العشرة فاطمة، وأخذ الخليفة بنت ماكسن. ثم رحل الموحدون بعد ذلك إلى ندرومة وبلاد كومية، قبيلة عبد المؤمن، فدخلت جميعاً في طاعة الموحدين. وسار الموحدون بعد ذلك إلى تاجرا الواقعة على البحر شرقي مليلة، فنزلوا بها (¬3). وكان الجيش الموحدي قد تضخم عندئذ، ودخل في طاعة الموحدين، عدد كبير من القبائل والبطون الشمالية. ومن تاجرا خرجت ثلاث قوات موحدية، الأولى بقيادة عبد الرحمن بن زجّو، وقد سارت شمالا بشرق، وهاجمت ثغر وهران، واقتحمته واستولت على غنائمه، والثانية بقيادة الشيخ أبي إبراهيم، وقد سارت إلى أرض بني وانوان واستاقت غنائمها، وخرجت الحملة الثالثة بقيادة ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 93 و 94. (¬2) راجع: A. Huici Miranda: Historia Politica del Imperio Almohade (Tetuan 1956) V. I. p. 126 (¬3) البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 106).

يوسف بن وانودين، وسارت إلى جبل مديونة من أحواز تلمسان، فخرج إليها المرابطون من نلمسان بقيادة أبى بكر بن الجوهر، ومحمد بن يحيى بن فانّو، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة في وادي الزيتون، هزم فيها المرابطون، وقتل قائداهما. ووفد على الخليفة عندئذ، عدد من زعماء القبائل المجاورة، وأعلنوا خضوعهم. ثم رحل الخليفة من تاجرا إلى تيفسرت من أرض مديونة، وخرجت عندئذ قوة موحدية بقيادة الشيخ أبى حفص عمر اينتي ويصلاصن بن المعز إلى العيون من أراضي قبيلة صاء غربي وجدة، وغلبت على قبائل تلك الناحية، وهم أربعة، واستولت على غنائمهم. وكانت الجيوش المرابطية بقيادة تاشفين والربرتير، قد ارتدت عند دخول الشتاء إلى مراكزها في فاس، وبقي الموحدون في مراكزهم في أحواز تلمسان. - 3 - وفي تلك الأثناء تطورت الحوادث بمراكش تطوراً خطيراً، فقد توفي أمير المسلمين علي بن يوسف، في السابع من شهر رجب سنة 537 هـ (يناير سنة 1143 م)، وكانت حوادث الأعوام الأخيرة من حكمه، وما توالى فيها من محن وخطوب، ترتبت على قيام المهدي ابن تومرت، وتوالى ظفر الموحدين، وهزائم الجيوش المرابطية، قد فتت في عضده، وحطمت قواه، وأذكت آلامه المعنوية، فتوفي غماً وألماً، وهو يشهد نذر النهاية المروعة جاثمة في الأفق. فكتم نبأ وفاته ثلاثة أشهر حتى السابع من شوال، ثم أعلنت بعد ذلك ولاية ولده أبى محمد تاشفين، وكان أبوه قد قلده ولاية عهده، وبويع بها منذ سنة 533 هـ (1138 م) حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل في موضعه (¬1). وكان علي بن يوسف خير أمراء الدولة المرابطية، بعد أبيه العظيم يوسف. ونستطيع أن نعتبر حكمه، الذي امتد سبعة وثلاثين عاماً مذ ولي الملك بعد وفاة أبيه في المحرم سنة 500 هـ، هو عصر الدولة المرابطية الحقيقي، بعد أن توطدت ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب (الأوراق المخطوطة هسبيرس ص 107) والحلل الموشية (ص 90)، والزركشي في تاريخ الدولتين (ص 5). ولكن ابن الخطيب يذكر لنا في الإحاطة أن علي بن يوسف توفي في السابع من ربيع (؟) (سنة 537 هـ) ولم يشهر موته إلا في الخامس من شوال (الإحاطة، مخطوط الإسكوريال لوحة 292).

دعائمها في المغرب والأندلس، وفي أوائل عهده، وصلت الدولة المرابطية إلى ذروة قوتها وضخامتها، بيد أنه سرعان ما ظهرت حركة المهدي ابن تومرت حتى انقلبت الآية، وأخذ الانحلال يسري إلى ذلك الصرح الشامخ، وأخذت الدولة المرابطية، تسير سراعاً إلى قدرها المحتوم. ومما يؤثر عن علي بن يوسف، أنه كان أول من استخدم النصارى في الجيش المرابطي. وقد بدأ في ذلك حينما وقع تغريب النصارى المعاهدين بالأندلس في سنة 521 هـ (1127 م)، حيث استخدم جماعة من الذين قضى بتغريبهم في حرسه الخاص، وكان ما أبداه أولئك الجند النصارى من الغيرة والإخلاص، مشجعاً له على التوسع في استخدامهم، واستقدامهم من شبه الجزيرة، ودعوة أنجادهم من الفرسان، وهكذا انتظمت في الجيش المرابطي فرقة أو فرق خاصة من المرتزقة النصارى. وفي أواخر عهد علي، عهد بقيادة هذه الفرق الأجنبية إلى الفارس القسطلاني الإبرتير أو الربرتير كما تقدم، وأخذت تقوم بدور هام في المعارك التي كانت تضطرم يومئذ بين المرابطين والموحدين. ويقول لنا صاحب البيان المغرب أن علياً كان يؤثر أولئك الجند النصارى، ويمكن لهم، وكانوا في ظل هذه الرعاية الخاصة يتعالون على المسلمين، ويفرضون عليهم المغارم. ولما اضطربت الأمور في أواخر عهد علي، أهمل الجند المسلمين، وعجز الأمير عن الإنفاق عليهم، حتى كان أكثرهم يكرون دوابهم (¬1). ومما يذكره لنا ابن عذارى في هذا الصدد أيضاً، أن أمير المسلمين علياً، حينما رأى توالي فشل ولده تاشفين في محاربة الموحدين، ساءه ذلك، وعزم على إقالته، وأن يقدم مكانه ولده إسحاق، وكتب بالفعل إلى عامله على إشبيلية عمر، بالقدوم، ليجعله مدبر ولده، وكان ذلك في سنة 536 هـ. بيد أنه يبدو أنه لم يجد متسعاً من الوقت لتحقيق هذا العزم، إذ توفي بعد ذلك بأشهر قلائل (¬2). وكان من الأحداث البارزة في أواخر عهد علي، السيل العظيم الذي وقع بطنجة، في سنة 532 هـ، وقد اكتسح معظم دورها وصروحها، وهلك فيه عدد عظيم من الناس، والدواب (¬3). ثم الحريق الكبير الذي وقع في العام التالي بسوق ¬_______ (¬1) البيان المغرب، في الأوراق المخطوطة التي سبقت الإشارة إليها. (¬2) البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة المشار إليها - هسبيرس ص 105). (¬3) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 103).

مدينة فاس (533 هـ)، وتلفت من جرائه طائفة كبيرة من الدروب التجارية، وهلكت فيه أموال جليلة، وافتقر كثير من الناس (¬1). وكان منها أيضاً، أنه في سنة 535 هـ، هاجرت جموع عظيمة من أهل المغرب، من مختلف نواحيه، إلى الأندلس. وهذا ما يذكره لنا ابن عذارى نقلا عن ابن حمادة. والظاهر أن ذلك كان راجعاً إلى توالي ظفر الموحدين على المرابطين، وتوجس أنصار المرابطين وأوليائهم مما قد يؤول إليه الأمر من انهيار سلطان المرابطين بالمغرب (¬2). وعلي بن يوسف هو الذي وسع مدينة مراكش، وعمرها، ونظم خططها، حتى غدت أضعاف ما كانت عليه عند إنشائها، وأنشأ بها الجامع، والقصر المرابطي، ونظم سقايتها، وأدار أسوارها، حتى غدت في عصره حاضرة عظيمة (¬3). وتنوه الرواية بخلال علي بن يوسف، وتصفه بأنه كان ملكاً عظيماً، عالي الهمة، رفيع القدر، فسيح المعرفة عظيم السياسة (¬4)، وكان فوق ذلك ورعاً متعبداً، يحب العلماء ويؤثر مجالسهم (¬5). بيد أنه لم يكن في ذلك صنو أبيه العظيم في الاقتصار على الاسترشاد بآرائهم دون خنوع واستسلام، بل كان يخضع لأهوائهم، ويترك لهم الكلمة العليا. وقد رأينا ما كان في استسلامه لهم، من الحجر على حرية الفكر، ومطاردة كتب الغزالي وإحراقها، لما كانت تتسم به من إيثار لعلم الأصول، وقد كان هذا من أكابر أخطائه، ومن دلائل استسلامه لأهوائهم وتعصبهم. وكان البلاط المرابطي في عهد علي بن يوسف، يزدان سواء في المغرب أو الأندلس بعدة من أكابر الكتاب، وأعلام البلاغة في ذلك العصر. وكان في مقدمة هؤلاء أبو بكر بن القصيرة المتوفى سنة 508 هـ، وقد كتب عن يوسف ابن تاشفين، ثم عن ابنه علي، وأبو القاسم ابن الجد المعروف بالأحدب، وأبو بكر بن عبد العزيز البطليوسي، المعروف بابن القبطُرنة، وأخواه أبو الحسن ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط السابق ذكره). (¬2) البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 105). (¬3) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 5. (¬4) ابن الخطيب في ترجمة علي بن يوسف في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 292). (¬5) المعجب للمراكشي ص 99، والحلل الموشية ص 61.

وأبو محمد، وأبو عبد الله بن أبى الخصال وأخوه أبو مروان، وأبو محمد عبد المجيد بن عبدون وزير بني الأفطس السابق (¬1). وأبو جعفر أحمد بن محمد ابن عطية القضاعي، وقد خدم تاشفين بن علي من بعد أبيه، ثم انتقل فيما بعد إلى خدمة عبد المؤمن حسبما يجىء (¬2). وكان أنبههم وآثرهم لدى علي بن يوسف، أبو عبد الله بن أبى الخصال المتوفى سنة 540 هـ. وقد كان من أعظم علماء العصر وكتابه وبلغائه. وكان اجتماع هذه الجمهرة من أعلام البلاغة في البلاط المرابطي، أثر من آثار قصور الطوائف، التي امتازت بحشد أقطاب الكتاب والأدباء من وزرائها، وأغدقت عليهم حمايتها ورعايتها. وكان على قد استوزر في أواخر عهده، إسحق بن ينتان بن عمر بن ينتان، وكان فتى حدثاً لم يجاوز الثامنة عشرة من عمره، ولكنه كان يتوقد ذكاء وفطنة وعزماً، فأعجب به علي، وولاه خطة المظالم والشكايات، فأبدى في منصبه براعة وكياسة، فانتفع به الناس وأحبوه، وكان حسبما تصفه الرواية " مثل كاهن يأتي بعجائب الأخبار " (¬3). هذا، وأما عن شخصه، فإن الرواية تصف علي بن يوسف، بأنه كان أبيض اللون، مشرباً بحمرة، حسن القد، صبوح الوجه، أفلج، أقنى، أكحل العينين، سبط الشعر (¬4). وكان لعلي من الولد الذكور، أحد عشر، ولكنه لم يترك من أولاده الأحياء بعده سوى ولي عهده وخلفه تاشفين. أما ولده الأكبر سير، فكان قد توفي قبل وفاته بمدة طويلة، وكذلك توفي أولاده الآخرون قبل وفاته، ومنهم ولده أبو بكر، وقد كان والياً بالأندلس. وفي رواية أنه قد غُرِّب بأمر أبيه إلى الصحراء حينما اعترض على تعيين أخيه تاشفين لولاية الأندلس، وفي أخرى أنه أصيب إصابة أقعدته، فحُمل على أعناق الرجال حتى الجزيرة، ولكنه سجن هناك حتى توفي، واشتد ألم أبيه على فقده. ¬_______ (¬1) المعجب ص 96، والإحاطة (1956) ج 1 ص 529. (¬2) الإحاطة (1956) ج 1 ص 270. (¬3) البيان المغرب (في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر - هسبيرس ص 107)، والحلل الموشية ص 61. (¬4) روض القرطاس ص 102.

- 4 - وكانت دولة المرابطين في تلك الأعوام الأخيرة من حكم علي بن يوسف، قد اضطربت أحوالها واهتزت أسسها، وفقدت كثيراً من قواعدها وأراضيها، وسادت الفوضى في كل ناحية، وساءت الأحوال الاقتصادية من توالي الحرب، وعزت الأقوات والموارد، وارتفعت كلفة العيش، وعانى الناس مشقات وشدائد. وما كاد علي بن يوسف يختفي من الميدان، حتى وقع ما هو أخطر، من تصدع الجبهة المرابطية وتفرق كلمتها. وذلك أن الخصومة قد اضطرمت بين قبيلتي لمتونة ومسّوفة وهما دعامتا العصبة المرابطية، وخرج عدة من زعماء مسّوفة على حكومة مراكش، ورأوا، أن يلوذوا بحماية الموحدين، فسار منهم يحيى ابن تاكفت، وبرّاز بن محمد، ويحيى بن إسحاق المعروف بأنجمار. حاكم تلمسان السابق، في صحبهم وأتباعهم، إلى محلة الموحدين، وقدموا طاعتهم إلى عبد المؤمن، وكانت هذه ضربة جديدة لتاشفين بن علي، فاشتد الاضطراب في الجبهة المرابطية، ووغرت صدور اللمتونيين على مسوفة، وأخذ يتربص بعضهم ببعض، ويقتل بعضهم بعضاً. وكان ممن انشق على تاشفين في تلك الفترة، بني ومانّو من بطون زناتة، وقدّم أشياخهم طاعتهم إلى عبد المؤمن، فبعثهم مع بعض قواته إلى بلادهم، فأعلنوا طاعتهم جميعاً للموحدين. ولما علم تاشفين بخروج بني ومانّو، وجه إليهم عسكراً على رأسه الرّبرتير، فسارع الموحدون إلى إنجادهم، وتحصن بني ومانّو ببعض التلال، فصعد إليهم المرابطون، يحاولون اقتحام مراكزهم، ولكنهم ردوا المرابطين على أعقابهم. وعلى أثر ذلك سار جيش موحدي بقيادة ابن وانودين، وابن زجّو، وابن يومور، إلى بلاد بني عبد الواد وبني يلومي وهم من أنصار المرابطين، وعاث في تلك المنطقة، واستاق كثيراً من الغنائم، ولكن فاجأته حين العودة قوة من المرابطين من زناتة واستولت على معسكر الغنائم، وقتلت كل حراسه وهم من بني ومانّو وعددهم ستمائة رجل، وتحصن الموحدون بجبل هنالك، وسار عسكر المرابطين إلى موضع يسمى منداس بلد بني يلومي من بطون زناتة، فاجتمع إليه بني يلومي، وعدة أخرى من البطون. ولما علم عبد المؤمن بما حدث، سار بقواته من أحواز تلمسان إلى أرض يلومي، وكان الأمير تاشفين قد قدم في نفس الوقت إلى تلمسان، وحشد فيها

عسكراً، وأرسله على عجل إلى محلة المرابطين في منداس، وكذلك انضم إليهم الرّبرتير في قواته، واجتمعت بذلك للمرابطين حشود ضخمة. فلما شعر عبد المؤمن بتفوق خصومه، لجأ إلى خطة حربية جديدة مبتكرة، هي خطة المربع الموحدي الذي اشتهر فيما بعد، وأضحى عماد خطط الدفاع الموحدية في الميدان المكشوف، وقد وصف لنا ابن اليسع خلاصة هذه الخطة، نقلا عن بعض الموحدين فيما يلي: " أن تُصنع دارة مربعة في البسيط يجعل فيها من جهاتها الأربع صف من الرجال بأيديهم القنا الطوال، والطوارق المانعة، ومن ورائهم أصحاب الدروق والحراب صفاً ثانياً، ومن ورائهم أصحاب المخالي فيها الحجارة صفاً ثالثاً، ومن وراء هؤلاء الرماة صفاً رابعاً. وفي وسط المربعة، ترابط قوى الفرسان ". يقول ابن اليسع " فكانت خيل المرابطين إذا دفعت إليهم، إلى الموحدين، لا تجد إلا الرماح الطوال الشارعة، والحراب والحجارة والسهام ياسرة. فحين ماتوا من الدفع وتدبر، وأخرج خيل الموحدين من طرق تركوها، وفرج أعدوها، فتصيب من أصابت، فإذا كرت عليهم دخلوا في غاب القنا " (¬1). وهكذا فإنه حينما نشب القتال بين المرابطين والموحدين في منداس، ظهرت آثار الخطة الدفاعية الموحدية واضحة في عجز المرابطين على تفوقهم في العدد والعدة، عن النيل من خصومهم. وبالعكس فقد أثخن الموحدون في خصومهم، وردوهم الكرة بعد الكرة بخسائر فادحة، واستمر القتال على أشده ثلاثة أيام. وفي اليوم الرابع أحرز الموحدون على خصومهم. نصراً باهراَّ، واحتووا على محلتهم، ومحلات حلفائهم من بني يلومي وغيرهم، واستولوا على غنائم فادحة، تقدرها الرواية بثلاثين ألفاً من الغنم، واثني عشر ألفاً من البقر. بيد أنه حينما ارتد عبد المؤمن بغنائمه صوب الصخرتين من أحواز تلمسان، اعترضه الربرتير في قواته، وهاجمه بشدة واسترد معظم الغنائم، وقتل من كومية قبيلة عبد المؤمن نحو أربعمائة رجل. ثم سار في قواته وغنائمه إلى تلمسان، فانضم هناك إلى قوات الأمير تاشفين (¬2). وفي خلال ذلك الصراع المرير الذي استغرق قوى المرابطين، وصل إلى ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 98. (¬2) البيان المغرب (القسم الثالث نسخة تامجروت) (تطوان 1963) ص 15.

مياه سبتة أسطول نورماني ضخم قوامه مائة وخمسون سفينة، وأغار أولئك النورمان (المجوس) على سبتة، محاولين اقتحامها، فخرجت إليهم سفن المرابطين بقيادة أمير البحر ابن ميمون، ووقعت بين الفريقين معركة بحرية عنيفة، غرقت فيها من الجانبين سفن عديدة، وقتل من الفريقين خلق كثير. وكان ذلك في سنة 538 هـ (¬1). ودل ذلك الحادث على أن القوات البحرية المرابطية، كانت ما تزال، بالرغم مما حدث في داخل المغرب، يقظة ساهرة، على حراسة الشواطىء والثغور المغربية المرابطية. ووقع بعد ذلك بقليل حادث كان له في مركز المرابطين أسوأ الأثر هو مصرع الرّبرتير قائد " الروم ". وتختلف الرواية في شرح هذا الحادث وفي تفاصيله. ويقدم إلينا البيذق رواية خلاصتها، أن عبد المؤمن وجه حشود جزولة لقتال الربرتير، وكانوا بموضع يسمى " بكيرس "، فسار الربرتير في قواته للقائهم، وكانت جزولة تحتمي وراء خندق، فاستطاعوا أن يردوا الربرتير، فولى عنهم مهزوماً، وكتب إلى عبد المؤمن كتاباً يسدي فيه النصح، ويقول إن جزولة، قد غدروا بإخوانهم، وهم بلا ريب سوف يغدرون بك، وعندئذ عمد عبد المؤمن إلى تجريدهم من خيلهم وسلاحهم، ثم قتلهم جميعاً إلا الصبيان الصغار، واستولى على غنائمهم. فلما علم الربرتير بذلك قرر أن يسير لمهاجمة الموحدين، واستخلاص الغنائم منهم، فلم يعترض تاشفين على رغبته، ولكنه لم يسر معه، والتقى الربرتير بالموحدين في موضع يسمى " تاكوط آن تيفسرت " ونشبت بينه وبين الموحدين معركة عنيفة هلك فيها هو ومعظم جنده، ولم يسلم من عسكره حسبما يحدثنا البيذق سوى ستة، ثلاثة من الروم، وثلاثة من المرابطين، يذكر لنا البيذق أسماءهم. وكان ذلك في سنة 539 هـ (1144 م) (¬2). ويذكر لنا ابن عذارى من جهة أخرى مصرع الربرتير في جملة موجزة يقول فيها " في سنة تسع وثلاثين خرج قائد الروم بعسكره، ومعه عسكر لمتونة والحشم، فهزمهم الموحدون، وقتل القائد المذكور". وهذا ما ورد في الأوراق المخطوطة التي بين أيدينا من البيان المغرب. ولكن ابن عذارى يحاول فيما بعد، أن ينقل تفاصيل مصرع الربرتير عن ابن صاحب الصلاة، وذلك في القسم ¬_______ (¬1) البيان المغرب (الأوراق المخطوطة - هسبيرس ص 108). (¬2) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 96.

الثالث من كتابه، بيد أن ما نقله في ذلك قد سقط من نسخة " تامجروت " وهي التي تغدو مرجعنا منذ الآن فصاعداً (¬1). ويقدم إلينا ابن خلدون عن مصرع الربرتير رواية ثالثة يقول فيها، إن تاشفين بعث الربرتير في عسكر ضخم فأغار على بني سندم وزناتة الذين كانوا في بسيطهم، وعاد بالغنائم، فاعترضه الموحدون، ونشبت بين الفريقين معركة قتل فيها الربرتير وجنده (¬2). ولما رأى الجند النصارى مصرع عميدهم، ورأوا أنهم لا يستطيعون بعد أن يعملوا لتدعيم إمبراطورية أصبحت وشيكة الانهيار، تفرقوا تباعاً، وغادر الكثير منهم المغرب إلى اسبانيا ومعهم أسرهم وقساوستهم، وساروا إلى طليطلة ملتجئين إلى حماية القيصر ألفونسو ريمونديس (ألفونسو السابع) ملك قشتالة، فأحسن استقبالهم، وأنزلهم بدياره، وحمد لهم تمسكهم خلال الحوادث والخطوب بدينهم وولائهم لمذهبهم (¬3). وعلى أي حال فقد كان مصرع الربرتير وتبدد جنده، ضربة جديدة أصابت الجيش المرابطي، وكان تاشفين في تلك الأثناء قد كتب إلى الأقطار يستدعي الحشود من كل ناحية، فقدم إليه عسكر سجلماسة، وعسكر بجاية بقيادة طاهر ابن كباب الصنهاجي من بني حماد أصحاب إفريقية، ووصل من الأندلس عسكر آخر بقيادة الأمير إبراهيم بن تاشفين، وكان قد قدم إلى أبيه قبل ذلك على أثر موت جده على وزاره بجهة كراندة، فبعثه والده إلى قرطبة لإتمام دراسته بها، ثم استدعاه بعد ذلك فوصل في عسكره إلى تلمسان في أواخر سنة 538 هـ، فولاه أبوه في الحال عهده، واجتمعت الجيوش المذكورة في ظاهر تلمسان، وميزوا، وبرزوا في نظام متقن وهيئة كاملة، وعجب الناس من كثرتهم، وحسن نظامهم، وجمال هيئتهم، بيد أنها كانت آخر حشود يحتفل بها المرابطون (¬4). - 5 - ولما قتل الربرتير وبدد جيشه، غادر الموحدون " تيفسرت " وساروا إلى ¬_______ (¬1) راجع القسم الثالث من البيان المغرب (نسخة تامجروت) ص 16. (¬2) كتاب العبر ج 6 ص 231. (¬3) Simonet: Hist. de los Mozarabes, p. 760 & 761 (¬4) القسم الثالث من البيان المغرب (نسخة تامجروت) ص 15، والحلل الموشية ص 97 و 98.

شمال غربي تلمسان ونزلوا " بالصخرتين " القريبة منها، وكان تاشفين قد أقام محلته في " سطفسيف " القريبة، وكانت المعارك والمناوشات تنشب كل يوم تقريباً بين الفريقين، واستمر ذلك مدة شهرين. ولما وصلت حشود الأقطار إلى تاشفين، خرجت منها حشود بجاية، واشتبكت مع الموحدين في معركة عنيفة في ظاهر " الصخرتين "، فهزمت وقتل منها عدد جم، وبعث قائدها سراً إلى عبد المؤمن، يعده بالتوحيد، وأنه متى افتتح المغرب، فإنه إذا ورد المشرق وجده مفتوحاً كذلك. وعندئذ أدرك تاشفين دقة مركزه، فقرر أن يترك محلته في تلمسان، وغادرها في قواته إلى وهران الواقعة على البحر في شمالها الشرقي. وبعث ابنه وولي عهده إبراهيم إلى مراكش في جماعة من أشياخ لمتونة ومعه كاتبه أحمد بن عطية. وكان تاشفين قد ابتنى في وهران حصناً منيعاً على البحر كي يحتمي به عند الحاجة، ودبر مع قائد أسطوله محمد بن ميمون، أن يوافيه إلى وهران بجناح من الأسطول فقدم ابن ميمون من ألمرية في عدة من السفن، وأرسى قريباً من المعسكر المرابطي ينتظر تطور الحوادث. وكان ذلك في شهر شعبان سنة 539 هـ (يناير 1145 م). وكان المرابطون قبل أن يغادروا محلتهم في سطفسيف إلى وهران قد دبروا كميناً لجيش موحدي يقوده ابن زجّو، ففتكوا به وقتلوا ابن زجّو. فكان ذلك عاملا جديداً في إذكاء سخط الموحدين. وما كاد المرابطون يتحركون نحو الشمال، حتى سار في أثرهم عبد المؤمن في قواته، وبعث في مقدمته الشيخ أبا حفص عمر ابن يحيى الهنتاني (عمر اينتي)، وحشود بني ومانّو من زناتة، فنفذوا إلى بلاد بني يلومي، وبني عبد الواد، وبني ورسيفين، وبني توجين، وكلهم من أنصار لمتونة، وأثخنوا فيهم حتى أذعنوا إلى الطاعة، وسار زعماؤهم إلى عبد المؤمن، وقدموا طاعتهم إليه، فتلقاهم بالقبول، وضمهم إلى قواته (¬1). وأشرف الموحدون على وهران، وعسكروا فوق الجبل المطل عليها. وكان كل شىء ينذر حينئذ بوقوع المعركة الحاسمة. وكان المرابطون يرقبون تحركات الموحدين في وجوم وتوجس وقد غادر عدة من قوادهم المعسكر المرابطي وتركوا تاشفين لمصيره. وشعر الموحدون من جانبهم أن الفرصة المنشودة قد حلت، ففي ذات صباح أطلقوا من فوق الجبال صيحتهم الحربية بصوت واحد ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث (نسخة تامجروت) ص 16، وكتاب العبر ج 6 ص 231.

ارتجت له المحلة المرابطية، وأمر تاشفين جنده بأن يلزموا أماكنهم خيفة الكمين. وعند الظهر سار الموحدون إلى عين الماء التي يشرب منها أهل وهران، فسقوا دوابهم دفعة واحدة، ثم قاد الشيخ أبو حفص قواته، واقتحم المحلة المرابطية، حتى أشرف على مكان خباء تاشفين، وكان موقعه بإزاء الحصن المطل على البحر، فوقع الاضطراب في المعسكر المرابطي، وبارد تاشفين وخاصته ومنهم ابن مزدلي، وبشير الرومي، وصندل الفتى، إلى الالتجاء إلى الحصن، ووقع القتل بين المرابطين، وجمع الموحدون الخشب، وأضرموا النار حول الحصن، وما كاد الظلام يرخي سدوله، حتى كانت ألسنة اللهب قد تعالت، فخشي تاشفين الهلاك، وخرج من الحصن فوق فرسه " ريحانة " يطلب النجاة ويرجو أن تصل إليه بعض قطع أسطوله لتحمله إلى الأندلس، وكان معه صحبه الثلاثة، فسقط صندل في النار واحترق، واستطاع ابن مزدلي أن يجوز إلى أسوار المدينة، ولكنه فقد رشده ومات بعد ثلاثة أيام. وسار تاشفين وبشير إلى مرتفعات الجبل، فقيض لبشير النجاة، ولكن تاشفين، تردت به فرسه تحت جنح الظلام، فسقطت في هوة سحيقة فهلكت الفرس، وهلك تاشفين. وفي الصباح عثر الموحدون على جثة تاشفين في تلك الحافة فصلبوا الجثة، واحتزوا رأسه، وبعث بها عبد المؤمن إلى تينملل، فعلقت في الشجرة التي بإزاء مسجد المهدي. وكان مصرع تاشفين في ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة 539 هـ (22 فبراير 1145 م) (¬1)، وذلك بعد أن قضى في مدافعة الموحدين زهاء خمسة أعوام متوالية، لم يأو فيها إلى مكان. ولم ينعم بهدنة، ولم يتصل بأهل ولا ولد (¬2). وقد أورد لنا ابن الأبار عن مصرع تاشفين رواية أخرى عن أبى علي بن الأشيرى، وقد كان داخل تلمسان حين نزل الموحدون على مقربة منها في سنة 539 هـ، وكان تاشفين عندئذ في ظاهرها في محلاته وجموعه. وخلاصة هذه الرواية، أن تاشفين بعد أن وجه ابنه إبراهيم ولي عهده إلى مراكش خوفاً عليه في شعبان من تلك السنة، وسير معه كاتبه أبو جعفر بن عطية، سار إلى وهران، ولجأ إلى حصن شرع في بنيانه، فقصده الموحدون، وأضرموا النار حوله، ¬_______ (¬1) البيان المغرب، القسم الثالث ص 16 و 17، وأخبار المهدي ابن تومرت ص 98، والحلل الموشية ص 100، وابن خلدون ج 6 ص 231، وابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 462. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 198.

فلما رأى ذلك ودع أصحابه ليلا، واقتحم والنار محتدمة بباب الحصن، فوُجد من الغد ميتاً لا أثر فيه لضربة ولا طعنة، ويقال إن فرسه صرعه. وتتفق هذه الرواية مع الروايات الأخرى في أن مصرع تاشفين وقع في ليلة سبع وعشرين من شهر رمضان سنة 539 هـ (¬1). وأورد لنا المراكشي رواية ثالثة خلاصتها أن تاشفين لما ذهب إلى تلمسان لم يرضه موقف أهلها، فغادرها إلى وهران، فحاصره الموحدون بها، فلما اشتد عليه الحصار، خرج راكباً فرساً شهباء وعليه سلاحه، فاقتحم البحر حتى هلك، ويقال إنهم أخرجوه من البحر وصلبوه ثم أحرقوه (¬2). هذا ويصف لنا ابن الخطيب مصرع تاشفين بن علي في تلك العبارات الشعرية: " واستقبل تاشفين مدافعة جيش أمير الموحدين، أبى محمد عبد المؤمن بن علي خليفة مهديهم، ومقاومة أمر قضى الله ظهوره، والدفاع عن ملك بلغ مداه وتمت أيامه، كتاب الله عليه، فالتأث سعده، وفل جده ولم تقم له قائمة، إلى أن هزم، وتبدد عسكره، ولجأ إلى وهران، فأحاط به الجيش، وأخذه الحصار، قالوا فكان في تدبيره أن يلحق ببعض السواحل، وقد تقدم به وصول ابن ميمون قائد أسطوله لرفعه إلى الأندلس، فخرج ليلا في نفر من خاصته فرقهم الليل، وأضلهم الروع، وبددتهم الأوعار، فمنهم من قتل، ومنهم من لحق بالقطائع البحرية، وتردى بتاشفين فرسه من بعض الحافات، ووجد ميتاً في الغد، وذلك ليلة سبع وعشرين لرمضان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة، وصلبه الموحدون، واستولوا على الأمر بعده، والبقاء لله تعالى " (¬3). وعلى أثر مصرع تاشفين، اقتحم الشيخ أبو حفص بقواته وهران، وأثخن في المرابطين حتى فنى معظهم، والتجأت منهم جماعة إلى الحصن، فحاصرهم الموحدون وقطعوا عنهم الماء حتى أذعنوا إلى التسليم بعد ثلاثة أيام. ومع ذلك فقد قتلهم الموحدون جميعاً كباراً وصغاراً، وكان ذلك في يوم عيد الفطر من سنة 539 هـ. وكانت مذابح وهران هذه، من أفظع المظاهر التي تميزت بها سياسة الموحدين الدموية. ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 197 و 198. (¬2) المعجب ص 112 و 113. (¬3) الإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 461 و 462.

ولما وصل خبر مصرع تاشفين إلى تلمسان، مع فلّ لمتونة، أسرع من كان بها وبضاحيتها القريبة تاجررت من لمتونة، فغادروها هائمين على وجوههم يقصدون إلى فاس وغيرها من الأماكن التي مازالت تحت حكم المرابطين. وكان في مقدمة من غادرها الأمير يحيى بن أبى بكر بن علي المعروف بالصحراوي وهو ابن أخى تاشفين، وكان قد وفد إليها قبل ذلك بقليل في بعض قواته لإنجاد تاشفين. فلما وقعت الكارثة أسرع في فلوله إلى فاس، وامتنع بها، وأخذ ينظم الدفاع عنها. ولم يبق بتلمسان سوى العامة وأهل الحضر، وبادر جماعة من أعيانها في نحو ستين رجلا إلى لقاء عبد المؤمن يلتمسون منه الأمان، فلقيهم يصلاتن (يصلاصن) الزناتي في قوة من الموحدين في وادي تافنا القريب، فقتلهم عن آخرهم، وطار نبأ مصرعهم إلى تلمسان. فسرى إلى أهلها الرعب والروع، وسادت بها الفوضى. ودخل عبد المؤمن وجنده الموحدون تاجررت في غداة عيد الفطر، فقتلوا أهلها، واقتسموا دورها. ثم غادروها إلى تلمسان. وكان يسودها الوجوم والفزع. فلما اقترب الموحدون منها خرج الأعيان والطلبة، يسعون إلى لقاء عبد المؤمن والتماس العفو منه، فأقبل يصلاتن وجنده وجردوهم من ثيابهم، وقتلوا جماعة منهم، تحت نظر الخليفة، والشيخ أبى إبراهيم أحد الصحب العشرة، ثم دخل عبد المؤمن المدينة، وقتل الموحدون كثيراً من أهلها (¬1). ويؤيد هذه الرواية ويعززها صاحب الحلل الموشية. فيقول لنا إن عبد المؤمن دخل تلمسان عنوة وقتل أهلها وسبى حريمها، ودخل كل واحد من الموحدين من الموضع الذي يليه، فأخذوا منها من الأموال ما لا يحصى، وقد بلغ فيها عدد القتلى، وفقاً لابن اليسع مائة ألف أو تزيد. وفي رواية أخرى أن عبد المؤمن استباح أهل تاجررت وقتلهم لما كان معظمهم من حشم اللمتونيين، وعفا عن أهل تلمسان. وفي رواية ثالثة أن عبد المؤمن لم يدخل تلمسان فوراً، ولكنها امتنعت عليه، واضطر إلى محاصرتها، وأنه لبث وقتاً على حصارها، وأخبار الفتوح والبيعات ترد عليه، وأنه ترك على حصارها إبراهيم بن جامع وغادرها إلى فاس (¬2). بيد أنه يبدو أن الرواية ¬_______ (¬1) البيان المغرب، القسم الثالث ص 18، والحلل الموشية ص 101. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 231.

الأولى هي الرواية الراجحة، وأنه ليس من المعقول أن تصمد تلمسان في مثل هذه الظروف، أمام جيش مظفر مثل جيش عبد المؤمن، يندفع في فتوحه كالسيل يحمل من يصادره. هذا، وربما كان فيما يقول ابن صاحب الصلاة، مؤرخ الموحدين، ما يرفع هذا التناقض بين الروايتين، فهو يقول لنا إنه لما استقر عبد المؤمن بتلمسان بعد استشهاد من استشهد، امتنعت عليه قصبتها بمن فيها، فوضع عليها الحصار، ولما رحل إلى فاس ترك عسكراً ليتابع حصارها (¬1). ومن ثم فقد لبث عبد المؤمن، وفقاً للرواية الأولى في تلمسان سبعة أشهر، ليستريح وليرقب شئون الفتوح في تلك المنطقة. ومن المعروف مما تقدم أن عبد المؤمن كان من أهل تاجرا (تاجررت) وبها كان مسقط رأسه، وأن أمه تنتمى إلى قبيلة كومية، وموطنها يقع في نفس المنطقة جنوب تاجرا. وإذاً فقد كان من الطبيعي أن يتمهل عبد المؤمن قليلا في تلك الربوع، التي نشأ فيها وترعرع، ولما تم تنظيم الشئون، ندب عبد المؤمن للولاية على تلمسان، سليمان بن محمد بن وانودين الهنتاني، ثم غادرها في قواته في ربيع الثاني سنة 540 هـ (أكتوبر 1145 م)، قاصداً إلى مدينة فاس. ¬_______ (¬1) أورده البيان المغرب، القسم الثالث - ص 19.

الفصل الخامس نهاية الدولة المرابطية فى المغرب

الفصل الخامِسُ نهاية الدولة المرابطية في المغرب الدولة المرابطية في طور الاحتضار. ولاية الأمير أبى إسحاق إبراهيم والخلاف حولها. مسير عبد المؤمن إلى وجدة ودخولها في الطاعة. مسيره إلى أجرسيف واقتحامها. زحفه على فاس ونزوله بالمقرمدة. خروج المرابطين بقيادة الصحراوي، واشتباكهم مع الموحدين. مسير عبد المؤمن إلى وادي سبو ونزوله في عقبة البقر. احتلاله لجبل العرض. إرساله حملة لمحاصرة مكناسة. خروج المرابطين منها وفتكهم بالموحدين. مسير عبد المؤمن بنفسه إلى مكناسة. محاصرة الموحدين لفاس. قطعهم للنهر وإغراق مياهه للوادي. اتصال الجياني المشرف على المدينة بالموحدين. غدره بالصحراوي وفتحه باب المدينة. دخول الموحدين فاس وفرار الصحراوي. قدوم عبد المؤمن من مكناسة ودخوله فاس. قتله لأشياخ المرابطين وهدمه لأسوار المدينة. مسيره إلى مكناسة ثم إلى سلا. سقوط مكناسة في أيدي الموحدين. مسير عبد المؤمن إلى وادي أم الربيع وخضوع صنهاجة ودكالة. وفود ابن ميمون قائد الأسطول المرابطي ودخوله في الطاعة. وفود رسل أهل سبتة. مسير عبد المؤمن في قواته إلى مراكش. نزوله فوق جبل إيجليز. محاصرة الموحدين لمراكش. حالة المرابطين داخل المدينة. خروجهم لقتال الموحدين. هزيمة المرابطين وارتدادهم إلى الداخل. وفود أشياخ القبائل على عبد المؤمن. وفود الأندلس إليه. توحيد إسحاق بن ينتان. امتداد الحصار وصمود المدينة. استعمال الموحدين للسلالم واقتحامهم الأسوار. دخول الموحدين مراكش ومقاومة أهلها اليائسة. اقتحام القصبة والقبض على الأمير إبراهيم وآله وخاصته. استباحة الموحدين لمراكش، وقتلهم الذريع لأهلها. مقتل إبراهيم بن تاشفين وأمراء وأشياخ لمتونة. دخول عبد المؤمن المدينة ثم عوده إلى محلته. منع الدخول والخروج من المدينة. اعتبارها مدينة رجسة وتطهيرها وهدم جوامعها. جمع السبي والأسلاب، وصف مراكش في هذا العهد. دخول الموحدين قصبة تلمسان. وفود وفد إشبيلية على عبد المؤمن. - 1 - لم يكن ثمة شك، بعد أن انهار سلطان المرابطين، في المغرب الأوسط، وفي المغرب الشمالي، على هذا النحو الجارف، وبسط الموحدون الظافرون سلطانهم، على سائر القواعد الجنوبية، فيما خلا مراكش، وسائر الثغور الشمالية، فيما خلا الركن الشمالي الغربي - لم يكن ثمة شك في أن الدولة المرابطية، كانت تسير إلى نهايتها المحتومة بسرعة مذهلة. وكان تبدد قوى الدولة المرابطية، واستنفاد مواردها، خلال هذه المعركة

الطويلة التي استمرت منذ قيام محمد بن تومرت المهدي، زهاء عشرين عاماً، وتوالى الهزائم على الجيوش المرابطية، معركة بعد أخرى، وتمزق صفوفها، وفناء عديدها، وهبوط روحها المعنوي، من جراء هذا الإدبار المستمر - كان ذلك كله مما يؤذن بأنه مهما كانت المقاومة المريرة اليائسة، التي يمكن أن تبذل في المرحلة الأخيرة، من ذلك الصراع الرهيب، فإنها لن تغني شيئاً، ولن تحول دون وقوع الكارثة المرتقبة، التي أخذت طوالعها تبدو قوية في الأفق، ولاسيما بعد مصرع الأمير تاشفين بن علي، وتبدد جيوشه الضخمة على هذا النحو الشامل. والواقع أن الدولة المرابطية لم تعد بعد هذه الضربة القاضية، سوى شبح هزيل. ففي مراكش، كان يمثل الفصل الأخير من مأساة الدولة المحتضرة، وذلك حينما بويع في مراكش، على أثر مصرع تاشفين، لولده الأمير أبى إسحاق إبراهيم، وكان أبوه قد ولاه ولاية عهده، منذ وفوده عليه في تلمسان في أواخر سنة 538 هـ حسبما تقدم، ثم وجهه إلى مراكش، وذلك قبيل وفاته بنحو شهر. على أن هذه البيعة التي تمت في أدق الظروف التي كانت تواجهها الدولة المرابطية، لم تقع دون خلاف. فإن إسحاق بن علي عم الأمير إبراهيم، خرج عليه ودعا لنفسه بالإمارة، ووقع الجدل والتطاحن بين الفريقين داخل العاصمة المرابطية، وكان الموحدون في ذلك الوقت نفسه يقتربون من فاس، والوفود والحشود، تترى من كل صوب على عاهلهم عبد المؤمن، فتزيد جموعه، وتعزز قواه، ويصف لنا البيذق، مؤرخ الحملة ومرافقها، مسير عبد المؤمن، فيقول لنا إنه نزل على وجدات (وجدة) فأخذها، ووحد أهلها (¬1). هذا في حين أن صاحب البيان المغرب يذكر لنا أن الموحدين استولوا على وجدة قبل ذلك بعامين (538 هـ) (¬2). وسار عبد المؤمن بعد ذلك إلى أجرسيف، وهي تقع في منتصف المسافة بين تلمسان وفاس، فنزل عليها، ولقي الموحدون بعض المقاومة من بعض زعماء تلك الناحية، فجرد عليهم عبد المؤمن بعض قواته، فمزقت جموعهم وقتلتهم، ودخل أجرسيف، ثم غادرها إلى فاس، ونزل بالمقرمدة التي تقع على مقربة من جنوب شرقي فاس، وكان يحيى بن أبي بكر الصحراوي، قد قدم ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 98. (¬2) البيان المغرب في الأوراق المخطوطة السالفة الذكر (هسبيرس ص 108).

إليها في جموعه من تلمسان كما تقدم، وأخذ ينظم خطط الدفاع عنها. وكان عبد المؤمن يتوق إلى الوقوف على مدى استعداد المدينة للدفاع، ومبلغ القوى المدافعة عنها. ذلك أنه بالرغم من وفرة جموعه التي تتألف حسبما تقول الرواية، من ثمانين ساقة على عدد القبائل والوفود، كان يريد التحوط للمفاجآت، ويرمي إلى الاستيلاء على فاس، بأقل التضحيات الممكنة. فبعث ألفاً من المشاة نصفهم من صنهاجة، والنصف الآخر من هسكورة، بقيادة أبي بكر بن الجبر، فعبر بهم نهر سَبو، وصعد إلى جبل زالاغ الذي يشرف على فاس من الشمال، وأوقد الموحدون النيران ليلا فوق الجبل، فلما رأى أهل فاس نيران الموحدين على مقربة من مدينتهم، اضطربوا وماجوا، وخرج الصحراوي في قواته لقتال الموحدين، وفي صباح الغد نشب القتال بين الفريقين، وقدر الموحدون قوة أعدائهم بنحو ألف وخمسمائة، ما بين لمتونة وأهل فاس، وفي العصر ارتد الصحراوي بقواته إلى داخل المدينة. وفي الليلة التالية، عاد الموحدون إلى إيقاد النيران، ولكن الصحراوي لم يخرج إلى القتال في تلك المرة. وفي صباح اليوم التالي، سار عبد المؤمن في قواته إلى وادي نهر سبو، ونزل في موضع يسمى " عقبة البقر " فملأت حشوده السهل الوعر، هذا والصحراوي وأهل فاس، يشهدون هذه الجموع الجرارة من فوق الأسوار، فيملأهم منظرها رهبة وروعاً. وفي اليوم التالي، تحرك عبد المؤمن في قسم منتخب من جيشه، إلى موضع يعرف " بمنزل الحاج " وخرج الصحراوي في خيله إلى جبل العرض، الواقع في شمال غربي المدينة، يفصله عن الموحدين واد يسمى " بسد رواغ ". ولم يقع في ذلك اليوم قتال بين الفريقين. وارتد الموحدون إلى السهل الشاسع، وبقي عبد المؤمن في " منزل الحاج " على قدم الأهبة، في ثلاثة آلاف وخمسمائة من رجاله. وارتد الصحراوي بخيله ثانية إلى المدينة. وفي صباح اليوم التالي، غادر عبد المؤمن في قواته السهل، واحتل جبل العرض، مشرفاً منه على المدينة. وقطع الموحدون الأشجار، وعملوا منها حول محلتهم حاجزاً من الخشب، ثم بنوا حائطاً من وراء الحاجز حماية لأنفسهم، ولدوابهم، واستعدوا لحصار طويل. وبعث عبد المؤمن قسماً من جيشه لمحاصرة مكناسة، الواقعة على قيد ستين كيلومتراً غربي فاس، وكان في مكناسة نحو

ثلاثة آلاف فارس من قوى لمتونة من الحشم والروم وغيرهم، هذا عدا من انضم إليهم من رجال القبائل القريبة الموالية. فخرجت هذه القوة من مكناسة بقيادة يدِّر بن ولجوط اللمتوني واستطاعت أن ترد الموحدين، وأن تثخن فيهم، وتفنى معظمهم، فعول عبد المؤمن عندئذ أن يسير بنفسه إلى مكناسة، وخرج ليلا في قسم منتخب من جيشه، وعهد بحصار فاس إلى أبى بكر بن الجبر، وأبى إبراهيم، وأبى حفص عمر بن يحيى الهنتاني. ولما وصل إلى مكناسة، ضرب حولها الحصار المرهق، ولبث ينتظر الحوادث. واستمر حصار الموحدين لفاس زهاء سبعة أشهر أو تسعة حسبما يروي البيذق (¬1)، وفي داخلها يحيى بن أبى بكر بن علي الصحراوي في قواته، ومعه أهل فاس صامدون وراء الأسوار، يخرجون إلى قتال الموحدين من آن لآخر، ثم يعتصمون بمدينتهم. وأخيراً لجأ الموحدون إلى عملية استراتيجية بارعة. ذلك أنهم قطعوا مجرى النهر الذي يدخل إلى المدينة، وأقاموا عليه سداً منيعاً من الحطب والخشب والتراب، فسالت مياه النهر في الوادي، وتعالت حتى صارت بحراً تتلاطم أمواجه، وانهارت بعض أقسام السور من ضغط الماء المتزايد، وسقط معها باب السلسلة (¬2). فبادر الصحراوي وجموعه إلى إصلاح ما تهدم من السور، واجتمع المدافعون فوق الأسوار، ونشبت بينهم وبين الموحدين معارك عديدة. وقد كان حرياً أن يطول حصار فاس، لولا أن عجل بنهايته ما حدث داخل المدينة ذاتها. ذلك أنه حدث بين يحيى بن علي، وبين أبى محمد عبد الله بن خيّار الجياني المشرف على المدينة، خلاف من جراء اشتداد يحيى في مطالبة الجياني بالأموال، بطريقة أرهقته، وحملته على أن يتصل سراً بقائد الموحدين أبى بكر ابن الجبر، وأن يعده بفتح أبواب المدينة، وكانت لديه مفاتيحها. وساعدت الظروف الجياني على تحقيق مشروعه. ذلك أن يحيى الصحراوي، أعرس بامرأة من قومه. فبعث إليه الجياني بهدايا جليلة من الطعام والشراب، وشغل الصحراوي في تلك الليلة بعرسه وطعامه وشرابه (¬3). وفي صباح اليوم التالي، أوفى الجياني ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت سنة 102. (¬2) روض القرطاس ص 123. (¬3) الحلة السيراء في القسم الذي نشره المستشرق ميللر، ضمن مجموعة بعنوان: ( Beitrage zur Geschichte des Westlichen Araber) ص 315 - 318.

بوعده، وفتح " باب الفتوح "، فتدفق منه الموحدون إلى داخل المدينة، وخرج الجياني فانضم إليهم. ولما شعر الصحراوي بوقوع الكارثة، بادر بالفرار مع نفر من صحبه، واخترق الوادي دون أن يلوى على شىء، حتى وصل إلى طنجة. وكان دخول الموحدين مدينة فاس، حسبما يروى ابن صاحب الصلاة، في صباح اليوم الثاني عشر من شهر ذي القعدة سنة 540 هـ (26 أبريل سنة 1146 م) (¬1). وظاهر مما يرويه البيذق وابن عذارى، أن عبد المؤمن لم يكن حاضراً، وقت دخول الموحدين فاس، وأنه كان عندئذ على حصار مكناسة (¬2)، وهذا ما يقرره ابن صاحب الصلاة وابن خلدون بطريقة واضحة (¬3). ولكن صاحب الحلل الموشية من جهة أخرى، يذكر أن الجياني اتصل بعبد المؤمن ذاته، وأدخله المدينة من باب الفتوح (¬4). بيد أنه من الواضح أن الرواية الأولى، وهي التي يؤيدها البيذق مرافق الحملة، وابن صاحب الصلاة مؤرخ الموحدين، هي الرواية الراجحة. ولما علم عبد المؤمن، وهو بمكناسة، بسقوط فاس، قدم إليها بسرعة ودخلها، وولي عليها أبا إسحاق بن جامع (¬5) ومشرفها الجياني، وأمر بقتل كل من قبض عليهم من أشياخ المرابطين، إلا عمر بن ينتان وزير علي ابن يوسف السابق، وهو الذي تعرض لحماية المهدي ابن تومرت، وصرف علي ابن يوسف عن إيذائه، حسبما تقدم في موضعه، وكان المهدي نفسه قد نهي عن قتله وقتل ذريته، فاكتفى عبد المؤمن باعتقاله (¬6). وأمر عبد المؤمن بهدم أسوار فاس، فهدم معظمها، وصرح عبد المؤمن بأن الموحدين لا يحتاجون إلى أسوار، وإنما الأسوار هي سيوفهم، وبقيت فاس بلا أسوار عصراً، حتى قام بتشييدها من جديد، حفيده الخليفة ¬_______ (¬1) البيان المغرب، القسم الثالث، ص 20. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 101، والبيان المغرب (القسم الثالث) ص 19. (¬3) البيان المغرب عن ابن صاحب الصلاة، القسم الثالث، ص 20، وابن خلدون ج 6 ص 232. (¬4) الحلل الموشية ص 101. (¬5) هذا ما ورد في البيان (القسم الثالث ص 20)، وابن خلدون ج 6 ص 232. ولكن البيذق يذكر لنا أن الذي ولي على فاس، هو أبو عبد الله محمد بن يحيى الكدميوي (أخبار المهدي ابن تومرت ص 102). (¬6) أخبار المهدي ابن تومرت ص 102.

يعقوب المنصور، ثم ولده الناصر، وذلك في سنة 600 هـ (1203 م) (¬1). ولم يمكث عبد المؤمن في فاس سوى أربعة أيام قام فيها بتنظيم شئون المدينة المفتوحة، ثم غادرها في جموع الموحدين إلى مكناسة، وهنالك عهد بمتابعة حصارها لقائده أبى زكريا بن يومور. ثم غادرها إلى سلا. وضيق الموحدون على مكناسة، وبنوا حولها سوراً، وحفروا أمامه خندقاً، وتركوا فيهما ثغرات لمهاجمة المدينة، ومقاتلة المدافعين عنها، فلم تلبث أن سقطت في أيديهم. وعين عبد المؤمن ابن يومور والياً لها. ويبدو من رواية البيذق أن عبد المؤمن حضر سقوط مكناسة. ثم يقول لنا إنه غادرها إلى تادلا، وهنالك ميز جنوده، وانضمت إليه هسكورة وصنهاجة، ثم سار في قواته إلى وادي أم الربيع، واخترقه شرقاً حتى ثغر أزمّور، وهنالك حملت إليه صنهاجة المؤن، واستدعى أشياخ دُكّالة جيرانهم في الجنوب، فوفدوا عليهم وأعلنوا خضوعهم الأول. ثم هبط بعد ذلك إلى مراكش (¬2). هكذا يصف لنا البيذق مسير عبد المؤمن إلى مراكش. ولكن سائر الروايات الأخرى تجمع على أن عبد المؤمن، حينما غادر مكناسة، سار منها أولا إلى سلا، وافتتحها بعد مقاومة قصيرة، وذلك في اليوم السابع من شهر ذي الحجة سنة 540 هـ. واستولى كذلك على قصبة الرِّباط التي كان قد بناها الأمير تاشفين، وعين والياً لسلا عبد الواحد الشرقي، وبعد أن مكث بها أربعة أيام غادرها إلى مراكش (¬3). وكان عبد المؤمن حين وجوده تحت أسوار فاس (سنة 540 هـ)، قد وفد عليه قائد الأسطول الأندلسي المرابطي على بن عيسى بن ميمون، وقدم طاعته، ثم عاد إلى الأندلس، وأقام الخطبة للموحدين بجامع قادس، وهي مركز قيادة الأسطول في تلك المنطقة. ثم وفدت على عبد المؤمن خلال مسيره إلى سلا، رسل أهل سبتة يحملون إليه بيعتهم. فتقبلها منهم، وندب للولاية على سبتة يوسف بن مخلوف التينمللي من مشيخة هنتانه (¬4). ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 133. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 102. (¬3) الحلل الموشية ص 102، والبيان المغرب القسم الثالث ص 20، وابن خلدون ج 2 ص 23. (¬4) البيان المغرب القسم الثالث ص 21، وابن خلدون ج 6 ص 232.

وكان عبد المؤمن قد بعث في نفس الوقت قبل مسيره إلى مراكش حملة بقيادة أبى حفص عمر بن يحيى الهنتاني لغزو قبائل برغواطة، النازلة على الشاطىء شمالي أزمّور وجنوبها، فاقتحم ديارهم، واستاق غنائمهم، ثم ارتد أدراجه، فالتقى بعبد المؤمن، وهو في طريقه إلى مراكش، فقسم الغنائم على الموحدين، ثم تابع سيره إلى العاصمة المرابطية. ولما وصل جيش الموحدين إلى ظاهر مراكش، خرج إليه جمع كبير من طلائع لمتونة، فلما رأوا كثرة الموحدين، سرى إليهم الرعب وبادروا إلى الفرار نحو أسوار المدينة، فأدركهم الموحدون وقتلوا عدداً كبيراً منهم. وعلم عبد المؤمن كذلك أن قوات كبيرة من قبيلة لمطة، قد وفدت على المدينة نصرة للمدافعين عنها، فطاردهم الموحدون، وأثخنوا فيهم، وانتزعوا منهم آلافاً من الدواب وغيرها من الغنائم (¬1). - 2 - وكان نزول الموحدين على مراكش في فاتحة شهر المحرم سنة 541 هـ (13 يونيه سنة 1146 م). وفي الحال احتل عبد المؤمن بقواته جبل إيجليز الواقع غربها، وضرب فوقه قبته الحمراء، وبني الموحدون حولها محلة أو مدينة كبيرة يتوسطها مسجد وصومعة عالية، تشرف على مراكش، ونزلت فيها القبائل، كل قبيلة في الموضع الذي حدد لها (¬2). وكان إقامة هذه المدينة دليلا على ما كان يتوقعه الموحدون من طول المدافعة والحصار. وضرب الموحدون الحصار حول العاصمة المرابطية. وكانت مراكش تموج بجموع المدافعين عنها، من بقايا الجيوش المرابطية الكبرى، من مختلف الحشود والقبائل. وكان منهم قوة من النصارى المرتزقة، هي بقية الحرس الملكي القديم. بيد أن هذه الجموع الحاشدة، كانت تنقصها القيادة الحازمة، وكانت تعاني من هبوط قواها المعنوية، وكان على عرش مراكش في تلك الآونة الدقيقة، صبي حَدَث لم يجاوز السادسة عشرة من عمره، هو أبو إسحاق إبراهيم بن تاشفين بن علي. وكان يقود هذه المعركة الأخيرة نفر من أشياخ لمتونة، مثل سير بن الحاج، ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 21 و 22، وابن خلدون ج 6 ص 232. (¬2) الحلل الموشية ص 102.

وإسحاق بن ينتان، ومحمد بن حواء، ومحمد بن يانجالا وغيرهم، وكان الشعور عاماً بأن مصير الدولة المرابطية أضحى أمراً مقضياً، وأنها لم تكن سوى معركة يأس، تمليها غريزة الاحتفاظ بالنفس، والتعلق بأوهى الاحتمالات والآمال. وهكذا فإن الموحدين، ما كادت تستقر حشودهم حول العاصمة المرابطية، حتى اعتزم المرابطون أن يخرجوا لقتالهم. وخرجت قوة مرابطية قوامها نحو خمسة آلاف وخمسمائة فارس، وحشود لا تحصى من المشاة، يقودها إسحاق ابن ينتان، ومحمد بن حواء، ومحمد بن يانجالا، وسارت إلى محلة الموحدين. ويقول لنا البيذق إن القتال الذي نشب بين الفريقين، استمر أربعة أيام. وفي اليوم الخامس، رتب عبد المؤمن من جنده عدداً من الكمائن المستورة، وخرج المرابطون إلى القتال كالعادة، فلقيهم الموحدون في حشود قليلة، واغتر المرابطون بتفوقهم، بيد أنه ما كاد يتعالى النهار، حتى خرجت الكمائن الموحدية من أماكنها، وحملت على المرابطين بشدة، فانهزموا في الحال، وارتدوا على أعقابهم نحو الأسوار، والقتل مثخن فيهم، حتى وصلوا إلى باب دُكّالة، أو باب الشريعة على قول البيذق، فقتل منهم عدد جم، واستولى الموحدون على نحو ثلاثة آلاف من خيلهم وامتنعت فلولهم بداخل المدينة (¬1). وفي خلال ذلك كانت الوفود والحشود، تترى على جيش عبد المؤمن، ويفد عليه أشياخ القبائل وزعماؤها موحدين معلنين لطاعتهم. وكان ممن وفد عليه في تلك الفترة بعض زعماء الأندلس الثائرين على سلطان المرابطين، مثل أبى الغمر بن غرون الثائر بشريش، وابن حَمْدين الثائر بقرطبة. وأرسل عدد آخر من زعماء الأندلس الذين شعروا بانهيار سلطان المرابطين، كذلك رسلهم إلى عبد المؤمن (¬2). ولم تقع بعد هزيمة المرابطين الكبيرة في ظاهر باب دُكّالة، بين الفريقين معارك ذات شأن، اللهم إلا ما يقصه علينا البيذق، من خروج ابن ينتان لقتال الموحدين من آن لآخر. ثم ما وقع بعد ذلك من إرسال الموحدين زعيم بني ينتان الذي كان قد " وحّد " إليه أعني إلى إسحاق بن ينتان، وتقدم إسحاق بطاعته وتوحيده، وخروجه من المدينة مع أنصاره، وانضمامه إلى الموحدين (¬3). ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 102 و 103، والبيان المغرب (عن ابن صاحب الصلاة) القسم الثالث ص 22، والحلل الموشية ص 103. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 22. (¬3) أخبار المهدي ابن تومرت ص 103.

واستطال حصار مراكش أكثر من تسعة أشهر، وشدد الموحدون في تطويق المدينة، وقطع علائقها مع الخارج، حتى أضحى من المتعذر، أن يدخلها داخل أو يخرج منها خارج. كل ذلك والمدينة صامدة في وجوه المحاصرين. والظاهر أن الموحدين لم يقوموا خلال تلك الفترة بهجمات شديدة على المدينة، وأنهم كانوا يكتفون بالمحاولات الجزئية. والظاهر أيضاً أنه لم تنجح كذلك، أية محاولة من هذه المحاولات، في اقتحام أية ناحية من المدينة، أو ثلم أية ناحية من الأسوار. وفي خلال ذلك كان أهل المدينة يعانون ويلات الحصار، وتنضب الموارد والمؤن تباعاً، حتى نفدت الحبوب والمواد الغذائية، وفنيت الدواب، وخلت المخازن السلطانية من مخزونها، وتساقطت الألوف العديدة من الجوع. وتقدر الرواية عدد من هلك جوعاً من أهل مراكش في تلك المحنة بنيف ومائة وعشرين ألفاً، وعجز الجند عن الحركة والدفاع، وأضحت النهاية المحتومة على الأبواب. ولما شعر عبد المؤمن بأن الضيق بلغ ذروته بالمحصورين، وأن المدينة أصبحت عاجزة عن كل دفاع، اعتزم أن يضرب الضربة الأخيرة. وكان قد مضى على الحصار عندئذ تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً. وتختلف الرواية فيما اقترن بتلك الخطوة الأخيرة. ويقول لنا البيذق وهو من شهود الحصار، إن الخليفة أمر باستعمال السلالم لصعود الأسوار، وقسمها على القبائل، وأن الموحدين دخلوا المدينة على أثر ذلك. بيد أن صاحب الحلل الموشية يقدم لنا عن ابن اليسع الذي عاش قريباً من العصر، رواية أخرى مفادها أن جيش الروم أو النصارى المرتزقة الذين كانوا داخل المدينة، اتصلوا بعبد المؤمن واستأمنوه، فمنحهم الأمان، واتفقوا معه على أن يُدخلوه المدينة من " باب أغمات " الواقع في جنوبها الشرقي، وعندئذ أمر عبد المؤمن بعمل السلالم. وفي يوم السبت الثامن عشر من شوال سنة 541 هـ (24 مارس 1147 م) دفع الموحدون السلالم إلى الأسوار، وخُصت القبائل كل قبيلة بباب معين، وأقبل أهل مراكش يبذلون آخر محاولة للدفاع. وكانت بالطبع محاولة يائسة. فاقتحم الموحدون المدينة، ودخلوها من كل صوب، فدخلت هنتانة، وأهل تينملل من باب دُكّالة، في شمالها الغربي، ودخلت صنهاجة وعبيد المخزن من باب الدباغين في شرقها، ودخلت هسكورة مع القبائل الأخرى من باب يينتان. ولم يأت الظهر حتى استولى الموحدون على مراكش. ولجأ الأمير إبراهيم ابن تاشفين وجماعة من الخاصة والأعيان، إلى القصبة الداخلية المعروفة " بقصر

الحجر " وهي قلعة منيعة، فاستمر القتال حتى الزوال، وكثر القتل في المدافعين وأهل المدينة، واقتحم الموحدون القصبة، وقبضوا على الأمير إبراهيم ومن معه من الأمراء والكبراء، والأهل والولد، وأخذوهم إلى محلة عبد المؤمن، فوق تل إيجليز، لتقرير مصيرهم (¬1). وهكذا اقتحم الموحدون مراكش، ودخلوها بالسيف على النحو الذي تصفه لنا الرواية المعاصرة، ويضيف مؤرخ معاصر آخر هو ابن الأشيري إلى ذلك قوله، إن أهل مراكش بعد هزيمة باب دكالة، أيقنوا بالهلاك، وأن المحلة الموحدية انتقلت إلى دار الفتح وسط البحيرة (أي البستان)، في صدر شوال سنة 541 هـ، فلم تزل هناك، وأمر المدينة في كل يوم يزداد ضعفاً، وأحوالها ترق، إلى أن كان يوم السبت السابع عشر من شوال، ففتحت مراكش ودخلها الموحدون (¬2). بيد أن ابن خلدون يقدم إلينا رواية أخرى خلاصتها، أنه لما أجهد الحصار أهل مراكش، وفتك بهم الجوع، برزوا إلى قتال الموحدين، فوقعت عليهم الهزيمة، وتتبعهم الموحدون بالقتل، واقتحموا عليهم المدينة. ومعنى ذلك أن مراكش سقطت على أثر معركة، نشبت خارج الأسوار، بين المرابطين والموحدين (¬3). ويبدو من مختلف التفاصيل، أن مراكش لم تسقط في أيدي الموحدين إلا بعد دفاع مرير، بذل فيه المرابطون وأهل المدينة جهوداً رائعة، بالرغم مما كان يحيط بهم من الظروف الأليمة، وقتل فيه من المرابطين والمدنيين، حسبما يقول لنا ابن اليسع نيف وسبعون ألف رجل (¬4). ومن المواقف الرائعة الجديرة بالإعجاب، ما قصه علينا البيذق من أن فانّو بنت عمر بن يينتان، وهي فتاة بارعة الحسن، وافرة الجرأة، كانت تقاتل الموحدين أمام القصر (القصبة) في ثياب فارس. وكان الموحدون، حسبما يقص علينا البيذق يتعجبون من قتالها، ومن شدة ما أعطاها الله من الشجاعة، ولم يعرفها الموحدون حتى قتلت وتبين أنها امرأة في ثياب رجل (¬5). ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 103، والبيان المغرب القسم الثالث ص 33، والحلل الموشية ص 103 و 104. وراجع خريطة مراكش السابق نشرها في ص 187. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 23 و 24. (¬3) ابن خلدون ج 6 ص 232. (¬4) الحلل الموشية ص 104. (¬5) أخبار المهدي ابن تومرت ص 103.

ولم يكتف الموحدون، بما أوقعوا من الفتك الذريع بالمرابطين وأهل المدينة، ولكنهم أعلنوا استباحة مراكش فيما يصفه ابن الخطيب " بالمحنة العظمى ". وذلك أنهم قرروا استباحة دماء كل من اشتملت عليه من الذكور البالغين. واستمر ْبها القتل الذريع ثلاثة أيام أخرى، ولم ينج من أهلها إلا من استطاع الاختفاء في سرب أو غيره. وطورد اللمتونيون بالأخص أشد مطاردة، واستئصلوا أينما وجدوا. ثم أعلن عبد المؤمن بعد ذلك عفوه عن أهل المدينة المفتوحة. قال ابن الخطيب " فظهر من جميع الخلق بها، ما يناهز السبعين رجلا، وبيعوا بيع أسارى المشركين، هم وذراريهم، وعفي عنهم " (¬1). وقال صاحب البيان المغرب، إن مراكش أبيحت لقتل من وجد فيها من اللمتونيين مدى ثلاثة أيام، ثم عفا عنهم عبد المؤمن، واشتراهم من الموحدين، وأعتقهم وأطلقهم. واستولى عبد المؤمن على ذخائر تاشفين وجميع أمراء لمتونة، مما لا يحيط به حصر ولا وصف ولا بيان. ولم يكن مصير الأمير الصبي إبراهيم آخر ملوك الدولة المرابطية، وزملائه من أشياخ لمتونة، بأقل روعة. ذلك أنهم اقتيدوا حسبما قدمنا، إلى قبة عبد المؤمن فوق تل إيجليز. وكان إبراهيم قد قبض عليه مع الآخرين في القصبة. وقيل إنه وجد مختفياً في إحدى غرف القصر في كومة من الفحم (¬2). فلما أخذ إلى عبد المؤمن، أشفق عليه ورثا لمحنته وصغر سنه، ومال إلى العفو عنه والإبقاء عليه. ويقص علينا البيذق وهو شاهد عيان، أن الأمير الفتى كان يتضرع إلى عبد المؤمن، ويقول له يا أمير المؤمنين ما لي في الرأي شىء، فيقول له وصيفه طلحة " أصمت عنا، هل رأيت ملكاً يتضرع لملك مثله ". وفي رواية أخرى أن سير بن الحاج أحد أشياخ المرابطين، لما رأى تضرع إبراهيم لعبد المؤمن، تفل في وجهه وقال له " أترغب إلى أبيك ومشفق عليك، اصبر صبر الرجال ". وعلى أي حال فقد تأثر عبد المؤمن لضراعة الأمير الفتى، وقال لأبى الحسن بن واجّاج (وهو من أهل خمسين)، وكان قد قتل بيده عدة من أمراء وأشياخ لمتونة عقب إحضارهم إلى تل إيجليز " أترك هؤلاء الصبيان، ما الذي تعمل بهم "، فصاح به أبو الحسن " ارتد علينا عبد المؤمن، يريد أن يربي علينا فراخ السبوعة "، فغضب الخليفة، وغادر ¬_______ (¬1) الإحاطة في أخبار غرناطة (1956) ج 1 ص 192. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 23.

مكانه وتبعه الموحدون إلا أبا الحسن، والشيخ أبا حفص، فاقتاد أبو الحسن الأمير إبراهيم وقتله، ثم جذبوا طلحة، وصيفه ليقتلوه، فلما اقترب من أبى الحسن، استل خنجراً كان يحتفظ به، وطعن أبا الحسن فقتله، وقتله الموحدون على الأثر، ويضيف البيذق إلى ذلك أن أبا الحسن كان قد أوثق زهاء ألف رجل من أبناء دُكّالة ليقتلهم، فلما قُتل أطلق سراحهم، وعفى عنهم (¬1). وهكذا زهق أبو إسحاق إبراهيم بن تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين، صبياً في السادسة عشر من عمره، بعد أن حكم حكمه الإسمي المنكود مدى عامين، وزهق ضحية بريئة للحوادث، دون أن يضطلع منها بشىء، أو يعقد أو يحل منها أمراً ذا خطر، وقد كان حرياً برجل عظيم مثل عبد المؤمن أن يحقن دم هذا الأمير الصغير، لو أنه استعمل الصرامة والحزم مع أولئك الأتباع الظمئين إلى الدماء. وبموت إبراهيم اختتم ثبت ملوك لمتونة، وانهار عرش بني يوسف ابن تاشفين، بعد أن لبث منذ تأسيس مراكش في سنة 462 هـ، ثمانين عاماً، ترفرف أعلامه الظافرة على أنحاء المغرب، وخمسين عاماً ترفرف فوق جنبات الدولة المرابطية الكبرى بالمغرب والأندلس. ويصف لنا البيذق بعد ذلك مصير أبى بكر بن تيزميت خادم علي بن يوسف، وكيف أمر الخليفة بقتله، لأنه هو الذي قبض على المهدي أيام وجوده بمراكش وحمله إلى السجن، وكيف غرر أبو بكر بالموحدين، وزعم أن لديه بمنزله آنية ملأى بالذهب، يريد أن يسلمها للموحدين، فبعث معه الخليفة باثني عشر رجلا ليتسلموا الذهب فأغلق الدار عليهم وقتلهم، وهم يشتغلون بالحفر بحثاً عن الآنية المزعومة، فأخذ إلى الخليفة وأمر به فقتل (¬2). وكان عبد المؤمن قد دخل مراكش على أثر افتتاحها، ثم عاد منها في الحال إلى محلته، ورتب الأمناء على أبوابها. وبقيت مراكش بعد ذلك ثلاثة أيام لا يدخلها ولا يخرج منها أحد. ذلك أن الموحدين، كانوا يرون، في غلوائهم الدينية، أن مراكش هي مدينة المجسمين وأهل اللثام، الذين لعنهم المهدي، وأفتى بشركهم وتكفيرهم، فهي إذن مدينة نجسة، لا تصلح لنزول الموحدين الأطهار. وقال أشياخ الموحدين فوق ذلك إن المهدي امتنع عن سكنى مراكش، ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت سنة 104، والبيان المغرب القسم الثالث ص 24. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 105.

لتشريق مساجدها عن القبلة المستقيمة، والتشريق والتحريف، لغير المسلمين من اليهود وغيرهم. فأشار الفقهاء الموحدون عندئذ بتطهير المدينة، تمهيداً لسكناها، ونصحوا بهدم جوامعها القائمة، بسبب تشريقها وتحريفها عن القبلة. وهكذا هُدم جامع علي بن يوسف هدماً جزئياً، وهدمت الجوامع الأخرى. وتولى الأمناء جمع السبي والأسلاب من الحلي والسلاح والمتاع وغيرها، وحملت كلها إلى المخازن، وبيع النساء في اليوم الرابع، بعد أن تم تطهير المدينة وجمعت أسلابها على هذا النحو، ودخل عبد المؤمن مراكش، وقسم أرزاقها ودورها على الموحدين، فسكنوها بضع أسابيع (¬1). ومما له مغزى بارز، ما يقصه علينا المراكشي، من أن عبد المؤمن حين دخوله مراكش، بحث عن قبر أمير المسلمين يوسف بن تاشفين أشد البحث، فأخفاه الله عنه وستره، وكان ذلك حسبما يروي المؤرخ، دليلا على رعاية الله وعادته الحسنى مع الصالحين المصلحين (¬2). ويقدم إلينا الإدريسي الذي تجول في أنحاء المغرب وقواعده في أواخر عهد المرابطين (حوالي سنة 530 هـ) وصفاً لمدينة مراكش عقب سقوطها في أيدي الموحدين، يقول فيه، إنها أي مراكش كانت دار إمارة لمتونة ومدار ملكهم، وكان بها قصور لكثير من الأمراء والقواد وخدام الدولة، وأزقتها واسعة، ورحابها فسيحة، ومبانيها سامية، وأسواقها مختلفة، وسلعها نافقة، وكان بها جامع بناه أميرها يوسف بن تاشفين، فلما كان في هذا الوقت، وتغلب عليها المصامدة، وصار الملك لهم، تركوا ذلك الجامع معطّلا مغلق الأبواب، ولا يرون الصلاة فيه، وبنوا لأنفسهم مسجداً جامعاً يصلون فيه، برهد أن نهبوا الأموال وسفكوا الدماء، وأباحوا الحُرم، كل ذلك بمذهب لهم يرون ذلك فيه حلالا. وشُرب أهل مراكش من الآبار، ومياهها كلها عذبة، وآبارهم قريبة معينة. وكان علي بن يوسف قد جلب إلى مراكش ماء من عين بينها وبين المدينة أميال، ولم يستتم ذلك، ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 105 و 106. والبيان المغرب القسم الثالث ص 25. (¬2) المعجب ص 113. ولو صحت رواية المراكشي، فإن المرجح هو أن يكون المرابطون، قد اصطلحوا على إخفاء قبر يوسف وتجهيله، حتى لا يخربه الموحدون، ويعتدوا على رفات البطل المرابطي. ولقد أرشدت في بعض زياراتي لمراكش إلى زاوية صغيرة، بها صبيان يقرأون، وقيل لي إن بها قبر يوسف بن تاشفين. ولكني لم أجد أي شاهد أو نقش أو دليل يحمل على الاعتقاد في صحة هذا القول.

فلما تغلب المصامدة على الملك، تمموا جلب ذلك الماء إلى داخل المدينة، وصنعوا به سقايات بقرب دار الحجر، وهي الحظيرة التي فيها القصر منفرداً متحيزاً بذاته، والمدينة بخارج هذا القصر، وطولها أشف من ميل، وعرضها قرب ذلك، وعلى ثلاثة أميال من مراكش نهر لها يسمى تانسيفت، وليس بالكبير لكنه دائم الجري (¬1). وفي نفس الوقت الذي افتتحت فيه مراكش، دخل الموحدون قصبة تِلِمسان، وذلك في الخامس عشر من شوال سنة 541 هـ، أعني قبل سقوط مراكش بثلاثة أيام. ووفد على عبد المؤمن عندئذ من أشياخ الموحدين، يحيى بن إسحاق المسّوفي المعروف بأنجمار أمير تلمسان السابق، وكان قد دخل في طاعة الموحدين، فشمله عبد المؤمن برعايته، واحتُرمت داره وزوجته زينب بنت علي بن يوسف، وسائر أصحابه وأسرهم (¬2). وحدث خلال وجود عبد المؤمن بمراكش أن قدم عليه من الأندلس وفد إشبيلية وعلى رأسه القاضي أبو بكر بن العربي المعافري، بعد مقتل ولده عبد الله في حوادث إشبيلية، والخطيب أبو عمر بن الحجاج، وأبو بكر بن الجد الكاتب، وأبو الحسن الزهري، وأبو الحسن ابن صاحب الصلاة، وغيرهم من زعماء إشبيلية ووجوهها، فاستقبلهم عبد المؤمن، وألقى القاضي أبو بكر وبعض زملائه بين يديه خطباً بليغة، ورفعوا إليه بيعة أهل إشبيلية مكتوبة بخطوطهم، فاستحسن عبد المؤمن موقفهم، وقبل طاعتهم، وأغدق عليهم الجوائز والصلات، وكان ذلك في أوائل سنة 542 هـ. ولما عاد الوفد إلى الأندلس، توفي القاضي ابن العربي، خلال الطريق، ودفن بفاس في جمادى الآخرة من نفس السنة. وكان مقدم هذا الوفد البارز، وهو يمثل أعظم حواضر الأندلس، من الدلالات الواضحة، على تحول ولاء الأندلس بسرعة، إلى جانب الموحدين. وكان له أثره فيما بعد، في إيثار الموحدين لإشبيلية، واتخاذها حاضرة الأندلس في عهدهم (¬3). ¬_______ (¬1) وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس (المأخوذ من كتاب نزهة المشتاق) للإدريسي (طبعة دوزي) ص 68، 69. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث - ص 25. (¬3) الحلل الموشية ص 111 و 112، والزركشي في تاريخ الدولتين ص 6.

الفصل السادس الدولة الموحدية فى سبيل التوطد

الفصل السادِس الدولة الموحدية في سبيل التوطد اختتام الغزوة الموحدية الكبرى. اضطرام الثورة في بلاد السوس. زعيمها الهادي أو الماسي. اتساع نطاقها وخلع القبائل لطاعة الموحدين. مسير الموحدين لقمع الثورة بقيادة الشيخ أبى حفص عمر. لقاء الموحدين وقوات الماسي في وادي ماسة. هزيمة الماسي ومصرعه وتمزيق جموعه. الجندي الكاتب أبو جعفر بن عطية ورسالته عن الموقعة. إعجاب أبى حفص بها. إعجاب الخليفة واستدعاؤه لابن عطية، وتقليده خطة الكتابة. مطاردة أبى حفص للقبائل الخارجة وتمزيقها. غزوه لأراضي برغواطة. نزول يحيى الصحراوي في سبتة. غدره بابن ميمون وقتله. دور القاضي عياض في حوادث سبتة. انتقاض أهل سبتة ومقتل واليها الموحدي. مسير الصحرأوى من سبتة إلى سلا ثم إلى أراضي برغواطة. اجتماع برغواطة ودكالة ورجراجة وحاحة حوله. عبد المؤمن يرسل إلى برغواطة حملة جديدة بقيادة يصلاسن. مسير يصلاسن إلى سلا واقتحامها وخضوعها. ثم إلى بني وراغل وإخضاعهم. مسيره إلى طنجة واقتحامها، ثم إلى سبتة. مبادرة أهل سبتة إلى الخضوع والعفو عنها. عبد المؤمن يجهز الحشود لمقاتلة برغواطة والصحراوي. خروجه في قواته من مراكش ومسيره صوب دكالة، ثم أزمور. مهاجمته لحشود الثوار وتمزيقهم. فرارهم نحو البحر وغرق الكثير منهم. فرار يحيى الصحراوي وصحبه إلى السوس ثم إلى الصحراء. استيلاء عبد المؤمن على أسلاب برغواطة ودكالة. إذعان برغواطة إلى التوحيد. عودة عبد المؤمن إلى مراكش. نزعة الموحدين إلى القمع الدموي. حادث الاعتراف وقتل المارقين والمعاندين. الجرائد الدموية لمختلف القبائل وعدد القتلى من كل منها. تأملات حول موقف عبد المؤمن من هذا السفك المروع. إخماد ثورة أخرى في برغواطة. مسير عبد المؤمن في قواته إلى سلا. إنشاؤه لقصبة رباط الفتح. استقباله لوفود الأندلس. اعتزامه فتح بجاية وبواعث هذا القرار. مسيره صوب بجاية من طريق ملتوية. استيلاؤه على جزائر بني مزغنة. بنو حماد أصحاب بجاية والقلعة. قلعة بني حماد وموقعها. انتقالهم إلى بجاية. استيلاء عبد المؤمن على بجاية وما يقال في ذلك. استيلاء عبد الله بن عبد المؤمن على القلعة. سقوط بونة وقسنطينة في أيدي الموحدين. مسير يحيى بن عبد العزيز صاحب بجاية صحبة عبد المؤمن إلى مراكش. وصف بجاية في هذا العهد. الصدام بين الموحدين والعرب في هذه المنطقة. هزيمة العرب وتمزيق حشودهم. ثورة صنهاجة قرب بجاية وإخمادها. مسير عبد المؤمن إلى تلمسان ثم إلى فاس ومكناسة وسلا فمراكش. مؤامرة أخوى المهدي بمراكش. إخمادها وإعدام المتآمرين. قيام عبد المؤمن بحركة تطهير جديدة. عبد المؤمن يدبر مصرع القائد يصلاسن. ثورة جديدة في السوس. مسير أبى حفص لإخمادها. سحق القبائل الثائرة وأخذ غنائمها وتوحيد بعضها. مسير عبد المؤمن من مراكش إلى تينملل. - 1 - وهكذا اختتمت تلك الغزوة الكبرى، التي اضطلع بها عبد المؤمن بن علي، مذ خرج في حشوده الموحدية الجرارة، من تينملل في سنة 535 هـ (1140 م)،

واستمر زهاء سبعة أعوام يثخن في أنحاء المغرب، من الجنوب إلى الشمال، ثم إلى الشرق ثم إلى الجنوب، ويوقع بالجيوش المرابطية مرة بعد أخرى، ويستولي تباعاً على قواعد المغرب - اختتمت تلك الغزوة الكبرى باستيلاء الموحدين على حضرة مراكش، والقضاء على الدولة المرابطية في المغرب. على أن تحقيق هذه الغاية الجوهرية، لم يكن نهاية الصراع الذي كان على الموحدين أن يضطلعوا به، لتوطيد دولتهم، والقضاء بصورة نهائية، على كل مقاومة لدعوتهم الدينية، وسلطانهم السياسي، وذلك أولا في المغرب، حيث قامت دعوتهم، وانتظمت دولتهم. ثم كان عليهم بعد ذلك، أن يتابعوا فتوحهم، فيما وراء البحر، في الأندلس حيث كانت الدولة المرابطية، مازالت تحتفظ ببقية سلطانها، في شبه الجزيرة، وفي بعض قواعد الأندلس، وتحتفظ في نفس الوقت ببقية من قواتها العسكرية، ونفر من أكابر قادتها وزعمائها. وفي الوقت الذي لاح فيه أن الموحدين، بفتح مراكش، قد وصلوا إلى ذروة سلطانهم، اضطرمت أول ثورة خطيرة ضد دعوتهم الدينية وسلطانهم السياسي، وكان ذلك في بلاد جزولة، غربي بلاد السوس، حيث قام ثائر يدعى محمد بن عبد الله بن هود وتسمى بالهادي. وأصل هذا الرجل من سلا، وكان قصّاراً، فلما ذاعت الدعوة الموحدية، واستولى الموحدون على سلا، ادعى الهداية، وسمى نفسه بالهادي، ثم سار جنوباً إلى أرض جزولة ونزل برباط ماسة، وذلك في شوال سنة 541 هـ، ومن ثم اشتهر كذلك باسم الماسي (¬1)، فتبعه كثير من الناس من مختلف القبائل، وذاعت دعوته بسرعة مدهشة، وسرعان ما استولى على بلاد تامسنا، وبلاد المصامدة، وانضمت إليه عدة من القبائل التي كانت تدين بالتوحيد مثل حاحة، ورجراجة، وهزميرة وهسكورة ودكالة، وخلعت معظم القواعد التي توحدت الطاعة، حتى لم يبق تحت سلطان عبد المؤمن وطاعته، في وسط المغرب وجنوبه، سوى فاس ومراكش. وكان استفحال الثورة، واتساع نطاقها على هذا النحو، دليلا على أن الدعوة الموحدية، لم تكن قد تمكنت بعد في نفوس معتنقيها، وأنهم لم يدينوا بها إلا تحت سلطان الضغط ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 110، والبيان المغرب القسم الثالث ص 26. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن الماسي حضر فتح مراكش مع عبد المؤمن وبايعه ثم خرج عليه (ص 123).

والإرهاب المادي. والواقع أن وسائل الموحدين في نشر دعوتهم لم تكن حسبما رأينا مما فصلناه من قبل، رفيقة ولا إنسانية، بل كانت قائمة على الخضوع الأعمى للدعوة والإرهاب المطلق، وسفك الدم السريع. ومن ثم كان ارتداد القبائل الموالية، بمثل السرعة التي توحدت بها، وانضمامها إلى راية الدعيّ الجديد. وشعر عبد المؤمن وأشياخ الموحدين، أن الأمر سوف يخرج من أيديهم، إذا لم تسحق ثورة الماسي بسرعة. فبعث عبد المؤمن لقتاله حملة بقيادة ابن يكيت ويحيى المسّوفي المعروف بأنجمار، فلقيهم الماسي في قواته وهزمهم وأثخن فيهم فعندئذ جهز عبد المؤمن لقتاله حملة ضخمة مختارة، تضم طائفة من الروم، أي النصارى المرتزقة، والرماة وغيرهم، من المقاتلة المدربين، وعلى رأسها الشيخ أبو حفص عمر الهنتاني وعدة من أشياخ الموحدين. وكان بين الجند الرماة فتى يمتُّ إلى الأدب بصلة، هو أبو جعفر أحمد بن عطية القضاعي، وهو من أهل مراكش، ولكنه يرجع إلى أهل الأندلس، وأصله القديم من طرطوشة ثم من دانية (¬1)، وقد كان ضمن كتاب علي بن يوسف، ثم كتب عن ابنه تاشفين ثم عن حفيده إبراهيم، وكان على حداثة سنه من أحظى كتاب الدولة اللمتونية. فلما سقطت مراكش أخفى نفسه، ودخل في غمر الناس، وانضم إلى كتائب الموحدين، لا يعلم بحقيقته أحد. وكانت الحملة الموحدية تضم نحو ستة آلاف فارس ومثلهم من الرجالة. وكان جيش الماسي يضم نحو الستين ألفاً، ليس فيهم من الفرسان سوى سبعمائة. وسار الموحدون صوب تامسنا بوادي ماسه، والتقوا بقوات الماسي، وذلك في السادس عشر من شهر ذي الحجة سنة 542 هـ (7 مايو 1148 م)، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، قاتل فيها جند الماسي بشجاعة، ولكنهم هزموا في النهاية، وقتل الماسي، قتله الشيخ أبو حفص بيده، ومُزق جنده شر ممزق، وحمل الموحدون جثته فوق بغل، حيث صلبت على باب الشريعة بمراكش. وكان نصراً باهراً، انهارت على أثره ثورة الماسي وانفضت جموعه (¬2). وحدث على أثر انتهاء المعركة بظفر الموحدين، أن بحث الشيخ أبو حفص ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 271. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 106، والبيان المغرب القسم الثالث ص 26، والحلل الموشية ص 110، وروض القرطاس ص 134.

عن كاتب بارع يقوم بإعلام الخليفة بما أتاه الله من نصره، في رسالة قوية بليغة، فأرشد إلى فتى من الجند الرماة، يجيد الشعر والترسل، فاستحضره، وكان هو أبو جعفر بن عطية، فعهد إليه بأن يكتب عنه إلى الخلافة رسالة يصف فيها المعركة، فنزل أبو جعفر عند رغبته مرغماً، وكتب رسالته الشهيرة، في نصر الموحدين في ذلك اليوم، فجاءت قطعة من البلاغة المتدفقة، والبيان الرائع، وهي الرسالة التي رفعت إسمه وقدره، لدى الخليفة، وبين سائر الموحدين، وكانت سبيله إلى الوزارة، وإلى النفوذ والسلطان. وقد أورد لنا ابن الخطيب نص هذه الرسالة. وإنه ليكفي أن ننقل منها هاتين الفقرتين. جاء في الديباجة ما يأتي: " كتبنا هذا من وادي ماسة، بعدما تزحزح من أمر الله الكريم، ونصر الله المعلوم، وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، فتح بمسرى الأنوار إشارقاً، وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقاً، ونبه للأماني القائمة جفوناً وأحداقاً، واستغرق غاية الشكر استغراقاً، فلا تطيق الألسنة كنه وصفه إدراكاً ولا لحاقاً، جمع أشتات الطب والأدب، وتقلب في النعم أكرم منقلب، وملأ دلاء الأمل إلى عقد الكرب. فتح تفتّح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها القشب وتقدمت بشارتنا به جملة، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة. كان أولئك الضالون المرتدون، قد بطروا عدواناً وظلماً، واقتطعوا الكفر معنى وإسماً، وأملى الله لهم ليزدادوا إثماً ". ومنها في وصف مصرع أنصار الماسي: " فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم، وأذنت الآجال بانقراض آمالهم، وأخذهم الله بكفرهم وفسادهم، فلم يُعاين منهم إلا من خر صريعاً، وسقى الأرض نجيعاً، ولقى من وقع الهنديات أمراً فظيعاً، ودعت الضرورة باقيهم إلى الترامي في الوادي، فمن كان يؤمل الفرار ويرتجيه، ويسبح طامعاً في الخروج إلى ما ينجيه، اختطفته الأسنة اختطافاً، وأذاقته موتاً زعافاً، ومن لج في الترامي على لججه، ورام البقاء في ثجه، قضى عليه شرقه، وألوى فرقته غرقه " (¬1). ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة في ترجمة أبى جعفر بن عطية ج 1 ص 277.

يقول لنا ابن الخطيب، إن الشيخ أبا حفص حين قرئت عليه رسالة هذا الجندي الأديب، اشتد إعجابه بها، وأحسن إلى كاتبها، واعتقد أنه ذخر يتحف به عبد المؤمن، وأنها لما قرئت بعد ذلك على الخليفة بمحضر من أكابر الدولة عظُم مقدارها، ومقدار منشيها، وبعث في طلبه معززاً مكرماً. ولما وفد ابن عطية على عبد المؤمن، بالغ في إكرامه، وقلده خطة الكتابة، وأسند إليه وزارته، ثم فوض إليه فيما بعد النظر في أموره كلها، فنهض بأعباء منصبه خير نهوض. ولكن القدر كان يتربص به، وكان يدخر له تلك الخاتمة المؤسية، التي سنقص سيرتها فيما بعد. وعلى أثر هزيمة الماسي ومصرعه، وانهيار حركته، خرج الشيخ أبو حفص في قواته لمطاردة القبائل الخارجة، فسار أولا إلى هسكورة، وأثخن فيها، ومزق شملها، وسبى أهلها، واستاق غنائمها. ثم سار إلى أرض نفيس، ثم أرض هيلانة، فمزق جموعهم، وفرض عليهم الخضوع والطاعة. وسار بعد ذلك إلى سجلماسة فاستولى عليها، وأمّن أهلها. وعاد إلى مراكش فاستراح بها قليلا، ثم خرج غازياً إلى أرض برغواطة، وكانوا مازالوا على دعوة الماسي، فنشب بينهم وبينه قتال مرير، ومعارك متوالية، استمرت حيناً، وهزم الموحدون في نهايتها. واستمرت برغواطة ومن يجاورها من القبائل في ثورتهم وخروجهم فترة أخرى. وكان يحيى بن أبى بكر بن علي الصحراوي، أو ابن الصحراوية، حينما فر من فاس، عند سقوطها في أيدي الموحدين، قد غادرها إلى سبتة ليحاول أن يجعل منها قاعدة للمقاومة، وجمع أشتات الفلول المرابطية. وهنا تختلف الرواية في شأن ما تلا من الحوادث التي وقعت في سبتة. ذلك أن البيذق قدم إلينا رواية خلاصتها أن الصحراوي حينما نزل بسبتة، حاصره بها على بن عيسى بن ميمون قائد الأسطول الأندلسي في منطقة قادس، وهو الذي انحاز إلى الموحدين حسبما تقدم، فتودد إليه الصحراوي، وأوهمه أنه يريد أن يبايع الموحدين، وأن يكون توحيده على يديه، وفي اليوم التالي نزل ابن ميمون من سفينته إلى البر، فاستقبله الصحراوي ثم هاجمه فجأة وطعنه برمحه فأرداه، وصلب جثته في برج المدينة، ثم غادر الصحراوي على أثر ذلك سبتة إلى طنجة (¬1). ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 107.

بيد أن هنالك رواية أوضح تفصيلا، هي رواية صاحب روض القرطاس، وابن خلدون، وهي رواية تدور حول الدور الخطير الذي قام به القاضي عِياض ابن موسى اليحصبي قاضي سبتة، في حوادث سبتة عندئذ. وكان القاضي عِياض من أعظم فقهاء العصر وعلمائه، وكان قد وُلّي قضاء سبتة شاباً، فاشتهر بنزاهته وغزارة علمه، فنقل إلى قضاء غرناطة (سنة 531 هـ)، ثم أعيد بعد ذلك إلى قضاء سبتة (539 هـ). فلما ظهر أمر الموحدين، بادر إلى الدخول في طاعتهم، وسار إلى لقاء الخليفة عبد المؤمن، وهو بسلا في أواخر سنة 540 هـ، فأكرمه عبد المؤمن وأجزل صلته، فعاد إلى سبتة واستمر في منصبه (¬1). بيد أنه لأسباب غير واضحة، تغير ضد الموحدين فجأة، ولم يلبث وفقاً للرواية المتقدمة، أن حرض أهل المدينة على الانتقاض والثورة، فثاروا بواليها الموحدي يوسف بن مخلوف التينمللي، وقتلوه ومن معه من الموحدين. ثم عبر القاضي عياض البحر إلى الأندلس، ولقى يحيى بن غانية المسّوفي، والى الأندلس المرابطي، وطلب منه والياً لسبتة، فبعث معه يحيى بن أبى بكر الصحراوي، وكان وفقاً لنفس الرواية قد عبر البحر إلى الأندلس، وانضم إلى ابن غانية. فقام الصحراوي بأمر سبتة، ثم كتبت إليه برغواطة تستنصر به على قتال عبد المؤمن، فغادر سبتة، وسار في صحبه إليهم، فبايعوه واجتمعوا تحت رايته (¬2). بيد أن البيذق، بعد ذكر ما تقدم من اغتيال الصحراوي لابن ميمون، يقدم إلينا عن خطط الصحراوي ومسيره إلى الجنوب، تفاصيل أخرى، خلاصتها أن الصحراوي لما غادر سبتة، سار منها إلى طنجة، وهنالك ألفي واليها يحيى بن تايشا المرابطي، ممتنعاً بأسوارها القوية، وعلى أهبة حسنة للدفاع، فغادرها إلى سلا، وكان بها الخياط والد الثائر الماسي، وكانت قد خرجت فيمن خرج على طاعة الموحدين. ولكن الخياط لم يكن من أنصار لمتونة، فساء التفاهم بينه وبين الصحراوي، ولم يلبث أن وثب به الصحراوي وقتله، ووقعت هذه الحوادث كلها في أوائل سنة 543 هـ (1148 م) (¬3). وكان يحيى الصحراوي جندياً عظيماً، وفارساً وافر الجرأة (¬4). وكان يعتزم ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة - مخطوط الإسكوريال في ترجمة القاضي عياض لوحة 350. (¬2) روض القرطاس ص 124، وابن خلدون ج 6 ص 233. (¬3) أخبار المهدي ابن تومرت ص 107. (¬4) المراكشي في المعجب ص 111.

أن ينزل إلى ميدان تضطرم فيه ثورة ضد الموحدين. وكانت المنطقة الساحلية الممتدة من سلا جنوباً، حتى أراضي برغواطة، ودُكالة، قد غدت كلها بعد هزيمة الموحدين أمام برغواطة، منطقة لمقاومة الدعوة الموحدية، ومحاولة تحطيمها، فإلى هذا الميدان نزل الصحراوي في صحبه القلائل، واجتمعت برغواطة ودكالة حول رايته، ثم قدمت إليه حشود رَجراجة وحاحة، وانضمت إليه، واجتمع من هؤلاء وهؤلاء، قوة يخشى بأسها. فلما علم عبد المؤمن باجتماع هذه الحشود الضحمة الخصيمة وتأهبها لمقارعته، بعث لقتال الثوار حملة بقيادة يصلاسن، أحد خاصته. فسار يصلاسن أولا إلى تادلا، ومنها إلى سلا لمعاقبة أهلها على نكثهم، فاقتحمها، وغلب على قصبتها بالسيف، فعاد أهلها إلى الخضوع والطاعة، وعهد بولايتها إلى موسى بن زيري الهنتاني. ثم سار إلى أرض بني ورياغل، فيما بين سلا ومكناسة، وكانوا من الناكثين، فأخضعهم واستاق غنائمهم إلى مكناسة، فقسمت بين الموحدين، ثم اتجه شمالا صوب طنجة، وكانت ما تزال من معاقل لمتونة، فاقتحمها، وقتل واليها المرابطي يحيى بن تايشا. وسار منها بعد ذلك شرقاً إلى سبتة وحاصرها، ولكنه لم يدخلها، وعاد بقواته إلى مكناسة (¬1). وهنا لابد لنا أن نتساءل عن سر هذا الإغضاء عن معاقبة المدينة الثائرة أعني سبتة. والجواب على ذلك هو أن القاضي عِياض، حسبما يروي لنا البيذق، بادر فبعث إلى القائد الموحدي ببيعته وبيعة أهل سبتة للموحدين، وبذلك أنقذت المدينة (¬2). وفي رواية أخرى، أنه لما قدم الموحدون إلى سبتة، وشددوا في حصارها، سعى إليهم القاضي عياض، وتلطف في الاعتذار إليهم عما حدث، وفي استدرار عطفهم وصفحهم، فعفوا عنه، وملكوا البلدة، ولقى القاضي من القائد الموحدي يصلاسن بن المعز، كل عطف وإكرام، وأن القاضي عياض، سار بعد ذلك إلى مراكش (سنة 543 هـ)، ليستعطف الخليفة ويلتمس صفحه، فعفا عنه عبد المؤمن، وأمره بلزوم مجلسه، وأغدق عليه عطفه. ثم مرض القاضي غير بعيد، وتوفي بمراكش في ليلة التاسع من جمادى الآخرة سنة 544 هـ ودفن بها (1149 م) (¬3). وأخيراً يقول لنا ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ص 107 و 108. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 108. (¬3) وردت هذه الرواية خلال ترجمة للقاضي عياض يتضمنها مخطوط بالمكتبة الكتانية بخزانة الرباط عنوانه: " كتاب في التعريف بعياض "، ويحتفظ بها برقم 553 (لوحات 7 - 14).

صاحب القرطاس " إن أهل سبتة حينما رأوا ما نزل بالناكثين من صنوف الويل، بادروا بإعلان بيعتهم وطاعتهم، وحمل البيعة إلى عبد المؤمن أشياخ المدينة وطلبتها فتقبلها منهم، وعفا عنهم، وعن القاضي عياض، ولكنه أمره بمغادرة سبتة والإقامة بمراكش، فصدع بالأمر وسار إلى مراكش، وهنالك توفي بعد قليل في جمادى الأخرى سنة 544 هـ، وأمر عبد المؤمن كذلك بهدم أسوار سبتة فهدمت (¬1)، وأسندت ولايتها إلى حاكم موحدي هو عبد الله بن سليمان مع طائفة من الحفاظ، وعاد إليها الهدوء والسكينة. واعتزم عبد المؤمن أن يخرج بنفسه ليقضي على الخارجين عليه في منطقة برغواطة ودُكالة، التي غدت بعد حلول الصحراوي بها مركزاً للمقاومة المرابطية. فأرسل الكتب إلى سائر الأنحاء، وجاءت إليه حشود تترى من كل مكان، وكان في مقدمتهم يوسف بن وانودين، وقد وافاه بعساكر النواحي الشرقية، ولكنه توفي خلال الطريق بفاس، فخلفه في القيادة تاشفين بن ماخوخ وآخرون من الزعماء، ووفدت حشود المناطق الغربية وعلى رأسها عبد الله بن خيّار الجيّاني، الذي عرفناه من قبل مشرفاً على فاس، وقد لعب دوره في تسليمها إلى الموحدين، ثم حشود زناتة، بقيادة عبد الله بن شريف وثلاثة آخرين من الزعماء، وحشود غُمارة بقيادة عبد الله بن سليمان، وحشود صنهاجة بقيادة أبى بكر ابن الجبر وأبى يدِّر بن ومصال، وحشود جَراوة بقيادة عبد الله بن داود، واجتمعت هذه الحشود كلها تحت راية عبد المؤمن، فخرج من مراكش في عسكر جرار، وسار شمالا نحو أراضي دُكالة. وكانت حشود برغواطة ودكالة ويحيى الصحراوي قد اجتمعت عندئذ على مقربة من ساحل المحيط جنوبي ثغر أزمّور، وفي بعض الروايات أن هذه الجيوش التي اجتمعت لقتال عبد المؤمن بلغت زهاء عشرين ألف فارس ومائتي ألف راجل، وهو تقدير يحمل طابع المبالغة. ويقدم إلينا ابن خلدون تقديراً أكثر اعتدالا، فيقول إنهم كانوا في نحو ستين ألفاً من الرجالة وسبعمائة من الفرسان (¬2). بيد أنها كانت خالية من فرق الرماة، التي امتازت بها الجيوش الموحدية. والظاهر أيضاً مما تذكره الرواية المذكورة أن عبد المؤمن لجأ إلى خطة لم يحسب حسابها خصومه، وفاجأهم بالهجوم، فاختل ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 124. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 232.

نظامهم، وتبدد شملهم، واضطروا إلى مغادرة مراكزهم الحصينة نحو البحر، فغرقت منهم جموع غفيرة، وتمت عليهم الهزيمة الساحقة (¬1)، ومزقت بالأخص حشود دكالة، وفر زعماؤها ومعهم يحيى الصحراوي إلى السوس، فسار في أثرهم يصلاسن حتى أراضي رجراجة، ومزق جموعها حتى أذعنت إلى التوحيد، وفر يحيى إلى الصحراء. وفي رواية أخرى أنه بعث إلى عبد المؤمن يستأمنه فأمنه وبايعه وحسنت طاعته (¬2). واستولى عبد المؤمن على أسلاب برغواطة ودكالة، وسبى نساءهم وأولادهم وبيعوا رقيقاً. وأذعنت برغواطة إلى التوحيد، واسترد الموحدون منها ما سبق أن غنموه من أبى حفص حين هزيمته من السلاح والعتاد، وكذلك رُد إليه ولده وجاريته، وانتشر الموحدون في تلك المنطقة، وأخمدوا عدة ثورات محلية صغيرة. ووقعت هذه الحوادث حسبما يقص علينا البيذق في سنة 543 هـ (1148 م) (¬3)، وعاد عبد المؤمن إلى مراكش ظافراً بعد أن قضى في تلك الغزوة ستة أشهر. - 2 - وهكذا هدأت الثورة ضد الموحدين في مختلف النواحي، وأرغمت معظم القبائل والقواعد الثائرة، بقوة السيف، والسيف وحده، على العودة إلى الخضوع والطاعة. ولكن ما بثته هذه الثورات المضطرمة، من أقوام كان معظمهم قد آمن بدعوة المهدي، وانضوى تحت لوائها، في نفوس الموحدين من المرارة والسخط، كان نذيراً بفورة دموية جديدة. ولقد رأينا فيما تقدم، من مراحل الصراع بين الموحدين والمرابطين، كيف كان هذا الصراع يتميز في كثير من المواطن، بألوانه الدموية المثيرة، وكيف كان الموحدون يتبعون نحو المهزومين والعزّل من خصومهم، خطة التقتيل الشامل، وسفك الدماء دون تحفظ، وهي خطة كانت حسبما رأينا شعار المهدي ابن تومرت في محاربة خصومه. والظاهر أن هذه النزعة الدموية استمرت في الموحدين أجيالا، حتى بعد أن توطدت دولتهم بمدة طويلة، فإن المراكشي مثلا، وهو من مؤرخي الموحدين، ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 111. (¬2) روض القرطاس ص 124. (¬3) أخبار المهدي ابن تومرت ص 109. وفي ابن خلدون أنها وقعت في سنة 542 هـ. كتاب العبر ج 6 ص 233.

ينوه في كتابه بما جبل عليه المصامدة، وهم عماد الجيوش الموحدية، من ميل إلى سفك الدماء، وكيف أنه وهو في بلاد السوس (في أوائل القرن السابع) مهد المصامدة، قد شهد من ذلك العجب (¬1). والآن نقف أمام صفحة دموية جديدة كتبها الخليفة عبد المؤمن وصحبه الموحدون، عقب انتصارهم على القبائل الثائرة، وهي صفحة يقدم إلينا البيذق تفاصيلها الرهيبة فيما يسميه " الاعتراف " أعني الاعتراف بطاعة التوحيد. وذلك أن الخليفة عبد المؤمن، عقب عوده ظافراً إلى مراكش، عقد للموحدين مجلساً، ووعظهم وكتب لهم الجرائد بالوعظ والاعتراف، ووزعها على أشياخ الموحدين، وأمرهم باستعمال السيف في تنفيذها. ومؤدي ذلك أنه عهد إلى أشياخ مختلف القبائل وزعمائها، كل بجريدة أو قائمة، تحتوي على مئات من أسماء المارقين، والمشكوك في ولائهم، أو من يصفهم البيذق " بأهل التخليط والمعاندين " ووجوب قتلهم، وتطهير القبائل والبطون منهم، ونحن نكتفي بأن ننقل مما يورده لنا البيذق من الأسماء والتفاصيل الكثيرة، أسماء القبائل، وعدد من أعدم منها، على الوجه الآتي: أعدم من قبيلة هزميرة خمسمائة، وأعدم من رجراجة ثمانمائة، وأعدم من حاحة ثمانمائة، وأعدم من أهل السوس ستمائة من أهل إيجلي، وستمائة من أهل إينجيست، وأعدم من أهل جزولة مائتان في تاعجيزت وثلاثمائة في هشتوكة، وأعدم من هسكورة ثمانمائة، وهوجمت بقية بطونهم حتى بلغ عدد القتلى ألفين وخمسمائة، وأعدم من أهل تادلا خمسمائة في محلة نظير، ثم هوجم منهم أهل تيفسيرت وقتلوا، وأخذت غنائمهم ونساؤهم، وقتل من صنهاجة وجراوة ألف في موضع يسمى بالعمري، وقتل من زناتة ستة آلاف بأرض فازاز، وقتل من صاربوه وبني ماكود اثنا عشر ألفاً، وقتل من غمارة في تطاوين ثمانمائة، وقتل في مكناسة مائتان، وفي فاس ثمانين، وقتل في تامسنا ستمائة من أهل برغواطة، وقتل من دكالة ستمائة، ومن هيلانة ثمانمائة، ومن وريكة وهزرجة مائتان وخمسون، ومن لجاعة مائة وخمسون، ومن درعة ستمائة. ونجا أهل سجلماسة بدعاء عابد فيهم استجاب الله دعاءه (¬2). ¬_______ (¬1) المعجب للمراكشي ص 106. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 109 - 112.

يقول البيذق بعد إيراد ما تقدم " تم الاعتراف بحمد الله وعونه .. فهدّأ الله البلاد للموحدين، وأعانهم على الحق ونصرهم، وأقاموا الدين، ولم يتفرقوا فيه. وتمهدت الدنيا، وأزال الله ما كان فيها من التخليط. وهذا كان سبب الاعتراف "، ثم يضع تاريخ هذه الحوادث الدموية في سنة 544 هـ (1149 م) (¬1). وإنه لمما يلفت النظر في هذا الحادث الدموي، أولا وقبل كل شىء، أنه وفقاً لأقوال البيذق، من عمل عبد المؤمن وتدبيره، وأنه يدمغ جهود عبد المؤمن وسياسته في توطيد الدولة الموحدية، بطابع بغيض. بيد أننا نشعر من جهة أخرى، أن هذا العمل وما تقدمه من تصرفات دموية عديدة، خلال هذا الصراع الديني والسياسي العظيم، لا يمكن أن تنسب إلى عبد المؤمن دون تحفظ. ذلك أن عبد المؤمن إذا كان باعتباره خليفة الموحدين وقائدهم الأعلى، مسئولا عن هذه الأعمال المثيرة أمام التاريخ، فإنه يجب أن نذكر أيضاً أن عبد المؤمن، لم يكن بالرغم من رفيع مركزه، وسلطانه الظاهر، مطلق التصرف في كل ما يقوله أو يفعله، وأنه كان بالعكس مرغماً على أن يخضع في كثير من المواطن لضغط الأشياخ والقادة. فقد رأينا مثلا، كيف أنه حينما قُتل أخوه إبراهيم بيد بعض أكابر الموحدين، غلب على أمره، ومنع بتدخل أصحاب المهدي، من أن يقتص لمقتله من قاتله، ثم رأيناه بعد ذلك يُغلب على أمره مرة أخرى، حينما دخل الموحدون مراكش، وقُبض على إبراهيم بن تاشفين، وأتى به إلى عبد المؤمن فرقّ لحداثة سنه، وأراد أن يعفو عنه وأن يفره من القتل، فاعترض عليه بعض الأشياخ، وأخذ إبراهيم وقتل رغماً عن إرادته. ففي هذه الحوادث وأمثالها ما يدلى بوضوح بأن عبد المؤمن، لم يكن مطلق الحرية في سائر تصرفاته. وإنّا لنرتاب في أن يكون أمثال مذبحة الإعتراف، معبرة عن خلق عبد المؤمن وميوله الحقيقية، ونعتقد أنه لابد أن يكون وراءها، ووراء أمثالها من التصرفات الدموية المثيرة، ضغط الأشياخ والصحب، وقد كانوا في تلك المرحلة، هم أصحاب التوجيه الحقيقي، يزاولونه أحياناً بصورة ظاهرة، وغالباً من وراء حجاب. - 3 - بعد أن تم لعبد المؤمن سحق الثورة الكبرى، في أراضي برغواطة ودكالة، وبعد أن تم له تمييز القبائل، وقتل المارقين على النحو المتقدم، اعتزم أن يقوم ¬_______ (¬1) أخبار المهدي بن تومرت ص 112.

بجولته الثانية لسحق ما تبقى من مواطن الثورة والمقاومة، وليتم افتتاح المغرب بافتتاح إفريقية. وكان قد قام في تلك الأثناء بتامسنا، عقب حرب برغواطة بقليل، ثائر جديد يدعى بابن تمركيد، فبايعه كثير من أهل برغواطة، وغيرها من القبائل، ولبث حيناً يتحدى الموحدين، ويشتبك معهم في معارك متوالية، إلى أن يهزم أخيراً، وقتل، وقتل معه كثير من أنصاره، وحمل رأسه إلى مراكش (سنة 544 هـ). وخرج عبد المؤمن في قواته من مراكش سنة 545 هـ، مستخلفاً عليها أبا حفص عمر بن يحيى الهنتاني، وسار إلى مدينة سلا، وأمر بأن تنشأ قصبة وقصر فوق اللسان الممتد في البحر أمام سلا، وبأن ينشأ سرب يستمد الماء من عين غبولة القريبة لإمداد المحلة الموحدية، فتم ذلك، وجرى الماء، وغرست الحدائق والرياض، وأذن الخليفة للناس في التعمير والسكنى، فكان ذلك منشأ مدينة رِباط الفتح، التي غدت من ذلك الحين مركزاً لتجمع الجيوش الموحدية الغازية. ولبث الخليفة بسلا خمسة أشهر. وفي خلال ذلك، وفدت عليه وفود عديدة من الأندلس بلغت زهاء خمسمائة من الفقهاء والقضاة والزعماء والقادة، فاستقبلهم الوزير أبو إبراهيم والوزير أبو حفص، والكاتب الوزير أبو جعفر بن عطية، وأشياخ الموحدين. فأكرمت وفادتهم وأنزلوا خير منزل. ثم أخذوا لمقابلة الخليفة، وكان دخولهم عليه في غرة شهر المحرم سنة 546 هـ، وكان أول من تقدم بين يديه وفد قرطبة، فشرح قاضيها أبو القاسم ابن الحاج للخليفة، ما تعانيه قرطبة، من تهديد النصارى وضغطهم، وتلاه الكاتب أبو بكر بن الجد بخطبة بليغة، ثم تعاقبت الوفود في السلام والتهنئة، فشمل الخليفة الجميع بعطفه، وأجزل لهم الصلات كل على قدر مكانته، ثم أمرهم بالانصراف إلى بلادهم (¬1). ولا ريب أن تعاقب الوفود الأندلسية على المغرب على هذا النحو، كان له أثره في خطط عبد المؤمن المستقبلة، نحو افتتاح الأندلس، وتنظيم شئونها. وغادر عبد المؤمن سلا في أوائل سنة 546 هـ، وسار إلى المعمورة، وهو يعتزم افتتاح بجاية وإفريقية. وكانت ثمة بواعث عديدة لها خطرها، قد حملته على ¬_______ (¬1) هذه هي رواية صاحب روض القرطاس (ص 122)، ويمر البيذق على هذا الحادث بالصمت. ويشير إليه الزركشي في تاريخ الدولتين (ص 7)، ولكنه يضع تاريخه سنة 553 هـ، ويقول لنا إنه كان ضمن الوفد الأندلسي، الشاعرة الأندلسية الشهيرة حفصة بنت الحاج الركوني، وإنها أنشدت الخليفة شعراً، أعجب به، وأنه منحها إقطاع قرية ركانة.

اتخاذ هذا القرار، منها اضطراب الأمور في إفريقية واختلاف أمرائها، واستطالة العرب عليها؛ وعيثهم في أراضيها، حتى أنهم حاصروا مدينة القيروان. وأهم من ذلك كله ما حدث من اعتداء الفرنج الصقليين على الثغور الإفريقية، وافتتاحهم لمدينة المهدية (سنة 543 هـ)، وسيطرتهم على الشاطىء الإفريقي من طرابلس حتى مياه تونس. كل ذلك حمل عبد المؤمن على أن يضع خطته لافتتاح إفريقية (¬1). بيد أنه لم يسر في ذلك الاتجاه تواً، بل سار إلى سبتة متظاهراً بقصد الجواز إلى الأندلس برسم الجهاد. وهنالك استدعى وجوه الأندلس وفقهاءها وقوادها، فوفدوا إليه، فحدثهم في مسائلهم، وألقى عليهم توصياته ثم صرفهم، وغادر سبتة متجهاً في الظاهر إلى طريق مراكش، ولكنه سلك طريقاً أخرى غير مطروقة، وأمر في نفس الوقت بمنع السفر في الطرق المسلوكة، في المغرب الأوسط، من سلا إلى مكناسة، ومن مكناسة إلى فاس ومن تلمسان إلى فاس. ثم اتجه نحو الشرق، مبالغاً في إخفاء وجهته، وسار مسرعاً صوب بجاية، واستولى في طريقه على جزائر بني مزغنة (وهي التي صارت مدينة الجزائر فيما بعد)، ففر منها عاملها القائم بن يحيى إلى بجاية، ونبأ أباه يحيى بن العزيز بالله الصنهاجي، سليل بني حماد، بمقدم الموحدين. وكان بالجزائر في نفس الوقت، الحسن بن علي الصنهاجي صاحب المهدية، وابن عم صاحب بجاية، وكان الفرنج الصقليون قد استولوا على المهدية في أوائل سنة 543 هـ (1148 م) حسبما تقدم، فخرج منها ملتجئاً إلى ابن عمه يحيى، فأنزله بالجزائر منزلا سيئاً، فلما دخلها الموحدون، بادر إلى عبد المؤمن فبايعه، وصحبه مستظلا برعايته. ويجدر بنا أن نذكر هنا كلمة عن مدينة بجاية هذه، وهي التي سوف يتردد ذكرها منذ الآن فصاعداً، في مواطن ومناسبات تاريخية كثيرة. وكان إنشاؤها نتيجة لما حدث من الشقاق، بين بني زيري أمراء إفريقية. وذلك أنه قام خلاف بين تميم بن المعز بن باديس أمير إفريقية، وبين ابن عمه الناصر ابن علناس، ففارقه الناصر، وخرج في أصحابه، ودله بعضهم على موضع بجاية، وقد كان به منازل قليلة للبربر، وبين له مزاياه من المنعة، والمرسى الذي يمكن أن يغدو مركزاً هاماً لرسو السفن، وترويج التجارة، فأمر باختطاط مدينة بهذا الموقع، وهو في حماية جبل شاهق، وكان ذلك في حدود سنة ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 235.

457 هـ (1065 م) (¬1). وفي رواية أخرى أن بناء بجاية جاء نتيجة لتوغل العرب في إفريقية وعيثهم فيها، وأنهم لما قاموا بتخريب القيروان، ومعظم مدن إفريقية، فر منهم صاحب القيروان، وخرج لنصرته ابن عمه المنصور بن حماد، فهزمه العرب هزيمة شديدة، ففر إلى قاعدته بالقلعة، ولكن العرب جدوا في أثره، وطاردوه، فبحث عن موضع يختط فيه لنفسه محلة جديدة لا يلحقه فيها شر العرب، فدله بعض أصحابه على موقع بجاية، وكان مرسى قديماً، فاختطها فيه، ونقل إليها مركز حكمه، واتخذها دار ملكه (¬2). ومن ذلك الحين سارت بجاية في طريق التقدم، وغدت من أغنى وأزهر الثغور الإفريقية. وكان بنو حماد هؤلاء أصحاب بجاية والقلعة، وما يليها من ثغور المغرب الأوسط، بونة وقسنطينة والجزائر، هم فرع من بني زيري بن مناد ملوك إفريقية الصنهاجيين، الذين بسطوا عليها سيادتهم مذ غادرها بنو عبيد الفاطميون إلى مصر، في أواخر القرن الرابع الهجري، وكانوا يستظلون في البداية بسلطان الخلافة الفاطمية، ثم أعلنوا استقلالهم، وضخم ملكهم بإفريقية. وفي أوائل القرن الخامس خرج حماد بن يوسف بن زيري على ابن أخيه باديس بن المنصور ابن يوسف، واستقل بالمناطق الغربية، أعني الزاب والمغرب الأوسط، وكان والياً عليها من قبل ابن أخيه، وأسس بها إمارة جديدة عرفت بمملكة بني حماد. ولما توفي حماد في سنة 419 هـ، تعاقب بنوه من بعده في الملك، وكان مركزهم في البداية بالقلعة، وهي محلة في غاية المناعة والحصانة، اختطها منشىء دولتهم حماد في بقعة حصينة، تقع جنوبي بجاية على مقربة من بلدة أشير، وقد كانت وفقاً لقول الإدريسي من أكبر البلاد في تلك المنطقة وأكثرها خلقاً، وأغزرها خيراً، وأوسعها أموالا، وأحسنها قصوراً ومساكن، وأعمها فواكه وخصباً، وهي في سند جبل سامي العلو، صعب الارتقاء، وقد استدار سورها بجميع الجبل، ويسمى تاقربست. ويقول لنا ياقوت في وصفها، من جهة أخرى، " وليس لهذه القلعة منظر ولا رواء حسن، إنما اختطها حماد للتحصن والامتناع " (¬3). ¬_______ (¬1) ياقوت في معجم البلدان تحت كلمة بجاية. (¬2) الاستبصار في عجائب الأمصار المنشور بعناية الدكتور سعد زغلول (الإسكندرية 1958) ص 128 و 129. (¬3) الإدريسي في وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص 86، وراجع ياقوت في معجم البلدان تحت كلمة " قلعة حماد ".

ثم انتقل بنو حماد، بعد ذلك إلى بجاية منذ اختطها وأنشأها الناصر بن علناس بن حماد وذلك في سنة 457 هـ، وجعلوها قاعدة ملكهم. وكانت مملكة بني حماد، حينما زحف الموحدون على بجاية في حالة اضطراب وتفكك، وكان ملكها يحيى ابن العزيز بالله أميراً ضعيفاً يعشق اللهو والصيد. وكان وزيره القائد أبو محمد ميمون بن علي بن حمدون هو حاكمها الحقيقي، فلما وصل الموحدون إلى بجاية ضربوا حولها الحصار. واتصل ابن حمدون سراً بعبد المؤمن، وفتح له أبواب المدينة، فدخلها الموحدون (¬1). وفي الوثائق الموحدية ما يؤيد هذه الرواية. ففي الرسالة، التي وجهها عبد المؤمن بعد فتح بجاية إلى أهالي قسنطينة يدعوهم إلى التوحيد، ما يفيد بأن القائد ابن حمدون كان ضالعاً في السر مع الموحدين، وأنه عقب فتح بجاية انضم إليهم، وخدمهم هو وأخوه الفقيه أبو عبد الله محمد بن علي بن حمدون (¬2). بيد أن هناك رواية أخرى تقول إن ابن حمدون بالعكس خرج في قوات بجاية، وهي تزيد على العشرين ألف فارس، واشتبك في ظاهرها مع الموحدين في معركة هزم فيها، ودخل الموحدون المدينة على أثرها (¬3). وزحفت في نفس الوقت قوة موحدية بقيادة عبد الله ولد الخليفة عبد المؤمن، على القلعة - قلعة بني حماد الشهيرة - وقد كانت من أعظم وأمنع قلاع المغرب، وكانت معقل بني حماد الأعظم، ومهد ملكهم الأول، فاستولت عليها، وقتلت بها عدة ألوف من الصنهاجيين. ولما دخل الموحدون بجاية فر عنها صاحبها يحيى بن العزيز بالله إلى بونة، وفر أخواه الحارث وعبد الله إلى صقلية حيث استظلا بحماية الفرنج. ثم سار يحيى من بونة إلى قسنطينة، فامتنع بها مع أهله وقرابته، وهنالك حاصره الموحدون، فلما ضاق بالحصار ذرعاً، أرسل أخاه وشيوخ صنهاجة وقسنطينة، إلى عبد المؤمن يعلنون خضوعه، وإذعانه إلى التسليم ويطلبون الأمان فأجابهم عبد المؤمن إلى ما طلبوه. ولما غادر عبد المؤمن بجاية سار معه يحيى في أهله وولده إلى مراكش، وهنالك عاش في كنف الخليفة في عزة وسعة من الرزق، ولبثوا بمراكش حتى انقرض بيتهم. وكان استيلاء ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 126. (¬2) راجع رسائل موحدية، المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (الرباط سنة 1941) الرسالة السابعة ص 20. (¬3) ابن الأثير ج 11 ص 59.

خريطة: إفريقية مواقع غزوات الخليفة عبد المؤمن لافتتاح بجاية سنة 547 هـ وافتتاح المهدية سنة 555 هـ.

الموحدين على بجاية في شهر ذي القعدة سنة 547 هـ (يناير سنة 1153 م) (¬1). وكانت بجاية في ذلك الوقت، حسبما يصفها لنا الإدريسي، الذي زارها قبل ذلك بنحو عشرين عاماً، قاعدة المغرب الأوسط، وميناؤها عامرة بالسفن الواردة والصادرة، والبضائع تتدفق إليها براً وبحراً، وأهلها تجار مياسير، وبها من الصناعات والصناع ما ليس بكثير من البلاد، ولأهلها معاملات مع تجار المغرب الأقصى، وتجار الصحراء، وتجار المشرق، وبها تحل الشدود وتباع البضائع بالأموال الوفيرة، ولها بواد ومزارع، والحنطة والشعير يوجدان بها بكثرة، وكذلك سائر الفواكه، وبها دار صناعة لإنشاء الأساطيل والمراكب والسفن الحربية، يمدها الخشب الكثير الموجود في جبالها وأوديتها، والزفت البالغ الجودة والقطران الموجود في أقاليمها، وبها أيضاً معدن الحديد الطيب، وهي مركز هام للمواصلات إلى بلاد إفريقية. وهذا كله فضلا عن حصانتها الطبيعية، سواء من ناحية البر أو البحر (¬2). وكانت جموع من العرب من بطون أثبج وزغبة ورياح وغيرها، تحتل المنطقة الشاسعة، الواقعة جنوبي بجاية، وتعيش في ظل بني حماد، وتحت حمايتهم. فلما استولى الموحدون على مملكة بني حماد، شعر أولئك العرب بما يهددهم من فقد أوطانهم وأرزاقهم، فاحتشدوا لمقاومة الموحدين، وأخذوا يغيرون على مؤخراتهم، ويزعجون محلاتهم، فاعتزم عبد المؤمن أن يطهر هذه المناطق من عيثهم، وسار في قواته إلى سطيف، وجهز لقتالهم حملتين، الأولى بقيادة صهره وزوج ابنته عبد الله بن وانودين، والثانية بقيادة يصلاسن بن المعز، ولكن ثار بين القائدين خلاف، تعدى فيه يصلاسن على زميله صهر الخليفة وأهانه. ثم تركه وحده في مواجهة العرب. فانتهز العرب هذه الفرصة وهاجموا قوات عبد الله بن وانودين وهزموه وأسروه ثم قتلوه. فاستشاط عبد المؤمن لذلك غضباً، وحشد كافة الموحدين لمقاتلة العرب. فلما شعر العرب بشدة وطأة الموحدين، افترقت كلمتهم، وأذعن بعض زعمائهم إلى التوحيد، وشدد عبد المؤمن ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 113 و 114، والحلل الموشية ص 112 و 113، وروض القرطاس ص 128 و 129، والمعجب ص 113 و 114. وراجع الرسالة الثامنة من رسائل موحدية ص 24 و 25، وكذلك المؤنس في أخبار إفريقية وتونس ص 111. (¬2) الإدريسي في وصف المغرب وأرض السوادن ومصر والأندلس ص 90 و 91.

في قتال من تبقى منهم، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، دامت يوماً وليلة، وهزم العرب في نهايتها شر هزيمة، ومزقت جموعهم، وقتل وأسر منهم عدد جم. وكان في مقدمة القتلى ألمع زعمائهم هلال بن عامر. واستولى الموحدون على غنائمهم من العتاد والدواب، وكانت وفيرة هائلة. ثم طاردوهم مدى ثلاثة أيام أو أربعة في مختلف الأنحاء، حتى قضوا على معظم فلولهم. وحدثت هذه الموقعة الحاسمة في شهر ربيع الأول سنة 548 هـ (يونيه 1153 م) (¬1). وبينما كان عبد المؤمن في بجاية، إذ اجتمعت حشود غفيرة من صنهاجة يقودها زعيم يدعى أبو قصبة من بني زالدوي، وانضمت إليها كذلك جموع كثيرة من كتامة ولواتة وغيرهما، وسارت هذه الجموع لقتال الموحدين، فبعث عبد المؤمن لردهم حملة قوية بقيادة أبى سعيد يخلف، وهو من أصحاب خمسين، فالتقوا في عرض الجبل شرقي بجاية، فانهزمت صنهاجة وحلفاؤها، وقتل معظمهم، وأخذت أسلابهم ونساؤهم (¬2). ويقول لنا البيذق إن الذي قام بمدافعة صنهاجة هو عبد المؤمن نفسه، وقد كان في قلة من جنده وحشمه، ولكنه خرج ليردهم بنفسه، واشترك في قتالهم، مع أنه لم يمتشق السيف منذ موقعة البحيرة عام 524 هـ (¬3). وغادر عبد المؤمن بجاية، بعد أن نظم شئونها، وندب لولايتها ولده أبا محمد عبد الله، وسار في جيشه الظافر، أولا إلى تلمسان، ثم سار إلى فاس، ومكناسة، ثم إلى سلا، ووزع الغنائم والسبي على هذه البلاد. ثم غادر سلا إلى مراكش، وفي ركبه عدة من زعماء العرب - أو سلاطينهم حسبما يصفهم البيذق - الذين خضعوا في تلك الحركة. ولما وصلوا إلى مراكش، زودهم بالأموال ورد إليهم نساءهم وأولادهم، وصرفهم إلى بلادهم. - 4 - وصل عبد المؤمن إلى مراكش ليواجه آثار مؤامرة دبرت في غيبته، وكادت أن تصدع صرح حكومته، لو لم تخمد في مهدها. ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 114 و 115، ورسائل موحدية، في الرسالة التاسعة ص 32 - 35. (¬2) ابن الأثير ج 11 ص 60. (¬3) أخبار المهدي ابن تومرت ص 115.

وكان بطلا هذه المؤامرة أخوا المهدي ابن تومرت، أبو موسى عيسى، وأبو محمد عبد العزيز، وكانا مذ ظفر عبد المؤمن بخلافة المهدي واجتناء تراثه، يرقبان الفرص لبث الاضطراب والشغب، ويظاهرهما كثير من أهل هرغة، قبيلة المهدي، وكان عبد المؤمن بالرغم من وقوفه على ما يضمره الأخوان له من البغض والكيد، وما جنحا إليه من الانحراف، ومخالطة أهل السوء، يغضي عن سلوكهما، ويجزل لهما الصلات والنفقة، براً بذكرى المهدي وقرابتهما الوثيقة له، ويكتفي بإسداء النصح إليهما. فلما سار المهدي إلى غزاته لافتتاح إفريقية، شعر الأخوان بأن الفرصة قد سنحت لتدبير الإنقلاب المنشود، وكانا يقيمان بفاس، ويلتف حولهما نفر من الناقمين. فسارا في صحبهما من فاس إلى مراكش، وهنالك استطاعا تحريك بعض الجموع، واضطرمت بالمدينة فتنة، قتل خلالها والى المدينة عمر بن تَفْراجين حين خروجه في الفجر إلى الجامع، وكاد يستطير شررها. وعلم عبد المؤمن بما حدث وهو في سلا (أواخر سنة 545 هـ)، فبعث الوزير ابن عطية على عجل ليستدرك الأمر، فوصل إلى مراكش بعد يومين، واستطاع في الحال أن يخمد الفتنة، وأن يقبض على زعيميها عيسى وعبد العزيز. ويقول لنا البيذق إن الخليفة، أمر بقتل المخالفين من هرغة وأهل تينملّل، ولكنه أبقى على حياة أخوي المهدي وبعثهما إلى فاس حيث اعتقلا هناك تحت إشراف واليها الجيّاني (¬1). ولكن صاحب البيان المغرب يقول لنا إنهما قتلا وصلبا ضمن من قتلوا وصلبوا من الخوارج، فقتل عيسى قرب باب الدباغين، وقتل عبد العزيز بباب أغمات (¬2). ويؤيد هذه الرواية ما ورد في خطاب الخليفة الرسمي عن الحادث من الإشارة غير مرة إلى مصرع المخالفين، وفتك العامة بهم وصلبهم خارج المدينة (¬3). وما كاد عبد المؤمن يصل إلى مراكش حتى قام بحركة تطهير شاملة، قُبض خلالها على كثير من الخوارج وأهل التخليط، حسبما تصفهم الرواية، من سائر القبائل، وألقوا إلى ظلام السجن. ثم أصدر الخليفة أمره بأن يتولى الموحدون المخلصون، من كل قبيلة، قتل المارقين من قبيلتهم بأنفسهم. فامتثل الموحدون ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 116. (¬2) البيان المغرب، القسم الثالث ص 38. (¬3) الرسالة الحادية عشرة من رسائل موحدية (ص 32 و 45 و 46).

لما أمروا به، وتولوا الإجهاز بأيديهم، كل جماعة على أبناء قبيلتها، وكان الخليفة أثناء هذه المذبحة الجديدة، يجلس في البرج القائم في أعلى قصره، قصر الحجر، ليشهد التنفيذ بنفسه. ويقول المؤرخ معلقاً على ذلك " فطرقت للموحدين في هذا الوقت وحشة من الخجل والوجل، ودهشة من قبيح ما ظهر من الغادرين المذكورين، من نكوث العهد، في السهل والجبل، فتراموا على خليفتهم راغبين في العفو وإزالة الكدر، وجلب ما تعودوه من الخلوص والظفر، فقبل منهم ما أملوا، وتعطف عليهم على عادته بما سألوا ". وبعث الخليفة بهذه المناسبة، إلى مختلف البلدان، رسالة من إنشاء الوزير ابن عطية، تفيض بلاغة وبياناً، يفصل فيها ما حدث، ويوضح موقفه ويلتمس الأعذار لتبريره (¬1). وكان من الحوادث البارزة في هذه الحركة الدموية مصرع القائد يصلاسن، ابن المعز الهرغي. وكان يصلاسن أو يصليتن حسبما يسمى في رواية أخرى من زعماء قبيلة هرغة، ومن أهل الدار، أعني من أقرباء المهدي (¬2). وقد رأينا فيما تقدم كيف اختلف مع زميله القائد عبد الله بن وانودين صهر الخليفة، وتركه في قواته ليواجه وحده العرب، وكيف كان ذلك سبباً في هزيمته ومصرعه. وكان عبد المؤمن يتوق إلى معاقبة يصلاسن على سوء تصرفه. ومن جهة أخرى، فإنه يبدو أن يصلاسن كان ضالعاً مع خصوم عبد المؤمن، ومؤيداً لحركة أخوي المهدي. فلما عاد عبد المؤمن إلى مراكش، كان يصلاسن في سبتة، فأرسل الخليفة إلى واليها عبد الله بن سليمان بأن يدبر حيلة للقبض على يصلاسن وإرساله، فدعا عبد الله يصلاسن إلى نزهة بحرية في إحدى السفن، في مياه سبتة، فلما توسط البحر، انقض عليه وكبله بالحديد، ونبأ عبد المؤمن بما تم، فأمره بإعدام يصلاسن وصلبه بعد الإشهاد عليه بالذنب، فقام عبد الله بما أمر به (¬3). وفي رواية روض القرطاس، أن عبد الله أرسل يصلاسن مكبولا إلى مراكش، وأنه أعدم بها وصلب على بابها تنفيذاً لأمر الخليفة (¬4). واضطرمت الثورة في نفس الوقت بأرض السوس، وارتدت قبيلة جزولة ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 28 و 29. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 29. (¬3) أخبار المهدي ابن تومرت ص 115 و 116. (¬4) روض القرطاس ص 126.

عن الطاعة، وبعثوا إلى يحيى بن أبى بكر الصحراوي، فوفد عليهم مع زعيم آخر من خصوم الموحدين يدعى الحاج بن مركونة، وارتدت كذلك قبيلة لمطة وتزعم ثورتها محمد بن آمرجال، ثم ارتدت قبيلة إيت ييغز، وساروا إلى تازاجورت واقتحموها، وقتلوا حاكمها الموحدي، وامازير بن حواء الهنتاني، فاهتم عبد المؤمن لهذه الحوادث، وسير الشيخ أبا حفص في حملة قوية لإخماد الثورة، فخرج إلى السوس، وقاتل بني ييغز، ففروا إلى حيث كان الصحراوي، ثم سار إلى سيروان، حيث هزم بني واوزجيت، وقسمهم إلى قسمين: قسم ضمه إلى أهل تينملل وقسم ضمه إلى هنتانة، ثم عاد إلى مراكش حيث أمر الخليفة بحشد قوات جديدة، وخرجت هذه القوات بقيادة أبى حفص، وأربعة آخرين من أكابر القادة الموحدين، هم وسنار، وعبد الله بن أبى بكر بن ونكي، وعبد الله بن فاطمة، وعمر بن ميمون، وسارت كل قوة منها إلى منطقة من المناطق الثائرة، وهوجمت قبائل لمطة، وهشتوكة، وتاسريرت وآهوكار وغيرها من القبائل الثائرة، وهزمت جميعاً، وأذعن بعضها إلى التوحيد، وأخذت غنائمها وسبيها إلى مراكش، وبلغ نصيب الخليفة من تلك الغنائم، ثمانمائة ناقة (¬1)، ووقعت هذه الحوادث، فيما يرجح في أوائل سنة 549 هـ (سنة 1154 م). ولما تم إخضاع القبائل الثائرة والمرتدة على هذا النحو، غادر عبد المؤمن مراكش إلى تينملّل، وهناك زار قبر المهدي، وفرق في أهلها أموالا كثيرة وأمر ببناء مسجدها، وتوسيع خططها (¬2). ¬_______ (¬1) أخبار المهدي ابن تومرت ص 117. (¬2) روض القرطاس ص 126.

الفصل السابع فتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية

الفصْل السّابع فتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية غزوات الفرنج النورمانيين لثغور إفريقية. استيلاؤهم على طرابلس والمهدية. فرار الحسن الصنهاجي أمير المهدية وآله. انتهاء مملكة بني زيري. استيلاء الفرنج على سوسة وصفاقس. التجاء الحسن إلى عبد المؤمن. إحجام عبد المؤمن حين غزوه لبجاية عن مهاجمة الفرنج. استيلاء الفرنج على بونة. وفاة الملك رجار النورماني. بداية الثورة في إفريقية ضد الفرنج. الثورة في جزيرة جربة وصفاقس وطرابلس وقابس. انتزاع الموحدين لبونة. فشل الثورة في المهدية وزويلة. استغاثة أهل إفريقية بعبد المؤمن. تأهبه للجهاد ضد الفرنج. مسير عبد المؤمن في قواته إلى رباط الفتح. تكامل الحشود وتضخمها. مسير عبد المؤمن إلى إفريقية ومعه الحسن الصنهاجي. مسير الأسطول في البحر إلى شاطىء إفريقية. استيلاء عبد المؤمن على تونس. شروط الأمان الممنوح لها. عبد المؤمن يهاجم المهدية ثم يحاصرها. دخول صفاقس وطرابلس وجبال نفوسة في الطاعة. افتتاح الموحدين لقابس. معركة بحرية بين الموحدين والفرنج. تسليم المهدية بالأمان. إتمام تحرير إفريقية من نير الفرنج. المناوشات بين عبد المؤمن وبين العرب. أصل أولئك العرب الأفارقة. نزوحهم إلى مصر. قصة نزوحهم إلى إفريقية. عبورهم إلى الغرب ونزولهم به. محاولة استمالة المعز بن باديس لهم وعيثهم بأراضيه. الحرب بينهم وبين البربر. هزيمة المعز وفراره إلى القيروان. حصار العرب للقيروان. دخولهم إياها وتخريبهم لها. تخريبهم لتونس ونهبها. نزولهم في المهدية. قطعهم السبل وبسطهم لحكم الإرهاب في إفريقية. سيطرتهم على طرابلس وقابس وبلاد الزاب. تحولهم إلى عنصر خطر بغيض. اعتداؤهم على قابس، واستنقاذ عبد المؤمن لها. تفكير عبد المؤمن في حشد طوائفهم في عسكره. تظاهرهم بالقبول وغدرهم. محاصرة الموحدين لهم وفتكهم بهم. عبد المؤمن يرد حريمهم ويستميلهم بصلاته. عبور عبد المؤمن إلى الأندلس. لما افتتح الموحدون بجاية معقل إفريقية (¬1) من الغرب، في أواخر سنة 547 هـ، وقضى عبد المؤمن على سائر الثورات والمؤامرات التي دبرت ضده سنة 549 هـ، وقصد على أثر ذلك إلى تينملّل، وزار قبر المهدي، كانت الظروف تتهيأ لمرحلة جديدة من الفتح الإفريقي. وكانت الحوادث في إفريقية، قد تطورت خلال هذه الأعوام الأخيرة تطوراً سيئاً، واستفحل عدوان الفرنج النورمانيين أصحاب صقلية، على الثغور التونسية، والشواطىء المجاورة. وكان الفرنج ¬_______ (¬1) يقصد بإفريقية هنا " منطقة تونس ".

النورمان قد استولوا على جزيرة جِربة الواقعة في مدخل خليج قابس منذ سنة 529 هـ (1135 م)، بعد أن قاومهم أهلها مقاومة عنيفة، ثم حاولوا الاستيلاء على ثغر طرابلس في سنة 537 هـ (1142 م)، فهاجموه بأسطول قوي، ولكنهم فشلوا وردهم أهله المسلمون بخسارة فادحة، وكانت طرابلس وقتئذ تابعة لمملكة إفريقية (تونس)، ولكنها لم تكن تدين بالطاعة لملكها الأمير الحسن بن على بن يحيى الصنهاجي. ثم عاد رُجّار (روجر) ملك صقلية، فجهز إلى طرابلس أسطولا ضخماً، واستطاع الفرنج هذه المرة الاستيلاء عليها (541 هـ - 1146 م) وولوا عليها رجلا من بني مطروح. وفي العام التالي (542 هـ) أعلن يوسف صاحب قابس المتغلب عليها طاعته للفرنج، فبعث الأمير الحسن جيشاً لقتاله، فنازل قابس وحاصرها، وثار أهل البلد بيوسف، فأسر وعذب وقتل، وفر إخوته وأولاده إلى صقلية، واستغاثوا بملكها رجار الثاني. وكانت الهدنة معقودة بين رجار وبين الحسن لمدة سنتين، ولكن رجار علم ما تعانيه إفريقية والمغرب في هذه الفترة، من شدة الغلاء والقحط، ولم يرد أن تفوته هذه الفرصة السانحة لمهاجمة إفريقية، وانتزاع ما يمكن انتزاعه منها. فسير إلى مياه إفريقية أسطولا ضخماً قوامه مائتي وخمسين سفينة مشحونة بالرجال والسلاح والأقوات، بقيادة أمير البحر جرجي الأنطاكي، وكان قبل التحاقه بخدمة ملك صقلية، أميراً لأسطول إفريقية الإسلامي، ومن ثم كان علمه بأسرار هذه الشواطىء، واستولى الأسطول في طريقه على جزيرة قوصرة (بنتلاريا) الواقعة بين صقلية، وبين الشاطىء التونسي، ثم سار نحو الجنوب الغربي، وقصد إلى ثغر المهدية، وهي قاعدة مملكة بني زيري الصنهاجيين. وكان ذلك في اليوم الثاني من صفر سنة 543 هـ (يونيه 1148 م). وكان أمير البحر جرجي يرجو مفاجأة المدينة، بالوصول إليها في وقت السحر، ولكن الرياح عاكسته، ولم يصل إلا في الضحى، فرآه أهل المدينة، وازعج الأمير الحسن الصنهاجي من قدوم الفرنج، وبعث إليه جرجي يخاطبه باللين، ويقول إنه مازال يحترم الهدنة المعقودة بينه وبين الملك رجار، ولكنه يطالب بثأر صاحب قابس وردها إلى ولده، ويطلب أن تنضم إليه قوة من جند الحسن، فجمع الحسن فقهاء المدينة وأعيانها، وشاورهم في الأمر، وبين لهم حرج الموقف، وتخوفه من قيام الفرنج بحصار المدينة، وقطع الأقوات عنها، ثم اقتحامها عنوة، والفتك بأهلها، ونصح بمغادرة الناس

للمدينة، قبل أن يفوت الوقت، ثم بادر هو بالخروج منها ومعه الأهل والولد، ومن صحبه من الفقهاء والأعيان، وقد حمل معه كل ما يستطاع من المال والذخائر، وتبعه معظم الناس، فخرجوا بأهلهم وأولادهم، ومعهم ما خف حمله من أموالهم ومتاعهم. ولم يكد يأتي العصر حتى كان معظم أهل المهدية قد غادروها، وأقبل الفرنج وعلى رأسهم جرجي ودخلوا المدينة دون ممانعة، ودخل جرجي القصر، وكان ما يزال غاصاً بنفيس المتاع والرياش والذخائر، وبه عدة من جواري الحسن، فاحتاط الفرنج على ما فيه، ونُهبت المدينة مدى ساعتين، ثم نودي بالأمان، فظهر من استخفى من أهل المدينة، واستدعى جرجي العرب القريبين فأحسن إليهم، وفرق فيهم أموالا جزيلة، وبعث طائفة من جند المهدية، في أثر من خرج من أهلها، ومعهم الأمان لهم، ومعهم كذلك دواب يعودون عليها، فعاد معظمهم. أما الحسن، فسار في أهله وولده، وكانوا إثنا عشر ولداً غير الإناث، والخاصة، وقصد إلى أمير من أمراء العرب يدعى محرز، وكان أبو الحسن قد آثره وأحسن إليه، فأكرم محرز وفادته، فأقام لديه شهوراً. ثم بعث إلى ابن عمه يحيى بن العزيز بالله صاحب بجاية، يستأذنه في الوفود عليه والانضواء تحت لوائه، والسفر من لديه إلى الخليفة عبد المؤمن، فأذن له يحيى، ولكنه ما كاد يصل إلى بلاده، حتى سيره إلى جزائر بني مزغنة، أو بني مزغنان (وهي الجزائر الحالية) وأنزله بها هو وأولاده في حالة اعتقال، وضيق عليه. وهكذا انتهت باستيلاء الفرنج على المهدية، وعزل الحسن، مملكة بني زيري ابن مناد الصنهاجيين، بعد أن لبثت في إفريقية مذ رحل المعز لدين الله عنها إلى مصر، في سنة 361 هـ، وتولى زيري بن مناد حكمها، حتى سقوط المهدية في سنة 543 هـ، مائة وثمانين سنة، ولم تمض أيام قلائل على استيلاء الفرنج على المهدية حتى سير أمير البحر جرجي حملة بحرية إلى سوسة، وكان واليها الأمير علي بن الحسن، فغادرها، وخرج عنها أهلها، ودخلها الفرنج دون قتال في الثاني عشر من شهر صفر. وسير جرجي بعد ذلك حملة أخرى إلى صفاقس، فاستولت عليها بعد مقاومة عنيفة من أهلها ومن حلفائهم العرب، وذلك في الثالث والعشرين من صفر. ثم نودي بالأمان، فعاد الناس إلى سوسة وصفاقس، وافتدوا حريمهم وأولادهم، وأحسن الفرنج معاملتهم. ثم وصلت بعد ذلك كتب الملك رُجّار بمنح الأمان لسائر أهل إفريقية. وهكذا استولى الفرنج النورمانيون على شاطىء

إفريقية من ثغر طرابلس حتى خليج تونس (¬1). ولما سار الخليفة عبد المؤمن في جيوشه من سلا في أوائل سنة 546 هـ، متجهاً إلى بجاية بغية فتحها، واستولى في طريقه على جزائر بني مزغنة، خرج إليه منها الحسن بن علي الصنهاجي، وكان معتقلا بها كما تقدم، وبايع عبد المؤمن بالطاعة، ملتجئاً إليه ومستظلا برعايته، فأكرم عبد المؤمن مثواه، وصاهره بأن تزوج ابنة من بناته، واصطحبه معه إلى مراكش. وبالرغم من تقدم الفرنج والنورمانيين على هذا النحو، في امتلاك ثغور إفريقية، فإن الظروف التي كانت تحيط بالموحدين يومئذ، لم تكن تسمح لعبد المؤمن، بأن يدخل في صراع مع الفرنج، وهو مازال يعمل على توطيد أركان الدولة الجديدة، ومطاردة أعدائها في الداخل، ومن ثم فإنه بعد أن افتتح بجاية، وقضى على شغب العرب المحالفين لبني حماد، عاد إلى سلا ثم إلى مراكش، ليواجه أحداثاً جديدة في الداخل. ولكن الفرنج الصقليين لم يقفوا عند حد. ذلك أنه لم تمض بضعة أعوام على افتتاحهم للمهدية، وباقي ثغور إفريقية (تونس) الشرقية، حتى سار من صقلية أسطول فرنجي جديد بقيادة أمير البحر فيليب المهدوي، وقصد إلى مدينة بونة، الواقعة شرقي بجاية، في منتصف المسافة بينها وبين تونس، فحاصرها واستعان على أخذها بالعرب، وذلك في شهر رجب سنة 548 هـ (أكتوبر 1153 م). وبالرغم من أن فيليب قد سبى أهل بونة، واستصفى أموالها، فإنه أغضى عن جماعة الفقهاء والعلماء، فتركهم يخرجون بأهلهم وأموالهم، فترتب على ذلك أن اتهمه بعض خصومه بأنه نصراني مارق، وأنه يبطن الإسلام هو وفتيانه، فقبض عليه الملك رُجّار، وحكم عليه بالموت حرقاً. وتوفي رُجّار بعد ذلك بقليل (فبراير 1154 م) وخلفه في الملك ولده، وليم، وهو المسمى في الرواية العربية غليالم. ولم يكن وليم يتمتع بكثير من مقدرة أبيه وحزمه فلم تلبث أن اضطربت شئون المملكة، وثارت عليه بعض النواحي، وكان لذلك أثره في تطور الحوادث في إفريقية. ذلك أن أهل الثغور الإسلامية المفتوحة ما كادوا يشعرون باضطراب الأحوال في صقلية، حتى بادروا بإعلان الخلاف، ونبذ طاعة الفرنج، وكان أول من ثار منهم أهل جزيرة جربة، ثم تلتها مدينة صفاقس، وكان واليها عمر بن ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 47 - 49.

أبى الحسن الفرياني، قد وُلي عليها من قبل رُجار، وأخذ أبوه الشيخ أبو الحسن إلى صقلية رهينة بحسن طاعته، ولكن أبا الحسن أوعز إلى ولده بأن ينتهز أول فرصة لتحطيم نير الفرنج، ولا يبالي في ذلك بمصيره. فأعلن عمر الخلاف، ودعا أهل المدينة إلى قتل الفرنج وسائر النصارى، ففتكوا بهم، وقتلوهم عن آخرهم، وكان ذلك في أوائل سنة 551 هـ (أوائل 1156 م). واضطرمت الثورة ضد الفرنج في نفس الوقت في طرابلس بقيادة شيخها أبى يحيى بن مطروح، وكان زعيماً شهماً حازماً، وأسرت الحامية النصرانية (أوائل سنة 553 هـ)، وكذلك اضطرمت الثورة ضد الفرنج، في قابس، وسارت قوة موحدية من بجاية إلى مدينة بونة، وانتزعتها من الفرنج، ولم يبق بيد الفرنج من ثغور إفريقية سوى سوسة والمهدية. وحرض عمر بن أبى الحسن والي صفاقس، أهل بلدة زويلة الواقعة على مقربة من المهدية، أن يقتلوا النصارى ففعلوا، وعاونهم العرب على قطع المؤن والأقوات عن المهدية. ولما علم الملك وليم بذلك، حاول أن يدفع الفقيه أبى الحسن إلى نصح ولده، وبعث يتهدد عمراً بالويل، إذا لم يعدل عن سلوكه، فلم تنجح المحاولة، وأمر وليم بأبى الحسن فصلب أو شنق وهو يتلو القرآن (¬1). واجتمع أهل زويلة وصفاقس ومن معهم من الأعراب، وحاصروا المهدية، وضيقوا عليها، فبعث وليم إلى المهدية عدداً من السفن المشحونة بالرجال والأقوات، واستمال الفرنج الأعراب بالمال والأعطية، فانسحبوا من المعركة وانحصر القتال بين الفرنج وأهل صفاقس وزويلة، واستطاع أهل صفاقس الانسحاب بطريق البحر، ووقع عبء القتال كله على أهل زويلة، فارتدوا إلى بلدهم، وقاتلوا تحت أسوارها حتى فنى معظمهم، ولم ينج منهم إلا القليل، ودخل الفرنج زويلة فقتلوا من وجدوا بها من النساء والأطفال، ونهبوا الأموال، واستقر الفرنج بالمهدية، على أهبة للصراع المرتقب (¬2). ووفد على عبد المؤمن، وهو يومئذ بمراكش، وفود من زويلة، وغيرها من الثغور المنكوبة يستغيثون به، ويستصرخونه لرد عادية الفرنج عنهم وعن أرض الإسلام، فأكرم وفادتهم ووعدهم خيراً. وكان الحسن بن علي الصنهاجي أمير المهدية السابق، ما فتىء منذ نزوله في كنف عبد المؤمن، يحرضه ¬_______ (¬1) رحلة التجاني (تونس 1958) ص 75 و 242. (¬2) ابن الأثير ج 11 ص 76 و 77.

على استنقاذ إفريقية، وتحريرها من نير الفرنج، وكان عبد المؤمن نفسه، يرقب تقدم الفرنج في هذا الركن من شمال إفريقية، بكثير من التوجس، ويخشى أن يتفاقم عدوانهم بالتوغل في أرجاء أخرى من شمالي المغرب. ومن ثم فإنه ما كاد ينتهي من تنظيم الشئون الداخلية، حتى أمر باتخاذ الأهبة للجهاد، وأن تجمع الأقوات، وتحفر الآبار في الطرق، وبعث كاتبه عبد الملك بن عيّاش، بالكتب إلى سائر قبائل الموحدين، يستنفرهم للجهاد، وادخار المؤن، وكتب إلى أهل الثغور البحرية بإنشاء السفن والأجفان. وكان عبد المؤمن، بعد أن نكب وزيره وكاتبه أبا جعفر بن عطية، وأمر بقتله (صفر سنة 553 هـ) حسبما نفصل في موضعه، قد استوزر مكانه عبد السلام بن محمد الكومي، وعين لكتابته عبد الملك بن عيّاش القرطبي. وفي فاتحة شوال سنة 553 هـ (نوفمبر 1158 م)، غادر عبد المؤمن حضرة مراكش، وسار إلى رباط الفتح، قبالة ثغر سلا، مستخلفاً على مراكش الشيخ أبا حفص عمر بن يحيى الهنتاني ومعه ولده أبو الحسن علي، وعلى فاس أبا يعقوب يوسف بن سليمان. وتوافدت عليه العساكر من كل صوب. فلما تكامل ورود الجيوش الموحدية، تحرك عبد المؤمن من سلا في العاشر من شهر صفر سنة 554 هـ (فبراير 1159 م) ومعه الحسن بن علي الصنهاجي أمير إفريقية السابق (¬1). وتقدر الرواية هذا الجيش الموحدي الكبير بمائة ألف مقاتل ومعهم مثل هذا العدد من الأتباع والسوقة (¬2). وفي رواية أخرى أنه كان يضم خمسة وسبعين ألف فارس، وخمسمائة ألف من الرجالة، وكان يضم عدا طوائف الموحدين ومختلف القبائل من زناتة والأغزاز والرماة وغيرها، جموعاً كبيرة من قبائل العرب. وكان ينقسم إلى أربعة جيوش، لكل عسكر يوم يختص به، مسيره في كل مرحلة من السحر إلى وقت الغداة. وتنزل الجيوش مريحة إلى يوم آخر (¬3). واخترق هذا الجيش الجرار هضاب المغرب، متجهاً نحو إفريقية، واخترق بلاد الزاب من جنوبها، وهو يفتتح المعاقل الممتنعة، ويؤمن من استأمن. ثم اتجه نحو الشمال فوصل إلى أحواز مدينة تونس في الرابع والعشرين من جمادى الثانية، ومعنى ذلك أنه قطع هذه المسافة الشاسعة، وهي تبلغ نحو ألف ¬_______ (¬1) البيان المغرب، القسم الثالث ص 38، وابن الأثير ج 11 ص 91. (¬2) ابن الأثير ج 11 ص 91. (¬3) الحلل الموشية ص 115.

وثلاثمائة ميل في نحو أربعة أشهر ونصف، وقد كانت يومئذ " مسيرة سبعين يوماً للفارس المجد ". وسار الأسطول الموحدي في نفس الوقت قبالة شاطىء البحر المتوسط بقيادة أبى عبد الله بن ميمون، وكان مكوناً من سبعين سفينة حربية، من الشواني والطرائد والشلندرات. ولما وصل الموحدون إلى المدينة، بعث عبد المؤمن إلى أهلها يطلب الطاعة، فرفض أهل المدينة، وعلى رأسهم حاكمها أحمد بن خراسان، فبدأ الموحدون مهاجمة المدينة، وعاقت الرياح الأسطول عن دخولها من ناحية البحر، فلما دخل الليل، أقبل سبعة عشر رجلا من أعيانها يطلبون الأمان لأهلها، فمنحهم عبد المؤمن الأمان المطلوب لأنفسهم، وارتضى الأمان لأهل المدينة في أنفسهم وأهلهم فقط، على أن يقاسمهم الموحدون أملاكهم وأموالهم بحق النصف، وأن يخرج حاكم البلد وأهله منها، فاستقر الرأي على ذلك، ودخل الموحدون المدينة، ورصدت الأملاك والأموال، وأقيم عليها الأمناء لتحصيل ما يستحق منها للموحدين، وأقام بها عبد المؤمن ثلاثة أيام، وعرض الإسلام على من بها من النصارى واليهود، وأمر بقتل كل ممتنع عن اعتناقه، ثم غادر عبد المؤمن تونس في قواته، وسار جنوباً إلى المهدية، والأسطول يلاحقه في البحر، فوصل إليها في الثامن عشر من شهر رجب سنة 554 هـ (5 أغسطس 1159 م). وكان الفرنج بالمهدية على أهبة للدفاع، وكانت حاميتها تتكون من ثلاثة آلاف مقاتل، وكانت المدينة فوق ذلك تموج بطوائف الأشراف والفرسان الفرنج (¬1)، وقد أخلى الفرنج ضاحيتها الشمالية زويلة، فدخلها عبد المؤمن، واحتلها الجند الموحدون والسوقة، وانضمت إليهم جموع غفيرة من العرب وصنهاجة. وأخذ الموحدون في منازلة المدينة، ولكنهم لم يستطيغوا خلال ثلاثة أيام من الهجوم المستمر، أن ينالوا منها شيئاً، وكانت بمناعة موقعها الطبيعي، والبحر يكاد يحيط بها إلا من لسان متصل بالبر، وبأسوارها الحصينة العالية، ترد كل محاولة، وكان الفرنج يخرجون منها بين آن وآخر لمقاتلة الموحدين، فينالون منهم، ثم يعودون بسرعة إلى الاعتصام بالمدينة. وعندئذ أدرك عبد المؤمن أنه لا سبيل إلى اقتحام المدينة، وأنه لابد من أخذها بالحصار والمطاولة، وأمر بجمع الغلال والأقوات، فجمعت حتى صارت بين العسكر كالجبال. واستمر ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 99، والحلل الموشية ص 117.

الحصار زهاء ستة أشهر. وفي أثناء ذلك أعلنت مدينة صفاقس، ومدينة طرابلس، وجبال نفوسة، وقصور إفريقية، كلها الطاعة لعبد المؤمن، وجاء والي صفاقس عمر بن الحسين مع جماعة من الأشياخ فقدموا طاعتهم، وعين لهم عبد المؤمن حافظاً من الموحدين، وترك الشئون المخزنية لعمر، وكذلك جاء وفد من أعيان طرابلس وعلى رأسه واليها أبو يحيى بن مطروح، وبايعوا عبد المؤمن بالطاعة فأقر عبد المؤمن أبا يحيى على ولايته، واستمر في رياسته عصراً وسار جيش موحدي بقيادة السيد عبد الله بن عبد المؤمن، وقيل بقيادة الوزير محمد بن عبد السلام الكومي إلى مدينة قابس، فافتتحها بالرغم من خروج قاضيها وأعيانها لطلب الأمان، ونهبت أموالها، وأبيد من كان حولها من طوائف العرب. وفر واليها مدافع بن رشيد بن مدافع في أهله وصحبه. ثم عاد بعد فترة من التشريد، فاستجار بعبد المؤمن فعفا عنه، وأسكنه بقابس حتى توفي وكان مدافع عالماً حافظاً وأديباً شاعراً (¬1). وجاء وفد من أعيان قفصة، وعلى رأسهم واليها يحيى بن تميم بن المعز، ليقدموا طاعتهم إلى عبد المؤمن، فتقبلها منهم، ومدح عبد المؤمن شاعرهم الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبى العباس التيفاشي، بقصيدة مطلعها: ما هَزّ عطفيه بين البيض والأسل ... مثلُ الخليفة عبد المؤمن بن علي ويقال إن عبد المؤمن لما سمع هذا البيت، أشار على الشاعر بأن يقتصر عليه، وأمر له بصلة قدرها ألف دينار (¬2). ولم تمض بضعة أسابيع على بدء الحصار، حتى قدم أسطول فرنجي كبير، مكون من مائة وخمسين سفينة، مشحونة بالأقوات والمقاتلة لإمداد الفرنج. وكان هذا الأسطول قد عاد من جزيرة يابسة، إحدى الجزائر الشرقية بعدما أثخن فيها، وسبى أهلها، فلما قرب من صقلية، بعثه الملك وليم لإنجاد حامية المهدية، فلما اقتربوا من الخليج، خرج إليهم الأسطول المغربي بقيادة أبى عبد الله ابن ميمون، ونشبت بين الأسطولين معركة بحرية عظيمة انتهت بهزيمة الفرنج، واستيلاء المسلمين على عدة من سفنهم. ويقال إن عبد المؤمن كان خلال المعركة ¬_______ (¬1) رحلة التجاني ص 76 و 101 و 243. (¬2) ابن خلكان ج 1 ص 391، وابن الأثير ج 11 ص 92.

يمرغ وجهه في الأرض باكياً، وهو يدعو للمسلمين بالنصر فحقق الله دعاءه (¬1) واستمر الحصار على أشده بضعة أشهر أخرى، حتى آخر شهر ذي الحجة من سنة 554 هـ وقد نضبت الأقوات، وأخذ الضيق يرهق المحصورين، فلما رأى الفرنج ما رأوا من ضخامة جيوش عبد المؤمن وأساطيله، وأنه لا أمل لهم في النجاة من مصيرهم المحتوم، خرج منهم عشرة فرسان، وقابلوا عبد المؤمن وسألوه الأمان لمن فيها من الفرنج على أنفسهم وأموالهم، وأن يتركهم أحراراً يخرجون من المدينة، ويذهبون إلى ديارهم، فأجابهم عبد المؤمن إلى ما طلبوه، وجهز لهم السفن ليعبروا البحر فيها. وكان تصرفاً مقروناً بالحكمة، لأن صاحب صقلية الملك وليم، كان قد أنذر بقتل المسلمين في بلاده وانتزاع أموالهم، وسبى حريمهم، إذا أقدم الموحدون على قتل الفرنج في المهدية. ومع ذلك فقد غرق كثير من السفن التي كانت تحمل الفرنج إلى صقلية من جراء العواصف وثورة الموج. ودخل عبد المؤمن ثغر المهدية في صبيحة يوم عاشوراء من نفس المحرم سنة 555 هـ (21 يناير سنة 1160 م) وقد سماها عبد المؤمن سنة الأخماس. وأقام بالمهدية عشرين يوماً يرتب شئونها، ويصلح أسوارها، ويشحنها بالذخائر والأقوات. ثم ندب لولايتها أبا عبد الله محمد بن فرج الكومي، وجعل معه صاحبها القديم الحسن بن علي الصنهاجي، وأقطعه بها إقطاعاً حسناً. وهكذا استطاع عبد المؤمن، أن يقضي على عدوان الفرنج الصقليين على ثغور إفريقية، بعد أن كاد يستقر ويتأثل، وأن يحررها من نير النصرانية، وأن يردها إلى صولة الإسلام، بعد أن خرجت عنها اثني عشر عاماً، مذ سقطت في أيدي الفرنج في سنة 543 هـ (1148 م) (¬2). وفي فاتحة صفر سنة 555 هـ، غادر عبد المؤمن ثغر المهدية، وسار في قواته عائداً إلى المغرب. بيد أنه قبل أن يغادر أراضي إفريقية، وقعت بينه وبين العرب بعض مناوشات ومعارك. وكان أولئك العرب ومعظمهم من بطون هلال وسليم من مضر، قد نزحوا إلى إفريقية منذ أوائل القرن الخامس الهجري. وكانت أحياء بني سليم بالحجاز على مقربة من المدينة، وأحياء بني هلال في جبل غزوان عند الطائف، ومنهم جشم ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 92. وراجع مواقع غزوات المهدية في الخريطة المنشورة في ص 283. (¬2) ابن الأثير ج 11 ص 92، والحلل الموشية ص 117 و 118، والبيان المغرب القسم الثالث ص 39، وروض القرطاس ص 139، والاستقصاء ج 1 ص 155 و 156.

والأثبج وزغبة ورياح وربيعة وعدي. وكانوا يزحفون أحياناً إلى أطراف العراق والشام، ويقطعون الطرق، ويفسدون السابلة، وأحياناً كان بنو سليم يعتدون على الحاج أيام موسمهم بمكة، وأيام الزيارة بالمدينة. واستمرت البعوث والكتائب تجهز لمعاقبتهم، وحماية الحاج من شرهم، ولكن دون جدوى. ولما ظهر القرامطة بالبحرين في أوائل القرن الرابع الهجري لحق بهم بنو سليم، وبنو هلال، وكثير من بطون ربيعة بن عامر. ولما تغلب القرامطة على الشام، وأخذوا يهددون مصر، وظفر الخليفة العزيز بالله بهزيمتهم وردهم، استبقى أشياعهم من العرب من بني هلال وسليم بمصر، وأنزلهم بالصعيد وفي الصحراء الشرقية، فأقاموا هنالك، ولكنهم لم ينقطعوا عن عيثهم وفسادهم. وهنا تأتي قصة نزوحهم إلى إفريقية. وكان المعز لدين الله الفاطمي، حينما انتقل من إفريقية إلى مصر في سنة 361 هـ، قد استخلف على إفريقية يوسف بن زيري بن مناد الصنهاجي ليحكم باسم الخلافة الفاطمية وتحت سيادتها. ثم تطورت الظروف وعمل آل زيري على تدعيم استقلالهم، حتى فسد الأمر بينهم وبين الخلافة الفاطمية، فخلعوا طاعتها الإسمية، وأعلن المعز بن باديس الصنهاجي انضواءه تحت لواء الخلافة العباسية (سنة 437 هـ)، فعز ذلك على الخلافة الفاطمية، وغضب الخليفة المستنصر بالله، وأخذ البلاط الفاطمي يبحث عما يمكن فعله لمقابلة هذا الإجراء، الذي اعتبر خروجاً على الخلافة الفاطمية، واعتداء على حقوقها الشرعية. وكان العرب من بني سليم وهلال الذين أنزلوا بالصعيد قد تكاثروا، وتفاقم عيثهم وشرهم، فأشار الوزير أبو محمد الحسن بن علي اليازوري، على الخليفة المستنصر باستمالة أشياخهم، وتقليدهم أعمال إفريقية وشئونها، ليكونوا هنالك أولياء للدعوة الشيعية، وليعملوا على نصرتها إزاء آل زيري المنتزين عليها، فإن نجحت الفكرة وبقى أولئك على ولائهم، كان ذلك كسباً للخلافة الفاطمية وتقوية لجانبها، هذا فضلا عن انقطاع عيثهم بنواحي مصر، وإن كان الأمر بالعكس فهم وشأنهم. فوافق المستنصر على ذلك الرأي، وبعث وزيره إلى العرب في سنة 541 هـ، فسار إلى أحيائهم، وبذل العطاء الوفير لأشياخهم، وفرق في عامتهم بعيراً وديناراً لكل منهم، وأباح لهم عبور النيل، وقال لهم قد أعطيناكم مُلك المغرب، ومُلك المعز بن باديس.

فثارت أطماع أولئك العرب، وأغراهم ما سوف ينالونه في إفريقية من أسباب الثراء والسلطان، وجازت النيل من بطون سليم وهلال جموع غفيرة وساروا إلى برقة، ونزلوا بها، واقتحموا أمصارها، واستباحوها، واستولوا على أسلابها، وبعثوا إلى إخوانهم في شرقي النيل يرغبونهم في اللحاق بهم، فجازت منهم جموع أخرى بعد أن أعطوا دينارين لكل رأس، واقتسموا الأراضي المفتوحة، فحصل لبني سليم الشرق، ولهلال الغرب، وأقامت طوائف من سليم وأحلافها برواحة وناصرة وعمرة من أرض برقة. وسارت قبائل دياب وزغبة وجميع بطون هلال إلى إفريقية، وهم " كالجراد المنتشر لا يمرون على شىء إلا أتوا عليه " حتى وصلوا إلى إفريقية وذلك في سنة 443 هـ. وكان أول من وصل إليها من أشياخهم أمير رياح موسى بن يحيى الصنبري، وكان المعز بن باديس حينما رأى تقاطر العرب نحو أراضيه، قد فكر في استمالتهم ومحالفتهم، فاستدعى موسى إليه وقربه وأصهر إليه، وحثه على استدعاء العرب، وذلك لكي يقوي جانبه بمؤازرتهم، فاستنصرهم وجلبهم. ولكنهم عاثوا في البلاد أيما عيث، ونادوا بشعار الخلافة الفاطمية، واشتدوا على أحياء صنهاجة، فغضب المعز، وقبض على أخى موسى، وخرج بقواته إلى ظاهر القيروان، واستعان بابن عمه حماد بن بلُكّين صاحب القلعة، فبعث إليه بالأمداد، والتفت حوله زناتة والبربر، وصمد في حشوده الجرارة للعرب، وكانوا وفقاً لأقوال الرواية في ثلاثين ألفاً، وفي مقدمتهم رياح وزغبة وعدى. فلما التقى الفريقان انخذل العرب من أنصار المعز، وخانته زناتة، فكانت عليه الهزيمة ففر في فلوله الباقية إلى القيروان، ونهب العرب جميع محلته، وقتلوا من حشوده أكثر من ثلاثة آلاف. ثم حاصر العرب مدينة القيروان، وطال حصارها، وخرب العرب أحوازها، وعاثوا فيها أيما عيث، وطوقت زغبة ورياح المدينة، ففر منها الأعيان والقرابة من آل زيري، وفر كثير من أهلها إلى تونس. وملك العرب في نفس الوقت قسنطينة وسائر أعمالها، واقتسموا بلاد إفريقية، وذلك في سنة 446 هـ، فكان لزغبة طرابلس وأحوازها، ولمرداس من رياح باجة وما إليها، ثم اقتسموها مرة أخرى، فكان لهلال من تونس إلى الغرب، وبطونهم رياح وزغبة وجشم وقرة والأثبج وسفيان. وغلب عائد بن أبى الغيث من شيوخهم على تونس، ونهبها، وملك أبو مسعود

سوسة صلحاً. ورأى المعز بن باديس ملكه يتصرم، فحاول التقرب من العرب، وصاهر ببناته الثلاث ثلاثة من أمرائهم، هم فارس بن أبى الغيث وأخوه عائد، والفضل بن أبى علي المرادي، ولكن ذلك لم يحقق له ما أمل، فسار إلى القيروان وسار العرب في أثره، فخشى أمرهم، وانحرف نحو الشاطىء ودخل العرب مدينة القيروان وخربوها ونهبوها، وعاثوا فيها أيما عيث واستباحوا سائر حريمها، واستصفوا سائر أموال المعز وآله، وفر عنها أهلها في سائر الأنحاء. وسار العرب بعد ذلك إلى المهدية، فنزلوها، وضيقوا على أهلها، وكثر فسادهم وعيثهم وتصدت زناتة بعد صنهاجة لمقاومتهم، فغلبوا عليها، واستولوا على سائر الضواحى والأعمال في تلك المنطقة. واضطرب أمر إفريقية. وساد بها الذعر والفزع، وانهارت أركان الأمن، وفسدت السابلة، وبسط العرب عليها حكم عصابات مروع، وغلبوا على صنهاجة وزناتة ومغرواة وغيرها، وسيطروا على نواحي طرابلس، وقابس والزاب، ومعظم أعمال إفريقية (¬1). ثم وقع التهادن والصلح بينهم وبين صنهاجة وبقية القبائل البربرية، وتفرقوا في الضواحى والبوادي، فتكاثروا في تلك الجهات، وتأثل نفوذهم وسلطانهم بمضي الزمن، وأضحوا عاملا يحسب حسابه في ميزان القوى، في إفريقية، وفي بلاد الزاب، والمغرب الأوسط. بيد أنهم لبثوا دائماً عنصراً من عناصر الاضطراب والفوضى، يتنقلون بين مختلف الأحزاب والمعسكرات، ويتدخلون في مختلف الحروب التي تنشب على مقربة من ديارهم، لا تحدوهم في ذلك أية مثل سياسية أو دينية، ولا هم لهم إلا اجتناء الكسب والمغانم، من أي جانب وبأي الوسائل، وقد رأينا ما وقع بينهم وبين الموحدين من معارك، على أثر افتتاح عبد المؤمن لبجاية. وقد كانوا أولياء لأمرائها من بني حماد، يعيشون في كنفهم وتحت حمايتهم. تلك هي قصة نزوح العرب إلى إفريقية وقصة تخريبهم لها. وقد نوه سائر الكتاب والمؤرخين المعاصرين والمتأخرين بتلك الروح العدوانية المخربة، وتلك الخواص الذميمة التي سادت طوائف العرب النازحين، وجعلت منهم عنصراً خطراً، تتوق سائر السلطات وسائر العناصر الأخرى من السكان إلى سحقه ¬_______ (¬1) ابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 13 وما بعدها.

وإبادته، وإنقاذ العباد من شره وعدوانه (¬1). وسوف نرى فيما بعد أي دور خطير يلعبه أولئك العرب في حوادث إفريقية أيام نزول بني غانية بها. وكان عبد المؤمن حينما تم له فتح المهدية، وإجلاء الفرنج من إفريقية، يتجه بكل جوارحه نحو شئون الأندلس. وكان يعتقد أنه يستطيع أن يستعين بطوائف المرتزقة من أولئك الأعراب، في حملات الجهاد التي يزمع تسييرها إلى شبه الجزيرة، وكانت طائفة من بني سليم قد اعتدت على مدينة قابس، على أثر افتتاح الموحدين لها، فبعث إليهم عبد المؤمن يعاتبهم ويستدنيهم، ووجه إليهم في ذلك شعراً من نظم القاضي ابن عمران. بيد أنهم تمادوا في عدوانهم، وتغلبوا على قابس، فبعث عبد المؤمن عسكراً لقتالهم، وهو بالمهدية، فهزمهم، واستنقذ قابس من أيديهم (¬2). وفكر عبد المؤمن قبل عودته إلى المغرب، أن يدعو العرب إلى الانتظام في عسكره، فجمع زعماء العرب من بني رياح وغيرهم، وحثهم على نصرة الإسلام بالأندلس، وطلب إليهم أن يجهزوا لهذه الغاية عشرة آلاف فارس، من أهل النجدة والشجاعة، ليجاهدوا في سبيل الله، إلى جانب الجيوش الموحدية، فتظاهروا بالموافقة والطاعة، وأقسموا على ذلك، وساروا معه حتى جبل زغوان. وكان من بين زعمائهم، زعيم يدعى يوسف بن مالك، فاتصل بعبد المؤمن بالليل، وأخبره بأن العرب لا يريدون المسير إلى الأندلس، وأنهم يعتقدون أنه يريد بذلك أن يخرجهم من بلادهم، وقد تحقق صدق ذلك في الليلة التالية، إذ هرب العرب تحت جنح الظلام إلى عشائرهم، ولم يبق سوى يوسف هذا، فسماه عبد المؤمن يوسف الصادق، وسار عبد المؤمن في قواته حتى وصل إلى مقربة من قسنطينة، ونزل هناك في وادي مخصب يقال له وادي النساء، بعيداً عن أطراف العمران، واستمر هنالك عشرين يوماً، والسكينة ترفرف على جيوشه، وقد انصرف العرب إلى أحيائهم التي يحتلونها. فلما علم عبد المؤمن باجتماعهم ثانية في أحيائهم بعث إليهم جيشاً من ثلاثين ألف مقاتل، بقيادة ولديه أبى محمد وأبى عبد الله، ¬_______ (¬1) يشير ابن خلدون في مواضع كثيرة إلى عيث أولئك العرب وتخريبهم لمدن إفريقية (راجع كتاب العبر ج 6 ص 14 و 15 و 16). ويشير الإدريسي إلى ذلك غير مرة (وصف المغرب وأرض السودان ومصر، الأندلس ص 93 و 105 و 109 و 122)، وكذلك صاحب الاستبصار في عجائب الأمصار (ص 128 و 161)، وغيرهم. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 39.

فسار الموحدون في هدوء، وانعطفوا إلى الصحراء، وراء أحياء العرب، حتى لا يفلتوا بالتوغل فيها، وكان العرب قد احتشدوا جنوبي القيروان عند جبل القرن، تحت إمرة بعض المشاهير من مقدميهم، مثل أبى محفوظ محرز بن زياد، ومسعود بن زمام، وجبارة بن كامل بن سرحان وغيرهم، فلما دهمهم الموحدون اضطربوا واختل نظامهم، وفر مسعود وجبارة ومن معهما من العشائر، وثبت محرز بن زياد ومن معه، واشتبكوا مع الموحدين في معركة عنيفة، وذلك في منتصف شهر ربيع الآخر من سنة 555 هـ، فقتل محرز، وانهزمت جموع العرب، وسقط متاعهم وحريمهم وولدهم في أيدي الموحدين، فأمر عبد المؤمن بالتحفظ عليهم ورعايتهم، حتى أقبلت وفود رياح والأثبج، في طلب حريمهم، فردهن إليهم، وفرق فيهم الصلات، واستمالهم بحسن صنيعه، وانتهى بأن جهز منهم قوة لتشترك في الجهاد في الأندلس (¬1). وسوف نرى فيما بعد أي دور هام يلعبه أولئك العرب، في حوادث المغرب والأندلس، وكيف تعمد السياسة الموحدية إلى استمالتهم والاستعانة بهم، ولاسيما في عهد الخليفة أبى يعقوب يوسف ولد عبد المؤمن وخليفته. وفي شهر ذي القعدة سنة 555 هـ (نوفمبر سنة 1160 م) عبر الخليفة عبد المؤمن البحر إلى الأندلس، وكان عبوره إليها حادثاً هاماً من أشهر حوادث العصر، وكانت له نتائج بعيدة المدى. بيد أنه يجب قبل أن نتحدث عن عبور الخليفة الموحدي إلى شبه الجزيرة، أن نستعرض ما تقدمه من الحوادث المتعلقة بموقف الموحدين من شئون الأندلس. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 92 و 93.

الكتاب الثالث ثورة القوى الوطنية بالأندلس وتغلب الموحدين على شبه الجزيرة.

الكِتابُ الثالِث ثورة القوى الوطنيّة بالأندلسْ وتغلّب الموحّدين على شبه الجزيرة.

الفصل الأول الثورة فى الأندلس وانهيار سلطان المرابطين

الفصل الأوّل الثورة في الأندلس وانهيار سلطان المرابطين صدى حوادث المغرب في الأندلس. اضطرام الفكرة القومية الأندلسية. قام الثورة في غربي الأندلس. ابن قسي وأتباعه المريدون. دعوته ومزاعمه. ظهور أمره وفراره إلى ميرتلة. معاونة ابن القابلة. تحرج مركز المرابطين في الغرب. ابن قسي يدير خطة الاستيلاء على ميرتلة. مداهمة ابن القابلة لحصن ميرتلة وانتزاعه. نزول ابن قسي فيه. قيام الثورة في يابرة وشلب. ابن المنذر المتغلب على شلب. تسليم المرابطين بباجة، ومغادرتهم لها. استيلاء ابن المنذر عليها. مبايعة ابن وزير صاحب يابرة، وابن المنذر لابن قسي. ابن قسي يرسل سفارة إلى عبد المؤمن. خروج ابن المنذر في قوات المريدين واستيلاؤه على ولبة ولبلة. مسيره إلى إشبيلية وانتزاعه بعض ضواحيها. لقاؤه بالمرابطين. هزيمته وفراره. مسير ابن غانية أمير المرابطين إلى لبلة. وقوع الثورة بقرطبة وعود ابن غانية إلى إشبيلية. محاولة المريدين الزحف على قرطبة وفشلها. الخلاف بين ابن قسي وابن وزير. استيلاء ابن وزير على شلب وميرتلة. فرار ابن قسي إلى المغرب والتجاؤه إلى عبد المؤمن. إقناعه للخليفة بالتدخل في حوادث الأندلس. ابن غانية أمير المرابطين بالأندلس وموقفه. قيام الثورة في قرطبة. زعيمها القاضي ابن حمدين. مبايعته بالإمارة وتسميه بأمير المسلمين. استدعاء فريق من أهل قرطبة لسيف الدولة ابن هود. مقدمه إلى قرطبة ودخوله إياها. فرار ابن حمدين. الثورة ضد ابن هود وفراره. عودة ابن حمدين إلى حكم قرطبة. زحف ابن غانية على قرطبة، اللقاء بينه وبين ابن حمدين. هزيمة ابن حمدين وفراره. دخول ابن غانية قرطبة. تغلب ابن حمدين على حصن أندوجر وأحوازه. مسير ابن غانية لقتاله. التجاء ابن حمدين إلى ملك قشتالة. مسير ابن حمدين وحلفاؤه النصارى إلى قرطبة. دخولهم المدينة وعيثهم فيها. امتناع ابن غانية بقصبتها. ذيوع الأخبار بمقدم الموحدين إلى شبه الجزيرة. التهادن بين قشتالة وابن غانية. ولاية ابن غانية لقرطبة. ما يروى في ذلك عن قيصر قشتالة. خروج ابن حمدين من قرطبة. عبوره إلى المغرب ومقابلته لعبد المؤمن. عوده إلى الأندلس والتجاؤه إلى صاحب مالقة. الثورة في غرناطة. زعيمها القاضي ابن أضحى. استغاثته بابن حمدين. دعوة أهل غرناطة لسيف الدولة بن هود. تحالف ابن أضحى وابن هود ضد المرابطين. لقاء ابن هود والمرابطين خارج غرناطة. تحصن المرابطين بالقصبة. وفاة ابن أضحى وقيام ولده محمد. تعاونه مع ابن هود ضد المرابطين. مقدم عسكر مرسية لقتال المرابطين، هزيمتهم ومقتل زعيمهم. مغادرة ابن هود لغرناطة والتجاؤه إلى جيان. رواية ابن الأبار عن مراحل الصراع في غرناطة بين المرابطين وخصومهم. الثورة في مالقة. ظاهرة تزعم القضاة للثورة ضد المرابطين وتعليلها. أبو الحكم بن حسون زعيم الثورة في مالقة. تغلبه على المرابطين. انتزاعه للرياسة. استعانته بالمرتزقة النصارى. تدبير مؤامرة لإسقاطه. نجاح المؤامرة وانتحار ابن حسون. ثورة ابن ملحان في

وادي آش. ثورة ابن جزى في جيان. ثورة أخيل بن إدريس في رندة. ثورة ابن عزون في شريش. عبوره إلى المغرب ولقاؤه لعبد المؤمن. إنضمامه إلى الموحدين عند عبورهم. رواية أخرى عن ابن عزون وبيعته لعبد المؤمن. قيام ابن ميمون في قادس. عبوره إلى المغرب وانضمامه إلى عبد المؤمن. ثورة ابن الحجام في بطليوس. دخوله في طاعة الموحدين. كان من الطبيعي أن تحدث حوادث المغرب صداها القوي فيما وراء البحر، ْفي شبه الجزيرة الإسبانية، حيث كانت الدولة المرابطية تبسط سلطانها على مختلف القواعد الأندلسية. وقد اتخذ هذا الصدى منذ البداية، صورة ثورة عامة ضد المرابطين، اجتاحت الأندلس بسرعة من غربها إلى شرقها. بيد أنه يجب أن أن نلاحظ بادىء ذي بدء، أن هذه الثورة الجارفة ضد سلطان المرابطين لم تكن فقط نتيجة لحوادث المغرب، وظهور أمر الموحدين، وتضعضع قوى الدولة المرابطية، وعجز المرابطين عن حماية الأندلس من غزوات النصارى المخربة، وإن كانت هذه الحوادث، قد بثت إليها قوة واضطراماً جديدين. وإنما كانت عوامل الثورة الأندلسية، ضد الحكم المرابطي، تكمن منذ بعيد، بل هي ترجع حسبما أشرنا في مقدمة هذا الكتاب، إلى أعقاب الفتح المرابطي ذاته، حيث كانت الفكرة القومية تجيش بأذهان فريق كبير من أبناء الأمة الأندلسية، وكان هذا الفريق، يرى في المرابطين، بعد أن تبددت آثار المديح والإعجاب الأولى، التي تلت نصر الزلاقة، وبعد أن انقلب الإخوة المنقذون إلى فاتحين متغلبين، أجانب غاصبين، يستظلون بفكرة الجهاد، ليبسطوا سلطانهم على الأمة الأندلسية. وبالرغم من أن فكرة الجهاد الأولى، التي اضطلع بها المرابطون في الأندلس، في أوائل عهد علي بن يوسف، والتي أسفرت عند ظفرهم ضد الجيوش النصرانية، في عدة وقائع، مثل موقعة أقليش (501 هـ)، وما تلاها من الغزوات المظفرة، حتى موقعة إفراغة (528 هـ)، كانت تغالب هذه الفكرة القومية، وتضفي على حكم المرابطين رونقاً ومجداً، فإن الأمة الأندلسية لم تنس الحقائق الواقعة، ولم تنس أنها قد فقدت استقلالها وحرياتها، في ظل الحكم المرابطي، خصوصاً بعد أن أخذت وطأة هذا الحكم تشتد شيئاً فشيئاً. وكانت ثورة قرطبة على حكومتها المرابطية في سنة 515 هـ (1121 م)، أول تعبير مادي لهذا الشعور القومي، وأول نفثة لهذا السخط المكبوت ضد عسف الحكم المرابطي. وقد رأينا كيف أدرك أمير المسلمين علي بن يوسف يومئذ خطورة

الموقف وتذرع إزاءه بالإغضاء والتسامح. ويرى الأستاذ كوديرا، أنه كان من أسباب سخط أهل الأندلس على المرابطين أيضاً، مبالغة الدولة المرابطية في العطف على النصارى، وإيثار علي بن يوسف ومن بعده ولده تاشفين لهم، وإدماجهم في الجيوش المرابطية، وإعطائهم مراكز التفوق والقيادة (¬1). بيد أن هذا السبب، يعتبر في نظرنا ثانوياً، إزاء العامل القومي، لأن الأندلسيين أنفسهم، كانوا أيام الطوائف، يستظهرون بالنصارى على قتال بعضم بعضاً، وسوف نرى أنهم يلجأون إلى مثل هذه الوسيلة في ثورتهم ضد المرابطين، ثم الموحدين. وعلى أي حال، فإن بذور الثورة الأندلسية ضد المرابطين، لبثت حيناً تنمو وتختمر، حتى أخذت الدولة المرابطية، في أواخر عهد علي بن يوسف، ثم ولده تاشفين من بعده، تترنح تباعاً تحت ضربات الموحدين، ولاح عندئذ أن الفرصة قد سنحت لتقوم الأندلس بدورها الفعال في تحطيم الدولة المرابطية، والتخلص من نيرها. بيد أنه كان من الواضح، أن تحقيق مثل هذه الغاية، كان يرتبط أشد الارتباط بمسألة الإنضواء تحت لواء الدولة الجديدة التي غلبت على الدولة المرابطية، ونعني دولة الموحدرن، وأن هذا الانضواء، كانت تمليه ضرورات الموقف، وبواعث المصلحة القومية ذاتها. ذلك أن الأندلس بالرغم مما كانت تجيش به ضد المرابطين من عوامل السخط والانتقاض، لم تنس أن جيوشهم كانت عماد الدفاع عنها ضد إسبانيا النصرانية، وأن مثل هذا الدفاع، لا يمكن أن يتحقق، بعد انهيار سلطان المرابطين، إلا بقيام سلطان الدولة الجديدة، وتدفق جيوشها على شبه الجزيرة، لتقوم بنفس المهمة الدفاعية، التي كانت تقوم بها الجيوش المرابطية من قبل. وقد ظهرت أعراض الثورة في الأندلس ضد المرابطين، أولا في الطرف الغربي لولاية الغرب الأندلسي، وهي أبعد المناطق عن سلطان الحكومة المركزية. ولنلاحظ أولا أن هذه الأعراض الثورية، قد ظهرت في الأندلس، في نفس الوقت الذي بدا فيه انهيار الدولة المرابطية في المغرب أمراً محققاً، وذلك حين جد الموحدون في مطاردة الجيوش المرابطية بقيادة الأمير تاشفين بن علي شمالا، ثم حين انتهت موقعة وهران بمصرع تاشفين وتبدد جيوشه، وذلك في رمضان سنة 539 هـ (1145 م). ¬_______ (¬1) F. Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides, p. 28 & 29

- 1 - في تلك الآونة ظهر أول الزعماء الثائرين بالأندلس في منطقة شِلْب في جنوبي البرتغال، واضطرمت أول ثورة فعلية ضد المرابطين. أما الزعيم الثائر فهو أبو القاسم أحمد بن الحسين بن قَسِيّ. وأما الثورة فهي ثورة أتباعه المريدين. وكان ابن قَسِيّ مُوَلداً، يرجع إلى أصل نصراني. وقد نشأ في أحواز شلب، واشتغل في بداية أمره مشرفاً بشلب (¬1)، ثم اعتنق طرائق الصوفية، وتبحر فيها حتى غدا من شيوخها، وألف فيها طائفة من الكتب، منها كتاب " خلع النعلين ". ثم تزهد، أو تظاهر بالزهد وباع أمواله، وتصدق بثمنها، وتجول في البلاد، ولقي بألمرية قطب الصوفية يومئذ أبا العباس بن أحمد بن محمد الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف، ودرس عليه، ثم عاد إلى وطنه، واستقر بقرية جلة من أحواز شلب، وابتنى بها رابطة كان يجتمع فيها بصحبه، وانكب على قراءة كتب الغزالي، والتف حوله كثير من الصحب والأنصار، ينكبون على قراءة الكتب الصوفية والباطنية، ورسائل إخوان الصفا وغيرها، وينهمكون في مزاولة شعائر الطريقة ورسومها، حتى ذاع أمرهم بالأخص بمنطقة شلب وميرتلة ولبلة، وغيرها من أعمال غرب الأندلس، وسموا بطائفة " المريدين " (¬2). وكان ابن قسيّ في الواقع يتخذ الصوفية قناعاً لمشاريع يضمرها، ويدعو إلى الثورة في الباطن، ثم لم يلبث أن ادعى الولاية والهداية، وتسمى بالمهدي وبالإمام، وكثرت مخاريقه وشعوذته، وزعم القدرة على الخوارق، ومن ذلك أنه حج في ليلة واحدة، وأنه يناجي بما يشاء، وينفق من الكون، فذاع أمره، وتقاطرت إليه الوفود، من أهل البيوتات والأجناد. وكان من صحبه جماعة ممن ظهروا فيما بعد، في ميدان الحوادث، مثل أبى محمد سيدراي بن وزير، وابن عفان، وكلاهما من زعماء يابُرة، ومحمد بن المنذر من أهل شلب، ومحمد بن عمر، وعبد الله بن أبى حبيب، وغيرهم من زعماء ولاية الغرب. ولما شعر أن السلطات فطنت لأمره، وهمت بمطاردته، وقُبض على جماعة من أصحابه، وأخذوا إلى إشبيلية، سار هو إلى جهة ميرتلة، واختفى هناك بقرية الجوزة عند قوم يعرفون ببني السنة. وكان ¬_______ (¬1) ويقول ابن الأبار إنه كان يشتغل بالأعمال المخزنية أي المالية (الحلة السيراء ص 199). (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 199، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 249.

من أصحابه المقربين، رجل وافر الدهاء والجرأة، يدعى محمد بن يحيى الشلطيشي، ويعرف بابن القابلة، وكان يسميه بالمصطفى لاختصاصه به، واطلاعه على أموره ومشاريعه، ويعتمد عليه في تنفيذ خططه. فأوعز إليه من مقره السري، أن يسير في صحبه المريدين إلى قلعة ميرتلة، وأن يدهموها وفق خطة وضعها لهم، وكان ذلك في أوائل سنة 539 هـ. وكانت حال المرابطين، ولاسيما في هذا الإقليم النائي، إقليم الغرب، قد اضطربت وغلب عليهم الضعف والوهن بما أصاب دولتهم في المغرب من الاختلال والانهيار، وبما افتقدوه من أمداد كانت تشد أزرهم وقت الحاجة، وزادت الجفوة بينهم وبين أهل الأندلس، لما اشتد من ضغطهم، وعيث جندهم بسبب الحاجة، وقد استطال عليهم الناس، وأخذوا في التعدي عليهم وإرهاقهم. وشعر الثوار في هذه الظروف التي هبطت فيها قوى المرابطين المادية والمعنوية، بأن مشاريعهم سوف يحالفها النجاح، وكان هذا شعور ابن قسي حينما دبر مع معاونه ابن القابلة خطة الاستيلاء على ميرتلة. فجمع ابن القابلة نحو سبعين رجلا من أولئك المريدين المتعصبين، وسار إلى ميرتلة، ودهم حصنها في جوف الليل، واستولى عليه، وذلك ليلة الخميس الثاني عشر من صفر سنة 539 هـ، وضبط ابن القابلة القلعة، وأعلن بها عدوة ابن قسي. وحاول المرابطون في تلك الجهة استعادتها من المريدين، فلم يفلحوا فتركوها، وانقلبوا إلى تخريب تلك المنطقة. وفي غرة ربيع الأول وصل ابن قسيّ إلى ميرتلة في جمع حاشد من المريدين، شعارهم التهليل والتكبير، فصعد إلى قصبتها، واستقر بقصرها، وتسمى بالإمام، وبعث إلى أعيان ولاية الغرب وزعمائها، يدعوهم إلى الانضمام إليه، وإلى الثورة ضد المرابطين. فاستجاب له كثير من أهل تلك الأنحاء، وقام أهل يابُرة بزعامة عميدهم سيدراي بن وزير، ونزعوا سلطان المرابطين، وحذا حذوهم أهل شلب، بقيادة زعيمها محمد بن عمر بن المنذر. وكان ابن المنذر هذا ينتمي إلى بيت قديم من بيوتات المولدين بشلب، وكان من علمائها ونبهائها، وقد درس في إشبيلية، وبرع في الفقه والأدب، ووُلي خطة الشورى ببلده، ثم تزهد على مثل ابن قسيّ، واستقر برابطة على شاطىء البحر تعرف برابطة الريحانة، واعتنق دعوة ابن قسي وتوثقت صلاتهما. ولما قام بشلب اقتداء بابن قسي في ميرتلة، سار إلى حصن مرجيق في شرقي شلب، وانتزعه من المرابطين

وقتلهم. ولما علم المرابطون بباجة بما وقع، طلبوا من أهلها الأمان، وغادروها إلى إشبيلية. وعلى أثر خروجهم منها سار إليها ابن المنذر، ومعه فرقة من جند يابُرة أمده بها ابن وزير بقيادة أخيه أحمد، وخاله عبد الله بن الصميل، واستولى عليها. ثم سار ابن المنذر وابن وزير إلى ابن قسي، فسلما عليه بالإمارة، وبايعاه بالطاعة (ربيع الأول سنة 539 هـ)، فأقر ابن وزير على حكم باجة وأحوازها، وابن المنذر على حكم شلب وأحوازها. والظاهر أن ابن قسي حاول في تلك الفترة بالذات، أن يتصل بالموحدين لأول مرة. وكان لانتصار الموحدين في موقعة وهران ومصرع تاشفين بن علي سنة 539، أعمق وقع في الأندلس، وأكبر حافز للعناصر الثائرة، على أن تمضي قدماً في ثورتها. وهنا بعث ابن قسي سفيراً إلى عبد المؤمن عاهل الموحدين، وهو قائم على حصار تلمسان، في أواخر سنة 539، وتلقب في رسالته بالمهدي، فأنكر ذلك عبد المؤمن ولم يجاوبه (¬1)، لما لمسه من تعاليه في الخطاب عليه. وفي خلال ذلك وقعت بولاية الغرب حوادث هامة. وكان ابن المنذر، حين ولاه ابن قسي إمارة شلب، قد حشد قواته وقوات أكشونبة وسائر صحبه المريدين، ثم سار إلى ابن قسي بميرتُلة، وجدد له البيعة والعزم على نصرته ونشر دعوته، فجدد له ابن قسي عهده على ما بيده من البلاد، وسماه العزيز بالله. وعندئذ خرج ابن المنذر في قواته، وعبر نهر وادي يانه، وسار إلى مدينة وِلْبة على مقربة من شرقيه، فاقتحمها واستولى عليها، ثم سار منها إلى مدينة لَبلة الواقعة في شمالها الشرقي، واستولى عليها بمعاونة يوسف بن أحمد البطروجي، أحد أقطاب الثوار المريدين في تلك الناحية، وأخرج من كان في قلعتها من المرابطين. وهنا شعر ابن المنذر بتضاعف قواته، وتملكه الغرور، واعتزم أن يسير إلى مدينة إشبيلية، وقد شجعه ما نمى إليه من أنها كانت حينئذ دون أمير يتولى أمرها. فخرج في قواته من لَبْلة، وسار إلى حصن القصر وطُلياطة من مشارف إشبيلية الغربية، واستولى عليها، ثم تقدم حتى الحصن الزاهر ودخله. بيد أنه حينما وصل إلى طُريانة ضاحية إشبيلية الغربية، التقى بقوة من المرابطين. وكان أمير الأندلس المرابطي أبو زكريا يحيى بن غانية، حينما وقف على حركات الثوار في غرب الأندلس، وسيرهم من لَبلة صوب إشبيلية، قد غادر قرطبة في قواته، وسار ¬_______ (¬1) ابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 231، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 251.

إلى إشبيلية فوصل إليها, في الوقت الذي كان فيه ابن المنذر يعيث في نواحيها، فبعث لقتاله قوة عبرت نهر الوادي الكبير، والتقت بالمريدين في طريانة، فأوقعت بهم، وقتلت منهم عدداً جماً، وفر ابن المنذر في فله إلى لبلة، ثم لحق بشلب، وترك يوسف البطروجي للدفاع عن لبلة. وزحف ابن غانية على لبلة. وكان ذلك في قلب الشتاء وشدة قره، فلبث على منازلة لبلة نحو ثلاثة أشهر، وعندئذ بلغه قيام الثورة في قرطبة بزعامة القاضي ابن حَمْدين، فترك لبلة وعاد إلى إشبيلية، وقد عول على التريث وملازمة الحيطة والحذر، إلى أن يستبين سير الحوادث. ولما علم ابن قسيّ بما وقع من اضطرام الثورة في قرطبة، ألفى الميدان ممهداً للقيام بمغامرات جديدة. فأمر ابن المنذر أن يحشد قواته، وأن يسير ومعه ابن القابلة كاتب ابن قسي وصاحبه الأثير إلى قرطبة، ليحاول دخولها. وبعث إلى نفر من أنصاره بقرطبة ليعملوا على بث دعوته، وترغيب العامة في قبولها. فسار ابن المنذر وصاحبه في عسكر شلب ولبلة، إلى قرطبة. بيد أنهما حين اقتربا منها، علما بأن الحوادث قد تطورت، وأن أهل قرطبة استدعوا لرياستها سيف الدولة ابن هود، وطردوا ابن حمدين، فارتدا خائبين إلى الغرب، وفشلت محاولة ابن قسيّ في مهدها (¬1). وكان الجو قد فسد عندئذ بين ابن قسيّ، وحليفه السابق سيدراي بن وزير صاحب باجة. وكان ابن قسي، قد دبر القبض عليه حينما وفد عليه بميرتلة أثناء غيبة المنذر وخلعه، ثم أطلق سراحه ورده إلى ولايته. ولما عاد ابن المنذر خائباً من حملة قرطبة، حاول ابن قسي أن يتفاهم مع سيدراي، ولكن سيدراي ارتاب في مقصده، وأبى الاستجابة له، فبعث ابن قسي، ابن المنذر لمحاربته، فهزمه ابن وزير وقبض عليه، ثم زحف على شلب وانتزعها (¬2)، وانتهى بالاستيلاء على ميرتلة، وأعلن خلع ابن قسي والدعوة لابن حمدين صاحب قرطبة، وذلك في شعبان سنة 540 هـ (¬3). فبادر ابن قسي إلى الفرار، وعبر البحر إلى المغرب، وسار إلى مقابلة الخليفة عبد المؤمن، وتقدم إليه تائباً متبرئاً من دعاويه السابقة ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 203 و 204. (¬2) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 251. (¬3) الحلة السيراء ص 239.

في الولاية والهداية، فتقبل عبد المؤمن اعتذاره، وأكرم وفادته. وهنا تختلف الرواية اختلافاً بيناً في الزمان والمكان، اللذين التقى فيهما ابن قسي بالخليفة الموحدي. فيقول ابن الأبار، ويتابعه ابن الخطيب، إن ابن قسي لقى عبد المؤمن في سلا في ربيع الآخر سنة 540 هـ، ثم انصرف في المحرم سنة 541 هـ (¬1). هذا مع أن ابن الأبار يذكر لنا في موضع آخر أن تغلب سيدراي على ابن قسي واستيلاءه على ميرتلة كان في شعبان سنة 540 هـ. ولابد أن عبور ابن قسي كان عقب خلعه وفقده لإمارته. ويقول لنا ابن خلدون إن ابن قسي عبر إلى المغرب في سنة 540 هـ، ثم يذكر لنا في موضع آخر أنه قدم إلى المغرب، عقب افتتاح مراكش، وقد كان افتتاح مراكش حسبما تقدم في شوال سنة 541 هـ (¬2). ويزيد ابن خلدون على ذلك أن ابن قسي نزل عند عبوره بسبتة، وأن واليها ابن مخلوف هو الذي جهزه إلى عبد المؤمن. وربما كانت رواية ابن خلدون الأولى أكثر الروايات تمشياً مع سير الحوادث. وعلى أي حال، فقد كان لمقدم ابن قسي نتائج عملية. ذلك أنه استطاع أن يحمل الخليفة الموحدي على المبادرة بالتدخل في حوادث الأندلس، وتجهيز حملة موحدية بقيادة برّاز بن محمد المسّوفي، لقتال المرابطين والثوار فيما وراء البحر، تلتها بعد ذلك حملات أخرى حسبما نفصل بعد. - 2 - كانت غرناطة في البداية مقر الحكومة المرابطية العامة بالأندلس، ثم رأى أمير المسلمين علي بن يوسف أن ينقل مركز الحكم إلى قرطبة، وذلك حينما أصدر مرسومه في سنة 526 هـ بتعيين ولده الأمير تاشفين، متولي شئون الأندلس، والياً لقرطبة، وأن يجعلها مقر الحكم. ثم استُدعي تاشفين إلى المغرب في سنة 532 هـ وعين لولاية العهد. ولما توفي علي بن يوسف سنة 537 هـ، وخلفه ولده تاشفين في الملك اختار الأمير يحيى بن غانية الصحراوي والياً لقرطبة، ومشرفاً على شئون الأندلس، وقائداً عاماً للجيش المرابطي، وذلك في سنة 538 هـ (1143 م). وقد تحدثنا فيما تقدم عن أصل ابن غانية ونشأته، وأعماله في شرقي الأندلس. ولما تجهمت الحوادث للدولة اللمتونية بالمغرب، وتقوضت دعامتها تحت ضربات ¬_______ (¬1) الحلة السيراء ص 200، وأعمال الأعلام ص 251. (¬2) كتاب العبر ج 4 ص 166، وج 6 ص 234.

عبد المؤمن، ودوت أصداء النكبة في جنبات الأندلس، أخذ ابن غانية يواجه عواصف الثورة هنا وهنالك. ولما تفاقمت حوادث الغرب، وزحف المريدون أتباع ابن قسي على إشبيلية، سار ابن غانية في قواته لردهم، مستخلفاً على قرطبة أبا عمر اللمتوني، فهزمهم في طريانة، ثم طاردهم حتى لبلة، وأخذ في منازلتها، وهنا بلغته أنباء الثورة في قرطبة، فارتد أدراجه إلى إشبيلية، ولبث بها حيناً يدبر أمره، ويستعد لمواجهة الحوادث. ذلك أنه لم تمض بضعة أشهر على قيام الثورة في الغرب، وسقوط قواعده في أيدي الثوار، حتى اضطرمت قرطبة بثورة مماثلة. وكان زعيم الثورة قاضي المدينة، ابن حَمْدين، وهو أبو جعفر حمدين بن محمد بن علي بن حمدين، وكان بيتهم من أقدم البيوتات العربية. دخل جدهم الأندلس مع الطالعة البلجية، واستقروا في باغة، وبها ازدهر بيتهم، وكان ابن حمدين قد وُلي قضاء قرطبة في شعبان سنة 529 هـ، على أثر مقتل قاضيها أبى عبد الله بن الحاج، وهو يصلي بالمسجد الجامع في صفر من تلك السنة. ثم صُرف ابن حمدين عن القضاء في سنة 532 هـ، وولى مكانه أبو القاسم بن رشد فوليه نحو عامين، ثم أعفاه الأمير علي بن يوسف من منصبه دون أن يعين خلفاً له، ووقع بعد ذلك بقرطبة هياج اعتدى فيه العامة على المرابطين، فخرج إليهم ابن حمدين، وتمكن من تسكين ثورتهم، فظهر يومئذ بوافر حكمته وشهامته، وبقيت قرطبة دون قاض مدى عام. ثم أذن علي بن يوسف لأهلها أن يختاروا لهم قاضياً، فأجمعوا على اختيار ابن حمدين، فولى القضاء للمرة الثانية في سنة 536 هـ، واستمر في منصبه حتى أواخر سنة 539 هـ. وكانت حوادث المغرب من جهة، وحوادث الثورة في الغرب، قد أخذت تحدث أثرها، وأخذت بذور الثورة تختمر من جديد في أذهان الشعب القرطبي، وقد عرفناه فيما تقدم من مراحل التاريخ الأندلسي شعباً سريع التقلب، سريع الهياج. فما كاد الحاكم المرابطي، الأمير يحيى بن غانية، يبتعد في قواته صوب إشبيلية لحمايتها من عيث المريدين، حتى اضطرمت قرطبة بالثورة، وثارت العامة بالوالي المرابطي الرئيس أبى عمر اللمتوني، وأعلنوا خلعه، وخلع دعوة المرابطين، ونادوا برياسة القاضي أبى جعفر بن حَمْدين، وبويع ابن حمدين بالإمارة في المسجد الجامع، وبايعه الخاصة والعامة، وذلك في الخامس من شهر رمضان سنة 539 هـ. واستقر

ابن حمدين بقصر الخلافة، وتسمى بأمير المسلمين وناصر الدين، ووفقاً لقول ابن الأبار بأمير المسلمين المنصور بالله، وفي بعض الروايات بأمير المؤمنين. ودعى له على منبر قرطبة ومعظم منابر القواعد الأندلسية. وكان ابن غانية قد سار عندئذ إلى لبلة ليجهز على المريدين الذين تحصنوا بها، فلما علم بما وقع في قرطبة، عاد أدراجه إلى إشبيلية. ولكنه ما كاد يستقر بها حتى ثار به أهلها، وناصبوه الحرب وجرح أثناء القتال الذي نشب بينه وبينهم، فارتد عندئذ في قواته إلى حصن مرجانة القريب (¬1). وفي تلك الأثناء تطورت الحوادث في قرطبة، وسعى فريق من شعبها القُلّب إلى الاتصال بأبى جعفر أحمد بن عبد الملك بن هود الملقب بسيف الدولة المستنصر بالله. وقد فصلنا فيما تقدم سيرة هذا الأمير، وكيف آل أمره إلى مغادرة روطة آخر قواعد بني هود في الثغر الأعلى، وتسليمها إلى ملك قشتالة ألفونسو ريمونديس مقابل أراض منحها إياه في منطقة طليطلة، وذلك في سنة 534 هـ (1139 م). وقد لبث سيف الدولة، الذي تعرفه الرواية النصراية باسم "سفادولا" Zafadola مقيماً في أراضيه الجديدة، في كنف ملك قشتالة، بضعة أعوام، حتى قامت الثورة في قرطبة وفي غيرها من القواعد الشرقية. وكان فريق من أهل قرطبة يرى في هذا الأمير - آخر بني هود ملوك سرقسطة السابقين - خير ممثل للزعامة الأندلسية العريقة، ومن ثم فقد عملوا على استدعائه، ليتولى إمارة قرطبة. ولبى سيف الدولة هذه الدعوة، وجاء إلى قرطبة، فدخلها بممالأة فريق كبير من أهلها، فبادر ابن حمدين إلى الفرار، ولحق بحصن فرنجولش المنيع، الواقع شمال غربي قرطبة، في سطح جبل الشارات (سييرّامورينا). بيد أن هذا الإزعاج لم يطل أمره. ذلك أنه لم يمض أيام قلائل على قيام سيف الدولة بالأمر، حتى ثار القرطبيون مرة أخرى، وهاجموا القصر، وفتكوا بابن الشماخ وزير سيف الدولة، وعدة من أصحابه، ففر سيف الدولة ناجياً بنفسه، ولما يمض على وجوده في قرطبة اثنا عشر يوماً، وقصد إلى مدينة جيان، وكان قد ثار بها القاضي ابن جزى، فتغلب عليه وملكها منه، ثم خاض عدة حوادث أخرى نرجىء التحدث عنها، حتى نستوفي حوادث قرطبة (¬2). ¬_______ (¬1) ابن الأبار في التكملة رقم 119، ج 1 ص 38 و 39، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 53، وفي الإحاطة (1956) ج 1 ص 306. وفي مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 392. (¬2) الحلة السيراء ص 225.

وما كاد سيف الدولة يغادر قرطبة، حتى عاد إليها ابن حمدين من حصن فرنجولش واستأنف رياسته، واستطاع في الأشهر القلائل التي عاشتها حكومته، أن يدون الدواوين، وأن يجند الأجناد، وأن يرسم الخطط، وبعث إلى بعض زملائه الثوار في القواعد الأخرى في طلب الاعتراف برياسته، فاعترف بها بعضهم، ومن هؤلاء أبو الغمر بن عزون (¬1) صاحب شريش، وأبو جعفر بن أبى جعفر صاحب مرسية. واستمرت رياسة ابن حمدين الثانية أحد عشر شهراً. ولكن فريقاً من خصومه الناقمين على حكمه، كتبوا إلى يحيى بن غانية في القدوم عليهم، واستعادة سلطانه على المدينة. فسار ابن غانية من إشبيلية قاصداً إلى قرطبة، في جمادى الآخرة سنة 540 هـ (1145 م). وبرز ابن حمدرن من قرطبة في قواته للقائه، فالتقيا بأحواز إستجة في جنوب غربي قرطبة، وكانت بينهما وقيعة، هزم فيها ابن حمدين، وفر إلى بطليوس، ملتجئاً إلى حماية صاحبها عبد الله بن الصميل من زعماء المريدين. ودخل ابن غانية قرطبة في الثاني عشر من شعبان من تلك السنة، ثم غادر ابن حمدين بطليوس، وسار إلى حصن أندوجر الواقع شرقي قرطبة وتحصن به، وبسط سلطانه على البلاد المجاورة، فتحرك ابن غانية إلى قتاله، وحاصره في أندوجر مدى شهر. وهنا لجأ ابن حمدين إلى تلك الوسيلة القديمة الذميمة، التي كانت عماد الطوائف في محاربة بعضهم بعضاً، وهي الاستنصار بعاهل قشتالة، القيصر ألفونسو ريمونديس. ويقول لنا ابن الخطيب إن ابن حمدين، " أطمع القيصر في قرطبة "، فاستجاب إلى دعوته، وتحرك وفقاً للرواية العربية إلى نصرته. ولكن الرواية النصرانية تقول لنا إن القيصر أرسل إلى معاونة ابن حمدين، الدوق فرناندو خوانس في بعض قواته (¬2). ولما وصل القيصر إلى أندوجر، ولم يستطع ابن غانية، دفعاً للنصارى، انصرف في قواته إلى قرطبة، فسار النصارى في أثره، ومعهم حليفهم ابن حمدين في أصحابه، ودخل النصارى وابن حمدين قرطبة في العاشر من ذي الحجة سنة 540 هـ (مايو 1145 م)، وامتنع ابن غانية في المدينة، يدافع النصارى في صبر وجلد. وعاث القشتاليون في شرقي قرطبة، واستباحوا المسجد الجامع، وأخذوا ما كان فيه من النواقيس التي كانت رؤوساً للثريات، ومزقوا المصاحف، ومنها فيما زعموا مصحف عثمان، ونزعوا المنار من الصومعة، وكان من الفضة ¬_______ (¬1) رسمت كذلك - ابن عزون - في البيان المغرب ص 22، وابن خلدون ج 6 ص 234، وابن صاحب الصلاة (مخطوط المن بالإمامة لوحة 175 أ). ولكن ابن الأبار يرسمها ابن غرون الحلة السيراء ص 222 (¬2) F. Codera: cit. Anales Toledanes (Dec. y Disp.) p. 61.

الخالصة، وأحرقوا الأسواق. كل ذلك وابن غانية صامد يدفع النصارى عن القصبة بمنتهى الشدة والبسالة (¬1). وحدث عندئذ أن جاءت الأخبار بأن الموحدين قد عبروا البحر إلى إسبانيا، وأن أهل إشبيلية خلعوا طاعة المرابطين، فاهتم القيصر لهذه الأنباء، ورأى من الفطنة أن يهادن ابن غانية، وأن يتركه بقرطبة " سداً بينه وبين بلاده ". ْوهكذا تم التفاهم بين القيصر وابن غانية، وعقدت شروط الهدنة، وخرج ابن غانية من القصبة، واستحضر له القيصر أهل قرطبة بين يديه، وقال لهم " إني قد فعلت معكم من الخير ما لم يفعله من قبلي، وتركتكم رعية لي، وقد وليت عليكم يحيى بن غانية، فاسمعوا له وأطيعوا ". ويقص علينا ابن الخطيب الذي ننقل عنه هذه التفاصيل، أن القيصر مضى ْفي مخاطبة أهل قرطبة، فقال " ولا يربكم أن تكونوا تحت يدي ونظري، فعندي كتاب نبيكم إلى جدي ". حدث ابن أم العماد وأبو الحسن قال، حضرت، وأحضر حقاً من الذهب، فُتح وأخرج منه كتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ملك الروم، وهو جده بزعمه. والكتاب بخط علي بن أبي طالب. قال أبو الحسن، قرأته من أوله إلى آخره كما جاء في حديث البخاري (¬2). وهكذا استقر ابن غانية بقرطبة، وأخذ في تحصين القصبة، واشتد في معاملة أهلها، وأخذ يسومهم الخسف، لما أثموا به في حقه وغدروا به. وعهد بضبط المدينة، وتدبير شئونها لمولاه فلوج العلج، وكان حازماً شديد الوطأة، فمال على أهل المدينة، وأذلهم وانتزع كثيراً من أموالهم. واستمر ابن غانية على تهادنه مع القشتاليين نحو عام آخر، تطورت الحوادث خلاله بسرعة. أما ابن حمدين فقد غادر قرطبة مع النصارى، وسار إلى حصن فرنجولش، ولبث به فترة قصيرة، ثم عبر البحر إلى المغرب، وسار إلى مقابلة الخليفة عبد المؤمن أسوة بمن سار إلى لقائه، من زعماء الثورة في الأندلس، فلقيه تحت أسوار مراكش، وهو محاصر لها (أوائل سنة 541 هـ) حسبما تقدم ذكره، فأحسن الخليفة استقباله. ثم عاد إلى الأندلس فنزل بمالقة، في كنف زميله وحليفه ابن حسون الثائر بها، وحاول مرة أخرى أن يسترد سلطانه ¬_______ (¬1) نقلنا هذه التفاصيل عن ابن الخطيب في الإحاطة في ترجمة ابن غانية (مخطوط الاسكوريال السالف الذكر لوحة 392). (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) نفس اللوحة السابقة.

بقرطبة، فأخفق مسعاه، وارتد ثانية إلى مالقة، واستقر بها حتى توفي في رجب سنة 546 هـ (نوفمبر 1151 م) ودفن بمسجدها الجامع. ولما استولى الموحدون على مالقة، بعد ذلك بعشرين شهراً، نبشوا قبره، واستخرجوا جثمانه وصلبوه، وهو وفقاً للرواية، بحاله لم يتغير (¬1). - 3 - كان من أصداء ثورة ابن حمدين في قرطبة أن قامت في نفس الوقت في غرناطة ثورة مماثلة، زعيمها القاضي أبو الحسن علي بن عمر بن أضحى. وكان أبو الحسن هذا من أهل ألمريّة، وبها ولد في سنة 492 هـ، وولى قضاءها بعد قاضيها الزاهد ابن الفرّا. ولما قامت ثورة ابن حمدين بقرطبة، كان ابن أضحى بمدينة غرناطة، فبعث إليه ابن حمدين يدعوه إلى اتّباعه والدعوة له. فاستجاب ابن أضحى لدعوته، وآزره فريق كبير من أهل المدينة، وتعاونوا على إخراج الملثمين (المرابطين) منها، فاعتصموا بالقصبة، ونشب القتال بن الفريقين، وكان أمير غرناطة المرابطي يومئذ، هو علي بن أبي بكر المعروف بابن فنّو. وهو اسم أمه، أخت علي بن يوسف. ولما شعر ابن أضحى بتفوق المرابطين، استغاث بحليفه ابن حمدين صاحب قرطبة، وابن جزى قاضي جيان، فبعث إليه ابن حمدين بعض قواته بقيادة ابن أخيه علي بن أبى القاسم المعروف بابن أم العماد. ولكن حدث خلال ذلك، أن رأى فريق من أهل غرناطة، أن يلتجئوا إلى رئيس يولونه على أنفسهم، ويستطيع مغالبة اللمتونيين، واقترح البعض أن يكون هذا الرئيس هو سيف الدولة بن هود، لقدم بيته، وبعد صيته في الرياسة، وتغلبه على جيان وغيرها من القواعد، وأيدهم في ذلك ابن أضحى وأصحابه. وبعث أهل المدينة برغبتهم إلى ابن هود، فلباها، وقدم إلى غرناطة في عسكر " من أوباش النصارى وسقاط الجند ". فلما رأى ابن أم العماد تطور الأمور على هذا النحو، ارتدت قواته ثانية إلى قرطبة. وتعاهد ابن أضحى وابن هود على مدافعة اللمتونيين. وكان اللمتونيون حين مقدم ابن هود، قد أنسوا ضعف عسكره، وانحلال جنده، فبرزوا للقائه خارج غرناطة، ونشب بينهما قتال شديد، فهزم ابن هود، وقتل كثير من أصحابه، وكان ذلك في اليوم ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 254. ويقول الضبي إن وفاته كانت في سنة 543 هـ (بغية الملتمس ص 261)، ويقول ابن الأبار إنها كانت في سنة 548 هـ (التكملة رقم 119).

التاسع عشر من ذي الحجة سنة 539 هـ. ولم يستطع ابن هود أن يدخل غرناطة إلا بشق الأنفس، فدخلها مع من بقي من رجاله، من فوق الأسوار، ومن أعلى التلال، ثم جاز إليها من باب مورور، بعد أن اشتبك في معركة أخرى مع قوة مرابطية ثانية، وفقد عدداً آخر من جنده (¬1). وفي رواية ابن الأبار أن ابن هود وابن أضحى لبثا على قتال المرابطين بالقصبة شهراً، وفي خلال ذلك جرح ولد ابن هود عماد الدولة وأسر ومات بالقصبة، فدفع المرابطون بنعشه إلى أبيه. ثم توفي القاضي ابن أضحى، فتقدم ولده محمد مكانه، واستمر في التعاون مع ابن هود في مدافعة اللمتونيين. وقدم في نفس الوقت عسكر من مرسية قوامه نحو ألفي فارس بقيادة قاضيها الثائر بها ابن أبى جعفر، فخرج إليه اللمتونيون، فهزموه وقتلوه ومعظم عسكره، واستباحوا البلد - غرناطة - استباحة قهر وغلبة، وفر معظم الناس عن منازلهم، ثم ارتدوا إلى القصبة واعتصموا بها. فلما رأى ابن هود تفاقم الأمور على هذا النحو، وأنه لا طاقة له بمقاومة اللمتونيين، غادر غرناطة، وفر إلى قاعدته جيان، وكان قد ترك بها ابن عمه نائباً عنه. وقد أورد لنا ابن الأبار، في ترتيب هذه الحوادث، رواية أخرى خلاصتها، أن ابن أضحى لما قام بثورته، دعا أولا لابن حمدين وذلك في رمضان سنة 539 هـ، فامتنع الملثمون بالقصبة، إلى أن وصل من جيان مع بعض قواد الثغر مدد لابن أضحى، وانضم إليه جمع وافر من أهل غرناطة، فخرج إليهم الملثمون، وهزموهم شر هزيمة، ثم عادوا إلى القصبة. ودامت الحرب بين الفريقين مدة داخل غرناطة وخارجها، إلى أن قدم ابن أبى جعفر القائم بمرسية في عسكر قيل إنه كان يبلغ اثني عشر الفاً بين خيل ورجل، فخرج إليهم الملثمون مرة أخرى وهزموهم، وقتلوا ابن أبى جعفر، ثم عادوا إلى الاعتصام بالقصبة مرة أخرى. وهنا قدم ابن هود في قواته ودخل غرناطة من باب مورور، فاستقبله ابن أضحى وأنزله، واستسقى ابن هود، فأمر له بقدح من الماء المسموم.، فصاحت به العامة محذرة، فخجل ابن أضحى، وتناول القدح وشرب منه، لكي يدفع مظنة الاتهام، فمات من ليلته، وانتقل ابن هود إلى القلعة الحمراء، والقتال متصل بين الملثمين. وأهل غرناطة، حتى كان ذات يوم تمكن الملثمون فيه من ¬_______ (¬1) نقلنا التفاصيل المتقدمة عن كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي، وقد وردت في ترجمة علي بن عبد الله بن ثابت الأنصاري (عن نسخة خزانة الرباط المصورة عن نسخة باريس).

ابنه وقتلوه. وبقي ابن هود بعد ذلك نحو شهر في غرناطة، والصعاب تكتنفه من كل صوب، ثم هم أهل غرناطة بمناوأته ففر عنها ليلا وقصد إلى مرسية، أو إلى جيان. وقام من بعده بأمر غرناطة أبو بكر محمد بن أبى الحسن بن أضحى، ولكنه لم يلبث بها سوى أيام قلائل، وهو يدافع خصومه، ثم فر بعد ذلك إلى المُنكّب ناجياً بنفسه (أول سنة 540 هـ) واضطر أهل غرناطة إلى التفاهم مع حاكمها المرابطي ميمون بن يدِّر بن ورقاء، وكان قد خلف أميرها السابق على بن فنّو بعد وفاته، وهكذا استعاد اللمتونيون سيطرتهم على غرناطة (¬1). وكان القاضي أبو الحسن بن أضحى فقيهاً بارعاً، وأديباً، وشاعراً جزلا، وقد أورد لنا ابن الأبار طائفة من نظمه، ومن ذلك قوله: يا ساكن القلب رفقاً كم تقطعه ... الله في منزل قد ظل مثواكا يشيد الناس للتحصين منزلهم ... وأنت تهدمه بالعنف عيناكا (¬2). - 4 - وحدث في مالقة نفس ما حدث في قرطبة وغرناطة، وانقلب قاضيها إلى تزعم الثورة بها ضد المرابطين. وإنه لما يلفت النظر في هذه الأحداث المتشابهة، تلك الظاهرة العجيبة، وهي أن قادة الثورة ضد المرابطين لم يكونوا زعماء الجند، وإنما كان معظمهم قضاة من رجال القلم. ففي قرطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقة، ومرسية، وبلنسية، وغيرها، كان زعماء الثورة قضاة، فقهاء أدباء وشعراء، من أعلام التفكير في ذلك العصر. وقد نجد تعليلا لتلك الظاهرة، فيما كان يتمتع به الفقهاء والقضاة، في ظل الدولة اللمتونية من واسع الجاه والنفوذ، حتى تركزت فيهم عناصر الزعامة المحلية، التي كان يتمتع بها من قبل جيل الأمراء والقادة، الذين اختفى معظهم حينما قضت الدولة اللمتونية على دول الطوائف، وإلى أنه لما أخذ نجم الدولة اللمتونية في الأفول، وانهار سلطان أولئك القضاة بانهيار الدولة، التي أظلهم سلطانها ونفوذها، حاولوا بإضرام نار الثورات المحلية، وتولى زعامة مدائنهم، أولا أن يحتفظوا بسابق رياستهم، وثانياً أن يستردوا سلطانهم القومي، بعدما تحطم نير الدولة الغالبة. وسوف نرى فيما بعد، أنه بعد أن تختفي هذه الثورات المحلية الصغيرة، سواء بالقضاء ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 209. (¬2) الحلة السيراء ص 109 و 210 و 211 وقد وردت بها مقطوعات شعرية أخرى لابن أضحى.

عليها، أو بانضواء قادتها تحت لواء الدولة الموحدية الجديدة، تبقى عناصر الثورة القومية الأندلسية العسكرية والسياسية، مستمرة مدى جيل آخر، على يد بعض الزعماء، الذين لم يجدوا في قيام الدولة الموحدية بالأندلس، مكان الدولة المرابطية، تحقيقاً للغاية القومية التحريرية، التي كانت تبتغيها الأندلس، من تحطيم نير أولئك الغزاة البربر، الذين جاءوا إليها من وراء البحر، باسم الجهاد في سبيل الله، ثم استقروا فيها سادة حاكمين. في الوقت الذي قام فيه ابن حمدين بقرطبة، وابن أضحى بغرناطة، نهض بمالقة قاضيها أبو الحكم بن حسّون، ليتزعم ثورة مماثلة. وهو الحسين بن الحسين ابن عبد الله بن الحسين الكلبي بن حسّون، ويكنى بأبى الحكم، وكان ينتمي إلى بيت من أعرق بيوتات مالقة، اشتهر بالعلم والجاه والسراوة. وُلي قضاء مالقة في سنة 538 هـ، مكان قاضيها أبى محمد الوحيدي حينما استقال لفقد بصره؛ ولما وقعت الثورة بقرطبة وغرناطة، وغيرها من القواعد، في هذا الوقت بالذات، وتكاتب القضاة، أعلن أبو الحكم الثورة في مالقة، ودعا لنفسه، وقام بأمر المدينة، وحاصر اللمتونيين في القصبة، ولبث على منازلتهم ستة أشهر، حتى أخرجهم منها، وملك القصبة، واستقر بها وتسمى بألقاب الإمارة، وعين أخاه أبا الحسن قائداً لقواته، وأسند إليه ولاية قرطمة وما إليها. ولكن المرابطين في أنتقيره وغيرها من الحصون المجاورة، استمروا في مهاجمته ومضايقته، حتى اضطر أخيراً، أن يستعين بالمرتزقة النصارى، واضطر من أجل دفع أجورهم، أن يرهق أهل المدينة بالمطالب والمغارم المختلفة، فنقموا عليه مسلكه، وداخل فريق منهم رجلا من خاصته، كان قائد الحرس ببابه يدعى اللوشي، وائتمروا معه على الإيقاع بأبى الحكم. ونجحت المؤامرة، واستطاع المتآمرون بمعاونة اللوشي، أن يخترقوا الأبواب، وأن يملكوا القصبة، فامتنع ابن حسون داخل القصر، ودافع عن نفسه بأعنف ما يستطاع، فلما نفدت جهوده، وقتل أخوه وأيقن بالهلاك، نفذ إلى داخل داره، وأراد أن يقتل نساءه وبناته صوناً لهن، فاعتصمن منه بالغرف والبيوت الداخلية، فعمد عندئذ إلى إحراق كتبه وذخائره، تم تناول سماً فلم يقتله لفوره، فتحامل على نفسه، وطعن نفسه برمح نفذ إلى ظهره، ولكنه لم يمت وارتمى وهو يحتضر متخبطاً في دمه، ودخل أعداؤه القصر فألفوه على تلك الحالة، ومات بعد يومين في الحادي عشر

من ربيع الأول سنة 547 هـ (يونيه سنة 1152 م). فصلبت جثته، واحتز رأسه وأرسل إلى مراكش. ولما استولى الموحدون على مالقة بعد ذلك بنحو عام، في أوائل سنة 548 هـ، قبض على أهله وولده، وبيع بناته، واشترى بعضهن بعض أكابر الدولة الجديدة. فكانت نهايته المحزنة من أتعس ما لقي ثوار النواحي في تلك الفترة (¬1). - 5 - وقام في وادي آش، على مقربة من غرناطة، في الوقت الذي قام فيه ابن حمدين في قرطبة، وابن أضحى في غرناطة، أحمد بن محمد بن مَلْحان الطائي، فاستولى على القصبة وحصنها، ودعا لنفسه، وتلقب بالمتأيد بالله، وعمل على تعزيز مركزه بكل الوسائل، واشتد في تحصيل المال والدخائر، واقتنى الضياع الواسعة، وتولى فلاحتها وحرثها، حتى غدا من أغنى أهل زمانه. وتغلب على يعض القواعد القريبة، مثل بَسْطة وضمها إلى إمارته، واستخدم في بلاطه الصغير عدة من مشاهير العلم والأدب في ذلك العصر، مثل أبى بكر بن طفيل الفيلسوف الطبيب، وأبى الحكم هرودُس. واستطال عهده عدة أعوام. ولما قام محمد بن سعد بن مردنيش بثورته في شرقي الأندلس، وزحف على القواعد الوسطى والجنوبية، قاصداً توسيع أملاكه، ومحاربة الموحدين في نفس الوقت، سار إلى وادي آش تعاونه فرقة من النصارى، فلما رأى ابن ملحان أنه لا طاقة له به أعلن طاعته للموحدين، وكانوا في ذلك الوقت قد استولوا على غرناطة، بيد أنه لم يستطع الاحتفاظ بوادي آش فخرج عنها، واستولى عليها ابن مردنيش كما استولى على بسطة وغيرها، وذلك في سنة 546 هـ (1151 م). وعبر ابن ملحان البحر إلى المغرب، ودخل في خدمة الموحدين، واستعمل بمراكش في بعض الأعمال الهندسية في إقامة البحيرة وإجراء مائها، ثم نكب بعد ذلك لأسباب لا نعرفها، ونزعت أمواله، وتوفي في بؤس وضعة (¬2). - 6 - وثار في جيان قاضيها يوسف بن عبد الرحمن بن جُزي، وأنشأ بها حكومة مستقلة، ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 255. (¬2) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 264، والإحاطة ج 2 (القاهرة) ص 89.

اقتداء بزملائه القضاة في قرطبة، وغرناطة، ومالقة، ومرسية وغيرها. وليست لدينا عن حكمه وأيامه بجيان تفاصيل شافية. بيد أن رياسته لم تطل فيما يبدو، لأن سيف الدولة بن هود استطاع التغلب على جيان وانتزاعها منه، قبيل مسيره إلى قرطبة في أواخر سنة 539 هـ (أوائل سنة 1145 م) (¬1). - 7 - وشملت الثورة أراضي مثلث الأندلس الجنوبي، فقامت في رُندة، وشَريش وقادس حكومات مستقلة، وقضى فيها على سيادة المرابطين. ففي رندة قام رجل من رجال القلم، وهو أخيل بن إدريس الرندي، وأنشأ بها حكومة مستقلة. وكان أخيل هذا، وهو في الأصل من أهل رندة، كما يدل على ذلك اسمه، كاتباً أديباً شاعراً، وكتب في بداية حياته للملثمين. ولما قام ابن حمدين في قرطبة، استخدمه في بطانته، وكتب له، وكان وثيق الصلة به مذ كان متولياً قضاء قرطبة. فلما استرد الملثمون قرطبة على يد ابن غانية، وسقطت حكومة ابن حمدين، سار أخيل إلى بلده رندة، وكانت أمورها فوضى لا ضابط لها، فدعا لنفسه، واستطاع أن يقوم بحكمها وضبطها، ولكن فريقاً من خصومه سعوا إلى إسقاطه، وخاطبوا أبا الغمر بن السائب بن عزون، صاحب شريش، في القدوم إلى رندة، والتغلب عليها. فاستجاب لهم، وقدم إلى رندة. واستطاع بمخادعة أخيل، أن يستولي على القصبة دون قتال، وانتزع أموال أخيل وأموال أصحابه، وفر أخيل ناجياً بنفسه إلى مالقة، ثم عبر البحر منها إلى المغرب، واتصل في مراكش بالوزير ابن عطية، فأكرم وفادته، وساعده فيما بعد على استرداد أمواله. ولما استولى الموحدون على الأندلس، وُلي قضاء قرطبة، ثم قضاء إشبيلية، وتوفي بإشبيلية سنة 561 هـ (1166 م)، وكان أديباً مطبوعاً وشاعراً جزلا (¬2). وكان ابن عزون في مقدمة الثوار الذين خلعوا طاعة المرابطين، فقام في بلده شَريش، وأنشأ حكومة مستقلة، في نفس الوقت الذي قام فيه أحمد ابن قسيّ في الغرب. وقوى أمر ابن عزون بسرعة، وبسط سلطانه على أركش، ثم على رندة حسبما تقدم، وأعلن انضواءه في البداية تحت طاعة ابن حمدين صاحب ¬_______ (¬1) أشار ابن الخطيب في أعمال الأعلام إلى ثورة ابن جزى في جيان إشارة عابرة ص 259. (¬2) الحلة السيراء ص 222.

قرطبة. فلما تطورت الحوادث وانهارت حكومة ابن حمدين، واضطر إلى مغادرة قرطبة، نادى بخلع طاعته، والاستقلال بدعوته. وفي أوائل سنة 541 هـ، عبر البحر إلى المغرب، وسار إلى لقاء الخليفة عبد المؤمن، وهو يومئذ يعسكر بمحلته تحت أسوار مراكش وبايعه بالطاعة، وكان من الوافدين على عبد المؤمن في نفس الوقت ابن حمدين زعيم قرطبة السابق (¬1). ولما عبر الموحدون إلى الأندلس، كان ابن عزون وجند شريش أول من لقيهم، وانضم إليهم. ويقدم إلينا صاحب روض القرطاس، رواية أخرى، خلاصتها أن أبا الغمر (ويسميه محرفاً أبا القمر) وهو من بني غانية، كان هو القائد المرابطي لشريش، وأنه لما عبر الموحدون البحر إلى الأندلس لأول مرة في سنة 539 هـ، وفتحوا مدينة شريش صلحاً، انضم إليهم أبو الغمر في قواته، وكانت ثلاثمائة فارس، وأعلن بيعة عبد المؤمن، فكانت شريش بذلك أول قاعدة أندلسية دخلت في طاعة الموحدين، وكان الموحدون لذلك يسمون أهلها بالسابقين الأولين، ومن أجل ذلك حررت أملاكهم من المغارم، وكانت وفود الأندلس إذا قدمت للسلام على الخليفة الموحدي، كان وفد شريش أول الداخلين. وتم فتح شريش وفقاً لهذه الرواية في شهر ذي الحجة سنة 539 هـ (1145 م) (¬2). على أننا نؤثر الأخذ بالرواية المتقدمة، وهي تقدم إلينا ابن عزون ضمن ثوار الأندلس، ثم تفصل لنا أعماله وحركاته في منطقة الفُرُنتيرة، ووفوده على عبد المؤمن بما يتفق مع باقي الحوادث التي وقعت في تلك المنطقة في تلك الفترة، وهي رواية يؤيدها ابن الأبار، وابن عذارى، وابن خلدون، وهي بذلك في نظرنا أوثق وأكثر قبولا (¬3). ونختتم هذا الثبت من ثوار غربي الأندلس ضد المرابطين بذكر زعيمين آخرين، أولهما على بن عيسى بن ميمون والى ثغر قادس، وقائد الأسطول المرابطي بهذه المنطقة، وقد كان في مقدمة الزعماء الذين خلعوا طاعة المرابطين، وفي سنة 540 هـ عبر البحر إلى المغرب، وسار إلى لقاء عبد المؤمن، وكان يومئذ قائماً على حصار فاس، فقدم إليه طاعته، ثم عاد إلى قادس، وأقام بها الخطبة ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 22. (¬2) روض القرطاس ص 132. (¬3) راجع الحلة السيراء ص 222، والبيان المغرب القسم الثالث ص 22، وابن خلدون ج 6 ص 234.

للموحدين. وهو الذي عاون ابن قسي على العبور إلى المغرب، ودفعه إلى مقابلة عبد المؤمن بنفسه، ليناشده الجواز إلى الأندلس. ثم كان بعد ذلك ممن ثاروا على الموحدين، وخلعوا طاعتهم من زعماء الغرب، وذلك حينما ارتد ابن قسي عن الطاعة، وتبعه زعماء لبلة وبطليوس وطبيرة وغيرهم، إلى أن عبرت عساكر الموحدين بعد ذلك بقليل بقيادة يوسف بن سليمان، وأخضعت أولئك الزعماء الثائرين بمختلف قواعد الغرب. والثاني هو محمد بن علي الحجام الثائر ببطليوس، وقد ذكره ابن الخطيب في ثبت زعماء الثورة ضد المرابطين، ولكنه لم يقدم لنا عنه أي تفصيل آخر (¬1). وذكره ابن خلدون ضمن الزعماء الذين خلعوا طاعة الموحدين، ثم ذكر لنا بعد ذلك أنه حينما عبر يوسف بن سليمان بعساكر الموحدين، وسار إلى مقاتلة ثوار الغرب، عاد ابن الحجام (ويسميه هنا محرفاً ابن الحاج) إلى الطاعة، وبعث إلى عبد المؤمن بهدية كان لها وقع حسن (¬2). ونحن نعرف مما تقدم أن بطليوس كانت من القواعد التي بسط ابن وزير عليها سلطانه، وندب خاله عبد الله بن الصميل والياً عليها (¬3). ولم تذكر لنا الرواية بعد ذلك، متى ولا في أي ظروف، آلت بطليوس إلى محمد بن الحجام. ¬_______ (¬1) أعمال الأعلام ص 248. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 234 و 235. (¬3) الحلة السيراء ص 204.

الفصل الثانى عبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية

الفصل الثاني عبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية اهتمام عبد المؤمن بشئون الأندلس. مقدم الوفود الأندلسية على عبد المؤمن. متى تدخل الموحدون في شئون الأندلس. عبور الجيوش الموحدية الأولى إلى شبه الجزيرة وأعمالها. زحفها على إشبيلية، وافتتاحها إياها. أخوا المهدي وحكمهما لإشبيلية. تطور الحوادث وخروج الزعماء الأندلسيين على الموحدين. عبد المؤمن يرسل جيشاً آخر إلى الأندلس. إخضاع الموحدين للبلة وطلياطة وطبيرة وبطليوس. التجاء ابن قسي إلى ملك البرتغال. سخط أهل شلب وتآمرهم ضده بزعامة ابن المنذر. مصرع ابن قسي وعودة شلب إلى طاعة الموحدين. استيلاء ابن وزير على شلب. اعتقال الموحدين لابن المنذر. شعر ابن قسي وابن المنذر. رياسة ابن غانية في قرطبة. ضغط ملك قشتالة عليه. تنازله عن بياسة وأبدة. مطالبته بالتنازل عن جيان. مفاوضة ابن غانية لبراز والي إشبيلية الموحدي. الاتفاق على تسليم قرطبة وقرمونة للموحدين. مغادرة ابن غانية قرطبة إلى غرناطة. فكرته في التفاهم مع الموحدين. مرضه ووفاته وخلاله. زحف القشتاليين على قرطبة واحتلالهم إياها. مبادرة الحشود الموحدية لإنقاذها. انسحاب القشتاليين منها. احتلال الموحدين لقرطبة وجيان وأبدة وبياسة. قيام ابن مردنيش في شرقي الأندلس. امتداد أملاكه حتى جيان. قيام الثورة ضده في بلنسية. اقتحامه لبلنسية واستعادته لسلطانه. معاقبته لأهل بلنسية ولورقة. رسالة عبد المؤمن لابن مردنيش. استيلاء الموحدين على مالقة. اختيار عبد المؤمن لولده محمد لولاية العهد. ظروف هذا الاختيار حسبما يعرضها عبد المؤمن في رسالته. رواية أخرى عن ذلك. عبد المؤمن يولي أولاده حكم البلاد. مهاجمة الوهيبي لمدينة لبلة. مسير ابن يومور والي إشبيلية إليها. احتلاله لبلة وفتكه بأهلها. القبض على ابن يومور ومعاقبته. الشكوى إلى الخليفة من ابن الرنق. إنشاء عبد المؤمن لبستان شنطلولية. طوافه بنواحي الأطلس والسوس. زيارته لتينملل. المصحف العثمانى ونقله من قرطبة إلى مراكش. إنشاء عبد المؤمن لمسجد مراكش الجامع. ندب ابن يكيت لولاية قرطبة وعبد الله بن أبى حفص لولاية إشبيلية. غزو ابن يكيت لأرض قشتالة. غزو عبد الله بن أبى حفص لأراضي البرتغال. تسليم الوالى المرابطي غرناطة للموحدين. التأهب لاسترداد ألمرية من النصارى. مسير السيد أبو سعيد والي غرناطة إليها. مسير الأسطول الموحدي إلى مياهها. محاصرة الموحدين لألمرية. مبادرة ملك قشتالة وحليفه ابن مردنيش لإنجاد الحامية النصرانية. استمرار الحصار وفشل محاولة لإنجاد الحامية. مقدم الوزير ابن عطية ومعالجته للموقف. تسليم النصارى وعودة ألمرية إلى المسلمين. انسحاب ملك قشتالة وحليفه ابن مردنيش. وفاة ملك قشتالة ألفونسو السابع. حوادث الغرب. امتناع الوهيبي بثغر طبيرة. مسير الموحدين إلى طبيرة ومحاصرتها. إتفاق الموحدين مع الوهيبي. تخلي ابن وزير عن باجة وميرتلة وشلب، وعبوره إلى المغرب. الوزير ابن عطية. توليه الوزارة وتوطد مكانته. إرساله إلى الأندلس. تولية عبد السلام الكومي الوزارة في غيابه. سعي خصومه

إلى التشهير به. مروان بن عبد العزيز وتحريضه للخليفة عليه. عود ابن عطية إلى المغرب. اعتزام عبد المؤمن التنكيل به. القبض عليه وعقد مجلس لاتهامه. القبض على أخيه عقيل بن عطية. توسل ابن عطية إلى الخليفة للعفو عنه. إعراض الخليفة عن توسله والسر في ذلك. مسير الخليفة إلى تينملل ومعه الأخوان. إعدامهما خلال عوده إلى مراكش. تأملات عن هذا الحادث. - 1 - لم يكن عبد المؤمن بغافل عن أهمية الأندلس، والعمل على تحريرها من أيدي المرابطين باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية المرابطية، التي نذر الموحدون أنفسهم للقضاء عليها، واستخلاص تراثها، ولم تكن تعوقه عن العناية بشئون الأندلس، أية حوادث أو مشاغل داخلية، مهما بلغت من الخطورة، فنراه في أدق المراحل من الصراع بينه وبين المرابطين، يستقبل وفود الأندلس، ويزودها بنصحه وعونه، ثم هو بعد ذلك ينتهز أول فرصة لتوجيه جيوشه إلى شبه الجزيرة، لتأخذ بنصيبها من حوادث الأندلس، ولتمهد السبيل لسيطرة الموحدين عليها. وكان في مقدمة من وفد على عبد المؤمن من زعماء الثورة في الأندلس ضد المرابطين، أبو الغمر بن السائب بن عزون زعيم شريش وأركش ورندة، وأبو جعفر بن حمدين زعيم قرطبة المعزول، وفدا عليه في أوائل سنة 541 هـ وهو على حصار مراكش، لاستنهاض همته للتدخل في حوادث الأندلس، وإنجاد زعمائها الثائرين ضد المرابطين. ووفد في نفس الوقت أو بعده بقليل على عبد المؤمن زعيم الثورة في غرب الأندلس، أو زعيم ثورة المريدين أحمد بن قسيّ، عقب خلعه وفقده لإمارته في شلب وميرتلة على يد خصمه ومنافسه سيدراي بن وزير صاحب باجة. وقد سبق أن فصلنا في موضعه ظروف مقدمه على عبد المؤمن، وما يحيط بذلك من خلاف على تاريخ مقدمه، ومكان لقائه به. ثم وفد على عبد المؤمن في أوائل سنة 542 هـ عقب افتتاح مراكش، وفد كبير من إشبيلية، وعلى رأسه القاضي أبو بكر بن العربي وعدة من زعماء إشبيلية، يحملون إليه بيعة أهل إشبيلية، وذلك على أثر افتتاح الموحدين لها. وفي أواخر سنة 545 هـ وأوائل سنة 546 هـ، وفد على عبد المؤمن، وهو بسلا يعد عدته لافتتاح إفريقية، وفود أندلسية عديدة من مختلف حواضر الأندلس، ومن بينها كثير من رجالات الأندلس البارزين، من الفقهاء والقضاة والزعماء والقواد، بلغوا نحو خمسمائة، وشرح له خطباؤهم خطورة عدوان النصارى على الأندلس،

واستطالتهم على قرطبة، وما يقتضيه ذلك من مزيد العون والجهاد، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في موضعه (¬1). كان لمقدم هذه الوفود الأندلسية المتوالية أثرها في إذكاء العزم، الذي تكون لدى عبد المؤمن من قبل، نحو شئون الأندلس، ومبادرته إلى التدخل الفعلي في حوادثها، ومضاعفة جهوده في توجيه البعوث العسكرية إليها. وقد اختلفت الرواية في تحديد تاريخ تدخل الموحدين في شئون الأندلس، وفي كيفية هذا التدخل. ففي رواية صاحب روض القرطاس ومن روى عنهم، أن هذا التدخل يرجع إلى أواخر سنة 539 هـ (1144 م) عقب افتتاح عبد المؤمن لتلمسان، ففي هذا التاريخ بعث عبد المؤمن إلى الأندلس جيشاً موحدياً من عشرة آلاف فارس بقيادة الشيخ أبى عمران موسى بن سعيد، ونزل هذا الجيش بساحل الجزيرة الخضراء، وكان أول بلد افتتحوه هو مدينة شريش، افتتحوها صلحاً، إذ خرج صاحبها أبو الغمر بن عزون، وهو من بني غانية المرابطين، في حامية المرابطين، وقوامها ثلاثمائة فارس، وبايع لعبد المؤمن، وأعلن دخوله في طاعته. وكان الموحدون لذلك يسمون أهل شريش بالسابقين الأولين، وحررت أملاكهم من المغارم، وكان خلفاء الموحدين إذا قدمت عليهم وفود الأندلس للسلام، يقدمون وفد شريش، وُينادى عليهم أين السابقون، ثم تتلوهم بقية الوفود. ويحدد لنا صاحب روض القرطاس، نقلا عن ابن فرحون، دخول الموحدين شريش بشهر ذي الحجة سنة 539 هـ. ودخل الموحدون بلدة طريف والجزيرة الخضراء قبل ذلك بقليل، وفر المرابطون منها إلى إشبيلية (¬2). بيد أن هذه الرواية التي ينفرد بها صاحب روض القرطاس، تعارضها رواية أخرى هي رواية ابن الأبار وابن خلدون، وهي تدلى بأن تدخل الموحدين في شئون الأندلس يرجع إلى سنة 540 هـ، وأن أول جيش موحدي وُجه إلى الأندلس، دخلها في أوائل سنة 541 هـ. وتفصيل ذلك هو أنه حينما كان عبد المؤمن يعسكر بجيشه تحت أسوار فاس في سنة 540 هـ، وفد عليه علي بن عيسى بن ميمون قائد الأسطول المرابطي في مياه قادس، وقدم إليه طاعته، ثم عاد إلى الأندلس، ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 22، وابن خلدون ج 6 ص 234، والحلل الموشية ص 111، وروض القرطاس ص 125، والحلة السيراء ص 200. (¬2) روض القرطاس ص 122 و 123.

وأقام الخطبة للموحدين بجامع قادس (¬1)، وفي وسعنا أن نرجع بداية تدخل الموحدين في شئون الأندلس إلى هذا التاريخ، أعني إلى سنة 540 هـ. وأما تدخل الموحدين العسكري في شئون الأندلس فيرجع وفقاً لقول ابن الأبار إلى أوائل سنة 541 هـ. وذلك أنه حينما وفد ابن قسي زعيم ثورة الغرب، على عبد المؤمن في ربيع الثاني سنة 540 هـ، ليحثه على إنجاد ثوار الغرب، واستخلاص الأندلس من أيدي المرابطين، بعث عبد المؤمن في المحرم سنة 541 هـ جيشاً إلى الأندلس، ومعه ابن قسي. وهذا الجيش هو الذي افتتح طريف والجزيرة الخضراء، ثم سار بعد ذلك إلى شلب ليفتتحها من يد ابن وزير المتغلب عليها، وليعيدها إلى صاحبها ابن قسي (¬2). بيد أننا قد بينا من قبل، أن عبور ابن قسي إلى المغرب، لابد أنه وقع بعد التاريخ الذي يحدده ابن الأبار بقليل، وذلك عقب فقد ابن قسي لحاضرته ميرتلة في شعبان سنة 540، وأن هذا العبور قد وقع حسبما يرجح في أواخر سنة 540 هـ (¬3)، فهنا وجه عبد المؤمن أول جيش موحدي إلى الأندلس بقيادة برّاز بن محمد المسّوفي، وكان قبل من قادة الأمير تاشفين، ثم انحاز بعد مصرعه إلى الموحدين، ثم أمده بجيش آخر بقيادة موسى بن سعيد، ثم بجيش ثالث بقيادة عمر بن صالح الصنهاجي، وكانت مهمة الموحدين في شبه الجزيرة، أن يقاتلوا اللمتونيين، والثوار معاً. وكان عبور هذا الجيش الموحدي إلى الأندلس في شهر المحرم سنة 541 هـ. وبعد أن استولى الموحدون على طريف والجزيرة الخضراء، ساروا إلى مدينة شَريش حيث انضم إليهم صاحبها أبو الغمر بن عزون وولده. ثم ساروا إلى مدينة لَبلة، فأعلن صاحبها يوسف بن أحمد البطروجي الطاعة. وقصد الموحدون بعد ذلك إلى ميرتلة، حاضرة ابن قسي من قبل، وكانت عندئذ تحت سلطان منافسه سيدراي بن وزير فاستولوا عليها. ثم استولوا على شلب، وردوا أمرها إلى ابن قسي. وساروا بعد ذلك إلى باجة ثم إلى بطليوس، وكانا لنظر ابن وزير، وعلى بطليوس من قبله خاله عبد الله بن الصميل، فأعلن ابن وزير الطاعة، وأطلق سجينه محمد بن عمر بن المنذر أحد زعماء المريدين، وكان قد تغلب عليه وسجنه ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 233. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 200. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 166، وج 6 ص 234.

حسبما ذكرنا من قبل في موضعه، ثم سُملت عيناه وهو في السجن، فقصد إلى شلب واستقر بها إلى جانب زميله وحليفه السابق ابن قسي (¬1). وسيطر الموحدون في هذه الجولة الأولى على قواعد الغرب، التي كانت بأيدي المريدين، ولم تستغرق منهم سوى بضعة أشهر. بيد أنها لم تكن سوى مقدمة، لغاية أهم وأخطر، هي الاستيلاء على حاضرة إشبيلية. وسار الموحدون في سائر قواتهم إلى إشبيلية، وانضم إليهم زعماء المريدين، أحمد بن قسي وسيدراي بن وزير ويوسف البطروجي كل في قواته، واستولوا في طريقهم صلحاً على طلياطة وحصن القصر، وهما قلعتا إشبيلية من الغرب، وقد أعلنت كلتاهما الطاعة، ثم ضربوا الحصار حول إشبيلية. وحاصرتها من البحر سفن الأسطول الأندلسي، بقيادة علي بن عيسى بن ميمون، صاحب قادس. ولم يطل أمد هذا الحصار، إذ لم يكن بإشبيلية سوى حامية مرابطية ضعيفة، تدافع في ظروف دقيقة، ومن حولها شعب خصيم متربص، وسرعان ما اقتحم الموحدون المدينة، ففر منها المرابطون إلى قرمونة، وقتل الموحدون من أدركوه منهم، وقتل في تلك المعمعة عبد الله بن العربي، ولد القاضي أبى بكر ابن العربي، عميد فقهاء المدينة وزعمائها. وتم فتح إشبيلية في اليوم الثاني عشر من شعبان سنة 541 هـ (18 يناير سنة 1147 م) (¬2) وكتب بالفتح إلى عبد المؤمن، فعلم به، وهو على وشك دخول مراكش، ثم قدم إليها بعد افتتاحها بقليل، وفد إشبيلية برياسة القاضي ابن العربي، يحمل إليه بيعة أهلها، حسبما ذكرنا من قبل، وذلك في أوائل سنة 542 هـ. وكان بين مشيخة عسكر الموحدين بإشبيلية، عبد العزيز وعيسى، أخوا المهدي ابن تومرت. ولما كانت إشبيلية، عند فتحها دون أمير يتولى حكمها، فقد توليا هذه المهمة، فساء سلوكهما، وبغى كلاهما وطغى، واستحلا سفك الدماء ونهب الأموال، وغدت المدينة في ظلهما مسرحاً لشر ضروب الفوضى، وناهضهما في ذلك يوسف البطروجي صاحب لبلة، فاعتزما الفتك به، فغادر ¬_______ (¬1) ابن الأبار ص 204، وابن خلدون ج 6 ص 234. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 239، وابن خلدون ج 6 ص 234، وابن الأثير ج 11 ص 43 و 44. ويقول صاحب روض القرطاس ان افتتاح الموحدين لإشبيلية كان في سنة 540 هـ (ص 123) وهي رواية ضعيفة.

إشبيلية إلى بلده، وأخرج الموحدين منها، ونقض الطاعة، وتحالف مع فلول المرابطين. وكذا فعل أهل طلياطة، وحصن القصر. ثم خرج على الطاعة ابن قسي صاحب شلب، وابن ميمون صاحب قادس، ومحمد بن الحجام صاحب بطليوس، ولم يثبت على طاعة الموحدين سوى ابن عزون صاحب شريش وولده. ولنلاحظ أن خروج أولئك الزعماء عن طاعة الموحدين، قد وقع في نفس الوقت الذي اضطرمت فيه بالمغرب ثورة الماسي ضد الموحدين (542 هـ)، ولاح مدى حين أنها تهدد سلطانهم ودولتهم. وانتهز يحيى بن غانية فرصة هذا الاضطراب الذي ترتب على سوء تصرف الموحدين، وسخط زعماء الغرب على حكمهم، فبعث قوة من المرابطين، تغلبت على الجزيرة الخضراء، مدخل شبه الجزيرة، وتردد صدى ذلك في سبتة، فخلع أهلها الطاعة، بزعامة عميدها القاضي عياض السبتي، وقتلوا واليها يوسف بن مخلوف التينمللي ومن معه من الموحدين، وتولى أمرها يحيى بن أبى بكر الصحراوي، وذلك حسبما فصلناه في موضعه. وفي خلال ذلك ساءت الأحوال في إشبيلية وغادرها عبد العزيز وعيسى أخوا المهدي ومن معهما من الموحدين، ولحقا بحصن ببشتر من معاقل ابن عزون، تم سارا ومعهما ابن عزون في قواته، وحاصروا الجزيرة حتى افتتحوها، وقتلوا من بها من المرابطين. ثم عبر عبد العزيز وعيسى البحر بعد ذلك إلى المغرب ولحقا بمراكش حيث كان من أمرهما ومصيرهما ما سبق ذكره في أخبار الخوارج على عبد المؤمن (¬1). ولما علم عبد المؤمن بما حدث في إشبيلية وغربي الأندلس، بادر فبعث جيشاً من الموحدين إلى شبه الجزيرة، بقيادة يوسف بن سليمان، وندب برّازاً ابن محمد المسّوفي لشئون الجباية بالأندلس. وسار يوسف في قواته أولا إلى لبلة، حيث قضى على ثورة البطروجي وأخضعه، وتلا ذلك إخضاعه لطلياطة، وحصن القصر. ثم سار إلى قاصية الغرب، فأخضع مدينة طبيرة، وأعلن صاحبها عامل ابن مهيب الطاعة، وأعلن علي بن عيسى بن ميمون صاحب شنتمرية الغرب وقادس كذلك عودته إلى الطاعة، وحذا حذوه محمد بن علي بن الحجام صاحب بطليوس، وبعث بطائفة من الهدايا الفخمة برسم الخليفة عبد المؤمن، فقبلت وكان لها وقع حسن. ولما دعيت وفود الأندلس إلى مقابلة الخليفة عبد المؤمن، وهو بسلا في سنة 545، سار زعماء الغرب، الذين تقدم ذكرهم وفي مقدمتهم سيدراي ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 234.

ابن وزير صاحب باجة ويابرة، إلى لقائه، ولم يتخلف منهم سوى ابن قسي صاحب شلب وميرتلة (¬1). وكان ابن قسي، حينما رأى تقدم الموحدين في أنحاء الغرب، وانضواء زعمائه تحت لوائهم، قد خشى البادرة على نفسه، وهو لم يكن حين أعلن طاعته للموحدين لأول مرة، مخلصاً لهم، ولا مؤمناً بدعوتهم، وإنما كان مقصده فقط أن يستعين بهم، وأن يأمن سطوتهم، فلما رأى أنه عاجز عن مقاومتهم، بعد أن خضع كل زملائه زعماء الغرب، تحول إلى النصارى، وبعث إلى ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، وهو الذي تسميه الرواية العربية بابن الرنق وابن الرنك (¬2) يناشده التحالف والعون، فاستجاب ألفونسو إلى دعوته، وبعث إليه بفرس من أفراسه، وترس ورمح، ووعده بالعون المنشود، فلما رأى أهل شلب تحول ابن قسي إلى النصارى، سخطوا عليه، ودبروا مؤامرة للتخلص منه، بزعامة ابن المنذر الأعمى، زميل ابن قسي وحليفه السابق، وكان الموحدون قد أطلقوا سراحه من سجن بطليوس، فعاد إلى شلب وأقام بها، حسبما تقدم، وشغل المتآمرون الحسين ولد ابن قسي بنزهة أعدوها له، ثم احتالوا على دخول القصر، وهو المسمى بقصر الشراجب، واقتحمت طائفة منهم الحصن، وفتكوا بابن قسي، ورفعوا رأسه على الرمح المهدي إليه من ملك النصارى، ونصبوا مكانه لرياستهم ابن المنذر، معلنين ولاءهم للدعوة الموحدية، وذلك في جمادى الأولى من سنة 546 هـ (سبتمبر 1151 م)، وبذلك انتهت رياسة ابن قسي، ورياسة المريدين الذين كانوا أول من أعلن الخروج والثورة على المرابطين في ولاية الغرب. وكان ابن قسي عالماً ضليعاً، ولاسيما في علم الكلام والتصوف، وشاعراً جزلا. وقد أورد لنا ابن الأبار طائفة من نظمه. فمن ذلك قوله يشيد بثورته: وما تدفع الأبطال بالوعظ عن حمى ... ولا الحرب تطفأ بالرّقا والتمائم ولكن ببيض مرهقات وذبّل ... موازدها ماء الطلى والغلاصم ولا صلح حتى نطعن الخيل بالقنا ... ونضرب بالبيض الرقاق الصوارم ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 235. (¬2) ويسميه ابن الأبار بابن الريق (الحلة السيراء ص 200). ويسميه ابن الخطيب بصاحب قلمرية Coimbra، وقد كانت يومئذ عاصمة إمارة البرتغال الناشئة (أعمال الأعلام ص 251).

ونحن أناس قد حمتنا سيوفنا ... عن الظلم لما جرتم بالمظالم (¬1) وكان ابن المنذر، وقد فصلنا أخباره فيما تقدم، رجلا قوي الشكيمة لا تؤمن عواقبه، وكان الموحدون بالرغم من تمسكه بدعوتهم، يخشون انتقاضه وتقلباته، وكان سيدراي بن وزير من جهة أخرى يطمح بعد مصرع ابن قسي إلى احتلال شلب وضمها إلى أملاكه، ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل على ولاية ابن المنذر، حتى سار إلى شلب وتغلب عليها، وذلك حسبما فصله ابن صاحب الصلاة في كتابه " ثورة المريدين "، وهو مؤلف لم يصل إلينا. ولم يعترض الموحدون على هذا التغيير في رياسة شلب، ولكنهم خشوا أن يعود ابن المنذر الأعمى، إلى الثورة مرة أخرى، فنقلوه إلى إشبيلية ليقيم بها تحت رقابتهم. وبعد حين غادرها ابن المنذر، وعبر البحر إلى المغرب، وقصد إلى سلا، وأقام بها حتى توفي في سنة 558 هـ. وكذا كان ابن المنذر، مثل زميله ابن قسي، عالماً وأديباً شاعراً، وقد نقل إلينا ابن الأبار طائفة من نظمه، فمن ذلك قوله يخاطب وزيره أبا بكر ابن المنخل، وقد كان أيضاً من شعراء الغرب في هذا العصر: لئن غض منك الدهر يوماً بأزمة ... فحسبك أن تلقي وأنت مبور فليس أساً يبقى وإن جل مثل ما ... على كل حال لا يدوم سرور أيوجد في الدنيا من الناس صاحب ... إذا أعرضت أبقى لداك عسير طلبت عزيزاً لا ينال فإن يكن ... فإن أبا بكر بذاك جدير رضيت به حظاً من الناس كلهم ... فما بعده حرٌّ إليه نُشير (¬2) - 2 - نعود الآن بعد أن استعرضنا تطور الحوادث في غربي الأندلس، وما انتهت إليه من بسط الموحدين لسلطانهم عليه، منذ إشبيلية حتى شلب في قاصية ولاية الغرب، إلى تتبع الحوادث في وسط الأندلس. تركنا قرطبة، وقد استعاد الأمير يحيى بن غانية المرابطي سلطانه عليها، بمؤازرة القيصر ألفونسو السابع ملك قشتالة، وغادرها زعيمها السابق القاضي ¬_______ (¬1) راجع الحلة السيراء ص 200 و 201 و 204، وأعمال الأعلام ص 251 و 252. (¬2) الحلة السيراء ص 204 - 206.

بن حمدين، بعد أن تخلى عن مؤازرته النصارى لما رأوه من تقدم الموحدين في ولاية الغرب، واستيلائهم على إشبيلية، واضطرارهم بذلك إلى مهادنة ابن غانية، وحماية سلطانه على قرطبة (أوائل سنة 541 هـ). وكان ألفونسو السابع يرى بحق، أن ابن غانية يمثل آخر ما تبقى من سلطان المرابطين في شبه الجزيرة، وأنه أضحى رمز المقاومة لزحف الموحدين إلى أواسط الأندلس، وكان ابن غانية يشعر بكثير من المرارة، أنه أضحى في الواقع تابعاً لملك قشتالة، وأن مصيره في قرطبة وفي الأندلس أضحى رهيناً بمشيئته. واستمر ابن غانية عدة أشهر أخرى يصانع النصارى، وملك قشتالة يشتط في مطالبه ورغباته، ويضيق عليه في تصرفاته. وأخيراً استدعاه ألفونسو إلى حصن أندوجر، وكان حاكمه، وهو رجل يعرف بالعربي، منضوياً تحت لواء النصارى، فسار ابن غانية إلى أندوجر، وهناك طالبه ملك قشتالة، بالتنازل له عن بيّاسة وأبّده، لقاء الاستمرار في محالفته وحمايته، فاضطر ابن غانية إلى القبول والتخلي عن هاتين القاعدتين الهامتين. ثم عاد ملك قشتالة فطالب ابن غانية، بالتخلي له عن مدينة جيّان، أو مضاعفة الجزية المفروضة عليه. والظاهر أن ابن غانية وعد ملك قشتالة، بإجابة مطلبه واستمهله بعض الوقت. واتصل في نفس الوقت سراً، ببراز بن محمد المسّوفي والى إشبيلية الموحدي، وكان حسبما تقدم من القادة المرابطين السابقين، واجتمع الإثنان خفية بمدينة إستجة، واتفقا على أن يقوم ابن غانية بتسليم قرطبة وقرمونة للموحدين. ويقول لنا ابن الخطيب بأن ابن غانية وصله خطاب عبد المؤمن " بما أحب " دون أن يوضح لنا ما الذي طلبه ابن غانية مقابل هذا التخلي، وربما كان ذلك هو معاونة الموحدين له على الاحتفاظ بجيان. ومن ثم فإنه لما بعث ملك قشتالة سفراءه إليه يطالبونه بالتعجيل بتسليم جيان، قبض عليهم وبعثهم إلى قلعة بني سعيد (قلعة يحصب) فاعتقلوا بها تحت حراسة مشددة، واضطر النصارى إلى الإفراج عن جيان (¬1). وعلى أثر ذلك غادر ابن غانية قرطبة إلى غرناطة، وهي آخر ما بقي للمرابطين من القواعد في شبه الجزيرة، وذلك في جمادى الثانية سنة 543 هـ، وكان يمتنع بها واليها ميمون بن يدِّر اللمتوني مع جماعة من قادة المرابطين. ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 235، والإحاطة (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر) لوحة 272 في ترجمة عبد الملك بن سعيد. ولوحة 392 في ترجمة ابن غانية.

وكان ابن غانية يرمي وفقاً لرواية صاحب القرطاس إلى أن يحمل يدر اللمتوني على أن يسلم غرناطة للموحدين، على غرار قرطبة وقرمونة، ووفقاً لرواية ابن خلدون على أن يحمله على " مثل حاله مع الموحدين ". ويزيد ابن الخطيب الأمر وضوحاً، فيقول لنا إن ابن غانية كان يرمي إلى أن يجتمع في غرناطة بأعيان لمتونة ومسّوفه، في شأن تصريف الأمر إلى الموحدين. وقد يفهم من ذلك أن ابن غانية انتهى بإعلان طاعته للموحدين وانضوى تحت لوائهم (¬1). بيد أنه مما ينقض هذه الرواية ما يذكره لنا ابن الخطيب في موضع آخر من أن ابن غانية، بعد أن حل بغرناطة، أقام بها شهرين ثم مرض وتوفي، وكان يقول للمرابطين، في مرض موته، وقد عول على جعل غرناطة معقلا للدعوة المرابطية: " الأندلس درقة وغرناطة قبضتها، فإذا جشمتم يا معشر المرابطين القبضة لم تخرج الدرقة من أيديكم ". وهو ما ينفي عن ابن غانية أية شبهة في الانحراف عن الدعوة المرابطية (¬2). وكانت وفاة يحيى بن غانية في الرابع والعشرين من شعبان سنة 543 هـ (7 يناير 1149 م). ودفن بداخل قصبتها بالمسجد المتصل بقصر باديس ابن حبوس، ومجاوراً له في مدفنه، وكان قبره مزاراً معروفاً يتبرك به حتى أيام ابن الخطيب (أواسط القرن الرابع عشر) (¬3). وعلى أثر وفاة ابن غانية، غادر مولاه العلج فلّوج غرناطة إلى حصن بشير، وكان سيده قد ولاه إياه، وأودع فيه أمواله وذخائره، وكانت مقادير طائلة واستعان على حفظه بجماعة من النصارى. ثم خطر له أن يلحق بابن أخى مولاه إسحق بن غانية. واستخلف على الحصن رجلا من أهل سرقسطة يعرف بابن مالك، فقبض عليه إسحق وعذبه حتى مات. ولما علم الموحدون بما حدث، سارت منهم سرية من مدينة لوشة القريبة، وغلبوا على الحصن، واستولوا على سائر ما كان فيه من الأموال والحلي والثياب وكان منها ذخائر جليلة (¬4). وكان يحيى بن علي بن غانية أميراً نابهاً، وجندياً وافر الجرأة والشجاعة، والخبرة بأساليب الحروب، وكان في نفس الوقت سياسياً فطناً، وحاكماً وافر ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 125، وابن خلدون ج 6 ص 235، وابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) لوحة 392. (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 103 و 104. (¬3) ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) لوحة 392. (¬4) ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) لوحة 360.

الكفاية والمقدرة، وقد استعرضنا فيما تقدم مراحل حياته، وما وليه من مختلف المناصب، وما ساهم به في محاربة النصارى، ولاسيما موقعة إفراغة (528 هـ) التي أحرز فيها المرابطون نصرهم الباهر على ألفونسو المحارب. ويلخص لنا ابن الخطيب خلاله في قوله: " كان بطلا شهماً، حازماً، كثير الدهاء والإقدام، والمعرفة بالحروب، مجمعاً على تقدمه ". أما أخوه الأصغر محمد بن علي بن غانية، فقد ولي حكم الجزائر الشرقية منذ سنة 520 هـ، أيام علي بن يوسف، ولبث على ولايتها مدة طويلة حتى تعثرت أحوال الدولة المرابطية، وانهارت دعائمها، فاستقل بحكم الجزائر. وكان لعقبه بها دولة، استمرت دهراً حصناً للدعوة المرابطية، ومركزاً للكفاح المرير ضد الدولة الموحدية. وكان ملك قشتالة في تلك الأثناء، يرقب الحوادث، ويتربص الفرص. فما كاد ابن غانية، يتخلى للموحدين عن قرطبة، ويغادرها إلى غرناطة، حتى زحف القشتاليون على عاصمة الخلافة القديمة، والظاهر أنها كانت عندئذ بلا دفاع، أو كانت لديها حامية صغيرة، لا تستطيع دفعاً للنصارى، فدخلها القشتاليون للمرة الثانية خلال عامين، وذلك فيما يبدو في جمادى الثانية أو رجب سنة 543 هـ (نوفمبر أو ديسمبر سنة 1148 م). بيد أنه كان احتلالا قصير الأمد، ذلك أن الموحدين مذ حصلوا على موافقة ابن غانية، على التخلى لهم عن قرطبة، لم يفتهم أن النصارى، وهم على مقربة منها في حصن أندوجر، يرقبون الفرصة لاحتلالها، ومن ثم، فإن برّازاً المسّوفي والي إشبيلية، جهز في الحال حملة موحدية بقيادة أبى الغمر بن عزون صاحب شريش، تؤازرها قوة أخرى بقيادة يوسف البطروجي، صاحب لبلة، وكتب إلى الخليفة عبد المؤمن في نفس الوقت لإمداده بالعساكر، فبعث إلى الأندلس على وجه السرعة، جيشاً موحدياً بقيادة أبى زكريا يحيى يومور. وزحفت العساكر الموحدية صوب قرطبة، فلما شعر ملك قشتالة بوفرة القوات الموحدية الزاحفة، لم يرد أن يشتبك وهو بعيد عن قواعده ومملكته، في معارك لا تؤمن عواقبها، فغادر قرطبة في قواته لأيام قلائل من احتلالها، ودخل الموحدون قرطبة، وبسطوا سلطانهم عليها، وذلك في شهر رجب أو شعبان سنة 543 هـ. ولم تمض أشهر قلائل على ذلك حتى احتلوا مدينة جيان، بعد أن لبث القشتاليون يهددونها حيناً، ويحاولون احتلالها (¬1). ثم استولوا ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 235، وروض القرطاس ص 125.

على بياسة وأبدة من النصارى، وبذلك امتد سلطان الموحدين إلى أواسط الأندلس، ولم يبق بيد المرابطين سوى مدينة غرناطة، التي استطاعوا أن يحتفظوا بها بضعة أعوام أخرى. - 3 - وفي تلك الآونة بالذات، حدثت في شرقي الأندلس عدة حوادث هامة، أولها قيام محمد بن سعد بن مردنيش في بلنسية ومرسية، وبسطه لسيادته على شرقي الأندلس (542 هـ)، ومحالفته للنصارى؛ وثانيها سقوط القواعد الإسلامية الباقية من الثغر الأعلى في أيدي النصارى، وهي طرطوشة ولاردة وإفراغة ومكناسة (543 - 544 هـ). وقد كان من الواضح منذ البداية، ان ابن مردنيش، وهو يمثل الفكرة القومية الأندلسية، سوف يخوض مع الموحدين صراعاً لا هوادة فيه، وهو قد بدأ هذا الصراع بالفعل، مذ شعر بتوطد سلطانه واجتماع قواته، فسار إلى بسطة، ووادي آش، وانتزعهما من صاحبهما ابن ملحان الطائي في سنة 546 هـ (1153 م) وذلك حسبما فصلنا من قبل. وهكذا امتدت أملاك ابن مردنيش إلى مقربة من جيان، التي كانت يومئذ قاعدة موحدية. بيد أنه وقعت في نفس هذا العام في بلنسية وابن مردنيش بعيد عنها، ثورة داخلية، انتهت بقيام زعيم يدعى أبا مروان عبد الملك بن شلبان في حكمها. فارتد ابن مردنيش بقواته ليحاصر بلنسية مدى حين. ولم يشر إلى قيام هذه الثورة، ويقدم إلينا بعض تفاصيلها سوى ابن الأبار (¬1). بيد أن هنالك نص آخر يشير إليها من زاوية أخرى، وهو عبارة عن رسالة موحدية، بعث بها الخليفة عبد المؤمن إلى " الشيخ أبى عبد الله محمد بن سعد " من حضرة مراكش مؤرخة في 16 جمادى الآخرة سنة 548 هـ. والظاهر من نص هذه الرسالة، أن هذه الثورة التي كانت في بلنسية ضد محمد بن سعد، كانت تعلن " التوحيد " شعاراً لها، وأن ابن مردنيش، حينما تم له اقتحام بلنسية، وإخضاع الثورة، قد نكل بالثوار، ولاسيما الذين أبدوا ميلهم للدعوة الموحدية. كذلك يبدو من هذا النص أن أهل مدينة لورقة قد أبدوا نفس الميل إلى الدعوة الموحدية، وأن ابن سعد قد نكل بهم أسوة بما فعله بأهل بلنسية، ويدعو الخليفة عبد المؤمن في رسالته ابن سعد إلى اعتناق أمر المهدي، والدخول في الدعوة الموحدية، ويلفت نظره ¬_______ (¬1) هذا ما ورد في التكملة (القاهرة) - الجزء الثاني - رقم 1313 و 1394.

إلى أنه لم يفز أحد من زعماء الأندلس ببغيته إلا من دخل في هذه الدعوة، وأن من خرج عليها منهم، كان جزاؤه سوء المنقلب، ثم يدعوه إلى المبادرة إلى الاعتبار، ويلومه بما كان منه في حق أهل بلنسية " حينما أظهروا كلمة التوحيد " وكذلك أهل لورَقهّ " حينما ظهر إخلاصهم " (¬1). وقد كان هذا فيما يبدو، أول احتكاك بين ابن سعد وبين الموحدين. وقد كان الموحدون يعتقدون أنهم سوف يجدون في شرقي الأندلس، نفس الطراز من الزعماء الثائرين، الذي لقوا في غربي الأندلس، يعبرون البحر إليهم، ويلتمسون إلى خليفتهم العون والإمداد، ولكن هذا الأمل لم يتحقق في ابن مردنيش، وهو سوف يغدو منذ الآن فصاعداً، ألد خصومهم، وأصلبهم عوداً، وأرسخهم عزماً، في مقاومة الدعوة الموحدية في شبه الجزيرة. وفي أواخر سنة 547 هـ (أواخر 1152 م) تقدمت القوات الموحدية من أنتقيرة، وكذلك من الفرنتيرة نحو مالقة، واستولت عليها، وذلك عقب مصرع صاحبها المتغلب عليها القاضي أبى الحكم بن حسون، وتم لهم بذلك الاستيلاء على كورة ريّة كلها. وكانت سنة 549 هـ (1155 م) سنة مليئة بالأحداث الهامة بالنسبة للموحدين والدولة الموحدية. ويمكننا أن نعتبر أن أهم حادث وقع فيها، هو إسناد عبد المؤمن ولاية عهده لولده البكر محمد. ونحن نعرف أن الدولة الموحدية، قامت على أسس دعوة دينية، وأن عبد المؤمن، حينما أتيح له أن يجتني تراث المهدي ابن تومرت، لم يكن قيامه في الخلافة نتيجة وراثة أو ولاية عهد، وإنما كان في الظاهر على الأقل نتيجة لاختيار مختلف القبائل والطوائف الموحدية، وتفضيلها لعبد المؤمن، بالرغم من كونه لم يكن من قبيلة المهدي، لخلاله ومقدرته، ولأنه كان بالنسبة للمهدي، أوثق أصحابه وتلاميذه صلة به، وآثرهم لديه. ولكن الحوادث تطورت منذ وفاة المهدي، تطوراً عميقاً، وقام عبد المؤمن في قيادة الدولة الموحدية الناشئة بأعظم دور، وأبدى في مصارعة خصومها وفي توطيد دعائمها مقدرة فائقة، وأضحى عاهلها القوي يقود مصايرها بعزم لا مثيل له، وحوله تلتف سائر الزعامات الموحدية، تحبوه بمطلق تأييدها وطاعتها. ¬_______ (¬1) راجع رسائل موحدية التي سبقت الإشارة إليها، الرسالة العاشرة ص 36 و 37. وقد نشرت هذه الرسالة أيضاً في صبح الأعشى ج 6 ص 443.

ونحن نذكر أن عبد المؤمن، بعد أن أتم فتح بجاية، وقضى على ثورة العرب في إفريقية، وعلى ثورة القبائل الخارجة في أرض السوس وغيرها، غادر مراكش إلى تينملل، فزار قبر المهدي، وأمر ببناء مسجدها وتوسيع خططها، ثم سار منها إلى سلا، لإصلاح خططها أيضاً، وليتم المنشآت التي بدأها في عدوتها الرِّباط، وكان ذلك في أوائل أواسط سنة 549 هـ. ففي تلك الفترة، وقعت تولية عبد المؤمن لولده أبى عبد الله محمد لولاية العهد. ولم يقدم لنا البيذق وهو المؤرخ المعاصر وشاهد العيان، أي تفصيل عن هذا الحادث الجلل، في تاريخ الدولة الموحدية، مكتفياً بالإشارة إليه في بضع كلمات (¬1). بيد أنه يستفاد من مختلف التفاصيل، التي وردت في رسائل الخليفة عبد المؤمن ذاته، أن هذا التعيين قد اتخذ سبيل الشورى والاختيار من جانب الموحدين، فهو يقول في رسالته التي وجهها عن هذا الموضوع إلى أهالي سبتة وطنجة، ومن بها من الطلبة والأشياخ والموحدين، إن أولياء هذه الدعوة من القبائل والعشائر الشرقية المختلفة، العربية والصنهاجية، تقدموا باقتراحهم ورغبتهم في هذه البيعة بولاية العهد، وبعثوا إليه بذلك مراراً وتكراراً، وأنهم لما وفدوا عليه بسلا، أبدوا رغبتهم صراحة، واختاروا لذلك ولده محمداً بالذات، ورغبوا إليه في أن يتولى هو حكم بلادهم، وأنه أي عبد المؤمن لم يكن له في ذلك كله قصد ينويه، وأنه رأى بعد استخارة الله تعالى، أن يجمع حوله بسلا شيوخ الموحدين وطلبتهم وعمالهم، وأن يشاورهم في هذا الأمر. وتقدمهم الشيخ الأجل أبو حفص عمر ابن يحيى، وأكد أنهم هم المتقدمون بذلك، وأنهم يرون وجوبه وتنفيذه، وأنهم هم السابقون إلى مبايعته على حدود الشرع ورسومه، وأكد سائر الطلبة والفقهاء ما تقدم، واتفقوا جميعاً على وجوب تحقيقه، " لأن فيه من إبقاء الأمر في نصابه، وإتيان الحق من أبوابه، واتباع الدين من أخلاّئه وأحبابه، وقطع كل منافق مرتاب عن أسباب نفاقه وارتيابه، والنظر فيما يجمع كلمة الموحدين، ويضم شمل المؤمنين، بأوائل هذا القصد الصالح وأعقابه، ما ابتنى عليه اتفاقهم وإصفاقهم، واسترسل فيه تعيينهم وإطلاقهم ". ثم يزيد عبد المؤمن على ذلك، بأن ذلك لم يكن له في نفسه " عقد سابق، ولا نظر لاحق، وأنه لما رأى اتفاق كلمة الموحدين على ربط هذا الأمر وعقده، استخار الله في الاتفاق ¬_______ (¬1) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 118.

معهم على إنفاذه؛ وبدأ البيعة الشيخ الأجل أبو حفص، وتتابع من بعده الأشياخ والطلبة، ومن حضر من قبائل الموحدين، قبيلا بعد قبيل (¬1)، وكتب بولاية العهد إلى سائر البلاد. وإنه لما يلفت النظر، أن الخليفة عبد المؤمن يؤكد في رسالته غير مرة، أنه لم يفكر ولم يكن له قصد سابق في هذا التعيين لولده، ثم هو يعود فيؤكد في رسالة ثانية وجهها إلى أهل سبتة، وإلى الطلبة والأشياخ، أنه لم يكن عنده في ذلك " قصد متقدم، ولا عهد متوهم، لكنه أمر الله أراده فأتمه، واختاره لعباده فشمله بآمالهم وعممه " (¬2). نقول إن في هذا التنصل من جانب الخليفة الموحدي، ما يدلي بأنه كان يشعر بخطورة هذه الخطوة التي عمد إليها في اختيار ولده لولاية العهد، ويخشى أن يبدو في اتخاذها ملكاً دنيوياً، يعمل لتخليد السلطان في عقبه، وليخلق منهم أسرة ملوكية. وقد رأينا فيما تقدم كيف أنه حينما توفي المهدي ابن تومرت في رمضان سنة 524 هـ (1130 م) استطاع عبد المؤمن دون غيره من أشياخ الموحدين، أن يفوز بالخلافة، وأن يجتني تراث المهدي الديني والسياسي، وأن يتم بعد جهود طويلة شاقة، مهمته الأساسية في القضاء على الدولة المرابطية، وفي توطيد سلطان الدولة الموحدية، ولم يكن ثمة شك في أن تحقيق هذه المهمة الكبرى، يرجع في معظم نواحيه إلى عبقرية عبد المؤمن، ومقدرته العسكرية والسياسية، وإذن فقد كان من الطبيعي أن يتطلع عبد المؤمن إلى الاحتفاظ بثمار جهاده، وإلى أن يورثها لبنيه وعقبه. بيد أن هناك رواية تقول لنا إن عبد المؤمن لم يحقق ولاية العهد لولده، نتيجة للشورى ونزولا على رغبة الأشياخ والقبائل، حسبما يؤكد لنا في رسائله، ولكن تحقيقها كان بالعكس نتيجة لترتيب سابق، دبره عبد المؤمن بالتفاهم مع بعض أنصاره. وذلك أن عبد المؤمن حينما شعر بتوطد مركزه، وكثر أولاده من حوله، قرر أن يستبقي الملك في عقبه، واستدعى أمراء العرب من بني هلال وزغبة وعدى وغيرهم، ووصلهم وأحسن إليهم، ودفع إليهم من يقول لهم، أن يطلبوا إلى عبد المؤمن أن يختار لهم ولي عهد من بنيه، يرجع الناس إليه من بعده، ففعلوا ما طلب إليهم، فلم يجبهم عبد المؤمن في بادىء الأمر، إكراماً لأبى حفص ¬_______ (¬1) مجموعة الرسائل الموحدية السالفة الذكر - الرسالة الثالثة عشرة، ص 56 - 60. (¬2) الرسائل الموحدية - الرسالة الرابعة عشرة، ص 62.

عمر بن يحيى الهنتاني، لعلو منزلته بين الموحدين، وكان يعتبر ثاني رجل في الدولة بعد عبد المؤمن، وكان من المتفق، يوم تولى عبد المؤمن الخلافة، أن يلي عمر الأمر من بعده، ومن ثم فإن عبد المؤمن أجاب من طالبوه بترشيح ولده، أن الأمر ليس له، وإنما هو لأبى حفص عمر. فلما وقف أبو حفص على ذلك، خشي عاقبة هذا التوريط، فمثل أمام عبد المؤمن وأعلن خلع نفسه من الولاية، فعندئذ بويع لمحمد بن عبد المؤمن بولاية العهد، وكتب بذلك إلى جميع الجهات، وذكر اسمه في الخطبة إلى جانب اسم أبيه (¬1). ولم يكتف عبد المؤمن بهذه الخطوة الحاسمة في تحقيق ولاية العهد لولده ولكنه قرنها في نفس الوقت (سنة 549 هـ) بخطوة أخرى، هي تولية أولاده حكم البلاد، فندب ولده ووليّ عهده السيد أبا عبد الله محمد، لحكم بجاية وأعمالها، واستوزر له يخلف بن الحسين؛ وولده السيد أبا الحسين لحكم فاس وأعمالها، واستوزر له يوسف بن سليمان؛ وولده السيد أبا حفص لحكم تلمسان واستوزر له أبا محمد بن وانودين، وعين لكتابته الفقيه أبا الحسن بن عبد الملك ابن عياش؛ وولده السيد أبا سعيد لحكم سبتة ومالقة والجزيرة الخضراء، واستوزر له محمد بن سليمان وسعيد بن ميمون الصنهاجي، ومن الكتاب الفقيه أبا الحكم ابن هرودس، والفيلسوف أبا بكر بن طفيل. ويضع البيذق تاريخ هذه التولية في سنة 548 هـ ويزيد على ذلك، أن الخليفة أعطى ولده يوسف حكم إشبيلية. ولكن سنرى أن هذه التولية تمت بعد هذا التاريخ. وولى ولده أبا الربيع حكم تادلا، وولده أبا زيد أرض السوس، ويقدم إلينا البيذق بهذه الناسبة بعض البيانات عن أولاد الخليفة وأمهاتهم، فيقول لنا إن عمر ويوسف شقيقان وأمهما صفية بنت أبى عمران. وفي هذا العام أعني في سنة 548 هـ، وُلد للخليفة ولده يعقوب بقصر عبد الكريم، وأمه جارية أهداها إليه ابن وزير، وولد عمر الرشيد في عرض البحر، وأمه من قادس، وكان أبو زيد عند ولايته صبياً صغيراً، وأمه لمطية من قبيلة لمطة. ومن أولاد عبد المؤمن أيضاً السيد اسماعيل، وأمه بنت ماكسن بن المعز، وعلي وأمه فاسية تدعى فاطمة، ومحمد وأخوه موسى وأمهما من بلاد السوس (¬2). ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 79. (¬2) راجع أخبار ابن تومرت ص 116 و 117، وابن الأثير ج 11 ص 79، وابن خلدون ج 6 ص 236، وروض القرطاس ص 136 و 137.

وبعد أن انتهى عبد المؤمن من عقد البيعة بولاية العهد لولده محمد، وتولية أولاده الآخرين حكم البلاد، أخذ في النظر في شئون الأندلس. وتوجيه البعوث إلى حمايتها وضبط أمورها. وكانت قد حدثت في ذلك الحين في ولاية الغرب بعض الحوادث المقلقة. ومن ذلك أن علياً الوهيبي أحد ثوار الغرب، هاجم في صحبه مدينة لبلة ليلا، وأخذ أهلها على غرة وفتك بكثير منهم، فلجأ الناس إلى قصبة الموحدين. فحاصر الوهيبي القصبة، وأرهق من بها، فلما وقف يحيى بن يومور والى قرطبة وإشبيلية الموحدي على ما حدث، غادر من فوره قرطبة في عسكر من الموحدين، وسار إلى لبلة، فبادر الوهيبي بالفرار، وخرج أهل لبلة في اليوم التالي، معتذرين طائعين، فلم يقبل منهم عذراً، واعتبرهم جميعاً مذنبين، وأوقع السيف فيهم أجمعين، ولم يرحم منهم أحداً، وكان ممن قتل من أعيان فقهائهم، الفقيه أبو الحكم بن بطال المحدث، وأبو عامر بن الجد. وتقدر الرواية من قتل من أهل لبلة في ذلك اليوم بثمانية آلاف، ومن أحوازها بأربعة آلاف، ثم بيع نساؤهم وأولادهم. وكان مع ابن يومور في تلك الوقيعة أبو الغمر بن عزون، وهو الذي أشار عليه بارتكاب هذا الجرم. ووقع الفتك بأهل لبلة، على هذا النحو في الرابع عشر من شعبان سنة 549 هـ. فلما بلغ عبد المؤمن ما فعله ابن يومور، وما ارتكبه من شنيع السفك بأهل لبلة بمحض رأيه واستبداده، بعث أبا محمد عبد الله بن أبى حفص إلى إشبيلية ومعه أمر باعتقال ابن يومور، فاعتقله بمعاونة برّاز بن محمد، وأخذاه يوم الفطر مكبلا، وبعثا به إلى مراكش في صحبة عبد الله بن سليمان، فاعتقل بمنزله، واستمر على ذلك حيناً إلى أن زار الخليفة قبر المهدي، وسار ابن يومور في ركبه، فعفا عنه وأمنه، وأبقى عليه حساب الآخرة، ثم بعثه إلى تلمسان صحبة ابنه السيد أبى حفص ضمن أشياخ الموحدين الذي ساروا في رفقته (¬1). وفي آخر هذا العام، وفد ابن وزير صاحب باجة ويابرة إلى مراكش، مستغيثاً بالخليفة من أعمال ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز، وهو المسمى في الرواية العربية ابن الرنك، أو ابن الرنق، وتفاقم عدوانه على الثغور ودأبه على غزو أراضيهم والعيث في بسائطهم، وإتلاف زروعهم، وتشتيت شملهم، فوعده الخليفة ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 29 و 30، وروض القرطاس ص 127، وابن خلدون ج 6 ص 236.

بالعون، وردع العدو وتحقيق النصر الذي يؤمل، وأمر بالكتب بذلك إلى أهل يابرة وباجة، فوجهت إليهم الكتب في الثالث والعشرين من المحرم سنة 550 هـ (¬1). * * * وزار عبد المؤمن قبر المهدي في هذه السنة، ثم غادر تينملل إلى سلا، وبقي بها حسبما يحدثنا البيذق مدى عامين، ثم عاد إلى مراكش، وأمر بأن يغرس في خارجها بستان عظيم، أطلق عليه اسم " شنطلوليه " (¬2)، وعنى بتخطيط هذا البستان (أو البحيرة كما كانت تسمى الحديقة يومئذ) أحمد بن ملحان صاحب وادي آش السابق، وأجرى إليه الماء من أغمات، ومن عيون كثيرة أنشأها، وكان قد وفد على مراكش بعد استيلاء ابن مردنيش على أراضيه في سنة 546 هـ، واستعمل في إنشاء البستان وغرسه، لما له في ذلك من خبرة هندسية فائقة (¬3). وزود هذا البستان الضخم، بسائر الغروس من الفواكه والأزهار والرياحين، والأشجار النادرة، ولم يمض سوى قليل حتى غدا بجمال تنسيقه، وروعة نضرته، وكأنه قطعة من الجنان. ويقول ابن اليسع إن هذا البستان كان يشغل مساحة قدرها ثلاثة أميال في مثلها، وأنه بعد عامين أو ثلاثة من غرسه كان إيراد زيتونه وفواكهه، يبلغ ثلاثين ألف دينار مؤمنية على رخص أثمان الفواكه (¬4). ويقص علينا صاحب المعجب، أن الوزير أبا جعفر بن عطية، دخل على عبد المؤمن ذات يوم، وهو جالس في قبة مشرفة على البستان، فسحره جمال البستان وروعته، ولاحظ ذلك عبد المؤمن، فأبدى له أن المنظر الحسن إنما هو شىء آخر، وبعد ذلك بأيام قلائل أجرى الخليفة عرضاً لعسكره، ومرت الكتائب، متوالية في أكمل هيئة ونظام، وكان إلى جانبه وزيره، فالتفت إليه قائلا " إن هذا هو المنظر الحسن يا أبا جعفر لا ثمارك وأشجارك " (¬5). وقضى عبد المؤمن بقية هذا العام (سنة 552 هـ) في الطواف بنواحي الأطلس وبلاد السوس، ومعه طائفة من أشياخ الموحدين وطلبتهم وحفاظهم، ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 20. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 120. (¬3) أعمال الأعلام ص 264. (¬4) الحلل الموشية ص 110. (¬5) المراكشي في المعجب ص 112.

وكان يرمي بهذا الطواف إلى الاتصال بالقبائل المنضوية تحت لواء التوحيد، فاجتمع خلال طوافه بأبناء جدميوة، ومصمودة، وجنفيسة، ورجراجة، وحاحة، كل قبيلة منهم في مكانها، وأمر بأن تلقي عليهم المواعظ والتعريف بمقاصد التوحيد، تذكيراً لهم، وتوطيداً لعقائدهم، وفرق فيهم الصلات. ثم وفد عليه جملة من قبائل جزولة، طالبين الأمان، ومؤكدين ولاءهم وإيمانهم، وصادق توبتهم، فحذروا من العود إلى الخلاف، وما يترتب على ذلك من الهلكة، وشملهم العفو والرحمة. وسار الخليفة بعد ذلك إلى تارودانت واجتمع فيها بقبائل السوس، فأكدوا له عهد الولاء والطاعة، وشملتهم رعايته ومننه. ولما وصل إلي آنسا، وهي طرف بلاد السوس، اجتمعت حوله قبائل تينملل وهنتانة، فنالهم ما نال اخوانهم من أسباب الخير والبركة. وكان فصل الخريف قد انصرم يومئذ، وأقبل الشتاء، فسار عبد المؤمن إلى تينملل ليختتم جولته بزيارة قبر المهدي مرة أخرى، وقصد إليها، " والنفوس قد حفزها الشوق إلى مقامه، وسارع بها الحرص إلى معالمه المقدسة وأعلامه "، وذلك حسبما يقول لنا في رسالته المستفيضة التي أمر بكتبها عن رحلته. وهنالك تقاطرت عليه وفود القبائل من سائر تلك الأقطار، وازدحمت بهم الوديان والربى، وشملوا جميعاً بالرعاية والإكرام، " وأفهموا في أثناء ذلك من مقاصد الحق المبين، وعقائد الدين المتين، ما شرح صدورهم، وضاعف سرورهم "، وتأكد ولاؤهم، وتمسكهم بدعوة التوحيد. وانتهت رحلة الخليفة، بعد أن تحققت مقاصدها، في العمل على إحياء الدعوة الموحدية في مهادها، وتذكير مختلف القبائل بما يجب عليهم نحوها من الولاء والإخلاص، وتحذيرهم من عواقب الخروج والردة، وتنقية النفوس من الشوائب. وعاد عبد المؤمن إلى مراكش في أواخر رمضان سنة 552 هـ، وصدرت عن رحلته بتاريخ الثامن من شوال رسالة مستفيضة، من إنشاء كاتبه أبى عقيل بن عطية، أخى الوزير أبى جعفر، وهي رسالة ممتعة كتبت بأسلوب بليغ مشرق (¬1). وكان هذا العام - 552 هـ - عام الأحداث المباركة، فكان بعد الحج إلى تينملل، أن أحضر المصحف العثماني من قرطبة إلى مراكش، تحقيقاً لرغبة الخليفة عبد المؤمن. وكان هذا المصحف أحد المصاحف الأربعة المشهورة التي ¬_______ (¬1) راجع هذه الرسالة ضمن مجموعة الرسائل الموحدية، وهي الرسالة السابعة عشرة (ص 81 - 92).

بعث بها الخليفة عثمان إلى الأمصار - مكة والبصرة والكوفة والشام - وكان من ذخائر بني أمية بالأندلس، يودعونه بجامع قرطبة الأعظم. وقد وصفه لنا الإدريسي عند حديثه عن جامع قرطبة في الفقرة الآتية: " وعن شمال المحراب بيت فيه عدد وطشوت ذهب وفضة وحسك، وكلها لوقيد الشمع في كل ليلة من شهر رمضان ْالمعظم. ومع ذلك ففي هذا المخزن مصحف يرفعه رجلان لثقله، فيه أوراق من مصحف عثمان بن عفان، وهو المصحف الذي خطه بيمينه رضي الله عنه، وفيه نقط من دمه. وهذا المصحف يخرج في صبيحة كل جمعة، ويتولى إخراجه رجلان من قومة المسجد، وأمامهم رجل ثالث بشمعة. وللمصحف غشاء بديع الصنعة منقوش بأغرب ما يكون من النقش وأدقه وأعجبه، وله بموضع المصلى كرسي يوضع عليه، ويتولى الإمام قراءة نصف حزب منه، ثم يرد إلى موضعه " (¬1). فلما استولى الموحدون على قرطبة، كان من أجل أماني عبد المؤمن أن ينقل هذا المصحف إلى مراكش، ويقال إن أهل قرطبة هم الذين عملوا على إهدائه إلى الخليفة الموحدي، وكان إخراجه من جامع قرطبة في اليوم الحادي عشر من شوال سنة 552 هـ، وحمله إلى المغرب السيدان أبو سعيد وأبو يعقوب ولدا الخليفة، فلما وصل إلى مراكش استقبله الخليفة بأعظم آيات التبجيل والإجلال، وصنع له كسوة عظيمة مرصعة بأنواع اليواقيت والأحجار النفيسة، وتابوتاً من صفائح الذهب المرصع بالياقوت الأحمر، وعمل لحمله كرسي فاخر كذلك، وكان عبد المؤمن يحمله بعد ذلك في مقدمة جيشه في حملاته تبركاً به، وقد حمله معه في غزوة المهدية سنة 554 هـ (¬2). ولبث هذا المصحف النفيس لدى الخلفاء الموحدين زهاء قرن آخر حتى أواخر دولتهم. وأمر عبد المؤمن في نفس العام، بإنشاء المسجد الجامع بمراكش، وبدىء بإنشائه في أوائل ربيع الآخر سنة 553 هـ، وأنشأ له " ساباطاً " يوصل إليه من القصر مباشرة، وزوده بمنبر فخم أمر بصنعه في الأندلس، من خشب العود والصندل، المغطى بصفائح الذهب والفضة، وصنع له مقصورة من الخشب ¬_______ (¬1) الإدريسي في " وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس " ص 210 و 211. (¬2) نقل إلينا المقري رواية ابن طفيل عن قصة هذا المصحف وحمله إلى المغرب كاملة مفصلة، ووصف كسوته الفاخرة، وما زينت به من روائع التحف والذخائر (نفح الطيب ج 1 ص 284 - 288). وراجع أيضاً الحلل الموشية ص 115 و 116، والمعجب ص 142.

ذات ستة أضلاع، تفتح أبوابها دفعة واحدة بطريقة آلية، وكذا المنبر لا يفتح إلا عند صعود الخطيب، بطريقة آلية كذلك. وكان الذي قام على صنع المنبر والمقصورة على هذا النحو المبتكر، رجل فنان من أهل مالقة هو الحاج يعيش المالقي، وهو الذي قام فيما بعد على تخطيط مدينة جبل طارق، وصنع منارة الجامع بإشبيلية، في عهد الخليفة يعقوب المنصور، حفيد عبد المؤمن. وكمل بناء المسجد الجامع في نحو أربعة أشهر، في منتصف شعبان من نفس السنة، وبذلت في بنائه وتجميله وزخرفته جهود عظيمة وأموال جمة (¬1). - 4 - لما أقيل ابن يومور عقب مذبحة لبلة، من ولاية قرطبة وإشبيلية على النحو المتقدم، ندب الخليفة عبد المؤمن مكانه لولاية قرطبة أبا زيد عبد الرحمن بن يكيت أو يخيت، ولولاية إشبيلية أبا محمد عبد الله بن أبى حفص بن علي التينمللي، فوصلا إلى الأندلس في أوائل سنة 550 هـ (1155 م)، وذهب كل منهما إلى مقر ولايته. وما كاد ابن يكيت يستقر في قرطبة، حتى خرج في بعض القوات الموحدية، وسار إلى مهاجمة الحصون النصرانية في المناطق القريبة، وكان القشتاليون بقيادة ملكهم ألفونسو السابع، قد استولوا على حصن أندوجر، وحصن البطروج القريب منه، قبل ذلك بقليل، فهاجم ابن يكيت، حصن البطروج (¬2) وما يليه من حصون النصارى، وتغلب على الحصن المذكور، وأسر قائده القشتالي، وبعث به إلى مراكش، ثم عاد فجهز حملة ثانية، وسار إلى مهاجمة الحصون النصرانية، واستولى منها في تلك المرة على حصنين منيعين، هما حصن منتور وحصن المدور (¬3)، وهما يقعان جنوبي قرطبة، وبعض حصون أخرى. وكان مثل ابن يكيت حافزاً لزميله عبد الله بن أبى حفص والي إشبيلية، فحشد قواته بمعاونة برّاز صاحب المخزن، وكتب إلى ابن الحجام صاحب بطليوس بأن يحشد جند الثغر، وخرج عبد الله في قواته من إشبيلية وهي تزداد كل يوم، بمن ينضم إليها من المتطوعين والمجاهدين، حتى وصل إلى بطليوس ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 109. (¬2) وهو بالإسبانية حصن Pedroche (¬3) وهما بالإسبانية Almodovar, Montoro

فانضمت إليه حشودها، فاستقر الرأي على غزو أراضي البرتغال انتقاماً من ملكها ألفونسو هنريكيز (ابن الرنك). فسارت القوات الموحدية وحلفاؤها نحو الشمال الغربي، حتى عبرت نهر التاجه، وهاجمت حصن أطرونكس (¬1) وتغلبت عليه وقتلت حاميته، وعاثت في تلك المنطقة قتلا وسبياً، وامتلأت أيدي الغزاة من الغنائم والأموال والأسرى، وبادر النصارى في تلك المنطقة فاحتشدوا وقدموا مسرعين لمقاتلة المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها النصارى، واستولى المسلمون على أسلابهم، وعاد الموحدون وقائدهم ظافرين إلى إشبيلية، ولما وصلت أنباء هذه الفتوحات إلى مراكش، بعث الخليفة إلى عبد الرحمن ابن يكيت وعبد الله بن أبى حفص بالقدوم إلى الحضرة (مراكش) فقدما إليها، وقدّما إلى الخليفة خضوعهما، وعرفاه بما فتح الله على عسكره من النصر، وما تحقق للأندلس من رعاية أحوالها، والتفاف أهلها حول رايته، ودعائهم له بالتأييد ودوام النصر (¬2). وكان لهذه الإنتصارات الموحدية بالأندلس، تأثير حاسم في سير الحوادث بمدينة غرناطة. وكانت غرناطة، قد بقيت بأيدي المرابطين، من بعد وفاة عميدهم الأمير يحيى بن غانية في شعبان سنة 543، واستطاع واليها ميمون بن يدّر اللمتوني، أن يصمد بها طوال هذه الأعوام السبعة. فلما تتابعت الحوادث، وامتد سلطان الموحدين إلى معظم قواعد الأندلس الغربية والوسطى، وتوالت انتصاراتهم في منطقة قرطبة وما إليها، شعر المرابطون في غرناطة بتحرج مركزهم، وتضاؤل قواتهم ومواردهم، فبعث واليها ميمون بن يدر إلى عبد المؤمن يعرض تسليمها، ويلتمس العفو والأمان، فأجابه عبد المؤمن إلى طلبه، وأمر عبد الله بن سليمان صاحب الأسطول بسبتة، وولده السيد أبا سعيد والي سبتة والجزيرة الخضراء بالسير إلى غرناطة، فسارا إليها، واستقبلهما ميمون وحاميته المرابطية بترحاب، وتسلم الموحدون المدينة، وعاد ميمون وصحبه مع عبد الله ابن سليمان، إلى العدوة، ووصلوا في صحبته إلى مراكش، حيث أنزلوا منازل حسنة، وأغدقت عليهم الصلات والأرزاق. وندب عبد المؤمن ولده السيد أبا سعيد لولاية غرناطة بالإضافة إلى سبتة والجزيرة، فاستقر بها مع حامية ¬_______ (¬1) وهو بالإفرنجية Trancoso. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث - ص 31 و 32.

موحدية. وكان استيلاء الموحدين على غرناطة في سنة 551 هـ (1156 م) (¬1). وتلا استيلاء الموحدين على غرناطة، استيلاؤهم على ألمرية. وكان النصارى قد انتهزوا فرصة الاضطراب العام الذي ساد الأندلس، عقب انهيار سلطان المرابطين، وجهزوا حملة صليبية برية وبحرية، اشتركت فيها ممالك اسبانيا النصرانية قشتالة ونافار (نبرّة)، وأراجون وقطلونية، ومعها أمداد من جنوة وبيزة وبعض حشود من وراء البرنيه وذلك لافتتاح ثغر ألمرية، وحاصروا ألمرية براً وبحراً، مدى ثلاثة أشهر، واستولوا عليها حسبما ذكر في موضعه في شهر أكتوبر سنة 1147 م (542 هـ). وكان الموحدون مذ عبروا إلى شبه الجزيرة، واستقروا في قرطبة في أواسط الأندلس، يتوقون إلى استرداد هذا الثغر الإسلامي العظيم، خصوصاً وقد كان وجود النصارى فيه يهدد مواصلاتهم البحرية شرقي بحر الزقاق، فيما بين شاطىء المغرب الأوسط، وجنوبي الأندلس. فلما تم استيلاؤهم على غرناطة، شعروا بأن الفرصة قد سنحت لتحقيق هذا المشروع، الذي كان الخليفة عبد المؤمن، يحبوه بمزيد من عنايته واهتمامه. فحشد السيد أبو سعيد والي غرناطة قواته، وبعث إلى ألمرية بادىء ذي بدء حملة استطلاعية، وصلت إلى أسوار ألمرية، وقتلت عدداً من النصارى، ثم ارتدت إلى حصن برجة الواقع شمال غربي ألمرية، وعلمت من أهله أن النصارى بقصبة ألمرية في عدد قليل، ولا يستطيعون دفاعاً عن المدينة. وعلى أثر ذلك سار السيد أبو سعيد إلى ألمرية في جيش ضخم من الموحدين، ومعهم قوة أندلسية بقيادة أحمد بن ملحان صاحب وادي آش السابق، بينما قصد إليها من البحر أسطول سبتة الموحدي بقيادة أمير البحر عبد الله بن سليمان. وضرب الموحدون حول ألمرية حصاراً محكماً، ونصبوا حولها المجانيق، وابتنى السيد أبو سعيد فوق الجبل الذي احتله الموحدون إزاء المدينة، سوراً يمتد إلى البحر، وأمامه خندق عميق، وذلك حتى يعوق وصول النجدات إلى المدينة. وشعر النصارى بالقصبة منذ البداية بخطورة الموقف، فبعثوا يستغيثون بعاهلهم، وهرع ألفونسو السابع أو السُّليطين حسبما تسميه الرواية الإسلامية، لإنجاد المحصورين في جيش قوامه إثنا عشر ألف فارس، وقدم معه حليفه محمد بن سعد بن مردنيش أمير شرقي الأندلس في جيش من ستة آلاف من المسلمين. وكان مقدم الأمير المسلم في هذا ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 127، والبيان المغرب القسم الثالث ص 33.

الموطن، ليحارب إلى جانب النصارى، أبناء دينه ووطنه، وليحول دون تحرير الثغر المسلم، من أشنع المواقف التي يمكن تصورها، مهما كان وراءه من الإعتبارات القومية والوطنية. وحدث أثناء الحصار بين ابن ملحان وبين عبد الله ابن سليمان نزاع، انسحب ابن ملحان على أثره مع قواته إلى معسكر ابن مردنيش، ليشاطره خزي موقفه. واستمر حصار الموحدين لألمرية بضعة أشهر، حاول النصارى وحليفهم ابن مردنيش خلالها غير مرة، أن يقتحموا الحصار لإنجاد المحصورين، فذهبت كل جهودهم عبثاً. وتقول الرواية النصرانية، إنه نشبت خلال ذلك بين الموحدين والنصارى موقعة عنيفة، فقد فيها الموحدون زهرة جندهم، وتفرقوا في غير نظام (¬1). بيد أنه مما ينقض هذه الرواية، أن القشتاليين لم يفلحوا في خرق الحصار، وأن حامية ألمرية النصرانية، لم تلبث أن أرغمت على التسليم. وكان السيد أبو سعيد قد بعث إلى أبيه الخليفة يستمده العون، فبعث الخليفة وزيره أبا جعفر بن عطية القضاعي إلى الأندلس صحبة ولده السيد أبى يعقوب يوسف، الذي ندبه لولاية إشبيلية، وأمر بعد استقرار ولده بإشبيلية، أن يتوجه أبو جعفر إلى ألمرية ليعالج أمرها، ووصل ابن عطية إلى ألمرية، وقد تحرج مركز النصارى بقصبتها، وأرهقهم الحصار، ففاوضهم، ونجح في إقناعهم بالتسليم على الأمان. ودخل الموحدون ألمرية في أواخر سنة 1157 م (ذو القعدة أو ذو الحجة سنة 552 هـ) بعد حصار دام سبعة أشهر، وعاد الثغر الإسلامي إلى سلطان المسلمين بعد أن احتله النصارى زهاء عشرة أعوام. وكان السيد أبو سعيد يتوق إلى العود مسرعاً بقواته إلى غرناطة خشية عدوان القشتاليين. ْولكن الواقع أن ملك قشتالة وحليفه ابن مردنيش اضطرا إلى الانسحاب خائبين، تاركين المدينة المحصورة لمصيرها، ومرض ألفونسو السابع في طريق العود إلى عاصمته طليطلة، وتوفي قبل أن يصل إليها في بلدة مورتلة (مورادال) وذلك في 21 أغسطس سنة 1157 م. وارتد ابن مردنيش في قواته إلى بلاده (¬2). وحدثت في نفس الوقت في ولاية المغرب تطورات جديدة. وذلك أن علياً الوهيبي حينما فر من لبلة عندما دهمها الموحدون، سار إلى ثغر طبيرة الصغير، ¬_______ (¬1) Lafuente: Historia General de Espana (Ed. 1889) T. III. p. 300 (¬2) يراجع في استرجاع الموحدين لألمرية: ابن الأثير ج 11 ص 84، والبيان المغرب القسم الثالث ص 33، والإحاطة (1956) ج 1 ص 272، وابن خلدون ج 6 ص 237.

الواقع على شاطىء المحيط قرب مصب نهر وادي يانه، وامتنع به. وكان الخليفة عبد المؤمن قد ندب ولده السيد أبا يعقوب يوسف لولاية إشبيلية، تحقيقاً لرغبة أشياخها حينما وفدوا عليه بمراكش في سنة 551 هـ، وذلك بالرغم من صغر سنه، وبعث معه الوزير ابن عطية حسبما تقدم. فلما فرغ ابن عطية من تحقيق مهمته بألمرية، عاد إلى إشبيلية، ثم خرج منها مع السيد أبى يعقوب في حملة موحدية سارت لغزو طبيرة، فامتنع بها الوهيبي، واضطر الموحدون إلى حصارها براً وبحراً، وأقاموا على حصارها زهاء شهرين، ثم رأى ابن عطية مفاوضة الوهيبي، وقنع منه بذكر الخليفة في الخطبة، على أن يبقى محتفظاً بطبيرة. واستولى الموحدون في هذه الغزوة على بلاد أبى محمد سيدراي بن وزير، وهي شلب وميرتلة، وباجة وأحوازها، تخلى عنها ابن وزير طوعاً (¬1)، وعبر البحر إلى المغرب. ولسنا نعرف سبباً لهذا التخلي، إلا أن يكون ما يذكره ابن عذارى من أنه حينما كان السيد أبو يعقوب في جيشه تحت أسوار طبيرة، وفد عليه أشياخ بلاد ابن وزير، ومدحه شاعرهم الأديب أبو بكر بن المنخل بقصيدة طويلة، والظاهر أن أولئك الأشياخ قد طلبوا إلى السيد أبى يعقوب إقالة ابن وزير، وتعيين حاكم موحدي لبلادهم، ومن ثم فقد عين لولاية شلب وبلاد الغرب حاكم موحدي هو يعقوب بن جبون الهزرجي، وبعض الحفاظ الموحدين. ويضع ابن عذارى تاريخ هذه الحوادث في النصف الأول من سنة 552 هـ، وهو ما يحمل على الاعتقاد بأن الوزير ابن عطية قد قام بمهمته في ألمرية بعد أن اشترك في حوادث الغرب المتقدمة، وليس من الممكن أن يكون اشتراكه فيها بعد عوده من ألمرية إلى إشبيلية، إذ سقطت ألمرية كما رأينا في أيدي الموحدين في أواخر سنة 552 هـ (¬2). - 5 - ولم يمض قليل على ذلك حتى وقع بمراكش حادث محزن، هو نكبة الوزير أبى جعفر بن عطية، وأخيه الكاتب أبى عقيل بن عطية. وقد سبق أن أشرنا إلى نشأة أبى جعفر، وظهوره خلال المعركة التي ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 239. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث - ص 34.

اضطرمت بين الموحدين وبين الماسي، برسالته التي كتبها بتكليف الشيخ أبى حفص الهنتاني إلى الخليفة، وصفاً لهذه المعركة، وما كان من حظوته لدى الخليفة بسببها، وتوليه الوزارة، وتوطد سلطانه ونفوذه، حتى غدا من أقرب أعوان الخليفة، وآثرهم لديه، وأكثرهم فوزاً بثقته. وكان أبو جعفر في الواقع من أقدر وزراء الدولة المؤمنية، وأوفرهم كفاية، وأبرعهم خلالا، وكان رضي النفس قريب المنال، خدوماً يعمل على قضاء الحوائج، فأحبه الناس، وقدروا مروءته، ومكانته. وكان يبدو أن ابن عطية، ما يزال متمتعاً برفيع مكانته ونفوذه، حينما بعثه الخليفة إلى الأندلس ليكون إلى جانب ولده السيد أبى يعقوب، وليعالج قضية ألمرية. بيد أنه كان ثمة طائفة من تيارات خفية تعمل ضده، وتسعى إلى تقويض نفوذه، والقضاء عليه، وكان ابتعاده عن مراكش فرصة سانحة لخصومه، يحكمون فيها تدبير خطتهم ودسائسهم. وفي خلال ذلك استوزر عبد المؤمن، عبد السلام ابن محمد الكومي، من قرابته وأبناء قبيلته كومية (¬1)، فتزعم خصوم ابن عطية، واشتد في مطاردته، والحملة عليه والتشهير به، وتتبع عوراته وسقطاته " وأغرى صنايعه، وشحن عليه حاشيته " حسبما يقول لنا ابن الخطيب " فبروا وراشوا وانقلبوا ". وكان في مقدمة ما نسب إلى أبى جعفر، ممالأته اللمتونيين، وإسرافه في اصطناعهم، وتوليتهم الأعمال والوظائف، وفوق ذلك، فقد كانت زوجه لمتونية، أبوها يحيى الحمار من أمرائهم، وأمها ابنة زينب بنت علي بن يوسف (¬2)، فكانت هذه الظروف، تثير من حوله الريب، وتدمغه في نظر المتعصبين من أشياخ الموحدين. وكان يعمل لإهلاكه إلى جانب الوزير عبد السلام الكومي، رجل ممن شملتهم حمايته ورعايته، فكفر بشكر الصنيعة، هو القاضي مروان بن عبد العزيز، أمير بلنسية السابق، وكان ابن عطية قد سعى في إطلاق سراحه من سجنه الطويل بميورقة، واستغل في ذلك نفوذه لدى واليها إسحق بن محمد بن غانية، فعبر البحر إلى بجاية، ثم إلى مراكش، فأسعفه ابن عطية، وعاونه على الانتظام في ¬_______ (¬1) ذكر لنا البيذق نوع هذه القرابة، فقال إن والدة عبد المؤمن " تعلو" لما توفي زوجها الأول على والد عبد المؤمن، تزوجت من بعده، والد عبد السلام الكومي، ورزقت منه بابنة سميت فندة، فكانت فندة هذه أخت عبد المؤمن لأمه وعبد السلام الكومي لأبيه (أخبار المهدي ابن تومرت ص 24). (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 273.

مجلس الخليفة (¬1). بيد أنه ما لبث أن انقلب عليه، وكفر بصنيعته، وأخذ يحرض عليه، ومن ذلك أبيات نظمها ضده وخرجت بمجلس عبد المؤمن يقول فيها: قل للإمام أطال الله مدته ... قولا تبين لذي لب حقائقه ان الزراجين قوم قد وَتْرتَهُم ... وطالب الثأر لم تؤمن بوائقه وللوزير إلى آرائهم ميل ... لذاك ما كثرت فيهم علائقه فبادر الحزم في إطفاء نارهم ... فربما عاق عن أمر عوائقه هم العدو ومن والاهم كُهُم ... فاحذر عدوك واحذر من يصادقه الله يعلم أني ناصح لكم ... والحق أبلج لا تخفى طرايقه (¬2) والظاهر أن هذه الأبيات، قد تركت أثرها في نفس الخليفة، وقد كانت مستعدة بما أوحى إليه من مختلف المصادر للتنكيل بأبى جعفر. وكان أبو جعفر قد ترامت إليه وهو في شبه الجزيرة، أنباء مقلقة عما يدور حوله من دسائس، وما يرمى به من التهم، فعجل بالعودة، ليرد هجوم خصومه، ولكن الخليفة، كان عندئذ قد اعتزم أمره، فما كاد يصل إلى مراكش، حتى أمر عبد المؤمن بالقبض عليه واعتقاله، ثم اقتيد بعد أيام قلائل إلى الجامع مهاناً حاسر الرأس كسير الفؤاد، واستحضر الناس على طبقاتهم ليعلنوا ما يعلمونه من أمر الوزير المنكوب، ومنهم أشياخ الموحدين والطلبة، ووفود الأندلس، وطلب إليهم ابن عمر باسم الخليفة أن يقول كل منهم ما يعلمه عن ابن عطية من سوء، وما إذا كان قد أعطاه شيئاً أو صانعه، وكان الوزير عبد السلام الكومي، قد رتب أعوانه وصنائعه لهذا اليوم. فأجاب كل من الحضور بما اقتضاه هواه. ولم يرتفع لسان بالدفاع عن ابن عطية سوى ابن وزير صاحب شلب وباجة السابق، حيث أكد أنه لم يعط ابن عطية يوماً شيئاً إلا رده إليه مضاعفاً، وأنه لو عين الخليفة للوساطة بينه وبين رعاياه، عبداً حبشياً، لكان من واجبهم أن يعظموه وأن يهادوه. فلما انتهى المجلس أعيد ابن عطية إلى سجنه، وسجن معه أخوه الكاتب أبو عقيل بن عطية، ولبث الأخوان في المطبق بضعة أشهر، وأبو جعفر، يتوسل إلى الخليفة ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 215، و 216، وفي التكملة (القاهرة) رقم 1750. (¬2) الحلة السيراء ص 216، والإحاطة (1956) ج 1 ص 274.

لالتماس عفوه برسائل وقصائد تذيب الجماد إشفاقاً وتأثراً، ومنها الأبيات الآتية: فعفواً أمير المؤمنين فمن لنا ... بحمل قلوب هدها الخفقان عطفاً علينا أمير المؤمنين فقد ... بان العزاء لفرط البث والحزن قد أغرقتنا ذنوب كلها لجج ... وعطفة منكم أنجى من السفن وصادفتنا سهام كلها غرض ... لها ورحمتكم أوفى من الجنن هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ... بمن أجارته رحماكم من المحن أنتم بذلتم حياة الخلق كلهم ... من دون منٍّ عليهم لا، ولا ثمن ونحن من بعض من أحيت مكارمكم ... تلك الحياتين من نفس ومن بدن وصبية كفراخ الورق من صغر ... لم يألفوا النوح في فرع ولا فنن قد أوجدتهم أياد منك سابقة ... والكل لولاك لم يوجد ولم يكن ولكن عبد المؤمن لم يتأثر لضراعة وزيره، ولم تجد الرحمة إلى قلبه سبيلا. وقيل في سبب قسوة عبد المؤمن على وزيره، أنه أفضى إليه بسر خطير فأفشاه. ويوضح لنا المراكشي ماهية هذا السر، فيقول لنا إن يحيى بن أبى بكر الصحراوي أو ابن الصحراوية فارس المرابطين، الذي فصلنا أخباره فيما تقدم، كان قد استأمن إلى عبد المؤمن، فأمنه وأكرم وفادته، وحظى لديه، وجعله قائداً على من بقي من لمتونة، وكانت زوجة ابن عطية، زينب بنت أبى بكر أخت يحيى المذكور، وحدث أن ترامت إلى عبد المؤمن أشياء وأقوال نسبت إلى يحيى الصحراوي غضب منها، ونقمها عليه، وقرر أن ينكل به، وصدر عنه في بعض مجالسه، ما يفصح عن هذا العزم، فكان من ابن عطية أن قال لزوجته أخت يحيى أن تحذر أخاها، وأن يتمارض إذا دعى إلى مجلس الخليفة، وأن يلوذ بالفرار إذا استطاع إلى ميورقة، ففعلت زينب ما طلب إليها، وتمارض يحيى، وزاره بعض صحبه في مرضه، فأفضى إلى بعضهم. بما بلغه من الوزير، وما نصح به، فنقل هذا الصديق ما سمعه إلى بعض ولد عبد المؤمن. ووقف عبد المؤمن على ذلك، فكان هذا هو أعظم سبب في نكبة ابن عطية (¬1). ولما توجه عبد المؤمن بعد ذلك، في أوائل سنة 553 هـ إلى تينملل لزيارة قبر المهدي، ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 111. وقد ذكرنا فيما تقدم نقلا عن ابن الخطيب، أن زوجة ابن عطية كانت حفيدة زينب بنت علي بن يوسف.

حمل معه أبا جعفر وأخاه أبا عقيل يرسفان في أغلالهما. قال ابن الخطيب: " وصدرت عن أبى جعفر في هذه الحركة من لطايف الأدب، نظماً ونثراً، في سبيل التوسل بتربة المهدي، أمامهم، عجائب لم تجد، مع نفوذ قدر الله فيه ". ولما غادر عبد المؤمن تينملل، عائداً إلى مراكش، حمل الأخوين معه، فلما وصل إلى موضع يقال له تغمرت، على مقربة من الملاحة، أصدر أمره بإعدامهما واستصفاء أموالهما، فأعدما على الأثر، وكان إعدامهما في التاسع والعشرين من شهر صفر سنة 553 هـ (أول أبريل سنة 1158 م)، وكان أبو جعفر عند مصرعه فتى في نحو السادسة والعشرين من عمره، إذ كان مولده بمراكش وفقاً لابن الخطيب سنة 527 هـ (¬1). وهكذا زهق الوزير الكاتب الشاعر ابن عطية، ضحية نزعة دموية من الخليفة، أثارتها الأهواء والوشاية، ودون ما خطير جريرة واضحة يسجلها لنا التاريخ، وأضاف عبد المؤمن بذلك صفحة دموية جديدة إلى صفحاته العديدة السابقة. ومما يدل على أن عبد المؤمن كان متسرعاً في قراره إزاء وزيره المنكود، ما يقصه علينا صاحب البيان المغرب من أن عبد المؤمن ندم أشد الندم على مقتل وزيره، وذرف عليه الدموع. وإنه لما يؤسف له، أن يضطر المؤرخ إلى أن يحصى مثل هذه النزوات الدموية المتوالية، في سيرة رجل عظيم مثل عبد المؤمن أقامت عبقريته دولة من أعظم الدول الإسلامية في المغرب والأندلس، وامتازت بطائفة من أبدع الخلال التي تزدان بها البطولة، ولكنا ربما استطعنا أن نلتمس في روح العصر، وروح الصراع الذي كانت تضطلع به الدولة الموحدية الفتية، كثيراً من العوامل الملطفة، لما تثيره هذه الصفحات القاتمة من سحب على سيرة الرجل العظيم. ¬_______ (¬1) راجع في نكبة الوزير ابن عطية: ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 273 - 276، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 35، والاستقصاء ج 1 ص 152 - 154. ونود أن نلاحظ هنا أن تاريخ مولد ابن عطية الذي يقدمه لنا ابن الخطيب، وهو سنة 527 هـ - لا يتفق مع ما يقوله لنا عن مراحل حياته، ومن أنه كتب عن علي بن يوسف ثم عن ولده تاشفين ثم عن حفيده إبراهيم. ومن الواضح أن هذا لا يستقيم من الناحية الزمنية، إذ يكون عمره حين كتب عن علي ابن يوسف نحو عشرة أعوام فقط. وربما يستقيم الأمر إذا قيل لنا إنه كتب عن الأمير إبراهيم، إذ يكون عندئذ في نحو الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره.

الفصل الثالث الثورة فى شرقى الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش

الفصل الثالث الثورة في شرقي الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش خواص الثورة في شرقي الأندلس. بلنسية مركز الثورة في الشرق. فرار واليها عبد الله بن غانية. اختيار القاضي ابن عبد العزيز لولايتها. القتال بين المرابطين أهل بلنسية. استيلاء ابن عبد العزيز على شاطبة. استيلاء ابن عياض على مرسية. تمرد الجند. فرار ابن عبد العزيز وسقوطه في يد ابن غانية. ولاية ابن عياض لبلنسية وعبد الله بن سعد لمرسية. مصير ابن عبد العزيز ووفاته. حوادث مرسية. تدخل ابن هود في شئونها. قيام القاضي ابن أبى جعفر بولايتها. مسيره لإنجاد ابن حمدين ومصرعه. تطور شئون الرياسة في مرسية. تقديم أبى عبد الرحمن بن طاهر لولايتها. السعي إلى خلعه. دخول ابن عياض مرسية. اعتزال ابن طاهر وعبوره إلى المغرب. دعوة ابن عياض لرياسة ابن هود في بلنسية ومرسية. مقدم ابن هود إلى مرسية. خروجه وابن عياض لمقاتلة النصارى. مقتل ابن هود وعبد الله ابن سعد. موقعة البسيط. ظروفها وبواعثها حسبما تصورها الرواية النصرانية. سيف الدولة بن هود. شخصيته وأعماله. خضوعه لتوجيه ملك قشتالة. أدبه وشعره. ابن عياض يدعو لنفسه في بلنسية. نائبه محمد بن سعد بمرسية. القائد عبد الله الثغري. نجاحه في انتزاع مرسية. استرداد ابن عياض لمرسية ومصرع الثغري. إمارة ابن عياض بمرسية وبلنسية. مصرعه والخلاف حول ذلك. محمد بن سعد ابن مردنيش يخلفه في بلنسية ثم في مرسية. محمد بن سعد وحقيقة أصله. ولعه بمصادقة النصارى والتشبه بهم. يبسط سلطانه على شرقي الأندلس. سياسته نحو الممالك النصرانية. عقده لمعاهدات صلح مع أمير برشلونة وجمهوريتي بيزة وجنوة. إقدامه وشجاعته. حليفه ابن همشك. أصله ونشأته. أعماله وظهوره. تغلبه على مدينة شقورة. محالفته ومصاهرته لمحمد بن سعد. استيلاء النصارى على قواعد الثغر الأعلى. موقف ابن مردنيش من ذلك الحادث. استيلاء النصارى على ألمرية وقلعة رباح. استيلاء ابن همشك على شقورة. بيعة ابن مردنيش ببلنسية ومرسية استيلاؤه على بسطة ووادي آش. مواجهته للموحدين في أواسط الأندلس. لم تكن تلك الثورات التي نشبت ضد المرابطين في أواسط الأندلس وفي غربيها، سوى جانب فقط من الثورة العامة، التي اضطرمت بها الأندلس من أقصاها إلى أقصاها. ذلك أن ريح الثورة قد اجتاحت في الوقت نفسه شرقي الأندلس كله، من بلنسية إلى ألمرية، وكانت الثورة في شرقي الأندلس، أعرق مثلا، وأعمق جذوراً. وأشد مراساً منها في الغرب، وكانت تُسيرها منذ البداية فكرة قومية عميقة، هي الفكرة الأندلسية الخالصة، فكانت تضطرم ضد

المرابطين والموحدين معاً، بنفس العنف والإصرار، وكانت العوامل الجغرافية والعسكرية، تشد من أزرها، وتضاعف مقدرتها على المقاومة، فقد كانت قواعدها الرئيسية، بعيدة عن متناول الجيوش الموحدية، وكان اتصالها بالبحر يمدها بوسائل وموارد خاصة، وكان وقوعها على مقربة من الممالك النصرانية، يفتح لها باب الاتصال المستمر بالملوك النصارى، ومحالفتهم، والاستنصار بهم، وكانت هذه الوسيلة بالرغم مما يحيط بها من ملابسات ذميمة، تعتبر في تلك الآونة من الخطط المشروعة، في مقاومة الغزاة المحتلين، مرابطين كانوا أو موحدين. وثمة عامل آخر، في استفحال الثورة وصمودها في شرقي الأندلس، هو انحصار زعامتها، وتركيزها مدى أعوام طويلة، في شخصية واحدة قوية، كانت تجتمع حولها خيوط المقاومة، وكان يحدوها إيمان عميق بالفكرة الأندلسية، تتحطم عليه سائر الاعتبارات الدينية: تلك هي شخصية محمد بن سعد بن مردنيش، أعظم ثوار الأندلس ضد الموحدين، وأشدهم مراساً، وأعنفهم كفاحاً. - 1 - وكانت بلنسية تحتل في شرقي الأندلس، نفس المكانة، التي تحتلها قرطبة في الوسط، وإشبيلية في الغرب، باعتبارها قاعدة لسلطان المرابطين، ومركزهم الدفاعي في هذا القطاع من الأندلس. وكان للمرابطين عناية خاصة بتأمين ثغر بلنسية، لموقعه الدقيق على مقربة من الثغر، والممالك النصرانية، يولونه الصفوة من القرابة والخاصة، فكان ضمن ولاتها الأمير مزدلي بن تيولتكان، محررها من الغزاة النصارى، والأمير أبو الطاهر تميم بن يوسف، ومحمد بن يوسف ابن يدِّر، والأمير أبو زكريا يحيى بن غانية. وكان على ولايتها حينما اضطرمت الثورة في غربي الأندلس، وفي قرطبة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن علي أخى يحيى بن غانية، وقاضيها يومئذ أبو عبد الملك مروان بن عبد الله بن مروان ابن عبد العزيز، وكان قد ولاه منصب القضاء الأمير تاشفين بن علي في ذي الحجة سنة 538 هـ. فلما نشبت الثورة في قرطبة، بعد نشوبها في الغرب، ونادى ابن حَمْدين بخلع نير المرابطين، طافت ريح الثورة بقواعد شرقي الأندلس، وهاجت الخواطر في بلنسية وغيرها، واجتمع واليها عبد الله بن محمد بن غانية، وقاضيها

أبو عبد الملك مروان بن عبد العزيز، وتفاهما، بالرغم مما كان بينهما من المنافسة الباطنية، على الائتلاف والتعاون على حفظ النظام وضبط المدينة، واجتمع الناس في المسجد الجامع في أواسط رمضان سنة 539 هـ، فخطب فيهم مروان، وذكرهم بجهاد اللمتونيين ضد النصارى، ونصرهم لقضية الأندلس، وتحريرهم لبلنسية من أيدي القشتاليين، وحثهم على التمسك بدعوتهم والوفاء لهم. وتكلم الوالي بمثل ذلك، وذكرهم بأيام عمه يحيى بن غانية، وبما انعقد بينهم وبينه من التعاطف والمودة. بيد أن هذا التفاهم الظاهر بين زعيمي المدينة، لم يكن سوى ستار لما يضطرم في الأنفس الثائرة، وسرعان ما توجس الوالي عبد الله ابن غانية من نيات زميله وحليفه القاضي، ومما قد يجيش به الشعب نحوه ونحو اللمتونيين من المقاصد الخطرة، فبعث أهله وأمواله خفية إلى شاطبة، ثم لحق بهم في صحبه في اليوم التالي، واستطاع، بالرغم مما وقع بينه وبين جند بلنسية من مناوشة، أن يلوذ بالفرار، وأن يصل إلى شاطبة. فلما استقر بها، أخذت سرياته اللمتونية تغير على أحواز بلنسية، وتثخن فيها، وتعتدي على الأموال والأنفس، فتقدم الجند والعرب وأعيان المدينة إلى ابن عبد العزيز، بأن يتولى أمرهم، فأبى، وقال لهم اختاروا لولايتكم من ترون من شيوخكم، فوقع الاختيار على بعض زعماء لمتونة، ممن بقي منهم بالمدينة، وأراد هذا الزعيم الجديد أن يقبض على ابن عبد العزيز، فلم يستطع، ثم تولاه الخوف والروع، ففر إلى شاطبة، ومعه بقية أشياخ لمتونة، ووقع إجماع الناس على اختيار القاضي ابن عبد العزيز للولاية، فاستتر منهم، فسعى إلى الانفراد به، أبو محمد عبد الله ابن عياض قائد الثغر، وعبد الله بن مردنيش، وأقنعاه بقبول الإمارة، فقبلها مكرهاً وبويع له في اليوم الثالث من شوال من نفس السنة، وولي عبد الله بن عياض الثغر وما والاه، واستمر المرابطون خلال ذلك في غاراتهم وعيثهم في أحواز المدينة، فحشد ابن عبد العزيز جنود الثغر وسار إلى شاطبة، فخرج المرابطون من قصبتها إلى المدينة، وعاثوا فيها وسبوا النساء، والتقى جند بلنسية بالمرابطين، ونشبت بين الفريقين موقعة هزم فيها المرابطون، فعادوا إلى الامتناع بالقصبة، وقدم عسكر من مرسية بقيادة قاضيها ابن أبى جعفر محمد بن عبد الله لإنجاد ابن عبد العزيز، وتعاونا على حصار شاطبة، وكلاهما يضمر في نفسه أن يفوز بها، ثم وصل ابن عياض في جند الثغر، وأدرك عبد الله بن محمد بن غانية، الوالي

السابق، أنه لا طاقة له بهذه القوى، ففر من شاطبة في نفر من خاصته، واستطاع أن يلحق بألمرية، وهنالك لقى محمد بن ميمون قائد الأسطول في تلك المنطقة وكان قد بقى على طاعة المرابطين، فجهزه إلى ميورقة، حيث كان أبوه محمد ابن غانية يتولى أمر الجزائر، فاستقر إلى جانبه، وكان من أمر بني غانية، ودولتهم بالجزائر الشرقية أيام الموحدين، ما سوف نذكره في موضعه (¬1). واستولى ابن عبد العزيز على شاطبة صلحاً، وحصنها وعين لها قائداً، وانضمت إليه لَقَنت وما يجاورها، فاتسعت إمارته، وضخم أمره، ثم عاد إلى بلنسية حيث جددت له البيعة، وذلك في شهر صفر سنة 540 هـ. وانصرف ابن أبى جعفر إلى مرسية، ثم خرج منها بعد ذلك لإنجاد ابن أضحى في غرناطة، وقتل حسبما تقدم، في المعركة التي نشبت بينه وبين المرابطين. ولكن ابن عبد العزيز لم يلبث أن آنس متاعب جمة من تمرد الجند، وعجز الجباية، وقصوره عن الوفاء بأجور الجند، وما تتطلبه المصالح العامة، فخاطب الجند ابن عياض، يستعجلونه في الوصول إليهم للاضطلاع بزمام الأمور، وكان عندئذ بمرسية، بعد استيلائه عليها، من واليها السابق أبى عبد الرحمن بن طاهر، وذلك في جمادى الأولى سنة 540 هـ (1145 م). وفي أثناء ذلك، أحاط الجند بقصر الإمارة فشعر ابن عبد العزيز بالخطر، وغادر القصر خفية، وتدلى من سور بلنسية ليلا، وسار حتى لحق بألمرية، وهنالك قبض عليه ابن ميمون أمير البحر، ودفعه إلى عدوه السابق عبد الله بن غانية، وكان ما يزال بألمرية، فاحتمله معه عبد الله مصفداً إلى ميورقة. وعلى أثر اختفاء ابن عبد العزيز، قدّم الجند للرياسة عبد الله بن محمد بن سعد بن مردنيش صهر ابن عياض نائباً عنه، وأسكنوه قصر بلنسية. وفي آخر جمادى الأولى، قدم ابن عياض إلى المدينة، وقد وصلته بيعة أهلها، وهو في طريقه إليها، فأقام بها حيناً ينظم شئونها ويحصن ثغورها. ثم عاد إلى مرسية، وترك صهره عبد الله بن سعد بن مردنيش أميراً عليها من قبله، وهو عم محمد ابن سعد بن مردنيش زعيم الشرق فيما بعد، ويعرف بصاحب البسيط، لأنه استشهد، في موقعة البسيط مع ابن هود حسبما نذكر بعد (¬2). ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 212 - 214، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 256. (¬2) الحلة السيراء ص 215.

وأما ابن عبد العزيز، فقد لبث يرسف في سجنه بميورقة لدى بني غانية نحو عشرة أعوام، وهو يعاني أمر ضروب العذاب والمهانة، حتى قيض الله له الخلاص في النهاية، بواسطة الوزير أبى جعفر بن عطية، وكان والي ميورقة يومئذ إسحق بن محمد بن غانية، وليها بعد مقتل أبيه محمد وأخيه عبد الله، وجنح إلى مهادنة الموحدين، فأطلق سراحه، وبعث به إلى ثغر بجاية، وذلك في سنة 548 هـ فسار إلى مراكش، وهنالك عاونه ابن عطية على أن ينتظم في مجلس الخليفة العلمى، بيد أنه لم يرع لابن عطية، شكر الصنيعة، ونظم في حقه أبياته المشهورة في التحريض عليه، ومطلعها: قل للإمام أطال الله مدته ... قولا تبين لذي لب حقائقه فكانت هذه الأبيات حسبما نذكر بعد، من أقوى الأسباب في نكبة ابن عطية، وظل ابن عبد العزيز مقيماً بمراكش في خمول ونسيان حتى توفي سنة 578 هـ (1182 م) في الثالثة والسبعين من عمره (¬1). - 2 - ونود قبل أن نمضي في تتبع مصاير الثورة في بلنسية وتطوراتها، أن نتناول ما وقع من الأحداث في مرسية، وباقي أعمال الشرق. ْكانت مرسية ثاني قواعد الشرق بعد بلنسية، وكانت تحتل في النصف الجنوبي من شرقي الأندلس، نفس المركز الدفاعي، الذي تحتله بلنسية في النصف الشمالي، ومن ثم فإنا نجد في فترات الثورة، واضطراب الأحداث السياسية والعسكرية، دائماً صلة وثيقة بين ما يقع في هاتين القاعدتين من أحداث وتطورات، وقد كان هذا شأنهما أيام الطوائف، ثم كان شأنهما حينما اجتاحت ريح الثورة ضد المرابطين سائر قواعد الأندلس في الغرب والشرق معاً. وقد رأينا كيف نشبت الثورة في بلنسية في الوقت الذي اضطرمت فيه بقرطبة، وقام القاضي ابن حمدين بدعوته، ففي هذه الآونة بالذات تضطرم الثورة أيضاً في مرسية، ويختار أهلها لرياستهم زعيماً منهم، يدعى أبو محمد بن الحاج اللورقي، ودعا اللورقي لابن حمدين، ولكنه لم يلبث في رياسته سوى بضعة أسابيع، خلال شهري رمضان وشوال سنة 539 هـ، ثم رغب في التخلي عن منصبه لما آنسه من صعاب ومتاعب لا قبل له بها. وكان سيف الدولة بن هود، قد غادر عندئذ ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 215 و 216، وكذلك في التكملة (القاهرة) رقم 1751.

مقره على مقربة من طليطلة، وأخذ يترقب فرص الحوادث هنا وهنالك. فلما نمى إليه ما وقع في مرسية، بعث إليها قائداً من قواده يدعى بعبد الله بن فتوح الثغري، فأخرج منها ابن الحاج ودعا لابن هود، ولكنه لم يلبث أن أخرج منها بدوره، وقدم الفقيه القاضي أبو جعفر محمد بن عبد الله بن أبى جعفر الخشني، وذلك في آخر شوال من السنة المذكورة، فلبث في منصبه حتى أوائل سنة 540 هـ (1145 م)، وكان يتبرم بالإمارة ويقول: إنها " ليست تصلح لي، ولست بأهل لها، ولكني أريد أن أمسك الناس بعضهم عن بعض حتى يجىء من يكون لها أهلا ". ولما سار القاضي مروان بن عبد العزيز أمير بلنسية إلى شاطبة لمقاتلة من امتنع بها من اللمتونيين، سار الفقيه ابن أبى جعفر في بعض قواته لمعاونته "، ثم سار من مرسية في قواته مرة أخرى لمعاونة القاضي ابن أضحى زعيم الثورة في غرناطة على قتال الملثمين ويقال إن قوات أبى جعفر، بلغت في هذه الحملة اثنى عشر ألفاً من خيل ورجل، فخرج الملثمون إلى لقائه في جموع كثيفة، ونشبت بين الفريقين في ظاهر غرناطة، موقعة عنيفة، هزم فيها ابن أبى جعفر وقتل، وذلك حسبما فصلنا من قبل في أخبار الثورة في غرناطة. ونقل إلينا ابن الأبار عن ابن صاحب الصلاة رواية أخرى، خلاصتها، أن عبد الله الثغري كان قائداً بمدينة كونكة، فلما سمع بقيام ابن حمدين بقرطبة، سار إليه والتحق بخدمته، وفي خلال ذلك جاءت الأنباء من مرسية بقيام ابن الحاج ثم تبرمه من الرياسة، فبعث ابن حمدين إليهم الثغري والياً، فقدّم الفقيه ابن أبى جعفر قاضياً، وذلك في منتصف شهر شوال سنة 539 هـ، فأبدى شغفاً شديداً بالظهور والتعلق بالرياسة، وحشد الناس لقتال المرابطين في أوريولة، وغدر بهم عند نزولهم بالأمان، وقتلهم، فذاع صيته. ثم داخل أهل مرسية في أن يؤمروه، وأن يُقدم للقضاء أبو العباس ابن الخلال، ولقيادة الخيل عبد الله الثغري، فوافقوه على ذلك. ولما عقدت له البيعة، نبذ طاعة ابن حمدين، ودعا لنفسه وتلقب بالأمير الناصر لدين الله، ثم قبض على الثغري وعلى صهريه، ابني مسلوقة، وعين لقيادة الخيل زعنون أحد وجوه الجند، ثم سار إلى شاطبة لنصرة ابن عبد العزيز في مقاتلة المرابطين بها، فثارت العامة خلال غيبته بمرسية، وأطلقوا سراح الثغري وصهريه. فسار إلى مرسية على عجل، وأخمد الهياج، وفر الثغري إلى كونكة. وعاد ابن أبى جعفر إلى متابعة القتال في شاطبة. ثم عاد بعد هزيمة الملثمين، وفرار أميرهم عبد الله بن غانية إلى

مرسية، وذلك في صفر سنة 540 هـ. ثم غادرها مرة أخرى في قواته إلى غرناطة لإنجاد ابن أضحى وقتل حسبما تقدم في الموقعة التي نشبت بينه وبين المرابطين (¬1). ولما عادت فلول عسكر مرسية بعد مقتل أميرها، أجمع أهل مرسية على تقديم أبى عبد الرحمن بن طاهر للرياسة، وذلك في أواخر شهر ربيع الأول سنة 540 هـ، فانتقل إلى القصر، ودعا لابن هود ثم لنفسه. وأبو عبد الرحمن هذا، هو محمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن طاهر القيسي، سليل بني طاهر أمراء مرسية أيام الطوائف. وقد سبق أن تحدثنا في أخبار مملكة مرسية عن أصلهم وعراقة بيتهم، في الوجاهة والسراوة والعلم. وكان جده أبو عبد الرحمن بن طاهر أمير مرسية، من أعظم علماء عصر الطوائف وكتابه، وقد أشاد بذكره وروعة أدبه ابن بسام صاحب الذخيرة (¬2)، وكان هو أي أبو عبد الرحمن بن طاهر الحفيد، صنو جده في العلم والأدب والبراعة في الترسل. تولى أبو عبد الرحمن بن طاهر الإمارة، وقدم أخاه أبا بكر على الخيل. وكان ابن حمدين حينما اضطربت الأحوال في مرسية، قد وجه إليها قوة وبقيادة ابن عمه المعروف بالقلفلي، ومعه أبو محمد بن الحاج وغيره من أعيان مرسية اللاجئين إلى قرطبة، فردت هذه القوة كسابقتها. وهكذا بدأ ابن طاهر إمارته، في جو مكفهر، والدسائس تضطرم من حوله. ولم تمض أيام قلائل على رياسته، حتى خاطب بعض أهل مرسية، أبا محمد عبد الرحمن بن عِياض قائد جند الثغر في بلنسية في القدوم إليهم وتقلد الرياسة، فبادر بالسير إلى مرسية، وتلقاه في طريقه والى أوريولة، وهو القائد زعنون الذي تقدم ذكره، وسلمه إياها، ثم سار إلى مرسية، ومعه عدة من وجوه أهل مرسية، الذين خرجوا إلى لقائه والسير في ركابه، كل ذلك وابن طاهر يعمل هادئاً في قصره، ولا يدرى بما يدور حوله من الأحداث. ثم دخل ابن عياض مرسية، وقد برز الناس إلى لقائه، وابن طاهر، مستمر على سكوته وعلى حسن ظنه، ودخل ابن عياض القصر، لا يدفعه عند أحد، فلم يشعر ابن طاهر، إلا وقد نُزع من رياسته، فانتقل إلى داره، وعف ابن عياض عن دمه، توقيراً له، وإشفاقاً لضعفه. وتم هذا الإنقلاب في العاشر من جمادى الأولى سنة 540 هـ (أكتوبر سنة 1145 م). ¬_______ (¬1) الحلة السيراء ص 218. (¬2) راجع كتابي " دول الطوائف " ص 175.

ولم تمض أيام قلائل على ذلك حتى طورت الحوادث في بلنسية، وخلع مروان ابن عبد العزيز من الإمارة، واستدعى الجند ابن عياض لتولي الرياسة مكانه، فسار ابن عياض إلى بلنسية في آخر سهر جمادى، وقد فر عنها ابن عبد العزيز مخلوعاً، وبويع بالإمارة، ودعا لابن هود، وأقام بها حيناً ينظم شئونها، ثم غادرها إلى مرسية، بعد أن أقر عليها صهره عبد الله بن سعد بن مردنيش عنه في رياستها حسبما تقدم من قبل. أما ابن طاهر، فإنه لزم داره، وعاش في عزلة وهو يشهد تطور الحوادث في مرسية، وفي شرقي الأندلس، في ظل زعيمه وأميره فيما بعد محمد بن سعد ابن مردنيش، ويشهد صراعه المرير مع الموحدين، وهو يزداد، توجساً وحذراً، كلما تطورت الحوادث، وكلما تقدمت به السن، إلى أن توفي ابن مردنيش في سنة 567 هـ، فعندئذ دخل في طاعة الموحدين، وعبر البحر إلى المغرب، وتوفي بمراكش في سنة 574 هـ (¬1). وقد أشرنا فيما تقدم، إلى ما كان من مقدم سيف الدولة بن هود إلى قرطبة، بدعوة أهلها، ثم تحولهم إلى خصومته، وقتلهم وزيره ابن الشماخ وطائفة من أصحابه، ومغادرته عندئذ قرطبة إلى جيان، وكان قد ثار بها قاضيها ابن جزى واستقل بحكمها، فتغلب عليه وانتزعها منه. ثم سار إلى غرناطة بدعوة أهلها، وخاض هناك بعض الوقائع إلى جانب القاضي ابن أضحى، ولكنه لم يوفق إلى الاستقرار بها، فغادرها في أواخر سنة 539 هـ عائداً إلى جيان. وسرعان ما ألفى في حوادث مرسية فرصة جديدة للتدخل والمغامرة، فبعث إليها أولا قائده عبد الله الثغري، فتغلب عليها، ولكنه أخرج منها بعد أيام قلائل، ثم توالت الحوادث على النحو الذي فصلناه من قبل، واستولى ابن عياض قائد جنود الثغر على مرسية، ثم على بلنسية، ودعا لابن هود في كلتا الحاضرتين. فبعث إليه ابن هود بولده أبى بكر، فخرج للقائه واحتفي به، واصطحبه معه إلى بلنسية، ثم سار ابن هود نفسه إلى مرسية، ودخلها ونزل بقصرها، فعجل ابن عياض في اللحاق به، وأعلن طاعته، والامتثال لأوامره، ونزل بالقصر الصغير، فعهد إليه ابن هود بالأمور كلها، وأسبغ عليه لقب الرئيس مكتفياً بلقب الإمارة ومظاهرها، وكان ذلك في أواخر رجب سنة 540 هـ (أوائل سنة 1146 م). ¬_______ (¬1) الحلة السيراء ص 220.

وكان ابن عِياض جندياً عظيماً، وفارساً ذا نجدة، ورئيساً وافر العزم، وكان فوق ذلك رجلا صالحاً ورعاً، رقيق الحس والعاطفة، وكان النصارى يقدرون فروسيته وشدة مراسه، ويعدونه وحده بمائة فارس (¬1). وكان يقظاً لحركات النصارى في شرقي الأندلس، فلم تمض أيام قلائل، على مقدم ابن هود، حتى جاءت الأنباء باعتداء النصارى على أحواز شاطبة، ومبادرة عبد الله ابن سعد بعسكر بلنسية لقتالهم. فأسرع ابن عياض وابن هود في قواتهما لنجدته. والتقى المسلمون والنصارى في موضع يسمى " باللج " في ظاهر بلدة البسيط (¬2) على مقربة من جنجالة، في يوم الجمعة العشرين من شهر شعبان سنة 540 هـ (فبراير سنة 1146 م) فوقعت الهزيمة على المسلمين، وقتل في الموقعة عبد الله ابن سعد بن مردنيش، وسيف الدولة ابن هود، ونجا ابن عياض. وكانت ضربة شديدة للمسلمين في شرقي الأندلس (¬3). هكذا تصور لنا الرواية الإسلامية موقعة البسيط. بيد أنه يوجد ثمة شىء من الغموض في تلك الرواية الموجزة. ذلك أننا نعرف أن سيف الدولة بن هود، هو حليف النصارى، وصنيعة عاهلهم القيصر ألفونسو السابع أو ألفونسو ريمونديس وهم الذين دفعوه إلى خوض غمار الحوادث في الأندلس، وأمدوه بعونهم، فكيف انقلب إلى محاربتهم بين عشية وضحاها؟ والجواب على ذلك نجده في الرواية النصرانية المعاصرة، وهي المسماة " رواية ألفونسو السابع " فهي تقول لنا إن سيف الدولة، بعد أن فشلت محاولته في قرطبة بعث إلى ألفونسو السابع ملك قشتالة، يخبره بأن أراضي أبدة، وبياسة وقلاعها، وهي من أملاكه التي تغلب عليها، قد ثارت عليه ورفضت أداء الضرائب المطلوبة، فندب ألفونسو أربعة من الأشراف القشتاليين هم الكونتات مانريكي، وأرمنجود، وبانسيو، ومارتن فرنانديث، وأمرهم بأن يقوموا بإخضاع أراضي أبدة، وبياسة، وجيان وغيرها، لطاعته وطاعة سيف الدولة، فسار الكونتات في قواتهم، وأغاروا على تلك الجهات وأثخنوا فيها، وافتتحوا جيان وأبدة وبياسة، ونكلوا بسكانها المسلمين، وعندئذ استغاث المسلمون بسيف الدولة، وأعلنوا بطاعته، فاستجاب لدعوتهم، وسار ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 115. (¬2) وهي بالإسبانية Albacete (¬3) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 226.

إليهم في جيش ضخم، وطلب إلى الكونتات النصارى أن يرفعوا أيديهم عن المسلمين، وأن يكفوا عن غزواتهم المخربة التي قاموا بها في الأراضي الإسلامية، بالتحالف مع القاضي الطموح عبد الله الطغرائي والي قونقة، فيما بين شاطبة وأبدة، وأخيراً أن يسلموا إليه الغنائم والأسرى. فرفض الكونتات مطالب سيف الدولة، وأجابوا بأنهم لم يفعلوا إلا ما أمر به عاهلهم، وما طلبه سيف الدولة ذاته. وطال الجدل بين الفريقين، وعندئذ قرر سيف الدولة أن يلجأ إلى السيف، وسار الكونتات النصارى وحليفهم القاضي الطغرائي، بعد أن امتنعت عليهم شاطبة غرباً، وسارت قوات بلنسية ومرسية وسيف الدولة لقتالهم في نفس الوقت. والتقى المسلمون والنصارى في سهل البسيط على مقربة من جنجالة، فهزم المسلمون شر هزيمة، وقتل عبد الله بن سعد قائد جند بلنسية وأسر سيف الدولة، وقتله بعض الجند النصارى دون معرفة لشخصه، وارتد ابن عياض في فلول الجيش إلى بلنسية. ولما علم ألفونسو السابع بمصرع صديقه القديم سيف الدولة أسف كل الأسف وأعلن أنه برىء من دمه (¬1). وكان أحمد بن يوسف بن هود، المتلقب بسيف الدولة، وبالمستنصر، شخصية غامضة. وبالرغم من أنه كان سليل أسرة بني هود أصحاب الثغر الأعلى، وحماته والمتفانين في الذود عنه ضد النصارى، فإنه لم يكن يتمتع بشىء من خلال أسرته الملوكية العريقة. وقد رأينا كيف تخلى عن روطة، آخر قواعد مملكة سرقسطة القديمة، لملك قشتالة، ألفونسو ريمونديس، وآثر أن يعيش في أراضيه وتحت كنفه، وأن يغدو آلة لخططه ودسائسه ضد المسلمين، يحقق بها إذا استطاع بعض مآربه في الضرب والتفريق بين أبناء الأمة الأندلسية، واقتطاع ما يمكن اقتطاعه من أراضيها. ولم يكن اشتراك سيف الدولة في حوادث الثورة ضد المرابطين، وتدخله في شئون الرياسة بالقواعد الثائرة، مثل قرطبة وغرناطة وجيان ومرسية، محاولة اختيارية يشق بها طريقه إلى الرياسة، ولكنه كان يقوم بها بوحي ملك قشتالة، ومعاونته الفعلية بالمال والجند، لانتهاز الفرص السانحة، خلال هذا الاضطراب العام، الذي كان يسود الأمة الأندلسية، ولم تكن دعوات ¬_______ (¬1) M. Gaspar Remiro, cit. Cronica del Emperador Alfonso (Murcia Musulmana) p. 180 & 181. وراجع أيضاً تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (وترجمة محمد عبد الله عنان) الطبعة الثانية ص 216.

الزعماء الثائرين له ليقدم عليهم، أو ليستظلوا بصفته الملوكية السابقة، إلا سراباً وخديعة لمواطنيهم، بتنصيب شخصية لا تخلص لقضيتهم. ولقد كان من رحمة القدر بذكرى هذا الأمير المنكود - صنيعة القشتاليين وخديمهم - أن قتل في غمرة الدفاع عن أمته ودينه، ضد حلفائه القدماء، في ظروف طارئة، لم تكن من تدبيره، وإنما استدرج إليها فكانت فيها خاتمته. بيد أن سيف الدولة كان يتمتع بخلة العلم والتأدب شيمة آبائه وأجداده، وكان شاعراً ينظم الشعر الجيد، وقد أورد لنا ابن الأبار شيئاً من نظمه فمن ذلك قوله: يا باكياً عمر الطلول بدمعه ... أسفاً على ذاك الدم المطلول أودت بلبك لوعة صديت لها ... صفحات ذاك الخاطر المصقول وقوله من قصيدة طويلة: خطرت خطرة الغرام على القـ ... ـلب وحسب الفتى لها يستكين أذكرتني بلجاء وُرْقٌ تجـ ... ـاوبن بنجد حديثهن شجون أطربتني أصواتهن على الأيـ ... ـكة قد يطرب الحزين الحزين يامَةَ القوم والمنا يضع المر ... ء إذا ما استقل يوماً قطين إن تكوني قد استقر بك الربـ ... ـع فقلبي مع الرفاق رهين أو تكوني سلوت عنا فلا واللـ ... ـه تسْلُك الظباء العين أين للشمس أن تنال محيا ... ك وتعزي لمعطفيك الغصون غرر لحن من دجى الشعر بيض ... ما تجلت عن مثلهن الدجون (¬1). * * * وعلى أثر مقتل ابن هود، أعلن ابن عياض الدعوة لنفسه ببلنسية، وكان قد ترك في مرسية محمد بن سعد بن مردنيش نائباً عنه بها، وكان قد عهد في نفس الوقت إلى عبد الله الثغري الذي شهدناه من قبل، يشترك في حوادث مرسية باسم ابن هود، بأن يكون سفيره لدى الإمبراطور ألفونسو ريمونديس ليعقد معه السلم والتحالف ضد أمير برشلونة، فعاد من سفارته هذه، وزعم أن الإمبراطور قد منحه إمارة مرسية، واستعان على دخولها بطائفة من الخوارج ¬_______ (¬1) راجع الحلة السيراء ص 226 و 227.

المشايعين له، فنجح في محاولته، وفر محمد بن سعد بن مردنيش نائب ابن عياض بمرسية، ولحق بثغر لقنت، وذلك في أوائل شهر ذي الحجة سنة 540 هـ، (مايو سنة 1146 م). ولم تمض بضعة أشهر على ذلك، حتى زحف ابن عياض على مرسية لاستخلاصها من الثغري، وقتل الثغري في العركة التي نشبت بينهما، وذلك في السابع من رجب سنة 541 هـ (ديسمبر 1146 م). ويقدم إلينا الضبي تفاصيل مصرع الثغري، فيقول إنه لما نجح ابن عياض في دخول مرسية، وقع القتال بينه وبين ابن عياض في شوارع المدينة حتى هزم الثغري، وركن إلى الفرار، وخرج من الباب المسمى باب الفارقة، فألقى عليه من فوق السور حجر أصاب رأس جواده، فوثب الجواد جامحاً براكبه نحو مجرى النهر، وهنالك قتله رجل ممن كانوا يرابطون في هذا المكان. وهكذا استعاد ابن عياض إمارته على مرسية، وأضحى يبسط سلطانه على سائر قواعد الشرق من بلنسية شمالا حتى أحواز قرطاجنة، جنوباً. واستمر في إمارته على تلك المنطقة بلا منازع مدى عام وتسعة أشهر وعشرين يوماً، إلى أن لقي مصرعه في اليوم الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 542 هـ (21 أغسطس 1147 م). ويقول لنا ابن الأبار. إنه توفي قتيلا من جراء سهم أصابه في بعض حروبه مع القشتاليين (¬1). ويقول الضبي إنه قتل بالعكس خلال معركة نشبت بينه وبين بني جميل على مقربة من بلِّش وحمل جثمانه إلى بلنسية ودفن بها. وقام على مواراته صهره ونائبه في بلنسية محمد بن سعد بن مردنيش، وأعلن للناس أن ابن عياض قد أولاه عهده بالإمارة من بعده، فبايعوه على ذلك. ويقول المراكشي إن ابن عياض حين حضرته الوفاة، أشار إلى من اجتمع إليه من الأعيان والجند بتقديم محمد بن سعد للرياسة، وأبى أن يوصى برياسة ولده لأنه كان يشرب الخمر ويغفل الصلاة. وقيل أيضاً إن أهل بلنسية بايعوا ابن سعد، ونصبوه أميراً عليهم دون عهد سابق. وأما في مرسية فقد اختار أهلها للإمارة عليهم نائب ابن عياض أبا الحسن علي بن عبيد، ولكنه لم يمكث في الإمارة سوى فترة يسيرة حتى أواخر جمادى الأولى، ثم تخلى عنها لابن سعد أمير بلنسية. وهكذا نجح محمد بن سعد بن مردنيش في اجتناء تراث ابن عياض بأكمله، وخلفه في إمارة شرق الأندلس كله، وكان ذلك في جمادى الأولى سنة 542 هـ (أكتوبر 1147 م) ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص " 115 "، وابن الأبار في الحلة السيراء ص 220.

وبقيام ابن مردنيش، في إمارة شرقي الأندلس، تتهيأ الظروف لصفحة جديدة من الصراع بين الأندلس الثائرة وبين الموحدين، وهو صراع عنيف يضطرم زهاء عشرين عاماً، وتخوضه منطقة الشرق كلها، بسائر مواردها وقواتها، تحت زعامة قوية موحدة، ويقتضي لمدافعته معظم جهود الموحدين في شبه الجزيرة، ثم لا تهدأ ثائرته وتطوى صفحته، إلا باختفاء مثير ضرامه من الميدان. - 3 - إن ابن مردنيش، الذي حمل لواء هذا الصراع الشهير ضد الموحدين، ولبث طيلة اضطرامه صامداً، كالصخرة الصلدة، لا تفتر له همة، ولا يهادن، ولا تلين قنانه، حتى طواه الموت، هو شخصية من أغرب شخصيات التاريخ الأندلسي، تمثل كل خلال العصر، ورذائله في نفس الوقت، ولو لم يبالغ ابن مردنيش في مداخلة النصارى، وربط قضيته بعونهم، لكان في وسعنا أن نعتبره بطل الوطنية الأندلسية، وحامل لوائها ضد الموحدين. وهو أبو عبد الله محمد بن سعد بن محمد بن سعد الجذامي بن مرْدنَيش. أصله من الثغر الأعلى، وولد في قلعة من قلاع طرطوشة المنيعة تسمى بُنُشْكُلَة، Peniscola (¬1) وذلك في سنة 518 هـ (¬2) وإذن فقد كان حينما تولى إمارة شرقي الأندلس، فتى في نحو الرابعة والعشرين من عمره. وقد كان أبوه سعد بن محمد ابن مردنيش والياً لإفراغة أيام المرابطين، حينما حاصرها ألفونسو المحارب ملك أراجون في أواخر سنة 527 هـ (يونيه سنة 1133 م)، وأبدى في مدافعة النصارى بسالة رائعة، واضطر المحاصرين أن يرفعوا الحصار غير مرة، إلى أن وفدت الأمداد المرابطية، ومعها الأمير يحيى بن غانية، وكان ما كان من انتصار المسلمين الباهر على النصارى وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه، وعمه عبد الله بن محمد بن سعد بن مردنيش صهر ابن عياض، ونائبه في بلنسية، وهو الذي سبقت الإشارة إليه فيما تقدم غير مرة. وقد لفت محمد بن سعد أنظار الباحثين باسمه ولقبه، وصفاته الغريبة الفذة، وتساءل بعضهم عن حقيقة أصله ونسبه، فهو وفقاً لاسمه المدون جذامى، أو ¬_______ (¬1) ومكانها اليوم قصر Peniscola الصغير الواقع جنوبي طرطوشة. (¬2) ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 492، في ترجمة أبى يوسف يعقوب المنصور. وهو يضبط " مردنيش " وفقاً للشكل الموضوع عليها.

تجيبي وفقاً للبعض الآخر (¬1)، أو بعبارة أخرى عربي الأرومة. بيد أن في لقبه، وهو ابن مردنيش وفي صفاته وسلوكه أيضاً، ما يحمل على الريب في هذه النسبة. وأغلب الظن أنه ينتمي إلى المولدين أو بعبارة أخرى أنه إسباني الأصل، دخل أجداده في الإسلام، فأصبح من ذلك العنصر المسلم الدخيل، الذي كان يؤلف شطراً له خطره من الأمة الأندلسية، والذي لعب في تاريخها أعظم دور، ولاسيما في أيام الفتن والثورات القومية. ويرى البحث الحديث. أن مردنيش، هو تحريف للاسم الإسباني " مرتنيث " Martinez أو Martinizi أي (ابن مرتين)، وربما تحريف لاسم Mardonius وهو سليل البيزنطيين القدماء في منطقة قرطاجنّة (¬2). ومن جهة أخرى فإن صفات ابن مردنيش وسلوكه حسبما تصورها لنا الرواية العربية، تؤيد هذا الظن في انتمائه إلى عنصر المولدين. فقد كان شغوفاً بالتشبه بالنصارى (القشتاليين) في الزي والملابس والسلاح واللجم والسروج، وكان يجيد اللغة القشتالية، ويؤثر التحدث بها، وكان يدعو إلى جيشه كثيراً من النصارى المرتزقة، من القشتاليين والقطلان والبشكنس، يبتني لهم الأحياء والمعسكرات، ويزودها بأسباب الرفاهية والحانات، وكان يغدق عليهم الصلات الوفيرة من المال والإقطاعات، وذهب في ذلك إلى حد أنه أقطع أحد أكابر فرسان البشكنس، وهو المسمى بيدرو دي أثاجرا مدينة شنتمرية ابن رزين مع سائر مرافقها وأراضيها، وقد أنشأ بها هذا الفارس مركزاً لأسقفية (¬3). وقد كان من جراء هذا الإغداق الفياض على النصارى أن اشتط ابن سعد في فرض المغارم والرسوم المختلفة على رعاياه المسلمين (¬4). وكان النصارى يسمونه الملك لوبي (لب) Rey Lope أو Lobo أعني " الذئب ". وفي بعض الروايات النصرانية أن هذا الاسم الأخير أطلقه عليه النصارى لما أثر من إقدامه وشجاعته (¬5). ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة (طبعة القاهرة القديمة) ج 2 ص 85. (¬2) Dozy: Recherches (1881) V. I. p. 365-Codera: Decad. y Disp. de los Almoravides, p. 113 & 311 (¬3) وهي شنتمرية الشرق المسماة بالإسبانية Albarracin. وقد كانت أيام عصر الطوائف قاعدة لمملكة بني رزين. (¬4) الإحاطة ج 2 ص 87؛ وأعمال الأعلام ص 261؛ وكذلك Dozy: Recherches. V. I. p. 366 (¬5) A. Piles Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) p. 516

وأضحى محمد بن سعد بن مردنيش بتغلبه على بلنسية، ومرسية، سيد المنطقة الشرقية كلها، وامتد سلطانه من أحواز طرطوشة شمالا حتى قرطاجنة ولورَقة جنوباً. ولما كان من الواضح أنه لا يستطيع أن ينصرف إلى توطيد سلطانه في تلك المنطقة الشاسعة إلا إذا أمن جانب النصارى، وهم جيرانه من الشمال والغرب واستطاع بذلك أن ينصرف إلى مقارعة الموحدين، الذين جازت جيوشهم الأولى إلى شبه الجزيرة، فقد رأى أن تكون مسالمة الممالك النصرانية، شعاره الذي لا يحيد عنه، وأن يعقد معها التحالف كلما سنحت بذلك الفرص ودعت الضرورات. ومن ثم فقد عقد لأول ولايته مع أمير برشلونة الكونت رامون برنجير الرابع صلحاً لمدة أربعة أعوام، وعقد معاهدة صلح أخرى مع ملك قشتالة الإمبراطور ألفونسو السابع (ألفونسو ريمونديس). وكان يؤدي لكل منهما في السنة جزية قدرها خمسون ألف مثقال من الذهب. ولم تقف هذه السياسة في مصانعة النصارى ومصادقتهم، عند حدود شبه الجزيرة، بل شملت الدول النصرانية في خارجها. ففي العام الثاني من حكمه، أعني في سنة 543 هـ (1149 م) عقد ابن مردنيش مع جمهورية بيزة معاهدة صلح مدتها عشرة أعوام، ثم عاقد معاهدة أخرى مع جمهورية جنوة، يتعهد فيها بأن يؤدي إليها إتاوة قدرها عشرة آلاف دينار مرابطية خلال عامين، وأن يبني للرعايا الجنويين الذين يقطنون في بلنسية ودانية فندقاً يزاولون فيه تجارتهم، وأن يمنحهم حماماً مجانياً في كل أسبوع، وتعهدت جمهورية جنوة من جانبها بأن لا تحدث أضراراً لأحد من رعايا الملك لوبو في طرطوشة وألمرية. وكان ابن مردنيش فضلا عما تقدم يراسل كثيراً من الملوك النصارى في مختلف أنحاء القارة، ويبعث إليهم بالهدايا القيمة. ومن ذلك أنه أرسل إلى هنري الثاني ملك انجلترا، هدية قيمة من الذهب والحرير والخيل والجمال، وبعث إليه ملك انجلترا هدية جليلة (¬1). وظهر ابن مردنيش منذ البداية بفائق عزمه وشجاعته وإقدامه، كما ظهر بوافر شهامته وجوده. ويقول لنا ابن الخطيب إنه " كان له يومان في الأسبوع، يوم الاثنين والخميس، يشرب مع ندمائه، ويجود على قواده وخاصته وأجناده، ويذبح الأبقار في المواسم، ويفرق لحومها على الأجناد، ويتخلل ذلك لهو كثير، ¬_______ (¬1) F. Codera: Decad. y Disp, de los Almoravides, p. 115 & 120-128

حتى ملك القلوب من الجند، وعاملوه بغاية النصح، وربما وهب المال في مجالس أنسه " (¬1). وينوه المقري بشجاعة ابن مردنيش، ويقول إنه كان من أبطال عصره، وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها شقاً، يميناً وشمالا، منشداً: أكرُّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها (¬2). وجمعت الأقدار بين ابن مردنيش وزعيم يشبهه في كثير من صفاته وميوله، وكان له أكبر عضد في مضاعفة صولته، وتوطيد سلطانه، وهو إبراهيم ابن محمد بن مفرج بن همشك، وهو مثل ابن مردنيش شخصية تتميز بصفاتها الخاصة، وهو من أصل نصراني صريح، فجده مفرج أو همشك نصراني نزح إلى سرقسطة، وأسلم على يد أحد ملوك بني هود في أواخر أيامهم، وكان مقطوع إحدى الأذنين، فكان النصارى إذا رأوه في القتال عرفوه وقالوا " هامشك "، ويقول لنا ابن الخطيب أن معنى هذه العبارة في لغتهم " ترى المقطوع الأذن " (¬3) وأصل العبارة في القشتالية هو ا He Mochico وبالتفصيل He aqui el Mocho pequeno, El desorejado menor. ومعناها مقطوع الذيل الصغير، ومقطوع الأذن (¬4). ولما سقطت سرقسطة في أيدي النصارى، وغادرها بنو هود، تحول إبراهيم بن همشك إلى قشتالة، وخدم ملكها حيناً، ثم ترك خدمة النصارى، ونزح إلى الأندلس، وخدم اللمتونيين بعد أن أعلن توبته، وشفع فيه بعض الأكابر. ولما ندب يحيى بن غانية لولاية قرطبة من قبل تاشفين بن علي بن يوسف في سنة 538 هـ (1143 م) التحق بخدمته. ولما ثار القاضي ابن حمدين بقرطبة في العالم التالي، وتسمى بأمير المسلمين، وكان ابن غانية يومئذ في منطقة الغرب يطارد ثوارها، بعثه ابن غانية رسولا إلى قرطبة لمحاولة عقد الصلح بينه وبين ابن حمدين. ولكن الحوادث اتخذت يومئذ في قرطبة وجهة أخرى، ثم اتسع نطاق الثورة بالأندلس، وتوالت الإنقلابات في قواعد الشرق، فاتصل ابن همشك بابن عياض، وقد تغلب يومئذ على بلنسية، ولم يمض وقت طويل على ذلك حتى سنحت لابن همشك فرصة لاحتلال حصن شقوبش، ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة ج 2 ص 83. (¬2) نفح الطيب (القاهرة) ج 2 ص 322. (¬3) الإحاطة (1956) ج 1 ص 305. (¬4) M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana, p. 166

ثم تغلب بعد ذلك على مدينة شقورة (¬1) الواقعة على مقربة من شمال شرقي أبدة، فقوى أمره، وفي رواية أخرى أنه تغلب على شقورة فيما بعد حينما ندبه لذلك ابن مَرْدَنيش، ولما آلت بلنسية ومرسية إلى محمد بن سعد اتصل به، وعقد معه ابن سعد صهراً على ابنته، فتوثقت بينهما العلائق، وغدا ابن همشك من أعظم أعوان ابن سعد وقادته، وكان ابن همشك في الواقع من أقدر قواد العصر، وأوفرهم جرأة وشجاعة وإقداماً، وقد خاض ضد الموحدين فيما بعد، عدة من الحروب والوقائع الهامة (¬2). - 4 - ليست لدينا تفاصيل شافية عن حوادث شرقي الأندلس في الأعوام الأولى لحكم ابن مردنيش، بيد أنه وقع عقب تولى ابن مردنيش حكم بلنسية ومرسية بقليل، حادثان خطيران، الأول في شمال شرقي الأندلس، والثاني في جنوبي شرقها. أما الحادث الأول، فهو استيلاء النصارى على ما بقي بأيدي المسلمين من قواعد الثغر الأعلى. ونحن نعرف أن النصارى، منذ استولوا على سرقسطة في سنة 512 هـ (1118 م) لبثوا يتربصون الفرص لانتزاع القواعد القليلة الباقية في هذا الركن النائي من الأندلس. وقد صدتهم هزيمة إفراغة المروعة (528 هـ) عن مشاريعهم حيناً. فلما انفجر بركان الثورة في الأندلس ضد المرابطين، وشغلت الحاميات المرابطية في كل قاعدة، بالذود عن نفسها، وشغل الزعماء الثائرون كل بتوطيد سلطانه، شعر النصارى في الثغر الأعلى، بأن الفرصة قد سنحت لتحقيق مشروعهم. وكانت القواعد الباقية، داخل الثغر الأعلى تنحصر في لاردة وإفراغة ومكننسة (مكناسة) ثم في ثغر طرطوشة الواقع عند مصب نهر إيبرو (إبرة)، وكانت جميعها تقع على حدود إمارة برشلونة. وكانت طرطوشة أولى القواعد التي سقطت عندئذ في أيدي النصارى. وكانت قد غدت في أواخر عهدها الإسلامي مثوى للمجاهدين والمغامرين من رواد الحملات البحرية، التي تثخن في شواطىء الأمم النصرانية المجاورة، فدعا البابا أوجين الثالث إلى حملة صليبية لفتحها، واجتمعت قوات النصارى من الأرجونيين والقطلان والبيزيين والجنويين وفرسان المعبد بقيادة الكونت رامون برنجير أمير برشلونة، وضربت ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Segura de Sierra (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 306 و 307.

الحصار حول طرطوشة من البر والبحر، ودافع المسلمون عن المدينة بمنتهى البسالة، وصمدوا للحصار أربعين يوماً، مؤملين أن ترد إليهم أمداد من بلنسية أو غيرها، فلما يئسوا من كل عون، اضطروا إلى تسليم المدينة صلحاً في آخر. سنة 1148 م (16 شعبان سنة 543 هـ). مشترطين الاحتفاظ بأملاكهم ومساجدهم. بيد أنهم لم يستطيعوا الاحتفاظ بمساجدهم أكثر من ثلاثين أو أربعين عاماً، وهاجمت القوات النصرانية المتحالفة وعلى رأسها الكونت رامون برنجير مدينة لاردة بعد ذلك بقليل وكان طبيعياً ألا تصمد طويلا بعد سقوط طرطوشة، فسقطت في أيدي المهاجمين وذلك في 24 أكتوبر سنة 1149 م (544 هـ) وعبر واليها المرابطي ابن هلال البحر ملتجئاً إلى أمير ميورقة محمد بن غانية، وسقطت معها في نفس الوقت، بل وفي نفس اليوم حسبما تروى التواريخ القطلانية، مدينتا إفراغة ومكناسة، ويقول لنا ابن الخطيب إن القشتاليين استولوا في نفس الوقت على حصن أقليش وحصن سرانية (سنة 543 هـ) (¬1). سقطت هذه القواعد الإسلامية الشمالية الأخيرة في أيدي النصارى، وانتهت بذلك سيادة المسلمين في الثغر الأعلى. وقد كانت هذه القواعد، تابعة من قبل لمملكة سرقسطة، فلما سقطت سرقسطة في أيدي الأرجونيين، أصبحت تابعة لولاية بلنسية، كما كانت منذ بداية العهد المرابطي، وإذن فقد كانت هذه القواعد خاضعة لسيادة ابن مردنيش، من الناحية الإسمية على الأقل. بيد أن ابن مردنيش لم يكن في وسعه أن يحميها أو أن ينجدها، وكان ارتباطه برباط الصداقة والمهادنة مع الكونت برنجير أمير برشلونة، يحول دون أية محاولة لإنقاذها، تفسد علائقه مع الممالك النصرانية، ومن جهة أخرى فقد كان الدفاع عن هذه القواعد النائية الواقعة في قلب الأراضي النصرانية عملا غير ميسور. ومن ثم فإن ابن مردنيش لم يحرك ساكناً، إزاء هذا الحدث المؤلم، وإن كان قد لبث يعتبر نفسه حامياً للرعايا المسلمين، في تلك القواعد المنزوعة، يدل على ذلك أنه حينما عقد معاهدة الصداقة مع جمهورية جنوة، قد اشترط فيها أن تتعهد جنوة بألا توقع أية أضرار برعايا الملك لوبو في طرطوشة وألمرية، وقد كانت جنوة ضمن البلاد التي اشتركت في افتتاح طرطوشة. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 52. وراجع روض القرطاس ص 176، والإحاطة ج 2 ص 89. وراجع أيضاً: Codera: ibid ; p. 124-126

وأما الحادث الثاني فقد وقع في نفس الوقت، الذي ظفر فيه ابن مردنيش بولاية بلنسية ومرسية، وهو استيلاء النصارى على ثغر ألمرية. وكانت ألمرية في الواقع شجى في عيون الدول النصرانية القريبة مثل قطلونية وجنوة وبيزة، بما كانت تقوم به الحملات البحرية الخارجة منها في شواطىء هذه الدول من ضروب العيث والتخريب. ففي غمرة الإضطراب العام، الذي شمل الأندلس عقب انهيار سلطان المرابطين، رأت الدول النصرانية، وعلى رأسها البابا، أن تقوم بانتزاع هذا الثغر الغني الحصين من أيدي المسلمين، وبادر ألفونسو السابع ملك قشتالة بانتهاز الفرصة السانحة، ونظمت حملة برية وبحرية مشتركة من قوات قشتالة، وقطلونية، ونافار، وجنوة، وبيزة، وبعض حشود فرنسية من وراء البرنيه، وسارت هذه الحملة الصليبية المشتركة إلى ألمرية، وحاصرتها من البر والبحر بقوات كثيفة، واستمر الحصار ثلاثة أشهر، حتى نضبت موارد المدينة، واضطر المسلمون في النهاية إلى تسليمها للنصارى، وذلك في العشرين من جمادى الأولى سنة 542 هـ (17 أكتوبر سنة 1147 م) (¬1). وقد كان سقوط هذا الثغر الأندلسي الهام في أيدي النصارى حادثاً جللا، بيد أن أصداءه المحزنة قد تبددت خلال المحنة العامة التي كانت تعانيها الأندلس يومئذ، من تفرق كلمتها وتبدد قواها ومواردها، وكان استرداده من أهم ما عنى به الموحدون، مذ ثبتت أقدامهم في شبه الجزيرة. وكان ألفونسو السابع ملك قشتالة قد استولى في نفس الوقت على معقل من أهم معاقل الأندلس الوسطى، وهو قلعة رباح، وذلك في أواخر سنة 541 هـ (1147 م)، وذلك قبل استيلائه على ثغر ألمرية بأشهر قلائل. وقد أحدث القشتاليون باستيلائهم على هذا المعقل المنيع ثغرة خطيرة في خطوط الدفاع الأندلسية، وسنرى فيما بعد أي دور خطير تلعبه هذه القلعة الشهيرة في حوادث الصراع بين الموحدين والنصارى. في ذلك الحين كان ابن مَرْدَنيش يعمل على توطيد سلطانه، وقد كان حريصاً على ألا ينتقص من أطرافه معتد خارجي أو داخلي، حتى لقد بلغه خلال سيره إلى بلنسية ليتولى سلطانه بها، أن النصارى هاجموا حصن " حلال " فكر إليه، ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 46، وروض القرطاس ص 176. وراجع: Lafuente: Hist General de Espana T. III. p. 294

واسترده من أيديهم، ثم عاد إلى بلنسية فتلقى بها البيعة (¬1). ولما سار إلى مرسية ليستخلصها من يد نائبها ابن عبيد، بعث قائده ابن همشك إلى مدينة شقورة، وقد كان يعتبرها من متعلقات بلنسية، لينتزعها من صاحبها ابن سوار، فاستولى ابن همشك عليها (¬2)، ثم عاد إلى مرسية لمعاونة ابن مردنيش على السيطرة على مرسية وتلقى بيعتها. فلما تم له الأمر غادرها إلى بلنسية، وترك ابن همشك نائباً عليها. وكان ابن مردنيش، قد عين أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد، منذ البداية نائباً له ببلنسية. ولسنا نعلم الكثير عن أعمال ابن مردنيش في الأعوام الأولى لولايته. وأول ْما تحدثنا عنه الرواية من ذلك هو استيلاؤه في سنة 546 هـ (1151 م) على مدينتي بسطة ووادي آش. وقد سبق أن ذكرنا ما كان من قيام ابن ملحان الطائي بوادي آش، وتغلبه عليها وعلى بسطة. وكان الموحدون قد عبروا إلى شبه الجزيرة قبل ذلك ببضعة أعوام، واستولوا على إشبيلية، في شهر شعبان سنة 541، وذلك بعد أن استولوا على شَريش، وقواعد الغرب، التي كانت أولى القواعد الثائرة ضد المرابطين، ثم استولوا على قرطبة سنة 543 هـ، ثم على جيان وبياسة وأبدة. وهكذا وصلت طلائع الموحدين إلى أواسط الأندلس، وأضحت تشرف من ناحية الشرق على أملاك ابن مردنيش. والظاهر أن ابن مردنيش كان يستعين في حملته ضد بسطة ووادي آش بجنود من القشتاليين أرسلها ألفونسو السابع لمعاونته (¬3). ولما رأى ابن ملحان أنه لا طاقة له بمقاومة الغزاة أعلن طاعته للموحدين، ثم غادر وادي آش في أهله وأمواله، وعبر البحر إلى المغرب حسبما ذكرنا من قبل في موضعه. وأضحى ابن مردنيش باستيلائه على بسطة ووادي آش يواجه القواعد الموحدية في جيان وبياسة وأبدة من الجنوب كما يواجهها من الشرق، وهكذا أخذت تجتمع عناصر ذلك الصراع المضطرم الذي لبث ابن مردنيش، ومن ورائه قوى الأندلس الشرقية كلها، يضطلع به ضد الموحدين أعواماً طوالا، والذي كان يمثل في كثير من نواحيه ثورة الأندلس القومية ضد غزاتها من رواء البحر، أعني المرابطين والموحدين. ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 2 ص 85. (¬2) M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana p. 188. وقد سبق أن أشرنا إلى رواية ابن الخطيب في تغلب ابن همشك على شقورة قبل اتصاله بابن مردنيش. (¬3) F. Codera: ibid ; p. 138

الفصل الرابع أعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله

الفصل الرابع أعوام عبد المؤمن الأخيرة وفاته وخلاله ابن مردنيش ينتزع جيان ويحاصر قرطبة. خديعته ومسيره إلى إشبيلية. إخفاقه وارتداده. غزو ابن همشك لأراضي قرطبة. هزيمة الموحدين ومقتل قائدهم. مسير ابن همشك إلى قرمونة وتغلبه عليها. الوزير ابن عبد السلام الكومي. سوء مسلكه وطغيانه. مصرعه. تكسير الإمبراطورية الموحدية. كتب عبد المؤمن بالفتح. اهتمامه بشئون الأندلس. مشروعه لتحصين جبل طارق وإنشاء مدينته. بناء المدينة ووصفها وفقاً لرواية ابن صاحب الصلاة. عبور عبد المؤمن إلى جبل طارق. الاحتفال بافتتاح المدينة. وفود الأعيان والكبراء. مدائح الشعراء. عبد المؤمن ينظم شئون الأندلس. عبوره إلى المغرب وعوده إلى مراكش. استرداد الموحدين لقرمونة. مهاجمة ابن همشك لغرناطة ودخوله إياها. محاصرته للموحدين بالقصبة. مقدم الأمداد الموحدية. موقعة مرج الرقاد. هزيمة الموحدين وفرارهم. عبد المؤمن يرسل جيشاً إلى الأندلس. مسير ابن مردنيش لإمداد ابن همشك. موقعة السبيكة. هزيمة ابن همشك وحلفائه النصارى. استرداد الموحدين لغرناطة. ارتداد ابن همشك وابن مردنيش. تحصين الموحدين لغرناطة. نقل قاعدة الحكم الموحدي إلى قرطبة. إصلاح قرطبة وتنظيم شئونها. استعداد عبد المؤمن للجهاد بالأندلس. زيارته لتينملل. مسيره إلى رباط الفتح. اجتماع الجيوش الموحدية. بحث خطة الغزو بالأندلس. مرض عبد المؤمن. تنحيته لولده محمد عن ولاية العهد واختياره لولده يوسف. وفاة عبد المؤمن. عقد البيعة لولده يوسف. تولى أخيه أبى حفص الوزارة. روايات أخرى عن تولية يوسف. عبقرية عبد المؤمن. إنشاؤه للدولة الموحدية الكبرى. إنشاؤه للخلافة الزمنية. عبد المؤمن أعظم خلفاء الغرب الإسلامي. قائد من أعظم قواد عصره. نظام حركة الجيوش الموحدية. تنظيم عبد المؤمن لطبقات الموحدين. تنظيمه للجيوش الموحدية. طوائف العرب وتقلبها. نظم الحكم والإدارة الموحدية حسبما وردت في رسالة لعبد المؤمن. حبه للعلم والعلماء. عنايته بأمر الطلبة وتدريبهم. علمه وأدبه. الجراوى الشاعر. صرامة عبد المؤمن الدينية. تشدده في معاملة النصارى واليهود. قسوته وسفكه للدماء. قواده وكتابه ووزراؤه وقضاته. سياسته في فرض الضرائب والجبايات. مسحه لبلاد المغرب. أولاده. صفة شخصه. - 1 - لما تم لعبد المؤمن فتح المهدية في العاشر من المحرم سنة 555 هـ، وإجلاء الفرنج الصقليين عن إفريقية، ثم القضاء عقب ذلك على طوائف العرب الذين تصدوا لمقاومته، كانت حوادث الأندلس، قد أخذت تشغل معظم تفكيره،

وكانت حوادث شرقي الأندلس بالأخص، قد تطورت خلال ذلك، بصورة تدعو إلى القلق. ذلك أنه في الوقت الذي كانت جيوش عبد المؤمن، تعسكر فيه تحت أسوار المهدية، كان زعيم الشرق محمد بن سعد بن مَرْدَنيش، قد خرج من مدينة مرسية، بجيش مختلط من قواته، ومن حلفائه القشتاليين، وسار إلى مدينة جيّان، فلم يبد واليها الموحدي محمد بن علي الكومي أية مقاومة، وسلمها إليه، وانضوى تحت لوائه، وهو ما تعتبره الرواية الموحدية خيانة منه، ونكثاً لبيعته للموحدين. ثم سار ابن مردنيش من جيان إلى قرطبة، ونازلها بشدة، وعاث في ربوعها، وأتلف زروعها، فخرج إليه واليها أبو زيد عبد الرحمن ابن يكيت (أو يخيت) في قواته، واشتبك معه في معركة شديدة، ثم ارتد إلى المدينة، وامتنع بها، فضرب ابن مردنيش الحصار حول قرطبة، ولبث يرقب فرصة الاستيلاء عليها، ولكن ابن يكيت، وقاضي المدينة أخيل ابن إدريس لجآ إلى حيلة أو خدعة حربية، فكتبا على لسان سيدراي بن وزير إلى ابن مردنيش كتاباً، وبعثا به إلى ابن مردنيش، على يد رسول متنكر في صفة زيات من أهل الشرق، وفيه يحث ابن وزير، ابن مردنيش، بأن يسرع بالإقلاع من قرطبة، والسير إلى إشبيلية لأنها دون دفاع. فآمن ابن مردنيش بالخدعة وبادر في الحال بالسير إلى إشبيلية، وسبقه من قرطبة جاسوس موحدي إلى إشبيلية، فأخطر ولاة الأمر بما حدث، واعتقد هؤلاء في صحة ما نسب إلى ابن وزير، فقبض عليه واعتقل. ووصل ابن مردنيش بقواته إلى إشبيلية، ونزل بظاهرها بموضع يعرف بألفونت، ونازلها ببعض قواته حتى وصل إلى باب قرمونة في شمالها الشرقي، وأقام أمامها ثلاثة أيام، وقد شاع الاضطراب في المدينة، وتوجس الناس شراً، وأبدى واليها السيد أبو يعقوب منتهى الحزم واليقظة في الدفاع عن المدينة، بمعاونة الأشياخ والطلبة والحفاظ الموحدين، ومعهم طائفة من جند الأندلس بقيادة أبى العلاء بن عزون صاحب شريش، وكان أشياخ إشبيلية وأعيانها يسهرون طول الليل فوق الأسوار، ويحرصون كل الحرص على ثقاف أبواب المدينة. واتخذ الموحدون داخل المدينة اجراءات صارمة، فقتلوا عدداً ممن لحقت بهم ريبة الغدر، واعتقلوا الكثير من الناس. وأدرك ابن مردنيش أمام ذلك كله، أنه قد خدع بما جاء في الخطاب المزور، وأن إشبيلية ليست بغية هينة، فغادرها وارتد على عقبيه، دون أن يفوز بطائل.

ووقعت هذه الأحداث التي نستقيها من رواية كاتب معاصر، وشاهد عيان، هو عبد الملك بن صاحب الصلاة، مؤرخ الدولة الموحدية (¬1)، في سنة 554 هـ (1159 م). بيد أنه لم تمض بضعة أشهر أخرى حتى عاد ابن مردنيش إلى مهاجمة الموحدين، فبعث جيشاً (في أوائل سنة 555 هـ) تحت إمرة قائده وصهره إبراهيم بن هَمُشك، فسار إلى قرطبة واجتاح أراضيها، وانتسف زروعها، ونازلها وقتاً، ثم أقلع عنها، ورتب كمائنه على مقربة منها في قرية تسمى " أطابة "، فخرج الموحدون من قرطبة بقيادة واليها عبد الرحمن بن يكيت لاستطلاع الأحوال، فخرجت عليهم كمائن ابن همشك، وأثخنت فيهم، وقتل ابن يكيت فيمن قتل، وارتد الموحدون إلى المدينة فاعتصموا بها. وسار ابن همشك بعد ذلك في قواته إلى مدينة قَرْمونة، وهي حصن إشبيلية من الشمال الشرقي، فهاجمها، واستولى عليها بمعاونة زعيم من زعمائها يدعى عبد الله بن شراحيل وذلك في شهر ربيع الأول سنة 555 هـ (مارس 1160 م). وامتنع الموحدون الذين بها بقصبتها. ولما وقف السيد أبو يعقوب والي إشبيلية على ذلك، وكان على أهبة السفر لملاقاة والده الخليفة، بادر فأرسل عسكراً إلى قرمونة لإنجاد حاميتها، وانتظر حيناً يرقب الحوادث (¬2). وفي خلال ذلك، وعقب إتمام فتح المهدية، وقع في المعسكر الموحدي حادث يتصل بصميم الشئون الموحدية الداخلية، وهو مصرع الوزير محمد ابن عبد السلام الكومي. ويبدو من أقوال ابن صاحب الصلاة، أن عبد المؤمن ندب هذا الوزير لخدمته في شهر شوال سنة 553 هـ، عند خروجه إلى غزو إفريقية وافتتاح المهدية (¬3). ولكنا قد رأينا مما تقدم، أن هذا الوزير قد لعب وفقاً لرواية ابن عذارى وابن الخطيب (¬4)، دوراً كبيراً في مصرع الوزير ¬_______ (¬1) في كتابه " تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين، بأن جعلهم الله أئمة، وجعلهم الوارثين "، (السفر الثاني) وهو المخطوط الذي سبق التعريف به في بيان المصادر لوحة 2 أوب. وسوف يكون هذا المخطوط منذ الآن فصاعداً من أثمن مصادرنا. وراجع أيضاً البيان المغرب - القسم الثالث - ص 40. (¬2) تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط سالف الذكر لوحة (5 و 14)، والبيان المغرب القسم الثالث ص 43 و 45. (¬3) تاريخ المن بالإمامة - المخطوط السابق ذكره (لوحة 20 أ). (¬4) البيان المغرب - القسم الثالث - ص 35، والإحاطة (1956) ج 1 ص 273.

ابن عطية، وأنه في الوقت الذي كان فيه ابن عطية، يقوم بمهمته في الأندلس، كان ابن عبد السلام، يتولى الوزارة، ويتزعم خصوم ابن عطية، في مطاردته، وتدبير الوسائل الكفيلة بسحقه، وأنه لما عاد ابن عطية من الأندلس مسرعاً لمناهضة سعي خصومه، انتهى الأمر باعتقاله، ثم إعدامه مع أخيه وذلك في شهر صفر سنة 553 هـ. وإذن فمن المرجح أن يكون ابن عبد السلام، قد تولى الوزارة لعبد المؤمن قبل هذا التاريخ ببضعة أشهر. وعلى أي حال، فقد شاء القدر أن يلقي ابن عبد السلام نفس المصير الذي لقيه زميله ابن عطية. وذلك أنه لما خرج عبد المؤمن إلى غزوة المهدية، وعرج في طريقه على سلا، كان ابن عبد السلام في ركابه، فوجهه عبد المؤمن إلى الأندلس ليستطلع أحوالها بسرعة. فسار الوزير إلى إشبيلية، ثم إلى قرطبة وغرناطة، وتفقد أحوالها، وأبلغ إلى الأشياخ والطلبة ما كان لديه من الأوامر والتوجيهات ثم عاد إلى الخليفة، وكان ما يزال بمحلته في سلا، وأبلغه نتيجة مهمته. ثم تحرك عبد المؤمن إلى تلمسان، واستدعى معه واليها وهو ولده السيد أبو حفص، ثم سار إلى بجاية، واستدعى معه كذلك واليها، وهو ولده السيد أبو محمد عبد الله. وكان الوزير ابن عبد السلام، عندئذ في ذروة سلطانه ونفوذه يهيمن على سائر الشئون، ويراقب أحوال السادة أبناء الخليفة، وينقل أخبارهم إليه، وكان مما نقل إليه أنهم يشربون الخمر، ويعكفون على اللهو، ويأتون فعالا قبيحة، فتأثر الخليفة لذلك، وعهد إلى بعض أشياخ الموحدين بتحقيق هذا الأمر، فقاموا بالمهمة، وراقبوا السادة، وانتهوا إلى التحقق من بطلان التهم الموجهة إليهم، فأدرك عبد المؤمن عندئذ تحامل وزيره، وأسرها له. ولما حدث أثناء حصار المهدية من زحف الموحدين على قابس، كان ابن عبد السلام، على رأس الجيش المهاجم. فلما افتتحها الموحدون، استاثر الوزير بجمع الأسلاب والغنائم والأموال، واحتجز وأخفى منها ما شاء. وفي أثناء غيبته تكلم أشياخ الموحدين في حقه، وشكوا من استعلائه عليهم، ورغبوا إلى الخليفة أن يكون ابنه أبا حفص، هو صلة الوصل بينه وبينهم، فاستجاب الخليفة إلى رغبتهم. ولما تم فتح المهدية، وتمزيق طوائف العرب في إفريقية، ارتد عبد المؤمن في قواته إلى تلمسان ومعه وزيره ابن عبد السلام. وهناك ارتفعت الشكوى للخليفة من عمال ابن عبد السلام، وظلمهم، وتعديهم على الرعية، ومن قرابته كومية، وتجرئهم على سلب

الأموال، ومضاعفة الجباية، وغير ذلك من المظالم الفادحة بممالأة ابن عبد السلام، وتشجيعه، وحمايته، فأمر الخليفة بجمع المتظلمين وأشياخ الموحدين وطلبة الحضر والقاضي، لسماع أقوالهم، فأفاضوا في التظلم والشكوى، وكرروا اتهاماتهم، ونقلت أقوالهم إلى عبد المؤمن، فأبدى دهشته مما يحدث، ومن كثرة الأموال التي تجمع، وكونها لا تصل إليه، وقلة ما بيده منها، وعجزه عن أن يمد أجناده الموحدين بالعطاء المجزي، هذا مع أن لمتونة لم تكن تملك مثل إمبراطوريته الشاسعة، كانت بالنسبة لأجنادها أكثر بذلا وإنصافاً. وغادر الخليفة مجلسه مغضباً، وكان ابن عبد السلام حاضراً ذلك المجلس، فتوجس شراً، ولم يأت ظهر ذلك اليوم حتى تحققت مخاوفه، وقبض عليه في مجلسه، وسيق إلى المطبق. ولما غادر الخليفة تلمسان، أوعز بقتل ابن عبد السلام، فقدم إليه طعام مسموم توفي عقب تناوله، وكفّر بذلك عما أثم به في حق زميله الوزير ابن عطية، وكان ذلك فيما يرجح في أواسط سنة 555 هـ (1160 م) (¬1). وكان من الأعمال البارزة التي قام بها عبد المؤمن، عقب افتتاح المهدية، وتوطد سلطانه في سائر نواحي إفريقية والمغرب، البدء بتكسير الإمبراطورية الموحدية أعني مسحها من برقة إلى السوس الأقصى، ومن شاطىء البحر المتوسط إلى مشارف الصحراء، على أن يسقط من التكسير الثلث في الجبال والوهاد والأنهار والسبخات والطرق، وما بقى يفرض عليه الخراج، وأن تلزم كل قبيلة بأداء قسطها من الزرع والوِرْق أي المال، وكان عبد المؤمن هو أول من قام بمثل هذا الإجراء من ملوك المغرب (¬2). - 2 - وهكذا شعر عبد المؤمن بعد افتتاح المهدية، واستكمال سيادة الموحدين على سائر نواحي إفريقية، أن الأندلس تتطلب مزيداً من عنايته واهتمامه. ولم ينس أن الحركة التي قام بها ابن مردنيش بالاستيلاء على جيان، وتهديد قرطبة وإشبيلية، قد تتفاقم وتقضي على سيادة الموحدين الفتية في شبه الجزيرة. ومن ثم فقد حزم أمره على أن يعبر البحر إلى الأندلس، لينظر في شئونها، ولينظم وسائل الدفاع عنها. ¬_______ (¬1) كتاب المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط المشار إليه لوحة 22 أ، والبيان المغرب القسم الثالث - ص 43 و 44. (¬2) روض القرطاس ص 129.

وكان عبد المؤمن عقب افتتاح المهدية، قد أرسل إلى الأندلس كتبه بالفتح، وفي مقدمتها كتابه إلى ولده السيد أبى يعقوب والى إشبيلية، وفيه يشرح حوادث الفتح، وما وقع من إجلاء النصارى، وما قام به العرب، من ضروب التمرد والمقاومة، ثم يقرنه بقصيدة يوردها لنا ابن صاحب الصلاة ومما جاء فيها: ولما قضينا بالمشارق أمرنا ... وتم مراد الله في كل مطلب وأشرقت الشمس المنيرة فوقنا ... وأصبح وجه الجو غير محجب وطهر هذا الصقع من كل كافر ... وعاد به الإسلام بعد تغيب وكسرت الصلبان في كل بيعة ... ونادى منادي الحق في كل مرقب أشرنا بأعناق المطي إليكم ... فطار بها شأو السرور بمغرب ووصل كتاب عبد المؤمن بالفتح إلى إشبيلية في صفر سنة 555، ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، إن السيد أبا يعقوب أمر أن يكتبه الناس والطلبة، وأن يحفظوه، وأن يتلى من فوق المنابر، وأمر كذلك بقرع الطبول، وإقامة المآدب للأجناد والناس كافة، واستمر قرع الطبول، والإطعام ثلاثين يوماً، والبشر يعم أنحاء المدينة، والشعراء ينشدون قصائدهم بالتهنئة، في مختلف المناسبات والمواطن (¬1). ولم يكدر صفو هذا البشر الشامل، سوى ما وقع في هذه الآونة بالذات من منازلة ابن همشك لقرطبة، ومصرع واليها ابن يكيت، ومحاصرة قصبة قرمونة، ومن ثم فقد كان رد السيد أبى يعقوب على كتاب الفتح، يتضمن شرحاً لهذه الحوادث، وتضرعاً إلى والده الخليفة، بأن يعجل بالإنجاد والغوث. وكانت خطة عبد المؤمن لتنظيم شئون الأندلس وإتمام فتحها، وإذكاء حركة الجهاد بها، تتضمن فضلا عن مضاعفة البعوث العسكرية إلى شبه الجزيرة، تحصين قاعدة جبل طارق، وإنشاء مدينة كبرى بها. ومن حسن الحظ أننا نجد أدق شرح وأوفى تفصيل لهذا المشروع الضخم، في رواية بن صاحب الصلاة، وقد كان فضلا عن اطلاعه على الكتب والوثائق المتعلقة بذلك، شاهد عيان وثيق الصلة ببلاط الخليفة، وبالسيد أبى يعقوب والى إشبيلية، والسيد أبى سعيد والي غرناطة، وهما اللذان عنيا بتنفيذ المشروع. وبالرغم من أنه يقرن روايته في معظم ¬_______ (¬1) كتاب المن بالامامة على المستضعفين - المخطوط السالف الذكر، لوحة 25.

خريطة: جبل طارق والمضيق الأحيان، بكثير من عبارات الدعاء والتبجيل والملق، التي تفصح عن طبيعة علائقه بالبلاط الموحدي، فإنه يقدم إلينا في نفس الوقت كثيراً من المعلومات والتفاصيل النفيسة، التي لا توجد في أي مصدر آخر. أرسل السيد أبو يعقوب رسالة بطلب الإنجاد إلى والده الخليفة، وإشبيلية تسودها ريح التوجس والقلق، فسرعان ما وصل رد الخليفة من معسكره المظفر، على مقربة من قسنطينة، بتاريخ ربيع الأول سنة 555 هـ " يعرف فيه بصحيح الآيات، وما ثنى فيه من أعنة خيل الله لهذه الأصقاع، وحماية ذلك الجناب "، فاطمأن الموحدون لما وعد به الخليفة، من سريع العون وبالغه، واستبشروا بالنصر القريب، وقرىء كتاب الخليفة على المنابر، وساد البشر بين الناس. ووصل في نفس الوقت كتاب آخر من الخليفة، مؤرخ في التاسع من ربيع الأول من نفس العام، ومتضمن " للأمر العزيز"، بإنشاء مدينة كبرى في جبل طارق، ذلك الجبل الذي يصفه ابن صاحب الصلاة " بالجبل الميمون القديم البركة، على جزيرة الأندلس السامق الشاهق، المفتتح منه دانيها وقاصيها، وطايعها وعاصيها "، ولتكون هذه المدينة منزلا للأمير عند إجازته بالعساكر، ومستقراً تتقدم منه " الرايات المظفرة، والأعلام المنشورة إلى بلاد الروم ". وكان الكتاب

يتضمن أمراً مشدداً من الخليفة إلى ولده السيد أبى سعيد عثمان والي غرناطة، بأن يسير بنفسه من غرناطة مع صحبه وبعض عسكره إلى جبل طارق، وأن يجتمع فيه بالطلبة الوافدين من إشبيلية، وبالشيخ أبى حفص عمر، وأبى إسحق برّاز ابن محمد، والحاج يعيش المالقي، والقائد عبد الله بن جيار، وأن يدرس الجميع خطط المدينة الجديدة، وأين يكون موقعها من الجبل. فصدع السيد أبو سعيد بأمر الخليفة ونهض في صحبه إلى جبل طارق، للعمل على تنفيذ الخطة المطلوبة، وطُلب في الكتاب إلى السيد أبى يعقوب والى إشبيلية أن يحشد جميع العمال البنائين والجيارين والنجارين والعرفاء، من جميع بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، وأن يعجلوا بالسير إلى الجبل، لتنفيذ الأمر الكريم، فنهض السيد أبو يعقوب بما طلب إليه، وسار من إشبيلية العريف أحمد بن باسُه، ومعه حشد كبير من العمال من بنائين وغيرهم من مختلف الحرف إلى جبل طارق، ووصل إليه في نفس الوقت جمهرة من القواد والكتاب وأهل الحساب، لتنظيم النفقة على الأعمال المطلوبة، ورصدها، وتم ذلك كله في سرعة ونظام وحزم. قال ابن صاحب الصلاة: " وابتدأوا البناء في الوضع الذي وقع الجميع عليه، والاتفاق من نواحيه، بسيف البحر، مما يلاصقه ويليه، وزادت الآمال بأهل الأندلس إلى ما تقدم إليهم من الأمل، وتحققوا اليمن والسعد والفتح في بنيان هذا الجبل، وكان من أشغال السيد الأعلى أبى يعقوب بإشبيلية في إزعاج الفعلة والرجال للبناء المذكور، وأحكم البناءون فيه بناء من القصور المشيدة والديار، واخترعوا في أسسها طيقاناً وحنايا، لتعتدل بها الأرض، مبنية بالحجر المنجور والجيار، بما هو عجيب في الآثار. . وهذا شريف البقعة كريم التربة، عظيم المنعة، باسق مع أعشار السماء، تكاد في المسامتة إلى الجوزاء، وكل ما استودع في أرضه من البطحة المنبسطة، من بعضه، مما زكى وفضل وجل، وأثمر عن قرب لغرسه وأكمل، واستقل من جميع الفواكه، كشجر التين والعنب والتفاح والكمثرى، والسفرجل والمشموم والاجاص والأترج والجوز وغير ذلك، على ضيق ضفته الممتدة كالجبل، المستمدة من الظل والوبل، وماؤه عذب زلال، مروق سلسال. وكان الحاج يعيش المهندس مدة إقامته للبناء على ما ذكرته فيه، فوضع في أعلاه رحى تطحن الأقوات بالريح، عاينها الثقات مدة البناء المذكور، فلما رجع إلى مراكش عند إكمال ما أمر به فسدت الرحى، لعدم الاهتبال بها،

واتصل بهذا العمل من بناء الدور القصور، بناء السور والباب المسمى بباب الفتوح في الفرجة التي كان يدخل منها إلى الجبل، بين البحر المحدق به من كلا جانبيه، فجاء فرداً في المعاقل التي لا يتمكن لطامع فيه طمع، ولا يخطر على خاطر ساكنه جزع، من بر ولا بحر " (¬1). واستمر العمل شهوراً بهمة مضاعفة، والسيد أبو يعقوب والي إشبيلية، يشرف على تنفيذ أوامر الخليفة، دون هوادة ولا كلل، والمهندسون والعرفاء، والعمال من كل ضرب، يبذلون أقصى جهدهم في إتمام المشروع، حتى كمل على أحسن وجه، وتم بناء المدينة الجديدة في شهر ذي القعدة سنة 555 هـ (ديسمبر سنة 1160 م) وابتنى بها جامع، وقصر للخليفة، ودور لأبنائه وحاشيته، وغُرست الحدائق على طولها حذاء البحر، وجُلب إليها الماء العذب، وجدد الحصن والأسوار القديمة، وعنى بتحصين الصخرة، أكمل عناية، وسمي الجبل بأمر الخليفة جبل الفتح أو مدينة الفتح، وكانت المراسلات أثناء ذلك تتردد بين السيد أبى يعقوب ووالده الخليفة، بتحديد موعد عبوره، واستعداداً للاحتفال بهذا الحادث الجلل. وكان السيد أبو يعقوب يعتزم العبور إلى المغرب، وليعاين أثناء مسيره ما تم من الأعمال في جبل طارق، ولكنه ما كاد يركب السفينة التي أعدت بالنهر لعبوره، حتى وصلته أنباء استيلاء ابن همشك على قرمونة، وامتناع حاميتها الموحدية بالقصبة، فارتد من فوره إلى المدينة، وقد اضطربت بها الأحوال، ووجه فرقة من العسكر لإنجاد الحامية، ومقاتلة أهل قرمونة، وكان ذلك حسبما تقدم، في شهر ربيع الأول سنة 555 هـ (مارس سنة 1160 م)، وهو الشهر الذي وصلت فيه رسالة الخليفة بإنشاء مدينة جبل طارق. - 3 - وكان عبد المؤمن يرتقب إتمام المدينة الجديدة بجبل طارق، ليعبر إلى شبه الجزيرة، فلما كملت، وكان عندئذ في أحواز فاس، سار إلى سبتة في جموع ضخمة من الموحدين والعرب من بني رياح، وبني جشم، وبني عدى وغيرهم. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة مناظر احتشاد الناس على الشاطىء لرؤية موكب الخليفة، وجيشه في ذلك اليوم المشهود، في قوله: " وبرز إليه يوم إجازته ¬_______ (¬1) كتاب المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط السالف الذكر لوحة 13 و 14.

البحر من الناس، النظارة على سيف البحر عالم لا يحصيهم إلا خالقهم. وكان يوماً مذكوراً مشهوداً، ظهر فيه من فخامة الملك والأمر، ما لم يتقدم في سالف الأزمان، ولا تخيل مرآه في الأذهان ". وكان عبور عبد المؤمن إلى شبه الجزيرة، ونزوله في جبل طارق، في شهر ذي القعدة سنة 555 هـ (يناير سنة 1161 م). وكان في استقباله في الجبل، ولداه السيد أبو يعقوب والى إشبيلية، وقد غادرها مع وفد كبير من أشياخ الموحدين، ورؤساء الأندلس وقادتها وعلى رأسهم أبو العلاء بن عزون، وأعيان إشبيلية وشيوخها وقاضيها أبو بكر الغافقي، وكبير علمائها الحافظ أبو بكر ابن الجَدّ، وسائر من بها من الكبراء والشعراء؛ والسيد أبو سعيد والي غرناطة، مع من بها من أشياخ الموحدين والحفاظ، وأكابر غرناطة وعلماؤها، وكذلك أعيان قرطبة وعلماؤها، وأعيان غرب الأندلس وعلماؤها؛ وأعيان مالقة ورندة، وشريش، وعلى الجملة سائر أعيان الأندلس الموحدية وكبراؤها، وعلماؤها وأدباؤها وشعراؤها. وندب عبد المؤمن ولده ووزيره السيد أبا حفص لكي يتولى أمر الوفود، ويقودها إلى مجلسه للسلام وتجديد البيعة، فأدخلوا بترتيب معين، وأدوا التحية للخليفة الموحدي، وأكدوا له البيعة والطاعة، وكان القضاة يتقدمون الوفود. وتعاقب الخطباء بين يدي الخليفة، فخطب أبو الحسين ابن الإشبيلي وصاحبه أبو محمد بن جبل، وأبو محمد المالقي وغيرهم، وكانت خطبهم تدور كلها حول وجوب البيعة، وما يوجبه الشرع من العهود والرسوم، والوفاء بالطاعة لولي الأمر، ثم أذن لهم " بتقبيل اليد المباركة " (¬1). وجاء بعد ذلك دور الشعر، فأمر عبد المؤمن باستدعاء الشعراء، ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك اليوم، إنما كانوا يستأذنون فيؤذن لهم. وكان يوماً عظيماً من أيام الشعر والشعراء. وكان بين هذه الوفود الحاشدة، عدة من أقطاب الشعر بالمغرب والأندلس، ذكر لنا ابن صاحب الصلاة، وصاحب المعجب أسماءهم، فكان منهم شاعر المغرب أبو عبد الله محمد بن حبوس من أهل فاس، والوزير الكاتب أبو عبد الله محمد بن غالب البلنسي المعروف بالرُّصافي، نزيل مالقة، وأحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، والقرشي القرطبي المعروف بالطليق، وأبو الحسن عبيد الله محمد بن صاحب الصلاة الباجي، وأبو بكر ¬_______ (¬1) كتاب المن بالإمامة على المستضعفين - المخطوط - لوحة 15 و 16.

صورتي: منظر جبل طارق من البر الإسباني (من الجزيرة الخضراء). بقايا الحصن الأندلسي قائمة فوق سطح صخرة طارق.

ابن المنخل الشلبي، وابن سيد الإشيبلي المعروف باللص وغيرهم. وكان أول من أنشد شعره بين يدي الخليفة، أبو عبد الله بن حبوس، وهو الذي يشبهه صاحب المعجب في طريقته بابن هانىء الأندلسي في تخير الألفاظ الرائعة، فأنشد قصيدة هذا مطلعها: بلغ الزمان بكم ما أملا ... وتعلمت أيامه أن تعدلا وبحسبه ان كان شيئاً قابلا ... وجد الهداية صورة فتشكلا وأنشد القرشي المعروف بالطليق قصيدة مطلعها: ما للعدي جنة أوقى من الهرب ... كيف المفر وخيل الله في الطلب لو بدلوا قد ما زلت بقادمه ... لأصبح الكل طياراً من الرعب وأنشد أبو الحسن عبيد الله بن صاحب الصلاة الباجي قصيدة هذا أولها: تلألأ من نور الخلافة بارق ... أضاءت به الآفاق والليل غاسق وأشرقت الدنيا به فكأنها ... من البشر في كل الجهات مشارق بسعدك يبري السيف ما عز قطعه ... وينفذ حد السهم ما هو راتق ولا زال أمر الله للدين هادياً ... وأنت لدين الكفر ماح وماحق وأنشد الوزير الكاتب الشاعر أبو عبد الله محمد بن غالب الرصافي البلنسي قصيدة طويلة في نيف وستين بيتاً هذا مطلعها: لو جئت نار الهدى من جانب الطور ... قبست ما شئت من علم ومن نور من كل زهراء لم ترفع ذؤابتها ... ليلا لسارٍ ولم تثبت لمغرور فيضية القدح من نور النبوة أو ... نور الهداية تجلو ظلمة الزور ومنها وصف مدينة الجبل: يا دار دار أمير المؤمنين بسفـ ... ـح الطود طود الهدى بوركت في الدور ذات العمادين من عز ومملكة ... على الأساسين من قدس وتطهير ما كان يأتيك الواني الكرامة عن ... قصر على مجمع البحرين مقصور وفي وصف الجبل: لله ما جبل المفتحين من جبل ... معظم القدر في الأجيال مذكور من شامخ القدر في سحنائه طلس ... له من القيم جيب غير مزرور

معبراً بذراه عن ذري ملك ... مستمطر الكف والأكناف ممطور تمشي النجوم على أكليل مفرقه ... في الجو حائمة مثل الدنانير (¬1) بيد أنه قد ظهر في هذا اليوم، إلى جانب أكابر الشعراء، شاعر حَدَث، لم يبلغ العشرين من عمره، هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، سليل بني سعيد أصحاب قلعة يحصب من أعمال غرناطة (¬2)، وكان قد حضر إلى جبل طارق مع أبيه وإخوته وقومه ضمن وفد غرناطة، ومثل بين يدي الخليفة ضمن الشعراء. ولما جاء دوره، أنشد قصيدة لفتت الأنظار بروعتها، وكانت فاتحة مجده الشعري، وقد نقل إلينا ابن الخطيب منها الأبيات الآتية: تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر ... وما لسواك اليوم نهي ولا أمر ورُمْ كل ما قد شئته فهو كائن ... وحاول فلا برٌّ يفوت ولا بحر وحسبك هذا البحر فألاً فإنه ... يقبِّل تُرْباً داسه جيشُك الغَمْر وما صوته إلاّ سلام مردَّد ... عليك وعن بِشْرٍ بقربك يفترُّ بجيش لكي يلقي أمامك مَنْ غَدَا ... يُعاند أمراً لا يقوم له أمر أطلّ على أرض الجزيرة سعدُها ... وجدّد فيها ذلك الخبَرَ الخُبرُ فما طارقٌ إلا لذلك مُطرق ... ولابن نُصير لم يكن ذلك النصر هما مَهّداها لكي تَحُل بأرضها ... كما حلّ عند التِّم بالهالة البدرُ فوقعت هذه القصيدة من الخليفة أجمل موقع، وأثنى على ناظمها الفتى، وهنأ به والده عبد الملك. وحظى أبو جعفر هذا فيما بعد لدى السيد أبى سعيد والي غرناطة، فاستوزره حيناً إلى أن فسد ما بينهما، بسبب تنافسهما في حب الشاعرة الأندلسية الجميلة حفصة بنت الحاج الرّكوني، فقبض عليه، واتهم بالاشتراك في فتنة ابن مردنيش، وأعدم وذلك في سنة 559 هـ (¬3). ولبث عبد المؤمن في جبل طارق زهاء شهرين، وسماه " جبل الفتح " حسبما تقدم، واستمرت إقامة الوفود والاحتفال بها، وغمرها بالضيافات وقضاء ¬_______ (¬1) راجع هذه القصيدة بأكملها في المعجب للمراكشي ص 119 - 122، وفي أعمال الأعلام لابن الخطيب ص 266 - 268. (¬2) وهو أحد مؤلفي كتاب " المغرب " الشهير الذي تعاقب في تأليفه بنو سعيد، واختتم تصنيفه ابن أخيه موسى بن محمد بن عبد الملك بن سعيد. وقلعة يحصب أو قلعة بني سعيد هي اليوم القرية المسماة القلعة الملكية Alcala la Real الواقعة شمال غرناطة. (¬3) ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 223 و 225 و 226.

الحوائج، عشرين يوماً، حتى ختام عيد الأضحى لسنة 555 هـ، وعندئذ أذن للوفود بالانصراف، فانصرف الناس إلى مواطنهم. وكان عبد المؤمن خلال ذلك يدرس شئون الأندلس مع الأشياخ والقادة، وينظر في المظالم ويقضي فيها، ويبذل لمختلف الوفود وعوده ببذل كل معونة لحماية الأندلس ومجاهدة أعدائها، وقد خصص لإنجادها بالفعل جيشاً مختلطاً من الموحدين والأندلسيين قوامه ثمانية عشر ألف فارس، وجعل على قيادة الموحدين ابن الشرقي وعلى قيادة الأندلسيين ابن صناديد (¬1)، وأعاد تعيين ولده السيد أبى يعقوب والياً لإشبيلية، وندب لمعاونته جماعة من أشياخ الموحدين ذوي المكانة والرأي، وولده السيد أبى سعيد والياً لغرناطة، وندب لولاية قرطبة الشيخ أبا حفص عمر اينتي، أو عمر ابن يحيى الهنتاني (¬2). ولما فرغ من تنظيم شئون الأندلس على هذا النحو، عبر البحر إلى سبتة، عائداً إلى المغرب، وذلك في فاتحة سنة 556 هـ (فبراير سنة 1161 م) وسار توًّا إلى حاضرته مراكش. وكانت هذه الفترة القصيرة التي قضاها عبد المؤمن في جبل طارق، أو جبل الفتح، من مواسم الأندلس وأيامها المشهودة، بما تخللها من روعة السلطان، وعظائم الأمور. - 4 - على أثر مغادرة الخليفة لجيل طارق، عائداً إلى المغرب، غادره السيد أبو سعيد إلى غرناطة، والسيد أبو يعقوب إلى إشبيلية. وكان الموقف ما يزال في منطقة إشبيلية على خطورته، وأهل قَرْمونة على تمردهم بزعامة عبد الله بن شراحيل، ومحالفتهم لابن هَمْشك، ومحاصرتهم للحامية الموحدية بقصبتها، فجهز السيد أبو يعقوب لمحاربتهم حملة من الموحدين بقيادة الشيخ أبى محمد عبد الله بن أبى حفص بن علي. وسار الموحدون بقيادة ابن أبى حفص من قلعة جابر شمالا إلى قرمونة، ومعه أبو العلاء بن عزون في قوة من الجند الأندلسيين، وضربوا الحصار حول قرمونة. وكان ابراهيم ابن همشك، خلال ذلك قد غادر قرمونة إلى جيان ولم يعبأ بأمرها. وضيق الموحدون على قرمونة، وأرهقوها بالغارات المتوالية، حتى استطاعوا التفاهم سراً مع رجل من أهلها، على أن يفتح لهم باب البرج الأكبر، فتم ذلك، ودخل الموحدون ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 118، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 46. (¬2) المراكشي في المعجب ص 124.

قرمونة بغتة، وذلك في المحرم سنة 557 هـ (ديسمبر سنة 1161 م) (¬1)، وقُبض على عبد الله بن شراحيل، وأخذ مكبولا إلى إشبيلية مع نفر من أتباعه، وصلبوا هنالك في الميدان العام تحت قصر ابن عباد. وهكذا عادت قرمونة إلى سلطان الموحدين بعد أن لبثت على خروجها نحو عامين منذ اقتحمها ابن همشك في ربيع الأول سنة 555 هـ. وفي نفس الوقت وصل إلى إشبيلية، جيش موحدي جديد، بقيادة يوسف ابن سليمان، فاطمئنت الخواطر، وساد الهدوء في إشبيلية ومنطقة الغرب كلها، وسارت منه قوة تحمل العتاد والأقوات إلى قرطبة لشد أزرها، وتقوية وسائل دفاعها (¬2). وكان ابراهيم بن همشك، حينما شعر بأن الجبهة الموحدية في إشبيلية وقرطبة، قد عززت، وأضحى من العسير مهاجمتها، قد اتجه وجهة أخرى ودبر خطة لمهاجمة غرناطة، وقد كانت أقرب إلى قواعده في جيان وهي التي عينه صهره ابن مردنيش لولايتها. ومن جهة أخرى فقد استطاع ابن همشك، أن يتفاهم سراً مع جماعة من يهود غرناطة، الذين أسلموا رغم إرادتهم، ومع حليفهم المسمى ابن دهري، وأن يتفق معهم على أن يسهلوا له دخول المدينة في ليلة معينة. وكانت غرناطة في الواقع دون دفاع قوي، وقد غادرها واليها السيد أبو سعيد إلى المغرب حسبما تقدم، ولم تبق بها سوى الحامية الموحدية. فسار إليها ابن همشك في بعض قواته، وفي ليلة من ليالي جمادى الأولى سنة 555 هـ، تمت الخيانة المدبرة، وكسر اليهود بإيعاز ابن دهري، باب الربض بغرناطة، وتنادوا بالصياح " يا للأصحاب "، فدخل ابن همشك وأصحابه المدينة، وفر أنصار الموحدين إلى القصبة، وكانت تموج بمن فيها من جند الموحدين. ولما رأى ابن همشك حصانة القصبة، وقوة الحامية الموحدية، بعث إلى صهره محمد بن سعد ابن مردنيش، وكان يومئذ بمرسية، يطلب إليه الإنجاد ويطمعه في أخذ غرناطة، فحشد ابن مردنيش قوة من جنده، وانضمت إليهم فرقة من الجند النصارى بقيادة ألبار ردريجس الأصلع أو الأقرع حسبما تسميه الرواية العربية، وهو حفيد القائد ¬_______ (¬1) أخذنا في تاريخ استرداد قرمونة برواية صاحب البيان المغرب (القسم الثالث ص 46). ويضع ابن صاحب الصلاة تاريخ أخذها في أوائل سنة 556 هـ، وهو لا يتفق مع منطق الحوادث حيث طال حصار قرمونة نحو عام. (¬2) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة - المخطوط - (لوحة 24 أوب).

الشهير ألبارهانيس. وسار هذا الجيش إلى غرناطة لإمداد ابن همشك. وكان ابن همشك قد نزل بالقلعة الحمراء القائمة فوق تل السبيكة في مواجهة القصبة، وشرع في منازلتها، وضربها بالمجانيق. وكان ابن همشك جباراً قاسياً، فظاً غليظاً في حربه، فكان يعذب من يقع في يديه من الموحدين بأروع نكال، ويلقيهم في أفواه المجانيق، ويقذفهم من الشواهق، ويحرقهم بالنار، ولكن الموحدين صمدوا بالقصبة، وكانت لديهم مؤن وافرة، وبعثوا إلى الخليفة في طلب الإنجاد، وكذلك إلى الموحدين في إشبيلية. وكان الخليفة عبد المؤمن، قد خرج كعادته من مراكش إلى سلا، لتنظيم شئون الجهاد، فبلغته حوادث غرناطة، وهو في طريقه، فلما وصل إلى سلا بعث ولده السيد أبا سعيد فيمن معه على جناح السرعة، وعبر السيد البحر إلى مالقة، وبعث منها يستدعى الشيخ أبا محمد بن عبد الله ابن أبى حفص القائم على ولاية إشبيلية ليوافيه عند غرناطة، بجيش إشبيلية. واجتمعت القوات الموحدية، في فحص غرناطة (¬1)، وتقدمت حتى الموضع المسمى " بمرج الرقاد " على قيد أربعة أميال من غرناطة (¬2)، وعندئذ خرج لقتالها ابن همشك في قواته وقوات مرسية من الأندلسيين والنصارى، وكانت تبلغ ألفي فارس. وليس في رواية ابن صاحب الصلاة ما يدل على أن ابن مردنيش قد اشترك في الموقعة التي تلت، ولكن ابن الخطيب يقول لنا إن ابن مردنيش قد مثل بنفسه في الموقعة، وكانت محلته قائمة فوق الربوة العالية المتصلة بربض البيّازين، وهي التي عرفت فيما بعد بكدية ابن مردنيش (¬3). واضطرم القتال في الحال بين الفريقين، وسرعان ما ظهر تفوق ابن همشك وحلفائه النصارى، فاختل نظام القوات الموحدية ودارت عليها الدائرة، وكثر القتل فيهم، وغرق منهم في سواقي المرج ومياهه عدد جم، وكان بين القتلى الشيخ أبو محمد عبد الله ابن أبى حفص والي إشبيلية، وعدة من أشياخ الموحدين، وأكابر الأندلسيين. وفر السيد أبو سعيد في نفر من صحبه إلى مالقة. وكانت نكبة موحدية بالغة الخطورة. وارتد ابن همشك في قواته المظفرة إلى القلعة الحمراء، ومعه جملة من أسرى الموحدين أفحش في تعذيبهم، والتنكيل بهم، وإزهاقهم بمرأى ¬_______ (¬1) وهو المرج أو مرج غرناطة الشهير La Vega. (¬2) كان هذا الإسم يطلق على موضع يقع على بضعة كيلومترات من قرية الطرف Atarfe في سفح جبل إلبيرة على مقربة من نهر شنيل ويطلق عليه اليوم اسم Majorrocal (¬3) الإحاطة ج 2 ص 89.

من إخوانهم المحصورين، وقد استمروا على حالهم من الاعتصام بالقصبة. ووصلت أنباء هذه النكبة إلى عبد المؤمن، وهو ما يزال بسلا، وكانت الجيوش قد توافدت عليه في تلك الأثناء، فجهز جيشاً منتخباً من أنجاد الفرسان والجند، يضم زهاء عشرين ألف مقاتل، وجمهرة من أشياخ الموحدين (¬1) تحت إمرة ولده السيد أبى يعقوب يوسف، ومعه الشيخ أبو يعقوب يوسف ابن سليمان، زعيم أشياخ الموحدين، ومستشار عبد المؤمن الأثير في العظائم والخطوب، وهو الذي يصفه ابن الخطيب " بزعيم وقته وداهية زمانه ". وعبر هذا الجيش الموحدي البحر إلى الجزيرة الخضراء، ثم سار إلى مالقة حيث انضم إليه السيد أبو سعيد فيمن معه، وزود بالعلوفات والمؤن الكافية، وخرج الموحدون بعد ذلك من مالقة، وساروا إلى غرناطة. وكان ابن مردنيش قد وقف على تلك الأهبة الموحدية الضخمة، فسارت قواته، ومعه فرقة من حلفائه النصارى لإنجاد صهره ابن همشك، ونزل فوق الجبل المتصل بقصبة غرناطة على الضفة الأخرى لنهر حدرُّه، وبقي ابن همشك بقواته بالقصبة الحمراء فوق جبل السبيكة، ومعه حلفاؤه النصارى تحت إمرة قائدهم ألبار ردريجس الأصلع حفيد ألبارهانس، ومعه ابن كونت أورقلة (أرخل) وهم يبلغون نحو ثمانية آلاف مقاتل، وكان نهر حدرُّه يفصل بين محلة ابن همشك ومحلة صهره ابن مردنيش. واستمر الموحدون في سيرهم حتى وصلوا إلى قرية دلر على مقربة من غرناطة، ثم صعدوا إلى الجبل المطل على وادي شَنيل، قبالة جبل السبيكة والحمراء. وفي يوم الخميس السابع والعشرين من شهر رجب سنة 557 هـ (12 يوليه سنة 1162 م) جمع يوسف بن سليمان قائد الجيش الموحدي أشياخ الموحدين، وأشياخ الأجناد، من مختلف القبائل، ووعظهم وذكرهم بأن الجنة مثوى المجاهدين، وحثهم على التفاني في سبيل الله. وفي مساء هذا اليوم ركب الموحدون خيولهم، وساروا فوق الجبل وأمامهم المشاة والطلائع من المصامدة، وعلى ناصية ضفة شنيل المحاذية للسبيكة، وكانت ليلة منيرة صافية الأديم، وعند الفجر وصلوا إلى مقربة من محلات ابن همشك وحلفائه النصارى فوق جبل السبيكة، وفي الحال انقض الموحدون على أعدائهم على غرة، قبل أن يتم استعدادهم، بل وقبل أن يركب معظمهم خيولهم، واضطرمت بين الفريقين ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 106.

موقعة عنيفة هائلة، وأبلى الموحدون في قتال ابن همشك وحلفائه النصارى أعظم البلاء، وقتلوا منهم جموعاً غفيرة، ولم يأت الصباح، حتى مزق الوحدون أعداءهم تمزيقاً وشتتوا في كل ناحية، وقتل معظم قادتهم، وفي مقدمتهم ألبار ردريجس الأصلع وزميله ولد كونت أورقلة، ورفعت رأس الأصلع بعد أيام بمدينة قرطبة على باب القنطرة، وقتل كذلك معظم القادة الأندلسيين، ومنهم ابن عبيد صهر ابن مردنيش. وكان مما حز في نفس ابن مردنيش، وانفطر له فؤاده، أنه لم يستطع، وهو بقواته على الضفة الأخرى من نهر حدرُّه، أن يبادر لإنجاد صهره ابن همشك، فلبث يرقب تمزيق قواته جامداً، حتى تم الظفر للموحدين، وتمت الهزيمة الساحقة على ابن همشك. وتعرف هذه الموقعة بموقعة السبيكة. ودخل الموحدون غرناطة ظافرين، في ظهر ذلك اليوم - يوم الجمعة الثامن والعشرين من رجب سنة 557 هـ (13 يوليه 1162 م)، وخرج الموحدون المحصورون من القصبة، وقتلوا سائر خصومهم والمتحالفين مع أعدائهم من أهل غرناطة، وارتد ابن مردنيش وابن همشك كل بقواته، وسار الأول صوب مرسية، وسار الثاني في فلوله صوب جيان، والموحدون في أثره. وكان من أثر هذا النصر الموحدي، أن سارعت سائر النواحي في منطقة غرناطة، إلى إعلان الطاعة والتوحيد. وعنى السيد أبو يعقوب يوسف والقائد يوسف بن سليمان بالنظر في شئون غرناطة، وإصلاح قصبتها وأسوارها، وإثابة من كان من الموحدين المحصورين والإنعام عليهم. واستقرت الأمور بها، وسادتها السكينة والهدوء (¬1). وسار الموحدون في أثر ابن همشك إلى قاعدته جيان، ولكنه لم يقف بها، بل ترك أمر الدفاع عنها إلى وزيره أبى جعفر الوقَشي، فامتنع بها، وحاصرها الموحدون حيناً دون جدوى، وعاثوا فيما حولها من الأراضي، وانتسفوا زروعها، ودمروا قراها، حتى أصبحت خراباً مطلقاً، ثم غادروها عائدين إلى قواعدهم (¬2). وبعث السيد أبو يعقوب يوسف، والقائد ابن سليمان بأنباء النصر يوم الوقيعة، إلى الخليفة عبد المؤمن، وكان ما يزال برباط الفتح قبالة سلا، ¬_______ (¬1) نقلنا تفاصيل هذه الموقعة الكبيرة عن ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة " اللوحات 29 إلى 32. ويراجع ابن الأثير ج 11 ص 106، والإحاطة (1956) ج 1 ص 309 و 310، وج 2 ص 89 و 90، والبيان المغرب القسم الثالث ص 52 و 53، وهو يلخص أقوال ابن صاحب الصلاة. (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 230.

فسر بها أيما سرور، وصدرت أوامره فيما يتعلق بشئون الأندلس بتحقيق أمرين، الأول أن يجعل من غرناطة وقصبتها مركز دفاع قوي، وأن تشحن بالعتاد ُوالأقوات، والثاني أن ينقل مركز الحكم الموحدي بالأندلس من إشبيلية إلى قرطبة، وأرسلت لتحقيق الأمر الأول، من شواطىء العدوة إلى ثغر المنكب عدة سفن مشحونة بالاقوات والسلاح، ونقلت حمولتها إلى غرناطة، وزودت قصبتها من ذلك بكميات كبيرة، وندب لتنظيم شئون الدفاع عن المدينة إلى جانب الموحدين، عدة من الزعماء الأندلسيين الموثوق بهم من أهلها، وكان القصد من ذلك أن تغدو غرناطة مركز الدفاع الرئيسي في جنوبي الأندلس، أو تغدو " سنام " الأندلس حسبما يقول ابن صاحب الصلاة. وأما فيما يتعلق بنقل مركز الحكم إلى قرطبة، فقد بعث عبد المؤمن إلى ولده السيد أبى يعقوب يوسف، والشيخ أبى يعقوب سليمان " الأمر العزيز " باستيطان قرطبة، وأن تكون مقر الأمير، ومقر الحكم بالأندلس، إذ هي " مُوَسّطة الأندلس " كما تغدو مستقر الجيوش الموحدية. ووصل بهذا الأمر أبو اسحق برّاز بن محمد اللمتوني. وعلى أثر ذلك سار السيدان أبو يعقوب يوسف، وأبو سعيد، والدا الخليفة، ومعهما القائد يوسف بن سليمان، إلى قرطبة فوصلوا إليها في الخامس عشر من شهر شوال سنة 557 هـ، وخرج أهل قرطبة لاستقبالهم في جموع حاشدة حافلة، واستدعى إليها من إشبيلية عدة من أشياخها وأعيانها وكتابها، ومنهم أبو القاسم بن عساكر، وأبو بكر الخطار، ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة، أنه كان من بين أولئك الكتاب المدعوين إلى العمل. وطُلب كذلك أن تُنقل من إشبيلية إلى قرطبة سائر الدواوين والأموال، التي جمعت من القواعد المنزوعة من الثوار. وهكذا غدت قرطبة، بعد إشبيلية قاعدة الحكم الموحدي بالأندلس، واستردت قرطبة بذلك رياستها وأهميتها وحيويتها القديمة، ورتبت بها الإدارات، واستعمل الكتاب والأشياخ في مختلف الأعمال، واختار أبو اسحق لحكم إشبيلية بعض أصحابه، وقام هو على النظر في شئون المخازن (الشئون المالية) في قرطبة وسائر البلاد الخاضعة للموحدين، ولم يزل قائماً بهذه المهمة حتى توفي في سنة 559 هـ (¬1). واستقر السيدان أبو يعقوب وأبو سعيد حيناً بقرطبة، ومعهما القائد الشيخ ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في كتاب المن بالإمامة لوحة 33 و 34.

أبو يعقوب. وقامت هذه الحكومة الجديدة لعاصمة الخلافة القديمة، بتنظيم شئونها المختلفة، وتعمير قصورها ودورها المهدمة، وإصلاح حصونها وأسوارها، وتأمين أهلها، فساد الهدوء والطمأنينة في أرجائها، بعد أن لبثت أعواماً طويلة، مسرحاً للفتن المخربة، والفورات المزعجة، وعاد إليها الكثير من أهلها الذين غادروها، مستبشرين بالعهد الجديد. ثم انصرف الشيخ أبو يعقوب عائداً إلى العدوة، واستمر السيدان من بعده فترة يسيرة، حتى فاتحة المحرم من سنة 558 هـ، وعندئذ وردت دعوة الخليفة إلى ولده السيد أبى يعقوب يوسف بالمثول إلى حضرته، فبادر بالسير إلى إشبيلية، ولم يقم بها سوى أيام قلائل، ثم غادرها إلى العدوة، ولحق بأبيه الخليفة، وبقى السيد أبو سعيد بقرطبة، قائماً على شئونها، متعهداً لمصالحها، وأضيف إليه النظر على إشبيلية، وكان يعاونه القائد القدير أبو إسحق براز ابن محمد المسوفي، وندب للنيابة على إشبيلية أبو داود بلول ابن جلداسن، وتولى شئون المخزن بها محمد بن المعلم، واستمر الأمر على ذلك فترة يسيرة أخرى. - 5 - في خلال ذلك كانت حوادث المغرب تنذر بتطورات خطيرة. وكان عبد المؤمن حينما تلقي نبأ انتصار الموحدين في موقعة السبيكة، وهو بعدوة سلا (الرباط) قد اعتزم أن يعد العدة لاستئناف الجهاد بالأندلس، في البر والبحر على أوسع نطاق ممكن، فأمر بكتب الكتب إلى سائر الجهات والقبائل، لاستنفار الناس، وحثهم على الجهاد في سبيل الله، وأمر بإنشاء الأساطيل (القطائع)، فأنشىء منها مائتا قطعة، وقيل أربعمائة، أعد منها في مرسى المعمورة على شاطىء وادي سبو، شمالي ثغر سلا، مائة وعشرون قطعة، وأعد الباقي في مختلف ثغور العدوة والأندلس، وأمر بإعداد الوفير من العتاد والمؤن والعلوفات، وكان قد أعد منها خلال سنة 557 هـ، أكداس هائلة في وادي سبو، في حمى الجبال المشرفة عليه، وجلبت الخيل من سائر أنحاء إفريقية والمغرب، وجلبت كذلك مقادير وفيرة من السهام والرماح الطوال، والدروع، والبيضات، والتروس، والبنود، والكسى، ووزع ذلك كله على طوائف الموحدين والعرب الموالين من سائر القبائل (¬1)؛ وأذكى هذا العزم على الجهاد في الأندلس، وأكده ما وقع ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في كتاب المن بالإمامة لوحة 39 والمراكشي في المعجب ص 131.

في أواخر سنة 557، من غزو نصارى مدينة شنترين بالبرتغال لمدينة باجة، واستباحتها، واحتلالها في 22 شهر ذي الحجة هذا العام (أول ديسمبر 1162 م)، ومكثهم بها نحو أربعة أشهر، قبل أن يغادروها، بعد أن دمروا ربوعها، وخربوا أسوارها (¬1). وأقام عبد المؤمن بمراكش فترة يسيرة، حتى أول عام ش 558 هـ، وهو يتابع بعناية تلك الاستعدادات الضخمة للجهاد في الأندلس. ثم خرج من حاضرته ليزور قبر المهدي في تينملل، وكان الفصل شتاء، والبرد قارساً، والأمطار والثلوج تنهمر بشدة، حتى غمرت سائر السهول والربى، ومع ذلك فقد شق الخليفة طريقه إلى تينملل بعزم، وجاز المياه والثلوج الغامرة، ولم يبال بما أصابه من البلل، وتبعه أشياخ الموحدين بصعوبة، ثم أدى زيارته المأثورة لقبر المهدي، وعاد إلى حاضرته، ليستأنف الاستعداد للجهاد. وفي اليوم الخامس عشر من ربيع الأول سنة 558 هـ (19 فبراير سنة 1163 م) خرج عبد المؤمن من مراكش، وسار إلى رباط الفتح، تتقدمه الجيوش الموحدية الجرارة، في تؤدة وهوادة، فلما وصل إلى رباط الفتح، كانت البقاع المجاورة فيما بين سلا والمعمورة، قد ضاقت بهذه الجيوش الضخمة التي يقدرها المؤرخ المعاصر بأكثر من مائة ألف فارس، ومائة ألف راجل (¬2). وتقدرها بعض الروايات الأخرى بأكثر من ثلاثمائة ألف فارس، من الموحدين والمرتزقة العرب والبربر. ومن المتطوعة ثمانون ألف فارس ومائة ألف راجل (¬3)، وزعت عليهم جميعاً الأعطية والصلات السخية. وما كاد الخليفة يستقر في محلته، حتى استدعى إليه سائر القادة والأشياخ من الموحدين والعرب، وأهل الرأي، وعقد مجلساً حربياً عاماً، ليبحث خير الوسائل لتنفيذ الغزوة الأندلسية الكبرى وتوجيهها، سواء في البر أو البحر، وكان من بين الحاضرين أبو محمد سيدراي بن وزير، فشرح للخليفة أحوال الأندلس وما يحسن أن يعمله، واقترح ابن وزير ووافقه الأشياخ، أن تقسم الحملة الكبرى إلى أربعة جيوش، يسير أولها إلى البرتغال لمقاتلة ابن الرنك صاحب قلمرية (ألفونسو هنريكيز)، والثاني يسير إلى مملكة ليون، وملكها ¬_______ (¬1) كتاب المن بالإمامة لوحة 117. (¬2) ابن صاحب الصلاة في كتاب المن بالإمامة لوحة 41. (¬3) الاستقصاء ج 1 ص 158.

يومئذ فرناندو الثاني ولد القيصر ألفونسو ريمونديس، وهو الذي تعرفه الرواية العربية " بالببوج "، والثالث يسير إلى قشتالة، وملكها يومئذ ألفونسو الثامن طفل تحت الوصاية، والرابع يسير صوب مملكة أراجون وبرشلونة، وملكها يومئذ ألفونسو الثاني. واستحسن الخليفة اقتراح ابن وزير ووافق عليه. ولم تمض أيام قلائل على ذلك حتى مرض عبد المؤمن مرضه الذي لم يبرأ منه. ولم توضح لنا الرواية نوع هذا المرض الذي حمل الخليفة إلى القبر، والذي يقتصر ابن صاحب الصلاة على وصفه، " بالوجع "، بيد أنه لبث يشتد ويتفاقم، حتى كان يوم الجمعة الثاني من جمادى الآخرة، وقد شعر الخليفة بدنو أجله، فأمر بإسقاط اسم ولده وولي عهده محمد من الخطبة، وكان هذا القرار يخفي مأساة عائلية، كان الحليفة يود أن يتلافى آثارها قبل موته. وذلك أنه نمى إليه أن محمداً يشرب الخمر، ويبدو مخموراً أمام الأشياخ والقادة في هيئة زرية، ويرتكب أموراً طائشة مخلة بالكرامة، وأنه يغلب عليه الخور وجبن النفس، وقيل أيضاً إنه كان مصاباً بالجذام (¬1). ومن ثم فقد رأى أنه لا يصلح للخلافة، وأنه يجب تنحيته وإبعاده، ودعا الأشياخ إلى سريره، وأخطرهم بتنحية ولده محمد وتولية يوسف، باعتباره أصلح من يتولى الخلافة، وأوصاهم بتنفيذ إرادته ومبايعته، ولاسيما الشيخ أبى حفص عمر الهنتاني عميد الأشياخ، واستوثق من ولده أبى حفص بتقديم شقيقه الأصغر يوسف، وكان أبو حفص يتولى الوزارة والحجابة لأبيه حسبما تقدم ذكره. وفي الأيام القلائل التالية تفاقم مرض الخليفة واشتد به الألم، وفي فجر يوم الثلاثاء الثامن من جمادى الثانية - وفقاً لرواية البيذق - توفي الخليفة عبد المؤمن بن علي. بيد أنه إذا أخذنا بهذه الرواية فلا بد أن الوفاة كانت في فجر اليوم السادس وهو الموافق ليوم الثلاثاء، حيث كان اليوم الثاني من جمادى الآخرة يوافق يوم الجمعة، وهو اليوم الذي أسقط فيه اسم محمد من الخطبة. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة إن عبد المؤمن توفي ليلة الجمعة العاشر من جمادى الآخرة سنة 558 هـ (15 مايو سنة 1163 م)، وهي رواية تبدو أرجح لانطباقها مع تسلسل الأيام والتواريخ (¬2). وكانت وفاته بمحلته في سلا، وكان عند وفاته في الثالثة والستين من عمره، وقيل في الرابعة والستين، وكانت ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 131، وابن خلكان ج 2 ص 493. (¬2) كتاب المن بالإمامة لوحة 45 أ.

ولايته، منذ وفاة المهدي في 25 رمضان سنة 524 هـ، ثلاث وثلاثون سنة، وخمسة أشهر، وثلاثة وعشرون يوماً (¬1). ولما توفي عبد المؤمن كتمت وفاته وقتاً، واستأثر ولده السيد أبو حفص بتدبير الأمور، وبادر إلى تنفيذ وصية أبيه في عقد البيعة بالخلافة لأخيه يوسف، وكان قد قدم من قرطبة، استجابة لدعوة أبيه، وبقي إلى جانبه حتى توفي. والظاهر أن عبد المؤمن، كان عندئذ قد قرر أمره نحو مسألة الخلافة، وترشيح ولده يوسف لها، واستدعاه لهذا الغرض وأبلغ السيد أبو حفص، والشيخ أبو حفص الهنتاني وصية الخليفة الراحل لأشياخ الموحدين، فأقروها جميعاً، وبايعوا للسيد أبى يعقوب يوسف بالخلافة. ويقول لنا البيذق إن بيعة الخليفة الجديد، تمت في مدى يومين، في العاشر من جمادى الآخرة سنة 558 هـ وارتضى أبو عبد الله محمد ما تقرر من أمر خلعه، وبايع لأخيه راضياً، وتمت هذه البيعة في سلا في محلة الخليفة الراحل، ونفذ الأمر إلى الجيوش المحتشدة، بالانصراف إلى بلادها، في انتظار أوامر تصدر في فرصة أخرى. وتولى الشيخ أبو حفص عمر الهنتاني وعظ الموحدين على اختلاف طبقاتهم ومراتبهم، وذكرهم بما يجب عليهم من اتباع أوامر دينهم، وإكتمال ولائهم وطاعتهم واشتغالهم بأمورهم عن الأحاديث العقيمة والخزعبلات. ولما تمت البيعة حسبما تقدم، سار الخليفة الجديد مع أشياخ الموحدين إلى مراكش، ونزل في دار الخلافة، وتولى أخوه السيد أبو حفص الأمور السلطانية والحجابة على نحو ما كان مع أبيه، وعن رضى من أخيه الخليفة الجديد. وحمل جثمان الخليفة الراحل إلى تينملل، في يوم الجمعة أول شعبان، حيث دفن إلى جانب أستاذه وإمامه المهدي، وفقاً لوصيته (¬2). ذلك هي الرواية الراجحة في شأن تولية السيد أبى يعقوب يوسف للخلافة. ¬_______ (¬1) ينقل صاحب روض القرطاس عن تاريخ وفاة عبد المؤمن، روايتي البيذق وابن صاحب الصلاة (الثامن من جمادى الآخرة والعاشر منه)، ويضعها ابن الأثير في العشرين من جمادى الآخرة سنة 558 هـ (ج 11 ص 109). ويضعها ابن خلكان في العشر الأخيرة من جمادى الآخرة (ج 1 ص 391)، ويضعها المراكشي في السابع والعشرين من جمادى الآخرة (المعجب ص 131). ويضعها الزركشي في ليلة العاشر من جمادى الآخرة متفقاً مع ابن صاحب الصلاة. تاريخ الدولتين ص 29. (¬2) أخبار المهدي ابن تومرت ص 83، وابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 45 والبيان المغرب القسم الثالث ص 58 و 59.

وهي الرواية الموحدية التي يقول بها مؤرخا الموحدين المعاصران، البيذق، وابن صاحب الصلاة. بيد أن هناك رواية أخرى، يقدمها إلينا ابن الأثير، وهي أنه لما توفي عبد المؤمن بسلا، كتمت وفاته، وحمل من سلا إلى مراكش فوق محفة، وكأنه مريض، ولما وصل إلى مراكش استبد ابنه أبو حفص بشئون الحجابة، وكان يصدر أوامره باسم أبيه، ويقول للناس أمير المؤمنين أمر بكذا، واستمر على ذلك حتى كملت البيعة لأخيه يوسف، في سائر البلاد والنواحي، واستقرت الأمور، وعندئذ أظهر موت أبيه (¬1). وينقل إلينا ابن خلكان رواية أخرى، ينفرد بها في شأن محمد وأخيه يوسف في قيول إنه لما توفي عبد المؤمن خلفه ولده محمد، وتولى الأمر مدة خمسة وأربعين يوماً حتى شعبان سنة 558 هـ، ولكن سرعان ما اضطربت الأمور، وظهر منه من اختلال الرأي وكثرة الطيش، وجبن النفس، ما أدى إلى خلعه، وكان الذي سعى في خلعه أخواه أبو حفص عمر ويوسف. ولما تم خلعه، انحصر الأمر بين أخويه المذكورين، فتأخر عمر، وسلم الأمر إلى أخيه يوسف فبايعه الناس، واتفقت عليه الكلمة (¬2). وينقل إلينا المراكشي هذه الرواية في المعجب (¬3). بيد أنه يبدو، إزاء ما تؤكده لنا الرواية الموحدية المعاصرة، أنها رواية ضعيفة لا سند لها. - 6 - كان الخليفة عبد المؤمن بن علي، عبقرية فذة، تنطوي على طائفة من أبدع الخلال التي تصاغ منها العظمة والبطولة، وقد شادت هذه العبقرية دولة من أعظم الدول الإسلامية، تمتد من أواسط شبه الجزيرة الإسبانية شمالا حتى مشارف الصحراء الإفريقية الكبرى جنوباً، ومن طرابلس الغرب شرقاً حتى شواطىء المحيط الأطلنطي غرباً، وشادتها في ظروف صعبة، وفي غمر الكفاح المضني، من إمارات وقبائل بربرية متنابذة متفرقة الكلمة، لم تعرف خلال حياتها الطويلة معنى للنظام والاتحاد، ولم تأنس لأي نوع من الخضوع والطاعة، ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 109. (¬2) ابن خلكان ج 2 ص 493. ويقول لنا ابن خلكان إنه نقل هذه الرواية من كتاب بخط العماد بن جبريل أخى المعلم المصري ناظر بيت المال بالديار المصرية، فيه فوائد من أخبار المغاربة وغيرهم. (¬3) المعجب ص 131.

فصاغ عبد المؤمن بعزمه، وقوة نفسه، وبراعته العسكرية والسياسية، من هذه العناصر المضطرمة الخصيمة، كتلة متناسقة متعاونة متحدة، وأنشأ منها الدولة الموحدية الكبرى، أعظم الدول المغربية إطلاقاً، واستطاع أن يجعل من الدعوة المهدية أو الدعوة الموحدية، ناموساً دينياً، ودستوراً نظامياً، تقوم عليه وتستمد منه، مقوماتها السياسية والعسكرية. وقد رأينا أن عبد المؤمن، نشأ طالب علم متواضع، تجتمع آماله حول التقدم في هذا المضمار، والتقى بالمهدي ابن تومرت، في بداية أمره، وقبل أن تلوح لدعوته وتعاليمه أية بارقة أمل، في التقدم أو الرسوخ. ومع ذلك فقد ثبت إلى جانبه وشاطره كل آلامه ومحنه، وكل آماله ومشاريعه، وغدا ساعده الأيمن في كفاحه. وكان هذا الاختصاص بالمهدي وإيثار المهدي لتلميذه الوفي، من أهم العوامل، التي مهدت لعبد المؤمن، عند وفاة أستاذه وإمامه، سبيل الاحتواء على تراثه وخلافته. ولم تخب فراسة المهدي في تلميذه، حينما قال لصحبه وهو في مرض موته عقب هزيمة البحيرة الساحقة، إنه ما دام عبد المؤمن قد سلم، فسوف يبقى أمرهم. وقد شاء القدر أن يقوم عبد المؤمن بالمهمة الكبرى، مهمة سحق الدولة المرابطية، وإنشاء الدولة الموحدية الكبرى على أنقاضها، وأنقاض الإمارات الإفريقية. وقد استمرت الدولة الموحدية حيناً، تحتفظ بطابعها الروحي، وأساسها الديني، حتى عمد عبد المؤمن بعد أن تضخم ملكه، وتوطد سلطانه ونفوذه، بين سائر الطوائف والقبائل، إلى إنشاء السلطة الزمنية الوراثية، بتعيين ولده لولاية العهد. وكانت هذه الخطوة أعظم تطور حدث في طبيعة الدولة الموحدية، التي تغدو من ذلك الحين، خلافة زمنية سياسية، ويتضاءل أساسها الروحي. ويمكننا أن نعتبر الخلافة الموحدية المؤمنية، أعظم خلافة قامت في الغرب الإسلامي، وإن كانت خلافة قرطبة الأموية تتفوق عليها بخواصها التمدنية والحضارية، وأن نعتبر عبد المؤمن أعظم خلفاء الغرب الإسلامي، وإن كان عبد الرحمن الناصر يتفوق عليه بخواصه المصقولة وخلاله الإنسانية، بل نستطيع أن نعتبر أن عظمة الدولة الموحدية الكبرى تنحصر في عصر عبد المؤمن، وولده أبى يعقوب يوسف، وحفيده أبى يوسف يعقوب المنصور (524 - 595 هـ)، وهي حقبة من سبعين عاماً، تستنفذ الدولة الموحدية فيها كل مصادر قوتها، وعظمتها. هذا وربما كان عبد المؤمن بخلاله العلمية، وحياته العسكرية الحافلة بالغزوات

والفتوحات المظفرة، أكثر الرؤساء شبهاً بالمنصور بن أبى عامر، فإن هاتين الصفتين هما أبرز ما في حياة كل من هذين الرجلين العظيمين، وإن كانت غزوات المنصور تتسم قبل كل شىء بطابع الجهاد في سبيل الله. ولم تحل نشأة عبد المؤمن العلمية دون تحوله في ميدان الحرب، إلى قائد من أعظم قواد عصره، وأشدهم فروسة، وأوفرهم شجاعة، وإقداماً. كان عبد المؤمن بصيراً بطرائق الحرب، وأساليب القتال، وقد أنفق في غزواته وحروبه أكثر من ربع قرن، ذرع فيها وهاد المغرب وقفاره، من أقصاه إلى أقصاه، شرقاً وغرباً، وشمالا وجنوباً، وخرج مكللا بغار الظفر في معظم هذه الغزوات والحروب، ولم يجتمع لملك من ملوك المغرب أو خليفة من خلفائه، مثل ما اجتمع لعبد المؤمن من الجيوش الجرارة، التي كانت تضم مئات الألوف من الفرسان والرجالة، من مختلف القبائل البربرية والعربية، وكان عبد المؤمن خلال الحروب والغزوات جندياً بمعنى الكلمة، يشاطر جنده مشاق السير الوعر، وتقشف حياة الميدان، وكانت عادته في أسفاره أن يرحل بعد صلاة الصبح، بعد أن يُضرب طبل ضخم ثلاث ضربات إيذاناً بالرحيل، وكانت حركة الجيوش الموحدية تجرى عندئذ وفق النظام الذي رسمه المهدي لمسيرها، فيتقدمها اللواء الموحدي الأبيض مع فرقة من الرجالة يكون بينها وبين الأمير نحو ربع ميل، ثم يسير الأمير أو الخليفة خلف اللواء المذكور تحف به خاصته ووزراؤه، ثم تتبعهم الرايات الكبار والطبول وجند الساقة، ثم جند كل قبيل بترتيب خاص (¬1). وكان عبد المؤمن في معظم الأحيان يرسم خطط المعارك بنفسه، وربما قاد جنده، واشترك معهم في القتال. وكان عبد المؤمن إلى جانب هذه الصفات العسكرية البارزة، من أعقل أهل عصره وأوفرهم ذكاء وحكمة، وكان حازماً سديد الرأي حسن السياسة، واسع الحيلة، يعالج الأمور الصعبة بكثير من الفطنة والكياسة. وكان مما فعله عبد المؤمن لتنظيم أصحاب المهدي وطوائف الموحدين، بعد تعاقب الحوادث، وفقد الكثير من أهل الجماعة وأهل خمسين وأهل سبعين، أن استدعى أشياخ القبائل الموحدية من المصامدة وغيرهم إلى مراكش، ولما اكتمل دورهم، أعلن تصنيف الموحدين إلى ثلاث طوائف أو طبقات، الأولى، ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 43 ب).

هم " السابقون الأولون " الذين بايعوا الإمام المهدي وصحبوه وغزوا معه، وصلوا خلفه، والذين شاهدوا واقعة البحيرة واشتركوا فيها، ويتلو هذه الطبقة من آمن بالتوحيد، ودخل في زمرة الموحدين من بعد البحيرة إلى فتح وهران (سنة 539 هـ)، وتتكون الطبقة الثالثة ممن انتظم في سلك الموحدين من فتح وهران إلى ما هلم جراً، وقد تم هذا التصنيف الجديد بعد أن روعيت فيه كل الاعتبارات، من الزلف والقرب والعدالة وغيرها، لتعرف كل طبقة مكانتها ومركزها (¬1). وقد أسبغ عبد المؤمن بسياسته في تأليف القبائل المختلفة، وإدماجها في الجيش الموحدي الضخم، على هذا الجيش وحدة وتناسقاً، لم تعرفها الجيوش المغربية من قبل. بيد أنه لم يكن موفقاً في سياسته لتأليف القبائل العربية, وضمها للقوات الموحدية. ذلك أن هذه الفرق العربية التي استمرت عصراً تكون جناحاً هاماً في الجيوش الموحدية بالمغرب والأندلس، كانت متعثرة الولاء كثيرة التقلب، لا تدين بمبدأ ولا عقيدة، سوى انتهاز الفرص، والكسب المادي الرخيص، وكان تقاعسها وتقلبها في حروب إفريقية، فيما بعد أيام الخليفة أبى يعقوب يوسف وولده يعقوب المنصور من أهم الأسباب، في نجاح ثورة بني غانية في إقريقية، وتغلبهم على معظم نواحيها، وفي تخاذل الجيوش الموحدية في معظم المعارك التي خاضتها إلى جانبها. وأما عن نظم الحكم والإدارة، فقد كان عبد المؤمن، وهو مؤسس الدولة الموحدية الحقيقي، أول من وضح القواعد والنظم التي يسترشد بها في تسيير دفة الحكم، وفي تطبيق السياسة الشرعية، وفي جباية الأموال. وقد انتهت إلينا في ذلك رسالة هامة من إنشاء الكاتب أبى جعفر بن عطية، وجهها الخليفة من تينملل في السادس عشر من ربيع الأول سنة 543 هـ، إلى الطلبة والمشيخة والأعيان والكافة بالأندلس، وفيها يبسط ما يمكن أن يسمى بالأسس الدستورية لنظم الحكم الموحدي، ونحن نورد فيما يلي ملخصاً لما احتوته هذه الرسالة الدستورية الهامة، التي ينفرد ابن القطان بإيرادها. 1 - يقول الخليفة، إنه اتصل به أن بعض العمال ممن لا يخافون الله، يتسلطون بأهوائهم على الأموال والإبشار، ويستحلون حرمات المسلمين، وينقضون ¬_______ (¬1) راجع الرسالة الثانية عشرة من " رسائل موحدية " ص 53 و 54.

أحكام الشرع، ويبتدعون مظالم شنيعة، ويستنبطون من فواحش الآثام صنوفاً فظيعة، ويتسببون في قتل المسلمين، فضلا عن استباحة أموالهم وأعراضهم بتلبسات يسيئونها، ويمدون أيديهم بضرب الناس بالسياط وسيلة إلى أخذ أموالهم. وهو ينذر هؤلاء بشر العقاب، ويقول، إن لمن يستوجب الضرب أو يستحقه حدود معلومة، ومواقف مرسومة، تقابل كلا بمقتضى جرمه. 2 - وأنه قد ذكر له في أمر المغارم والمكوس والقبالات وتحجير المراسي وغيرها، مظالم وكبائر عظيمة، ثم يتساءل ألم يقم الأمر العالي لقطع أسباب الظلم وإجراء العدل. ومن ذلك ما ذكر في أمر المسافرين الذين يريدون الرجوع إلى أوطانهم، فإن بعض هؤلاء الظلمة، يزعمون لهم أن للمخزن حقوق تمتد إلى جميع ما أتى به، ثم يضطروه بالوعيد إلى الخروج عن جزء كبير من ماله، ويسائل الخليفة الموحدين والطلبة، كيف تقع هذه الأمور، وهم يرصدون الشئون، وكيف تسفك الدماء على هذه الصورة، وتنتهك الحرمات، وهم لا يمتعضون. 3 - وأنه ليجول بخاطره، أن أسباب تلك المنكرات، هو أن قوماً يتوسطون بينهم وبين الناس، وينقلون الأمور إليهم بطريق التدليس، وذلك ليبعدهم عن مباشرة الأمور، ثم ينصحهم بأن لا يتركوا مباشرة الأمور إلى أحد سواهم، وأنه يجب عليهم أن يباشروا الأحكام مباشرة تعهد وتفقد، وأنهم في ذلك يجب أن يتذرعوا بالحزم والاعتدال وسلوك الطريق الوسط، والتواضع لأمر الله تعالى وترك الاستعلاء المنتقد، وعليهم أن يبحثوا عن المتسببين في وقوع تلك القبائح، وأن يعرّفوه بأمرهم ليقوم بعقابهم. 4 - ثم يقول الخليفة: " وقد استخرنا الله في سد تلك الذريعة، وصد تلك الأفعال الشنيعة، فرأينا أن ترفعوا إلينا أحكام المذنبين للكبائر، وتعلمونا بنبأ كل من ترون أنه يستوجب القتل بفعله الخاسر، دون أن تقيموا الحد عليه، أو تبادروا بالعقاب إليه، ولا سبيل لكم إلى قتل أحد من كل من هو في بلاد الموحدين وأنظارهم، ومن هو معهم داخل مضمارهم، وكل من ترون أنه يستوجب القتل، ممن يريد المكر في أمر الله تعالى والختل، فعرفونا بجلية أمره وتصحيحه، وخاطبونا بميز أمره ومشروحه، لينفذ فيه من قبلنا ما يوجبه الحق ويقتضيه، ونمضي في عقابه ما ينفذه الشرع ويمضيه. فإياكم من مخالفة أمرنا

هذا في قتل أحد ممن ذكرنا كائناً من كان، كبر ذنبه عندكم أو هان، ولتبادروا إلى إعلاننا بذنبه بعد سجنه وتثقيفه لنقابله بما نراه، ونجري الحق فيه مجراه ". 5 - وأنه قد بلغه أنه يقع بيع النساء بصورة تخالف حكم الشرع، وأنه يوجد من يبتاع المرأة ثم يبيعها دون استبراء، وأنه لا يتحفظ في ذلك من مواقعة الزنا المحض، وأنه يجب ألا يتولى أمر بيع النساء إلا من اتصف بالدين والأمانة، فهو الذي يشرف على أسواق بيعهن. ثم إنه يجب التوقف عن بيع النساء في جميع من يغنمن منهن، حتى يخاطب بأصل أمرهن وكيفيته، ليرسم لهم فيها ما يجب اتباعه. 6 - ويحض الخليفة على مطاردة الخمر، والاجتهاد في إراقتها وكسر دنانها، واختيار الأمناء الذين يسهرون على ذلك، وتعهدهم لمواضع " الرُّب " واعتصاره، وأن لا يبيحوا من ذلك إلا ما تجوز إباحته شرعاً. 7 - وأنه قد ذكر له أن الراقصين (الرسل) الذين يردون بالكتب. ويصدرون، يأخذون الناس بالنظر في كلفهم، ويلزمونهم بزادهم وعلفهم في كل موضع، ويحلون بأفنية الناس حلولا شنيعاً، ويتحكمون عليهم بحكم المغرم، ويطلب إليهم المسارعة في قطع تلك العادة الذميمة، وتزويد الرسل بما يقوم بأودهم في المجىء والانصراف، ويقطع شأنهم من التكليف والإلحاف، وتحذيرهم من تكليف أحد من الناس بأي شىء. 8 - وأنه قد ذكر له ما يقع من التحكم في الأموال، وعدم المبالاة بالتفريق فيها بين الحرام والحلال، وأن هناك من يفعلون بأموال الناس ما تقدم، وتمتد أيديهم إلى المخازن فيعيثون بها، ويجرؤون في التعدي عليها، ويطلب إليهم أن يتقوا الله في أموال " المخزن " ووجوب السهر على صونها، وحمايتها من التعدي عليها، إذ هي أموال الله المخزونة في أرضه، وأنه يجب عليهم ألا ينفذوا منها قليلا ولا كثيراً إلا بعد استئذانه وتعريفه. 9 - هذا، وأنه يجب عليهم اتباع كل ما جاء في هذا الكتاب بدقة وأن يجمعوا لقراءاته والاطلاع عليه سائر الطلبة والعمال، وكافة المقدمين للأعمال، وأن تكتب منه نسخ لكل قبيلة من قبائل أقطار الموحدين، وكل كورة من الكور، وينذر من لم يتبع ما جاء فيه بشر العقاب. ويختتم الخليفة كتابه بقوله، إنه لا غرض له إلا أن يحقق دعة المسلمين وأمانهم، وأنه يجب أن يعلموا أن الموحدين، مسئولون عن هذه الرعاية، وأنهم يجب أن

يكونوا إخواناً فضلاء، لعباد الله، وأن يعاملوا الناس بالحسنى، وأن يغدقوا عليهم المبرات، وأن هذا هو واجبهم، وأن هذه نصيحته، فليقبلوها. وأنه كان مما دعاه إلى تنبيههم وتذكيرهم بما تقدم، ما وجده بحضرة مراكش من تلك الأنواع التي أحدثها أهل الابتداع مثل القبالة وما يجري مجراها، وأنه لم يكن يدور بخلده أن يسلك أحد مثل هذا المسلك، وأنه أنكر ما وجده منه، وقام بإزالة ما يحظره الشرع (¬1). وقد لبث عبد المؤمن بالرغم من غلبة الحرب والجهاد على حياته، محتفظاً بسمته وخلاله العلمية. كان عبد المؤمن فقيهاً بارعاً حافظاً للسنة، وعالماً متمكناً من علوم الدين، ولاسيما علم الأصول الذي تلقاه عن المهدي ابن تومرت، وكان يقوم بإملاء علوم المهدي وقراءة العقائد، وكتاب الموطأ، وكان محباً للعلماء مؤثراً لهم، مقبلا على مجالستهم، محسناً إليهم، يستدعيهم من سائر البلاد ليسكنوا بالحضرة إلى جواره، ولينتظموا في مجلسه، ويجري عليهم الأرزاق السخية، ويعظم من شأنهم ومكانتهم. وكان في الوقت نفسه يعني أشد العناية بأمر الطلبة والحفاظ، ويقسمهم إلى طائفتين، طلبة الموحدين، وطلبة الحضر، والطائفة الأولى هي طلبة المصامدة، بعد أن سمى المهدي المصامدة بالموحدين، لخوضهم في علم الأصول، الذي لم يكن أحد من أهل هذه الأنحاء يخوض فيه (¬2). واستقدم عبد المؤمن في نفس الوقت صغار الصبيان النجباء من مختلف قواعد المغرب، والأندلس، من إشبيلية وقرطبة وفاس وتلمسان وغيرها - إلى حضرته، وكان منهم من إشبيلية وحدها خمسون صبياً، حضروا إلى مراكش مع أستاذيهم أبى الحسن وأبى بكر الحصار، وعنى الخليفة بأمر هؤلاء التلاميذ الصغار أتم عناية، وأنزلهم أكرم منزل، وأمر بأن يحفظوا القرآن، وكتب التوحيد وموطأ المهدي وصحيح مسلم وغيرها (¬3). وعنى عبد المؤمن بأمر الحفاظ أشد عناية، وأمر بأن يحفظوا كتابي الموطأ، وأعز ما يطلب، وغيرهما من آثار المهدي، وكان يستدعيهم في كل يوم جمعة إلى داخل القصر، وهم نحو ثلاثة آلاف حافظ، ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن القطان نص هذه الرسالة كاملا في " نظم الجمان " وهي تقع في عدة صفحات (المخطوط لوحة 56 ب إلى 65 أ). وسوف ننشرها في باب الوثائق. (¬2) المراكشي في المعجب ص 112، وروض القرطاس ص 133. (¬3) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 53 أ).

فيوجههم إلى ما يبغيه من سرعة الحفظ والتدريب، فيأخذهم يوماً بتعلم الركوب، ويوماً بالرمي بالقسى، ويوماً بالسباحة في بحيرة أنشأها لهم خارج بستانه، في مربع ضلعه نحو ثلاثمائة ذراع، ويوماً بالتدرب على إصابة الهدف، على قوار وخوازيق صنعها لهم بتلك البحيرة، وذلك لكي يجعل منهم رجالا مثقفين، مدربين مقتدرين. وكانت نفقتهم وسائر مؤنهم وخيلهم، وعُددهم، كلها من عنده. وفضلا عن ذلك، فقد قرر عبد المؤمن، بموافقة أشياخ الموحدين، أن يدفع لكل طالب من هؤلاء قرضاً يتجر به إسعافاً لهم، وصرف لكل منهم من مال المخزن قرضاً قدره ألف دينار، فتاجروا وأثروا، ولم يسترد منهم هذا القرض قط (¬1). ولما كمل تدريبهم، وأصبحوا طائفة يعتمد على علمها ودربتها وخبرتها، ندبهم لمختلف الأعمال والرياسة بدلا من أشياخ الموحدين، وقال لهم إن العلماء أولى منكم، واستبقى الأشياخ لمشورته (¬2). وقد رأينا فيما تقدم كيف ندب كثير من أولئك الحفاظ لأعمال الإدارة والرياسة، في كثير من القواعد الأندلسية المفتوحة، وهم سوف يشغلون من الآن فصاعداً حيزاً كبيراً، في أعمال الولاية والرياسة، في أنحاء الدولة الموحدية. وكان عبد المؤمن فوق ذلك، كاتباً بليغاً، وأديباً ضليعاً، إماماً في النحو واللغة، حافظاً للتاريخ وأيام الناس، وشاعراً ينظم الشعر الجيد، وقد أورد لنا صاحب روض القرطاس له مطارحة شعرية مع وزيره ابن عطية (¬3)، وذكر صاحب الحلل الموشية، أن عبد المؤمن حينما هنأه أبو عبد الله الجياني يوم انتصاره على المرابطين بفحص مراكش بقصيدة أولها: أضاءت لنا الأيام واتصل النجح ... وكانت وجوه الدهر مسودة كلح أجابه عبد المؤمن بقوله: هو الفتح لا يجلو غرائبه الشرح ... أصاب بني التجسيم من بأسه طرح أتتنا به البشرى على حين غفلة ... بمهلك قوم كان وعدهم الصبح وكان ممن وفد على عبد المؤمن من أدباء العصر وشعرائه، أبو العباس أحمد ¬_______ (¬1) ابن القطان في نظم الجمان (المخطوط لوحة 52 ب). (¬2) الحلل الموشية ص 114. (¬3) روض القرطاس ص 133.

ابن عبد السلام الجراوي الشاعر، وهو ينتمي إلى قبيلة جَراوة البربرية، التي توجد منازلها على مقربة من مليلة، وكان أديباً بارعاً وشاعراً جزلا فحظى لديه، ثم لدى أولاده من بعده، وغدا شاعر البلاط الموحدي الأثير، وظهر بمدائحه للخلفاء المتعاقبين حتى عهد الناصر، وألف للخليفة المنصور كتابه " صفوة الأدب " حسبما نذكر بعد. ووجه أبو عبد الرحمن بن طاهر صاحب مرسية المخلوع إلى عبد المؤمن رسالته الشهيرة " الكافية " في إثبات أمر المهدي بالدليل والبرهان في صورة مناقشة بين النفس المطمئنة، والنفس الأمارة بالسوء. وقد أورد لنا ابن القطان نص هذه الرسالة، وسوف نعود إلى ذكرها. وكان عبد المؤمن شديداً صارماً، في تطبيق أحكام الدين، ولاسيما في تأدية الصلاة في أوقاتها، وفي إيتاء الزكاة، وتحريم الخمر، وإقامة الحد على شاربها، وكان يذهب في صرامته إلى قتل تارك الصلاة أو شارب الخمر، وكان فوق ذلك ورعاً، كثير التلاوة والخشوع. وكان متزمتاً صارماً في سياسته نحو النصارى واليهود. ونحن نعرف أن الدولة الموحدية قامت على أسس دينية خالصة، وكان من الطبيعي، وهي تحارب خصومها من المسلمين الخارجين على عقيدة التوحيد، أن تكون شديدة الوطأة على النصارى واليهود. ولما توطدت الدولة الموحدية بالمغرب، وبسطت سيادتها على معظم قواعد الأندلس، أصدر عبد المؤمن قراراً بوجوب خروج النصارى واليهود من أراضي الدولة الموحدية، وحدد لهم فيه أجلا لمغادرة البلاد، إلا من أسلم منهم، فهؤلاء يصبحون رعايا، لهم ما للمسلمين الخلص وعليهم ما عليهم، ومن بقي من النصارى أو اليهود بعد الأجل المضروب ولم يعتنق الإسلام، فقد حل دمه وماله. وكان من جراء هذا القرار أن غادر المغرب والأندلس كثير من النصارى واليهود المخفِّين أي الذين لا تثقلهم أعباء الأسرة والأعمال، وبقي منهم من ثقلت أعباؤه، وتظاهروا باعتناق الإسلام إنقاذاً لأنفسهم وأموالهم، ومما يذكر أنه كان بين هؤلاء العلامة الفيلسوف والطبيب اليهودي الكبير موسى بن ميمون، وكان من أهل قرطبة، فتظاهر عند صدور القرار باعتناق الإسلام، والقيام بأداء شعائره، حتى مكنته الفرصة من مغادرة الأندلس مع أهله، فقصد إلى مصر،

وخدم في بلاطها، وعين طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين، وتوفي بالقاهرة سنة 602 هـ (1205 م) (¬1). وكان عبد المؤمن بالرغم من نشأته وسمته الفقهية المتواضعة، رئيساً وافر الهيبة والجلال، وهو ما يشير إليه المراكشي في قوله: "كان عبد المؤمن في نفسه سري الهمة، نزيه النفس، شديد الملوكية، وكأنه كان ورثها كابراً عن كابر، لا يرضى إلا بمعالي الأمور " (¬2). * * * ولكن عبد المؤمن كان إلى جانب هذه الخلال البديعة كلها، يتسم بالقسوة وسفك الدماء. وهذا ما ينوه به مؤرخ ناقد مثل ابن الأثير، إذ يقول لنا: إن عبد المؤمن كان كثير السفك لدماء المسلمين على الذنب الصغير (¬3). وقد سبق أن أشرنا إلى هذه الصفة القاتمة من صفات عبد المؤمن، وسردنا خلال استعراضنا لمراحل حياته، كثيراً من الحوادث الدموية التي سالت فيها الدماء غزيرة على يديه، وقد كان أروع ما وقع منها حادثة الاعتراف الشهيرة، التي تم فيها تطهير القبائل، وفقاً لجرائد أعدها عبد المؤمن بنفسه، وتضمنت ألوفاً مؤلفة من الضحايا، التي أعدمت تنفيذاً لأوامره (سنة 554 هـ). وقد سبق أن علقنا على هذه الحادثة وأمثالها، من الصفحات الدموية، التي توالت في عهد عبد المؤمن وعلى يديه. ونود أن نضيف هنا، أن هذه الظاهرة الدموية، كانت أصلا راسخاً من أصول الدعوة المهدية، وأن المهدي ابن تومرت، كان من أشد الدعاة دعوة إلى سفك دماء خصومه، وقد أبدى في تطبيقها قسوة تدنو إلى الوحشية. ومن وجهة أخرى فإنه يمكن القول بأن سفك الدماء وسيلة مأثورة من وسائل تدعيم الطغيان، يلجأ إليها الطغاة في كل عصر، وكل قطر، وقد كان عبد المؤمن طاغية من أعظم طغاة العصور الوسطى، فليس بمستغرب أن يكون القتل الذريع وسيلة لتأييد سلطانه المطلق، وإن يكن قد ذهب في ذلك إلى حدود مثيرة مروعة. * * * ¬_______ (¬1) القفطي في إخبار العلماء بأخبار الحكماء في ترجمة موسى بن ميمون (القاهرة 1326 هـ) ص 209. (¬2) راجع المعجب ص 112. (¬3) ابن الأثير ج 11 ص 109.

وقد اعتمد عبد المؤمن في تنظيم دولته، وتسيير حكومته، وقيادة عسكره، على طائفة مختلطة من الكتاب والقادة من مختلف القبائل، وأهل المغرب والأندلس. وقد كان من الواضح أن أصحاب المهدي وأشياخ الموحدين من المصامدة، وغيرهم من القبائل البدائية الموالية، وإن كان يمكن الاعتماد عليهم في شئون الدعوة وفي بعض القيادات العسكرية، فإنه لا يمكن أن يعتمد عليهم وحدهم في بناء الدولة الموحدية، وتوطيد قواعدها. ومن ثم فإن عبد المؤمن لم يتردد في أن يستخدم في حكومته وفي قيادته، كثيراً من أولياء الدولة المرابطية السابقة من لمتونة ومسّوفة، ومن أهل الأندلس، مثل على بن عيسى بن ميمون قائد الأسطول المرابطي السابق، وبرّاز بن محمد المسّوفي، وقد كان من أبرز القادة المرابطين، ومثل الكاتب أبى جعفر بن عطية وأخيه عقيل بن عطية، وقد كانا من كتاب الدولة اللمتونية، وميمون الهواري. واستخدم عبد المؤمن من أهل الأندلس لكتابته أخيل بن إدريس الرُّندي صاحب رندة السابق، وقد كان أيضاً من كتاب الدولة اللمتونية، وأبا الحسن بن عياش القرطبي، وأبا بكر بن ميمون القرطبي، والخطيب أبا الحسن بن الإشبيلي، وصاحبه الخطيب أبا محمد عبد الله بن جبل. وقد كان الاعتماد على معاونة الوزراء والكتاب الأندلسيين، في بلاط مراكش، مبدأ مقرراً منذ أوائل الدولة المرابطية، وذلك لما كانوا يمتازون به في هذا الميدان من المواهب والصفات المصقولة، ولما كان لأعمال الوزارة وشئون الكتابة بالأندلس من التقاليد الجليلة الراسخة، والأساليب المشرقة العالية. وسوف نرى فيما بعد، كيف يمثل أقطاب الكتاب والعلماء والمفكرين بالأندلس، بقية القرن السادس الهجري، بين وزراء الدولة الموحدية وكتابها البارزين. وقد وزر لعبد المؤمن الكاتب أبو جعفر بن عطية، ثم أبو محمد عبد السلام ابن محمد الكومي، ثم ولده السيد أبو حفص، ومعاونه أبو العلا إدريس ابن ابراهيم بن جامع، وهو الذي تولى الوزارة بعد وفاته، لولده الخليفة الجديد أبى يعقوب يوسف. وتولى القضاء في عهده، صهره أبو عمران موسى بن سليمان الضرير من أهل تينملل ومن أصحاب خمسين، وأبو الحجاج يوسف بن عمر. وعنى عبد المؤمن بالشئون المالية بنوع خاص، ولقي في تنظيمها صعاباً ومتاعب. وكانت مسألة الفروض أو " الجبايات " التي يتكون منها دخل الحكومة

الموحدية من المسائل الدقيقة، التي واجهت عبد المؤمن. وقد كانت مسألة المكوس والمغارم التي تفرضها الدولة المرابطية على رعاياها، من المسائل التي شهر بها المهدي ابن تومرت، وعددها بين مثالب المرابطين، باعتبارها مغارم غير شرعية يحرمها الكتاب والسنة. وكانت الدولة الموحدية في البداية تحرص على ألا تحيد عن تطبيق هذا المبدأ في فرض الجبايات، وتلغى سائر المغارم المحرمة، وتكتفي بتحصيل الزكاة والأعشار، وهذا ما يسجله الخليفة عبد المؤمن في رسالته التي بعث بها عقب فتح بجاية سنة 547 هـ، إلى أهل قسنطينة، يدعوهم إلى الطاعة، ويذكرهم بما هو مفروض عليهم منذ أيام " أهل الاختلاق والابتداع " من " القبالات والمكوس والمغارم وسائر تلك الأنواع "، وأن الله قد أراح الناس بالتوحيد، من تلك المغارم، وأنه سوف لا يطلب إليهم إلا ما أوجب الله، وما توجبه السنة من " الزكوات، والأعشار " (¬1). وقد كان ما استولى عليه الموحدون من ثروات الدولة المرابطية وذخائرها، في المغرب والأندلس، وما كانوا يحصلونه من غنائم خصومهم المهزومين، يكفي في البداية لمواجهة نفقات الحرب والإدارة. بيد أنه لما اتسع نطاق الغزوات والفتوحات في المغرب والأندلس، وتضاعف عدد الجيوش الموحدية الغازية، اضطر عبد المؤمن إلى التماس مصادر أخرى للنفقة، فكان مما استحدثه، ما نقله إلينا صاحب روض القرطاس، من أنه أمر بمسح بلاد إفريقية والمغرب من برقة، إلى السوس الأقصى، بالفراسخ، والأميال، طولا وعرضاً، وأسقط من هذه المساحة مقدار الثلث مقابل الجبال والأنهار والطرقات وغيرها من التوالف، وما بقي فرض عليه الخراج، وألزمت كل قبيلة بأن تؤدي قسطها من الزرع والمال، وهكذا تحررت السياسة المالية الموحدية، من الجمود الذي فرضته عليها تعاليم المهدي، ولتتطور مع مقتضيات ما تحتاج إليه الدولة من ضروب النفقة العسكرية والإدارية. * * * وترك عبد المؤمن من الولد ستة عشر من البنين، وهم أبو يعقوب يوسف الخليفة من بعده، وأبو حفص عمر، وأبو عبد الله محمد المخلوع من ولاية العهد، وأبو محمد عبد الله والي بجاية، وأبو سعيد عثمان والي غرناطة وقرطبة، وأبو علي الحسن، وأبو علي الحسين، وأبو الربيع سليمان، وأبو زكريا يحيى، ¬_______ (¬1) مجموعة الرسائل الموحدية - الرسالة السادسة - ص 21 و 22.

وأبو إبراهيم اسماعيل، وأبو إسحق إبراهيم، وأبو يوسف يعقوب، وأبو زيد عبد الرحمن، وأبو سليمان داود، وأبو موسى عيسى، وأبو العباس أحمد، وترك من البنات اثنتين هما صفية وعائشة (¬1). هذا ولدينا عن أوصاف شخص عبد المؤمن، فقرتان، نقل إلينا أولاهما، ابن خلكان عن مؤلف في سيرة عبد المؤمن، وفيها أن عبد المؤمن، " كان شيخاً معتدل القامة، عظيم الهامة أشهل العينين، كث اللحية، شثن الكفين، طويل القعدة، واضح بياض الأسنان، بخده الأيمن خال " (¬2). ويقول في الثانية صاحب روض القرطاس: " كان أبيض اللون مشرباً بحمرة، أكحل العينين، أجعد، تام القد، له وفرة تبلغ شمة أذنه، أزج الحاجبين، ملائم الأنف، عريضه، مستدير اللحية " (¬3). ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 42 ب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 56. (¬2) ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 1 ص 391. (¬3) روض القرطاس ص 133.

الكتاب الرابع نظم الدولة المرابطية وخواص العهد المرابطى

الكتابُ الرابع نظم الدّولة المرابطيّة وخواصّ العهْد المرابطيّ

الفصل الأول طبيعة الحكم المرابطى وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية

الفصل الأوّل طبيعة الحكم المرابطي وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية الطابع الديني للدولة المرابطية. استئثار الفقهاء بالنفوذ. ما ترتب على ذلك من الفساد. ضعف الفقهاء وانصرافهم إلى علم الفروع. الطابع العسكري للدولة المرابطية. نزعتها إلى الجهاد. تضاؤل منعتها العسكرية. الدولة المرابطية إمارة ملكية. طابعها الملك الوراثي. عمالات المغرب والأندلس في عهد المرابطين. قرطبة مركز الحكم المرابطي. ولايات الأندلس لذوي القربى. تولى الأندلسيين لمناصب القضاء. القضاة زعماء الثورة فيما بعد. استئثارهم بمناصب الكتابة. لمتونة وشجاعتها في القتال. الجيش عماد الدولة المرابطية. تنظيمه وتكوينه. النصارى المرتزقة. ترتيب المعركة عند المرابطين. القوات الأندلسية. النزعة الجهادية وتضاءلها. الجيش المرابطي بالأندلس. الأساطيل المرابطية. السياسة المالية ونظم الجباية. الضغط على اليهود. التوسع في الجبايات والقبالات أيام علي. الدولة المرابطية ووسائلها في الحكم. حملة العلامة دوزي على المرابطين. ما يطبع هذه الحملة من تحامل. رأى العلامة كوديرا. أقوال المراكشي. قول في مديح المرابطين وعهدهم. شرح لأسباب هذه الحملة ضد المرابطين. الفتح المرابطي الأندلسي وما تخلله من فظائع. قسوة أمير المسلمين نحو المعتمد. مطاردة كتب الدين والفلسفة. حملة المهدي ابن تومرت. فضل المرابطين في الجهاد وإنقاذ الأندلس. تقاعسهم في حرب الإسترداد. مسئوليتهم في سقوط سرقسطة. حكم المرابطين للأندلس. طابعه العسكري الخشن. وثائق رسمية تؤيد اهتمام علي بن يوسف بشئون الأندلس والذود عنها. توصياته بشأن الحكم. اهتمامه بتجنب الاستبداد، واتباع الرفق والعدل. اهتمامه بأمر القضاء. توصيته بحسن اختيار القضاة. حجر المرابطين على حرية الفكر. مطاردتهم لكتب الأصول وكتب الغزالي. إصرارهم على هذه المطاردة حتى أواخر عهدهم. مطاردتهم لكتب الكلام والفلسفة. عيث الجند والعبيد المرابطين. ملاحظات ابن عبدون على ذلك. اشتداد وطأة الحكم المرابطي وأسباب ذلك. الحكم على العصر المرابطي والمبالغة في ذلك. تعليق الأستاذ كوديرا. أحوال الشعب في ظل الحكم المرابطي. الأمة الأندلسية وتحريرها من مظالم الجباية. تمتعها بنوع من الاستقرار والرخاء. وحدة المغرب واستقراره. ما شمله من تعمير ورخاء. الاضطراب والفوضى منذ حركة المهدي. كان مصرع الدولة المرابطية، حادثاً من أهم الحوادث، الحاسمة في تاريخ المغرب والأندلس، وكان نتيجة لعوامل عديدة، عسكرية وسياسية واجتماعية. وسوف نحاول في هذا الفصل، أن نستعرض هذه العوامل، التي أدت إلى سقوط هذه الدولة العظيمة الشامخة، التي شادتها عبقرية يوسف بن تاشفين، وهي ما تزال في عنفوان فتوتها، ولما يمض على قيامها وتوطدها أكثر من نصف قرن،

وأن نستعرض في نفس الوقت، طرفاً من المبادىء والنظم التي سار عليها بنو تاشفين في حكم إمبراطوريتهم العظيمة بالمغرب والأندلس، ومن الظروف والأحوال الحضارية التي عاشت في ظلها. قامت الدولة المرابطية، حسبما رأينا على أساس من العقيدة الدينية، وكان منشؤها الروحي فقيه متعصب، هو عبد الله بن ياسين الجزولي. واحتفظت بهذا الطابع الديني معظم حياتها، وكان يتخذ منذ البداية صورته العملية، في سيطرة الفقهاء على شئون الدولة وتوجيهها، وفي اتجاه الجيوش المرابطية، في المراحل الأولى من حياة الدولة إلى أعمال الجهاد، سواء في المغرب أو الأندلس. وكان نفوذ الفقهاء في تسيير الدولة المرابطية، يتخذ أيام يوسف بن تاشفين، صورة الشورى، فكان العاهل المغربي يستفتيهم في الخطير من الأمور، لا استفتاء المستسلم الخانع، ولكن استفتاء الحذر المستنير، الذي يحاول أن يطمئن على سلامة تصرفاته، وأن يلتمس لها السند الشرعي. ولكن هذا النفوذ لم يلبث أن غدا في عهد ولده علي، نوعاً من الدكتاتورية الدينية (ثيوقراطية). ولم يكن لعلي بن يوسف، بالرغم من ذكائه وجميل صفاته، وبالرغم من ورعه وتقواه، من العزم والحزم، ما يكفي لمغالبة هذا النفوذ الجارف. وهذا ما يصوره لنا المراكشي، عند حديثه عن علي بن يوسف، في تلك الفترة التي تبرز لنا روح الحكم المرابطي على حقيقتها: " وكان (أي علي بن يوسف) حسن السيرة، جيد الطوية، نزيه النفس، بعيداً عن الظلم، كان إلى أن يعد في الزهاد والمتبتلين، أقرب منه إلى أن يعد في الملوك والمتغلبين. واشتد إيثاره لأهل الفقه والدين، وكان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى أحداً من قضاته، كان فيما يعهد إليه ألا يقطع أمراً، ولا يبت حكمه في صغير من الأمور ولا كبير، إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغاً عظيماً، لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس. ولم يزل الفقهاء على ذلك، وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها، موقوفة عليهم، طول مدته. فعظم أمر الفقهاء كما ذكرنا، وانصرفت وجوه الناس إليهم، فكثرت لذلك أموالهم واتسعت مكاسبهم ". وفي ذلك أيضاً يقول شاعر من شعراء العصر، هو أبو جعفر أحمد بن محمد المعروف بابن البني، من أهل مدينة جيّان:

أهل الرياء لبستموا ناموسكم ... كالذئب أولج في الظلام العاتم فملكتموا الدنيا بمذهب مالك ... وقسمتموا الأموال بابن القاسم وركبتموا شهب الدواب بأشهب ... وبأصبغ صبغت لكم في العالم (¬1) كانت هذه الثيوقراطية أو الدكتاتورية الدينية، وما ترتب عليها من مثالب وأهواء لا مفر منها، أهم عامل في ضعف الحكم المرابطي وفساده، وكان من جراء ذلك أن تحولت المزية الرئيسية، لصفة الدولة المرابطية، وهي الأساس الديني المغرق، إلى عنصر من عناصر الانحلال الخطر، واستحالت فضائل التقى والزهد والورع، لدى الأمير، إلى نوع من الخضوع الأعمى، لطائفة لا تُؤمَن مطامعها وأهوائها، هي طائفة الفقهاء، الذين غدوا يسيطرون على الأمير، ويحكمون الدولة، لا من وراء ستار فقط، ولكن كذلك في نوع من الجهر، وفقاً لهذه المطامع والأهواء. أضف إلى ذلك أن هذه الطائفة كانت إلى جانب هذا الاستغلال لنفوذها الديني، تتسم خلال العهد المرابطي بالقصور وضيق الأفق، ولم تكن في شىء من ذلك التعمق العلمي، الذي كان يمتاز به جيل الفقهاء القدامى، أيام الدولة الأموية، في دراسة الشريعة وأصول الدين، وذلك حينما كان فقهاء أقطاب مثل عيسى بن دينار، ويحيى بن يحيى، وعبد الله ابن حبيب، وبقي بن مخلد، يتبوأون ذورة النفوذ العلمي، ولكن يقف نفوذهم عند حدود الفتيا والشورى ومزاولة القضاء. بل كان الفقهاء أيام الدولة المرابطية، يقتصرون حسبما أشرنا من قبل على دراسة علم الفروع من العبادات والمعاملات والحدود والأقضية، وعلى مذهب مالك دون غيره. وهذا ما ينوه به المراكشي في قوله: " لم يكن يقرب من أمير المسلمين، ويحظى عنده، إلا من علم علم الفروع أعني فروع مذهب مالك، فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعمل بمقتضاه، ونبذ ما سواها، وكثر ذلك حتى نسى النظر في كتاب الله وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بها كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل من ظهر منه الخوض في شىء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين، تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجرهم من ظهر عليه شىء منه، وأنه بدعة في الدين " (¬2). وقد ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 95. (¬2) المراكشي في المعجب ص 96.

ترتب على ذلك ما عمدت إليه الدولة المرابطية بإيعاز فقهائها، من مطاردة العلماء الذين يعنون بعلم الكلام والأصول، ومطاردة الكتب المتعلقة بذلك، وفي مقدمتها كتب الغزالي، وجاء ابن تومرت فاتخذه أيضاً مادة لدعايته الدينية ضد الدولة المرابطية، حسبما فصلنا من قبل في موضعه. إلى جانب هذا العامل الخطير في تصدع أسس الدولة المرابطية، كان ثمة عامل آخر، يحدث أثره السيىء في تحطيم قواها المادية والأدبية، هو انهيار منعتها العسكرية. ذلك أن الدولة المرابطية نشأت في مهاد التقشف والبداوة، واستمدت من بداوتها ومن حماستها الدينية، صلابتها الحربية، وكانت هذه المَنَعة التي تمتاز بها جيوش لمتونة وزميلاتها من القبائل المختلفة، تذكيها وتضاعفها، نزعة الجهاد في سبيل الله. وفي ظل هذه النزعة الجهادية استطاع المرابطون عند مطلع نهضتهم في مشارف الصحراء الكبرى، أن ينشروا بجهادهم وغزواتهم المستمرة تعاليم الإسلام، في غانة ومالي وموريتانيا. ولما عبرت الجيوش المرابطية إلى شبه الجزيرة لتنقذ الأندلس مما يتهددها من خطر الفناء، على يد اسبانيا النصرانية، كانت هذه النزعة إلى الجهاد، أخص ما يميزها، إلى جانب ما اشتهرت به من المنعة والبسالة. وحتى بعد أن تحولت الجيوش المرابطية، من مهمتها في إنجاد الأندلس، إلى جيوش غازية، وأصبحت الأندلس جزءاً من الدولة المرابطية الكبرى، فإن هذه النزعة إلى الجهاد في سبيل الله، لبثت حيناً آخر شعار الجيوش المرابطية في شبه الجزيرة، فكانت موقعة أقليش، وكانت موقعة إفراغة، وكانت ثمة مواقع محلية أخرى، ظهرت فيها الجيوش المرابطية، ببسالتها، وتفانيها في الجهاد في سبيل الله. بيد أنه سرعان ما خبت هذه الروح، وخصوصاً بعد أن اختفى من الميدان أقطاب القادة المرابطين، الذين امتازوا بالجرأة والشجاعة والبراعة العسكرية، أمثال سير بن أبى بكر اللمتوني، وأبى محمد مزدلي، ومحمد بن الحاج، ومحمد ابن فاطمة، وسرعان ما تأثر الأمراء والقادة المرابطون، بما انغمسوا فيه من ثروات الأندلس، ونعمائها، وحياتها المرفهة، وتأثر الجند المرابطون، أبناء الصحراء والقفر، بحياتهم الجديدة الرغدة، في هذه القواعد العظيمة، والوديان النضرة، والعيش الرخص، وفت ذلك في مقدرة الجيوش المرابطية، ومنعتها القديمة، وأضحت عاجزة عن أن تقوم بمهمتها الأساسية في حماية الأندلس، ورد عادية

النصارى عنها، كما غدت في نفس الوقت عاجزة عن أن تعمل على توطيد سلطان الدولة المرابطية وهيبتها، بين شعب أضحى يتبرم بحكمها، ويتمنى زوال نيرها، بعد أن ثقلت وطأته، وكثرت مثالبه. وقد كان هذا عاملا له خطره في تحطيم هيبة الدولة المرابطية وسيادتها بالأندلس. - 1 - كانت الدولة المرابطية أو الدولة اللمتونية في عهدها الأول، حينما انتهى يوسف بن تاشفين من إنشائها، وتوطيد قواعدها، وتخطيط عاصمتها مراكش، إمارة يتسمى منشؤها بالأمير. وعقب انتصار الزلاّقة، تسمى يوسف " بأمير المسلمين وناصر الدين " وهو اللقب الذي أصبح من بعده لقباً لملوك لمتونة، وهذا إلى اعتراف العاهل المرابطي بطاعة الخليفة العباسي. وهو إجراء لم يتعد الحدود الشكلية، من الدعوة للخليفة العباسي في الخطبة مع الأمير، وذكر اسمه في السّكة. ثم غدت الدولة المرابطية، مملكة وراثية، منذ اختار يوسف ولده علياً لولاية عهده في سنة 496 هـ (1102 م)، وحذا حذوه في ذلك على، فاختار ولده تاشفين لولاية عهده في سنة 533 هـ (1138 م). واختار تاشفين ولده إبراهيم لولاية عهده في سنة 539 هـ (1145 م)، وهو في وهران يخوض مع الموحدين آخر المعارك الحاسمة، وقد شاء القدر أن يكون إبراهيم خاتمة ملوك الدولة المرابطية. ولم يكن العاهل المرابطي، يتقيد في هذا الاختيار لولاية العهد، بشروط وتقاليد معينة، ولم يكن يؤثر به الابن البكر، وإنما كان يجري وفقاً لمشيئة الملك القائم، فيختار من ولده من يراه أهلا لخلافته. وكانت ولاية الأندلس، وقيادة الجيوش المرابطية بها، تمنحان للابن البكر، إذا نحى عن ولاية العهد، وذلك حسبما حدث في شأن الأمير أبى الطاهر تميم ولد يوسف الأكبر، حينما انتخب أخوه الأصغر على لولاية العهد، فقد لبث والياً للأندلس وقائداً عاماً للجيوش المرابطية بها حتى وفاته في سنة 520 هـ، وخلفه في منصبه الأمير تاشفين بن علي، في الوقت الذي كان فيه أخوه الأكبر سير بن علي يتشح بولاية العهد، فلما توفي سير في سنة 533 هـ، استدعى تاشفين من الأندلس، ومنح ولاية العهد،

وكانت عمالات المغرب أو ولاياته، وهي نحو ثمانية، مراكش ويتبعها أغمات وبلاد السوس وسائر بلاد المصامدة، وفاس، وسجلماسة ودرعة، ومكناسة، وبلاد فازاز، وتلمسان، وطنجة، وسبتة، تخصص، لأبناء الأمير وقرابته. وقد بدأ يوسف بن تاشفين في ذلك بتقسيم عمالات المغرب على " بنيه وأمراء قومه وذويه " (¬1). أما الأندلس فكانت تنقسم في عهد الدولة المرابطية، إلى خمس ولايات، هي إشبيلية وغرناطة وقرطبة وبلنسية ومرسية. وكانت سرقسطة قبل سقوطها في أيدي النصارى في سنة 512 هـ (1118 م) تعتبر ولاية سادسة. واتخذ المرابطون في البداية قرطبة مركزاً لحكومتهم بالأندلس، وفيها أصدر يوسف بن تاشفين عهده بولاية عهده لولده علي. ولما تولى علي الملك، أمر بنقل قاعدة الحكم إلى غرناطة، فلبثت كذلك حتى سنة 526 هـ، وفي هذا العام عين أمير المسلمين علي بن يوسف، ولده الأمير تاشفين والياً لقرطبة، وأمره أن يجعل منها " داره وسكناه ومقر مثواه ". وهكذا غدت قرطبة مركز الحكم المرابطي مرة أخرى، واستمرت كذلك حتى سنة 539 هـ (1144 م)، وهي السنة التي اضطرمت فيها قواعد الأندلس، ومنها قرطبة، بالثورة على المرابطين، وكان والى الأندلس يومئذ الأمير أبو زكريا يحيى بن غانية، آخر ولاتها المرابطين. وكانت مناصب الولاية المحلية بالأندلس، وقفاً على الأمراء والقادة المرابطين ولاسيما ذوى القربى منهم، وقد ذكرنا فيما تقدم أسماء عدد عديد من هؤلاء الأمراء والقادة، الذين تولوا حكم القواعد الأندلسية، منذ الأعوام الأخيرة من حكم يوسف بن تاشفين، حتى نهاية العهد المرابطي، وكان في مقدمة هؤلاء بعض أقطاب القادة المرابطين الأوائل، مثل الأمير سير بن أبى بكر اللمتوني فاتح إشبيلية ثم واليها، ومحمد بن الحاج والي بلنسية، ثم سرقسطة، ومن بعده يحيى بن غانية، والأمير أبو محمد مزدلي والي قرطبة وهو من أبناء عمومة يوسف، وولداه محمد وعبد الله، والامير محمد بن عائشة ولد يوسف، ومحمد بن فاطمة والي إشبيلية، وعبد الله بن تينغمر والي قرطبة، وهو ابن أخت علي بن يوسف، والأمير إبراهيم والى إشبيلية، وهو أخو علي بن يوسف، وأبو بكر بن علي بن يوسف، وقد ولي أيضاً إشبيلية وغيرهم. أما مناصب ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 91، وابن خلدون ج 6 ص 185.

القضاء في القواعد الكبرى، فقد تركها المرابطون للأندلسيين، وذلك لسبب واضح، هو أنه لم يكن بين العلماء المرابطين، من يستطيع الاضطلاع بهذه المناصب، في بلد كالأندلس، امتاز قضاته بغزير علمهم، وقد كان أولئك القضاة الأندلسيون يتمتعون لدى العاهل المرابطي، بكثير من النفوذ، ولهم كلمة مسموعة في كثير من الشئون الهامة، وكانوا في نفس الوقت رسله لتدعيم هيبته ونفوذه، لدى الشعب الأندلسي، وكان من أبرز نماذج أولئك القضاة رجال مثل أبى الوليد بن رشد، وأبى القاسم بن حمدين، وقد تولى كلاهما قضاء قرطبة. وقد رأينا فيما تقدم، كيف أخذ بفتوى القاضي أبى القاسم ابن حمدين في حرق كتاب الإحياء للإمام الغزالي (سنة 503 هـ)، وكيف استطاع القاضي ابن رشد، أن يقنع أمير المسلمين علي بن يوسف بتغريب النصارى المعاهدين (520 هـ). ثم كان أولئك القضاة فيما بعد، حينما اضطربت شئون الدولة المرابطية، هم قادة الثورة ضد المرابطين في مختلف القواعد، وهم الذين تولوا حكم المدن الثائرة، حتى مقدم الموحدين. ونود أن نلفت النظر هنا إلى تلك الظاهرة التي جعلت من قادة الثورة ضد المرابطين إما كتاباً وشعراء، أو قضاة. ففي الغرب كانت ثورة المريدين، وزعماؤها قبل كل شىء، رجال مثل ابن قسي، وابن المنذر، وأبو بكر بن المنخل، يمتازون إلى جانب دعوتهم الثورية، بمواهبهم الأدبية والشعرية. وفي أواسط الأندلس وفي شرقها، كان زعماء الثورة كلهم تقريباً من القضاة. ففي قرطبة، كان زعيم الثورة قاضيها أبو جعفر بن حمدين، وفي غرناطة كان هو القاضي أبو الحسن علي بن أضحى، وفي مالقة كان قاضيها ابن حسون، وفي بلنسية كان قاضيها مروان بن عبد العزيز، وفي مرسية كان قاضيها أبو جعفر الخشني، وكان خلفه في الرياسة بعد مصرعه، قطب بن أقطاب الكتاب والشعر، هو أبو جعفر عبد الرحمن ابن طاهر. وهذه ظاهرة تدعو إلى التأمل، ويمكن أن نرجعها من بعض الوجوه، إلى أن المرابطين استطاعوا خلال حكمهم بالأندلس، أن يقضوا على معظم الزعامات الملوكية والعسكرية القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقضوا على الزعامات الفكرية، ولم يستطيعوا بالأخص، أن يقضوا على نفوذ الفقهاء بالأندلس، وكان نفوذهم المستمر، حسبما تقدم من خواص الحكم المرابطي ذاته. أما عن الكتابة، فإن الدولة اللمتونية، كانت منذ بدايتها تعتمد في شئون

الكتابة على الكتاب الأندلسيين. فكان كاتب يوسف بن تاشفين، حتى قبل أن يعبر إلى الأندلس، أندلسي من أهل ألمرية هو عبد الرحمن بن أسباط. ولما توفي خلفه في منصب الكتابة أبو بكر بن القصيرة، وهو يومئذ من أئمة البلاغة بالأندلس، ثم كتب بعد وفاة يوسف عن ولده علي. وكان بلاط مراكش في عهد علي بن يوسف، يضم إلى جانب ابن القصيرة، طائفة من أقدر الكتاب الأندلسيين في هذا العصر، مثل أبى القاسم بن الجد، وأبى بكر بن عبد العزيز البطليوسي المعروف بابن القبْطُرنة، وابن عبدون وزير بني الأفطس السابق، وأبى عبد الله بن أبى الخصال، وغيرهم. وقد كان من الطبيعي، أن تعتمد الدولة اللمتونية، التي نشأت في مهاد البداوة والتقشف، في شئون الكتابة، ولاسيما بعد افتتاح الأندلس، على أقطاب البلاغة من الكتاب الأندلسيين، وأن يكون أولئك الكتاب ألسنتها لدى الشعب الأندلسي، الذي اعتاد على أساليب الكتابة العالية، وقد شهد المرابطون كيف كان ملوك الطوائف، يحشدون في قصورهم، أئمة البلاغة والترسل يومئذ، سواء في سلك الوزارة أو الكتابة، فكانت لهم في ذلك أسوة، فاستخدموا معظم أولئك الكتاب في بلاط مراكش. وكان الجيش هو أهم أجهزة الدولة المرابطية، ودعامتها الأولى، وكانت الدولة المرابطية بالرغم من انضوائها تحت لواء الدعوة الدينية الإصلاحية، التي نظمها عبد الله بن ياسين، قبل كل شىء دولة عسكرية، نشأت في مهاد المعارك التي اضطرمت بين لمتونة وبين القبائل الخصيمة من وثنية وغيرها، وخرجت منها لمتونة ظافرة، واستطاعت أن تبسط سلطانها على أنحاء المغرب، وأن تقيم الدولة المرابطية الكبرى، وكان أولئك البربر الصحريون جنوداً يمتازون بوافر الجرأة والشجاعة. وقد نوه بشجاعة لمتونة في القتال كاتب معاصر هو الجغرافي المؤرخ، أبو عبيد البكري، فوصف لنا لمتونة وشجاعتها وطرائقها في القتال فيما يأتي: " وكان للمتونة، في قتالهم شدة وبأس ليست لغيرهم. وكان قتالهم على النجب أكثر من الخيل، وكان معظم قتالهم مرتجلين، يقفون على أقدامهم صفاً بعد صف، يكون بأيدي الصف الأول منهم القنا الطوال، وما يليه من الصفوف بأيديهم المزاريق، يحمل الرجل الواحد منها عدة، يزرقها فلا يكاد يخطىء ولا يشوى، ورجل قدموه أمام الصف بيده الراية، فهم يقفون ما وقفت منصته، وإن أمالها إلى الأرض جلسوا جميعاً، فكانوا أثبت من الهضاب، ومن فر أمامهم لم

يتبعوه، وكانوا يختارون الموت على الانهزام، ولا يحفظ لهم فرار من زحف " (¬1)، وقد تطورت أساليب لمتونة في القتال فيما بعد، ولكن هذه الصفة العسكرية لبثت تغلب على الدولة المرابطية، حتى بعد أن استقرت وتوطدت، وقامت بها نظم الحكم المدنية، فكان الجيش هو قوام حياتها الأول، وكان أمير المسلمين هو القائد الأعلى لهذا الجيش، وكان معظم الولاة في المغرب والأندلس، من قادة الجيش البارزين. وكان منشىء الدولة المرابطية الكبرى يوسف بن تاشفين جندياً وقائداً من أعظم قواد عصره، وقد بذل هذا البطل الشيخ في تنظيم الجيش المرابطي، وفي تزويده بالعتاد والسلاح، جهوداً رائعة، حتى غدا من أعظم جيوش العصر. وكانت قوته الرئيسية تتألف من الفرسان، وقد بلغت في عهد يوسف نحو مائة ألف فارس "من مختلف القبائل (¬2) هذا غير المشاة من الرماة وغيرهم. وأنشأ يوسف فضلا عن ذلك حرسه الخاص الأسود، من عبيد الصحراء من غانة، من نحو ألفي مقاتل، دربوا أعظم دربة، وزودوا بأجود الأسلحة، حتى غدوا قوة ضاربة لها خطرها (¬3). وقد رأينا كيف أبلى هذا الحرس الأسود الخاص ليوسف، في معركة الزلاّقة عند تحرج الموقف، أعظم البلاء، وساعد ببسالته على تحول مصاير المعركة. وأنشأ يوسف قوة كبيرة خاصة من فرسان جزولة ولمطة وزناتة ْسميت بالحشم (¬4). وأنشأ كذلك فرقة خاصة لحرسه من النصارى، معظمهم من المعاهدين الذين اعتنقوا الإسلام، وقد نمت هذه الفرقة في عهد ولده علي، حتى غدت جناحاً كبيراً من الجيش المرابطي، يتألف من النصارى المرتزقة، ويقوده القائد القشتالي الذي تسميه الرواية العربية " بالربرتير " والذي تحدثنا عنه فيما تقدم، وقد اشتركت هذه الفرقة الأجنبية التي تسميها الرواية العربية " بالجند الروم " مع الجيش المرابطي، في معارك عديدة، وكانت تمتاز دائماً ببسالتها، وفائق دربتها. وكان ترتيب المعركة عند المرابطين يقوم على نظام خماسي. فيتقدم الجيش، الجند المشاة ووحدات الفرسان الخفيفة، وحملة القسي، والرماة، ويُرتبون في ¬_______ (¬1) أبو عبيد البكري في كتاب " المغرب وذكر بلاد إفريقية والمغرب " المشتق من كتاب " المسالك والممالك " (طبعة دي سلان) ص 166، ونقل بعضه الحلل الموشية ص 10 و 11. (¬2) روض القرطاس ص 89. (¬3) الحلل الموشية ص 13. (¬4) الحلل الموشية ص 20.

الجناحين. ويتكون القلب من وحدات الفرسان الثقيلة، وهي التي كان لها على الأغلب القول الفصل في المعارك. وكانت قوات المؤخرة، أو القوات الاحتياطية يقودها أمير المسلمين بنفسه إذا كان مصاحباً للجيش، وتتألف من صفوة الجند، وقوى الحرس المختلفة صمن العبيد والنصارى المرتزقة. وكان لكل قسم من القوات المقاتلة قائده الخاص، ويجتمع القادة جميعاً في مجلس الحرب الذي يعقد قبل المعركة، وترتب فيه خطط الهجوم والدفاع، وفقاً لأوامر القائد الأعلى. وكان الجند يحتشدون وفقاً لمختلف القبائل والأقاليم. ويؤلف جند الأندلس في الجيش المرابطي المخصص لشبه الجزيرة وحدات خاصة، تحمل أعلام المدن التي تنتمي إليها، مثل إشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية ومرسية وغيرها. بيد أن القوات الأندلسية لم يكن لها في الجيش المرابطي كبير شأن، وكانت القيادة العليا بنوع خاص، تركز في أيدي القادة المرابطين. وكانت هذه سياسة موسومة واضحة القصد والمرمى. وكانت نزعة الجهاد، تغلب في البداية على الجيش المرابطي، وكانت تحدوه هذء النزعة المضطرمة حينما عبر إلى شبه الجزيرة لأول مرة، وانتصر في موقعة الزلاّقة، ضد الجيوش النصرانية المتحدة، واستمر يجيش بهذه النزعة إلى الجهاد، طوال عهد يوسف، وفي أوائل عهد ولده علي. ثم خبت هذه النزعة حينما اضطربت أحوال الدولة المرابطية، منذ فورة المهدي ابن تومرت، وأضحى الجيش المرابطي في المغرب، أداة دفاعية عن كيان الدولة التي أنشأته، ولم يعد له في الأندلس تلك الهيبة القديمة، التي كانت تتوجها غزواته الجهادية ضد النصارى، ولم يلبث أن اضطر غير بعيد أن يشغل بأمر الدفاع عن نفسه في مختلف القواعد الأندلسية. وكان الجيش المرابطي يستعمل البنود والطبول (¬1). وقد لعبت طبوله في الزلاّقة دوراً كبيراً في إزعاج الجند النصارى، وبث الرعب في قلوبهم. وكان الجيش المرابطي الدائم بالأندلس يتكون من سبعة عشر ألف فارس، منها سبعة آلاف بإشبيلية وقواعد الغرب، وبقرطبة ألف فارس، وبغرناطة مثلها، وأربعة آلاف بشرقي الأندلس، والأربعة آلاف الباقية موزعة على مختلف القواعد والثغور الأخرى، وكان يعهد بالدفاع عن الحدود والقواعد المتاخمة ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 89.

للنصارى إلى الأندلسيين، لما لهم في مقاتلة النصارى ومدافعتهم من خبرة خاصة، وكان الفارس المرابطي في الأندلس يتقاضي خمسة دنانير في الشهر، غير نفقته الخاصة، وعلف فرسه، ومن ظهر منهم بشجاعته وتفوقه، يُعهد إليه بولاية موضع ينتفع بفوائده (¬1). ولم ينس المرابطون أهمية الأساطيل، ولاسيما منذ افتتحوا الأندلس، وغدت الأندلس ولاية مغربية، فكانت لهم في سبتة وقادس وألمرية أساطيل دائمة. وكانت قطائع النقل، تجتمع بنوع خاص في مياه سبتة وطنجة، والجزيرة الخضراء وطريف، لتنقل الجيوش المرابطية إلى شبه الجزيرة، ومن شبه الجزيرة إلى المغرب، وكانت الدولة المرابطية تمتلك في أواخر أيامها أسطولا ضخما من القطائع والسفن المقاتلة، حتى أن الأمير تاشفين بن علي، كان وهو يجوز معركة وهران الفاصلة ضد الموحدين، يعلق أمله في النجاة على الأسطول، وقد استدعاه فعلا إلى مياه بجاية. وقد اختصت أسرة بني ميمون عصراً بقيادة الأساطيل المرابطية، وانتقلت هذه الأساطيل على يدهم، إلى خدمة الدولة الموحدية حينما دالت دولة المرابطين. وأما فيما يتعلق بالنظم المالية فقد اتبعت الدولة المرابطية، في البداية، نظراً لنشأتها الدينية، حكم الشرع في شئون الجباية، فكان يوسف بن تاشفين يقتصر أولا على تحصيل ما تجيزه الشريعة من الفروض، مثل الزكاة والأعشار وأخماس الغنائم وجزية أهل الذمة. بيد أنه لما ضخمت الدولة المرابطية، وتضاعفت جيوشها ومسئولياتها، ولاسيما بعد افتتاح الأندلس، واتساع نطاق أعمال الجهاد، في شبه الجزيرة، لم تعد هذه الموارد الشرعية المتواضعة تكفي لمواجهة مسئولياتها العظيمة، واضطر يوسف بن تاشفين إلى فرض الإتاوات على أهل المغرب والأندلس، للمساهمة في أعمال الجهاد، ولجأ أيضاً إلى تحصيل الأموال من اليهود، ولاسيما يهود بلدة أليسانة (¬2)، بمختلف الطرق والوسائل. وكان يوسف بن تاشفين يبغض اليهود، ويرى إرغامهم على اعتناق الإسلام، وشجعه على ذلك بالنسبة ليهود الأندلس، فقيه قرطبي زعم أنه وقع في أحد الكتب، على حديث منسوب إلى النبي، مفاده أن اليهود تعهدوا بأن يؤمنوا بالنبي العربي، وأن يعتنقوا الإسلام، ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 57 و 59. (¬2) تقع بلدة أليسانة أو اللسانة Lucena، شمال غربي لوشة بولاية غرناطة.

إذا حلت الخمسمائة عام من الهجرة، ولم يظهر لهم النبي الرسول، الذي بشر به موسى في التوراة، وبأنه سوف يكون منهم، وان نبيهم يكون عندئذ هو نفسه نبي المسلمين، ويتحتم عليهم اعتناق الإسلام، وكان يهود الأندلس يجتمعون بالأخص في مدينة أليسّانة المتقدمة، وهي مدينة يهودية خالصة، بها ربض واحد يسكنه المسلمون، ولا يختلطون بأحد منهم، وأهلها أغنياء مياسير، ومن أغنى يهود العالم. وكان أمير المسلمين حين مر بتلك المدينة، يريد أن يرغم أهلها اليهود على اعتناق الإسلام وفقاً لما تقدم، ولكن فقيهاً آخر، أفتى بأنه يجوز تركهم على وجه الافتداء، فدفع اليهود مبالغ طائلة لأمير المسلمين ليحتفظوا بدينهم (¬1). ثم تمادت هذه السياسة في عهد ولده علي، ولجأ عليّ في نفس الوقت إلى فرض القبالات والإتاوات، على مختلف الصنائع والسلع، فكانت القبالات تفرض على الصابون والعطور والنحاس والمغازل، كما تفرض على كل شىء يباع جل أو صغر، كل شىء على قدر قيمته (¬2)، كما لجأ على إلى استخدام النصارى والروم في تحصيل الجبايات (¬3). ولما اضطربت أحوال الدولة المرابطية، على أثر قيام حركة المهدي، اشتد نفود النصارى في الجيش، وفي شئون الجبايات، لما كان يحبوهم به علي بن يوسف من ثقة وحماية، وأساءوا معاملة المسلمين، واشتطوا في تحصيل المغارم والفروض، وغلبت الفوضى على شئون الدولة المالية، كما غلبت على غيرها. - 2 - وقد اختلفت الآراء حول طبيعة الدولة المرابطية، وطبيعة وسائلها في الحكم، واشتد بعض المؤرخين في الحكم عليها، ورميها بأقصى النعوت والصفات، وجنح البعض بالعكس إلى امتداحها، وامتداح عهدها وحكمها. وكانت تعليقات العلامة المستشرق دوزي، وحملته على المرابطين، والدولة المرابطية، من أشد ما صدر من الأحكام في هذا الموضوع. ومن الأسف أن هذه الحملة التي شهرها دوزي على المرابطين، وعلى عهدهم بالأندلس، قد تناقلها ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 58. وراجع في وصف مدينة أليسانة " وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس " المأخوذ من نزهة المشتاق للإدريسي (طبعة دوزي) ص 205. (¬2) الإدريسي في المرجع السابق ص 70. (¬3) الحلل الموشية ص 61.

معظم الكتاب والنقدة المحدثين، واعتبروها حكماً مبرماً، لا يقبل جدلا ولا نقصاً. ومن ثم فإنه لابد لنا أن ننقل أولا ما تضمنته أقوال دوزي من وجوه الطعن والنقد، ثم نعود بعد ذلك إلى تحليلها ومناقشتها. يقول دوزي بادىء ذي بدء: " إن الشعب (الأندلسي) لم يكن له أن يهنىء نفسه بالانقلاب الذي وقع (يعني تحول الأندلس إلى سلطان المرابطين). ذلك أن الحكومة والقادة والجند، جميعاً قد فسدوا بسرعة مذهلة. إن قواد يوسف حينما قدموا إلى اسبانيا، كانوا حقاً أميين، ولكنهم كانوا أتقياء شجعاناً أمناء، وقد اعتادوا على حياة الصحراء البسيطة المتقشفة، فلما أغنتهم كنوز الأمراء الأندلسيين التي أغدقها عليهم يوسف، فقدوا فضائلهم بسرعة، ولم يعودوا يفكرون إلا في أن يتمتعوا في سلام بهذه الثروات التي غنموها. ولقد كانت حضارة الأندلس بالنسبة لهم مشهداً جديداً، ولما كانوا يخجلون من بربريتهم، فقد أرادوا أن يندمجوا فيها، واتخذوا لهم مثلا من الأمراء الذين خلعوهم. بيد أنهم كانوا لسوء الحظ من ذوي الجلد الخشن، ولم يكن بوسعهم أن يتمشوا مع النعومة، والكياسة، والرقة الأندلسية، وكان كل شىء لديهم يحمل طابع التقليد الخانع القاصر ". ثم يقول: " ولم يكن الجند (أعني المرابطين)، بالرغم من كونهم أكثر محافظة، أفضل من رؤسائهم، وقد كانوا يمتازون بالقحة نحو الأندلسيين، وبالجبن إزاء العدو. والواقع أن جبنهم كان فادحاً، حتى أن الأمير علي، اضطر أن يتغلب على بغضه للنصارى، وأن يحشد في جيشه أولئك الذين كان قائد أسطوله ابن ميمون يجىء بهم من شواطىء جليقية، وقطلونية وإيطاليا، وبلاد بيزنطية. وأما عن قحتهم، فإنه لم يكن لها حد. فقد كانوا يعاملون الأندلس كبلد مفتوح، ويأخذون منها كل ما راق لهم، من نقد ومال ونساء، وكانت الحكومة تتركهم يفعلون ذلك، ولا تستطيع ضدهم شيئاً. وكان ضعفها في ذلك يدعو إلى الرثاء. وقد اضطر الفقهاء إلى ترك السلطان للنساء، أو على الأقل إلى أن يشاطروهن هذا السلطان. وكان الأمير على يترك لزوجته قمر كل شىء، وثمة نسوة أخريات كن يحكمن وفقاً لأهوائهن كبار الأعيان، وما دام في وسعهم أن يحققوا جشعهن، ففي وسعهم أن يفعلوا ما شاءوا. بل لقد كان في وسع قطاع

الطريق أن يؤملوا النجاة، إذا استطاعوا أن يشتروا حماية أولئك السيدات " (¬1). هذا ما يقوله دوزي في " تاريخه ". وإليك ما يقوله في " بحوثه ": " في نحو أواخر القرن الحادي عشر، حينما استبدلت الأندلس أمراءها الوطنيين، بمملكة إفريقية، جاءت كحليفة، ثم انتهت بأن فرضت سيادتها، حدثت في هذا البلد ثورة سريعة محزنة. فقد حلت البربرية مكان التمدن، وحل التخريف مكان الذكاء، وحل التعصب مكان التسامح. وأضحت البلاد تئن تحت النير المرهق الذي يفرضه رجال الدين والجند، فلم يعد يسمع مكان المناقشات العلمية الروحية في المعاهد، وأحاديث الفلاسفة العميقة، وأناشيد الشعراء، سوى صوت الفقهاء الرتيب، وضجيج السيوف تجر على الإفريز " (¬2). ونكتفي بنقل ما تقدم من أقوال دوزي وتعيلقاته عن المرابطين بالأندلس. والواقع أنه يشهر مثل هذه الحملة، في مواطن كثيرة من تاريخه (¬3). وهو بصفة عامة شديد الوطأة على المرابطين، وعلى عاهلهم يوسف، ينتقص منهم كأمة، وكدولة وحكومة، وهو قد يكون على حق في بعض الأحيان، وقد يجد سنداً لحملته في بعض الوقائع. ولكن حملته تنم على الأغلب عن روح واضح من التحامل. ولقد رمى من قبل، دوزي بهذا التحامل العلامة المستشرق كوديرا، فهو يقول معلقاً، على تلك الأحكام التي أصدرها دوزي في حق المرابطين: " لقد صيغت أحكام قاطعة جداً، مجحفة بالنسبة لحكم المرابطين. ولما كنا نعتقد أنه لا مبرر لهذه الأحكام، بالرغم من مكانة دوزي العظيمة، الذي حذا حذوه معظم الكتاب المتأخرين، فإنا نعتقد أنه يجب علينا أن نقول شيئاً من عندنا، لأنه إذا كان يبدو أن العلامة الهولندي يستند في أقواله إلى وقائع مأخوذة من الكتاب المسلمين والنصارى، فإني أشعر أنه يجيش بكثير من التحامل، وهذا يرجع بالأخص إلى تعصبه ضد رجال الدين، وإلى تطبيق هذا التعصب بالنسبة للأمة الإسلامية، وإلى ميله الواضح إلى التعميم، وإلى أن يستخرج النتائج بالاستناد إلى قليل من الوقائع " (¬4). ¬_______ (¬1) Dozy: Histoire des Musulmans d'Espagne (1932) V. III. p. 162-164 (¬2) Dozy: Recherches (Ed. 1881) Vol. I. p. 348 (¬3) انظر مثلا: تاريخه (ج 3 ص 155 و 157 و 168). (¬4) F. Codera: Decad. y Desp. de los Almoravides, p. 190 & 191

والواقع أن دوزي لا يجد في أقوال الرواية العربية كثيراً من الأسانيد المؤيدة لحملته، ولا يعتمد في ذلك إلا على ملخص لفقرتين أوردهما المراكشي في " المعجب "، يقول في أولاهما ما يأتي: " واختلت حال أمير المسلمين رحمه الله (مشيراً إلى علي بن يوسف) بعد الخمسمائة اختلالا شديداً، فظهرت في بلاده مناكر كثيرة، وذلك لاستيلاء أكابر المرابطين على البلاد، ودعواهم الاستبداد، وانتهوا في ذلك إلى التصريح، فصار كل منهم يصرح، بأنه خير من أمير المسلمين، وأحق بالأمر منه، واستولى النساء على الأحوال، وأسندت إليهن الأمور، وصارت كل امرأة من أكابر لمتونة ومسّوفة تشتمل على كل مفسد وشرير وقاطع طريق، وصاحب خمر وماخور، وأمير المسلمين في ذلك كله يتزيد تغافله، ويقوي ضعفه، وقنع باسم إمرة المسلمين، وبما يرفع إليه من الخراج، وعكف على العبادة والتبتل، فكان يقوم الليل ويصوم النهار، مشتهراً عنه ذلك. وأهمل أمور الرعية غاية الإهمال، فاختل لذلك عليه كثير من بلاد الأندلس، وكادت تعود إلى حالها الأولى، ولاسيما مذ قامت دعوة ابن تومرت بالسوس " (¬1). ويقول في الثانية: " وكان (أي علي بن يوسف) رجلا صالحاً مجاب الدعوة، يعد في قوام الليل، وصوام النهار، إلا أنه كان ضعيفاً مستضعفاً، ظهرت في آخر زمانه مناكر كثيرة، وفواحش شنيعة، من استيلاء النساء على الأحوال، واستبدادهن بالأمور، وكان كل شرير من لص أو قاطع طريق، ينتسب إلى امرأة قد جعلها ملجأ له وزراً على ما تقدم " (¬2). هذا ما يقوله المراكشي. ولنلاحظ أولا أن المراكشي يجانب الدقة التاريخية في أحيان كثيرة، وهو ما يعترف به ويعتذر عنه في مقدمته، ثم هو بعد ذلك كاتب ومؤرخ موحدي من أولياء الدولة الموحدية وصنيعة بعض أمرائها، ومن ثم فإنه يصعب علينا أن نتخذ من أقواله دائماً حجة قاطعة، ومن جهة أخرى فإنه يوجد إلى جانب هذه الأقوال، أقوال أخرى لمؤرخين وكتاب، عاش بعضهم في العهد المرابطي أو قريباً منه، تشيد بحكم المرابطين وأيامهم، فمن ذلك ما يقوله صاحب الحلل الموشية، معلقاً على عهد يوسف بن تاشفين: ¬_______ (¬1) المعجب ص 98 و 99. (¬2) المعجب ص 103.

" أقامت بلاد الأندلس في مدته سعيدة حميدة، في رفاهية عيش، وعلى أحسن حال، لم تزل موفورة محفوظة إلى حين وفاته، وقد كان الجهاد انقطع بها منذ تسع وسبعين سنة من مدة آل عامر إلى حين دخوله إليها. قدم أشياخ المرابطين فيها وكانوا أقواماً ربتهم الصحراء، نيتهم صالحة لم تفسدها الحضارة، ولا مخالطة الأسافل " (¬1). وما ينقله إلينا عن القاضي أبى بكر بن العربي، وهو ما جاء في كتابه في شرح الترمذي، وهو قوله: " المرابطون قاموا بدعوة الحق، ونصرة الدين، وهم حماة المسلمين، الذابون والمجاهدون دونهم، ولو لم يكن للمرابطين فضيلة ولا تقدم إلا وقيعة الزلاّقة التي أنسى ذكرها حروب الأوائل، وحروب داحس والغبراء مع بني وائل، لكان ذلك من أعظم فخرهم، وأربح تجرهم " (¬2). والقاضي ابن العربي من أعلام فقهاء الأندلس في العصر المرابطي، وقد توفي في سنة 542 هـ، على أثر عوده من لقاء عبد المؤمن، عقب افتتاحه لمراكش، وكان قد وفد إليه على رأس زعماء إشبيلية، ليقدم إليه بيعة أهلها، حسبما أشرنا إليه في موضعه. هذا وينقل إلينا صاحب روض القرطاس عن ابن جنّون الفقرة الآتية: " كانت لمتونة أهل ديانة ونية صادقة خالصة، وصحة مذهب، ملكوا بالأندلس من بلاد الفرنج إلى البحر الغربي المحيط، ومن مدينة بجاية من بلاد العدوة، إلى جبال الذهب من بلاد السودان. لم يجر في عملهم طول أيامهم رسم مكروه، معونة ولا خراج في بادية ولا في حاضرة، وخطب لهم على أزيد من ألفي منبر. وكانت أيامهم دعة ورفاهية ورخاء متصل، وعافية وأمن. . كان ذلك مصطحباً بطول أيامهم، ولم يكن في بلد من أعمالهم خراج ولا معونة، ولا تقسيط، ولا وظيف من الوظائف المخزنية، حاشا الزكاة والعشر، وكثرت الخيرات في دولتهم، وعمرت البلاد، ووقعت الغبطة، ولم يكن في أيامهم نفاق ولا قطاع طريق، ولا من يقوم عليهم، وأحبهم الناس إلى أن خرج عليهم محمد بن تومرت مهدي الموحدين سنة خمس عشرة وخمسمائة " (¬3). ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 59. (¬2) الحلل الموشية ص 105. (¬3) راجع روض القرطاس ص 108، ونقله أيضاً السلاوي في الإستقصاء ج 1 ص 128.

ويبدو من كل ما تقدم أن الحكم على العهد المرابطي، كالحكم على أي عهد آخر من عهود التاريخ، يتردد بين القدح والمديح. ونحن لا نود أن نقف اعتباطاً عند إحدى الوجهتين. بيد أنه يلوح لنا أنه إذا كان حكم المرابطين، ولاسيما في الأندلس، قد ينطوي من بعض نواحيه على أخطاء ومثالب، فإنه من الناحية الأخرى، قد أغمط حقه وبولغ في انتقاصه والحملة عليه. ولنقف هنا لحظة لنحاول أن نستعرض بعض العوامل والأسباب التي هيأت ذلك الجو المجحف بسمعة المرابطين، وأذكت ضدهم حملة الانتقاص والتشهير التي ما زال صداها يتردد حتى يومنا. ويلوح لنا أن هذه العوامل ترجع إلى ثلاثة أمور يمكن أن نلخصها فيما يلي: الأول، هو ما اقترن بالفتح المرابطي لممالك الطوائف الأندلسية من مظاهر القسوة البالغة، ومن قتل عدد من أمراء الطوائف بصورة مثيرة، مثل بعض أبناء المعتمد بن عباد، والمتوكل بن الأفطس وولده وغيرهم من الأمراء والأكابر، ونهب الأموال، ومعاملة الجند المرابطين لقواعد الأندلس معاملة المدن المفتوحة، والعيث فيها دون وازع. وقد كان المسئول الأول في ذلك هو سير بن أبى بكر اللمتوني كبير القادة المرابطين وفاتح إشبيلية وبطليوس. وفي اعتقادنا أنه لو كان عاهل المرابطين يوسف بن تاشفين موجوداً في شبه الجزيرة في تلك الفترة، لأمكن اجتناب كثير من هذه الحوادث الدموية، وهذا العيث الفظيع. على أنه يمكن أن نقول من جهة أخرى أن قسوة أمير المسلمين في معاملة المعتمد بن عباد وهلاكه في سجنه بأغمات، على النحو المؤسي الذي وقع، كانت أيضاً مادة خصبة لتغذية هذه الحملة المرة على المرابطين. وقد كان لما صدر من المعتمد في سجنه من النظم المبكي، أعمق وقع وأبعد صدى في تصوير هذا الأمير الشاعر، بالرغم من كل ما أحاق بسيرته وسلوكه من أخطاء ومثالب، في صورة الشهيد الذي يستحق أبلغ عطف. ونحن نجد ذلك الصدى بالأخص، فضلا عن الأدب والشعر الأندلسي، ماثلا لدى الكتاب والمؤرخين المشارقة. وقد كان لحملاتهم العنيفة على أمير المسلمين وعلى المرابطين، أكبر الأثر في إذكاء هذه الحملة التي صدعت من هيبة المرابطين وهيبة عاهلهم حتى عصرنا. والأمر الثاني، هو ما وقع منذ بداية عهد علي بن يوسف من مطاردة كتب الدين والفلسفة وغيرها، ولاسيما كتب الأصول وفي مقدمتها كتب الغزالي. وقد

أشرنا فيما تقدم إلى ما كان من تأثير الفقهاء على أمير المسلمين علي بن يوسف. ولم يك ثمة شك في أن مطاردة الحركة الفكرية على هذا النحو يرجع قبل كل شىء إلى وحي الفقهاء وتدبيرهم. وقد كان لهذه السياسة، أثر بالغ في إذكاء عاطفة السخط ضد المرابطين بالأندلس، ولاسيما في البيئة الفكرية، وفي توجيه الأقلام ضدهم أو على الأقل في حرمانهم من عطف هذه الأقلام. ومما هو جدير بالذكر أنه فيما عدا أمثلة قليلة، يندر أن نجد في الأدب الأندلسي من نظم أو نثر خلال العهد المرابطي، مدائح شعرية أو رسائل نثرية تشيد بالمرابطين أو أمرائهم. والأمر الثالث، هو الحملة العنيفة المضطرمة التي شهرها المهدي ابن تومرت ضد المرابطين، ونحن نعتقد أن هذه الحملة كانت أخطر عامل في القضاء على هيبة الدولة المرابطية، وسمعتها الدينية، وهي الدعامة التي قامت عليها. والواقع أن ابن تومرت قد لمس في دعايته ضد المرابطين أشد النواحي حساسية وتأثيراً، وذلك حينما صور المرابطين بأنهم كفار خوارج على شريعة الإسلام، وأنهم قد ارتكبوا كثيراً من المناكر المثيرة، من إباحة للمحرمات من ذيوع الخمر، والقصف والفسق، واغتصاب أموال الناس بالباطل، وغير ذلك مما كانت مظاهر العاصمة المرابطية، وأحوال الدولة المرابطية، والمجتمع المرابطي، تؤيده في ذلك الوقت بصفة فعلية. وقد استمرت هذه الدعاية الملتهبة التي شهرها المهدي ضد المرابطين طول حياته، واستمرت من بعده، وحتى بعد أن سقطت الدولة المرابطية ومحيت آثارها، وكان لها أبلغ الأثر في القضاء على هيبة المرابطين وسمعتهم بصفة نهائية. تلك هي العوامل التي اجتمعت لتصدع من هيبة الدولة المرابطية، ولتسبغ على سيرتها، وعلى ذكرياتها لدى الأجيال اللاحقة، ذلك اللون القاتم، الذي تأثل بمضي الزمن، وبما جنحت إليه التواريخ والكتابات المتعاقبة، من الأخذ به دون تمحيص أو تفنيد. وما من شك في أن الدولة المرابطية قد لبثت طوال عهد مؤسسها العظيم يوسف بن تاشفين، وهو نصف حياتها، دولة مجاهدة، تحتفظ بكثير من فضائلها الأولى، من التقشف والمَنَعة والعدالة والتمسك بأحكام الكتاب والسنة. وقد كان افتتاح المرابطين للأندلس على النحو الذي تقدم، بعده عبورهم إليها إخوة منقذين، أول سحابة قاتمة أسبلت على دولتهم، وعلى سياستهم ومراميهم. وقد ناقشنا هذه المسألة في موضعها من كتابنا " دول الطوائف "، وأوضحنا ما لها وما عليها، على ضوء

الظروف التي أحاطت بها. بيد أنه مهما قيل في هذه المسألة، فإن الفتح المرابطي للأندلس، فضلا عن كونه حدث يتفق مع روح العصر الذي وقع فيه، لا يمكن أن يُمحي ما تقدمه، وما أعقبه من فضل المرابطين في الجهاد، وسحقهم لجيوش اسبانيا النصرانية، في موقعة الزلاّقة العظيمة، التي كانت أروع مثل لبطولتهم، وجهادهم في سبيل الله، وإنقاذهم الأندلس بذلك من خطر الفناء الداهم. ولا يمكن أن يمحى فضلهم بعد ذلك في الذود عن الأندلس، وحمايتها من مطامع ألفونسو المحارب ملك أراجون، وألفونسو ريمونديس ملك قشتالة. ويكفي أن نستعرض في تلك الحقبة، مراحل جهادهم وغزواتهم في أراضي اسبانيا النصرانية، منذ موقعة أقليش (501 هـ) حتى موقعة إفراغة (528 هـ)، وهي تنطوي على صفحات مشرقة من الجهاد في سبيل الله، والذود عن الدين والوطن، وفيها تبدو بسالة هذه الجمهرة الممتازة من القادة المرابطين، الذين سبق أن ذكرناهم غير مرة فيما تقدم. ومن المسلم به أن هذه الصفحات من جهاد المرابطين في سبيل إنقاذ الأندلس والذود عنها، هي أنصع ما في تاريخهم من تلك الفترة التي حكموا فيها الأندلس. على أنه يجب من جهة أخرى ألا نبالغ في تقدير هذه النزعة الجهادية، وهذه الصفحة من الجهاد المرابطي في الأندلس، فإنه يوجد ثمة ما يغشى صفاءها، وينتقص من عظمتها. ذلك أن المرابطين كانت لديهم بعد نصر الزلاّقة الحاسم، أكثر من فرصة لمهاجمة اسبانيا النصرانية وضربها في الصميم، وكان بوسعهم، لو صدقوا العزم، وضاعفوا الهمة، أن يستردوا مدينة طليطلة العظيمة، قبل أن تنتعش قوى اسبانيا النصرانية من ضربة الزلاقة. ولكنهم لم يبذلوا هذه المحاولة في وقتها. وقد ناقشنا هذه المسألة في موضعها عند الكلام على نتائج موقعة الزلاقة. أجل إن المرابطين، حاولوا في بداية عهد علي بن يوسف، استرداد طليطلة، وهاجموها، حاصروها مرتين، الأولى في سنة 503 هـ (1109 م)، والثانية في سنة 507 هـ (1114 م)، ولكنهم أخفقوا في المرتين، بالرغم مما بذلوه في كل مرة من الجهود العنيفة. ذلك أن الفرصة كانت قد ولّت، والوقت قد فات. ولما اضطربت شئون اسبانيا النصرانية بعد ذلك بقليل، وشغلت بحروبها الأهلية، لم يكن بوسع المرابطين أن يستغلوا هذه الفرصة، لما دهمهم بالمغرب من ثورة المهدي ابن تومرت، وعجزهم عن أن يبعثوا إلى شبه الجزيرة بقوات كبيرة.

وثمة سقطة أخرى تصدع من قيمة جهاد المرابطين بالأندلس، هي موقفهم من الدفاع عن مدينة سرقسطة. فقد رأينا فيما تقدم، كيف تخلى المرابطون، وأميرهم أبو الطاهر تميم بن يوسف، عن الاستجابة إلى صريخ المدينة المنكوبة، ورفضوا بذل أية محاولة لإنقاذها، وآثروا الانسحاب والسلامة، مع أنهم كانوا يرابطون في ظاهرها على مقربة من النصارى المحاصرين لها، وترتب على ذلك أن اضطرت المدينة العظيمة المسلمة إلى التسليم (سنة 512 هـ). وتنوه الرواية الإسلامية بما ينطوي عليه هذا الموقف من الجبن والخزى، وهو موقف كان له أكبر الأثر في النيل من هيبة المرابطين العسكرية. أما حكم المرابطين للأندلس، فإنه يبقى من الناحيتين الإدارية والاجتماعية، عرضة لكثير من وجوه المؤاخذة والنقد. ومن الواضح أن المرابطين وضعوا الأندلس، عقب افتتاحها، تحت حكم عسكري مطلق، ونزعوا أبناءها كل سلطة فعلية في حكم بلادهم، واحتفظوا للمرابطين بسائر المناصب العليا من ولاية وقيادة، وبالرغم من أن أولئك الولاة والقادة المرابطين، كانوا على الأغلب رجالا، من ذوي الحزم والبراعة العسكرية، والصفات البدوية النقية، فإنه كان ينقصهم المرونة والكياسة في حكم أمة متمدنة كالأمة الأندلسية، وكانت أساليبهم العنيفة الخشنة في ذلك، تجافى ما طبعت عليه الأمة الأندلسية من الأساليب الرفيقة المصقولة. ولم تظهر آثار هذا الحكم المطلق في صورها البغيضة، أيام يوسف بن تاشفين، حيث كانت هيبة البطل المرابطي، وحزمه وبعد نظره، وميله إلى تحقيق العدالة، ورفع المظالم، تلطف كثيراً من وقع الحكم الجديد، على الأمة التي كانت تشعر نحوه بشكر الصنيعة. واستطاع ولده على في أوائل حكمه، أن يحتفظ بقسط من محبة أهل الأندلس وتقديرهم. وقد كان في الواقع أميراً صالحاً، محباً للخير، يضمر أحسن النيات بالنسبة للأندلس، والذود عنها، وبالنسبة لطرائق حكمها، وذلك حسبما تدل عليه عدة من الرسائل الرسمية، التي صدرت عن ديوانه في شئون الأندلس، والتي وفق البحث أخيراً إن نشرها، لتلقي ضوءاً جديداً، على كثير من النواحي السياسية والنظامية المتعلقة بتاريخ العهد المرابطي في الأندلس (¬1). ¬_______ (¬1) عنى بتحقيق هذه الرسائل ونشرها الدكتور محمود علي مكي في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد، وذلك عن مخطوط مغربي كان ضمن تركة المرحوم الأستاذ ليفي بروفنسال، وحصل عليه معهد =

ففي إحدى هذه الرسائل، وهي المؤرخة في شوال سنة 507 هـ، ينوه على ابن يوسف، بالحركة التي يعدها للجهاد، وبكونه قد بالغ الاحتشاد والاستعداد، ويؤكد لمن وجهت إليهم الرسالة، إخلاص نيته، وصدق حميته " في نصر دين الإسلام، ومنع جانبه أن يضام، أو يناله من عدوه اهتضام " (¬1). وفي رسالة أخرى، وهي التي يشير فيها إلى ما عرضه عليه القاضي أبو الوليد ابن رشد، عن شئون الأندلس (والمرجح أنها وجهت أوائل سنة 520 هـ) يبدي على عطفه وإشفاقه على الأندلس، ويؤكد أنه لن يدخر وسعاً " في الذود عن حوزة الملة " (¬2). وتوجد ثمة رسائل أخرى، تنم عن يقظة الأمير واهتمامه بشئون الأندلس، وتنبهه لما يدبره أعداؤها ضدها (¬3). وإلى جانب ذلك توجد عدة رسائل تنم عن صفة الحكم المرابطي وطبيعته الدكتاتورية المطلقة. من ذلك ما ورد في الرسالتين السادسة والسابعة، من حث الأمير على طاعة الحاكم. واعتباره في كل ما يصدر عنه متحكم باسمه، ومنفذ لرأيه (¬4)، ليس لأحد معه في ذلك من يد، ولا مصدر ولا مورد، " قد فوضنا إليه ذلك كله، وأفردناه النظر في دقه وجله، وكثره وقله، وحكمناه في جميعكم، يثيب من استحق الثواب، ويعاقب من استحق العقاب " (¬5)، وكذا في الرسالة الثالثة عشرة، وهي الصادرة في شهر المحرم سنة 500 هـ، ولعلها أول رسالة وجهها علي بن يوسف عقب توليه الملك، وفيها يوصى بالطاعة والولاء للوالي أبى محمد ابن فاطمة " ما أمركم به أتيتموه، وما نهاكم عنه تركتموه " (¬6). بيد أنه توجد طائفة أخرى من هذه الرسائل، تدل على أن الأمير كان يعني في نفس الوقت بالعمل على تجنب الاستبداد، واتباع الشورى، وعدم الاستئثار بالرأي. وهذا ما يوصي به ولده أبا بكر في الرسالة التي يوجهها إليه بتاريخ ¬_______ = الدراسات الإسلامية، وقد نشرت بالمجلدين السابع والثامن في الصحيفة المذكورة، تحت عنوان " وثائق تاريخية جديدة عن عصر المرابطين " (ص 109 - 198). (¬1) صحيفة معهد الدراسات الإسلامية (المجلد المشار إليه ص 168). (¬2) صحيفة معهد الدراسات الإسلامية (المجلد السالف) ص 167. (¬3) راجع بالأخص الرسالة الثانية عشرة (ص 180 و 181). (¬4) راجع الرسالة السادسة ص 175. (¬5) راجع الرسالة السابعة ص 176. (¬6) الرسالة الثالثة عشرة ص 182.

صفر سنة 520 هـ، بمناسبة تعيينه قائداً عاماً للجيوش المرابطية بالأندلس (¬1). وثمة رسالة موجهة من الأمير إلى محمد بن فاطمة، يحثه فيها على أن يستعمل من العمال، من يتبع الرفق والعدل، وأن يعزل منهم من ينحرف عن الأحكام ومن يأخذ أموال الرعية ظلماً، وأن يعاقبه على ذلك ويلزمه برد ما أخذ (¬2). هذا وتوجد ثمة رسالة هامة، تدل على عناية عليّ بأمر القضاء، وحسن تنظيمه، وبإقامة العدل واستتبابه، وهي رسالة موجهة منه إلى الوحيدي قاضي مالقة، في شهر ذي الحجة سنة 523 هـ، وذلك على أثر ما قام بعض المرافعين (المتقاضين) من السفر إلى مراكش، والتظلم لدى الأمير، وفيها يعرف موضوع القضاء بأنه " رفع المشكلات، وتمييز الحقائق من المتشابهات والفصل بعد التبرم في الدعاوي والمنازعات "، ويطلب أن تنظر " شكاوي العامة في اللطيف والجليل "، وأن يجري التعرف على شئون الرعية، وأن يجري الحق في كل ما رفع من أحوالها، وما وقع فيه التظلم من عمالها، وأن الأمر في ذلك معلق على حسن اختيار النواب في الأقطار، وأنه يجب أن يتوفر في هؤلاء " الثقة والديانة والصون والأمانة "، فإذا وقع من أحدهم تعد أو جور، كان له أن يطلب عزله إلى الحاكم الذي يتبعه، فإن توانى في ذلك، فله أن يرفع الأمر إلى الأمير مباشرة. وفي الرسالة بعد ذلك حث على تحصيل الزكوات، على تباين أنواعها، وموجب فريضتها دون تحريف ولا تبديل (¬3). هذا مجمل ما تدلى به هذه المجموعة من الرسائل المرابطية: فهي من جهة تدلى بما كانت تنطوي عليه نفس أمير المسلمين من نيات صادقة في الأخذ بيد الأندلس، والذود عنها، وتدلى من جهة أخرى بما كانت تحرص عليه الحكومة المرابطية من جمع سائر السلطات بين يديها. وكان الحجر على حرية الفكر من أسوأ صور الحكم المرابطي المطلق. ونحن نعرف ما عمد إليه أمير المسلمين علي بن يوسف، بتحريض فقهائه، من مطاردة كتب الأصول، وفي مقدمتها كتب الإمام الغزالي، ولاسيما كتاب " إحياء علوم الدين " (سنة 507 هـ). وقد لبثت هذه المطاردة طوال العهد المرابطي، ¬_______ (¬1) راجع الرسالة الثالثة ص 169. (¬2) الرسالة الخامسة عشرة ص 183 و 184. (¬3) تراجع هذه الرسالة الهامة وهي الرابعة من المجموعة في ص 170 - 174.

فنرى مثلا في الرسالة التي وجهها أمير المسلمين تاشفين بن علي بن يوسف، إلى فقهاء بلنسية وأعيانها وأهلها، في جمادى الأولى سنه 538 هـ، إلى جانب ما تحض عليه من وجوب الرفق بالرعية، وإجراء العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، والأخذ بمذهب مالك، دون غيره، في الفتيا وسائر الأحكام، حثاً على مطاردة كتب البدعة، " وخاصة كتب أبى حامد الغزالي "، وأنه يجب " أن يتتبع أثرها، ويقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الأيمان على من يتهم بكتمانها " (¬1). ومن الواضح أن هذه المطاردة الفكرية لم تكن تقف عند كتاب الأصول وكتب الغزالي، ولكنها كانت تشمل سائر المصنفات الكلامية والفلسفية، التي تنكرها التعاليم المرابطية، وغيرها مما تصفه الرسالة " بكتب البدعة ". وكان من ضحايا هذه المطاردة، عدة من المفكرين الأندلسيين، ومنهم العلامة الصوفي أبو العباس أحمد بن محمد الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف، حيث نفاه أمير المسلمين علي بن يوسف من بلده ألمرية إلى مراكش (¬2). ثم إنه يبدو من جهة أخرى أن الحكام المرابطين بالأندلس، لم يبدو حزماً كافياً في قمع طغيان الجند والعبيد التابعين لهم، وأن هؤلاء كانوا يرتكبون ضد أبناء الشعب الآمنين، ضروباً مثيرة من التعدي والأذى. وهذا ما يسجله لنا وزير وكاتب أندلسي كبير معاصر، هو أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، المتوفى سنة 520 هـ، (1126 م) وقد كان من كتاب الأندلس الذين خدموا في بلاط علي بن يوسف، يسجله لنا في رسالته التي وضعها عن القضاء والحسبة، حيث يقول عند " ذكر المرابطين ": " يجب ألا يُلثم إلاّ صنهاجي أو لمتوني أو لمطي، فإن الحشم والعبيد ومن لا يجب أن يُلثم، يلثمون على الناس ويهيبونهم، ويأتون أبواباً من الفجور كثيرة، بسبب اللثام، وهماً، ويُكلم في ذلك مع السلطان، فإنهم عتاة. ويمتاز بذلك من عسى أن يُكرم أو يُوقر، أو تُقضى له حاجة من المرابطين، لأن العبيد ¬_______ (¬1) وردت هذه الرسالة في المخطوط رقم 538 الغزيري بالإسكوريال وقام بنشرها الدكتور حسين مؤنس ضمن مجموع النصوص السياسية المرابطية، وذلك في مجلة المعهد المصري بمدريد (العدد الثالث سنة 1955) ص 110 - 113. وقد نشرناها نحن في باب الوثائق. (¬2) راجع في ترجمة ابن العريف ابن خلكان ج 1 ص 67، والصلة لابن بشكوال (القاهرة) الترجمة رقم 176.

أو الحشم إذا تلثم وغيّر شكله، حسبته رجلا مثيلا، فتجري إلى برِّه وإكرامه، وهو لا يتأهل لذلك. يجب ألا يمشي أحد في المدينة (¬1) بسلاح، فإن ذلك داعية إلى الفساد، ولاسيما البربر، فإنهم قوم إذا غضبوا، قتلوا أو جرحوا. عبيد المرابطين إن تلثموا، فتكون علامة يعرفون بها، مثل أن يتلثموا بخمار أو بمئزر وشبه ذلك. وكذلك الحشم والأتباع، يكون شكلهم غير شكل المرابطين، وهذا أحسن إن قدر عليه، وفيه منافع كثيرة. يجب أن يُحمل مكان السلاح التي يحبسونها، إما أسواط لدوابهم، وإما أقزال، وهو الرمح الصغير " (¬2). فهذه الأقوال، تدل على أن طوائف الحشم والعبيد التابعة للحكام والسادة المرابطين، كانت تعتدى على الناس، وتعبث بالأمن، تحت ستار اللثام الوهمي. كما تدل على أن الجند البربر كانوا يتسمون بالنزق وتوتر الأعصاب، مما يدفعهم إلى القتل والجرح بسهولة ودون تحوط. وكذلك ليس ثمة شك في أن الحكم المرابطي بالأندلس، أخذت تشتد وطأته شيئاً فشيئاً، ولاسيما مذ بدأ اضطراب أحوال الدولة المرابطية بالمغرب، على أثر ظهور المهدي ابن تومرت، واشتداد حركته في أواخر عهد على بن يوسف، وعمد الحكام المرابطون عندئذ إلى تشديد قبضتهم في مختلف القواعد، واشتدوا في معاملة الأندلسيين، وكانت بوادر الخصومة والجفاء، قد ظهرت قبل ذلك بين الفريقين، وكان أخص مظاهرها ثورة قرطبة التي اضطرمت ضد المرابطين منذ سنة 514 هـ، ودلت بعنفها على حالة الأندلسيين النفسية، وما يضمرونه من بغض للحكم المرابطي ووسائله. وكان انشغال حكومة مراكش بحركة المهدي، وتضاؤل رقابتها، على شئون الأندلس، عاملا له أثره في ازدياد مثالب الحكم المرابطي بالأندلس، وترك حبله على الغارب، إلى الحكام المحليين، وكان من أثر ذلك أن ازداد سخط الشعب الأندلسي وحفيظته، وشعوره باقتراب الفرصة السانحة، للتحرر من نير حكم أجنبي، أضحى يرهقه، وأضحى يتوق هو إلى تحطيمه. ونحسب أننا بهذا الاستعراض الموجز لظروف الحكم المرابطي وأحواله ¬_______ (¬1) وهو يقصد هنا مدينة إشبيلية، حسبما يبدو من سياق ما سبق. (¬2) رسالة ابن عبدون في القضاء والحسبة المنشورة بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال ص 28.

بالأندلس، قد أوضحنا ما ينطوي عليه هذا الحكم من مختلف نواحيه الحسنة والسيئة. وإذا كانت حسنات الحكم المرابطي تتلخص قبل كل شىء في أعمال الجهاد التي اقترنت بحقبته الأولى، فإن مثالبه تتلخص في استئثار المرابطين بالسلطان، وفرضهم على الأندلس حكم طغيان مطلق، شديد الوطأة، لم تألفه الأمة الأندلسية، ويزيد من وطأته عدوان الجند والعبيد، ثم حجرهم على العقائد والفكر. بيد أنه يبقى من المبالغة والتحامل، أن يقال إنه بقيام الحكم المرابطي بالأندلس " قد حلت البربرية مكان التمدن، وحل التخريف مكان الذكاء، وحل التعصب مكان التسامح " (¬1). ذلك أن مثل هذا الحكم الدامغ، لا يسوغ إصداره عن عصر كالعصر المرابطي، تتراوح أحواله وظروفه بين مختلف الظواهر اللامعة والقاتمة. وإذا كان المرابطون، ينتمون إلى القبائل البربرية البدوية، فقد كانوا على بداوتهم وتقشفهم يتمتعون بكثير من الفضائل والخلال الحسنة، من الشجاعة والفروسة والورع، والتعلق بالجهاد في سبيل الله، وقد أتيح لهم بهذه الفضائل، أن يشيدوا دولة من أعظم الدول التي قامت في الغرب الإسلامي، وإن لم يتح لهم أن يشيدوا مدنية خاصة. أجل لقد فقد المرابطون بتعصبهم الجنسي، وتزمتهم الديني، حب الشعب الأندلسي، ولكنهم لم يحاولوا تغيير أساليبه في الحياة الخاصة، ولم يحاولوا وقف تيار الحركة الفكرية والأدبية، بل بالعكس حاولوا أن يوجهوها لمعاونتهم وخدمة قضيتهم، فكان معظم وزراء الدولة المرابطية وكتابها، منذ البداية، من أكابر كتاب الأندلس وأدبائها، وكان بلاط مراكش البربري، يصدر كتبه ومراسيمه لأهل الأندلس، مدبجة بأقلام أقطاب البلاغة في ذلك العصر، مثل أبى بكر بن القصيرة، وأبى القاسم بن الجد، وأبى محمد عبد المجيد بن عبدون، وأبى عبد الله بن أبى الخصال، وغيرهم. وإذن فإنه يكون من التعسف المحض أن يقال إنه بقيام الحكم المرابطي بالأندلس " قد حلت البربرية مكان التمدن ". ْويقول الأستاذ كوديرا معلقاً على ذلك: " إن ذلك لم يحدث بأي حال. فإن حياة المسلمين الإسبان سارت كما كانت تسير حتى يومئذ. وإنه ليمكن أن نتحدى أي شخص يقوم بدراسة سير الشخصيات التي تضمها معاجم التراجم، وأن يجد فيها خلافاً في طريقة تكوين الأدباء، أو بعبارة أخرى، فإن رجال ¬_______ (¬1) راجع أقوال دوزي السالفة الذكر.

الأدب حتى عصر الطوائف ومن بعده، كانوا يدرسون ما يشاءون، ومع الأساتذة الذين يختارونهم، إذ كان التعليم بين المسلمين حراً تماماً، إلا في العصور الأخيرة. " ففي تراجم الشخصيات الكثيرة التي تبدو في ذلك العصر، ومعظمهم من المسلمين الإسبان، وقليل منهم من المرابطين، لا نجد شيئاً أو نجد قليلا مما يدل على حدوث تغيير. وأن أولئك الذين عرفوا حكومات الطوائف، رأوا أنفسهم مرغمين أن يغيروا طريقة حياتهم، ورأى رجال البطانة المداهنون والعاطلون، أن التغيير سوف يسوءهم، إذا لم يملقوا السادة الجدد، بيد أن ذلك يحدث دائماً حينما يتغير أهل السلطان " (¬1). - 3 - وإنه ليبدو من الصعب أن نقدم صورة واضحة عن حياة الشعبين المغربي والأندلسي، في العهد المرابطي. بيد أننا نستطيع على ضوء بعض الإشارات القليلة التي انتهت إلينا، أن نعرف عن هذه الحياة بعض الشىء. ومن المعروف أن العهد المرابطي لم يطل بالأندلس أكثر من أربعين عاماً، وهو قد بدأ بالمغرب قبل ذلك بنحو عشرين عاماً، فالدولة المرابطية لم تعش في حالة انتظام واستقرار، أكثر من جيلين، هما عصر يوسف بن تاشفين، وعصر ولده علي، وحتى فترة الاستقرار في عهد على لم تطل، ومذ ظهر محمد ابن تومرت، في سنة 515 هـ، تضطرب أحوال الدولة المرابطية بالمغرب، ثم تسوء شيئاً فشيئاً، حتى تنتهي بالانهيار. في خلال تلك الفترة القصيرة - فترة الاستقرار - مذ أتم يوسف بن تاشفين فتوح المغرب، والتغلب على سائر الإمارات والقبائل الخصيمة، وتأسيس مدينة مراكش، تجوز الأمة المغربية فترة سكينة ورخاء، بعد أن هدأت فترة الحروب الأهلية، وأقبل الناس على الأعمال السلمية. وتمتعت الأندلس، منذ الزلاّقة، ثم بعد ذلك مذ سقطت دول الطوائف، بمثل هذه الفترة من السكينة والرخاء. وكانت الأمة الأندلسية، أيام الطوائف، تعاني من حكم أولئك الطغاة الأصاغر، كثيراً من ضروب الظلم والإرهاق، ولا تكاد تفيق من الحروب الأهلية التي يشهرها أولئك الأمراء كل على الآخر، والغزوات المتوالية التي ¬_______ (¬1) F. Codera, Decad. y Desp. de los Almoravides, p. 199 & 200

كان يشهرها النصارى، والتي كانت تعصف بوديانها النضرة، وتبث إليها الخراب والجدب. فلما قضى المرابطون على دول الطوائف، ووضعوا حداً مؤقتاً لعدوان النصارى، ولما شغلت اسبانيا النصرانية، بحروبها الأهلية، عقب وفاة ألفونسو السادس، استطاعت الأمة الأندلسية، أن تتنفس الصعداء، وأن تستأنف نوعاً من حياة السلم والدعة. وهنالك ما يدل أيضاً على أنها تحررت في ظل العهد المرابطي، أو على الأقل في نصفه الأول، من كثير من المكوس والمغارم الظالمة، التي كانت تفرض عليها أيام الطوائف، لتغذية قصور أولئك الطغاة الأصاغر، بما كانت تنعم به من ضروب الإسراف والبذخ. على ضوء هذه القرائن والظروف، نستطيع أن نقول إن الأمة الأندلسية، كانت في أعوام يوسف بن تاشفين الأخيرة، وفي أوائل عهد ولده علي، تتمتع بفترة من السكينة والرخاء، لم تعرفها منذ أيام الدولة العامرية، وقبل انهيار الخلافة الأندلسية. وإذا استثنينا ما فرضه المرابطون على الحياة العقلية، وعلى الطبقة المفكرة، من ضروب الحجر، فإنه يبدو أن طبقات الشعب العادية، كانت تشعر بتحسن مادي في حياتها، وكانت بعد أن خفت عنها وطأة الأعباء المالية والعسكرية، بعد اضطلاع المرابطين بشئون الجهاد والدفاع، تستطيع أن تنصرف إلى الأعمال السلمية، وإلى تحصيل أرزاقها وأقواتها، في هدوء وسلام، وأن تتمتع من جراء ذلك بشىء من الرخاء الذي كان ينقصها من قبل. ومن ثم فإنه يسوغ لنا، بالرغم مما يمكن أن ينسب إلى الحكم المرابطي من صفات العسف والطغيان، أن نصف العهد المرابطي، بأنه كان بالنسبة للأمة الأندلسية عهد استقرار نسبي، تمتعت فيه بنوع من الدعة والرخاء. وهذا ما يؤيده قول المؤرخ معلقاً على حكم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين: " أقامت بلاد الأندلس في مدته سعيدة حميدة، في رفاهية عيش، وعلى أحسن حال، لم تزل موفورة محفوظة إلى حين وفاته " (¬1). ومن جهة أخرى، فإنه ليس ثمة ريب في أن المغرب، كان يتمتع بمثل هذا الرخاء والدعة، في عهد يوسف بن تاشفين، وأوائل عهد ولده علي، أعني قبل أن تضطرب أحواله من جراء ثورة ابن تومرت. وإنه ليكفي أن نستعرض ما كان عليه المغرب، في أواسط القرن الخامس الهجري قبل قيام ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 59.

الدولة المرابطية بقليل، من ضروب التفكك والفوضى، والحروب الأهلية المتوالية، لندرك أن قيام الدولة المرابطية كان بالنسبة للمغرب نوعاً من الإنقاذ القومي، وأن الأمة المغربية استطاعت أن تعيش في ظل الحكم المرابطي، عزيزة الجانب، موحدة الكلمة، وأن تتمتع بكثير من الأمن والرخاء، وأن تتحرر من كثير من المظالم، وضروب الفوضى، التي كانت تعانيها من قبل. ولدينا ما يؤيد ذلك من النصوص الصريحة. فمن ذلك ما ينقله إلينا صاحب روض القرطاس عن ابن جنّون وهو ما سبق أن اقتبسنا بعضه: " كانت لمتونة أهل ديانة ونية صادقة خالصة، وصحة مذهب. وكانت أيامهم أيام دعة ورفاهية ورخاء متصل، وعافية وأمن، تناهي القمح في أيامهم إلى أن يباع أربع أوسق بنصف مثقال، والتامر ثمان أوسق بنصف مثقال، والقطاني لا تباع ولا تشترى. كان ذلك مصطحباً بطول أيامهم، ولم يكن في بلد من أعمالهم خراج، ولا معونة، ولا تقسيط، ولا وظيفة من الوظائف المخزنية حاشا الزكاة والعشر. وكثرت الخيرات في دولتهم، وعمرت البلاد، ووقعت الغبطة. ولم يكن في أيامهم نفاق ولا قطاع، ولا من يقوم عليهم، وأحبهم الناس، إلى أن خرج عليهم مهدى الموحدين في سنة خمس عشرة وخمس مائة " (¬1). ومن الواضح أن ذلك كله ينصرف إلى عهد يوسف بن تاشفين وأوائل عهد ولده علي. فلما اضطربت الأمور عقب قيام حركة المهدي ابن تومرت تبدلت الأحوال، وغلبت الفوضى، وكثر الفساد، وغاض الأمن والرخاء، على نحو ما يحدثنا المراكشي في قوله، إنه في آخر عهد علي " ظهرت مناكر كثيرة، وفواحش شنيعة، من استيلاء النساء على الأحوال، واستبدادهن بالأمور، وكان كل شرير من لص أو قاطع طريق، ينتسب إلى امرأة قد جعلها له ملجأ وزراً على ما تقدم " (¬2). ومهما يكن من مبالغة هذا التصوير، فإن الذي لا ريب فيه هو أن حركة المهدي ابن تومرت كانت ضربة قاضية، لكل ما حملته الدولة المرابطية إلى المغرب من أسباب الاستقرار والأمن والرخاء، وأن المغرب لبث خلال المعركة التي اضطرمت بين المرابطين والموحدين، يعاني كثيراً من أسباب الاضطراب والفوضى، إلى أن تم الظفر للموحدين. وتوطدت دعائم الدولة الجديدة. ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 108. (¬2) المعجب ص 103.

الفصل الثانى الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى

الفصل الثاني ْالحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي القسم الأول المرابطون والحركة الفكرية. إزدهار التفكير الأندلسي أيام الطوائف، احتفاظه بنشاطه أيام المرابطين. رعاية الدولة المرابطية لكتاب الأندلس. استخدامهم في البلاط المرابطي. أبو بكر بن القصيرة. بنو القبطرنة. ابن عبدون. ابن الجد الفهري. أبو عبد الله بن أبى الخصال، أدبه ونثره وشعره. أبو جعفر بن عطية. ابن خاقان. ابن الصيرفي. أخيل بن إدريس. علي بن عبد العزيز الأنصاري. الحركة الفكرية في ظل المرابطين امتداد لها منذ الطوائف. العلماء والأدباء والشعراء في هذه الفترة. أبو عبد الرحمن بن طاهر. رسالة الكافية. مروان بن عبد العزيز وشعره. أبو جعفر الوقشي. تنويه ابن الأبار بمكانته. شىء من شعره. ابن الأزرق. علي بن أحمد الشلطيشي. على بن مسعود الخولاني. الأدباء المؤرخون. ابن بسام الشنتريني وكتابه الذخيرة. الحجارى صاحب المسهب. أبو محمد عبد الله الرشاطي. أبو عامر الطرطوشي. أبو بكر الشلبي. أبو القاسم بن بشكوال. بعض الشعراء المتخصصين. أحمد بن عبد الملك بن سعيد. محمد بن عبد الرحمن العقيلي. ابن سيد اللص. أمير الزجل أبو بكر بن قزمان. لم يطل عهد المرابطين بالأندلس أكثر من نصف قرن، أنفق معظمه في أعمال الجهاد، ومدافعة النصارى. ولم تكن الدولة المرابطية، سواء بالمغرب أو الأندلس، سوى دولة دينية عسكرية قبل كل شىء، ولم تكن بطبيعتها البدوية الخشنة، تميل إلى الأخذ بأساليب التمدن الرفيعة، أو تتجه إلى رعاية العلوم والآداب، أو أن عهدها القصير لم يفسح لها مجالا للأخذ بمثل هذه الأساليب، وبذل مثل هذه الرعاية، ومن ثم فإنه يمكن القول، بأن الحركة الفكرية بالأندلس، لبثت خلال العهد المرابطي، في حالة ركود نسبي، ولم تحظ باندفاع خاص، أو بازدهار يلفت النظر، بل يمكن أن يقال أيضاً، إن ما عمدت إليه الحكومة المرابطية من مطاردة البحوث الكلامية والفلسفية، كان له أثره في صد الحركة الفكرية، وفي تأخرها. بيد أنه يجب ألا ننسى، أن الحركة الفكرية بالأندلس، كانت في عهد دول الطوائف، وقبل مقدم المرابطين، تجوز حركة اندفاع قوي، وأن العلوم

والآداب قد ازدهرت في ظل قصور الطوائف، ورعاية ملوكها، ازدهاراً يدعوا إلى الإعجاب، وإذاً فقد كان من الطبيعي، أن يستمر هذا الاندفاع وقتاً آخر قبل أن يخبو، وأن تحتفظ الحركة الفكرية بقوتها مدى حين، وذلك بالرغم مما فقدته في ظل العهد الجديد - العهد المرابطي - من عوامل الرعاية والتشجيع، التي كانت تغذيها أيام الطوائف. وهذا ما يمكن أن نفسر به تلك الظاهرة، وهي أن الحركة العلمية والأدبية بالأندلس، لبثت خلال العهد المرابطي، تحتفظ بكثير مما كان لها أيام الطوائف من قوة وحيوية، وأن النصف الأول من القرن السادس الهجري، وهو الذي يستغرق عهد المرابطين، يحفل بجمهرة كبيرة من رجال العلم والأدب، ومنهم بعض الأقطاب البارزين. ثم إنه يجب ألاّ ننسى إلى جانب ذلك، أن الدولة المرابطية، قد بذلت رعايتها لطائفة كبيرة من العلماء والأدباء الأندلسيين، واستخدم بلاط مراكش، والأمراء والحكام المرابطون بالأندلس، كثيراً منهم في مناصب الوزارة والكتابة، أسوة بما كانت تجرى عليه قصور الطوائف من حشد أعلام التفكير والبلاغة بها، ليزدان بهم بلاط الأمير، وليكونوا لسانه البليغ في تدبيج الأوامر والمراسيم، وفي مخاطبة الكافة. بيد أنه مما تجب ملاحظته، هو أن الدولة المرابطية، إذا كانت في حاجة لأن تستخدم كتاب الأندلس البلغاء، للإعراب عن رغباتها ومخاطباتها، فإنها لم تكن تعني بأمر الشعر أو تقدره قدره، ولم يستهوها رنينه وروعته، اللهم إلا في أواخر عهدها، حيث بدأ الشعراء ينظمون مدائحهم لعلي بن يوسف وولده تاشفين، ومما يذكر في ذلك ما لاحظه الشقندي في رسالته عن يوسف بن تاشفين من أنه " لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه، ما أجروا له ذكراً، ولا رفعوا لملكه قدراً، وأنه حينما أنشده الشعراء مدائحهم سأله المعتمد أيعلم أمير المسلمين ما قالوه، قال لا أعلم، ولكنهم يطلبون الخير " (¬1). وسنحاول في هذا الفصل، أن نستعرض تلك الجمهرة من العلماء والأدباء الأندلسيين، الذين ظهروا في تلك الفترة القصيرة - فترة العصر المرابطي - ويأتي في مقدمة هؤلاء تلك الصفوة من الكتاب والأدباء، الذين ظهروا في أواخر عهد ¬_______ (¬1) راجع رسالة الشقندى في فضائل الأندلس، وقد نشرها المقري في نفح الطيب (القاهرة، ج 2 ص 140).

الطوائف، واستدعتهم الدولة المرابطية لخدماتها، بعد أن زالت قصور الطوائف، وأصبحت الأندلس جزءاً من الإمبراطورية المرابطية الكبرى. - 1 - بدأ استخدام البلاط المرابطي للكتاب الأندلسيين، منذ عهد يوسف بن تاشفين ذاته، فكان كاتبه قبل أن يعبر إلى شبه الجزيرة، أديب أندلسي من أهل ألمرية، هو عبد الرحمن بن أسباط، حسبما أشرنا إلى ذلك في موضعه. فلما توفي سنة 487 هـ، وكان يوسف قد افتتح ممالك اطوائف يومئذ، خلفه في منصب الكتابة، كاتب من أعظم كتاب الأندلس يومئذ، هو محمد بن سليمان الكلاعي الإشبيلي، ويكنى أبا بكر، ويعرف بابن القصيرة. فكان مثوله في البلاط المرابطي بداية لاحتشاد أعلام الكتابة الأندلسيين للخدمة فيه. وكان ابن القصيرة من وزراء بني عباد وكتابهم، خدم المعتضد ثم ولده المعتمد، وحظى لديه حتى غدا في أواخر عهده أعظم وزرائه نفوذاً وسلطاناً. ولما تحرجت الأمور، واشتد ألفونسو السادس ملك قشتالة في إرهاق الطوائف، كان ابن القصيرة ضمن سفراء الأندلس، الذين وفدوا إلى المغرب، لطلب الإنجاد والغوث من يوسف بن تاشفين. ولما استولى يوسف على دول الطوائف، اعتزل ابن القصيرة وقتاً حتى استدعاه يوسف لكتابته، حسبما تقدم. وكان ابن القصيرة كاتباً بليغاً مبدعاً، ويصفه ابن الصيرفي بقوله " الوزير الكاتب الناظم، الناثر، القائم بعمود الكتابة، والحامل للواء البلاغة، اجتمع له براعة النثر وجزالة النظم ". ويصفه ابن بشكوال في الصلة بأنه " كان من أهل الأدب البارع، والتفنن في أنواع العلم ". وقد انتهت إلينا من آثار ابن القصيرة المنثورة، قطع عديدة، منها أولا نص المرسوم الصادر عن يوسف ابن تاشفين بإسناد ولاية العهد لولده علي، وهو مدبج بقلمه، وقد أوردناه من قبل في موضعه، ورسائل مختلفة أوردها لنا صاحب القلائد، وهي جميعاً تدل على قوة أسلوبه، وروعة بيانه. وكان ابن القصيرة شاعراً جزلا في نفس الوقت، وقد أورد لنا ابن الخطيب من شعره قصيدة في هجو ابن ذى النون، ومدح ابن عباد حينما استولى على قرطبة. وتوفي ابن القصيرة في جمادى الآخرة سنة 508 هـ (1114 م) (¬1). ¬_______ (¬1) راجع في ترجمة ابن القصيرة. الصلة لابن بشكوال (القاهرة) رقم 1253، وقلائد العقيان ص 104 - 106، والإحاطة في مخطوط الإسكوريال السالف ذكره لوحة 64 و 65.

واحتشد في البلاط المرابطي إلى جانب ابن القصيرة، عدة من أعلام الكتاب وأئمة البلاغة في ذلك العصر، منهم بنو القبطرنة وهم أبو بكر بن عبد العزيز البطليوسي، وأخواه أبو الحسن وأبو محمد، وقد كانوا من أهل بطليوس، ومن كتاب دولة بني الأفطس، وقد كتب ثلاثتهم بعد ذهابها عن أمير المسلمين علي ابن يوسف، وكانوا جميعاً من أكابر الكتاب والشعراء. وكان أبو بكر المتوفى سنة 520 هـ (1126 م) فيما يبدو عميدهم في النباهة والبلاغة، أو حسبما يصفه ابن بسام " علم بردهم، وواسطة عقدهم ". وقد ذكرهم صاحب القلائد، وأورد لنا طرفاً من منظومهم ومنثورهم، وكذا ابن الخطيب في الإحاطة، وابن سعيد في المغرب (¬1). ومنهم وزير بني الأفطس وكاتبهم وصاحب مرثيتهم الغراء، أبو محمد عبد المجيد بن عبدون، المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، وقد سبق أن أتينا على ترجمته في " دول الطوائف " (¬2). وأبو القاسم محمد بن عبد الله بن الجَد الفهري، وهو من أهل لبلة، برع في الفقه والأدب، وسكن إشبيلية، وخدم في بداية أمره دولة بني عباد. ولما ذهبت دولتهم، تولى خطة الإفتاء بلبلة، نم استُدعى للكتابة في بلاط علي ابن يوسف، واستمر في منصبه حتى توفي في سنة 515 هـ. وقد أورد لنا صاحب القلائد طرفاً من نظمه ورسائله، ومنها رسالة عن أمير المسلمين إلى أهل سبتة، بولاية الأمير يحيى بن أبى بكر الصحراوي لفاس وسبتة، ورسالة إلى أبى محمد عبد الله بن فاطمة والي إشبيلية، يدعوه فيها إلى التزام الحق واتباع العدل، والرفق بالرعية، ورسالة إلى أهل إشبيلية يحثهم فيها على نبذ الشقاق والتطاحن (¬3). وكان منهم أخيراً، أبو عبد الله بن أبى الخصال، وأخوه أبو مروان عبد الملك. وأبو عبد الله هو محمد بن مسعود بن خلصة، ابن أبى الخصال الغافقي، أصله من كورة جيان من أهل شقورة، ولد في سنة 465 هـ، وسكن قرطبة وغرناطة، وبرع في الحديث وعلوم اللغة والسير، وبرع في الكتابة والنظم، ¬_______ (¬1) راجع قلائد العقيان ص 148 - 155، والإحاطة (1956) ج 1 ص 528 - 531، والمغرب في حلى المغرب ج 1 ص 367 و 368. (¬2) راجع كتابنا دول الطوائف ص 411. (¬3) ترجم ابن بشكوال لابن الجد في الصلة (القاهرة) رقم 1267، وقلائد العقيان ص 109 - 115.

حتى نعت بإمام البلاغة، ووصفه ابن بشكوال بأنه " كان مفخرة وقته، وجمال جماعته ". وقال أبو القاسم الملاّحي لم يكن في عصره مثله. اتصل برجال الدولة اللمتونية، وتولى الوزارة والكتابة لعلي بن يوسف، وحظى لديه، حتى غدا أنبه كتابه، وأعلاهم مكانة، وآثرهم لديه، وكان يعاونه في ديوان الكتابة أخوه أبو مروان عبد الملك. وصدرت بقلم ابن أبى الخصال عن علي بن يوسف رسائل كثيرة في مختلف الأغراض، وانتهى إلينا الكثير منها، وهي تدل جميعاً على روعة أسلوبه وفيض بلاغته، واستمر على مكانه في البلاط المرابطي، حتى صدرت عنه بأمر علي بن يوسف رسالة موجهة إلى الجند المرابطين ببلنسية يلومهم فيها على تخاذلهم أمام العدو، فجاءت رسالة قاسية تفيض بالسباب المقذع، والطعن المهين (¬1)، فكانت سبباً في الوحشة بينه وبين الأمير، وترتب على ذلك أن استعفي أبو عبد الله من منصبه، فأعفاه علي بن يوسف، وعاد إلى قرطبة، ثم توفي بها بعد قليل في شهر ذي الحجة سنة 540 هـ (1146 م)، وتوفي أخوه عبد الملك قبله بمراكش في سنة 539 هـ (¬2). وقد كتب أبو عبد الله بن أبى الخصال عدة مؤلفات قيمة منها كتاب " سراج الأدب " الذي صنفه على طريقة كتاب النوادر لأبى علي القالي، وزهر الآداب للحصري، وكتاب " ظل الغمامة وطوق الحمامة "، وهو في مناقب الصحابة. وقصيدته الموسومة " بمعراج المناقب، ومنهاج الحسب الثاقب " في نسب رسول الله. وجمعت رسائله في غير مجموع. وله أيضاً آثار شعرية كثيرة. وقد سبق أن أوردنا شيئاً من نظمه في مديح الأمير تاشفين (¬3). ¬_______ (¬1) وردت هذه الرسالة في مجموعة الإسكوريال المخطوطة رقم 538 الغزيري، ونشر المراكشي في المعجب جزءاً منها (ص 98). ونشرها الدكتور حسين مؤنس كاملة في مجلة المعهد المصري بمدريد في العدد الثالث سنة 1955 ص 116 - 118. (¬2) راجع في ترجمة ابن أبى الخصال: الصلة لابن بشكوال (القاهرة) رقم 1294. والإحاطة مخطوط الإسكوريال السالف الذكر - لوحة 39، والمعجب ص 96، ونفح الطيب ج 2 ص 137، وكذلك P. Boigues: Historiadores y Geograficos Arabigo-Espanoles No 165 ونشر الدكتور محمود علي مكي عدة من رسائل ابن أبى الخصال الصادرة عن علي بن يوسف في صحيفة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (المجلدان السابع والثامن) ص 167 - 174. (¬3) أورد لنا ابن دحية في كتابه " المطرب من أشعار أهل المغرب " شيئاً من نظمه ص 187 - 189.

ومن شعره: وافى وقد عظمت على ذنوبه ... في غيبة قبحت بها آثاره فمحى إساءته لنا إحسانه ... واستغفرت لذنوبه أوتاره وقوله يتشوق إلى قرطبة: أسمت لهم بالغور والشمل جامع ... بروقاً بأعلام العذيب لوامع فباحت بأسرار الضمير المدامع ... ورب غرام لم تنله المسامع ويجب ألا ننسى، أنه كان يوجد إلى جانب هذه الصفوة من الكتاب الأندلسيين، وزير وكاتب نابه من أصل أندلسي، ومن أعلام البلاغة وأئمة البيان في ذلك العصر، هو الوزير الكاتب، الناثر الشاعر، أبو جعفر أحمد بن عطية، الذي تتبعنا أخباره فيما تقدم، مذ خدم الدولة اللمتونية حتى سقوطها، ثم انتقل إلى خدمة الموحدين في الظروف التي شرحناها، حتى كانت نكبته على يد الخليفة عبد المؤمن بن علي. وكتب عن أمراء الدولة اللمتونية أيضاً، كاتبان أندلسيان آخران هما أبو نصر الفتح بن خاقان، وابن الصيرفي. فأما الفتح بن خاقان، فهو إشبيلي من كتاب الطوائف الأعلام. وقد اشتهر بأسلوبه الأدبي البليغ المسجع، وهو الذي اتبعه في كتابيه " قلائد العقيان " و " مطمح الأنفس ". طاف في أول أمره بقصور الطوائف، واتصل بمعظم أمرائها. ثم خدم الأمير أبا إبراهيم أسحق بن يوسف بن تاشفين، أخا أمير المسلمين علي بن يوسف، وكتب له كتابيه " القلائد " مشتملا على تراجم أمراء الطوائف، وأعيان العصر وفقهائه وكتابه. وانتقل في أواخر حياته إلى مراكش وعاش بها، وكان خليعاً مدمناً، منحرف السلوك، فانتهى بأن توفي قتيلا في الفندق الذي يسكنه، وقيل إن الذي أشار بقتله هو علي بن يوسف (¬1). وأما ابن الصيرفي، فهو يحيى بن محمد بن يوسف الأنصاري، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الصيرفي. كان من أعلام العصر المرابطي في البلاغة والأدب والتاريخ، وكان من الكتاب المجيدين، والشعراء المطبوعين، كتب بغرناطة عن الأمير تاشفين بن علي، أيام أن كان والياً للأندلس، وألف في تاريخ الأندلس في العصر المرابطي كتاباً سماه " الأنوار الجلية في أخبار الدولة ¬_______ (¬1) راجع ترجمة الفتح بن خاقان في ابن خلكان (ج 1 ص 515). وكذلك: P. Boigues: ibid ; No 162

المربطية ". وكتاباً آخر سماه " قصص الأنباء وسياسة الرؤساء ". وهما مؤلفان لم يصلا إلينا مع الأسف. ولم يصلا إلينا من مؤلفه الأول سوى شذور نقلها المتأخرون، مثل ابن الخطيب وغيره، ومن ذلك روايته عن غزوة ألفونسو المحارب للأندلس، وهي واقعة كان من معاصريها وشهودها، وقد فصلنا حوادثها في موضعها. وتوفي ابن الصيرفي بغرناطة في سنة 570 هـ (1174 م) (¬1). ومن الكتاب الذين اتصلوا بالدولة اللمتونية، وكتبوا عنها أخيل بن إدريس الرُّندي، الذي تتبعنا مصايره من قبل خلال حديثنا عن حوادث الثورة بالأندلس، فقد كتب في بداية حياته للمرابطين، ولما قام القاضي ابن حمدين بقرطبة تولى الكتابة عنه، ثم لحق ببلده رندة، واستبد بحكمها حيناً، فلما انتزعها منه ابن عزون صاحب شريش، عبر البحر إلى مراكش واتصل بحكومة الموحدين، ثم ولي بعد ذلك قضاء قرطبة، فقضاء إشبيلية، حيث توفي بها في سنة 560 هـ (1165 م). وكان أخيل كاتباً بليغاً وشاعراً مطبوعاً. وقد أورد لنا ابن الأبار شيئاً من شعره (¬2). وكان من هؤلاء الوزراء الكتاب أيضاً، علي بن عبد العزيز بن الإمام الأنصاري، وهو سرقسطي الأصل، سكن غرناطة، وكان من الكتاب المجيدين وأهل البلاغة والفصاحة. وزر للأمير أبى الطاهر تميم بن يوسف أيام ولايته لغرناطة، ثم كتب من بعده لأخيه الأمير علي بن يوسف (¬3). كان اجتماع هذه الصفوة الممتازة من كتاب الأندلس في البلاط المرابطي، ظاهرة تدلى بأن المرابطين لم تفتهم أهمية القيم العلمية والأدبية، وأهمية الأساليب البليغة العالية، في عرض مراسيم الدولة، وأوامرها، والإفصاح عن رغباتها، ووجهات نظرها، بيد أنها كانت رعاية محدودة المدى، مقصورة على المجال الرسمي، ولم تكن تسيرها تلك النزعة المستنيرة، التي تعتبر الحركة العلمية والأدبية، من المقومات الحيوية، لأمة عريقة متمدنة، كالأمة الأندلسية. - 2 - يمكننا أن نعتبر الحركة الفكرية والأدبية بالأندلس، في العصر المرابطي، ¬_______ (¬1) ترجمة ابن الصيرفي في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 415. وقد سبق أن نقلناها في ص 110 من هذا الكتاب (الحاشية). (¬2) راجع ترجمة أخيل بن إدريس في الحلة السيراء ص 222 - 224. (¬3) ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) لوحة 331.

هي امتداد لها منذ أيام الطوائف. ومع ذلك فإن هذه الحركة لم تخل من بعض عناصر القوة، التي نبتت وتأثلت في العصر المرابطي ذاته. وقد يرجع ذلك إلى أن الضغط الذي عانته الحركة الفكرية من الحكم المرابطي، لم يكن شاملا، ولم يكن بالأخص طويل الأمد. وبالرغم من أن الحركة الفكرية الأندلسية لم تصل خلال العصر المرابطي، إلى ذلك المدى من الازدهار والفخامة والتنوع، الذي بلغته في ظل دول الطوائف، فإنا نستطيع مع ذلك أن نستعرض إلى جانب هذه الجمهرة من أكابر الكتاب الذين خدموا في البلاط المرابطي، جمهرة كبيرة أخرى من العلماء والأدباء والشعراء الذين ظهروا في تلك الفترة، ومنهم بالفعل عبقريات فذة، يمكن أن تزهو بها أية حركة عقلية. ولنبدأ بذكر أعلام الأدباء من كتاب وشعراء، ولدينا منهم ثبت حاشد. فمنهم أولا، أميران من أمراء بلنسية، هما أبو عبد الرحمن بن طاهر القيسي، وأبو عبد الملك مروان بن عبد العزيز. وقد سبق أن أتينا على سيرة كل منهما في الحكم، وما تقلب فيه من أحداث السياسة. فأما أولهما أبو عبد الرحمن بن طاهر، فقد كان صنو جده أبى عبد الرحمن بن طاهر أمير مرسية أيام الطوائف، وأحد أمراء البيان المبرزين في عصره، كان صنوه في العلم والأدب، وفي سحر البيان وروعته، وكان إلى جانب ذلك شاعراً مطبوعاً. عاش بعد خلعه من الإمارة على يد ابن عياض، حيناً بمرسية، في عزلة مطبقة، وهو يشهد تطور الحوادث في شرقي الأندلس. ولما توفي محمد بن سعد بن مردنيش زعيم الشرق، وانهارت بوفاته جبهة الثورة ضد الموحدين، دخل ابن طاهر في الدعوة الموحدية، ثم عبر البحر إلى المغرب، واستقر بمراكش، وتوفي بها في سنة 574 هـ (¬1). ومن آثاره النثرية، رسالة يخاطب بها الخليفة عبد المؤمن، ويحاول فيها أن يثبت أمر الإمام المهدي بالأدلة التاريخية والمنطقية. وقد وضعها على طريقة المساجلة بالدليل والبرهان، بين النفس المطمئنة المؤمنة الراضية، والنفس النزوعية الثائرة. وتحمل النفس المطمئنة خلال حديثها على عهد المرابطين، وتصفه بعهد الضلال والفسق، وتحاول أن تؤيد صدق قضية المهدي وشرعية إمامته، وصحيح نسبته إلى آل البيت. وقد اقتنعت النفس النزوعية الأمارة بالسوء في النهاية بصدق ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن الأبار في الحلة السيراء ترجمة ضافية لابن طاهر (ص 216 - 222).

تدليل خصيمتها النفس المطمئنة. ويختتم ابن طاهر رسالته، وهي المسماة "بالكافية " بمديح الخليفة عبد المؤمن والدعاء له، والإشادة بمآثره (¬1). ومن نظمه قوله: هجرت من الدنيا لذيذ نعيمها ... لأنك لا ترضاه إلا مخلدا وقضيتَ شهر الصوم بالنية التي ... رقيتَ بها في رتبة القدس مصعدا وودع عن شوق إليك مبرح ... فلو كان ذا جفن لبات مسهدا وأما مروان بن عبد العزيز، فقد كان فقيهاً عالماً وأديباً كبيراً، وشاعراً جزلا، وكان قبل توليه إمارة بلنسية، يلي قضاءها. وقد تتبعنا فيما تقدم أطوار حياته السياسية، ثم محنته بعد أن خُلع من الإمارة، وألقى إلى ظلام السجن أعواماً طوالا. وذكر لنا ابن الأبار أنه نظم في محنته قصيدة هذا مطلعها: يا نفس دونك فاجزعي أو فاصبري ... طلع الزمان بوجهه المتنمِّر ولما أطلق سراحه بواسطة الوزير أبى جعفر بن عطية، وانتظم في مجلس الخليفة عبد المؤمن، نظم في حق الوزير المحسن إليه، وفي التحريض على نكبته، تلك القصيدة التي أوردناها فيما تقدم والتي مطلعها: قل للإمام أطال الله مدته ... قولا تبين لذي لب حقائقه ومن شعره في وصف بلنسية: كأن بلنسية كاعب ... وملبسها السندس الأخضر إذا جئتها سترت نفسها ... بأكمامها فهي لا تظهر وتوفي ابن عبد العزيز بمراكش سنة 578 هـ (1182 م). وكان من الوزراء الأدباء الشعراء، أبو جعفر بن عبد الرحمن الوقشي (¬2)، وزير ابن هَمُشك وكاتبه ونائبه بمدينة جيان. وكان ابن همشك حينما هزم في موقعة السبيكة بأراضي غرناطة (سنة 557 هـ)، قد فر منسحباً إلى الشرق، وطارده الموحدون، وحاصروا مدينة جيّان، وكان بها الوزير الوقّشي فامتنع بها ودافع ¬_______ (¬1) تسمى هذه الرسالة باسمها الكامل " الكافية في براهين الإمام المهدي رضى الله عنه تعالى عقلا ونقلا "، وقد أورد لنا ابن القطان نصها الكامل في " نظم الجمان " وهي تستغرق منه عدة صفحات (المخطوط لوحة 20 أإلى 30 ب). (¬2) راجع ترجمة مروان بن عبد العزيز في الحلة السيراء ص 212 - 216، والتكملة (القاهرة) رقم 1751. وراجع أيضاً المغرب من أشعار أهل المغرب ص 80 و 108.

عنها، حتى أقلع الموحدون عنها دون طائل. ولما وقع الشقاق بين ابن همشك، وبين حليفه وصهره محمد بن سعد بن مردنيش، ودخل ابن همشك في دعوة الموحدين (562 هـ)، بعث وزيره الوقشي إلى بلاط مراكش ليسعى في إنجاده ضد صهره. وينوه ابن الأبار بمكانة الوقّشي الأدبية، ويقول لنا إن له " تحقق بالإحسان، وتصرف في أفانين البيان " ويشير إلى أن الشاعر ابن غالب الرصافي، قد مدحه في ديوانه " وأعرب عن جلالة شأنه " ثم يقارنه بأبى جعفر بن عطية، وقد كان كلاهما، من مفاخر الأندلس " وكانا متعاصرين في الكفاية متكافئين، ولذاك في النثر مزية هذا في الشعر ". وقد أورد لنا ابن الأبار طائفة من شعر الوقّشي، ومن ذلك قوله يصف الشقائق: وشقائق لاحت على الأغصان ... مثل الخدود تزان بالخيلان يهفو النسيم مع الأصائل والضحى ... فيهز منها معطف النشوان فكأنها قضب الزمرد ألصقت ... بالمسك فيها أكؤس العقيان (¬1) وذكر ابن عبد الملك في التكملة، أن الوقّشي مدح الأمير أبا يعقوب يوسف ابن عبد المؤمن بقصيدة مطلعها: أبت غير ماء النخيل ورودا ... وهاجت به عذب الحمام مرودا وقالت لحاديها أتم زيادة ... على العشر في وردي له فأزيدا ومنها في الحث على الجهاد: ألا ليت شعري هل يُمد لي المدى ... فأبصر خيل المشركين طريدا وهل بعد يقضي في النصارى بنصرة ... تغادرهم للمرهقات حصيدا ويغزو أبو يعقوب في شنت ياقب ... يعيد عميد الكافرين عبيدا (¬2) وتوفي الوقّشي بمالقة في سنة 574 هـ (1178 م). ومن أعلام الأدب الذين ظهروا في العصر المرابطي، أبو الحسن عبد الملك ابن عباس بن فرج بن عبد الملك المعروف بابن الأزرق، وهو من أهل قرطبة، وكان كاتباً بليغاً وشاعراً مقتدراً، كتب عن قاضي الجماعة أبى القاسم بن حمدين في أواخر عهد المرابطين، ولما ثار أبو جعفر بن حمدين وانتزع الرياسة لنفسه، خشى ابن الأزرق العاقبة، وفر إلى إشبيلية، وانقطع إلى العبادة، في بعض ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن الأبار في الحلة السيراء ترجمة ضافية للوقشي (ص 230 - 236). (¬2) الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (الجزء الأول من مخطوط باريس لوحة 16).

قرى إشبيلية. ثم استدعاه أبو إسحق برّاز بن محمد المسّوفي عامل إشبيلية الموحدي للكتابة، فتولى منصبه على كره منه، ثم كتب من بعده للأمير أبى حفص ابن عبد المؤمن، ثم كتب عن عبد المؤمن نفسه، بعد مقتل كاتبه ابن عطية، ثم عن ولده أبى يعقوب يوسف، وقت ولايته لإشبيلية، وتوفي في سنة 568 هـ (1172) (¬1). ومنهم على بن أحمد بن محمد بن عثمان الكلبي الشلطيشي، من أهل المغرب، سكن قرطبة، وكان فقيهاً متمكناً، وكاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً. ولما ثار أخوه أبو بكر محمد داعية المريدين بميرتلة، سنة 539 هـ، خاف على نفسه، واختفى أشهراً، ثم غادر قرطبة وتجول حيناً في مختلف القواعد الأندلسية، ثم عبر البحر إلى المغرب، ونزل بمراكش، وأقام بها حتى توفي سنة 566 هـ (1171 م) (¬2). ومنهم أبو الحسن علي بن مسعود بن إسحق بن عصام الخولاني، من أهل سرقسطة، وكان فقيهاً بارعاً، حافظاً للمدونة، وله حظ وافر من الأدب، ولي قضاء ميورقة. ولما دهم النصارى سرقسطة في سنة 512 هـ، وبعث قاضيها بصريخه إلى الأمير أبى الطاهر تميم المرابط بجيشه على مقربة منها، كان أبو الحسن الخولاني، وزميله الخطيب أبو زيد بن منتيال، هما اللذان خرجا لمخاطبة الأمير تميم بالنيابة عن أهل سرقسطة، وناشداه الغوث والإنجاد، ولكنه لم يستجب إلى هذا الصريخ، وانتهت سرقسطة إلى التسليم (¬3). - 3 - ولمع في العصر المرابطي عدة من الأدباء المؤرخين، وأعلام الرواية المحققين، الذين ما زالت آثارهم من أقيم مصادرنا في تاريخ الأندلس، وتاريخ الأدب الأندلسي. وكان في مقدمة هؤلاء قطبهم وعميدهم، أبو الحسن علي بن بسّام الشنتريني، صاحب كتاب " الذخيرة "، وهو من أقيم وأشهر كتب الأدب والتاريخ في هذا العصر، إن لم يكن أقيمها وأشهرها جميعاً. وابن بسام من أهل غربي الأندلس من مدينة شنترين البرتغالية، ولكنه غادرها في شبابه إلى إشبيلية حينما اضطربت ¬_______ (¬1) الذيل والتكملة المخطوط سالف الذكر. (¬2) الذيل والتكملة المخطوط سالف الذكر. (¬3) الذيل والتكملة المخطوط سالف الذكر. وراجع ص 96 من هذا الكتاب.

بها الأحوال، واشتد خطر سقوطها في أيدي النصارى. ودرس ابن بسام في إشبيلية وقرطية، وكتب مؤلفه الضخم " الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة " بقرطبة، وانتهى من كتابته في سنة 503 هـ. ويصارحنا ابن بسام في مقدمته بالدافع النفسي، الذي دفعه إلى تصنيف كتاب " الذخيرة "، وهو أنه رأى انصراف أهل عصره وقطره، إلى أدب المشرق، والتزود منه والإعجاب به، وإهمال آداب بلدهم، فأراد بوضع الذخيرة، وجميع ما تضمنته من رائق المنثور والمنظوم، أن يبصّر أهل الأندلس بتفوق أدبائهم، وروعة إنتاجهم، وأن من حقهم أن يزهوا بأدبهم وأن يتذوقوه، وأن الإحسان ليس مقصوراً على أهل المشرق (¬1). وقد سبق أن أشرنا إلى أهمية الذخيرة كمصدر من أنفس مصادرنا التاريخية والأدبية والاجتماعية، ولاسيما عن عهد الطوائف وأمرائه وأدبائه وشعرائه (¬2). وإنه لما يدعو إلى الغبطة أن البحث قد استطاع أخيراً، أن يضع يده على النص الكامل لكتاب " الذخيرة " بأقسامه أو مجلداته الأربعة، بعد أن لبث مدة طويلة مفتقداً لبعض أجزائه. وكتب ابن بسام غير " الذخيرة " عدة مصنفات أخرى، منها كتاب في شعر المعتمد بن عباد، وكتاب في شعر ابن وهبون، ورسالة عنوانها " سلك الجواهر في ترسيل ابن طاهر " ومجموعة مختارة من شعر أبى بكر بن عمار. ويمتاز ابن بسام بأسلوبه المشرق، الذي يغلب عليه السجع، دون أن ينتقص من قوته وإشراقه، كما يمتاز بملاحظاته النقدية القوية، التاريخية والاجتماعية. ومما هو جدير بالذكر أنه لم يُعرف عن ابن بسام أنه خدم أحداً من أمراء عصره، أو تطفل على موائدهم أسوة بمعظم زملائه، كتاب العصر وأدبائه. وكانت وفاته بقرطبة سنة 542 هـ (1147 م) (¬3). ومنهم أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن وزمر الحجاري، صاحب كتاب " المسهب " الشهير. وأصله من وادي الحجارة حسبما يدل على ذلك اسمه. ولما سقطت وادي الحجارة في أيدي النصارى، غادرها مع أهله، وطاف بعدة من بلاد الأندلس، ثم نزل مدينة غرناطة، وسار منها الى قلعة بني سعيد (أو قلعة يحصب)، وهنالك استقبله صاحبها عبد الملك بن سعيد، وهو من أقطاب علماء ¬_______ (¬1) راجع مقدمة الذخيرة (المجلد الأول القسم الأول) طبعة جامعة القاهرة ص 2 و 3. (¬2) كتاب دول الطوائف ص 418. (¬3) راجع في ترجمة ابن بسام، مقدمة كتاب الذخيرة، وكذلك Pons Boigues: ibid ; No 171 والمراجع.

عصره، وأكرم وفادته، وقدر علمه وأدبه. وكان الحجاري أديباً كبيراً وشاعراً مطبوعاً، وكان يشتهر بنظمه في كل بلد نزل فيه. ثم غادر قلعة يحصب، وقصد إلى المستنصر بن هود بروطة، ومدحه، وسار معه في بعض وقائعه مع البشكنس، فوقع أسيراً ضمن الأسرى. ولما قيض له الخلاص من أسره، عاد إلى قلعة يحصب، وعاش في كنف حاميه عبد الملك بن سعيد. وأشهر آثار الحجاري كتابه " المسهب في فضائل (أو غرائب) المغرب " في ستة أجزاء. وقد ألفه تحقيقاً لرغبة ابن سعيد، وكان فيما بعد مستقى لأسرة بني سعيد في تأليف كتابها الشهير " المغرب في حلى المغرب " ومن أخصب وأقيم مصادرها، وفيه يتناول الحجاري تراجم رجال الأندلس وحوادثها منذ الفتح إلى سنة 530 هـ. وقد نقل إلينا المتأخرون منه الكثير ولاسيما المقري في نفح الطيب، حيث ينقل منه عشرات الشذور، في مختلف المواطن. وتوفي الحجاري في سنة 550 هـ (1155 م) (¬1). ومنهم أبو محمد عبد الله بن علي بن عبد الله اللخمي المعروف بالرُّشاطي، أصله من أهل أوريولة من شرقي الأندلس، وبها ولد سنة 466 هـ. ودرس على عدة من أعلام العصر ومنهم الحافظ أبو على الصدفي. ثم انتقل إلى ألمرية، وعاش بها. ونبغ الرشاطي في الحديث والرواية والتاريخ والأنساب. وكتب كتابه الشهير " اقتباس الأنوار، والتماس الأزهار، في أنساب الصحابة ورواة الآثار ". وأخذ عنه كثير من علماء عصره. وتوفي بألمرية شهيداً حينما دخلها النصارى في يوم 20 جمادى الأولى سنة 542 هـ (أكتوبر سنة 1147 م) (¬2). ومنهم أبو عامر محمد بن أحمد بن عامر الطرطوشي السالمي، من أهل طرطوشة من أعمال الثغر الأعلى، وسكن مرسية، وكان متقدماً في فنون عديدة من الأدب والشعر والتاريخ وغيرها. وكتب عدة مؤلفات أشهرها كتابه " درر القلائد وغرر الفوائد ". وهو كتاب تاريخي جغرافي. وكتاب " السلك المنظوم والمسك المختوم ". وتوفي في سنة 559 هـ (1163 م) (¬3). ¬_______ (¬1) راجع ترجمة الحجاري في " المغرب في حلى المغرب " ج 2 ص 35 و 36، والمقري ج 2 ص 406، وكذلك Pons Boigues: ibid ; No 178 (¬2) ترجمة الرشاطي في ابن خلكان ج 1 ص 337، والصلة رقم 651، وكذلك: P. Boigues: ibid ;No 169 (¬3) ترجمته في التكملة لابن الأبار رقم 725. وكذلك في P. Boigues: ibid ; No. 187

ومنهم أبو بكر محمد بن يوسف بن قاسم الشِّلبي، وهو أديب ومؤرخ من أهل الغرب، ومن مدينة شلب، وكان تلميذاً للكاتب أبى وبكر بن القصيرة. ألف كتاباً في تاريخ المعتمد بن عباد لم يصل إلينا. وتوفي أوائل القرن السادس الهجري (¬1). ومن الرواة وعلماء الأخبار الذين ظهروا في العصر المرابطي، محمد بن عبد الله ابن سيّداله التجيبي من أهل شاطبة، روى عن جمهرة من أعلام عصره. وكان عارفاً بالأخبار، حافظاً لأسماء الرواة. وقد ألف مجموعاً في رجال الأندلس، وصل به كتاب الصلة لابن بشكوال، وتوفي في سنة 558 هـ. ونذكر أخيراً علماً من أعلام المؤرخين وأصحاب الأخبار المحققين، في العصر المرابطي، هو العلامة المؤرخ أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال القرطبي، ولد بقرطبة سنة 494 هـ، ودرس بها على أشهر أساتذة العصر، وكان حافظاً، شغوفاً بالأخبار والسير، ولاسيما أخبار الأندلس، محققاً واسع الرواية، حجة في تحقيقها، كتب عدة مؤلفات، أشهرها كتابه " الصلة " الذي جعله تتمة لكتاب ابن الفرضي في " تاريخ العلماء والرواة بالأندلس "، والذي يضم أكثر من ألف وخمسمائة ترجمة لعلماء الأندلس ورواتها، ولاسيما علماء قرطبة، وقد فرغ من تأليفه بقرطبة في سنة 534 هـ، وجاء ابن الأبار بعده، فوضع له ذيلا سماه التكملة في مجلدين كبيرين. ثم جاء أبو جعفر بن الزبير فوضع له ذيلا آخر سماه " صلة الصلة ". ويعتبر كتاب " الصلة " إلى يومنا من أنفس وأوثق مصادر التاريخ الأندلسي. وكتب ابن بشكوال غير " الصلة " عدة مؤلفات أخرى، منها " كتاب الغوامض والمبهمات " وكتاب " الفوائد المنتخبة والحكايات المستغربة " " وكتاب المحاسن والفضائل " " وكتاب المستغيثين بالله تعالى عن المهمات والحاجات "، وغير ذلك من مصنفات بلغت نحو الخمسين مؤلفاً. وتوفي ابن بشكوال بقرطبة بعد حياة علمية حافلة، في رمضان سنة 578 هـ (أواخر سنة 1182 م) (¬2). - 4 - ولقد تحدثنا فيما تقدم عن علماء وأدباء لم يكن الشعر خاصتهم الأولى، وإن كانوا ¬_______ (¬1) راجع ترجمته في P. Boigues: ibid ; No. 187 (¬2) راجع ترجمة ابن بشكوال في التكملة لابن الأبار (القاهرة) رقم 831، وفي وفيات الأعيان ج 1 ص 215.

مع ذلك قد لمعوا في ميدان الشعر، وكانت لهم فيه آثار طيبة. ونود الآن أن نذكر بعض الشعراء الذين نبغوا في العصر المرابطي، وكان الشعر خاصتهم الأولى. فمن هؤلاء أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد، من بني سعيد العنسي سادة قلعة بني يحصب من أعمال غرناطة، وهو بيت من بيوتات الأندلس المشهورة، وينتمي إليه قواد ووزراء وقضاة وكتاب وشعراء، ومنهم مؤلفو كتاب " المغرب في حلى المغرب ". وشغف أبو جعفر بالأدب والشعر منذ حداثته " وحفظ الكثير من أشعار القدماء، وظهرت مواهبه الشعرية لأول مرة حينما وفد مع أبيه وأهله لمقابلة الخليفة عبد المؤمن، وهو بجبل طارق في سنة 556 هـ، وألقى بين يديه قصيدته التي مطلعها: تكلم فقد أصغى إليك الدهر ... وما لسواك اليوم نهي ولا أمر وقد كانت هذه القصيدة التي نقلناها فيما تقدم، فاتحة مجده الشعري. ولما ولي غرناطة السيد أبو سعيد ولد عبد المؤمن، استوزر أبا جعفر، وحظى لديه. ثم فسد ما بينهما بسبب تنافسهما في حب الشاعرة الحسناء حفصة بنت الحاج الرَّكوني، وأخذ السيد أبو سعيد يترقب الفرص لنكبته، وأبو جعفر يتحفظ كل التحفظ، وفي حالته تلك يقول: من يشتري مني الحياة وطيبها ... ووزارتي وتأدبي وتهذبي بمحل راع في ذرى ملمومة ... زويت عن الدنيا بأقصى مرتب فلقد سئمت من الحياة مع امرىء ... متغضب متغلب مترتب الموت يلحظني إذا لاحظته ... ويقوم في فكري أوان تجنبي وانتهى الأمر بأبى جعفر إلى أن ائتمر مع أخيه وبعض أقاربه على الانضمام إلى ابن مردنيش، ولحق أخوه وأقاربه بقلعتهم في بني يحصب. ولكنه جبن وتأخر، ثم فر إلى مالقة، ليركب منها البحر إلى بلنسية، ولكن عمال السيد اكتشفوا أمره وقبضوا عليه، فأمر بقتله صبراً، وكان مصرعه في جمادى الأولى سنة 559 هـ (1164 م). ولأبى جعفر كثير من الشعر الرقيق الجيد. فمن ذلك قوله: أتاني كتاب منك يحسده الدهر ... أما حبره ليل، أما طرسه فجر به جمع الله الأماني لناظري ... وسمعي وفكري فهو سحر ولا سحر

ولا غرو أن أبدى العجايب ربّه ... وفي ثوبه بر، وفي كفه بحر (¬1). ومنهم محمد بن عبد الرحمن العقيلي الجراوي من أهل وادي آش. سكن غرناطة، وكان أديباً مشاركاً في علوم جمة، ولاسيما الطب، كما كان شاعراً جزلا مطبوعاً. ومن قوله يمتدح أمير المسلمين علي بن يوسف: رحلوا الركايب موهنا ... فأذاع عرفهم السنا والحلي قد أغرى بهم ... لما ترغم معلنا كم دب حول حماهم ... من كل خطّار القنا (¬2). ومنهم أحمد بن علي بن محمد بن عبد الملك بن سليمان بن سيد الكناني النحوي، من أهل إشبيلية، وقد عرف " باللص " لما نسب إليه في صغره من إغارته على أشعار الآخرين. وكان أديباً، متقناً للعربية، شاعراً جزلا مجيداً. ولد سنة 503 هـ، وتوفي في سنة 577 هـ (1181 م.). ومن نظمه قوله: وقائلة والضنا شاملي ... على م سهرت ولم ترقد وقد ذاب جسمك فوق الفراش ... حتى خفيت عن العوّد فقلت وكيف أرى نائما ... وراعي المنية بالمرصد (¬3). ومنهم أبو بكر بن قزمان، أمير الزجل الأندلسي، وهو محمد بن عيسى ابن عبد الملك بن قزمان الزهري من أهل قرطبة، برع في الشعر والأدب، وبرع بنوع خاص في نظم القصائد الهزلية بلغة عوام الأندلس أو بعبارة أخرى في نظم الزجل. يقول ابن الخطيب " وهذه الطريقة بديعة يتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسح لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر، وبلغ فيها أبو بكر مبلغاً حجره الله عن سواه فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وحارسها المعلم، والمبتدى فيها والمتمم ". ويصفه ابن خلدون بأنه " إمام الزجالين على الإطلاق ". وخدم ابن قزمان في شبابه المتوكل بن الأفطس صاحب بطليوس ونال لديه حظوة وجاهاً. فلما انتهت دولتهم، عاد إلى قرطبة وتردد بينها وبين غرناطة. ولما قام ابن حمدين في قرطبة، تعرض ابن قزمان لمطاردته ونكاله، وذلك بسبب " شكاسة ¬_______ (¬1) راجع ترجمته في الإحاطة (1956) ج 1 ص 222 - 227. (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال رقم (1673 الغزيري) لوحة 56. (¬3) ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 212.

أخلاق كان موصوفاً بها، وحدة شقى بسببها ". وتوفي ابن قزمان بقرطبة في رمضان سنة 555 هـ (1160 م). وقد اشتهرت أزجال ابن قزمان في الأندلس والمغرب، وجمعت في ديوان خاص متداول، وترجم الكثير منها فيما بعد إلى القشتالية، وكان لها أثر عميق في صوغ الأناشيد الشعبية القشتالية، ثم الأناشيد البروفنسية. وقد أبدى البحث الحديث، أن كثيراً من الأغاني الشعبية في إسبانيا وغيرها من الأمم النصرانية المجاورة، اشتق من أزجال ابن قزمان. ونحن نكتفي بأن نورد هذين النموذجين من أزجال ابن قزمان: قدر الله وساق الخناس إلى وادي على عيون الناس ولعبنا طول النهار بالكاس وجاء الليل وامتد مثل القتيل وقوله يصف عريشاً أمامه تمثال أسد من رخام يصب الماء من فمه على صفائح مدرجة من الحجر: وعريش قد قام على دكان ... بحال رواق وأسد قد ابتلع ثعبان ... في غلظ ساق وفتح فمه بحال إنسان ... فيه الفواق وانطلق يجري على الصفاح ... ولقى الصباح (¬1). ¬_______ (¬1) راجع في ترجمة ابن قزمان: قلائد العقيان ص 187، والإحاطة في مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 59 - 61. وقد أورد لنا ابن الخطيب كثيراً من أزجاله ورسائله النثرية. وكذلك ابن خلدون في المقدمة ص 524.

الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى

الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطي القسم الثاني أعلام المحدثين والفقهاء. الحافظ أبو على الصدفي. القاضي ابن العربي. أبو الوليد بن رشد الجد. ابن ورد التميمي. أبو العباس أحمد بن الصقر الأنصاري. أبو محمد بن عطيه المحاربي. مديحه للمرابطين. عبد الرحمن بن عبد الله المعافري. عبد الله بن محمد المرسى. ابن الحلال. ابن أبى مروان. أبو جعفر البطروجي. ابن الدباغ. سفيان بن أحمد العاصي. أحمد بن عبد العزيز الأزدي. علي بن صالح بن عز الناس. عبد الله بن خلف القرشي. ابن الباذش. القاضي عياض السبتي، حياته وتراثه. ابن بركة. ابن صاحب الصلاة. ابن اشكبندر. ابن صنعون. ابن هذيل. ابن سيد الجراوي. العلامة الصوفي أبو العباس ابن العريف. نموذج من شعره الروحي. دعوة المريدين وتطورها على يد ابن قسي. ابن المنذر. أبو بكر ابن المنخل. ابن سفيان المخزومي. ابن الإقليشي. علماء اللغة. ابن السيد البطليوسي. يونس بن مغيث. العلوم. ابن باجة. شىء من شعره. ابن يحيى الخزرجي. أبو القاسم خلف بن عباس. أمية بن أبى الصلت. حياته ومؤلفاته. بنو زهر. أبو العلاء بن زهر. ابنه عبد الملك. ولده أبو بكر. أبو عبد الله الطغنري. تأملات. - 1 - ظهر في شبه الجزيرة الأندلسية، من أعلام المحدثين والفقهاء، في العصر المرابطي، جمهرة كبيرة، بلغ بعضهم في ميدانه أرفع مكانة. وكان في مقدمة هؤلاء اثنان لمع أحدهما في شرقي الأندلس، ولمع الثاني في غربي الأندلس، وكان لهما أكبر أثر في ازدهار علوم السنة والفقه في ذلك العصر. أولهما العلامة الحافظ أبو على حسين بن محمد بن فيرُّه الصدفي. أصله من سرقسطة من أهل الثغر الأعلى، وبها كان مولده ونشأته، ودرس في سرقسطة وبلنسية وألمرية، وكان من أساتذته أبو الوليد الباجي، وأبو العباس العذري، وأبو عبد الله بن المرابط. ثم رحل إلى الشرق في سنة 481 هـ، وحج ودرس بمكة وبغداد ودمشق والقاهرة، على أشهر علماء العصر. ثم عاد إلى الأندلس سنة 490 هـ، واستوطن مرسية، وقد ذاع صيته العلمي، واشتهر بالأخص بتبحره في علوم السنة. وولي قضاء مرسية مدة، ولكنه استعفى فأعفي، وانقطع لنشر

العلم وتدريسه، فهرع الناس لسماعه والأخذ عليه، وكان أعظم حفاظ عصره. وكتب عدة كتب في الحديث. وفي سنة 514 هـ ذهب إلى شاطبة وأقام بها، وكان دائب الحث على الجهاد. ولما سار الأمير إبراهيم بن يوسف بن تاشفين غازياً إلى الثغر الأعلى لإنقاذ دورقة وقلعة أيوب، كان أبو علي ضمن العلماء الذين ساروا في ركبه، وكان ممن استشهد في موقعة كتندة، التي نشبت على أثر ذلك بين المرابطين وبين الأرجونيين، بقيادة ألفونسو المحارب، في ربيع الأول سنة 514 هـ (يونيه 1120 م) وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه (¬1). والثاني هو القاضي أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن العربي المعافري، وهو من أعظم فقهاء العصر المرابطي وحفاظه، ولد بإشبيلية سنة 468 هـ وبرع في الحديث والأدب، ورحل إلى المشرق مع أبيه حينما أرسله يوسف بن تاشفين سفيراً عنه إلى الخليفة المستظهر والإمام الغزالي، وذلك في سنة 485 هـ، ودرس بمكة والقاهرة وبغداد ودمشق. وقرأ في بغداد على أبى بكر الشاشي، وأبى حامد الغزالي، وبدمشق علي أبى بكر الطرطوشي، ثم عاد إلى الأندلس سنة 493 هـ، يسبقه صيته العلمي. ويصفه تلميذه ابن بشكوال " بالإمام العالم الحافظ، المستبحر، ختام علماء الأندلس، وآخر أئمتها وحفاظها ". وتولى ابن العربي قضاء بلده إشبيلية لأول مرة في سنة 508 هـ، ولبث به مدة وعرف بحزمه ونزاهته، وتحريه العدل والحق والتزام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أوذى بسبب ذلك وانتهبت أمواله وكتبه. ثم صرف عن القضاء وانقطع للتدريس ونشر العلم. وكتب عدة مؤلفات منها " كتاب ترتيب الرحلة "، وكتاب " العواصم والقواصم "، وكتاب " أنوار الفجر " في مدح الرسول، وكتاب " قانون التأويل "، وكتاب " التلخيص في النحو"، وكتاب " القبس في شرح موطأ مالك " وبلغت مؤلفاته نحو الأربعين كتاباً. ولما اضطربت أمور الدولة المرابطية بالأندلس، وغلب الموحدون على إشبيلية، عبر القاضي ابن العربي البحر إلى المغرب، على رأس وفد كبير من علماء إشبيلية وأعيانها، ولقى الخليفة عبد المؤمن بمراكش في أوائل سنة 542 هـ، وذلك عقب افتتاحها، وقدم إليه بيعة أهل إشبيلية، ولما غادر الوفد مراكش عائداً إلى الأندلس، توفي القاضي ابن العربي خلال الطريق، ردفن بفاس وذلك في جمادى الآخرة من نفس السنة (1147 م). ومما تجدر ملاحظته ¬_______ (¬1) راجع الصلة لابن بشكوال الترجمة رقم 330. وكذلك: Pons Boigues: ibid ; No 143

أن ابن العربي بالرغم من تحوله إلى جانب الموحدين حينما قامت دولهم، لم يضن بمديحه للمرابطين وعهدهم، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل (¬1). وكان من أعلام الفقهاء في العصر المرابطي، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد، قاضي الجماعة بقرطبة، وقد برع بالأخص في الفقه المالكي، وألف فيه عدة مصنفات جليلة، منها " كتاب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل " و " كتاب المقدمات لأوائل كتاب المدونة "، واختصار كتاب المبسوطة، واختصار مشتمل الآثار لأبى جعفر الطحاوي. وكان ابن رشد بجلال بيته، ورفيع خلاله، ورياسته العلمية، من الرؤساء ذوي المكانة والنفوذ، لدى البلاط المرابطي، وقد رأينا فيما تقدم خطورة الدور الذي اضطلع به، في إقناع أمير المسلمين علي بن يوسف بتغريب النصارى المعاهدين. ولد بقرطبة سنة 450 هـ، وتوفي بها في شهر ذي القعدة سنة 520 هـ (أواخر 1126 م) (¬2). ومن أشهر الفقهاء المحدثين والحفاظ، في ذلك العصر، أبو القاسم أحمد بن عمر بن يوسف بن ورد التميمي من أهل ألمرية. وكان متمكناً أيضاً من الأدب والنحو والتاريخ، ومتقناً لعلم الأصول والتفسير. انتهت إليه، وإلى زميله القاضي ابن العربي رياسة الفقه المالكي في عصرهما، ولى قضاء غرناطة، فظهر فيه بكفايته وعدله وحسن سيرته؛ وتوفي بألمرية في رمضان سنة 540 هـ (1146 م) (¬3). ومن أعلام المحدثين والفقهاء أيضاً، أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن الصقر الأنصاري الخزرجي، أصله من سرقسطة، ومولده بألمرية سنة 502 هـ، وكان محدثاً بارعاً، وفقيهاً متمكناً متقدماً في علم الكلام، وكاتباً بليغاً وشاعراً محسناً، استدعاه أبو عبد الله بن حسون قاضي مراكش المرابطي إلى كتابته، فلما صرف عن القضاء، تولى أبو العباس خطة الإمامة، واستمر بها، حتى سقطت مراكش وآل الأمر إلى الموحدين. ولما وقعت النكبة، واستباح الموحدون دماء أهل المدينة، اختفى أبو العباس حيناً، وكتب له النجاة، حتى نودي بالعفو، ثم استُنقذ من الرق، واتصل بالسادة الجدد، أعني الموحدين. ¬_______ (¬1) راجع الصلة الترجمة رقم 1297، ونفح الطيب ج 1 ص 335 - 337، وكذلك: Pons Boigues: ibid ; No 172 (¬2) ترجمته في الصلة رقم 1270. (¬3) ترجمته في الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 175 - 177.

فنظمه عبد المؤمن بين طلبة العلم، وأضفى عليه رعايته، ثم ولاه قضاء غرناطة، ثم قضاء إشبيلية. وهنالك توثقت صلاته بجاره وصديقه العلامة أبى بكر بن طفيل. ولما تولى أبو يعقوب يوسف الخلافة، عينه للنظر على الخزانة (المكتبة) وهي عندهم من الخطط الجليلة، لا يتولاها إلا أكابر العلماء. وكتب أبو العباس عدة مصنفات منها " شرح الشهاب " وكتاب " أنوار الأفكار فيمن دخل جزيرة الأندلس من الزهاد والأبرار ". وله شعر جيد معظمه في الإلهيات والزهد. فمن ذلك قوله: إلهي لك الملك العظيم حقيقة ... وما للورى مهما منعت نقير تجافى بنو الدنيا مكاني فسرَّني ... وما قدر مخلوق جداه حقير وقالوا فقير وهم عندي جلالة ... نعم صدقوا إني إليك فقير وتوفي أبو العباس بمراكش في جمادى الأولى سنة 559 هـ (1164 م). ورثاه صديقه العلامة ابن طفيل بقصيدة بعث بها إلى ولده بمراكش مطلعها: لأمر ما تغيرت الدهور ... وأظلمت الكواكب والبدور وطال على العيون الليل حتى ... كأن النجم فيه لا يغور (¬1). ومنهم الفقيه الحافظ أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، من أهل غرناطة، برع في علوم القرآن والسنة وكان فقيهاً متبحراً، وأديباً واسع المعرفة، متقدماً في فنون عديدة، وتولى القضاء بغرناطة وألمرية، وألف في التفسير كتاباً ضخماً لخص فيه كل ما تقدمه من كتب التفسير، واشتهر بالمغرب والأندلس، وألف كتاباً في " الأنساب "، وانتهى إلينا من كل مؤلفاته " معجم شيوخه " وهو محفوظ بمكتبة الإسكوريال. ولد سنة 418 هـ، وتوفي بلورقة سنة 542 هـ (1147 م) (¬2). وكان فوق ذلك أديباً ينظم الشعر، ومن قوله في مدح المرابطين: إذا لثموا بالريط خلت وجوههم ... أزاهر تبدو من فتوق كمائم وإن لثموا بالسّابرية أظهروا ... عيون الأفاعي من جلود الأراقم (¬3). ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن الخطيب في الإحاطة ترجمة ضافية لأبى العباس ج 1 ص 189 - 193، وكذا ابن عبد الملك في الذيل والتكملة. ويقول ابن عبد الملك إن مولد أبى العباس كان بألمرية سنة 492 هـ ووفاته سنة 569 هـ، وبذلك يختلف معه ابن الخطيب في التاريخين. وراجع التكملة لابن الأبار رقم 201. (¬2) راجع بغية الملتمس للضبي (المكتبة الأندلسية) ترجمة رقم 1103. (¬3) راجع الصلة الترجمة رقم 829، وكذلك P. Boigues: ibid ; No 109، والمطرب من أشعار أهل المغرب لابن دحية ص 91.

وهذا المديح للمرابطين من الأمور النادرة في الشعر الأندلسي. وقد نجد شاعراً يمتدح أميراً منهم لصلة خاصة. ولكن يندر أن نجد شعراً في مدح المرابطين بصفة عامة. ومنهم عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله المعافري، وكان من الفقهاء الوزراء. كان متمكناً من الفقه والحديث، بارعاً في الأدب، محسناً للنظم، كاتباً بليغاً، ولي أيام الأمير علي بن يوسف مستخلص غرناطة وإشبيلية (الأملاك السلطانية) فقام على إدارتها بحزم وكفاية، ثم ندبه الأمير إلى طرطوشة ليشرف على أهلها وتجديد مبانيها، فأدى مهمته خير أداء، وكان جواداً كثير البذل، وتوفي في سنة 518 هـ (1124 م) (¬1). ومنهم عبد الله بن محمد عبد الله النفزي المعروف بالمرسي، ولد بمرسية سنة 453 هـ، ودرس بها ثم انتقل إلى سبتة، وتولى الخطابة بجامعها مدة، وكان متفوقاً في علم الحديث، وأخذ الناس عنه، ومنهم صاحب الصلة، وكتب عدة مؤلفات، وتوفي بقرطبة سنة 538 هـ (1143 م) (¬2). ومنهم قاضي قضاة الشرق أبو العباس أحمد بن محمد بن زيادة الله الثقفي المعروف بابن الحلاّل. درس الفقه والحديث والأدب، وولي خطة الشورى، ثم ولي قضاء أوريولة، ثم نقل إلى مرسية حيث تولى بها قضاء الجماعة، وعلت مكانته لدى محمد بن سعد أمير الشرق، ولكنه كان سيىء التصرف، كثير الرعونة، ووشى به إلى الأمير، فقبض عليه واستصفى أمواله، واعتقله ببلدة أندة على مقربة من بلنسية، ثم أمر به فقتل، وكان مقتله في سنة 554 هـ (1159 م) (¬3). ومنهم أحمد بن عبد الملك بن محمد بن إبراهيم الأنصاري، ويعرف بابن أبى مروان، من أهل إشبيلية، كان حافظاً متقناً، فقيهاً ظاهري المذهب على طريقة ابن حزم القرطبي، وله مؤلف في الحديث عنوانه " المنتخب المنتقى " جمع فيه ما افترق في أمهات المسندات من نوازل الشرع. توفي قتيلا بلبلة خلال ثورة أهلها وتغلب الموحدين عليهم، وذلك في شعبان سنة 549 هـ (1154 م) (¬4). ¬_______ (¬1) الإحاطة (مخطوط الإسكوريال) لوحة 256. (¬2) ترجمته في الصلة رقم 649، وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 164 (¬3) ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 174. (¬4) ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 162.

وأبو جعفر أحمد بن عبد الرحمن البطروجي، وقد نبغ في الفقه والحديث، وكتابة السير، وكان من أشهر حفاظ عصره، وتوفي بقرطبة سنة 542 هـ (1147 م) (¬1). ويوسف بن عبد العزيز بن يوسف بن فيرُّه الليثي، ويعرف بابن الدباغ، أصله من أهل أندة، وسكن مرسية، ودرس على أبى علي الصدفي، وكان من أنبه تلاميذه. ونبغ في الحديث والرواية، وكتب عدة مصنفات منها " كتاب طبقات المحدثين " و" طبقات أئمة الفقهاء "، ورسالته في الحفاظ، وغيرها. وتوفي سنة 546 هـ (1151 م) (¬2). وأبو بحر سفيان بن أحمد العاصي الأسدي، أصله من شرقي الأندلس من مدينة مربيطر من أعمال بلنسية، برع في الحديث والأدب والرواية، وكان حسبما يصفه ابن بشكوال من جلة العلماء، وكبار الأدباء، سمع منه وحدث عنه كثير من أهل عصره. وكان من شيوخ ابن بشكوال. وتوفي بقرطبة سنة 542 هـ (1147 م) (¬3). ومنهم أحمد بن عبد العزيز بن محمد الأزدي، وهو شقوري الأصل، نشأ ودرس بمرسية. وكان فقيهاً متمكناً، حافظاً، بصيراً بالفتوى. ولي قضاء شاطبة مدة أيام الأمير محمد بن سعد بن مردنيش، ثم ولي إلى جانبه قضاء أوريولة، ولما نكب قاضي الجماعة أبو العباس بن الحلال، نكب معه، واعتقل شهوراً، ثم أطلق سراحه، وأعيد إلى قضاء أوريولة، ومنصب الشورى بها، إلى أن توفي في سنة 564 هـ (1169 م) (¬4). وعلى بن صالح بن أبى الليث الأسعد بن الفرج، أبو الحسن بن عز الناس، أصله من طرطوشة، ونشأ بميورقة، وتجول في بلاد الأندلس يدرس أينما حل، ويتلقى العلم من أقطاب عصره، وكان من أساتذته أبو بكر بن العربي، وأبو القاسم بن ورد، وأبو الوليد بن رشد، وبرع في الفقه والأصول والحديث، وكان في نفس الوقت أديباً شاعراً، خدم الأمير أبى زكريا بن غانية، أيام إمارته ¬_______ (¬1) ترجمته في الصلة رقم 179، وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 168 (¬2) ترجمته في الصلة رقم 1510 وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 176 (¬3) ترجمته في الصلة رقم 526، وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 147 (¬4) التكملة لابن عبد الملك - مخطوط خزانة الرباط المصور، السفر الأول لوحة 44، والتكملة لابن الأبار رقم 189.

لبلنسية، ثم صحبه إلى قرطبة، ولازمه إلى أن توفي بغرناطة في سنة 543 هـ، فانتقل إلى شرقي الأندلس، واستقر بدانية، ومن مؤلفاته كتاب " العزلة "، " وشرح معاني التحية ". ولد بطرطوشة سنة 508 هـ، وقتل بدانية بأمر محمد ابن سعد في رمضان سنة 566 هـ (1170 م) (¬1). وعبد الله بن خلف بن محمد القرشي، من أهل مورور، وسكن إشبيلية ودرس بها وبقرطبة على أقطاب عصره، ومنهم ابن حمدين، وأبو محمد بن عتاب، وأبو الوليد بن رشد، وكان فقيهاً حافظاً متقناً لفروع المذهب المالكي، ماهراً في استنباط الأحكام، بصيراً بالفتوى، تولى قضاء بلده مورور حيناً، ولد في سنة 493 هـ، وتوفي سنة 576 هـ (1180 م) (¬2). ومنهم محمد بن خلف بن صاعد الغساني، من أهل شلب، يكنى أبا الحسين ويعرف اللبلي لأن أصله من لبلة، درس على أقطاب عصره مثل أبى الوليد ابن رشد، وأبى محمد بن عتاب، وأبى عبد الله بن الحاج، وبرع في الفقه، ورحل إلى المشرق ودرس هنالك على طائفة من أعلامه، ثم عاد إلى الأندلس، فعنى بتدريس الفقه والحديث وعقد الشروط، ثم ولي قضاء شلب، وتوفي في سنة 547 هـ (1152 م) (¬3). وكان من أشهر أئمة القراءات في ذلك العصر، أحمد بن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري المعروف بابن الباذش، وأصله من جيان، وكان إلى جانب ذلك أديباً متقناً للنحو، بصيراً بالأسانيد، ومن مؤلفاته " كتاب الإقناع " وهو من أجل كتب القراءات، وكتاب " الطرق المتداولة " وهو في القراءات أيضاً، وكانت وفاته في سنة 540 هـ (1145 م) (¬4). ونستطيع أخيراً أن نذكر من أكابر الفقهاء والحفاظ، القاضي الأجل، والعلامة الفقيه الحافظ، عياض بن موسى اليحصبي السبتي، وهو إن كان أكثر نسبة إلى المغرب، إلا أنه درس بالأندلس، وشارك في الحياة العقلية الأندلسية مشاركة قوية. ولد بثغر سبتة في منتصف شعبان سنة 476 هـ، وتلقى العلم حدثاً عن أشياخ ¬_______ (¬1) التكملة لابن عبد الملك - مخطوط المتحف البريطاني - السفر الرابع لوحة 48 أ. (¬2) التكملة لابن عبد الملك - مخطوط الإسكوريال (1682 الغزيري). (¬3) ترجمته في التكملة لابن الأبار رقم 671. (¬4) ترجمته في الإحاطة (1956) ج 1 ص 201 - 203.

بلده، ثم عبر البحر إلى الأندلس في أوائل سنة 507 هـ، ودرس أولا بقرطبة، وأخذ فيها عن ابن عتاب وابن حمدين وابن الحاج وغيرهم. وقصد بعد ذلك إلى مرسية، وسمع بها على حافظها أبى علي الصدفي ولازمه حيناً. ثم عاد إلى سبتة بعد أن قضى بالأندلس نحو عام ونصف، وجلس للدرس والمناظرة ثم الشورى. وفي سنة 515 هـ، ولى القضاء، وكان ما يزال شاباً في الثلاثين من عمره، فسلك فيه طريقة مشكورة، وأبدى حزماً في تطبيق الأحكام والحدود، واشتهر بغزير علمه وحفظه، وصدق طريقته، ودقة فتياه. ثم ولي قضاء غرناطة في سنة 531 هـ، فقام به خير قيام، وأعرض عن الشفاعات والمؤثرات، وصد أهل السلطان عن الباطل، وتسبب في تشريدهم عن الأعمال، فاستاء الأمير تاشفين بن علي، لمسلكه، وضاق به ذرعاً، وسعى في صرفه عن قضاء غرناطة. فصرف عنه في رمضان سنة 532 هـ، وعاد إلى سبتة، ولبث بها مدة وهو عاكف على التدريس والفتيا. ثم ولى قضاء سبتة للمرة الثانية في سنة 539 هـ. ولما ظهر أمر الموحدين، بادر بالدخول في طاعتهم، فأقره عبد المؤمن على ما كان عليه، وصرف إليه شئون سبتة، وحظى لديه بالتنويه والتقدير، ثم رحل إليه ولقيه في سلا، وهو يتأهب للسير لحصار مراكش (سنة 540 هـ)، فأجزل الخليفة صلته وعاد إلى سبتة، وهنا وقع الاضطراب بسبتة وخلع أهلها طاعة الموحدين، وقتلوا عاملها الموحدي، ونسب التحريض في ذلك إلى القاضي عياض. وكان القاضي قد اتصل بيحيى بن غانية، وانقلب على الموحدين، فلما قدم الموحدون إلى سبتة، وشددوا في حصارها، عاد القاضي فسعى في الاعتذار إليهم، واستدرار عطفهم، فصفحوا عنه، وعن أهل سبتة، وسار القاضي بعد ذلك إلى مراكش (سنة 543 هـ) ليستعطف الخليفة ويلتمس صفحه، فعفى عنه عبد المؤمن، وأكرم وفادته، وعينه بمجلسه، ثم مرض عياض بعد ذلك وتوفي بمراكش، في الليلة التاسعة من جمادى الآخرة سنة 544 هـ (1149 م)، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في موضعه. وكان القاضي عياض من أكابر الحفاظ، ومن أعظم أئمة عصره في الحديث، وفي فهم غريبه ومشكله ومختلفه، بارعاً في علم الأصول والكلام، حافظاًْ للمختصر والمدونة، متمكناً من الشروط والأحكام، أبرع أهل زمانه في الفتيا، متقناً للنحو واللغة، أديباً كبيراً، وشاعراً مجيداً، حسن التصرف في النظم،

كاتباً بليغاً، وخطيباً مفوهاً، عالماً بالسير والأخبار، ولاسيما سير العرب وأيامها وحروبها، وأخبار الصالحين والصوفية، مشاركاً في علوم كثيرة أخرى، وكان حسن المجلس، ممتع المحاضرة، فصيح اللسان، حلو المداعبة، بساماً مشرقاً، جم التواضع، يمقت الإطراء والملق، معتزاً بنفسه ومكانته، محباً لأهل العلم، معاوناً لهم على طلبه، جواداً، سمحاً، من أكرم أهل زمانه، كثير الصدقة، والمواساة (¬1). وللقاضي عياض ثبت حافل من المؤلفات الجليلة منها كتاب " الشفاء بتعريف حقوق المصطفى " وهو أشهر كتبه. و " مشارق الأنوار "، في تفسير غريب الحديث. وكتاب " التنبيهات ". وكتاب " ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة المالكية " وكتاب " الإكمال " وكتاب " العيون الستة في أخبار سبتة " وغيرها، من كتب الدين واللغة والأنساب والتاريخ. ويعتبر القاضي عياض أعظم حفاظ المغرب وعلمائه في عصره، وقد خصه حافظ المغرب ومؤرخ الأندلس الكبير شهاب الدين المقري بكتابه الضخم " أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض " (¬2). وهناك جمهرة من الفقهاء والمحدثين، الذين ظهروا في العصر المرابطي، وتجاوزوه إلى العصر الموحدي، نذكر بعضهم فيما يلي: كان من هؤلاء، محمد بن سليمان بن خلف النفزي من أهل شاطبة ويعرف بابن بركة، كان فقيهاً متمكناً، حافظاً للمسائل، بصيراً بالفتوى، خبيراً بعقد الشروط، حافظاً لمتون الأحاديث، مستظهراً لمقدمات ابن رشد، ولى خطة الشورى (¬3) بشاطبة، واشتهر بكفايته وورعه، وزهده، وتوفي في جمادى الأولى سنة 553 هـ (¬4). وأحمد بن يوسف بن اسماعيل بن صاحب الصلاة من أهل باجة، وكان ¬_______ (¬1) من ترجمة للقاضي عياض بمخطوط المكتبة الكتانية المحفوظ بخزانة الرباط، برقم 553، وعنوانه "كتاب في التعريف بعياض " (لوحة 7 - 14). (¬2) ترجمة القاضي عياض في الصلة، رقم 975، ووفيات الأعيان ج 1 ص 469، وقلائد العقيان من 222 - 226، وابن الخطيب في الإحاطة - مخطوط الإسكوريال السالف الذكر، لوحة 350. (¬3) سوف نتحدث عن خطة الشورى فيما بعد عند الكلام على نظم الحكم الموحدي. (¬4) ترجمته في التكملة (القاهرة) رقم 1343.

من رواة الحديث، وأهل العناية به، وقد توفي شهيداً، حينما دهم النصارى مدينة باجة في ليلة السبت 22 من ذي الحجة سنة 557 هـ (¬1). وأبو جعفر أحمد بن مسعود بن إبراهيم بن يحيى القيسي المعروف بابن اشكبندر، أصله من سرقسطة بالثغر الأعلى، وولد بشاطبة، ودرس بها، ونبغ في الحديث والرواية، وكان من أكثر حفاظ عصره علماً بأسماء الرجال، وموالدهم ووفياتهم، حتى شبه في ذلك بالقاضي عياض، تولى خطة الشورى بشاطبة، وحدث وأخذ عنه بعض علماء عصره، وكان ورعاً منقبضاً زاهداً، وتوفي بالمهدية وهو في طريقه إلى الحج في رمضان سنة 558 هـ (¬2). ومحمد بن أحمد بن محمد بن أبى العافية، من أهل مرسية، ويعرف بالقسطلي لأن أصله من قسطلونة، درس الفقه، وبرع في الفقه المالكي، وقام بتدريسه، وتولى الشورى ببلده، وكان موصوفاً بالحفظ، والعدالة والنزاهة وتوفي في شهر ذي الحجة سنة 558 هـ (¬3). ومحمد بن عبد الله بن أحمد بن مسعود بن صنعون بن شعبان، وهو من أهل شلب، ويعرف بالقنطري، نسبة إلى قنطرة السيف من أعمال الغرب، وهي دار سلفه. درس بإشبيلية وقرطبة وألمرية على جماعة من أقطاب العصر مثل أبى بكر بن العربي، وابن مغيث، وابن أبى الخصال، وغيرهم، وبرع في الحديث واشتهر بالحفظ والضبط، وبرع كذلك في الفقه، وتولى خطة الشورى، وكتب ذيلا لكتاب " الصلة " لابن بشكوال، نقلها ابن الأبار كلها، وتوفي بمراكش في شهر ذي الحجة سنة 561 هـ (¬4). وأحمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي من أهل مرسية. درس على أبيه وعلى أبى علي الصدفي وغيره من شيوخ العصر، وبرز في الفقه، وعلوم القرآن، مع مشاركة في الأدب، وتقلد خطة الشورى وأحكام القضاء بمرسية مدة طويلة، ثم ولى قضاء شاطبة، وعرف بالكفاية والنزاهة، وتوفي بمرسية ثاني عيد الأضحى سنة 563 هـ (¬5). ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 176. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 177. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1363. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1377. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 188.

ومن الفقهاء الذين جمعوا بين الفقه والأدب، أحمد بن محمد بن هذيل الأنصاري من أهل بلنسية. درس بها وبقرطبة، وبرع في الفقه، وتولى خطة الشورى ببلنسية، ثم تولى قضاء بعض مدن ولاية قرطبة مثل إستجة وباغة. وكان فوق ذلك شغوفاً بالأدب، بارعاً في الكتابة، محسناً للنظم، وولى في أواخر حياته خطة المواريث ببلنسية في إمارة محمد بن سعد، ثم اضطهد، ونفي إلى جزيرة شُقر، وهنالك توفي في سنة 558 هـ (¬1). ومنهم أحمد بن حسن بن سيد الجراوي من أهل مالقة، ويعرف بابن سيد. درس الحديث واللغة والأدب على أقطاب عصره، وكان بارعاً في اللغة، وفي النحو، وله حظ من قرض الشعر الجيد، وقد أورد لنا صاحب التكملة، من شعره هذين البيتين: وبين ضلوعي للصبابة لوعة ... بحكم الهوى تقضي علي ولا أقضي جنى ناظري منها على القلب ما جنى ... فيا من رأى بعضاً يُعين على بعض وتوفي ابن سيد في نحو سنة 560 هـ (¬2). وظهرت بالأندلس في العصر المرابطي، حركة دينية خاصة، اتخذت طابع التصوف، وهي التي أسفرت عن قيام طائفة المريدين في غربي الأندلس. وكان إمام هذه المدرسة العلامة الصوفي أبو العباس أحمد بن محمد بن موسى بن عطاء الله الصنهاجي المعروف بابن العريف. وهو من أهل ألمرية، وبها ولد سنة 481 هـ. ودرس علوم القرآن والسير، وغلب عليه الزهد والورع، ومال إلى طرق الصوفية، حتى غدا من أقطاب نحلتهم. وألف عدة تصانيف منها " كتاب المجالس "، وكتب رسالة يحمل فيها على الفيلسوف ابن حزم، وكانت بينه وبين القاضي عياض السبتي، مراسلات ومجادلات فقهية. والظاهر أنه قد أثار بكتاباته وتعاليمه سخط الفقهاء المرابطين، فسعوا به إلى علي بن يوسف، فاستدعاه إلى مراكش وبقى بها بحالة اعتقال حتى توفي، وذلك في صفر سنة 536 هـ (1141 م)، واحتفل الناس بجنازته، وندم أمير المسلمين على ما كان منه في حقه (¬3). ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 179. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 182. (¬3) راجع ترجمة ابن العريف في وفيات الأعيان (ج 1 ص 67). وكذلك في الصلة لابن بشكوال ترجمة رقم 176.

وكان ابن العريف ينظم الشعر الروحي الجيد ومن ذلك قوله: سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم ... أدنى إلى النفس من وهمي ومن نفسي ما زلت مذ سكنوا قلبي أصون لهم ... لحظي وسمعي ونطقي إذ هُمُوا أنسى وفي الحشا نزلوا والوهم يجرحهم ... فكيف قروا على أذكى من القبس حلّوا الفؤاد، فما أندى ولو وطئوا ... صخراً لجاد بماء فيه منبجس لا تنهض إلى حشري بحبهم ... لا بارك الله فيمن خانهم فنسى وقد ذكرنا فيما تقدم أن أحمد بن قسيّ زعيم الثورة في غربي الأندلس. كان من تلاميذ ابن العريف، وأنه أخذ عليه بألمرية تعاليمه وطريقته، وهي التي عرفت بطريقة " المريدين "، واتخذها ابن قسي وأصحابه شعاراً لثورتهم في الغرب. والظاهر أن ابن قسي، هو المسئول عن تطور الدعوة، إلى هذا الاتجاه الذي اتخذته في الغرب، والذي أسبغ عليها هذا الطابع الثوري الخاص، وأن ابن العريف لم يكن له في صوغها سوى العنصر الروحي. وعلى أي حال فإنه لا توجد لدينا عن دعوة " المريدين " معلومات كافية، تفصح عن مبادئها الحقيقة، وكل ما يقدمه إلينا ابن الأبار في ذلك أنها كانت دعوة شعارها " التهليل والتكبير " (¬1). وقد كتب عبد الملك بن صاحب الصلاة، مؤرخ الموحدين عن " ثورة المريدين " ْكتاباً يشير إليه في مواضع كثيرة من تاريخه المسمى " المن بالإمامة "، ولكن هذا الكتاب لم يصل إلينا. وما نود أن نشير إليه هنا، هو أن ابن قسي كان إلى جانب جانب زعامته الثورية، من علماء الدين والكلام، وكان أديباً وشاعراً من شعراء العصر. وقد أوردنا فيما تقدم شيئاً من نظمه. وكان من زملاء ابن قسيّ في حمل لواء دعوة المريدين، محمد بن عمر ابن المنذر الذي تتبعنا أخباره فيما تقدم. وكان فقيهاً متمكناً، ةأديباً بارعاً، وشاعراً مقتدراً، وقد أوردنا كذلك فيما تقدم شيئاً من نظمه. وكان من أدباء المريدين وشعرائهم، أبو بكر بن المنخّل الشلبي، وزير ابن المنذر المتقدم وكاتبه. وكان شاعراً جزلا، وقد انضم بعد انهيار الثورة في الغرب إلى الدعوة الموحدية، وكان ممن مدح الخليفة عبد المؤمن خلال وجوده في جبل طارق. وقد أورد لنا ابن الأبار طائفة من نظمه، ومن ذلك قوله مخاطباً ابن المنذر: ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 199.

تجاف عن الدنيا وعن برد ظلها ... فإن برودا لا يدوم حرور فديتك لا تأسف لدنيا تقلصت ... وأوحش يوماً منبر وسرير وإن عريت جرد المذاكي وذُللت ... أسودٌ فلم يسمع لهن زئير وغودرت الرايات تهفو كأنها ... جوانح من ذعر عليك تطير وكانت ولم تذعر عليك كأنها ... إذا رفرفت يوم الهياج نسور طلبت وفاء والوفاء سجية ... ولكنها أم الوفاء نزور رأيتك تبغي مثل نفسك في العلا ... طِلابٌ لعمري ما أردتَ عسير (¬1). وظهر من علماء المتصوفة في شرقي الأندلس، أحمد بن محمد بن سفيان المخزومي أصله من جزيرة شقر من أعمال بلنسية، ودرس الأدب، ونظم الشعر، ثم مال إلى التصوف والزهد، وكان يعرف بالعابد. وكان ثرياً، ينفق على الفقراء والمعوذين أموالا جليلة. وأدركته وحشة من أمير الشرق، محمد بن سعد بن مردنيش، فخلع طاعته، ودعا للموحدين، وامتنع بالجزيرة، وذلك في أواخر سنة 566 هـ فأدى ذلك إلى محاصرته حيناً، ولم ينفس عن أهله إلا وفاة ابن سعد بعد ذلك بنحو عام، في رجب سنة 567 هـ. ولابن سفيان شعر يقتصر على الزهد. ومن ذلك قوله من قصيدة: كل عطاء فإلى علّة ... لا شك يقضي ولوجه السقم إلا الذي منك بلا علة ... يا خالق العرش ومجرى القلم كل الورى لابس ثوب الدجا ... لولا سنى منك يجلّى الظلم (¬2). ومن أقطاب المحدثين والمتصوفة بالشرق أيضاً أبو العباس أحمد بن معد ابن عيسى بن وكيل التجيبي المتزهد، ويعرف بابن الأقليشي، أصلهم من أقليش، ونزحوا إلى دانية، وبها ولد أبو العباس ونشأ. ودرس ببلنسية، وإشبيلية، وألمرية، وبرع في الحديث واللغة والأدب، وكان من أساتذته أبو محمد البطليوسي، وأبو بكر بن العربي، وأبو القاسم بن ورد، وغيرهم من أقطاب العصر، ورحل إلى المشرق في سنة 532 هـ، فحج وجاور بمكة. وحدث ¬_______ (¬1) راجع الحلة السيراء ص 206 و 207. (¬2) ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 200، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك، المخطوط السالف الذكر.

بالأندلس والشرق، وكان متصوفاً زاهداً، أديباً شاعراً، وله عدة تصانيف منها كتاب " الكواكب " وكتاب " النجم من كلام سيد العرب واللعجم " وكتاب " الغرر من كلام سيد البشر " وكتاب " ضياء الأولياء ". وغيرها ومن نظمه في الزهد قوله: أسير الخطايا عند بابك واقف ... له عن طريق الحق قلب مخالف قديماً عصى عمداً وجهلا وغرّة ... ولم ينهه قلب من الله خائف ثلاثون عاماً قد تولت كأنها ... حلوم تقضت أو بروق خواطف وجاء المشيب المنذر المرء أنه ... إذا رحلت عنه الشبيبة تالف فجد بالدموع الحمر حزناً وحسرة ... فدمعك يبني أن قلبك آسف وتوفي أبو العباس عند عوده من المشرق بمدينة قوص من صعيد مصر في سنة 551 هـ (1156 م) (¬1). ومنهم محمد بن يوسف بن سعادة، من أهل مرسية، وسكن شاطبة. برع في الفقه والحديث، وأخذ عن جمهرة من أعلام عصره، منهم أبو علي الصدفي، وأبو محمد بن عتاب، وأبو بكر بن العربي وغيرهم. ثم رحل إلى المشرق، وسمع بالإسكندرية ومكة، وعاد إلى مرسية، وكان فوق براعته في علوم القرآن والتفسير، والحديث، بصيراً باللغة، شغوفاً بالتصوف مؤثرا له. ولي القضاء بمرسية، ثم شاطبة، وعرف بمقدرته ونزاهته، وكان حافظاً متقناً، ثقة، وتوفي مصروفاً عن القضاء في آخر سنة 565 هـ (¬2). ونبغ في العصر المرابطي، من أئمة اللغة، أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي. وأصله من بطليوس، من غربي الأندلس، كما يدل على ذلك اسمه. ولد بها سنة 444 هـ، وسكن بلنسية، ودرس بها، وكان فضلا عن أدبه البارع، إمام عصره في النحو وعلوم اللغة، يجتمع إليه الناس من كل فج، ليقرأوا عليه، وليقتبسوا من غزير علمه، وكان حجة ثقة ضابطاً. وله عدة مؤلفات قيمة، اشتهر منها بالأخص شرحه لكتاب " سقط الزند " (¬3) لأبى العلاء المعري، وهو شرح يصفه ابن خلكان بأنه أجود من شرح أبى العلاء صاحب ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة لابن الأبار ج 1 رقم 167. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1390. (¬3) نشر هذا الشرح بالقاهرة بعناية " لجنة إحياء تراث أبى العلاء المعري " وأصدرته وزارة المعارف المصرية (سنة 1945).

الديوان الذي سماه " ضوء السقط ". ومنها كتاب " الإقتضاب في شرح أدب الكتاب " وكتاب في الحروف الخمسة " السين والصاد والضاد والطاء والدال "، وكتاب ". الحلل في شرح أبيات الجمل " و " الحلل في أغاليط الجمل "، وكتاب " شرح الموطأ ". وله أيضاً " كتاب التنبيه على الأسباب الموجبة لاختلاف الأمة ". وكان ابن السيد فوق ذلك شاعراً مقتدراً، وله نظم حسن، فمن ذلك قوله: أخو العلم حي خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم ذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يُظن من الأحياء وهو عديم وله من قصيدة يمدح فيها المستعين بن هود: سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ... ينازعها مزن من الدمع هتان أأحبابنا هل ذلك العهد راجع ... وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان ولي مقلة عبرى وبين جوانحي ... فؤاد إلى لقياكم الدهر حنان تنكرت الدنيا لنا بعد بعدكم ... وحلت بنا من معضل الخطب ألوان وحلنا سوام الحمد عنها لغيرها ... فلا ماؤها صدا ولا النبت سعدان إلى ملك حاباه بالحسن يوسف ... وشاء له البيت الرفيع سليمان من النفر الشم الذين أكفهم ... غيوث ولكن الخواطر نيران وتوفي ابن السيد بمدينة بلنسية في منتصف رجب سنة 521 هـ (يونيه 1127 م) (¬1). وكان من أعلام اللغويين أيضاً يونس بن محمد بن مغيث. وقد ولد بقرطبة سنة 447 هـ، ودرس بها وبرع في علوم اللغة، وكذلك في الرواية وعلم الأنساب، وفي الأدب، وكان من أساتذة ابن بشكوال حسبما يحدثنا في " الصلة ". وتوفي بقرطبة سنة 532 هـ (1137 م) (¬2). ومنهم أحمد بن عبد الجليل بن عبد الله، ويعرف بالتدميري لأن أصله من كورة تدمير، ونشأ بألمرية، وبرع في الآداب العربية واللغات، وكان له حظ من قرض الشعر، وسكن بجاية وقتاً في ظل بني حماد. وله عدة مؤلفات قيمة منها كتاب التوطئة في العربية، وشرح على كتاب الفصيح لثعلب، وشرح ¬_______ (¬1) راجع ترجمة البطليوسي في وفيات الأعيان (ج 1 ص 232 و 233)، وفي الصلة لابن بشكوال الترجمة رقم 643. (¬2) ترجمته في الصلة رقم 1558، وكذلك في Pons Boigues: ibid ; No 161

لأبيات جمل الزجاجي، وكتاب الفوائد والفرائد وغيرها. وتوفي بفاس سنة 555 هـ (¬1). ومنهم عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن يزيد السعدي، من أهل قلعة يحصب، أبو محمد، درس على أبى جعفر البطروجي، وأبى الحسن بن الباذش، وكان متمكناً من الفقه ومن علم القراءات، بارعاً في اللغة والأدب، متبحراً في النحو، مستظهراً لكتاب سيبويه، مشاركاً في عدة فنون أخرى. غادر موطنه الأصلي إلى بلدة القبذاق (¬2) من أعمال جيان، فاستوطنها، وتوفي بها في سنة 559 هـ، (1164 م) (¬3). - 2 - وأما عن العلوم، فنستطيع أن نقول إنها حظيت في العهد المرابطي بنهضة زاهرة، وإن لم تكن هذه النهضة في الواقع سوى امتداد للنهضة الفكرية في عصر الطوائف. وظهر في العهد المرابطي عدد من الشخصيات اللامعة التي تعتبر من أقطاب العلم الأندلسي، بل من أقطاب العلم في سائر العصور والأمم. أولهم الفيلسوف أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ التجيبي المشهور بابن باجّة، وهو سرقسطي، نشأ في أواخر دولة بني هود، ونبغ في الرياضة والفلك والطبيعة والفلسفة، في ظل تلك المدرسة الرياضية، التي ازدهرت في ظل المقتدر ابن هود وولده المؤتمن. ولما ولى الأمير أبو بكر بن إبراهيم المسّوفي، وهو ابن عم أمير المسلمين علي بن يوسف وصهره، حكم سرقسطة في سنة 508 هـ، استوزر أبا بكر، واختص به، وأغدق عليه ثقته ورعايته، بالرغم مما كان ينسب إليه من الآراء الإلحادية. وقد حمل عليه معاصره الفتح بن خاقان في كتابه المطمح، ورماه بالإلحاد وانحلال العقيدة، وقال في حقه: " نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله الحكيم ". ولما سقطت سرقسطة في أيدي الإسبان في سنة 512 هـ (1118 م)، غادرها ابن باجّة إلى إشبيلية، ثم إلى شاطبة، ثم نزح إلى المغرب، وتوفي بفاس سنة 533 هـ (1138 م). ويعتبر ابن باجة من أعظم فلاسفة الأندلس ومفكريها. وقد كتب ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 175. (¬2) القبذاق هي بلدة Alcaudete الحديثة، وهي تقع على مقربة من جنوب غربي جيان. (¬3) التكملة لابن عبد الملك، مخطوط الإسكوريال (رقم 1682 الغزيري).

نحو خمسة وعشرين كتاباً لم يصلنا منها سوى القليل، وكان ابن باجة فضلا عن ذلك أديباً شاعراً، وله طائفة من الشعر الرصين الجيد، فمن ذلك قوله في رثاء حاميه الأمير أبى بكر: سلام وإلمام ووسمي مزنة ... على الجدث الثاني الذي لا أزوره أحق أبو بكر تقضي فلا ترى ... ترد جماهير الوفود ستوره لئن أنست تلك اللحود بلحده ... لقد أوحشت أقصاره وقصوره وقوله: ضربوا القباب على أقاصي روضة ... خطر النسيم بها ففاح عبيرا وتركت قلبي سار بين حمولهم ... داعي الكلوم سيوف تلك العيرا لا وافد جعل الغصون معاطفا ... لهم وصاغ الأقحوان ثغورا ما مر بي ريح الصبا من بعدهم ... إلا سهرت له فعاد سعيرا (¬1). ومنهم علي بن عبد الرحمن بن يوسف بن مروان بن يحيى الخزرجي الطبيب، أصله من طليطلة، ونشأ بها ودرس، وبرع إلى جانب تمكنه من الفقه، في علم الطب، درسه على أبى المطرف بن وافد، وهو يومئذ من أشهر أطباء الأندلس وعلمائها. واشتهر بمهارته، في طرق العلاج. ولما استولى القشتاليون على طليطلة في سنة 478 هـ (1085 م) غادرها، وتجول في مختلف ربوع الأندلس، ونزل بطليوس ثم إشبيلية، ثم قرطبة، وبها توفي سنة 499 هـ (1105 م) (¬2). ومنهم العلامة الطبيب والفلكي أمية بن عبد العزيز بن أبى الصلت. وقد ولد بثغر دانية سنة 460 هـ، ودرس على أقطاب عصره، ولاسيما أبى الوليد الوقّشي قاضي دانية. وبرع في الأدب والفلسفة والطب والفلك. غادر وطنه دانية، وقد اضطربت بها الأمور، ونزح إلى مصر في سنة 489 هـ، في خلافة المستعلي الفاطمي ولد المستنصر، ووزيره الأفضل شاهنشاه، تحدوه آمال كبيرة في الظفر بحياة أكثر استقراراً، وأوفر رزقاً ورغداً، ونزل بثغر الإسكندرية، وعاش به حيناً، ثم قدم إلى القاهرة، واتصل بالأفضل بواسطة بعض حاشيته، فلم يفز بشىء مما كان يؤمل، وأدركته خيبة أمل يعبر عنها في شعره: ¬_______ (¬1) راجع الإحاطة (1956) ج 1 ص 412 - 416. وقد سبق أن تحدثنا عن ابن باجة في تاريخ مملكة سرقسطة في كتابنا " دول الطوائف ". ويعرف ابن باجة في البحث الغربي باسمه اللاتيني Avempace (¬2) ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك - مخطوط المتحف البريطاني - السفر الرابع.

وكم تمنيت أن ألقي بها أحداً ... يسلي من الهم أو يعدي على النوب فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا ... كانت مواعيدهم كالآل في الكذب وفي قوله: " ولم تطل مدة اللبث حتى تبينت بما شاهدته أني فيها مبخوس البضاعة، موكوس الصناعة، مخصوص بالإهانة والإضاعة ". وأكثر من ذلك أن الأفضل أمر باعتقاله، لأسباب لم توضحها لنا الرواية توضيحاً كافياً. وأمضى في هذا الاعتقال بضعة أعوام، وكتب في معتقله عدة من مؤلفاته، منها رسالة في العمل بالاصطرلاب، وكتاب الوجيز في علم الهيئة، وكتاب الأدوية المفردة، وكتاب تقويم الذهن، وهو في المنطق. وفي سنة 505 هـ، أفرج عنه، وأمر الأفضل بنفيه من مصر، فسار إلى الإسكندرية ومنها إلى إفريقية، حيث نزل بالمهدية ضيفاً على أميرها أبى الطاهر يحيى بن تميم الصنهاجي، فأكرم وفادته، وعلت لديه منزله، وكتب له عن مصر رسالته الموسومة " بالرسالة المصرية "، وفيها يصف " ما عاينه من أرض مصر، وما عاناه "، ويصف جغرافية مصر، ونيلها، وسكانها، وآثارها، ويحمل على سكان مصر، وينعتهم " باتباع الشهوات، والانهماك في اللذات، والاشتغال بالترهات، والتصديق بالمحالات، وضعف المرائر والعزمات "، ويحمل على علمائها المعاصرين، وينعتهم بأنهم " رعاع وغثاء، وجهلة ودهماء " (¬1). ولما توفي الأمير يحيى بن تميم، استمرت حظوته ومكانته لدى ولده علي بن يحيى. وكتب له كتاب الحديقة أو " حديقة شعراء الأندلس " على نمط كتاب " يتيمة الدهر " للثعالبي. وكان أمية ابن أبى الصلت، فوق علمه الغزير، أديباً ممتازاً وشاعراً جزلا. وله ديوان شعر أشار إليه ابن خلكان، وأورد لنا طرفاً من نظمه، ومنها تلك الأبيات التي قالها قبيل وفاته، وأوصى بأن تكتب على قبره: سكنتك يا دار الفناء مصدقاً ... بأني إلى دار البقاء أصير وأعظم ما في الأمر أني صائر ... إلى عادل في الحكم ليس يجور فياليت شعري كيف ألقاه عندها ... وزادي قليل والذنوب كثير فإن أك مجزياً بذنبي فإنني ... بشر عقاب المذنبين جدير وإن يك عفو عني ورحمة ... فثم نعيم دائم وسرور ¬_______ (¬1) راجع الرسالة المصرية، وقد نشرت بعناية الأستاذ عبد السلام هارون، ص 24 و 30.

وتوفي ابن أبي الصلت سنة 529 هـ (1135 م) أو في سنة 546 هـ (1151 م) وفق رواية أخرى (¬1). ومنهم بنو زهر، وهي الأسرة الشهيرة التي لمعت في ميدان الطب والعلوم الطبيعية والكيمائية. وأصلهم من إشبيلية، ولكن عميدهم الأكبر، وهو عبد الملك ابن محمد بن مروان بن زهر الأيادي، نزح من إشبيلية إلى دانية. وكان فقيهاً حافظاً، روى بالأندلس عن طائفة من أهلها، ثم رحل إلى المشرق، وحج، ودرس بمصر والقيروان، ثم عاد إلى الأندلس، واستوطن دانية. وكان متفنناً في علوم كثيرة، ولاسيما الطب، الذي عنى بدراسته في المشرق على يد أقطابه، حتى نبغ فيه، وكان ذلك بداية هذه البراعة الطبية الفائقة، التي شملت أسرته الشهيرة، وامتدت إلى أبنائه وأحفاده. وتوفي عبد الملك بدانية، وجاء من بعده ولده أبو العلاء زهر بن عبد الملك، فكان صنو أبيه في دراسة الطب، والنبوغ فيه، وبدأ حياته بدراسة الحديث في قرطبة، ثم مال إلى علم الطب، فتلقاه عن أبيه، وبرع فيه براعة غلبت لديه على كل صفة أخرى، حتى غدا عمدة عصره في الطب والعلوم الطبيعية؛ ومن مؤلفاته " كتاب الطرر "، الذي كُتب عنه، و" كتاب في الأدوية ". وكان مع براعته في الطب أديباً، وشاعراً مقتدراً، ومن نظمه قوله: يا راشقي بسهام ما لها غرض ... إلا الفؤاد وما منه لها عوض وممرضي بجفون كلها غنج ... صحت وفي طبعها التمريض والمرض جُدْ لي ولو بخيال منك يطرقني ... فقد يسُد مسدّ الجوهر العرض وتوفي زهر بن عبد الملك، منكوباً على قول ابن الأبار، بقرطبة في سنة 525 هـ (1131 م)، ثم احتمل رفاته ودفن في إشبيلية. وجاء من بعده ولده أبو مروان عبد الملك بن زهر، وهو المعروف في الغرب باسم Avenzoar. وقد برع عبد الملك في الطب براعة أبيه وجده، وذاع صيته في الأندلس والمغرب. ويعتبر عبد الملك بن زهر أعظم طبيب في العصور الوسطى بعد أبى بكر الرازي، ويعتبره تلميذه ابن رشد أعظم طبيب بعد جالينوس. وقد عاش ابن زهر في إشبيلية، واتصل بالمرابطين وصنف ¬_______ (¬1) ترجمته في ابن خلكان ج 1 ص 99، والقفطي في أخبار العلماء ص 57، وكذلك في P. Boigues: ibid ; No 159

للأمير أبى إسحاق بن يوسف بن تاشفين كتابه المسمى " الاقتصار في صلاح الأجساد ". على أن أعظم مؤلفات ابن زهر هو كتابه " التيسير " وهو من أعظم مراجع الطب في العصور الوسطى، وقد ترجم إلى اللاتينية في عصر مبكر. ووُشي به إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فاستدعى إلى مراكش وسجن بها مدة ثم أفرج عنه، وعاد إلى بلده إشبيلية وتوفي بها سنة 557 هـ (1162 م). وخلفه في مهنته ولده الطبيب الأشهر أبو بكر بن زهر، وحظى لدى حكومة الموحدين وهو أكثر انتساباً إلى عصر الموحدين، ومن ثم فسوف نعود إلى ذكره في موضعه المناسب (¬1). ومنهم العلامة الزراعي أبو عبد الله محمد بن مالك التغنري، أصله من قرية تغنر من أعمال غرناطة. عاش في أوائل القرن السادس الهجري، وسكن إشبيلية، ودرس العلوم الزراعية على ابن بصّال الطليطلي، وبرع فيها، وكتب عنها كتابه المسمى " زهر البستان ونزهة الأذهان " وهو يسمى أحياناً باسم الحاج الغرناطي، وابن حمدون الإشبيلي. إن هذا الثبت الحافل من المفكرين والعلماء الأندلسيين، الذين ازدهروا في العصر المرابطي، في مختلف ميادين العلوم والآداب، ومنهم عبقريات بارزة يزدان بها تاريخ الحركة العقلية الأندلسية، يحمل على كثير من التأمل. وإنه ليغدو من الصعب علينا إذا ما استعرضناه في شىء من الروية، أن نقول إن الحكم المرابطي، قد جنى بأساليبه الرجعية على سير الحركة الفكرية الأندلسية، وعاقها عن التقدم والازدهار. وكل ما يمكن أن يقال في ذلك هو أن ما اتخذه المرابطون من إجراءات للحجر على الدراسات الكلامية والشرعية والفلسفية، وتوجيهها إلى وجهاتهم الخاصة، ومطاردة كتب الأصول، قد يكون له أثره في سير هذه الدراسات، وإن كان لا يحق لنا أن نبالغ في تقدير هذا الأثر. أولا لأن هذه الدراسات كانت كغيرها من الدراسات العلمية والأدبية، قد تأثلت جذورها منذ بعيد، وثانياً لأن العهد المرابطي لم يطل أمده بالأندلس، ولم يلبث أن زالت بزواله السريع، كل ضروب الحجر والمطاردة التي اتخذت، ثم جاءت ثورة الأندلس ضد الحكم المرابطي، فكانت عاملا له أثره في إذكاء الحركة العقلية، ومدها بعناصر جديدة من القوة والاندفاع. ¬_______ (¬1) وردت في الذيل والتكملة ترجمة حسنة لابن زهر وجده عبد الملك - مخطوط المتحف البريطاني السفر الرابع. ووردت في التكملة لابن الأبار ترجمة لزهر بن عبد الملك رقم 907. وراجع عن بني زهر أيضاً " المطرب من أشعار أهل المغرب " لابن دحية ص 203، وفي نفح الطيب ج 1 ص 437 - 439.

الكتاب الخامس الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصر المرابطى وأوائل العصر الموحدى

الكتابُ الخامِس الممَالك الإسْبانيّة النصْرانية خلال العصْر المُرابطي وأوائل العصْر الموحّدي

الفصل الأول ألفونسو المحارب وأوراكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس

الفصْل الأوّل ألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة وبداية عهد ألفونسو ريمونديس الممالك الإسبانية النصرانية عند مقدم المرابطين. ألفونسو السادس بعد الزلاّقة. إفتتاحه لشنترين. موقعة أقليش ومصرع الإنفانت سانشو. موت ألفونسو السادس. الكونت ريمون البرجوني وأخوه الكونت هنري. زواج الأول من أوراكا ابنة ألفونسو الشرعية. زواج الثاني من تريسا ابنته غير الشرعية. وصية ألفونسو السادس عن وراثة العرش وما يقترن بذلك من الشروط. موافقة الكورتيس عليها. أوراكا ملكة قشتالة، زواج ألفونسو المحارب من أوراكا. التنافس والشقاق بين الزوجين. أوراكا وصفاتها وموقفها. ألفونسو وأهبته. محاصرته لأوراكا. هنري البرجوني وموقفه. الأمير الطفل ألفونسو ريمونديس. الدسائس من حوله. فرار أوراكا وتصرفاتها. الحرب بين الفريقين وهزيمة قوات قشتالة. ألفونسو ريمونديس ملك جليقية. الحرب بين أهل جليقية وألفونسو. فرار الأسقف خلمريث بالأمير الطفل. حشده لقوات جليقية، وانضمام الكونت هنري إليه. انسحاب ملك أراجون. الأسقف خلمريث وصفاته وأطماعه. انقسام اسبانيا النصرانية. تفاقم الخلاف بين أوراكا وألفونسو. محاولة الصلح ومعارضة الأسقف خلمريث. إعلان بطلان الزواج. معارضة ألفونسو في ذلك. استهتار الملكة أوراكا. الأسقف يؤيد ألفونسو ريمونديس في جليقية. استياء أوراكا من مسلكه وسيرها لمحاربته. تدخل الملكة تريسا. ثورة أهل شنت ياقب ضد الأسقف. التجاؤه إلى حماية أوراكا. الصلح بين الأم وولدها. مسير أوراكا إلى شنت ياقب ومقاومتها. عودها إلى مهاجمة المدينة بقوات مجتمعة. تغلبها على المدينة وإخضاعها. عودة الأسقف وارتقاؤه إلى المطرانية. الحرب بين أوراكا وتريسا. الصلح بينهما. أوراكا تقبض على المطران ديجو وإخوته. غضب الشعب والبابا. أوراكا تطلق سراحه. الحرب بين المطران وبين الملكة. الصلح بين الملكة وابنها والمطران. سعي البابا إلى تحقيقه. وفاة أوراكا. صفاتها واختلاف المؤرخين في الحكم عليها. ألفونسو ريمونديس ملك قشتالة وليون. الصراع بينه وبين ألفونسو المحارب. اهتمامه بالقضاء على سلطان الأشراف. أسرة لارا ومطاردتها. مسيره لمحاربة الملكة تريسا. خضوع البرتغال. زواج ألفونسو ريمونديس من ابنة رامون برنجير. اهتمامه بمحاربة الأندلس. الغزوات المتبادلة بين المسلمين والنصارى. تتبعنا فيما تقدم، في كتابنا " دول الطوائف "، عن تاريخ الممالك الإسبانية النصرانية خلال القرن الحادي عشر الميلادي، حتى وفاة ألفونسو السادس ملك قشتالة، عقب موقعة أقليش في يونيه سنة 1108 (شوال سنة 501 هـ). ونود الآن أن نستأنف تاريخ هذه الممالك النصرانية، خلال العصر المرابطي، وحتى مقدم الموحدين إلى شبه الجزيرة.

حينما قدم المرابطون إلى شبه الجزيرة لإنجاد دول الطوائف، ورد عدوان اسبانيا النصرانية عنها، كانت الممالك الإسبانية النصرانية ثلاث، هي مملكة قشتالة، وهي أكبرها رقعة، وأوفرها قوة وموارد، ومملكة أراجون، وإمارة برشلونة أو قطلونية، وهي أصغرها. وكانت مملكة نافارا القديمة (نبرة)، قد اختفت يومئذ، مذ تآمر على اقتسامها سانشو راميريس ملك أراجون، وألفونسو السادس ملك قشتالة، واستولى الأول على نصفها الشرقي مما يلي جبال البرنيه واستولى الثاني على نصفها الغربي مما يلى نهر إيبرو، وذلك في سنة 1076 م، ولم تظفر باسترداد استقلالها، والعود إلى استئناف دورها في شبه الجزيرة كمملكة مستقلة إلا بعد ذلك بنحو نصف قرن، وذلك عقب وفاة ألفونسو المحارب ملك أراجون في سنة 1134 م. وكان ألفونسو السادس، عميد الممالك الإسبانية النصرانية وقطبها، حين قدم المرابطون إلى شبه الجزيرة، وحين اشتبك معهم في موقعة الزلاّقة العظيمة، على رأس الجيوش النصرانية المتحدة، ولقى فيها هزيمته الساحقة (479 هـ - 1086 م)، بيد أنه نهض من غمار الهزيمة، وعاد يقود الجيوش القشتالية مرة أخرى، لمقاتلة المسلمين وغزو أراضيهم. ولبثت قواته في حصن لييط حيناً تعيث في أحواز مرسية ولورقة، إلى أن حاصره المرابطون وقوات الطوائف، ولم تستطع اقتحامه، حتى عاد ألفونسو لإنجاد فلول حاميته، ثم أخلاه (1089 م). ثم غزا شنترين من قواعد ولاية الغرب واستولى عليها سنة 1093. واشترك بعد ذلك في حوادث بلنسية، عقب وفاة السيد الكمبيادور، وعاث في أنحائها، ثم غادرها حينما شعر بتفوق القوات المرابطية المتأهبة لاستردادها (1102 م). ولما توفي يوسف بن تاشفين، وخلفه ولده علي، عبر إلى شبه الجزيرة، معتزماً أن يستأنف عهد الجهاد، وعبرت معه قوات مرابطية ضخمة، ونفذت الجيوش المرابطية مرة أخرى إلى أراضي قشتالة، يقودها الأمير أبو الطاهر تميم ابن يوسف، والتقت في ظاهر أقليش بقوات قشتالة، وكان الملك الشيخ - ألفونسو - قد تخلف عن قيادتها لضعفه، وبعث معها ولده الطفل سانشو ليبث فيها روح الإقدام والحماسة. وشاء القدر أن تكون موقعة أقليش " زلاقة " أخرى سحقت فيها الجيوش القشتالية، وقتل فيها الإنفانت الصبي سانشو، وحيد ألفونسو وولي عهده، وعدة من قادة قشتالة وأكابرها (29 مايو سنة 1108 م) وذلك كله حسبما فصلناه في مواضعه. ولم يعش ألفونسو بعد هذه الضربة طويلا،

وتوفي في 29 يونيه من العام التالي، وقد أشرف على الثمانين من عمره، بعد حكم دام أربعة وأربعين عاماً، ودفن بدير ساهاجون. وقد تحدثنا من قبل عن أعمال ألفونسو السادس وإصلاحاته الداخلية، وعن تكوين المجتمع القشتالي في عصره، وعن سير التشريع، وما تميز به عهده من ظهور نفوذ البابوية، وبدأ مزاولة رياستها الروحية على الملوكية الإسبانية (¬1)، فلا محل لأن نعود هنا إلى ذكر هذه الموضوعات. بيد أن الذي يهمنا هنا هو ما انتهى إليه أمر وراثة العرش. ذلك أن ألفونسو السادس توفي دون وارث للعرش، بعد مقتل ولده الوحيد سانشو في معركة أقليش. وكان مما تميز به عهد ألفونسو، مقدم كثير من الفرسان الفرنسيين الذين تحدوهم الروح الصليبية إلى اسبانيا، ليشتركوا مع القوات القشتالية في محاربة المسلمين. وكان من بين هؤلاء إثنان من الأشراف من أقارب الملكة كونستانس زوجة ألفونسو الأولى، هما الكونت ريمون البرجوني، وابن عمه الكونت هنري، وقد اشترك كلاهما، إلى جانب ألفونسو، في كثير من المعارك التي خاضها ضد المسلمين، وظهر فيها بإقدامه وبسالته، فرأى ألفونسو إثابة لهما أن يزوجهما من ابنتيه أوراكا وتريسا (سنة 1092 م)، فتزوج الكونت ريمون بأورّاكا، وهي ابنة الملك الشرعية من زوجته الملكة كونستانس، وتزوج الكونت هنري بتريسا، وهي ابنة غير شرعية لألفونسو من خليلته خمينا نونيس، ومنح ألفونسو أوراكا وريمون إمارة ولاية جليقية، ومنح تريسا وهنري إمارة الأراضي التي انتزعها من المسلمين في ولاية لوزيتانيا (شمالي البرتغال). وهي التي غدت فيما بعد مهداً لقيام مملكة البرتغال الجديدة في شبه الجزيرة. وهكذا بدأ النفوذ الفرنسي يتسرب إلى شئون قشتالة السياسية، بعد أن تسرب إلى شئونها الدينية على يد الرهبان الدومنيكانيين، وعميدهم المطران برنار، مطران طليطلة ورئيس الكنيسة الإسبانية. وقد ذكرنا فيما تقدم أن المُلْك في قشتالة كان وراثياً. وقد واجهت ألفونسو بعد مصرع ولده الوحيد سانشو في موقعة أقليش مشكلة صعبة، هي مشكلة وراثة العرش. ومن ثم فقد عنى بحلها في وصيته التي وضعها قبيل وفاته. وكان الكونت ريمون البرجوني، قد توفي منذ سنة 1107 م، بعد أن أنجب ¬_______ (¬1) راجع كتاب دول الطوائف ص 387 - 390.

من زوجه أوراكا ولدين، هما ألفونسو وسانشا. وقد نصت وصية ألفونسو أن تتولى عرش قشتالة بعد وفاته إبنته أوراكا، أرملة الكونت، ورأى في الوقت نفسه تقوية لجانب العرش وسعياً إلى توحيد اسبانيا النصرانية، أن تتزوج أوراكا من ألفونسو الأول المحارب ملك أراجون ونافارا. وعلى أثر وفاة الملك الشيخ اجتمع نواب المملكة (الكورتيس) من الأشراف والأساقفة ورجال الدين وحكام الولايات والفرسان في مدينة ليون، وأقروا وصية الملك الراحل، وكان أشراف قشتالة، بالرغم من تخوفهم من جرأة ملك أراجون، يخشون ألاّ تقوى أورّاكا وحدها على تحمل أعباء الملك، والدفاع عن المملكة، وأنه لابد أن يكون إلى جانبها أمير قوي يستطيع أن يرد هجمات المسلمين، ومن ثم فقد وافقوا على هذا الزواج. ووافقت أوراكا رغم ارادتها تنفيذاً لوصية أبيها، وتقرر أن تحل مسألة العرش على النحو الآتي: أن تكون أوراكا ملكة قشتالة وليون وأشتوريش وأن يمنح ولدها الطفل ألفونسو ريمونديس، (أي ابن ريمون) مملكة جليقية مع بقائها تحت سلطان قشتالة، وأن يمنح الكونت هنري زوج أختها تريسا إمارة البرتغال كتابع لعرش قشتالة. فإذا لم تعقب أوراكا من زواجها بألفونسو ملك أراجون، فإن المملكة كلها تؤول بعد وفاتها، إلى ولدها ألفونسو ريمونديس، أعني إلى حفيد ألفونسو السادس. وتم زواج ألفونسو الأول وأوراكا في حصن منيون في أكتوبر سنة 1109 م. وفي العام التالي (1110 م)، سارت الملكة في قوات قشتالة مع زوجها الملك، إلى أراضي ناجرة وسرقسطة الإسلامية. وكان المرابطون قد احتلوا يومئذ سرقسطة، فعاث ألفونسو في تلك المنطقة ولكنه لم ينل مأرباً. وسرعان ما دب الشقاق بينه وبين زوجه أوراكا، وظهر الخلاف واضحاً بين الزوجين في كل شىء. وكان التنافس بين الزوجين على السلطان مصدر الخلاف الرئيسي. وكانت أوراكا امرأة وافرة الكبرياء والطموح، فحاولت أن تستأثر بجميع السلطات في قشتالة والأراضي التابعة لها، وعمدت إلى إبعاد سائر الرجال الذين يشك في ولائهم المطلق لها، ورفعت من اصطفتهم إلى أرفع مناصب الدولة. فثار ألفونسو غضباً لذلك، وصمم على ألا يتنازل عن حق من حقوقه الملكية. يقول المؤرخ لافونتي: " لقد اقترنا دون حنان، وكان الأمير الأرجوني موهوباً يتمتع بصفات الجندي الخشنة، أكثر منه بالخلال التي تجعل منه زوجاً رقيقاً. وكانت الملكة من جانبها لا تراعي

العناية والحزم في بعض أعمالها الخارجية، فانتهى الأمر، بأن نبذ الملك كل اعتبار لزوجته، وأخذ يسيىء معاملتها، لا بالكلم فقط، ولكن بالفعل أيضاً، فكان يصفعها ويركلها برجليه. ورأى الأساقفة الذين لم يرقهم هذا الزواج منذ البداية، أن أفضل مخرج من هذا الموقف المزري هو الطلاق، وأصغت الملكة إلى هذا الاقتراح، لأنها كانت فضلا عما تلقاه من سوء المعاملة، تشك في صحة هذا الزواج. وكانت من جهة أخرى ترنو إلى الزواج من الكونت جومث دي كاند سبينا، وكان أيام حياة أبيها يتطلع إلى ذلك، وكانت بينه وبينها علائق مريبة " (¬1). - 1 - وهنا تبدأ تلك الحرب الأهلية الشهيرة، التي لبثت أعواماً طوالا، تمزق اسبانيا النصرانية، والتي كان بطلاها الرئيسيان، ألفونسو ملك أراجون، وأوراكا ملكة قشتالة. أدرك ألفونسو منذ البداية ما تنطوي عليه زوجه من رياء وخديعة، وما يشين سمعتها الأخلاقية. من شائعات مريبة، فاعتزم أمره واتخذ من حجة الدفاع عن طليطلة ذريعة، ووضع في معظم قلاع قشتالة ومدنها الرئيسية حاميات أرجونية. ولم يحجم عن محاصرة الملكة ذاتها في قلعة كاستلار (سنة 1111 م) بحجة أنها تحاول بث الثورة، وأنها بسوء سلوكها تصدع من هيبة العرش. وكانت عناصر أخرى تتأهب لدخول المعركة. ذلك أن الأمير هنري الأرجوني أمير البرتغال، وزوج تريسا أخت أوراكا، كان يطمح إلى عرش قشتالة، ويأتمر بها، ومن أجل ذلك عبر إلى فرنسا ليبحث عمن يساعده في محاربته لأوراكا، ثم عاد إلى اسبانيا بطريق أراجون، واتفق مع ألفونسو على أن يعمل معه لاتحاد أراضي ليون وقشتالة ثم يقتسمانها فيما بعد. وكانت المؤامرات تحاك في نفس الوقت حول الأمير الطفل ألفونسو ريمونديس، وكان يعيش في ضيعة صغيرة في جليقية تحت رعاية وصيه الكونت بيدور دي ترافا. فلما تزوجت أمه أوراكا بملك أراجون، أراد الوصي أن يعلن الأمير الصغير ملكاً على جليقية وفقاً لوصية جده. وكان هنري أمير البرتغال يؤيد هذا المشروع. ولكن أوراكا حينما سجنت في قلعة كاستيلار، بادرت فأرسلت رسلها إلى جليقية يطالبون إعلانها ملكة لها. ولكن أشراف جليقية خشوا من انتقام ملك أراجون. ¬_______ (¬1) M. Lafuente: Historia General de Espana, T. III, p. 217

وكثرت الأهواء والدسائس، وحاول بعض أشراف جلِّيقية الثوار أن يختطفوا الملك الطفل من مقامه في قلعة " سانتا ماريا "، حيث كانت الكونتة دي ترافا تسهر على حمايته. ولكن الكونتة دافعت عنه ببسالة، وعاونها في ذلك ديجو خلمريث أسقف شانت ياقب، وفشلت المحاولة. وفي تلك الأثناء نجحت أوراكا في الفرار من معتقلها بقلعة كاستلار، فالتف حولها معظم أشراف قشتالة، وقد ساءهم عنف ملك أراجون وتحديه. وأطلقت أوراكا العنان لأهوائها، وحبت باصطفائها اثنين من الأشراف هما جومث جونثالث. وبيدرو جونثالث دي لارا، وكان كلاهما من عشاقها، وكلاهما يؤمل الوصول إلى العرش متى تم طلاقها. وكان ملك أراجون يضطرم سخطاً لعذا الاصطفاء المريب، ويبث عيونه على الملكة الخئون في كل خطواتها. وهكذا أضحى من المتعذر التوفيق بين زوجين يمقت كل منهما صاحبه، ولم يلبث أن تحول النزاع المستمر بينهما إلى حرب علنية. وكان هنري أمير البرتغال، يؤازر ملك أراجون في هذا النزاع، تحقيقاً لأطماعه. وكان ألفونسو قد استولى خلال ذلك على طليطلة، وحاكمها يومئذ ألبار هانيس. وهكذا دوت صيحة الحرب الأهلية، وتحركت قوات ليون وقشتالة، لمؤازرة أوراكا، وتحركت قوات أراجون والبرتغال، والتقى الفريقان في " كامبودى سبينا " بالقرب من سيبولفيدا من أعمال ولاية شقوبية. وكان يقود قوات قشتالة الكونت بيدرو دي لارا، ولكنه ما لبث إزاء عنف هجوم الأرجونيين أن تخلى عن المعركة، وفر إلى برغش، وخلفه في القيادة زميله الكونت جومث. وأسفرت المعركة في النهاية عن فوز قوات أراجون، وكان الكونت وكثير من أشراف قشتالة بين القتلى (نوفمبر سنة 1111 م). وعلى أثر ذلك اخترق الجيش الأرجوني قشتالة، وهو يعيث في أراضيها نهباً وتخريباً، وعُزل الأساقفة من أنصار الملكة، واعتدى الجند على الكنائس. وعندئذ خشي أشراف جليقية العاقبة، فانضموا إلى الملكة، وأعلنوا الأمير الطفل ألفونسو ريمونديس ملكاً على جليقية، وقرروا أن ينقلوه لدى أمه في قشتالة، صحبة وصيه الكونت دي ترافا والأسقف خلمريث، ومعهم فرقة قوية من الجند. وعلم ملك أراجون بذلك، فخرج لصدهم، ونشبت بين الفريقين على مقربة من أسترقة معركة حامية، وكل يحاول أن ينتزع الملك الطفل. وهزم الجلالقة، ولكن الأسقف خلمريث استطاع خلال المعركة أن يحمل الطفل وأن يفر به ناجياً

إلى حصن " أوسيون " حيث كانت أمه، ثم حمله الإثنان خلال الجبال إلى شنت ياقب. وغدا الأسقف خلمريث عندئذ روح كل مقاومة ضد ملك أراجون، وأصدر نداء إلى أهل جليقية المخلصين، واستطاع أن يضم إليه المنشقين منهم في جبهة واحدة، ولم يمض سوى قليل حتى استطاع هو والملكة أن يجمعا قوة كبيرة، ونجح الأسقف أيضاً في أن يستميل إلى جانبه هنري أمير البرتغال، وكان قد بدأ يخشي سطوة ملك أراجون. وسارت القوات المشتركة إلى أسترقة لإنقاذ الجلالقة المحصورين بها. فلما شعر ملك أراجون بتفوق خصومه، غادر أسترقة، وارتد في قواته صوب بلد الوليد، وهنالك حاول القشتاليون والجلالقة والبرتغاليون محاصرته، ولكنه استطاع أن يقضي على محاولتهم، وأن يرتد ظافراً إلى بلاده (أبريل سنة 1112 م). ولابد لنا أن نذكر كلمة عن هذا الأسقف المغامر المحارب، ديجو خلمريث، فقد كان أسقفاً لشنت ياقب منذ سنة 1101 م، وكانت سيادته لهذه الأسقفية الهامة المتمدنة، واحتكامه على ما بها من ثروات وموارد طائلة وأتباع عديدين، تجعل منه عاملا هاماً في ذلك الصراع السياسي الذي تجوزه قشتالة. وكان الأسقف فوق ذلك رجلا رفيع المواهب، شديد الحزم، كثير الأطماع، متحفزاً، شغوفاً بتوسيع سلطانه وحقوق كنيسته، قليل الاكتراث بالوسيلة، وهو ما كان يتفق مع ضعف الخلق السياسي في هذا العصر، الذي كان ينتقل فيه الناس بسهولة ودون حرج من حزب إلى حزب، ويحنثون في كل وقت بالعهد أو بالصداقة المعقودة. وهكذا كان دون ديجو ممثلا بارزاً لأهل عصره، وللطبقة السائدة التي كانت تضم الأشراف ورجال الدين، وهكذا، سوف نراه صديقاً للملكة أوراكا ثم عدواً لها، وصديقاً لتريسا ملكة البرتغال ثم عدواً لها، وصديقاً للملك الصبي ألفونسو، ثم خصماً له. وسوف نراه يحارب إلى جانبهم ثم يحارب ضدهم طوراً بعد طور (¬1). وتعاقبت الحوادث والقلاقل في الأعوام التالية، وانقسمت اسبانيا النصرانية إلى ثلاثة أحزاب، كان أولها وأقواها من حيث البلاد والموارد حزب ملك أراجون، ¬_______ (¬1) R. Altamira: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola Barcelona (1900) V. I. p. 357 & 358

وثانيها حزب قشتالة الذي ينضوي تحت لواء الملكة أوراكا، ويؤازره رجال الدين في قشتالة وليون وجليقية ومن ورائهم الشعب، وثالثها حزب الأشراف، وهو يعارض حكم الملكة وحكم ملك أراجون، ويعقد آماله على الملك الطفل ألفونسو ريمونديس ملك جليقية، ويؤازره معظم الفرسان في سائر أنحاء المملكة. وكان من الواضح أن الخلاف بين الملكة وزوجها قد وصل إلى حدود لم تعد تنجح معها أية محاولة للتوفيق، وقد بذلت مثل هذه المحاولة بالفعل على يد كبراء قشتالة، وعقد صلح اتفق فيه على توزيع البلاد والحصون على الملكين. ولكن ألفونسو ما لبث أن استولى على كثير من الحصون التي أعطيت للملكة. وعندئذ غضب القشتاليون لذلك، وأعلنوا أن أورّاكا هي ملكة قشتالة الشرعية. ونهضت الملكة، وسارت في قواتها وقوات جليقية لمحاربة ألفونسو. وبعث ألفونسو سفراءه في طلب الصلح من جديد. ومال الأشراف إلى ذلك حقناً للدماء. ولكن الأسقف ديجو خلمريث، عارض في عقد الصلح أشد معارضة، وأعلن بطلان الزواج المعقود بين الملك والملكة، وخصوصاً بعد أن أعلن البابا أنه " عشرة محارم " وذلك بسبب القرابة الشديدة بين الزوجين. ولم تمض أشهر قلائل حتى أعلن رسول البابا في مجلس عقد في بالنسيا بطلان الزواج بصفة رسمية، واغتبطت الملكة لذلك القرار. ولكن ملك أراجون أعلن بطلان القرار البابوي، ثم قرنه بإعلان الحرب على قشتالة، والاستيلاء على ولاية ريوخا. وفي خلال ذلك، كانت الفتن والقلاقل تتعاقب، أحياناً في صف أورركا، وأحياناً ضدها. وكانت أورّاكا ماضية في مسلكها المشين لا تني على شىء، وقد فاق استهتارها كل حد، وتركت لخليلها الكونت بيدرو دي لارا كل الشئون، وأضحت علائقها الغرامية فضيحة عامة، يجري ذكرها على كل لسان. وكان الأسقف ديجو من جهة أخرى يعمل بكل ما وسع لتوطيد مركز ألفونسو ريمونديس في جليقية، وذلك بالتعاون مع الكونت دي ترافا مؤدب الملك وزملائه الثوار من أشراف جليقية. فثارت الملكة لمسلكه، وسارت في بعض قواتها إلى شنت ياقب التي غدت عندئذ مركزاً لهذه المحاولات، فاضطر الأسقف إلى إعلان توبته وطاعته. ولكن حدث عندئذ، أن سار الكونت دي ترافا، وتريسا ملكة البرتغال في قواتهما إلى شنت ياقب، وحاصرا الملكة أوراكا. وكانت تريسا، قد كسبت بانضمامها إلى الثوار، دفع حدودها الى أراضي مدينتي

توي، وأورنسي. ولم تستطع أوراكا مغادرة شنت ياقب إلا بصعوبة، فسارت منها إلى مدينة ليون. وبقيت تريسا في جليقية حيناً، حتى علمت بأن المسلمين يزحفون على أراضيها الجنوبية فعادت إلى البرتغال لتعني بمدافعتهم. وفي تلك الأثناء ثار أهل شنت ياقب بالأسقف ديجو، ففر إلى قشتالة، والتجأ إلى حماية الملكة، فاستقبلته بعطف، وعهدت إليه بأن يقوم بالسعي في عقد الصلح بينها وبين ولدها ومن يؤيدونه من أشراف جليقية، فدعا الأسقف إلى اجتماع عقد في ساهاجون يمثل مختلف الأطراف المتنازعة (كورتيس)، ووضع اتفاق بين الأم والإبن، وقعه ثلاثون شريفاً من كل من الفريقين، يقضي بأن تتولى الأم وولدها الحكم معاً في جليقية وليون وأشتوريش، وأن تنفرد الأم بالحكم حال حياتها في قشتالة، على أن يخلفها ولدها وفقاً لوصية ألفونسو السادس (سنة 1117 م). ولما تم توقيع الصلح على هذا النحو سارت الملكة إلى جليقية لزيارة ولدها، ثم سارت إلى شنت ياقب لتعاقب أهلها على مناوأتهم للأسقف ديجو. فقاومها أهل المدينة بشدة، وهاجموها ومن معها بعنف، حتى اضطرت أن تلتجىء مع حاشيتها إلى الكنيسة الكبرى، فأضرم الثوار فيها النار غير مكترثين بصفتها المقدسة، ولما هرعت الملكة إلى الخارج طلباً للنجاة، تطاول عليها الثوار وأهانوها، ولم تستطع النجاة إلا بعد أن تعهدت لهم بأن تعين لهم أسقفاً آخر يوافق ْالملك على تعيينه، وأن تحكم البلدة وفقاً لرغبات أهلها. أما الأسقف ديجو، فاستطاع أن يفر متنكراً، ولكن أتباعه هلكوا في الكنيسة حرقاً. وما كادت الملكة تغادر شنت ياقب حتى زحفت على المدينة قوات جليقية، وقوات الملكة وأصحاب الأسقف، واعتزمت الملكة أن تعاقب أهلها على جرأتهم عقاباً رادعاً. فارتاع أهل المدينة، وخرج كبراؤها من قساوسة ومدنيين، وتضرعوا إلى الملكة وإلى الأسقف بأن تصفح عنهم، وأن يُرفع عنهم النفي الكنسي الذي أعلنه الأسقف. وانتهى الأمر بأن اشترطت الملكة، أن يُنزع سلاح الجماعة الثائرة المسماة " جماعة الإخوة "، وأن يقسم الكبراء يمين الطاعة للملكة والأسقف، وأن يقدموا خمسين فتى من أبنائهم وأقاربهم رهينة، وقررت الملكة نزع أملاك خمسين من الثوار، وفرضت على المدينة غرامة فادحة. ثم دخلت إلى المدينة يصحبها الأسقف، وأعيد الأسقف إلى منصبه، وردت

التحف المنهوبة، وأصلحت الكنيسة والقصر الأسقفي المجاور لها على نفقة الثوار. واستطاع الأسقف ديجو فوق ذلك أن ينال من البابا كالستوس الثاني رتبة المطرانية (الكردينال)، والبابا كالستوس هو أخو الكونت ريمون والد الملك الصبي ألفونسو، وكان منح الأسقف هذا اللقب ثمناً لمؤازرته للملك، واشتُرط في منحه أن يستمر الأسقف في مؤازرته. خرجت الملكة أورّاكا بعد ذلك في قواتها، ومعها قوات شنت ياقب تحت قيادة المطران ديجو، لمحاربة أختها تريسا ملكة البرتغال واسترداد أراضي توي وأورنسي منها، ونفذت إلى أراضي البرتغال، وحاصرت تريسا في حصن لانيوسو، ولكن تريسا استطاعت الفرار بمعاونة بعض الأشراف الجلالقة، وربما أيضاً بمعاونة المطران الماكر، وقد أبدى رغبته فجأة في أن يعود بقواته إلى شنت ياقب، وهو ما حمل أوراكا على الشك في ولائه. وانتهت المفاوضات التي تلت بين الأختين عن نتيجة لم تكن متوقعة، هي أن تتنازل أوراكا لأختها عن أراضٍ من أحوات سمورة وطورو وشلمنقة، في نظير أن تتعهد تريسا بمعاونتها ضد جميع خصومها، مسلمين كانوا أو نصارى، وألا تعاون أحداً من الأشراف الثائرين ضدها. وعلى أثر ذلك عادت أوراكا على رأس حملتها الغازية إلى جليقية. ولكنها دبرت أن تعبر قوات شنت ياقب النهر أولا، وما كاد يتم عبورها، حتى أمرت بالقبض على المطران ديجو، وزجه إلى أحد الحصون، وقُبض كذلك على إخوته الثلاثة، وعلى صديقيه مطران براجا وأسقف أورنسي، وكانوا جميعاً مع الجيش. وكان لهذه الإجراءات العنيفة أعمق وقع في شنت ياقب وفي رومة. ففي شنت ياقب ثار الشعب سخطاً، وبدا غضبه بأجلى مظاهره حينما قدمت الملكة إلى المدينة المقدسة لتشهد الاحتفال بعيد القديس ياقب. وأما عن موقف رومة، فقد أرسل البابا كالستوس إلى سائر مطارنة اسبانيا، بأن يعقدوا مجلساً دينياً، وأن يصدروا قراراً بنفي الملكة من الكنيسة، إذا لم تفرج عن المطران خلمريث، وترد إلى الكنيسة أملاكها المغصوبة. ومن جهة أخرى فقد ثار شعب شنت ياقب، وهدد الملكة بالويل إذا لم تفرج عن المطران، وزاد في حماستهم وثورتهم مقدم الملك الفتى ألفونسو ريمونديس على رأس قواته. وعندئذ اضطرت أوراكا، أن تطلق سراح المطران وزملائه المعتقلين. ولكنها لم تقم برد أملاك الكنيسة، وأملاك المطران المنزوعة.

وهنا نهض المطران لمحاربة الملكة، ومن الغريب أن أهل شنت ياقب الذين خرجوا من قبل على المطران وكادوا يفتكون به، انضموا عندئذ إليه. وانضمت إليه كذلك قوات ألفونسو ريمونديس الجليقية. وسارت الملكة في قواتها لمقاتلة المطران الثائر وحلفائه، والتقى الفريقان في مكان يسمى " مونساكرو " ووقعت بينهما بعض المصادمات الدموية، وصدر في تلك الأثناء قرار المطارنة بنفي الملكة من الكنيسة تحقيقاً لرغبة البابا، وعندئذ لم تر الملكة مناصاً من الإذعان. وفي رواية أخرى أنه لم يقع قتال بين الفريقين، وأن المطران ديجو اقترح على الملكة أن تجري مفاوضات لعقد الصلح بينها وبين ابنها حقناً للدماء. وانتهت هذه المفاوضات إلى معاهدة صلح، قدمت الملكة لضمان تنفيذها ستين من فرسانها رهينة، وتعهدت بأن ترد سائر أملاك الكنيسة، وأن ترد إلى المطران سائر أملاكه ورواتبه. وحاول البابا كالستوس الثاني أن يضع بتدخله حداً لتلك الحرب الأهلية التي طال أمدها، فأوفد إلى شبه الجزيرة سفيراً بعد سفير، وعقدت بدعوته عدة اجتماعات كنسية ونيابية للعمل على رد السكينة والنظام، والتوفيق بين الأحزاب المتنازعة. وانتهى الاجتماع الذي عقد في بلد الوليد في سنة 1124 م، بعقد الصلح، بين الملكة وولدها على أن يحكما سوياً كل الأراضي التي ورثتها أوراكا عن أبيها. ولكن النزاع بين الأشراف استمر على حاله، ولم تثمر في حسمه أية وسيلة، إذ كانت أهواء الملكة الشخصية تحول دون كل توفيق، وتذكي عوامل الخصومة والبغضاء في مختلف النفوس. وكان ولدها الملك الفتى، قد سار قبل ذلك ببضعة أعوام إلى قشتالة في فرقة قوية من فرسانه واستطاع أن يقبض على الكونت بيدرو دي لارا عشيق أمه، وأن يلقي به إلى السجن. ولكن الكونت فر من معتقله، والتجأ إلى حماية أمير برشلونة، ورفع هذا الحادث من سمعة الملكة وهيبتها مدى حين، وهدأت ثورة أشراف قشتالة، الذين كانوا ينقمون على أوراكا اصطفاءها الشائن لخليلها. ومع ذلك فإن هذه الملكة الماجنة استمرت على سلوكها الوضيع، وعلائقها الغرامية المشينة، حتى نهاية حياتها. وقد جاءت النهاية أخيراً لتضع حداً لحياة ذميمة، فياضة بالفجور والفضائح والأهواء الجامحة، والخصومات المضطرمة، وتوفيت أوراكا ملكة قشتالة في سنة 1126 م. فتنفس الجميع الصعداء في سائر أنحاء اسبانيا النصرانية، ملوكاً، وأحباراً وأشرافاً، وفرساناً، وشعوباً، واختفت من حياة قشتالة العامة، شخصية

بغيضة لم تحظ خلال حياتها، بشىء من الولاء الحقيقي، أو العطف الصادق أو التوقير والاحترام. لبثت أورّاكا مدى عشرين عاماً ملكة قشتالة، وخلفت على العرش أباها العظيم ألفونسو السادس، فكان التباين في الوسائل والخلال من أبشع ما يمكن تصوره، وتحول الحكم القوي الحازم، إلى معترك من الشهوات والأهواء الخطرة. وبدلا من أن يغدو زواجها بألفونسو المحارب دعامة لتوطيد العرش، وتسيير دفة الحكم، أضحى مصدراً خطراً للتنافس والشقاق المستمر، وعاملا في ضعف المملكة، واستنزاف مواردها التي كانت تدخرها لغزو الأندلس، وتخريب ربوعها في حروب أهلية منهكة. وكان وجود امرأة على رأس الحكم في مملكة قشتالة العريقة، في ذاته مظهراً جديداً لم يألفه الشعب القشتالي، الذي اعتاد أن يرى حكامه من الملوك الأقوياء، وأذكى من وقع هذا المظهر في نفوس الأشراف ونفوس الشعب، مسلك أوراكا المشين كملكة وامرأة معاً، لا تحرص على صون هيبة الملك، ولا كرامة المرأة المصون. ومع ذلك فإن المؤرخين الإسبان يختلفون في الحكم على أوراكا، وعلى حقيقة تبعاتها التاريخية. ففريق يحكم عليها، ويدمغها بأقسى النعوت. ومن هؤلاء الأسقف ساندوفال. إذ يحمل عليها في تاريخه (¬1) بشدة، ويقول: " يجب علينا أن نسقط مثل هذه العصور من سلسلة تاريخنا القومي ". ويضع لوقا التويي، وأسقف طليطلة، وماريانا، مسئولية سائر المحن والخلافات التي حدثت على رأس ملكة قشتالة، ويصفونها بأنها " امرأة متهورة وشجاعة " ويتحدثون عن " خدعاتها المشينة المشبعة بالخيانة ". هذا بينما يرفض الأب فلورس (¬2) وغيره، كل ما نسب إلى أوراكا من " أعمال الطيش التي نسبت إليها " ويرجعون المسئولية في كل ما حدث من الشقاق والاضطرابات إلى الملك ألفونسو المحارب، وينسبون إليه أخبث النيات، وأشنع الأعمال اللادينية، ويصفونه بأنه زوج همجي ومسىء لزوجته، ومضطهد ومستبد للأساقفة ورجال الدين، وملوث ومخرب للمعابد، وناهب للأموال والآنية المقدسة، وبأنه لم يتورع عن محاولة اغتيال الأمير الصبي (¬3). ¬_______ (¬1) Sandoval: Historia de los Reyes de Castilla y de Leon (¬2) في تاريخه Florez: Historia de la Reinas Catolicas (¬3) M. Lafuente: Historia General de Espana, T. III, p. 215

- 2 - لما توفيت الملكة أوراكا، أعلن ولدها ألفونسو ريمونديس ملكاً لقشتالة وليون وسائر الأراضي التي حكمها جده ألفونسو السادس، باسم ألفونسو السابع، وكان ألفونسو منذ وفاة جده، وفي حياة أمه ملكاً لجليقية حسبما تقدم. وكان هذا الملك الفتى الذي لم يجاوز الحادية والعشرين من عمره، قد نشأ وترعرع في غمار الخطوب والمحن التي توالت على المملكة أيام حكم والدته، وكان يشعر بكل ما يواجهه من تبعات خطيرة، وما يستلزمه ذلك من يقظة وحزم. وكان أشراف قشتالة وليون يشعرون ويشعر الشعب القشتالي نفسه، بأن تولى ألفونسو ريمونديس الملك يبشر بإنهاء عهد الاضطراب والفوضى، وقيام عهد جديد من السلام والرخاء. على أنه كان واجباً قبل أن يتحقق هذا الأمل، في عود السكينة والسلام، أن يتحقق أمران، الأول أن تُسوى المسائل المعلقة بين قشتالة وأراجون، والثاني أن يتم إخضاع الأشراف والخوارج في بعض أنحاء المملكة بصورة نهائية. فأما عن الأمر الأول، فإن ألفونسو ملك أراجون، كان ما يزال يتمسك ببقية من دعاويه القديمة، وكانت جنوده، ما تزال تحتل عدداً من الحصون داخل أراضي قشتالة. فلما توفيت أوراكا زوجه القديمة، وقام ولدها في الملك، أخذ يتطلع إلى مهاجمة قشتالة والمحافظة على ما بيده من حصونها، وأخذ ألفونسو ريمونديس من جانبه يتطلع إلى القضاء على دعاوي ملك أراجون، وتحرير أرض قشتالة من هذا الاحتلال، وأخذ كل من الملكين يتأهب لمقاومة خصيمه. وكان ملك أراجون هو البادىء بالعدوان، فنفذ بقواته إلى أراضي قشتالة حتى صار على مقربة من بالنسيا، وهنالك التقى بقوات قشتالة وكان يقودها الكونت دي لارا ولكن لم يقع بين الفريقين التحام ولا قتال. وسرعان ما تدخل بينهما الأساقفة، وعقدت الهدنة، تعهد ملك أراجون بأن يسلم الحصون التي تحتلها قواته في مهلة معينة، ثم عاد إلى أراضيه (1127 م). ولكن ملك أراجون لم ينفذ ما وعد به، ولم يمض عامان آخران حتى عاد إلى غزو قشتالة. وسار ألفونسو ريمونديس في قواته إلى لقائه. والتقى الجيشان على مقربة من " ألماسان ". وهنا تدخل الأساقفة مرة أخرى، وتكرر السعي القديم في عقد الهدنة، وكان التعهد هذه المرة من جانب ملك قشتالة، في أن يرد إلى المحارب الحصون التي كانت له في قشتالة.

على أن هذه المحاولة لم تنجح أيضاً، ولم يمض سوى قليل، حتى عاد النزاع، وعاد لقاء الفريقين في ميدان الحرب، واستولى ملك قشتالة في تلك الحملة على قلعة كاسترو شريش، وهي أهم القلاع التي كان يحتلها أنصار ملك أراجون، واستمر هذا الصدام وقتاً، وكلما هم الفريقان بالاشتباك، هرع الأساقفة بالتدخل ودعوا إلى حقن دماء النصارى، وتحويل الحرب إلى وجهة أخرى هي محاربة المسلمين. وأخيراً وفق الأحبار في جهودهم، وعقدت بين الملكين هدنة، نزل بمقتضاها ملك أراجون عن سائر الحصون التي كانت له في قشتالة، ونزل ألفونسو ريمونديس نظير ذلك عن ولاية " ريوخا " التي كانت من قبل من أراضي نافارا، وانتزعها منها ألفونسو السادس (سنة 1130 م). وشغل ألفونسو المحارب من ذلك الحين أولا بحرب صغيرة نشبت فيما وراء البرنيه بين بعض الأمراء الفرنسيين. والظاهر أن ألفونسو تدخل في هذه الحرب ليحمي بعض الكونتات من أتباعه في ولايتي بيارن وبجور، من بعض خصومهم من أمراء الشمال، ومن ثم فقد حاصر ألفونسو مدينة بيونة واستولى عليها (سنة 1131). ثم شغل بعد ذلك بمحاربة الأمراء المسلمين في طرطوشة ومكناسة وإفراغة، وفي موقعة إفراغة كانت هزيمته الساحقة، ثم مصرعه في يوليه سنة 1134 م، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه. وأما الأمر الثاني الذي شغل به ألفونسو ريمونديس في مستهل حكمه، فهو القضاء على سلطان الأشراف الخوارج وثوراتهم التي توالت منذ عهد أمه أوراكا. وكان أشد الخوارج بأساً في قشتالة أسرة لارا، التي كانت تناهض العرش أحياناً، وأحياناً تعضده بقواتها وثرائها، ونفوذها البالغ. وكان عميدها بيدرو جونثالث دي لارا عشيق الملكة أوراكا أو زوجها السري، وأخوه ردريجو، وكان ألفونسو ريمونديس قد استطاع من قبل أن يقبض على عشيق أمه، وأن يعتقله، ولكنه فر إلى قطلونية، ثم عاد إلى قشتالة عقب موت أوراكا، واستطاع أن يستولي على بالنسيا بمعاونة ملك أراجون، فبادر ألفونسو بالسير إلى بالنسيا، واستولى عليها، وقبض على الأشراف الثائرين، وفي مقدمتهم الكونت بيدرو دي لارا، ولكن أخاه ردريجو تمكن من الفرار إلى منطقة الأسترياس (أشتوريش). وأفرج ألفونسو بعد ذلك عن الكونت بيدرو، فغادر قشتالة مرة أخرى، إلى أراجون، شاعراً بأنه فقد كل مكانته ونفوذه السابق، واشترك مع ملك أراجون

في حملته إلى بيونة، وقتل أمام أسوارها. أما أخوه الكونت ردريجو، فقد طارده ألفونسو، وضيق عليه، حتى أذعن إلى طلب الأمان والعفو، وأقسم أنه سوف يلتزم منتهى الولاء والإخلاص، فعفا عنه ألفونسو وعينه حاكماً لطليطلة، وأبدى الكونت غيرة في خدمة العرش. وتتبع ألفونسو في نفس الوقت باقي الأشراف الثائرين فأخضعهم، واحتل حصونهم تباعاً، وأبدى في معاملتهم إغضاء ورفقاً. وبذلك استطاع أن يحقق السكينة والسلام في ربوع قشتالة. ولم يبق أمام ألفونسو لاستكمال سلطانه، سوى استرداد الأراضي والحصون التي انتزعتها خالته دونيا تريسا ملكة البرتغال، وكانت ما تزال متمسكة بما اقتطعته من أراضي جليقية وحصونها، بل كانت تحاول الاستيلاء على أرض أخرى، وكانت عندئذ قد وثقت علاقتها الغرامية بالكونت فرناندو بيرث ولد الكونت دي ترافا مؤدب ألفونسو السابق، وأضحت هذه العلائق فضيحة ملكية على نحو ما كانت علائق الملكة أوراكا بخليلها الكونت دي لارا، وكان لها أسوأ الأثر. فسار ألفونسو ريمونديس في قواته ومعه خلمريث مطران شنت ياقب، ونفذ إلى أراضي جليقية والبرتغال، وقضى على كل مقاومة ومعارضة، سواء من جانب أشراف جليقية أو من جانب قوات تريسا. وكان البرتغاليون ينقمون على ملكتهم تهورها واستهتارها، وتركها أمور المملكة لخليلها الكونت بيريث، ويطالبون بتقديم ولدها الأمير الصبي ألفونسو هنريكيز. ولما آنس القواد البرتغاليون ضعفهم، وحرج مركزهم أمام ضغط ملك قشتالة، أعلنوا باسم ألفونسو هنريكيز، أنهم يعتبرون البرتغال مستظلة بحماية ليون، ومليكها ألفونسو ريمونديس، وهكذا عاد ألفونسو ريمونديس ظافراً، بعد أن قضى على مشاريع خالته تريسا العدوانية. وكان ألفونسو ريمونديس قد تزوج أثناء ذلك من دونيا برنجيلا، ابنة رامون برنجير الثالث أمير برشلونة (سنة 1128 م)، وكان هذا الزواج عاملا في توثيق علائق المودة والتحالف بين قشتالة وإمارة برشلونة، واستطاعت هذه الأميرة الحسناء الموهوبة، أن تحرز برقتها وذكائها في بلاط قشتالة، أعظم نفوذ، وأن تغدو لزوجها الملك الشاب مستشاره الأول، يصغي إلى نصحها في سائر شئون المملكة والحكم، معتمداً في ذلك على ذكائها وحسن إدراكها للأمور (¬1). وفي سنة 1133 م، قام ألفونسو بإخضاع بعض ثورات محلية في منطقة ¬_______ (¬1) Lafuente: ibid ; T. III. p. 247

الأسترياس، وفي خلال هذه الحملة، علق بحب فتاة حسناء تدعى كونترودا هي ابنة الكونت بيدرو دياث، وأعقب منها فيما بعد ابنة سميت أوراكا، عهد بتربيتها إلى أخته دونيا سانشا. وهكذا غدت هذه المغامرات الغرامية الملوكية تقليداً راسخاً في بلاط قشتالة في هذا العصر. وفي خلال ذلك لم ينس ألفونسو ريمونديس مهمته الأولى، كملك لقشتالة أولا، وعميد لملوك اسبانيا النصرانية ثانياً، وهي متابعة الحرب ضد اسبانيا المسلمة، وكانت هذه المهمة التي يحيطها ملوك قشتالة، بنوع من التقديس، قد تراخت نوعاً أيام والدته أوراكا، بسبب ما شغل قشتالة عندئذ من منازعات وحروب أهلية متوالية. وشغلت الجيوش المرابطية من جانبها بمدافعة ألفونسو المحارب ملك أراجون، والاشتباك معه في معارك متوالية في شرقي الأندلس، وفي جنوبها، وفي الثغر الأعلى، وكان ملك أراجون، بعد وفاة ملك قشتالة القوي ألفونسو السادس، هو الذي يضطلع يومئذ بمهمة الصراع الذي تشهره اسبانيا النصرانية على اسبانيا المسلمة. على أن ملك قشتالة الفتى ألفونسو ريمونديس، ما كاد يسوى نزاعه مع ملك أراجون، وما كاد يطمئن إلى استقرار السكينة والسلام في مملكته، حتى استدعى مجلساً في بالنسيا (كورتيس) لكي يبحث خطط الحرب ضد المسلمين (سنة 1130 م). وكانت الغزوات المرابطية، قد أخذت قبل ذلك بقليل تتوالى في أراضي قشتالة، ولاسيما مذ ولي الأمير تاشفين بن علي بن يوسف شئون الأندلس في سنة 522 هـ (1128 م). وقد فصلنا نحن من قبل تفاصيل الغزوات التي قام بها المرابطون يومئذ في أراضي قشتالة، والغزوات التي قام بها القشتاليون في أراضي الأندلس، فلا حاجة بنا إلى أنا نعود إلى ذكرها هنا. بيد أنه مما تجب ملاحظته أن هذه الفترة التي توالت فيها غزوات القشتاليين لأراضي الأندلس الوسطى، هي نفس الفترة التي اشتدت فيها وطاة ألفونسو المحارب ملك أراجون على شرقي الأندلس والثغر الأعلى. وقد سبق أن فصلنا كيف أحرز ألفونسو نصره على المرابطين في موقعة القلاعة جنوبي بلنسية في سنة 523 هـ (1129 م) وكيف غزا ألفونسو بعد ذلك أراضي بلنسية، وعاث فيها، ثم عاد فهاجم مكناسة من قواعد الثغر الأعلى، واستولى عليها في سنة 527 هـ (1133 م) ثم كان حصاره لإفراغة ونكبته تحت أسوارها، وموته على أثر تلك النكبة، وذلك في شهر يوليه سنة 1134 م (رمضان سنة 528 هـ).

الفصل الثانى الممالك الإسبانية النصرانية فى عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى

الفصل الثاني الممالك الإسبانية النصرانية في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى ألفونسو المحارب. أعماله وخلاله. وصيته. رفض الشعبين الأرجوني والنافاري لها. انفصال نافارا واستقلالها. اختيار أراجون الراهب راميرو ملكاً لها. غزو ملك قشتالة لنافارا. احتلاله لسرقسطة. اعتراف راميرو بطاعته. ألفونسو ريمونديس يتخذ لقب الإمبراطور. قرارات مجلس ليون. ما يحققه اللقب الإمبراطوري لملك قشتالة. محالفة راميرو لملك قشتالة. ألفونسو ريمونديس يغزو نافارا. ارتداده لمحاربة البرتغاليين. زواج الكونت رامون أمير برشلونة من إبنة راميرو. تنازل راميرو عن العرش. الكونت رامون أمير أراجون. الكونت رامون برنجير الثالث وجهوده في سبيل التعاون مع أراجون. رامون برنجير الرابع وإتمام الوحدة بين أراجون وقطلونية. مسير ألفونسو ريمونديس لمحاربة البرتغال. الصلح المفاجىء بين الملكين. مسير ألفونسو لغزو الأندلس. فتك المرابطين بإحدى فرقه. مسيره لافتتاح حصن أوريخا. إسراع المرابطين إلى نجدته. تسليم الحصن بالأمان. تحالف ألفونسو ريمونديس ورامون برنجير على غزو نافارا. مدافعة غرسية راميريس ملكها للغزاة. سعيه إلى طلب الصلح. اعترافه بسيادة الإمبراطور. استمرار الحرب بين أراجون ونافارا. عقد الصلح بينهما. غزو ألفونسو ريمونديس للأندلس. استيلاؤه على قورية. غزوة قشتالة للأندلس. موقعة بين المسلمين والنصارى. هزيمة النصارى ومصرع قائدهم. ملك قشتالة يغزو الأندلس مرة أخرى. معاونته للثوار ضد المرابطين. احتلاله قرطبة. استيلاء النصارى على ألمرية. سقوط القواعد الإسلامية بالثغر الأعلى. غزو نافارا لأراجون ومراميه. المؤتمر الكهنوتي. وفاة الملكة برنجيلا. وفاة غرسية راميريس ملك نافارا. تجديد التحالف ضد نافارا بين أراجون وقشتالة. تطور الحوادث. الزيجات الملكية. الحرب بين نافارا وأراجون. تجدد الاتفاق بين أراجون وقشتالة على تقسيم نافارا. عود ملك قشتالة إلى غزو الأندلس. استيلاؤه على حصنى أندوجر والبطروج. استردادهما على يد الموحدين. استرداد الموحدين لألمرية، وفشل القيصر في إنجادها. وفاة ألفونسو ريمونديس. خلاله وأعماله. برنامجه في مهاجمة الإسلام. مواظبته على غزو الأندلس. المونت رامون برنجير وأعماله الأخيرة. وفاته وخلاله. تقسيم قشتالة بين ولدي القيصر سانشو وفرناندو. الحرب بين الأخوين. هزيمة فرناندو واعترافه بسيادة أخيه. أطماع سانشو ووفاته. ولده الطفل ألفونسو. الوصي جوتيرو دي كاسترو. سخط آل لارا. تسليم الأمير للكونت غرسية دى آينا. الكونت يسلمه لآل لارا. مطالبة آل كاسترو بإعادة الطفل. التجاؤهم إلى فرناندو ملك ليون. غزو فرناندو لقشتالة. إعلانه لوصايته على ابن أخيه. تسليم آل لارا للملك الطفل. اصطفاء فرناندو لآل كاسترو. الحرب بين الأسرتين. هزيمة آل لارا. اختطافهم للملك الطفل. تذرعهم بحماية قشتالة من أطماع فرناندو. استمرار الحرب الأهلية بين الفريقين. مقتل عميد آل لارا. تحول أهل قشتالة إلى مخاصمة فرناندو. استيلاء آل لارا على طليطلة. إعلانهم

لولاية الملك الطفل ألفونسو. تأييد قشتالة ورجال الدين لتلك الحركة. انسحاب فرناندو من قشتالة. قيام جماعات الفرسان الدينية في اسبانيا. جمعية فرسان المعبد. استقرارها في أراجون وقطلونية. قيام جمعية فرسان قلعة رباح. جماعة القديس ياقب. 1 - وفاة ألفونسو المحارب وولاية أخيه الراهب راميرو كان مصرع ألفونسو المحارب على ذلك النحو المفاجىء الذي حدث عقب موقعة إفراغة، نذيراً بوقوع تطورات هامة في مصاير اسبانيا النصرانية، على نحو ما كانت وفاة ألفونسو السادس ملك قشتالة قبل ذلك بخمسة وعشرين عاماً. فقد توفي كلاهما دون وارث للعرش. وقد رأينا كيف تولت أورّاكا عرش قشتالة تنفيذاً لوصية أبيها، وما ترتب على ذلك من الحوادث والخطوب، وكذلك فقد كانت وفاة ألفونسو المحارب دون عقب، مثاراً لأحداث وتطورات جديدة حول عرش أراجون. وكان ألفونسو المحارب من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية في العصور الوسطى، وقد استطاع خلال الأعوام الثلاثين التي حكمها منذ وفاة أخيه الملك بيدرو في سنة 1105 م، أن يجعل من أراجون أعظم ممالك اسبانيا النصرانية وأقواها، وإن لم تكن أضخمها رقعة، وغدا بزواجه من أوراكا ملكة قشتالة، أعظم عاهل لإسبانيا النصرانية كلها. وأنفق ألفونسو معظم جهوده الحربية في محاربة المسلمين، وانتزع قواعد مملكة سرقسطة الباقية من بني هود، ثم انتزع سرقسطة ذاتها من أيدي المرابطين، وقام بغزوته الشهيرة في قلب الأندلس، واخترقها من أقصاها إلى أقصاها، وأطل بقواته على شاطئها الجنوبي (520 هـ -1127 م). وقد أظهرت هذه الغزوة الجريئة التي فصلنا حوادثها فيما تقدم، ضعف وسائل الدفاع عن الأندلس. وحقق المحارب بافتتاحه لسرقسطة، والقضاء عليها كحاجز دفاعي للمسلمين في الثغر الأعلى، ما حققه ألفونسو السادس بافتتاح طليطلة، من فتح طريق التاجُه، فأصبحت الأندلس معرضة للغزو النصراني من الشمال الشرقي، ومن الوسط، وسارت سياسة الإسترداد النصرانية La Reconquista من ذلك الحين في الاتجاهين دون عائق قوي، وتنوه الرواية الإسلامية ذاتها بشجاعة ألفونسو المحارب، وشديد بأسه. فيقول لنا ابن الأثير في وصفه: " وكان من أشد ملوك الفرنج بأساً وأكثرهم تجرداً لحرب المسلمين،

وأعظمهم صبراً، وكان ينام على طارقته بغير وطاء " (¬1). وأما عن خلال ألفونسو الشخصية، فتختلف الرواية النصرانية، فنراه يوصف في التواريخ الأرجونية بالإيمان والتقوى، والفروسية، ورعاية الكنائس والأحبار، ولكن التواريخ القشتالية تصفه بالعكس بالجبروت والغدر والإلحاد، وشغف العدوان على حرمة الكنائس والأديار، وعلى محتوياتها المقدسة، وأنه في- حروبه مع النصارى لم يكن يفر الأحبار ولا النساء من عدوانه. ولم يكن يكبح جماح جنده عن ارتكاب مختلف ضروب الإثم والمنكر (¬2). وكان ألفونسو المحارب، قبيل وفاته بثلاثة أعوام قد كتب وصيته حول مصير مملكته، وكانت أغرب وصية يمكن تصورها. ذلك أنه أوصى فيها بأن تقسم مملكته الكبيرة إلى ثلاثة أقسام، الأول يخصص لسلام روح والده ووالدته، وللتكفير عن زلاته، ولكي يظفر بمكان في جنة الله، وللقبر المقدس وسدنته وخدمه، والثاني يخصص للفقراء وفرسان الأسبتارية ببيت المقدس. والثالث يخصص لفرسان المعبد (الداوية) باعتبارهم حماة النصرانية في معبد المسيح (¬3). وقد ظهر فرسان الداوية قبل ذلك بأعوام قلائل في إمارة برشلونة، وكان أميرها رامون برنجير الثالث، أول من شجعهم على القيام في إمارته، وحاول ألفونسو المحارب قبل وفاته بقليل أن ينشىء جمعية فرسان دينية على غرار جماعة بيت المقدس، فلم ينجح لمعارضة الأشراف، ولكنه لبث يحتضن مشروعه حتى توفي حسبما بدا ذلك في وصيته. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 23. (¬2) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ. (الترجمة العربية، الطبعة الثانية ص 166 و 167). (¬3) كان فرسان المعبد Templares، وفرسان الأسبتارية Hospitallers من أشهر جماعات الفرسان الدينية التي قامت في العصور الوسطى في بداية الحروب الصليبية. والجماعة الأولى هي التي تعرف في الرواية الإسلامية بجماعة " الداوية " وقد أنشئت سنة 1119 م في بيت المقدس عقب سقوطها في يد الفرنج الصليبيين وذلك لحماية الحاج إلى قبر المسيح، وأفرد لهم ملك بيت المقدس جناحاً في قصره، ثم سلم إليهم المعبد المجاور له، ومنه اشتقوا اسمهم " فرسان المعبد ". ونمت هذه الجماعة بسرعة، واشتد ساعدها بمن انضم إليها من النصارى من سائر الأمم، ولعبت دوراً هاماً في حوادث الحروب الصليبية، واستمرت قائمة عصوراً. والأسبتارية هم أيضاً جماعة دينية من الفرسان، أنشئت عقب الجماعة الأولى، وخاضت أيضاً حوادث الحروب الصليبية، ولكنها كانت أضعف شأناً من جماعة " الداوية ".

على أن الشعبين الأرجوني والنافاري أبى كلاهما، أن يحترم وصية ترمي إلى التصرف في مصايرهم، ومصاير بلادهم، على هذا النحو الغريب. وقد انتهز النافاريون بالأخص هذه الفرصة ليعملوا على استرداد استقلالهم القومي، الذي فقدوه منذ استولى سانشو راميريس ملك أراجون، ووالد ألفونسو المحارب على بلادهم في سنة 1076 م أعني منذ ستين عاماً، وكان من المتفق عليه منذ البداية بين الأرجونيين والنافاريين أن يرفضوا أية دعوى لملك قشتالة في السيادة على بلادهم، وقد كان بوسع ألفونسو ريمونديس أن يشهر هذه الدعوى باعتباره سليل سانشو الكبير من ناحية أمه. ومن ثم فإن الأرجونيين والنافاريين بعد أن أعلنوا رفضهم لوصية الملك المتوفى، قرروا أن يجتمع ممثلو الشعبين من الطبقات الثلاث، أعني رجال الدين والأشراف ونواب الشعب، لاختيار الملك الجديد. واجتمع النواب في بلدة جاقة في مؤتمر وطني، وقر رأى الأرجونيين على أن يختاروا للعرش أخا الملك المتوفى دون راميرو الراهب، وكان قد انتظم في سلك الكهنوت قبل ذلك بمدة طويلة، وأقام في دير منعزل على مقربة من ثغر أربونة، ولكن النافاريين لم يوافقوا على هذا الاختيار، فانفصلوا عن الأرجونيين، وأعلنوا في بنبلونة عاصمتهم القديمة، استقلالهم، واختاروا لهم ملكاً، هو غرسية راميريس حفيد ملكهم سانشو، الذي قتل غيلة في سنة 1076، وبذا انفصلت نافارا عن أراجون، وعادت تشغل مركزها القديم، كدولة مستقلة من دول اسبانيا النصرانية. واجتمع ممثلو أراجون من جهة أخرى، في مونتسون، في مجلس نيابي (كورتيس) وقرروا الموافقة على اختيار الراهب راميرو ملكاً لأراجون، وقبل راميرو هذا العرض، وحصل على إذن بتحريره من عهد الرهبنة، وتولى العرش، وتزوج بموافقة البابا من الأميرة إنيس ابنة كونت بواتييه وأخت دوق أكوتين. وهكذا استحالت مملكة أراجون، بعد أن كانت في عهد ألفونسو المحارب مملكة مترامية الأطراف، إلى مملكة صغيرة محدودة الموارد والقوى، وزادت الممالك الإسبانية النصرانية مملكة جديدة هي مملكة نافارا المستقلة. وكان ملك قشتالة يرقب هذه التطورات الجديدة بمنتهى الاهتمام، ويدبر خططه ليخرج منها بأوفر غنم. فما كاد الوضع الجديد يستقر في أراجون ونافارا، حتى خرج من قشتالة، في جيش ضخم، واتجه نحو ضفاف الإيبرو، واستولى على ناجرة وقلهرة، ثم سار إلى سرقسطة بحجة حمايتها من المرابطين، ولم يجرؤ

ملكا نافارا وأراجون على المقاومة لما آنساه من عزم ملك قشتالة، وضخامة قواته. ودخل ألفونسو ريمونديس سرقسطة دون مقاومة، وكان بها الملك الراهب راميرو. فسلمه المدينة وكل أراضي أراجون الواقعة على ضفة الإيبرو اليسرى، وأعلن اعترافه بأنه يحكم أراجون في ظل قشتالة، ثم انسحب إلى وشقة، مكتفياً بلقب ملك أراجون وسوبرابي وريباجورسا. واجتمع بألفونسو ريمونديس في سرقسطة صهره رامون برنجير الرابع أمير برشلونة، وكونت أورقلة، وعدة من كونتات ولايات البرنيه الفرنسية، وعقد الجميع معه عهود الصداقة والتحالف، ثم غادر ألفونسو ريمونديس سرقسطة بعد أن ترك بها حامية، وعاد إلى ليون، وهناك وفد عليه غرسية راميريس ملك نافارا، ينشد عونه ومحالفته، ويعترف بحمايته (¬1). وأضحى ملك قشتالة، بعد أن بسط سيادته أو حمايته السياسية على بقية الممالك النصرانية المتاخمة لقشتالة، سيد إسبانيا النصرانية كلها، على نحو ما كان عليه جده ألفونسو السادس، ومن ثم فقد اتخذ مثله لقب الإمبراطور، ومنح هذا اللقب بصفة رسمية في مجلس قومي (كورتيس) عقد في ليون في ربيع سنة 1135 م، ثم توج بالتاج الإمبراطوري في الكنيسة الكبرى، وأضحى ألفونسو ريمونديس من ذلك الحين يلقب بالإمبراطور، أو القيصر ألفونسو ريمونديس أو ألفونسو السابع. وصدرت في مجلس ليون هذا، عدة قرارات هامة، منها موافقة الإمبراطور على تأييد سائر الحقوق والامتيازات التي منحت للكنيسة على يد الملوك السابقين، وتمت الموافقة بمسعى المطران ريمون الذي حل محل المطران برنار في رياسته للكنيسة، ومنها قرار يقضي بتطبيق القوانين والحقوق البلدية Buenos Fuaros في جميع أنحاء قشتالة والولايات التابعة لها، وهي القوانين والحقوق التي كانت في عصر ألفونسو السادس، وترتب على هذا القرار إلغاء كثير من التصرفات السابقة، وإلغاء بعض الإمتيازات التي انتزعها الأشراف لأنفسهم دون حق، كذلك صدر قرار بإنشاء نوع من الجند الاحتياطي من بين سكان الحدود، يحشد فيه كل رجل قادر على حمل السلاح، وذلك لرد غارات المسلمين، وقرار آخر يقضي بعقاب كل مجرم مهما كان شخصه ومقامه؛ بيد أنه لم يكن من الميسور أن تطبق مثل هذه القرارات العادلة، في عصر كان ¬_______ (¬1) راجع تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الطبعة الثانية) ص 176، وكذلك: Lafuente: ibid ; T. III. p. 251 ; R. Altamira: ibid ; Vol. I. p. 361 & 362

يسود فيه حكم القوة، ويعتبر الأشراف أنفسهم سلطة خاصة، تقرر ما تشاء وفق أهوائها، متى كان لها سند من القوة والإرغام، ولم يكن في مقدور العرش دائماً، أن ينفذ من جانبه بالقوة سائر القوانين والقرارات التي يصدرها. ويعلق الأستاذ ألتاميرا على اتخاذ ألفونسو السابع للقب الإمبراطور بقوله، إنه كان يرمي بالاتشاح بهذا اللقب إلى مثل ما كان يرمي إليه امبراطرة الدولة الرومانية المقدسة منذ كارل الأكبر (شارلمان) والإمبراطور أوتو الألماني، من بسط سيادته على باقي ملوك الجزيرة، كما كان أولئك الامبراطرة يدّعون بسط سيادتهم على باقي ملوك القارة الأوروبية. والواقع أن ألفونسو السابع، استطاع بواسطة انتصاراته في نافارا (نبرّة) وأراجون أن يبسط سيادته على ملوك هاتين الدولتين، وقد اعترف له بالتبعية إلى جانبهم كونتات برشلونة وتولوشه وغيرهما، وكانت هذه الصفة الإمبراطورية تختلف عن مثيلتها الأوربية، بانحصارها في شبه الجزيرة الإسبانية (¬1). وهكذا حققت قشتالة بارتفاع ملكها إلى مرتبة القيصر، سيادتها الأدبية، والفعلية، في معنى من المعاني، على ممالك اسبانيا النصرانية. بيد أن الخلاف لبث على أشده بين مملكتي أراجون ونافارا، ولاسيما على الحدود والألقاب الملوكية، وكاد الأمر بينهما يصل إلى الحرب. وفكر ملك أراجون الراهب بأن يعوض ضعفه بالاستعانة بملك قشتالة ضد نافارا، ونزل له عن قلعة أيوب ومواضع أخرى من التي كان ألفونسو المحارب قد افتتحها من المسلمين، واقترح أن يقدم ابنته الطفلة، بترونيلا، عروساً لسانشو ولي عهد قشتالة. وكانت سياسة راميرو هذه تلقي أشد معارضة من أشراف أراجون، إذ كانوا يرون فيها خطراً على استقلال بلادهم. وقيل إن راميرو استدعى نفراً من هؤلاء المعارضين ذات يوم إلى قصره، ودبر مصرعهم بطريقة غادرة، وهي رواية يشك في صحتها. وكان ملك نافارا، من جهة أخرى ينظر إلى مشاريع راميرو بعين التوجس والغضب، إذ كان يطمح أن يؤول إليه عرش أراجون، وكان ملك قشتالة من جانبه يخشى أن يشتد ساعد نافارا، وأن تغدو عاملا يهدد سيادته. ومن ثم فقد اعتزم ألفونسو ريمونديس أن يشهر الحرب على نافارا، وزحف عليها بالفعل في جيش ضخم، وذلك في سنة 1136 م. وانتهز ملك البرتغال الفتى ألفونسو هنريكيز هذه الفرصة، ¬_______ (¬1) R. Altamira: ibid ; Vol. I. p. 361 & 362

فزحف في قواته على جلِّيقية، ونشبت الحرب في الناحية الأخرى من مملكة قشتالة. وبالرغم مما أحرزه ألفونسو ريمونديس من انتصارات محلية على النافاريين، فإنه رأى نفسه مرغماً على الانسحاب والارتداد إلى الناحية الأخرى، ليرد القوات البرتغالية عن جليقية. هذا إلى أن المسلمين كانوا في نفس الوقت يهددون حدود قشتالة الجنوبية. وهكذا قيض لنافارا أن تنجو من الخطر المحدق بها وأن تحافظ على استقلالها. وفي تلك الأثناء كانت الأمور في أراجون تسير إلى وجهة جديدة. ذلك أن الملك راميرو برم بمتاعب الملك واعتزم أن يرتد إلى حياة العزلة والدير، لاسيما وقد أصبح لعرش أراجون وريث هي ابنته الطفلة بترونيلا، ومن الممكن أن يكون لها زوج يضطلع دونه بأعباء الملك ومشاقه. ومن ثم فقد دعا كبراء المملكة إلى اجتماع عقد في بربشتر (في أغسطس سنة 1137) وتقرر فيه أن تزوج بترونيلا من الكونت رامون برنجير الرابع أمير برشلونة. وكان معظم أشراف أراجون يحبذون هذا الاختيار، أولا لتجاور الشعبين الأرجوني والقطلوني وتقاربهما في العوايد والتقاليد، وثانياً لما يتصف به الكونت رامون من الخلال الملوكية الرفيعة، وثالثاً لأن هذا الاختيار لا يمكن أن يلقي معارضة من قشتالة نظراً لما يربط الكونت بمليكها من رباط المصاهرة. ورحب الكونت رامون بهذا العرض الذي يتيح له الفرصة لاعتلاء عرش أراجون، وعًقد القران الملكي في بربشتر بالرغم من أن الأميرة لم تكن تجاوز العامين من عمرها، وأعطى الكونت بمقتضى هذا القران حق السيادة على مملكة أراجون، وتلقب رامون برنجير الرابع بكونت برشلونة وأمير أراجون، وأقسم كبراء المملكة يمين الطاعة للملك الجديد. وأعلن راميرو تنازله عن الملك بمدينة سرقسطة أمام كبراء المملكة، ووافق ملك قشتالة ألفونسو ريمونديس على هذه التصرفات كلها. وقدم دليلا على تأييده ورضاه بإخلاء مدينة سرقسطة وسائر الحصون التي كان يحتلها على ضفة الإيبرو لملك أراجون الجديد. وأقسم الكونت رامون من جانبه يمين الطاعة لألفونسو. وارتد الملك الراهب راميرو إلى عزلة الدير مرة أخرى، وأقام بدير سان بيدرو بوشقة حتى توفي في سنة 1154 م. وهكذا اختتمت مملكة أراجون الكبرى حياتها القصيرة، بعد أن لمعت حيناً

في عهد ألفونسو المحارب، وغدت كبرى الممالك النصرانية الإسبانية، واختُتم بوفاة المحارب عهد الملوك الأقوياء الذين قضوا على سلطان المسلمين في الثغر الأعلى، وانتزعوا قواعد مملكة سرقسطة. ولكن شاء القدر أن تعود مملكة أراجون فتنهض من عثارها الذي أصابها على يد الراهب راميرو، وتغدو باندماجها مع إمارة قطلونية، مملكة قوية كبرى. 2 - اتحاد أراجون وقطلونية والواقع أن إمارة برشلونة أو قطلونية الصغيرة، بموقعها على البحر، وثغرها العظيم، كانت تبدو من الناحية الجغرافية بالنسبة لأراجون، عضداً طبيعياً، وشطراً مكملا، أبلغ خطراً وأهمية من مملكة نافارا. وكان سير الحوادث في قطلونية وأراجون بالنسبة للكفاح ضد المسلمين يتخذ وجهة مماثلة، ويرى إلى هدف واحد، هو القضاء على مملكة سرقسطة الإسلامية. وقد اضطلعت قطلونية في هذا الكفاح بنصيب بارز، ولاسيما منذ عهد أميرها رامون برنجير الثالث المعروف " بالكبير " وهو الذي ولى الحكم منذ سنة 1092 م. ورأى الكونت رامون أن يقوي نفسه ضد المرابطين بالتحالف مع كونت أرقلة، وكونت باليارش، وكونت أربونة وغيرهم من الأمراء المجاورين. ولما غزا ابن الحاج والي سرقسطة المرابطي أراضي قطلونية في سنة 508 هـ (1114 م) فاجأته قوات الكونت رامون وحلفائه في جبال قطلونية، واشتبكت معه في معركة دامية قتل فيها ابن الحاج ومعظم جنده (¬1). فعندئذ بعث أمير المسلمين علي بن يوسف صهره الأمير أبا بكر بن إبراهيم والى مرسية في جيش كبير، لغزو برشلونة والانتقام لمصرع ابن الحاج، فاخترق أبو بكر أراضي قطلونية وهو يثخن فيها، وحاصر ثغر برشلونة، فخرج إليه أميرها الكونت رامون وحلفاؤه الفرنج، ونشبت بين الفريقين معارك شديدة، قتل فيها كثير من الفريقين، وارتد المرابطون دون أن يحققوا نتائج حاسمة. وفي سنة 1112 م تزوج الكونت رامون، عقب وفاة زوجه الأولى، ¬_______ (¬1) سبق أن أشرنا إلى رواية ابن عذارى التي تقول إن ابن الحاج لم يقتل في هذه الموقعة وإنما قتل بعد ذلك بعام في موقعة نشبت بين المرابطين والقشتاليين على مقربة من قرطبة في سنة 509 هـ (راجع ص 72 و 75 من هذا الكتاب).

من دونيا دولثيا وارثة ولاية بروفانص الفرنسية، وكان لانضمام هذه الولاية الفرنجية القديمة المتمدنة، إلى إمارة قطلونية، أثر كبير في حضارتها، وفي تقدمها الفكري. وكذلك ضمت إلى قطلونية بضعة إمارات صغيرة أخرى فيما وراء البرنيه، سواء بموت أصحابها أو باتفاقات سابقة، وكان منها أتونة، وقرقشونة، وبذلك اتسعت رقعة مملكة قطلونية اتساعاً كبيراً. واشترك الكونت رامون برنجير الثالث في حملة الغزو الكبرى إلى الجزائر الشرقية (1114 م)، وهي التي جهزتها جمهوريتا بيزة وجنوة، وتم استيلاء النصارى على ميورقة في العام التالي. ولكن أمير المسلمين علي بن يوسف بعث لاسترداد الجزائر أسطولا ضخماً، فاضطر النصارى إلى مغادرتها، واحتلها المرابطون وذلك في أواخر سنة 509 هـ (1116 م)، وعادت الجزائر الشرقية إلى حظيرة الإسلام، وذلك كله حسبما فصلناه في موضعه. واستمر الكونت حيناً في صراعه ضد المرابطين، وقام بمعاونة البيزيين، والجنويين بمحاولات فاشلة لافتتاح طرطوشة، ومدينة لاردة. ولما شغل ألفونسو المحارب بغزواته الكبرى للأندلس، وصراعه المتصل بعد ذلك مع المرابطين، اشتد ضغط المرابطين على إمارة برشلونة، ولقي الكونت في مدافعتهم متاعب شديدة. وتتحدث الرواية عن هزيمة شنيعة لحقت بالقطلان على أيدي المرابطين أمام حصن " كورتيس " على مقربة من لاردة. ثم تفاقمت الأمور على الكونت برنجير بقيام أمير تولوشة بمهاجمة مقاطعة " بروفانص " التي كانت من أقاليم قطلونية فيما وراء البرنيه، واضطر الكونت أن ينزل عن سيادة نصف الولاية، وأن يؤول سيادة النصف الآخر إذا مات أحد الشريكين دون وارث، إلى الشريك الذي بقي على الحياة. كان الكونت برنجير يرى دائماً أن يوحد جهوده مع ملك أراجون القوي، كلما سنحت الفرص. وكان ألفونسو المحارب يؤمن من جانبه بفائدة هذا التعاون. وقد التقى الإثنان بالفعل، واتفقا على أن يعقدا نوعاً من التحالف يكون خطوة تمهيدية لعمل اتحاد فعلى أتم وأوثق بين المملكتين. وكان لكل من المملكتين فائدة محققة من عقد مثل هذا الاتحاد. فقد كانت مملكة أراجون بالأخص مملكة برية، تعتمد في قوتها على الجيوش البرية، ومن ثم فقد كان في وسعها أن تتفرغ لمقاومة ملك قشتالة القوي ألفونسو ريمونديس، وكبح جماح أطماعه. وكانت قطلونية

تعتمد بالأخص على قواتها البحرية، وكان بوسع الكونت برنجير، اعتماداً على هذه القوات، أن يؤمن مركز بلاده في البحر، وأن يقاوم في بعض الأحيان مطامع جمهورية جنوة. وفي سنة 1127 م عقد الكونت تحالفاً مع الدوق روجر (رجّار) ملك صقلية تعهد فيه بأن يمد الدوق بخمسين سفينة من أسطوله، وهو ما يدل على ما كانت تتمتع به إمارة قطلونية يومئذ، من قوى بحرية لها خطرها في تلك المياه. ثم تطورت الحوادث، وتغير موقف قطلونية فجأة من مملكتي أراجون وقشتالة، وذلك بزواج ملك قشتالة ألفونسو ريمونديس من الأميرة برنجيلا إبنة الكونت رامون برنجير الثالث (سنة 1128 م). وقد كان لذلك أثره في تقوية مركز قطلونية من جهة، وفي علائقها بمملكة قشتالة من جهة أخرى. وكان الكونت رامون قد شاخ يومئذ، ولحقته أوصاب الشيخوخة، فجنح إلى الزهد والورع، واعتنق مبادىء فرسان المعبد (الداوية). وكان بعض أقطاب الداوية قد وفدوا قبل ذلك بقليل من المشرق إلى برشلونة ليسعوا في إنشاء فرع الجماعة في قطلونية، فرحب الكونت بمقدمهم، ومنحهم حصن " جرانينا " على مقربة من لاردة، وذلك ليعاون الفرسان في افتتاح هذه المدينة من أيدي المسلمين. ثم توفي الكونت بعد ذلك بقليل في يوليه سنة 1131، بعد أن حكم مملكة قطلونية زهاء أربعين عاماً. وكان الكونت رامون برنجير الثالث، أعظم أمراء تلك الأسرة التي حكمت قطلونية دهراً، مذ بدأت إمارة صغيرة تضم برشلونة، وأحوازها، وفي عهده نمت قوة قطلونية البحرية نمواً عظيماً، وازدهرت تجارتها، وعم بها اليسر، والرخاء، وازدهرت بها في نفس الوقت حركة تمدنية وفكرية ملحوظة، وكانت مملكة قطلونية تضم عند وفاته، ولايات برشلونة، وفيش، ومزيسه، وجيرندة (جيرونه) وسردانية، وقرقشونة، وبروفانص، وكانت حدودها الغربية تمتد حتى ريباجورسا. وخلفه في إمارة قطلونية وسائر ممتلكاتها، ولده الأمير رامون برنجير الرابع، ما عدا ولاية بروفانص فقد منحت لولده الثاني برنجير رامون. وكان الأمير الجديد قرين أبيه كفاية وعزماً، فسار في نفس الطريق الذي رسمه أبوه، وبدأ بأن عمل على تحقيق فكرته في إقامة جمعية فرسان المعبد (الداوية) بقطلونية، وتقرر

ذلك بصفة رسمية في مجلس ديني عقد برياسة المطران أولاجير، وأعطى الفرسان حصن بربيره، في جبال براديس المشرفة على لاردة وطرطوشة (سنة 1133 م). وسنعود فيما بعد إلى التحدث عن قيام هذه الجماعات الحربية الدينية في إسبانيا. وفي العام التالي، أي في سنة 1134 م (528 هـ) نشبت موقعة إفراغة بين المرابطين وألفونسو المحارب، تحت أسوار إفراغة، وشاء القدر أن يسحق فيها النصارى، وأن يموت المحارب بعد وقوعها بأيام قلائل، وترتب على ذلك ما سبق أن فصلناه من انقسام مملكة أراجون الكبرى، عقب ارتقاء الراهب راميرو عرش أراجون، وعودة نافارا، إلى استقلالها القديم، ثم ما حدث بعد ذلك من زواج برنجير الرابع أمير قطلونية من الأميرة الطفلة بترونيلا إبنة راميرو، وانضمام مملكة أراجون إلى قطلونية، بعد أن تنازل عن عرشها راميرو، وارتد إلى عزلة الدير، وقيام مملكة قطلونية وأراجون المتحدة بموافقة ملك قشتالة وتأييدها وما كان يحدو ذلك المشروع من عوامل الانسجام والنجاح، وذلك كله في سنة 1137 م. 3 - غزوات القيصر ألفونسو ريمونديس وحروبه أخذت مملكة قشتالة في عهد ملكها الفتى ألفونسو ريمونديس أو ألفونسو السابع، تجوز عهداً من القوة والسلطان، كذلك الذي عرفته في عهد جده ألفونسو السادس. وكان ملك قشتالة، مذ صفا له الجو، ووضع على رأسه تاج الإمبراطور، يتطلع إلى إخماد كل نزعة إلى الخروج على سلطانه، وكان هذا موقف نافارا والبرتغال، حيث كانت كلتاهما تحرص على استقلالها، وتعرض عن كل اعتراف بسلطانه. وكانت البرتغال بالأخص، وهي المملكة التي نشأت إمارة متواضعة، في ظل قشتالة، وتحت حمايتها، ثم أخذت بمساعي خالته تريسا، في تحدي قشتالة، والإغارة على أراضيها، وتوسيع رقعتها شيئاً فشيئاً. وكان ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال وهو ابن تريسا، كأمه في تحدي سلطان قشتالة، وفي الحرص على استقلال مملكته. وكان مما يشغل ألفونسو ريمونديس، اتصال ملك البرتغال بالثوار الجلالقة، واعتداؤه بمعاونتهم على بعض أراضي جلِّيقية. وقد وقع بالفعل حادث من هذا النوع في أوائل سنة 1137 م، حينما ثار اثنان من أشراف جليقية، هما جومث نونيو، وردريجو بيريث فيوزو، وكانا يحكمان " توي " فسلماها إلى ملك البرتغال، وتمكن ملك البرتغال فضلا عن ذلك من

خريطة: الممالك الإسْبانية النصْرانيّة في عصر القيصر ألفونسو ريمونديس (الموافق لعصر الخليفة عبْد المؤمن).

السيطرة على مناطق جليقية الجنوبية، فعندئذ تأهب ألفونسو ريمونديس لغزو البرتغال ووضع حد لعدوان ملكها، ولكن حدث نفس الوقت الذي تمت فيه أهبة الغزو، واجتمع القادة والزعماء ومنهم المطران خلمريث حول ملك قشتالة، أن وقعت مفاوضات سريعة بين الملكين، انتهت فجأة بعقد الصلح بينهما، وتعهد ألفونسو هنريكيز في هذا الصلح أن يكون صديقاً مخلصاً للقيصر، وأن يحترم أراضي الإمبراطورية، وأن يعاون القيصر في غزواته سواء ضد المسلمين أو النصارى، وأبرم هذا الاتفاق في مدينة توي في يوليه سنة 1137 م، وكان واضحاً من نصوصه أن البرتغال أضحت تحت حماية قشتالة. ويمكننا أن نفسر خضوع ملك البرتغال على هذا النحو الفجائي، بما كان يعانيه يومئذ من اشتداد ضغط المسلمين على أراضيه، وتوالي غزواتهم المخربة فيها. بيد أن ألفونسو هنريكيز لم يكن ينظر إلى ذلك الصلح، إلا على اعتبار أنه ضرورة مؤقتة، أملتها الظروف القاهرة، وأنه سوف ينقضه عاجلا أو آجلا. وعندئذ اتجه ألفونسو ريمونديس إلى غزو الأندلس، فسار في قواته إلى منطقة جيان وبياسة وأبّدة وأندوجر، وهو يعيث فيها تخريباً وقتلا وسبياً ونهباً ولم يلق النصارى من المرابطين مقاومة شديدة في البداية، ولكن حدث أن فرقة من النصارى عبرت نهر الوادي الكبير لتتابع النهب والسبي، ولكنها لم تستطع العود إلى اقتحام النهر لهطل الأمطار الغزيرة، وفيضان الماء، ففتك بها الجند المرابطون وأبادوها جميعاً أمام أعين الإمبراطور وجنده (سنة 1138 م)، فارتد القيصر إلى طليطلة وهو يضطرم سخطاً. وحاول بعد ذلك بقليل أن ينتقم لهذا الحادث بمحاصرة قورية، فدافع عنها المسلمون أشد دفاع، وكان فشلا آخر حز في نفس الإمبراطور (¬1). وفي العام التالي، خرج ألفونسو لغزو حصن أورليا أو أوريخا Oreja وهو الذي تسميه الرواية العربية بحصن " أرنبة " على مقربة من طليطلة، وكان أمنع الحصون الإسلامية في منطقة الحدود، فهرعت القوات المرابطية من قرطبة ومن مرسية وإشبيلية لإنجاده بقيادة الأمير يحيى بن غانية، وكان ألفونسو ريمونديس يرابط بقواته إزاء الحصن المحصور، في انتظار القوات الإسلامية، وكانت زوجه الملكة برنجيلا تشرف في غيابه على الحامية الموكلة بالدفاع عن طليطلة. ¬_______ (¬1) Lafuente: ibid ; T. III. p. 287

فحدث، حسبما تقصه علينا الرواية النصرانية، أن الجنود المرابطية حينما وصلت في طريقها إلى ظاهر طليطلة، أن أطلت عليها الملكة برنجيلا ووصيفاتها من شرفة القصر، وبعثت إلى ابن غانية رسولا، يؤنبه بلسانها على أنه يحاول أن يهاجم مكاناً تدافع عنه امرأة، في حين أن القوات القشتالية تنتظره بقيادة الإمبراطور عند حصن أوريخا، فارتد القواد المسلمون أمام هذا التأنيب، ولم يقوموا بأية محاولة لإزعاج القشتاليين، وسقط حصن أوريخا في يد الإمبراطور بالأمان، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في موضعه. ولم تشر الرواية الإسلامية إلى هذا الحادث الذي يتسم بالفروسية، بيد أنها تضع حصار حصن أوريخا وسقوطه في سنة 525 هـ (1130 م)، بينما تضعه الرواية النصرانية، في سنة 1137 م، أو سنة 1139 م (¬1). وكانت الخطوة التالية تفاهم ألفونسو ريمونديس وصهره رامون برنجير الرابع أمير قطلونية وأراجون، على الإيقاع بمملكة نافارا. وعقد الملكان اتفاقاً بهذا الشأن في كريون، يقضي بتحالفهما على محاربة غرسية راميريس، واقتسام أراضي نافارا، وأن يختص ملك قشتالة بولاية ريوخا وكل الأراضي الواقعة شرقي نهر إيبرو، وهي التي كان يملكها جده ألفونسو السادس، وأن يستولي أمير قطلونية على سائر أراضي أراجون، التي كان يملكها سانشو وبيدرو ملكا أراجون من قبل. أما منطقة بنبلونة فإن القيصر يستولي على ثلثها، ويستولي رامون برنجير على باقيها مع اعترافه بسيادة قشتالة على هذا الجزء، على نحو ما كان عليه الشأن أيام ألفونسو السادس. وتنفيذاً لهذا الاتفاق زحف الكونت رامون بقواته على نافارا من ناحيتها الجنوبية، وزحف عليها القيصر في قواته من ناحية الشمال الغربي، ولكن غرسية راميريس ملك نافارا استطاع في كثير من الشجاعة، والبراعة، أن يرد القوات الأرجونية، أما القوات القشتالية فقد استطاعت أن تخترق نافارا، وأن تطوق عاصمتها بنبلونة، واكتفى غرسية راميريس بأن يلتزم خطة الدفاع، حتى يطيل أمد المعركة وينهك قوى خصومه. وكان غرسية راميريس أعقل من أن يغامر بالدخول في معارك حاسمة مع القوات القشتالية، فلجأ إلى رجال الدين في طلب الإنجاد بالمفاوضة وعقد الصلح، وعاون في اتخاذ ¬_______ (¬1) Lafuente: ibid ; T. III. p. 228 - Ibars: Valencia Arabe p. 482 - 484 وراجع ما سبق أن أوردناه عن هذا الحادث (ص 151 من هذا الكتاب).

هذه الخطوة الكونت جوردان أمير تولوشه، الذي جاء حاجاً إلى شنت ياقب. وعقدت معاهدة الصلح بين غرسية راميريس والإمبراطور في قلهُرّة في أكتوبر سنة 1140 م، وهي تقضي بأن يعترف ملك نافارا بسيادة الإمبراطور، وأن تتزوج الأميرة بلانكا إبنة غرسية من الأمير سانشو ولد الإمبراطور الكبير، وأن تُسلم نظراً لصغرها إلى الإمبراطور، حتى تربى وتكبر في بلاط قشتالة. وهكذا أُنقذت نافارا إلى حين. غير أن هذا التصرف لم يرق الكونت رامون، وسخط الشعب الأرجوني على الإمبراطور لأنه لم يحسب حساباً لاتفاق كريون. ومن ثم فقد عول الكونت أن يعمل لحساب نفسه، وأن يشهر الحرب وحده على نافارا بقوات أراجون وقطلونية. واضطرمت الحرب ضد نافارا من جديد. ولكن غرسية هزم الأرجونيين، وتوغل في أراضي أراجون، واستولى على عدة من البلاد، والحصون، وأخذ يفكر في خلع طاعته للإمبراطور. وعندئذ خشي ألفونسو ريمونديس عاقبة هذا الظفر الذي أحرزه غرسية، وسار في قواته لإنجاد الكونت رامون، وزحفت القوات المشتركة على نافارا كرة أخرى (سنة 1143 م). وهنا تذرع غرسية بالحكمة، وبادر بالإذعان والتسليم، وأخلى سائر الأماكن التي انتزعها من أراجون، وعقد الصلح بين الفريقين من جديد، واتفق أن يتزوج غرسية، الذي توفيت زوجته منذ أعوام، بالأميرة أوراكا ابنة القيصر غير الشرعية، وعقد هذا الزواج الملكي بالفعل في مدينة ليون في يونيه سنة 1144 م في حفلات باذخة، اشتهرت بين أحداث هذا العصر، ووضع بذلك حد للنزاع بين نافارا وجارتيها أراجون وقشتالة. وفي خلال ذلك كانت قشتالة تتابع كفاحها ضد المسلمين، وذلك سواء بالعمل على صد غزواتهم، والقيام في أراضيهم بغزوات مماثلة، أو محاولة انتزاع ما يمكن انتزاعه من قواعد الحدود. وكان المرابطون قد استولوا على قلعة " مورة " المنيعة الواقعة جنوبي طليطلة، وذلك في سنة 1140 م، واتخذوها قاعدة للإغارة على أراضي قشتالة المجاورة، فحشد ألفونسو ريمونديس جيشاً ضخماً، وبعث حاكم طليطلة ردريجو فرنانديث على رأس بعض قواته إلى منطقة وادي يانة " فعاثت في أحواز قرطبة وإشبيلية ". وسار الإمبراطور بنفسه في حملة أخرى إلى قلعة قورية، وحاصرها مدى شهرين حتى سقطت في يده في يونيه سنة

1142 م (536 هـ) وذلك بعد أن يئست حاميتها المسلمة من تلقي أية نجدة. وتقص علينا الرواية النصرانية، قصة غزوة قام بها القشتاليون بقيادة نونيو ألفونسو حاكم مورة السابق، في الأراضي الإسلامية، وأسفرت المعركة التي نشبت بين القشتاليين وبين قوات إشبيلية وقرطبة، عن هزيمة المسلمين هزيمة ساحقة، ومصرع والي إشبيلية وقرطبة، ورُفع رأساهما في طليطلة على رمحين، واستولى القشتاليون على كثير من الغنائم والأسرى، وذلك في أواخر سنة 1142 م (537 هـ). ولم نجد في المراجع الإسلامية أي ذكر لمثل هذه الموقعة. وكذلك لم نجد بها أي ذكر لما تقصه الرواية النصرانية بعد ذلك من أن القيصر أرسل في العام التالي أعني في سنة 1143 م (538 هـ) حملة جديدة بقيادة مارتن فرنانديث ونونيو ألفونسو، لتحول دون قيام المسلمين بتحصين قلعة مورة، فخرج والي قلعة رباح في قواته - وتسميه الرواية النصرانية فرج - واشتبك مع القشتاليين في معركة هزم فيها القشتاليون، وفر مارتن فرنانديث جريحاً، وقتل نونيو فوق تل قريب يسمى " صخرة الوعل " مدافعاً عن نفسه، فاحتز رأسه، وقطعت ذراعه اليمنى، ورجله اليمنى، وأرسلتا إلى قرطبة وإشبيلية، لتعرضا على أرملتي الواليين القتيلين تعزية لهما، ثم أرسلت بعد ذلك إلى أمير المسلمين تاشفين بن علي بمراكش (¬1). فأثارت هذه الهزيمة في نفس الإمبراطور أيما ألم وسخط، وأقسم بالانتقام لمصرع قائده، فخرج في العام التالي (1144 م) في قواته إلى أراضي الأندلس؛ وأثخن في أحواز قرطبة وإشبيلية، وانتسف الزروع وأحرق القرى، ووصل في سيره المخرب حتى أراضي غرناطة، وألمرية، ثم عاد إلى بلاده، مثقلا بالغنائم والأسرى. ثم كانت ثورة القواعد الأندلسية على المرابطين، وكان من الواضح أن هذه الغزوات النصرانية المخربة، وما يقترن بها من القتل والسبي والنهب، وعجز المرابطين عن ردها، كانت من العوامل التي أذكت سخط الأمة الأندلسية على المرابطين، ورغبتها في التخلص من نيرهم، وقد رأينا كيف استغل القيصر ألفونسو ريمونديس هذه الفرصة السانحة، في بسط عونه لمن لجأ إليه من الثوار الأندلسيين ¬_______ (¬1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ ص 183 و 184 وكذلك: Lafuente: ibid ; T. III. p. 291

أمثال ابن حمدين، وابن هود، ثم قدم عونه لزعيم المرابطين ابن غانية، حينما علم بعبور الموحدين إلى الأندلس، وعاونه على الاحتفاظ بسلطانه على قرطبة، ووصل الأمر بعد ذلك إلى أن احتل القيصر عاصمة الخلافة القديمة لأمد قصير، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل في موضعه. وكانت أعظم ضربة نزلت بالأندلس يومئذ، واشترك فيها القيصر ألفونسو ريمونديس، افتتاح ثغر ألمرية العظيم، على يد الحملة الصليبية البرية والبحرية التي اشتركت في تجهيزها ممالك اسبانيا النصرانية، قشتالة ونافارا وأراجون ومعها جنوة وبيزة، ونجحت خلال الاضطراب العام الذي أصاب الأندلس يومئذ، في الاستيلاء على ألمرية، وذلك في شهر أكتوبر سنة 1147 م (542 هـ)، وقد بقي الثغر الإسلامي في أيدي النصارى عشرة أعوام كاملة، وكانت للقيصر وحاميته القشتالية فيه اليد العليا، حتى افتتحه الموحدون في أواخر سنة 1157 م. ونكبت الأندلس في نفس الوقت بفقد قواعدها الباقية في الثغر الأعلى. واستولت عليها كذلك حملة صليبية من جنود قطلونية وأراجون وبيزة وجنوة بقيادة الكونت رامون برنجير الرابع أمير برشلونة، فاستولت أولا على ثغر طرطوشة، وذلك في آخر سنة 1148 م (شعبان 543 هـ)، ثم استولت على مدينة لاردة في أكتوبر من العام التالي (544 هـ)، واستولت كذلك، على إفراغة، ومكناسة وبذلك انتهت سيادة المسلمين في الثغر الأعلى، وقد سبق أن تناولنا هذه الحوادث كلها تفصيلا. وانتهز غرسية راميريس ملك نافارا فرصة انشغال خصمه القديم الكونت رامون بافتتاح قواعد الثغر الأعلى، فغزا ولايات أراجون المجاورة. وتفسر لنا الرواية النصرانية سر هذا العدوان بقولها إن غرسية كان يرمي إلى إرغام الكونت على أن يتزوج من ابنته بلانكا، وأن يجعل ذلك شرطاً لعقد السلام بين أراجون ونافارا، وذلك بالرغم من أن دونيا بلانكا كان قد تقرر زواجها من سانشو ولي عهد قشتالة، وأن الكونت رامون كان قد عقد زواجه التمهيدي بالأميرة الطفلة بترونيلا ابنة الملك الراهب راميرو، وقد اضطر الكونت رامون أن يشتري سلام بلاده بالخضوع لهذه الرغبة، وأن يتعهد في معاهدة الصلح التي عقدت بأن يتزوج من إبنة ملك نافارا (يوليه سنة 1149 م). بيد أنه ما كاد يشعر بانقشاع الخطر عن أراجون، حتى هرع إلى الكنيسة يجثو أمام هيكلها مع عروسه

بترونيلا، يجدد العهد بارتباطه معها برباط الزواج المقدس. وتصف الرواية القطلونية هذا التصرف بأنه عمل فريد من الختل والخديعة يذكر في حياة الكونت. وشغل القيصر ألفونسو ريمونديس، أو ألفونسو السابع، في ذلك الوقت بحادثين داخليين، أولهما عقد المؤتمر الكهنوتي في بالنسيا في سنة 1148 م، ليعني ببحث المسائل الدينية والكنسية، وثانيهما وفاة زوجه الملكة برنجيلا، في سنة 1149 م. وكانت وفاة هذه الملكة الموهوبة الحازمة ضربة أليمة للقيصر أثارت في نفسه أيما حزن وشجن. وكان القيصر منذ حين قد فوض لولديه سانشو الذي خصه بلقب ملك قشتالة، وفرناندو الذي خصه بلقب ملك ليون، توقيع الأوامر والمراسيم العامة، متشبهاً في ذلك بجديه ألفونسو السادس، وسانشو ْالكبير، في تقسيم كل منهما المملكة بين أولاده، حال حياته، ثم بعد مماته، وهي السياسة التي كانت تنتهي دائماً باضطرام الحرب الأهلية بين الممالك النصرانية. وفي سنة 1150 م توفي غرسية راميريس ملك نافارا، وخلفه ولده سانشو الملقب بالعالم، فرأى القيصر في ذلك فرصة جديدة للإيقاع بنافارا، وفي الحال اجتمع بحليفه القديم الكونت رامون برنجير في تطيلة، وجددت بينهما معاهدة التقسيم التي عقدت من قبل في كريون، ولم يكتف الملكان بالاتفاق على تقسيم نافارا، ولكنهما اتفقا في نفس الوقت على تقسيم القواعد والأراضي الإسلامية التي لم تفتح بعد، فاختص ملك أراجون بكل أراضي بلنسية، ومرسية، وتعهد دون سانشو ولد القيصر، أن يعاون الكونت في افتتاح نافارا، وتعهد الكونت من جانبه بأنه في حالة موت القيصر، يعترف بكل ما يحكمه سانشو، وإذا توفي الأب والابن، فإنه يعترف لأخيه فرناندو بسيادته على أراضي المملكة. بيد أن تطور الحوادث قضى بنجاة نافارا من هذه المؤامرة إلى حين. وذلك أنه قد تم زواج دونيا بلانكا أخت ملك نافارا بالدون سانشو ملك قشتالة في العام التالي (1151 م)، واحتفل بعقده بمدينة قلهرّة بحضور الملوك الثلاثة، ملوك قشتالة وأراجون ونافارا. وفي نفس العام عقد زواج القيصر الأرمل ألفونسو ريمونديس من الأميرة ريكا إبنة لادسلاو ملك بولونيا، وقدمت إلى قشتالة في العام التالي، واستقبلها زوجها القيصر في بلد الوليد في مظاهر واحتفالات باذخة. وتم زواج سانشو ملك نافارا من دونيا سانشا ابنة القيصر من زوجه الملكة برنجيلا (سنة 1153). وفي العام التالي تزوجت ابنة القيصر الثانية، دونيا

كونستنزا من لويس السابع ملك فرنسا، وكان قد طلق زوجه الأولى إليونور دي جيان. وحدث بعد عقد هذا الزواج أن ثارت بعض الريب حول أرومة الملكة كنستنزا، وقيل بأنها ليست ابنة شرعية للقيصر من زوجه الملكة برنجيلا، وأنها بالعكس ابنة غير شرعية من خليلته كوندرادا. ورأى الملك لويس أن يتحقق بنفسه من الأمر، فسافر إلى اسبانيا محتجاً بزيارة قبر القديس ياقب في شنت ياقب (سنة 1155 م). ولم يكن القيصر يجهل السبب الحقيقي لمقدم صهره، فرتب لاستقباله في برغش، ثم في طليطلة حفلات باذخة، ظهر فيها البلاط القشتالي في أفخم مظاهره وأروعها، وحضرها ملك نافارا، والكونت رامون برنجير ملك أراجون، وأثار القيصر أمام الملوك مسألة ابنته كونستنزا، وخاطب لويس بقوله: لقد زوجتك ابنتي كونستنزا إبنة الملكة برنجيلا أخت هذا الأمير الكونت رامون. والتفت رامون إلى لويس قائلا: أجل إن زوجتك هي ابنة أختي، فعاملها بالاحترام والتكريم، وإلا فانتظر مقدمي في باريس مع القيصر كعدوين. وعندئذ اقتنع لويس بأصل زوجته الملكي الرفيع، وعاد إلى بلاده مغتبطاً راضياً (¬1). وكان الكونت رامون برنجير، قد عقد في نفس الوقت زواجه الفعلي بالأميرة بترونيلا الأرجونية، وكانت قد بلغت عندئذ الثامنة عشرة من عمرها، ولما شعرت هذه الأميرة باقتراب وضعها الأول، عملت وصية مفادها، أنه إذا كان المولود ذكراً، فإنه يرث مملكة أراجون على نحو ما كانت عليه في عهد ألفونسو المحارب، وأن يكون لزوجها الكونت رامون إدارة المملكة خلال حياته، وإذا مات الولد، وبقي الكونت حياً، فإنه يغدو الملك المطلق للمملكة كلها. أما إذا كان المولود أنثى، فكل ما ترغبه بشأنها هو أن يعني والدها بأن يزوجها وأن يمهرها بسخاء. وبعد ذلك وضعت الأميرة ولداً سمي رامون طول حياة والده، ثم غير اسمه بعد وفاته، إلى ألفونسو، فكان هو وارث المملكتين قطلونية وأراجون. ولم يمض قليل على ذلك حتى شهر سانشو ملك نافارا الجديد الحرب على أراجون يبغي تحقيق أطماع والده غرسية راميريس، واضطر الكونت رامون، ¬_______ (¬1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ ص 233 و 234 وكذلك: Lafuente: ibid ; T. III. p. 278

أن يعود مسرعاً من غزوة كان يقوم بها في بيارن، فيما وراء البرنيه، وعندئذ سار القيصر ألفونسو ريمونديس إلى لاردة، وذلك ليقوم بالتدخل بين الملكين المتحاربين في الظاهر، ولكنه اجتمع بالكونت رامون، وجدد معه الاتفاق القديم على تقسيم نافارا، ولم تمنعه وشائج المصاهرة الوثيقة بينه وبين ملك نافارا زوج ابنته. وأخ زوجة ولده سانشو، من الائتمار به على هذا النحو، وتم الاتفاق في الوقت نفسه بين القيصر والكونت على تزويج دون رامون الصغير ولد الكونت، وكان في الرابعة من عمره، من دونيا سانشا ابنة القيصر من زوجه الجديدة الملكة ريكا، وكانت في الثانية من عمرها. 4 - أعوام القيصر الأخيرة ووفاته ووفاة رامون برنجير الرابع ومما هو جدير بالذكر، أن هذه الفترة من الحفلات والزيجات الملوكية المتوالية، قد عاقت عاهل قشتالة فترة قصيرة، عن متابعة غزواته لأراضي الأندلس، فهو مذ قام في سنة 1151 م (546 هـ) بغزوته، لمدينة جيان ونهبها، وقد كانت يومئذ بأيدي الموحدين، لم يعد إلى مهاجمة الأندلس إلا في سنة 1155 م (550 هـ)، وذلك حينما نجح في الاستيلاء على أندوجر وحصن البطروج، واحتلتهما القوات القشتالية لفترة يسيرة، ثم عاد الموحدون بقيادة ابن يكيت والي قرطبة، فاستردوهما، واستولوا على بعض الحصون النصرانية المجاورة، وذلك حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل في موضعه. وكانت آخر المعارك الخطيرة التي خاضها القيصر مع الموحدين، هي معركة ألمرية. وكان الموحدون بعد استيلائهم على قرطبة وغرناطة، قد وضعوا خطتهم لاسترداد ألمرية، التي افتتحها النصارى منذ سنة 1147 م، (542 هـ). وقد سبق أن فصلنا حوادث افتتاح النصارى لهذا الثغر الإسلامي العظيم، ثم حوادث استرداده على أيدي الموحدين. وكان القيصر ألفونسو ريمونديس قد سار لإنجاد حاميته النصرانية في جيش كثيف، وسار معه حليفه محمد بن سعد بن مردنيش أمير شرقي الأندلس في قواته، ولكن جهود القيصر وحليفه المسلم ذهبت عبثاً، واضطر النصارى إلى تسليم ألمرية إلى الموحدين، بعد حصار دام سبعة أشهر، وذلك في أواخر سنة 1157 م (أواخر سنة 552 هـ). وارتد القيصر في قواته

إلى بلاده، وقد حطم هذا الفشل الأخير قواه المعنوية. وفي طريق العودة أصابته حمى شديدة، فاضطر إلى التوقف في مكان بالقرب من بلدة مورتلة (موردال)، وهنالك تلقى القداس، وأسلم الروح، وذلك في 21 أغسطس سنة 1157 م، وهو في سن الحادية والخمسين. وكان القيصر ألفونسو ريمونديس، أو ألفونسو السابع، أو ألفونسو الثامن إذا اعتبرنا أن ألفونسو المحارب ملك أراجون، كان أيضاً وقت زواجه بالملكة أوراكا ملكاً لقشتالة، من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية، وكان هو أول ذلك الثبت الحافل من ملوك قشتالة، الذين ينتمون إلى الأسرة البرجونية الملوكية، الذين حكموا قشتالة حتى القرن الخامس عشر. وكان يتسم بكثير من الحزم والقوة، وقد أمدته التجارب القاسية التي شهدها خلال صباه، أيام الخصومات والحروب الأهلية التي اضطرمت بين أمه أوراكا وزوجها ألفونسو المحارب من جهة، وبين أمه وبين الأشراف الخوارج من جهة أخرى، بكثير من الخبرة والمقدرة على معالجة شئون الملك، والذود عن العرش، ومن ثم فقد استطاع أن يقمع ثورات الأشراف الخارجين، وأن يحد من سلطانهم ونزعاتهم الثورية، واستطاع منذ وفاة ألفونسو المحارب أن يحتل السيادة والصدارة بين ملوك اسبانيا النصرانية. وقد رأينا كيف كان ألفونسو ريمونديس، يعلق على صفة الإمبراطورية نتائج ضخمة، وبالرغم من أن هذه الصفة لم يكن لها بالنسبة لباقي ممالك اسبانيا النصرانية سوى طابع أدبي، فإنه كان يحرص على سلطانه كإمبراطور، وكان (وفقاً لقول النقد الإسباني) " يحلم بإمبراطورية حقيقية، تشتمل على كل إمكانيات التوسع الإسباني، وكل العوامل التاريخية للوطن الإسباني، وتمتد جذورها إلى تراث العالم الروماني، وإلى وحدة العرش القوطي، وكان منذ اتشح بالثوب الإمبراطوري في سنة 1135 م، يسير وفق برنامج مدروس راسخ، وكان هذا البرنامج يقوم على شقين، الأول الإصلاح الداخلي في الناحيتين الإدارية والقضائية، والثاني، وهو الناحية السياسية الخارجية يقوم على المحافظة على سمعة الإمبراطورية، بكافة الوسائل السلمية والعسكرية ". " وغاية هذا البرنامج النهائية، هو الهجوم العام على الإسلام، وكان الاندفاع نحو فتوح الاسترداد Reconquista يستمد قوته من مصادر كثيرة، من نفس النظرية الإمبراطورية، ومن توحيد مختلف الأراضي والجهود،

والخلاف القائم بين المسلمين في شبه الجزيرة، وضرورة حماية هيبة الإمبراطورية ومكانتها إزاء البابوية والعالم الخارجي، كل ذلك كان يخلق اندفاعاً قوياً ومستمراً، يضع الإسلام في شبه الجزيرة في موقف من أدق مواقفه. وقد أكد ألفونسو السابع نيته في متابعة هذه الحرب المستمرة على الإسلام، عقب التتويج الإمبراطوري مباشرة، في إخطاره لأهل مملكته ولسكان الحدود، بأن يشهروا الحرب على المسلمين في كل سنة، وأن يزعجوهم بلا هوادة، وألا يفروا من بلادهم أو حصونهم، وأن ينتزعوا منهم كل شىء في سبيل الله، ومن أجل الدين المسيحي " (¬1). وتشيد الرواية النصرانية بخلال ألفونسو ريمونديس، وتقول لنا إنه من القلائل من ملوك اسبانيا النصرانية، الذين يستحقون صفة القيصر بجدارة، وتشيد كذلك بفروسته وشجاعته وعدله وتقواه، ورعايته للكنائس والأديار. بيد أنه ليس من ريب في أن ألفونسو ريمونديس كان ملكاً جشعاً، وافر الأطماع، وكان لا يفرق في تحقيق أطماعه بين الوسائل المشروعة، وغير المشروعة، وقد رأينا موقفه من مملكة نافارا الصغيرة الشجاعة الأبية، وكيف أن وشائج القرب والمصاهرة لم تمنعه من الائتمار باستقلالها غير مرة. أما سياسة ألفونسو ريمونديس نحو الأندلس المسلمة، وهي السياسة التي صورها لنا النقد الإسباني فيما تقدم، فلم تكن تختلف في شىء عن سياسة أسلافه: سياسة التربص والغدر والعدوان المستمر، وسياسة الضرب والتفريق بين المتوثبين والمتخاذلين من زعمائها، وانتهاز الفرص للإيقاع بها، وانتزاع أراضيها بكل الوسائل. والواقع أن الجيوش القشتالية أيام ألفونسو ريمونديس لم تترك للمسلمين في شبه الجزيرة أية هدنة. ففي سنة 1133 م، قام ألفونسو بغزوته الكبرى خلال الأندلس، ووصل في زحفه إلى شريش وأرض الفرنتيرة، ولم تستطع الجيوش المرابطية أن تقف في سبيله. وهو مذ تقلد التاج الإمبراطوري في سنة 1135، دائب الغزو لأراضي الأندلس، فإذا لم تكن ثمة غزوة كبيرة، فقد كانت ثمة غارات مخربة على الحدود. وفي سنة 1139 افتتح حصن أوريخا (أرنبة). وفي سنة 1142 م، افتتح قورية. وفي سنة 1146، دخل قرطبة استجابة لدعوة ابن حمدين، ¬_______ (¬1) وردت هذه الملاحظات، ضمن تصوير لعهد ألفونسو السابع، قدم به الأستاذ العميد S. Montero Diaz لمحاضرته La Orden de Calatrava y su perspectiva universal المنشورة في كتاب: La Orden de Calatrava (Ciudad Real 1959) p. 8

ثم ندب لحكمها ابن غانية. وفي سنة 1147 استولى على قلعة رباح، واشترك مع الجيوش النصرانية الأخرى في الاستيلاء على ألمرية، وهكذا استمر الصراع على أشده بين الجيوش القشتالية الغازية والجيوش المسلمة، مرابطية أو غيرها، طوال أيام ألفونسو السابع. ويعرف ألفونسو ريمونديس في الرواية الإسلامية بألفنش بن رمند أي ألفونسو بن ريموند وهو اسم أبيه الكونت ريموند البرجوني، ويعرف كذلك بالسليطين أي الملك الصغير لأنه حكم منذ طفولته. وحكم الكونت رامون برنجير الرابع بضعة أعوام أخرى، وشغل في الأعوام الأخيرة من حكمه. بمنازعات ومعارك مختلفة فيما وراء البرنيه، في ولاية بروفانص، وهي التي كان يحكمها أخوه الكونت برنجير رامون، حتى نازعه فيها بعض الأمراء المحليين، وقتل مدافعاً عن ولايته. وقد نجح الكونت يومئذ في إرغام أشراف بروفانص على الاعتراف بطاعته وتلقب بلقب كونت دي بروفانص مضافاً إلى ألقابه. ولكن بعض الأمراء المحليين عادوا فأثاروا الاضطراب في بروفانص، منضوين تحت حماية القيصر فردريك الأول امبراطور ألمانيا. وأخيراً تحول القيصر إلى مناصرة الكونت رامون، ومنحه عهد الجزية على بروفانص وعلى عاصمتها آرل، كما كان الأمر من قبل. ثم سافر الكونت رامون وابن أخيه برنجير إلى تورينو حيث كان يقيم القيصر، ليتلقيا منه عهد الجزية، فمرض الكونت وتوفي خلال الطريق، وذلك في السادس من أغسطس سنة 1162 م. وكان رامون برنجير الرابع، من أعظم أمراء اسبانيا النصرانية في ذلك العصر، الذي تعددت فيه الممالك الإسبانية، ومن أوفرهم ذكاء وعزماً ومقدرة. وفي وسعنا أن نعتبره مؤسس عظمة مملكة أراجون الحقيقي. وكان سبيله إلى ذلك إدماج قطلونية وأراجون في مملكة قوية موحدة، وكان حكمه يتسم بالقوة والحكمة والعدل، وقد استطاع بسياسته المستنيرة أن يتقى كثيراً من الحروب والمنازعات، وأن يحافظ على سلام مملكته ورخائها. بيد أنه كان كسائر أقرانه ملوك اسبانيا النصرانية يضطرم تعصباً ضد المسلمين، ولا يدخر جهداً محاربتهم، وقد استطاع أن ينتزع آخر القواعد الإسلامية في الثغر الأعلى، وأن يقضي بذلك نهائياً على سلطان المسلمين، في هذا الركن من اسبانيا.

5 - قشتالة بعد وفاة ألفونسو ريمونديس والحرب الأهلية بين أسرتي كاسترو ولارا لما توفي القيصر ألفونسو ريمونديس في أغسطس سنة 1157 م، قسمت مملكته بين ولديه، وذلك وفقاً للنظام الذي وضعه في أواخر حياته، فاختص ولده سانشو الثالث بعرش قشتالة والأراضي التابعة لها في أعالي التاجُه، وعاصمتها طليطلة، مع حق الجزية على مملكتي نافارا وأراجون. واختص ولده الصغير فرناندو بمملكة ليون وجليقية وأشتوريش، مع حق السيادة على مملكة البرتغال، وبهذا التقسيم الجديد لمملكة قشتالة الكبرى، أصبحت الممالك الإسبانية النصرانية خمساً هي مملكة أراجون وقطلونية المتحدة، ونافارا، وقشتالة، وليون والبرتغال. وكان هذا الوضع الجديد للممالك الإسبانية نذيراً بتطور الحوادث، وبانهيار سيادة قشتالة، التي استطاع القيصر ألفونسو ريمونديس، أن يفرضها على باقي الممالك الإسبانية، وبدأت الأمور كالعادة بنشوب الحرب الأهلية بين الأخوين، ملكي قشتالة وليون. وذلك أن فرناندو ملك ليون بدأ حكمه باضطهاد سائر الكبراء والأشراف المخلصين لقشتالة، فجردهم من مناصبهم وأملاكهم، وأخرجهم من مملكته اتقاء لمؤامراتهم ودسائسهم، فالتجأ هؤلاء إلى أخيه سانشو ملك قشتالة، فسار سانشو في قواته ومعه الأشراف المبعدون، وغزا ليون، وأرغم أخاه على أن يرد المبعدين إلى مناصبهم، وأن يرد إليهم أملاكهم ومكانتهم، وأرغمه فوق ذلك على أن يعترف بسيادته وأن يؤدي له الجزية. وفي خلال ذلك حاول سانشو ملك نافارا، أن يرفع نير قشتالة عن مملكته، وأن يسترد ولاية ريوخا القديمة، ولكن سانشو الثالث بادر بإرسال حملة قوية إلى نافارا، فخشى ملكها العاقبة، وآثر أن يعقد الصلح على أن تبقى الأوضاع القديمة على حالها. وكان سانشو الثالث يجيش بأطماع كثيرة، وكان يطمع بالأخص إلى أن ينظم مع باقي الممالك الإسبانية حلفاً مشتركاً لمحاربة الموحدين، الذين سيطروا على غرب الأندلس وأواسطها، وأضحوا يهددون أرض قشتالة، ولكن هذه

الآمال تحطمت كلها، إذ توفي سانشو فجأة في آخر أغسطس سنة 1158 م، بعد أن حكم عاماً فقط، ولم يترك لوراثة عرشه سوى طفل في الثالثة من عمره، هو ألفونسو الذي لقب فيما بعد بالنبيل، واختار في وصيته للولاية على ولده والقيام بمهام الحكم، مؤدبه الكونت جوتيرو فرنانديث سليل أسرة كاسترو القوية، وكان لهذا الاختيار أثره في مجتمع الأشراف، وفي اضطرام المنافسة بين أسرة كاسترو، وخصيماتها من الأسر الشريفة، وعلى رأسها أسرة لارا، وقد كانت تضارع آل كاسترو، قوة وعصبية ومحتداً. سخطت أسرة لارا لما خصت به أسرة كاسترو من الوصاية على الملك الطفل، وخشي الكونت جوتيرو عاقبة سخطها ووعيدها، فعهد بتربية الملك الطفل إلى الكونت غرسية دي آنيا قريب آل لارا، والمتصل بهم بأوثق الصلات، وذلك كوسيلة لتجنب الخصام والمحافظة على السلم، ولكن غرسية ما لبث أن برم بهذه التبعة الثقيلة، فسلم الطفل إلى الكونت ألمانريش كبير آل لارا، فثار الكونت جوتيرو لهذا التصرف، وأصر أن يعاد إليه الطفل، وهدد بالحرب، ولكنه لم يلبث أن توفي، فتابع أبناء أخيه المطالبة، وأصروا على استعادة الملك الطفل استناداً إلى الوصية الملكية، فلما أصر آل لارا على موقفهم، لجأ آل كاستروا إلى فرناندو ملك ليون، عم الملك الطفل، لكي يحمي ابن أخيه، فسار ملك ليون في الحال إلى قشتالة في جيش ضخم، واحتل معظم قواعدها، وأعلن أنه يتولى الحكم والوصاية على ابن أخيه، واعترف بطاعته معظم الشعب القشتالي (سنة 1159 م). واشتد فرناندو في مطاردة آل لارا، حتى أرغموا أخيراً على تسليم الملك الطفل. وعمد فرناندو بعد ذلك إلى اصطفاء آل كاسترو، وتجريد آل لارا من أملاكهم ومناصبهم وألقابهم، وترتب على ذلك أن ثارت بين الفريقين حرب دموية، خربت فيها الضياع، وأحرقت القرى، وقاتل ملك ليون إلى جانب آل كاسترو، حتى أرغمت أسرة لارا أخيراً على التسليم، وأعلنوا أنهم يعودون إلى الطاعة، وأنهم يقسمون بالتزامها إذا أعيد إليهم الطفل الملكي قبل ذلك. واتفق الفريقان على أن يجتمع لذلك الغرض مجلس في بلدة " سُرية " يشهده آل لارا والملك فرناندو، ومعه ابن أخيه الطفل. ولكن حدث خلال انعقاد هذا المجلس، أن اختطف الطفل فارس جرىء من رجال آل لارا، وسرعان ما عمد زعماء آل لارا وفي مقدمتهم الكونت ألمانريش إلى الفرار من

المجلس دون أن يقسموا يمين الطاعة، وأدرك فرناندو، بعد فوات الوقت، ما دبره خصومه من غدر وخديعة. ووضع آل لارا الطفل الملكي في قلعة إستبان دي جورمت المنيعة، وأذاعوا في طول البلاد، وعرضها أنهم يعملون على حماية الملك الطفل، وحماية استقلال قشتالة. من مطامع الملك فرناندو، وانضم إليهم فريق كبير من أهل قشتالة. ومع ذلك فقد بقي التفوق إلى جانب فرناندو وأنصاره آل كاسترو، وكان يؤيده بالأخص رجال الدين، وعلى رأسهم مطران طليطلة. واستمرت هذه الحرب الأهلية بين الفريقين أعواماً، وبذل فيها آل لارا جهوداً عنيفة، وقتل زعيمهم الكونت ألمانريش في إحدى المعارك. وكان وجود الملك الطفل في أيديهم، يساعدهم على حشد الأنصار والموارد. وأخيراً رجحت كفتهم على قوات ليون، واضطر الملك فرناندو، إلى أن يطلب العون من خصميه القديمين، ملك نافارا، وملك البرتغال. وكانت الأحوال خلال ذلك تتطور في قشتالة، وأخذ الشعب يتحول عن آل كاسترو وعن قضيتهم، ويرى في بقاء ملك ليون وجنوده خطراً على استقلال البلاد. ومن جهة أخرى، فإن ملك ليون لم يحظ بالعون المنشود من محالفة البرتغال ونافارا، وزاد في متاعبه أن قامت ثورة محلية في أراضي استرامادوره، وثارت مدينتا آبلة وشلمنقة على سلطانه، وأخذ آل كاسترو في نفس الوقت يفقدون هيبتهم ونفوذهم، لما ارتكبوه من عسف ومظالم. وانتهزت أسرة لارا فرصة هذا التحول، فسارت في أنصارها إلى طليطلة عاصمة قشتالة، واستولت عليها عنوة، ونادت بقيام حكم الملك الطفل ألفونسو، وكان قد بلغ عندئذ الحادية عشرة من عمره، ودعت جميع القشتاليين إلى الالتفاف حول الملك الشرعي، ومقاومة الليونيين وآل كاسترو. وكان ذلك في سنة 1166 م. واتجهت قشتالة كلها عندئذ إلى تأييد ملكها الصبي، الذي لقب بألفونسو النبيل، واستأثر آل لارا بجميع السلطات، وتحول رجال الدين أخيراً عن ملك ليون، ليؤيدوا الملك الشرعي، وعقدت قشتالة الهدنة مع نافارا، وعقدت حلفاً مع أراجون. وأيقن فرناندو ملك ليون أخيراً أنه لا أمل في مثل هذا الموقف وآثر أن ينسحب من أراضي قشتالة، وأن يترك حلفاءه آل كاسترو لمصيرهم، واضطر آل كاسترو عندئذ إلى مغادرة قشتالة، والالتجاء إلى أراضي المسلمين، وهنالك أخذوا يرقبون الفرص للعودة والانتقام، وأسدل الستار بذلك مدى

حين على صراع هاتين الأسرتين القشتاليتين الكبيرتين (¬1). 6 - قيام جماعات الفرسان الدينية وقد امتاز هذا العصر - النصف الأول من القرن الثاني عشر - وهو عصر ألفونسو المحارب، وألفونسو ريمونديس، بظهور قوة جديدة في ميدان الصراع بين اسبانيا النصرانية واسبانيا المسلمة، هي جماعات الفرسان الدينية. وكانت هذه الجماعات قد ظهرت في المشرق على أثر اضطرام الحروب الصليبية، وسقوط بيت المقدس في أيدي الفرنج الصليبيين، وظهرت طلائعها في اسبانيا، في عصر ألفونسو المحارب. وكانت أول جماعة قامت في أراجون من هذا النوع هي جمعية الفرسان الدينية التي أنشأها ألفونسو المحارب في سنة 1120 م، على أثر موقعة كتندة، في قلعة " مونريال " على مقربة من دروقة، وظهر فرسان الداوية أو فرسان المعبد بعد ذلك في إمارة برشلونة، وشجعهم أميرها الكونت رامون برنجير الثالث على القيام في مملكته، ومنحهم حصن " جرانيينا " على مقربة من لاردة، ليكون مقراً لهم، ثم انتظم في سلكهم قبيل وفاته في سنة 1131 م. ولما توفي ألفونسو المحارب، خص فرسان المعبد في وصيته بثلث مملكته، باعتبارهم حماة النصرانية في بيت المقدس، كما خص فرسان الأسبتارية، كذلك بنصيب آخر من مملكته. وقد رأينا فيما تقدم كيف رفض الشعب الأرجوني أن ينفذ هذه الوصية حرصاً على سلامة الوطن الأرجوني. وقد رأى الفرسان أنفسهم استحالة تنفيذ مثل هذه الوصية، لأنها مسألة لا تحل إلا بقوة السلاح، ومن ثم فقد نبذوا باختيارهم هذه الحقوق، واكتفوا بالمطالبة، بأن يعوضوا عنها بما يعاونهم على الاستقرار، وتأدية مهمتهم في حماية الدين. ومن ثم فقد رأى أمير أراجون فيما بعد الكونت رامون برنجير الرابع، تعويضاً لفرسان المعبد (الداوية) أن يمنحهم عدة حصون في أراجون ومنتشون وكلامير وغيرها مع ما يلزم لها من المرافق والغلات التي تساعدهم على العيش، وكذلك حصل الفرسان على حق الإعفاء من الخضوع لقضاء الملك، وعلى أن يعطوا نصيباً معيناً في المدن التي انتزعت من المسلمين مثل وشقة وبربشتر وسرقسطة، وقلعة أيوب وغيرها، وفي مقابل ذلك يتعهد الفرسان بأن يكرسوا حياتهم لحماية النصرانية في تلك ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; Vol. III. p. 321 - 324

الأنحاء، وتم هذا الاتفاق في اجتماع عقد في مدينة جيرنده (¬1) في سنة 1143 م، وشهده مندوب من البابا، وكثير من الأساقفة وأشراف أراجون وقطلونية. وهكذا تم لجمعية فرسان المعبد الشهيرة أن تستقر في أراجون وقطلونية. وسرعان ما نمت واشتد ساعدها، وظهرت أهمية العون الذي يبذله أعضاؤها في محاربة المسلمين، ولاسيما في الدفاع عن القواعد والحصون الواقعة على الحدود. وألفى هذا المثل صداه في قشتالة، عقب وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس، وقيام ولده سانشو. وكانت قلعة رباح، في مقدمة هذه المعاقل الأمامية التي تحمى مداخل قشتالة، وكانت فضلا عن أهميتها الدفاعية، تسيطر على مقاطعة جيان الأندلسية، وكان ألفونسو السابع قد عهد بالدفاع عنها إلى فرسان الداوية، وكانت القوات الموحدية تزحف على هذه القلعة من آن لآخر وترهقها بهجماتها العنيفة. ولما استولى الموحدون على ألمرية، جددوا هجومهم في سنة 1158 م على قلعة رباح، ولم يستطع فرسان الداوية إنقاذها من السقوط الا بشق الأنفس، فلما أيقنوا بعجزهم عن القيام بمهمتهم الفادحة، غادروا القلعة وسلموها إلى سانشو ملك قشتالة، ليعني هو بأمر الدفاع عنها. وألفى سانشو نفسه في مأزق حرج. وكان ثمة في طليطلة راهب ورع هو ريموندو أو رامون رئيس دير فتيرو، ومعه راهب ورع من أسرة نبيلة يدعى ديجو بلاسكيث، وكان فارساً مقداماً ظهر في ميدان الحرب، فتقدم الراهبان إلى الملك سانشو، بأن يعهد إليهما بمهمة الدفاع عن قلعة رباح، فأجابهما الملك إلى ما طلبا. وأيد مشروعهما يوحنا مطران طليطلة، وألقى عظات وعد فيها بالغفران لكل من يتقدم للدفاع عن القلعة، فلم يمض سوى قليل حتى استطاع الراهب ريموندو أن يجمع حوله في قلعة رباح عشرين ألف مقاتل، وأمده كثيرون ممن لم يشتركوا في الدفاع بالخيل والدواب والمال. وكان لهذه الحركة القوية أثرها في رد الموحدين عن مهاجمة القلعة. وفي الحال رأى الراهب رامون أن يؤلف من أولئك الذين يرغبون أن يكرسوا حياتهم للدفاع عن النصرانية جمعية من الإخوة. وهكذا قامت جمعية " فرسان قلعة رباح " (سنة 1161 م). وانتخب الراهب ريموندو أول رئيس لها، وصادق البابا على قيامها، وطبقت عليها النظم الحربية، وأخذت تنمو باضطراد، وتؤدي مهمتها في مدافعة المسلمين بهمة وحماسة. ولما توفي أستاذ الجمعية الأول، ريموندو دي فتيرو في سنة 1163 م ¬_______ (¬1) هي بالإسبانية Gerona، وهي تقع شمال شرقي برشلونة على مقربة من البرنيه.

خلفه في رياستها الراهب غرسية النافاري، ووضع للجمعية نظاماً جديداً، أقره البابا اسكندر الثالث. ثم وضع البابا إنوصان الثالث بعد ذلك الجمعية تحت حمايته، وذلك في سنة 1199 م (¬1). وقامت في جليقية، بعد قيام جمعية قلعة رباح بثلاثة أعوام جمعية محاربة جديدة باسم " جماعة القديس ياقب " وشعارها محاربة أعداء الدين، والدفاع عن الحاج الذين يقصدون زيارة قبر القديس ياقب، ونظمت على منهج القديس أوغسطين، واتخذت طابعاً حربياً، وأبيح الزواج لأعضائها، خلافا لفرسان قلعة رباح، وتوالت عليها الهبات، وسرعان ما نمت واشتد ساعدها. وسوف تضطلع هذه الجمعيات الدينية المحاربة منذ الآن فصاعداً بدور بارز في الصراع بين إسبانيا النصرانية وإسبانيا المسلمة. ¬_______ (¬1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الترجمة العربية ص 268) والاستاذ S. Montero في La Orden de Calatrava, p. 16 & 17

الفصل الثالث قيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز

الفصل الثالث قيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز ولاية لوزيتانيا أصل مملكة البرتغال. تداولها بين الفاتحين، وضعها عند افتتاح الأندلس. ولاية الغرب الأندلسية. شمال لوزيتانيا وسقوطه في يد النصارى. ولاية البرتغال. البرتغاليون أهل هذه الولاية. أصل الملوكية البرتغالية. الكونت ريمون البرجوني وابن عمه الكونت هنري. زواج الكونت ريمون بأوراكا إبنة ألفونسو السادس. اختياره لحكم إمارة البرتغال. وفاته وخلافة الكونت هنري له. ولاية البرتغال ومدنها عندئذ. الكونت هنري أمير وراثي للبرتغال. موقفه من الحرب الأهلية في قشتالة. وفاته. ولده الطفل ألفونسو وأمه تريسا الوصية عليه. تقلبها في محالفة الفريقين المتحاربين في قشتالة. غزو المرابطين لأراضيها وانسحابهم. سخط الشعب على حكمها. مؤامرة الأشراف عليها واعتقالها. تولى ولدها الفتى ألفونسو هنريكيز الحكم. إعلانه لاستقلال البرتغال. سخط القيصر ألفونسو ريمونديس لذلك. الحرب بين قشتالة والبرتغال. التحالف بين نافارا والبرتغال. غزو البرتغال لجليقية. الحرب بين البرتغال والقيصر. توسط مطران براجا وعقد الهدنة بينهما. غزوة برتغالية لأراضي المسلمين. مجلس لاميجو واتخاذ ألفونسو هنريكيز لقب الملك. قانون وراثة العرش. القوانين الجديدة. تنظيم القضاء. قيام مملكة البرتغال. جماعات الفرسان الدينية. ألفونسو هنريكيز في الرواية العربية. نقف الآن قليلا في تتبع أخبار الممالك النصرانية الإسبانية، لنلم بأخبار مملكة نصرانية أخرى، من ممالك شبه الجزيرة الإسبانية، لم يكن لها قبل أوائل القرن الحادي عشر ذكر بين هذه الممالك، ونعني بذلك مملكة البرتغال الناشئة، التي بدأت تحتل مكانتها إلى جانب باقي الممالك النصرانية، وتأخذ معها بنصيب بارز في الكفاح بينها وبين إسبانيا المسلمة. إن مملكة البرتغال ترجع من حيث رقعتها الإقليمية، أو من حيث أرومتها الملوكية، إلى أصول متواضعة. فأما من حيث الرقعة الإقليمية، فإنه يجب أن نعلم أن القسم الغربي من شبه الجزيرة الإسبانية، كان منذ العصر القديم، يتميز بسكانه وخواصه الجغرافية، وكان سكانه يعرفون بأهل لوزيتانيا، وهم جنس يتميز بخصائصه من الإسبان الذين كانوا يحتلون شرقي الجزيرة وأواسطها، وكانت

ولاية لوزيتانيا في العصر القديم تشمل الرقعة الغربية الواقعة جنوبي جليقية المحاذية للشاطىء فيما بين مصب نهر دويرة ومصب نهر وادي يانة. وكانت لوزيتانيا أيام الرومان تكون مع ولاية بتيكا (باطقة) أو الأندلس، القسم الجنوبي الغربي من اسبانيا الرومانية، وتسمى بإسبانيا السفلى. ولما غزت القبائل الجرمانية شبه الجزيرة الإسبانية في أوائل القرن الخامس الميلادي، نزل الوندال والشوابيون في ولاية لوزيتانيا. ولما عبر الوندال إلى إفريقية، احتل الشوابيون لوزيتانيا كلها، واستمروا بها زهاء نصف قرن حتى أجلاهم القوط عنها، فارتدوا شمالا إلى جليقية، واحتل القوط لوزيتانيا، وعاصمتها يومئذ مدينة ماردة، وذلك في أوائل النصف الثاني من القرن الخامس الميلادي، ثم استولى القوط بعد ذلك على اسبانيا كلها، ما عدا قسمها الشمالي الذي استمر عصراً آخر بيد الشوابيين، حتى افتتحه القوط في أواخر القرن السادس. وكانت لوزيتانيا تكون عندئذ إقليماً من الأقاليم الستة التي قسمت إليها المملكة القوطية. ولما افتتح المسلمون اسبانيا، بقيت لوزيتانيا على وضعها القديم، وعاصمتها ماردة، ومن مدنها قلمرية وأشبونة وشنترة وشنترين. وكانت ماردة أيام الدولة الأموية، بالأخص منزل المولدين، وكانت مثل طليطلة، من المدن المتمردة الثائرة، تضطرم بها الثورة على حكومة قرطبة من آن لآخر، وكانت أيام الفتنة الكبرى في مقدمة القواعد الخارجة، وقد ثار بها بنو الجلّيقي، واستقلوا بحكمها عصراً. وكان القسم الجنوبي من ولاية لوزيتانيا وهو الذي بقى بأيدي المسلمين، يعرف بولاية الغرب الأندلسية، أو غربي الأندلس. ولما قامت دول الطوائف تغلب على هذه المنطقة بنو الأفطس، واتخذوا من بطليوس قاعدة لإمارتهم. وكان حكمهم يمتد من منتصف وادي نهر وادي يانة حتى المحيط، ويشتمل على قسم من وادي نهر التاجُه، يمتد شمالا حتى مدينة قلمرية (¬1)، ويشتمل على ثغر أشبونة، وشنترين ويابرة. أما القسم الشمالي من ولاية لوزيتانيا، وهو الذي يمتد من مدينة براجا شمالا، وقلمرية جنوباً، فكان النصارى قد تغلبوا عليه شيئاً فشيئاً، وافتتح فرناندو الأول ملك قشتالة معظم قواعده من المسلمين، وآخرها مدينة قلمرية، وقد افتتحها سنة 1064 م (456 هـ)، وجعل فرناندو من من هذه المنطقة ولاية مستقلة باسم " البرتغال " بالاشتقاق من اسم " بورتو كالي " ¬_______ (¬1) قلمرية وتسمى أيضاً قلنبرية هي بالافرنجية Columbria Combra

Porto Calle، وهي الثغر الواقع عند مصب نهر دويرة، وجعل قاعدتها قلمرية. وانتدب لحكمها وزيره المستعرب الكونت سسنندو دافيدس الذي تعرفه الرواية العربية باسم " ششنند ". ثم ضمت هذه الولاية الجديدة قبيل وفاة فرناندو بقليل إلى مملكة جليقية، التي تركها فرناندو إلى أصغر أولاده الثلاثة غرسية. وقد ذكرنا من قبل أن سكان لوزيتانيا، وهي التي اقتطعت ولاية البرتغال الجديدة من قسمها الشمالي، كانوا عنصراً خاصاً يفترق بمميزاته عن الإسبان. وكان اللوزيتانيون أو البرتغاليون أهل الولاية الجديدة، يتوقون إلى الاستقلال عن مملكة جليقية، ومن ثم فقد كانوا منذ البداية ضد حكم الملك غرسية بقيادة زعيمهم الكونت نونيو منندس، ولكنهم هزموا أمام جيش جليقية، وقتل زعيمهم نونيو (سنة 1071 م). واستسلمت الولاية الثائرة إلى مصيرها، وتعاقب في حكمها الأمراء والحكام من قبل ملك قشتالة. هذا عن أصول البرتغال الجغرافية والتاريخية. وأما عن أصوال الملوكية البرتغالية، فإنه لما عبر المرابطون إلى اسبانيا عقب افتتاح ألفونسو السادس ملك قشتالة لطليطلة، ولقيت الجيوش الإسبانية المتحدة هزيمتها الساحقة في موقعة الزلاّقة (479 هـ - 1086 م) عبر إلى شبه الجزيرة استجابة لصريخ ألفونسو السادس، كثير من الفرسان والأشراف الفرنسيين لينجدوا إخوانهم في الدين إزاء الخطر الإسلامي الجديد - خطر السيل المرابطي، وكان من بين أولئك المجاهدين الوافدين اثنان من أشراف برجونية، هما الكونت ريمون البرجوني، والكونت هنري دي لورين، وكلاهما ينتمي إلى فرع من فروع آل كابيه ملوك فرنسا. وقد أبدى الرجلان في خدمة ألفونسو السادس ومعاونته همة تذكر، ومن ثم فقد رأى أن يثيبهما عن إخلاصهما وغيرتهما، فزوج الكونت ريمون بإبنته أورّاكا، ولما كان الكونت قد ظهر بالأخص في محاربة المسلمين في البرتغال وانتزع منهم شنترين وأشبونة وشنترة (1093 م) فقد عينه ألفونسو حاكماً لهذه الولاية. وزوج الكونت هنري، وهو ابن عمومة الكونت ريمون، بابنته غير الشرعية تريسا التي رزق بها من خليلته خمينا نونيز. ولما توفي الكونت ريمون بعد ذلك بقليل في سنة 1094 م، بعد أن أعقب من زوجه أوراكا ولداً هو ألفونسو، وهو الذي غدا فيما بعد القيصر ألفونسو ريمونديس، خلفه في حكم ولاية البرتغال قريبه الكونت هنري، وكانت

ولاية البرتغال تشمل يومئذ المنطقة الواقعة بين نهر منيو (نهر منديجو)، ونهر التاجُه حتى أسفل مصبه، وبها عدة مدن هامة هي براجا وبورتو وقلمرية وبازو ولاميجو (مليقة) وعدة بلاد وضياع أخرى، ومنح الكونت هنري الذي لقب عندئذ بالدوق، حكم هذه الولاية لا باعتبارها إمارة مستقلة، ولكن على قاعدة الإقطاع باعتبارها تابعة لمملكة قشتالة، تؤدي الجزية إليها وتشاركها في حروبها ضد المسلمين بفرقة من ثلاثمائة فارس ويتوارثها عقبه (¬1). بيد أن تريسا زوجة هنري كانت تلقب بالملكة لأرومتها الملكية. وجعلت مدينة قلمرية حاضرة الإمارة الجديدة، ومن ثم فإن الرواية العربية قد جرت على تسمية أمير البرتغال، أو ملكها فيما بعد " بصاحب قلمرية ". وبالرغم مما بذله الكونت هنري للمحافظة على حدود ولايته، فإن المسلمين استطاعوا غير بعيد أن يستردوا أشبونة وشنترين. ولما توفي ألفونسو السادس في سنة 1109 م، جاءت وصيته الخاصة بوراثة العرش مؤيدة لحقوق هنري الوراثية في حكم ولاية البرتغال، ولكن في ظل قشتالة. بيد أنه كان في الواقع يحكم ولايته مستقلا، وكانت تبعيته لقشتالة مسألة اسمية فقط. ولما نشبت الحرب الأهلية بين الملك ألفونسو المحارب وزوجه الملكة أوراكا، وقف الكونت هنري في البداية إلى جانب ملك أراجون في موقعة كامبودي سبنيا، إذ كان يخشى على استقلاله من الملكة أوراكا، بيد أنه لما تطورت الحوادث وهزمت أوراكا وحوصرت في أسترقة، تحول هنري إلى مهادنتها، ثم حارب إلى جانبها وعبر إلى فرنسا، ليستقدم الحشود لمعاونتها، وذلك مقابل حصول البرتغال على مدينة توي والأراضي الواقعة على ضفة منيو اليمني. ثم توفي الكونت هنري عقب ذلك في مايو سنة 1112 م، ولم يترك سوى طفل في الثالثة من عمره يدعى ألفونسو، فتولت أمه الملكة تريسا الحكم، بطريق الوصاية عليه وكانت دونيا تريسا، فضلا عن جمالها، امرأة وافرة الذكاء والعزم والإقدام، وكانت تجيش بأطماع كثيرة في سبيل تدعيم سلطانها واستقلالها، وتوسيع رقعة إمارتها. وقد رأينا فيما تقدم كيف عملت خلال الحرب الأهلية في قشتالة على انتهاز الفرص، وتحالفت مع الكونت دي ترافا والثوار الجليقيين غير مرة، ضد أختها أوراكا، ثم حاربت إلى جانب أوراكا والأسقف خلمريث، وكيف استطاعت ¬_______ (¬1) R. Altamira: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola V. I. p. 357

في النهاية أن تحافظ عل ما كسبه زوجها من أراضي جليقية، وأن تكسب من أختها أراضي جديدة في أحواز سمورة وطورو ثمناً لتخليها عن تحالفها مع الثوار (سنة 1119)، ورأينا كيف احتذت حذو أختها أوراكا في التورط في مسلكها الأخلاقي المشين، وتوثيق علائقها الغرامية بالكونت فرناندو بيرث، وتركه يتصرف في شئون الإمارة بصورة سخط لها الشعب البرتغالي، وأخيراً كيف انتهى ألفونسو ريمونديس إلى إخضاعها، وإلى أرغام البرتغال أن تعترف باسم أميرها الصبي ألفونسو هنريكيز أنها مستظلة بحمايته. وفي خلال ذلك استطاعت تريسا أيضاً أن تصمد لغزوات المسلمين لأراضيها. وكانت أهم غزوة واجهتها من المرابطين، هي زحف أمير المسلمين علي بن يوسف على قلمرية عاصمة الإمارة ومحاصرته لها، ودخوله إياها، وذلك في يونيه سنة 1117 م (سنة 511 هـ). بيد أن المرابطين لم يحتفظوا بها بل غادروها على الأثر، وقفلوا إلى إشبيلية، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه. ولم تمض على ذلك أعوام قلائل حتى سئم الشعب حكم هذه الأميرة المستهترة، وأخذ يتطلع إلى أميره الفتى ألفونسو هنريكيز، وكان الأمير قد بلغ الرابعة عشرة ْمن عمره (سنة 1124 م)، واتشح بثوب الفروسة وفقاً لتقاليد العصر، وأجازه لذلك الملك ألفونسو ريمونديس. وكان الشعب يحبو أميره الفتى بحبه، لما كان يتصف به من الخلال الحميدة، من الفروسة والتقوى، ورقة الشمائل، وتوقير رجال الدين، ويرى أن الوقت قد حان لتقديمه وتوليه شئون الحكم. وأخيراً دبر الأشراف والأحبار مؤامرة لتحقيق هذه الأمنية، والتف حول الأمير جمع كبير من الأنصار، وشهر الحرب ضد أمه المستبدة، فلقيته في أنصارها في سنت مايميتي على مقربة من جويمرانس، فهزمت الأم، وأسرت وألقيت إلى السجن لتكفر عن زلاتها، وماضيها الأثيم، ونفى خليلها أو زوجها الكونت فرناندو بيرث من المملكة ونفى معه كثير من أنصاره. وتولى الأمير الفتى ألفونسو هنريكيز حكم إمارة البرتغال، وكان ذلك في سنة 1128 م، وقد بلغ الأمير الثامنة عشرة من عمره. وأعلن ألفونسو هنريكيز أنه يتولى حكم إمارته مستقلا دون تبعية لأحد. فثار لذلك ألفونسو ريمونديس ملك قشتالة، إذ كان يعتبر البرتغال إقليماً من أقاليم مملكته مشمولا بحمايته. وزحف بقواته على البرتغال بحجة العمل على إنقاذ

خالته تريسا، وإرغام الأمير الخارج عليه، على التزام الطاعة، ونشبت بين البرتغال وقشتالة حرب طويلة الأمد، وكان مسرحها بالأخص جنوبي جيلقية، ولم يكن في وسع ملك قشتالة أن يتابع هذه الحرب بنفسه، لما كان يشغله من غارات المسلمين ومدافعة ملك أراجون. ولما توج ألفونسو ريمونديس قيصراً لإسبانيا في سنة 1135 م، رفضت البرتغال أن تسلم بهذا الادعاء، وشاطرها في ذلك غرسيه راميريس ملك نافارا، ووقع عندئذ نوع من التحالف بين نافارا، والبرتغال. وبينما سار القيصر لمحاربة نافارا، زحف البرتغاليون على جليقية، واستولوا على مدينة توي وعدة مواضع أخرى، فنهض أشراف جليقية لمقاومة البرتغاليين، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وكان الظفر فيها لألفونسو هنريكيز، ولكنه اضطر أن يترك الميدان وقتاً لكي يرد غزوة قام بها المرابطون على مقربة من قلمرية، ولكن المرابطين كانوا قد انسحبوا خلال ذلك عائدين إلى أراضيهم، فلما عاد ألفونسو هنريكيز ثانية لاستئناف القتال في جليقية، كان خصومه قد جمعوا فلولهم، واستكملوا أهبتهم، فلما اشتبك الفريقان كرة أخرى، دارت الدائرة في هذه المرة على البرتغاليين، فهزموا هزيمة شديدة وجرح أميرهم. ولم يمض سوى قليل على ذلك حتى فرغ القيصر ألفونسو ريمونديس من حرب نافارا، وعاد بنفسه لمحاربة البرتغال، وتوالى الاشتباك بين الفريقين. وكان ألفونسو هنريكيز يحرص على ألا يلتقى مع القشتاليين في معركة حاسمة، ثم رأى في النهاية نزولا على نصح قادته أن يتقدم بطلب الصلح إلى القيصر، وتوسط مطران براجا في الأمر، وانتهت المفاوضة إلى عقد هدنة بين الفريقين، واتفق على تبادل الأسرى من الجانبين، وإعادة الحدود بين البلدين، كما كانت في آخر عام من حكم الملكة تريسا، ولم يتفق على شىء بالنسبة للمسألة الجوهرية التي كانت سبب الحرب، وهي مسألة تبعية البرتغال لمملكة قشتالة. وعلى أي حال فقد عقد السلم بين الفريقين، واجتمع القيصر وألفونسو هنريكيز في خيمة واحدة، وتصافحا، وتصافيا، ثم عاد كل منهما إلى أراضيه (سنة 1138 م). تحدثنا الرواية النصرانية بعد ذلك عن غزوة عظيمة قام بها ألفونسو هنريكيز في الأراضي الإسلامية في العام التالي، أعني في سنة 1139 م (533 هـ)، وأحرز فيها نصراً باهراً على الجيش الإسلامي الضخم الذي حشده ولاة بطليوس ويابرة وباجة وإشبيلية، وذلك في مكان يسمى " أوريك " على ضفة نهر التاجُه،

وهو حادث لم نجد له ذكراً في الروايات العربية. ثم تقول لنا إن ألفونسو هنريكيز اعتزم عقب هذا النصر أن يتلقب بألقاب الملوكية، وأن القيصر ألفونسو ريمونديس بعث إلى البابا يحتج على اتخاذ أمير البرتغال لمثل هذه الخطوة. على أن ألفونسو هنريكيز لم يعبأ باعتراض القيصر، أو تدخل البابوية في الأمر، واعتزم أن يجعل من لقبه الملوكي مسألة قومية بينه وبين شعبه، فاستدعى في مدينة لاميجو (¬1) مجلساً قومياً (كورتيس) مثل فيه رجال الدين والأشراف ونواب المدن (سنة 1143 م) ووافق هذا المجلس على أن يتخذ ألفونسو هنريكيز لقب الملك، وأن يكون الملك متوارثاً في أعقابه الذكور، وعلى أثر ذلك وضع أسقف براجا على رأس ألفونسو تاجاً من الذهب المرصع بالجوهر. وصادق الملك الجديد في هذا المجلس على القوانين التي قدمها إليه ممثلو الطبقات، وفي مقدمتها قانون وراثة العرش، وهو يبين أحكام هذه الوراثة وتسلسلها بين الأبناء والإخوة، وحالة ما إذا توفي الملك دون عقب، وترك إبنة، فإنها تتولى الملك من بعده, وقانون الأشراف، وهو ينص على من يمكن نظمهم في طبقة الأشراف، ممن يجري في عروقهم الدم الملكي، وكل من وفق إلى إنقاذ الملك أو أحد أقاربه، أو إنقاذ العلم الوطني في ميدان الحرب، وكل من استطاع أن يقتل في الحرب أميراً من الأعداء، أو يغتنم علماً من أعلامهم. والمسألة الثالثة هي مسألة تنظيم العدل، وقد نص القانون الذي وضع لذلك على أن يدين جميع البرتغاليين بالطاعة للملك، باعتباره أكبر قاض في البلاد. وأن يعاقب على السرقة الأولى والثانية بالتعزير، ويعاقب على السرقات الكبرى بالكي بالنار أو الموت. وتعاقب المرأة المتزوجة إذا زنت هي وعشيقها بالحرق، ويعاقب القاتل بالإعدام مهما كان شخصه، وكذلك يعاقب بالإعدام كل من اغتصب بكراً شريفة، فإذا لم تكن المجني عليها من الأشراف، وجب على المعتدي أن يتزوج بضحيته. ويترك للقاضي تقدير العقوبة على جرائم الضرب والجرح. وكل من اعتدى على أحد من رجال القضاء بالسب أو الضرب، عوقب بالكي بالنار أو بغرامة قدرها خمسون قطعة من الذهب، ويلزم بالتعويض المناسب. ¬_______ (¬1) تقع لاميجو Lamigo في شمال البرتغال جنوبي نهر دويره، وتعرف في الرواية العربية " بمليقة ".

وهكذا وضعت في مجلس لاميجو أسس مملكة البرتغال الجديدة، التي تحولت من كونتية أو إمارة صغيرة قامت في ظروف متواضعة لتكون ولاية تابعة إلى مملكة قوية، تأخذ منذ الآن مكانها في تاريخ اسبانيا النصرانية، وتقوم منذ الآن فصاعداً بنصيب بارز من النضال المرير المستمر بين إسبانيا النصرانية وإسبانيا المسلمة، وتدفع رقعتها تباعاً على حساب القواعد والأراضي الإسلامية في ولاية الغرب الأندلسية. وعنى الملك ألفونسو هنريكيز كذلك بأمر جماعات الفرسان الدينية، إذ شعر بأهميتها، وخطرها في محاربة المسلمين، وكانت طلائع فرسان الداوية، وفرسان القديس يوحنا قد ظهرت قبل ذلك، واشتركت في كثير من المعارك التي تنشب بين البرتغاليين والمسلمين. وفي سنة 1158 م، أنشأ ألفونسو هنريكيز جماعة دينية جديدة سميت بالجماعة المحاربة الجديدة Nova Militia، ووضعت لها نظم كنظم فرسان قلعة رباح، وشعارها الجهاد من أجل الدين المسيحي، وألا يدخروا وسعاً في مقاتلة المسلمين، وألا يتزوجوا، وعين دون بيدرو أخو الملك، أول أستاذ أعظم للجماعة. ولما نجحت هذه الجماعة في سنة 1166 م، في الاستيلاء على يابُرة من أيدي المسلمين بقيادة الفارس المغامر جيرالدو الباسل (سمبافور)، سموا " بفرسان يابرة ". ثم سموا فيما بعد " بفرسان آفيس " وذلك حينما منحهم الملك ألفونسو الثاني القلعة المسماة بهذا الاسم في سنة 1211 م. ويعرف الملك ألفونسو هنريكيز، منشىء مملكة البرتغال، في الرواية العربية بصاحب قلمرية أو قلنبرية (¬1)، إذ كانت قلمرية في البداية عاصمة البرتغال، ويعرف كذلك بابن الرنق وابن الرنك أو ابن الريق (¬2) أعني ابن هنري أو إنريكي (وهنريكيز معناها ابن هنري، وهو هنري البرجوني والد ألفونسو). ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء من 200. (¬2) تختلف الروايات العربية في تسمية ألفونسو هنريكيز. ويجمع معظمها على تسميته بابن الرنك (راجع كتاب أخبار المهدي بن تومرت ص 127، وابن خلدون ج 6 ص 239، والبيان المغرب " القسم الثالث " ص 78) ويسميه ابن صاحب الصلاة كذلك بابن الرنك أو أدفونش الرنك (مخطوط المن بالإمامة لوحة 117 أ) وتسميه بعض الروايات الأخرى " بابن الريق " (راجع الحلة السيراء ص 200، ورسائل موحدية - الرسالة الرابعة والثلاثون - ص 223 و 225 و 227).

وثائق مرابطية وموحّدية

1 رسالة الإمام الغزالي إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين (منقولة عن المخطوط رقم 1275 ك (الكتانية) المحفوظ بخزانة الرباط وعنوانه " مجموع أوله كتاب الأنساب " لوحة 130 - 133). الأمير جامع كلمة المسلمين، وناصر الدين، أمير المؤمنين أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، الداعي لأيامه بالخير، محمد بن محمد بن محمد الغزالي، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين وساير النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليومٌ من سلطان عادل، خير من عبادة سبعين سنة. وقال صلى الله عليه وسلم، ما من والى عشرة إلا ويؤتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه، أوبقه جوره أو طلقه عدله. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، وعدل الإمام العادل أولهم، ونحن نرجو أن يكون الأمير جامع كلمة الإسلام، وناصر الدين، ظهير أمير المؤمنين، من المستظلين بظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله، فإنه منصب لا ينال إلا بالعدل في السلطنة، وقد آتاه الله السلطان، وزينه بالعدل والإحسان. ولقد استطارت في الآفاق محامد سيره، ومحاسن أخلاقه على الإجمال، حتى ورد الشيخ الفقيه الوجيه أبو محمد عبد الله بن عمر بن العربي الأندلسي، حرس الله توفيقه، فأورد من شرح ذلك وتفصيله، ما عطر به أرجاء العراق، فإنه لما وصل إلى مدينة السلام، وحضرة الخلافة، لم يزل يطنب في ذكر ما كان عليه المسلمون في جزيرة الأندلس من الذل والصغار، والحرب والاستصغار، بسبب استيلاء أهل الشرك، وامتداد أيديهم إلى أهل الإسلام بالسبي والقتل والنهب، وتطرقهم إلى اهتضام أهل الإسلام، بما حدث بينهم من تفرق الكلمة، واختلاف آراء الثوار المحاولين للاستبداد بالإمارة، وتقاتلهم على ذلك، حتى اختطف من بينهم حماة الرجال، بطول القتال والمحاربة والمنافسة، وإفضاء الأمر بهم إلى الاستنجاد بالنصارى حرصاً على الانتقام، إلى أن أوطنوهم

بيضة الإسلام، وكشفوا إليهم الأسرار، حتى أشرفوا على التهايم والأغوار، فرتبوا عليهم الجزا، وجزوهم بشر الحزا. ولما استنفدوا من عندهم الأموال، أخذوا في نهب المناهل، وتحصيل المعاقل، واستصرخ المسلمون عند ذلك بالأمير ناصر الدين، وجامع كلمة المسلمين، ظهير أمير المؤمنين، ابن عم سيد المرسلين، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين، واستصرخه معهم بعض الثوار المذكورين ... عن مداراة المشركين، فلبا دعوتهم، وأسرع نصرتهم، وأجاز البحر بنفسه ورجاله وماله، وجاهد بالله حق جهاده، ومنحه الله تعالى استيصال شأفة المشركين، والإفراج عن حوزة المسلمين، جزاه الله تعالى أفضل جزاء المحسنين، وأمده بالنصر والتمكين، وذكر متابعته العدوة إلى جهة أخرى بعد ثلاثة أعوام من هذه الغزوة المشهورة، وقتل كل من ظهر من النصارى بالجزيرة المذكورة، من الخارجين لإمداد ملوكها على عادتهم، أو من سراياهم في أي جهة يمموا من جهات المسلمين، وقذف الله الرعب في قلوب المشركين، حتى أغناه ذلك عن جر العساكر والجنود، وعقد الألوية والبنود، وذكر أن أولايك الثوار، لما أيقنوا قوة الأمير ناصر الدين، وغلبته لحزب المشركين، وسألهم رفع المظالم عن المسلمين، التي كانت مرتبة عليهم، بجزية المشركين، وإمدادهم بها لهم، مدارات لبقاء إمرتهم، عادوا إلى ممالأة المشركين، وألقوا إليهم القول في جهة الأمير، وجرءوهم على لقايه، وصح ذلك عنده وعند المسلمين. فسأله المسلمون عند ذلك إنزال هؤلاء الثوار عن البلاد، وتداركها ومن فيها من المسلمين قبل أن يسري الفساد، ففعل ذلك. ولما تملكها، رفع المظالم، وأظهر فيها من الدين المعالم، وبدد المفسدين، واستبدل بهم الصالحين، ورتب الجهاد، وقطع مراد الفساد، ثم أضاف إلى ذكر ذلك، ما شاهده من تلك السجية الكريمة في إكرام أهل العلم، وتوقيره لهم، وتنزيهه باسمهم، واتباعه لما يفتون إليه من أحكام الله تعالى وأوامره ونواهيه، وحمله عماله على السمع والطاعة لهم، وتزيين منابر المملكة الجديدة والقديمة بالخطبة لأمير المؤمنين، أعز الله أنصاره، وإلزامه للمسلمين البيعة، وكانوا من قبل منكفين عن البيعة، والندا بشعار الخليفة، إلى غير ذلك مما شرحه من عجايب سيرته، ومحاسن أحواله، ومكارم أخلاقه. وكان منصبه في غزارة العلم، ورصانة العقل، ومتانة الدين، يقتضي التصديق له في روايته، والقبول لكل ما يورده من صدق كلمته،

وأن ما أفاضه من هذه الفضايل إلى حضرة الخلافة، أعز الله أنصارها، فوقع ذلك موقع الاحماد، ثم ذكر مع ذلك توقف طايفة من الثوار الباقين في شرق الأندلس، عن مشايعة الأمير ناصر الدين، ومتابعته، وأنهم حالفوا النصارى، واستنجدوا بهم فأعلن المسلمون بالدعاء عليهم، والتبري منهم، ليتوب عليهم أو ليقطع شأفتهم. وكتب هذا الشيخ سؤالا على سبيل الاستفتاء، وافيته فيه بما اقتضاه الحق، وأوجبه الدين، وأعجلني المسير إلى سفر الحجاز، وتركته مشمراً عن ساق الجد، في طلب خطاب شريف من حضرة الخلافة يتضمن شكر صنيع الأمير ناصر الدين في حمايته لثغور المسلمين، ويشتمل على تسليم جميع بلاد المغرب إليه، ليكون رئيسهم، ورؤسم تحت طاعة، وأن من خالف أمره، فقد خالف أمر أمير المؤمنين، ابن سيد المرسلين، ويتعين جهاده على كافة المسلمين. ولم يبالغ أحد في بث مناقب قوم، مبالغة الشيخ الفقيه أبى محمد في بث مناقب الأمير وأشياعه المرابطين. ولقد شاع دعاؤه في المشاهد الكريمة بمكة حرسها الله، لحضرة الأمير وجماعة المرابطين، ولم يقنعه ما فعله بنفسه إلى أن كلف جميع من رجا بركة دعايهم، الدعاء لهم في تلك المشاهد الكريمة والمناسك العظيمة، وأعلن بالدعاء لأمير بلده، الأمير الأجل أبى محمد سير بن أبى بكر، وفقه الله تعالى، وذكر من فضله، وحسن سيرته، وتلطفه بالمسلمين، ورفع جميع النوايب عنهم، ما جهد به إلى النفوس. ولقد دُعي الشيخ الفقيه إلى المقام ببغداد على البر والكرامة، والاتصال بأسباب، يتشرف بها من حضرة الخلافة، فأبا إلا الرجوع إلى ذلك الثغر يلازمه للجهاد مع الأمراء وفقهم الله تعالى، ولو أقام لفاز بالحظ الأوفى من التوقير والإكرام، وما أجدر مثله بأن يوفي حظه من الاحترام، وولده الشيخ الإمام أبو بكر قد أحرز من العلم في وقت تردده إلى ما لم يحرزه غيره مع طول الأمد وذلك لما خص به من ... الذهن، وذكاء الحس، واتقاد القريحة، وما يخرج من العراق، إلا وهو مستقل بنصيبه، حايز قصب السبق بين أقرانه. ومثل هذا الوالد والولد خص بالإكرام في الوطن، وقد تميزا بمزيد التوفيق من الأعيان في الغربة، والله يحفظ من حفظهما، ويرعا من رعاهما، فرعاية أمثالهما، من آداب الدين المعينة على أمير المسلمين، وقد قال المحسنون، فليستوص بمن ظفر بهم منهم خيراً، وكم دخل قبلهما العراق، ويدخل بعدهما من تلك البلاد [النائية] (¬1) ¬_______ (¬1) المخطوط " الثانية ".

وما يذكر محاسنها، ولا يرفع مساويها. وقد انتهى الشيخ الفقيه من ذلك إلى ما لا يمكن أن يلحق فيه ثناؤه، فضلا عن أن يزاد عليه، والله تعالى يعمر بهما أوطانهما، ويصلح شأنهما، ويوفق الأمير ناصر المسلمين، ليتوسل إلى الله تعالى في القيامة بإكرام أهل العلم، فهي أعظم وسيلة عند رب العالمين، ونسأل الله أن يخلد ملك الأمير ويؤيده، تخليداً لا ينقطع، أبد الدهر، ولعل القلوب تنفر عن هذا الدعاء، وتستنكر لملك العباد التأييد والبقاء. وليس كذلك. فإن ملك الدنيا، إذا تزين بالعدل، فهو شبكة الآخرة، فإن السلطان العادل إذا انتقل من الدنيا، انتقل من سرير إلى سرير أعظم منه، ومن ملك إلى ملك أجل وأرفع منه. وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً. ومهمى وفي العدل في الرعية، والنصفة في القضية، فقد خلد ملكه، وأيد سلطانه، وقد وفق له بحمد الله ومنه، والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وآله أجمعين. 2 رسالة كتب بها الوزير الكاتب ابن شرف عن بعض رؤساء الغرب إلى أمير المسلمين رحمه الله في فتح أقليش أعادها الله بقدرته (منقولة من المخطوط رقم 488 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال لوحة 54 أ - 58 ب) أطال الله بقاء أمير المسلمين وناصر الدين، عماد الأنام وعتاد الإسلام، السعيد الأيام، الحميد المقام، كبيري بالقدر، وظهيري على الدهر، الذي أجله بحقه، وأقره بسبقه، وأدام خلوده مؤيد الإرادة، مؤيد السعادة، مجدد النمو والزيادة. والحمد لله الجبار القهار، الذي شد الأزر، وأمد النصر، وأعطى الفلج عن قسر، ففلق عنه يد الماطل، وفرق بين الحق والباطل، والحمد لله الذي أسعد بدولة أمير المسلمين الأيام، ونصر بسيفه الإسلام، وغاظ به الكفار، وجعل عليهم الكرة فولوا الأدبار. والله تعالى يشفع سعوده، ويضمن مزيده، وينصر جنوده بمنه. ولما أن وضعني أمير المسلمين، أدام الله نصره، حيث شاء من آلة التشريف والعز المنيف، وألحقني من النعماء سربالها وأسحبني أذيالها، وصرف

إلى من عدده وبلده ما أولاني نعمه، ووالاني كرمه، حفظت تلك الحرمة، وشكرت لأستزيد من تلك النعمة، وأخذت في الاجتهاد في الجهاد عالقاً بسببه، آخذاً بمذهبه، وهيأت من ماله عندي جيشه الموضوع بيدي، وأجبت داعي الله بأعظم نية على أكرم طية، لعزمة بيمناه رأسها، وعلى تقواه أساسها وأصلها. وسرت عن حاضرة غرناطة حرسها الله في العشر الأواخر من شهر رمضان المعظم بجيش تصم صواهله، وتطم كواهله، راياته خافقة، وعزماته صادقة، ونبراته على ألسنة السعد ناطقة. ومررنا من طاعة أمير المسلمين وناصر الدين، على جهات سمعت منادينا، وتبعت هادينا، وانقادت وراءنا أعداد وأمداد، بروزاً من كمون، وتحركوا عن سكون، وانخنا بثغر بيّاسة، وقد توافد الجمع، وملىء البصر والسمع. وأخذت في الرأي أخمره، والعزم أضمره، والذيل أشمره، وجددت الاستخارة لله تعالى والاستجارة به، وابتهلت إليه داعياً ضارعاً، وعولت في جميع أموري على حكمه خاضعاً متواضعاً. ولحقنا بطرف بلاد العدو أعادها الله، ووطئناها من هنالك، وقد بان عنوان الأهبة، والتأم بنيان الرتبة، وسرنا بجيش يفيض فيضاً، على أرض تغيض غيضاً، ولسيول الخيل إغراق، وليروق البواتر إشراق، وقد نطقت ألسنة الأعنة بقدّام قدّام، وأشرقت كواكب الأسنة في غمام القتام، وسدت الهموات كل نهج وسبيل، واستقلت الرايات عن قبيل فقبيل، وأفضت بنا الخيرة إلى المدينة الحصينة " أقليش " قاعدة القطر وواسطة الصدر، ذات العدد العديد، والسور المشيد، فبدر السابق وشفع اللاحق. وغدونا يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال، فدرنا بها دور الحلقة بنقطها، واكتنفناها اكتناف السبحة بسبطتها، وبهت القوم، واتسع البحر عن العوم، وحاروا وحاموا، حين راموا، وجثنا بكل ضرب من الحرب، نخسف عاليها، وننسف هاويها، ونلزها بالرماح، ونهزها هز الغصن في أيدي الرياح، حتى فض الختام، وعض منهم الإبهام، وعجل الله بالنصر وفتحها بالقسر، ونفخ في صورهم، ودارت دائرة السوء بدورهم، ومحقتهم السيوف محق الربا، وأذرتهم ريح النصر فصاروا هبا، وبطحوا بطح زرع الحصيد، وبسطوا بسط كلب الوصيد، وأخذتهم فجأتنا أخدة، ونبذت بهم سطوتنا نبذة، فخروا إلى الأذقان، وسيقوا إلى الموت والإذعان، فما كدنا ننزل حتى كدنا ذلك المنزل، وما أنخنا حتى رضخنا،

ولا وصلنا إليه حتى حصلنا عليه، فوردنا ما أردنا. ولما استحر فيهم القتل، واجتث منهم الأصل، وضاق بهم المزدحم، وغص ذلك الملتحم، قصر الوقت المبغت، وشغل الأخيذ عن المفلت، وألهي الكثير عن من قل، ونام الجم الغفير عن الفل، وعادت بقاياهم بقصبة المدينة فولجوها، كما يلج العصفور، ويقوم العثور، قد غلقوا الأبواب، وأسدلوا الحجاب، ونحن نصل الجد، ونوحر لأفل غرب، ولا ملت حرب، نجتث الجراثم، ونحتز الغلاصم، ونخرب الديار وبنيانها، ونهدم البيع وصلبانها، ونتتاحفوا بهدايا السبابا، ونتكاشفوا عن بقايا الخبايا، ونصرحوا بنيانا صدعته الحتوف، وغلبته السيوف فلأطلاله هدم وعلى رسومه ردم، حتى علا على الشرك الإيمان، وبدل الناقوس بالأذان، وزحزحت الهياكل عن موضعها، وطرحت النواقيس عن بيعها، ولاذ بنا من هنالك من المسلمين عائذين بنا مستسلمين لنا، فناشدونا بالملة وحرمتها، وكشفوا لنا عن الخلة وسدتها، وفروا من الحملة إلى الحملة، فأوينا شاردهم، وأقمنا قاعدهم، فانجابت كربتهم، وعادت بعد البوار ومجاوبة الكفار بشرِّ دار ملتهم، وأنار لهم الإسلام على منار الإيمان المجدد، واشتهر فيهم التوحيد اشتهار الحسام المجرد، وكشف الدين عن مضمره، وخطب الحق المبين على منبره، وأقمنا بقية يومنا على ذلك إلى أن خام النهار، وحان من الشمس الاصفرار، فعند ذلك أرحنا البواتر، وغيضت تلك الدماء الهوامر، وغداً الخميس في الخميس، مبنياً على ذلك التأسيس، يجر أذيال الظفر في العدد الأوفر، يشفع الأوالي بالتوالي، ويشتري العوالي بالعوالي، فأصبحنا في عز وأنس، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم كأن لم يغنوا بالأمس، وتضامت تلك العصبة إلى تلك القصبة، والقوم في السجن والحصر، والحصن كالواحد في العالم، والأصبع في الخاتم، والمحصور مأسور، وصاحب الحائط مقهور، ولم نزل نوسعهم قتالا، ونوسعهم ضراً ونكالا مسافة اليوم، إلى أن جزر النهار مده، وبت الليل جنده، فعدنا إلى محلتنا، وقد أمل الكالّ أينه، وغلبت الساهر عينه، وكنت لم آل احتراساً للمحلة بطلائع تحرس جهاتها، وتدرأ آفاتها، وفي القدر ما يسبق النذر، ويفوت الحذر، لاكن كفاية الله خير من توقينا. وكان الطاغية زاده الله ذلا، قد حشد أقطاره وحشر أنصاره، وأبعد في الاستصراخ مضماره، وعبأ جيشاً قد أسرا إلى ذمر، وانطوى على

غمر، فأقدم وصمَّم، وبئس ما تيمم، فاستسلمت جماعتهم على ابن الطاغية أذفونش، وشيخهم وزعيم فرسانهم غرسية أرذونش، وصاحب شوكتهم ألبر هانس، والقمط بقبدره وقواد بلاد طليطلة وصاحب " قلعة النسور " و" قلعة عبد السلام "، وكل قاص ودان، وعاجل ووان، أخزى الله جميعهم، وطلّ نجيعهم، ولا أقام صريعهم. وهذا دعاء لو سكتُّ لكفيتُه ... لأني سألت الله ربي وقد فعل وطرقوا من طرف مجتمعهم يريدون الغرة، ويظهرون صلفاً تحت الغرة، وتقدموا فتندموا، ودنوا فهووا، ووصلوا فحصلوا، وأرسل الله تعالى من جنده فتى كانوا قد سبوه صغيراً واقتنوه أسيراً، ولله تعالى فيه خبأة أعدها من عنده، وبعثها من جنده، ونزع الفتى إلينا من معسكرهم منبئاً بهم دالا عليهم، وكاشفاً بهم على النبأ العظيم، ومطلعاً منهم على المقعد المقيم، فعند ذلك ثارت ثائرتنا، ودارت على مركز التوفيق دائرتنا، وقام القاعد، وأشار البنان والساعد، وتضام القريب والمتباعد، والليل قد هدأ، والصبح قد بدأ، والدياجير ممدودة السرادق، مجموعة الفيالق، ولا جار إلا الغاسق، ولا مار إلا السما والطارق، وكنت قد استدنيت القائدين المجربين، ذوي النصيحة والآراء الصحيحة، أبا عبد الله محمد بن عائشة، وأبا محمد عبد الله بن فاطمة وليّيّ أعزهما الله، فجالا في مضمار وساع واضطلاع، بذرع وذراع، فاجتمعنا على كلمة الله متعاقدين، وخضعنا إلى حكمه مستسلمين، فعند ذلك حل يده المجتبي، وقيل يا خيل الله اركبي، فعادت الآراء بالرايات، وحكمت النهي في النهايات، والأسنة تجول في آمادها، والنصول تصول في أغمادها. وثرنا كما ثار الشهم بفرصته، وطار السهم لفوضته، وأمرت رجالا بلزوم المحلة، فسدوا فرج أبوابها، ولاذوا بأوتادها وأسبابها، فداروا كما دور السوار، وانتظموها انتظام الأسوار، قد شرعوا الأسنة من أطرافها، وأجالوا البواتر في أكنافها، وأضاقوا الأفنية، وقاربوا بين الأخبية. وعبأنا الجيش يمناه ويسراه، وصدره ولهاه، وساقته وأولاه، ونهضنا بجملتنا من محلتنا، والصبر يفرغ علينا لامه، والنصر يبلغ إلينا سلامه، وتوجهنا إلى الله نقتفي سبيله، ونبتغي دليله، فما رفع الفجر من مُجابه، ولا كشر الصبح عن نابه، حتى ارتفعت ألوية الدين سامية الأعلام، واتسعت أقضية المسلمين ماضية الأحكام، وقيض الليل خمسه، وفضح الصبح نفسه، ولسن السنان لمعان،

ولشباب العراك ريعان، ولأنفاق الإعلام ضراب أو طعان. وعند ذلك نجم " العجم " في سواد الليل وإزباد السيل، يهبطون إلى داعيهم، ويهرعون إلى ناعيهم، في دروع كالبواري، ورماح كالصواري، كأنما شجروا باللديد، وسجنوا في الحديد، يزحفون والحين يعجلهم، ويركبون والحتف يزحلهم، يتلمظون تلمظ الحيات، قد تحالفوا أن لا يتخالفوا، وتبايعوا أن يتشايعوا، ووصلوا إلى مقدمتنا، وكان هناك القائد " أبو عبد الله محمد بن أبي زنغي " مع جماعة، فصدمهم العدر بصدور غِرّة وقلوب أشرة، فانحوا بكلكل ورموا بجندل، وشدوا فما ردوا، وصادروا فما صدوا، وتقهقر القائد " أبو عبد الله " غير مول، وتراجع غير مخل إلى أن اشتد منا بطود، وزحم من جيشنا بعود. فتراءى الجمعان، وتدانا العسكران، وأمسكنا ولا جبن، ووقفنا والأناة يمن، فعند ذلك ثار النصر فمد يمناه، وأناط الصبر فأشرق محياه، ونزلت السكينة، وأخلصت القلوب المستكينة، واهتزت الفيالق مائجة، وهدرت الشقائق هائجة، وجحظت العيون غضباً، وطلبت البواتر سبباً، وأذن الحديد بالجلاد، وبرزت السيوف عن الأغماد، وتصاهلت الخيول، وتصاولت القيول، فعند ذلك تواقف القوم كوقفة العير، بين الورد والصدر، فبرز فارس من العرب، فطعن فارساً منهم فأذراه من مركبه، ورماه بين يدي موكبه، فانتهج، ما أرتج، وانفتح المبهم، وأفصح المعجم، فعند ذلك اختلطت الخيل، بل سال السيل، وأظلم الليل، واعتنقت الفرسان، واندقت الخرصان، ودجا ليل القتام، وضاق مجال الجيش اللهام، واختلط الحسام بالأجسام، والأرماح بالأشباح، ودارت رحى الحرب تغر بنكالها، وثارت ثائرة الطعن والضرب تفتك بأبطالها، فلثغر الصدور ابتراد، ولجزم القلوب انتهاد، فما وضح النهار، ولا مسح الغبار، حتى خضعت منهم الرقاب، وقبلت رؤوسم التراب، واتصل الهلك بالشرك، وعادت الضالة إلى الملك، وقلم ظافر الكفر، وطالت إيمان الإيمان، وفر الصليب سليباً، وعجم عود الإسلام فكان طيباً، وغمرهم الحيف فهمدوا، واطفأهم الحين فخمدوا، ومات جلهم بل كلهم، وما نجا إلا أقلهم، وحانوا فبانوا، وقيل كانوا، وكشفت الهبوات، وأنجلت تلك الهنات، عن رسوم جسوم قد قصفتها البواتر، ووطئتها الحوافر، خاضعة الخدود، عاثرة الجدود، وأخذت ساقتنا في الطلب، وضم السلب إلى السلب. وملئت الأيدي بنيل وافي الكيل،

خيلا وبغالا وسلاحاً ومالا، ودروعاً، أكلّهم حملها، وأثقلهم جملها، فساءت ملبساً وصارت محبساً، فطرحوها كأنهم منحوها، وألقوها كأنهم أعطوها، احتزناها نهباً، وأخذناها كأن لم تكن غصباً، لقطة ولا نكر، وعطية ولغيرهم شكر، ثم أمرت بجمع الرؤوس، فاحتزت الدانية وزهد في جمع النائية، فكان مبلغها نيفاً على ثلاثة آلاف منهم غرسية أرذونش والقومط وقواد بلاد طليطلة، وأكابر منهم لم يكمل الآن البحث عنهم، وكانت كالهضب الجسيم، بل الطود العظيم، وأذن عليها المؤذنون، يوحدون الله ويكبرون، فلما جاء نصر الله، ووهب لنا فتح الله، شكرنا مولى النعم ومُسديها، ومُعيد المنن ومُهديها، وصدرت غانماً، وأبت سالماً، وبقى القائدان محاصرين لحصن أقليش آخذين بمخنّقهم، مستولين على رمقهم. فخاطبت أمير المسلمين أدام الله سروره، ووصل حبوره، معلماً بالأمر، مهنياً بالنصر، لنحمد الله عز وجل، على ما وهب، ونشكره على ما سنى وسبب، والله يتكفل بالمزيد ويشفع القديم بالجديد، ويمن بالظفر والتأييد، فهو ولي الامتنان، والملبي الفضل والإحسان، لا رب غيره ولا معبود سواه. 3 رسالة كتب بها قاضي سرقسطة والجمهور فيها إلى الأمير أبى الطاهر تميم بن يوسف بن تاشفين حين حاصرها ابن رذمير واستغلبها أعادها الله (منقولة عن المخطوط رقم 488 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال لوحة 55 أ - 61 ب). من ملتزمي طاعة سلطانه، ومستنجديه على أعداء الله، ثابت بن عبد الله، وجماعة سرقسطة من الجمل فيها من عباد الله. أطال الله بقاء الأمير الأجل، الرفيع القدر والمحل، لحرم الإسلام يمنعه، ومن كرب عظيم على المسلمين، يزيحه عنهم ويدفعه. كتابنا أيدك الله بتقواه، ووفقك لاشترا دار حسناه، بمجاهدة عداه، يوم الثلاثاء السابع عشر من الشهر المبارك شعبان، عن حال قد عظم بلاؤها، وادلهمت ضراؤها، فنحن في كرب عظيم، وجهد أليم، قد حل العزا والخطب،

وأظلنا الهلاك والعطب، فياغوثاه، ثم ياغوثاه إلى الله، دعوة من دعاه، وأمله لدفع الضرر ورجاه، سبحانه المرجو عند الشدائد، الجميل الكرم والعوايد، ويالله، وياللإسلام، لقد انتهك حماه، وفضت عراه، وبلغ المأمول من بيضته عداه، ويا حسرتا على حضرة قد أشفت على شفي الهلاك، طالما عمرت بالإيمان، وازدهت بإقامة الصلوات وتلاوة القرآن، ترجع مراتع للصلبان، ومشاهد ذميمة لعبدة الأوثان، ويا ويلاه على مسجد جامعها المكرم، وقد كان مأنوساً بتلاوة القرآن المعظم، تطؤه الكفرة الفساق بذميم أقدامها، ويؤملون أن يدنسوه بقبيح آثامها، ويعمروه بعبادة أصنامها، ويتخذوه معاطن لخنازيرها، ومواطن لخماراتها ومواخيرها، تم يا حسرتاه على نسوة مكنونات عذارى، يعدن في أوثاق الأسارى، وعلى رجال أضحوا حيارى، بل هم سكارى، وما هم بسكارى، ولاكن الكرب الذي دهمهم شديد، والضر الذي مسهم عظيم جهيد، من حذرهم على بنيات قد كن من الستر نجيان الوجوه، أن يروا فيهن السوء والمكروه، وقد كن لا يبدون للنظار، فالآن حان أن يبرزن إلى الكفار، وعلى صبية أطفال قد كانوا نشئوا في حجور الإيمان، يصيرون في عبيد الأوثان، أهل الكفر وأصحاب الشيطان، فما ظنك أيها الأمير بمن يلوذ به بعد الله الجمهور، بأمة هي وقايد هذه العظام الفادحة، والنوائب الكالحة، هو المطالب بدمايها، إذا أسلمها في آخر ذمايها، وتركها أغراضاً لأعدايها، حين أحجم عن لقايها، فإلى الله بك المشتكا، ثم إلى رسوله المصطفى، ثم إلى ولي عهده أمير المسلمين المرتضي، حين ابتعثك بأجناده، وأمدك بالجم الغفير من أعداده، نادباً لك، إلى مقارعة العدو المحاصر لها وجهاده، والذب عن أوليائه المعتصمين بحبل طاعته، والمتحملين السبعة الأشهر الشدايد الهايلة في جنب موالاته ومشايعته، من أمة قد نهكهم ألم الجوع، وبلغ المدى بهم من الضر الوجيع، قد برح بهم الحصار، وقعدت عن نصرتهم الأنصار، فترى الأطفال بل الرجال جوّعاً يجرون، يلوذون برحمة الله ويستغيثون، ويتمنون مقدمك بل يتضرعون، حتى كأنك قلت أخسئوا فيها ولا تكلمون. وما كان إلا أن وصلت وصل الله برك بتقواه، على مقربة من هذه الحضرة، ونحن نأمل منك بحول الله أسباب النصرة، بتلك العساكر التي أقر العيون بهاؤها، وسر النفوس زهاؤها، فسرعان ما انثنيت وما انتهيت، وارعويت، وما أدنيت، خايباً عن اللقاء، ناكصاً على عقبيك عن الأعداء.

فما أوليتنا غناء، بل زدتنا بلاء وعلى الداء داء، بل أدواء، وتناهت بنا الحال جهداً والتواء، بل أذللت الإسلام والمسلمين، واجترأت فضيحة الدنيا والدين، فيالله ويا للإسلام، لقد اهتضم حرمه وحماه أشد الاهتضام، إذ أحجمت أنصاره عن إعزازه أقبح الإحجام، ونكصت عن لقاء عدوه وهو في فئة قليلة، ولمة رذيلة، وطايفة كليلة، يستنصر بالصلبان، والأصنام، وأنتم تستنصرون بشعار الإسلام، وكلمة الله هي العليا ويده الطولا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وإن من وهن الإيمان، وأشد الضعف، الفرار عن الضِّعف، فكيف عن أقل من النصف، فيا قبح من رضى بالصغار وسما خطة الخسف، فما هذا الجبن والفزع، وما هذا الهلع والجزع، بل ما هذا العار. والضيع، أتحسبون يا معشر المرابطين، وإخواننا في ذات الله المؤمنين، إن سبق على سرقسطة القدر، بما يتوقع منه المكروه والحذر، أنكم تبلغون بعدها ريقاً، وتجدون في ساير بلاد الأندلس عصمها الله، مسلكاً من النجاة أو طريقاً، كلا والله ليسومنكم الكفار عنها جلاء وفراراً، وليخرجنّكم منها داراً فداراً، فسرقسطة حرسها الله، هي السد الذي إن فتق، فتقت بعده أسداد، والبلد الذي إن استبيح لأعداء الله، استبيحت له أقطار وبلاد، فالآن أيها الأمير الأجل، هذه أبواب الجنة قد فتحت، وأعلام الفتح قد طلعت، فالمنية ولا الدنية، والنار ولا العار، فأين النفوس الأبية، وأين الأنفة والحمية، وأين الهمم المرابطية، فلتقدح عن زنادها بانتضاء حدها، وامتضاء جدها واجتهادها، وملاقاة أعداء الله وجهادها، فإن حزب الله هم الغالبون، وقد ضمن تعالى لمن يجاهد في سبيله أن ينصره، ولمن حامى عن دينه أن يؤيده ويظهره، فما هذا أيها الأمير الأجل، ألا ترغب في رضوانه، واشترا جنانه، بمقارعة حزب شيطانه، والدفاع عن أهل إيمانه، فاستعن بالله على عدوه وحربه، واعمد ببصيرة في ذات الله إلى إخوان الشيطان وحزبه، فإنهم أغراض للمنايا والحتوف، ونهر للرماح والسيوف، ولا ترض بخطة العار، وسوء الذكر والصيت في جميع الأمصار. ولا تك كمن قيل فيه: يجمع الجيش ذا الألوف ويغزوا ... ولا يرزأ من العدو فتيلا ولن يسعك عند الله، ولا عند مؤمن، عذر في التأخر والارعواء عن مناجزة الكفار والأعداء. وكتابنا هذا أيها الأمير الأجل، اعتذار تقوم لنا به الحجة في جميع البلاد، وعند ساير العباد، في إسلامكم إيانا، إلى أهل الكفر والإلحاد،

ونحن مؤمنون، بل موقنون إجابتك إلى نصرتنا، وإعدادك إلى الدفاع عن حضرتنا، وأنك لا تتأخر عن تلبية نداينا، ودعاينا إلى استنقاذنا من أيدي أعدائنا، فدفاعك إنما هو في ذات الله، وعن كَلِمه، ومحاماة عن الإسلام وحزبه، فذلك الفخر الأنبل لك في الأخرى والدنيا، ومورثٌ لك عند الله المنزلة العليا، فكم تحيى من أمم، وتجلى من كروب وغمم، وان تكون منك الأخرى، وهي الأبعد عن متانة دينك، وصحة يقينك، فاقبل بعسكرك على مقربة من سرقسطة، ْعصمها الله، ليخرج الجميع عنها، ويبرأ إلى العدو وقمه الله منها، ولا تتأخر كيفما كان طرفة عين، فالأمر أضيق، والحال أزهق، فعدِّ بنا عن المطل والتسويف، قبل وقوع المكروه والمخوف، وإلا فأنتم المطالبون عند الله بدماينا وأموالنا، والمسئولون عن صبيتنا وأطفالنا، لإحجامكم عن أعداينا، وتثبطكم عن إجابة نداينا، وهذه حال نعيذك أيها الأمير عنها، فإنها تحملك من العار ما لم تحمله أحداً، وتورثك وجميع المرابطين الخزى أبدا، فالله الله أتقوه، وأيدوا دينه وانصروه، فقد تعين عليكم جهاد الكفار، والذب عن الحرم والديار، قال الله، يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة الآية، ومهما تأخرتم عن نصرتنا، فالله ولي الثار لنا منكم، ورب الانتقام، وقد بريتم بإسلامنا للأعداء، من نصر الإسلام، وعند الله لنا لطف خفي، ومن رحمته ينزل الصنع الخفي، ويغنينا الله عنكم، وهو الحميد الغني. ومن متحملي كتابنا هذا، وهم ثقاتنا تقف من كنه حالنا على ما لم يتضمنه الخطاب، ولا استوعبه الإطناب بمنه، وله أتم الطول في الاصغاء إليهم واقتضاء ما لديهم، ان شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. 4 رسالة كتب بها أمير المسلمين إلى الأمير الأجل أبى محمد بن أبى بكر بهزيمة " القلعة " رحمهما الله (منقولة عن المخطوط 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 71 ب - 72 أ). كتابنا وفق الله رأيك وحسن هديك، ولا أمال عن الهدى والرشد سعيك. من حضرة مراكش حرسها الله في السابع من شعبان المكرم سنة ثلث وعشرين

وخمس مائة. وقبله وافى كتابك تذكر فيه المثيلة التي كانت للعدو- دمره الله - عليك في اليوم الذي واجهتموه فيه، بعد ان كان لكم صدره، وأتيح لكم نصره، فأواخر الأمور أبدا أوكد وأهم، والعواقب هي التي تحمد أو تذم، وإذا حسنت خواتم الأعمال فالصنع أبْها وأتم، وإن لسان العذر لتلك الحال لقصير، وإن الله على ذلك المشهد المضيع لمطلع بصير: توافقتم مع عدوكم، وأنتم أوفر منه عدة وأكثر جمعاً، وأحرى أن تكونوا أشد عن حريمكم منعاً، وأقوى دونه دفعاً، فثبت وزللتم، وجدّ ونكلتم، وشد عقد عزيمته وحللتم، وكنتم في تلك الوقعة قرة عين الحاسد، وشماتة العدو الراصد، وقد كانت نصبة توليكم بين يديه بشيعة هائلة، ودعامتكم لولا إنثناؤه عنكم ماثلة، فشغله عنكم من غررتموه من الرّجل الذي أسلمتموه للقتل، وفررتم، ونصبتموهم دريئة للرمح ثم طرتم، ولولا مكان من أوردتموه من المسلمين ولم تصدروه، وخذلتموه من المجاهدين ولم تنصروه، لانكشف دون ذلك الرماح جنتكم ووقاؤكم، وأصيبت بها ظهوركم وأقفاؤكم، عاقبكم الله بما أنتم أهله، فأنتم أشجع الناس أقفاء وظهوراً، وأجبنهم وجوهاً ونحوراً، ليس منكم من تدفع به كريهة، ولا عندكم في الرشد روية ولا بديهية، فمتى وأي وقت تفلحون، ولأي شىء بعد ذلك تصلحون؟ ونحمد الله عز وجهه كثيراً، فقد دفع بفضله الأهم الأكبر، وأجرى بأكثر السلامة القدر. فاكشفوا بعد أغطية أبصاركم، وقصروا حبل اغتراركم، وألبسوا منه جنة حذاركم، واعلموا أن وراء مجازاتنا إياكم جزاء توفونه، ويوماً عصيباً تلقونه، فكونوا بعد هذه الهناة لداعي الرشد بين مطيع وسامع، ومن كلمة الاتفاق والتآلف على أمر جامع، فإنكم لو خلصت غيوبكم، وحسنت سريرتكم، واطمأنت على التقوى قلوبكم، لظهر أمركم وعلا جدكم، ولما ذهب ريحكم ولا فل حدكم، فتوخوا في سبيل الله وطاعته أخلص النيات، وأصدق العزمات، واثبتوا أحسن الثبات، وكونوا من الحذر والتقوى على مثل ليلة البيات. وقد ذُكر أن للعدو دمره الله مدداً يأتيه من خلفه، والله يقطع به، فلتضعوا على مسالكه عيوناً تكلأ، ولتكن آذانكم مصيغة لما يطرأ، فإن كان له مدد كما ذكر، قطعتم به السبيل دون لحاقه، وأقمتم الحزم على ساقه، والله تعالى يفتح لكم فيهم الأبواب، ويأخذ بأزمتكم إلى الصواب، إنه الحميد المجيد، لا إله غيره.

5 رسالة وله (أي لأمير المسلمين) إلى الفقيه القاضي وسائر الفقهاء والوزراء والأعيان والكافة ببلنسية عند نزول ابن رذمير عليها (منقولة عن المخطوط رقم 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 72 - 73 أ). كتابنا أبقاكم الله، وأمدكم بتقواه، ووفقكم لما يرضاه، ولا أخلاكم من لطايف رضاه، وعوارف نعماه، من حضرة مراكش حرسها الله، لسبع خلون من شعبان المكرم سنة ثلث وعشرين وخمس مائة. وقد وصل إلينا كتاب الفقيه الخطيب القاضي أبى الحسن منكم أعزه الله بتقواه، مضمناً من ذكر ما بلغه الوجل من نفوسكم، ما لا نزال نتوخاً بحسبه ان شاء الله ما يفي بترفيهكم وتأنيسكم، فلا يذهبن بكم الجزع لما كان من انكشاف المسلمين هناك عن مراكزهم، وتصييرهم ما صيروه من محلتهم، فرصة لمناهزتهم، وانهزامهم بغير سبب سوى تخاذلهم المعتاد، مع ما كانوا عليه من تكاثر الأعداد، وتظاهر الأجناد، فحسبناهم جميعاً وقلوبهم شتى، ولشد ما وعظناهم في ذلك وذكرناهم، فما نجعت فيهم الموعظة، ولا نفعتهم الذكرى. وبعد فإنا لا ندعكم بحول الله لضياع، ولا نألوكم إلا اهتبالا يذهب بمشيئة الله ما نالكم من توقع وارتياع، فطيبوا أنفساً، واطمئنوا قلوباً، والله يجعل من دون ما توقعتموه فتحاً قريباً، إنه هو الفتاح العليم المنان الكريم، لا رب غيره. واعلموا أنه قد نفذت الآن كتبنا ثانية، إلى ولاة أعمالنا كلأهم الله وإياها، نأمرهم بتسريب الأقوات، وتعجيل إنفادها نحوكم من كل الجهات، وسيرد عليكم منها الكثير الموفور لأقرب الأوقات، ثم لا تزالون من بالنا بأحق مكان من المراعاة والمحاماة، ان شاء الله تعالى، وهو سبحانه يوفقنا لصالح نتوخاه من لم شعثكم، وسد خللكم، وإذهاب مكترثكم، وحسم عللكم، ويقضي بما يضم نشرهم، ويشد أزرهم، ويصلح أمرهم، ويسد ثغرهم، ويحفظ الألفة عليهم، ويربي النعمة لديهم برحمته، وتبلغوا أبقاكم الله سلاماً كثيراً أثيراً خطيراً موفوراً.

6 رسالة وله (أي لأمير المسلمين) إلى المذكورين مجاوباً لهم بهزيمة ابن رذمير إياهم في " القلاعة " (منقولة عن المخطوط رقم 488 إسكوريال السابق ذكره لوحة 73 ب). كتابنا أبقاكم الله وأكرمكم بتقواه، وكنفكم بعصمته وجعلكم في حماه، وأسبغ عليكم عوارفه ونعماه، من حضرة مراكش حرسها الله في الحادي عشر من شعبان المكرم من سنة ثلث وعشرين وخمس مائة، غب ما وافانا كتابكم الأثير مضمناً وصف اليوم الذي جرت به خزيه المقادير، فاستعرضناه وتقرر لدينا جميع ما حواه، وفي علمه سبحانه موقع ذلك لدينا وعزازة شأنه علينا، لكن لا مخرج عن القضاء وحكمه، ولا محيد عن القدر وحتمه، ولن يرد حول محتال ما سبق في علمه، وما ألونا، وهو عز وجهه أعدل الشاهدين، جداً وعزماً وكدحاً لإعلاء كلمة الإسلام، وحزماً ببذل الأموال وتخير الرجال، واعتيام الأسلحة والأفراس، والجمع بين الإيحاش والإيناس، في الوعد والوعيد والتخصيص والتأكيد، وعرض الآراء المتخيل فيها السداد، وبلوغ مدة جهاد في منحو والاجتهاد، لو كان العون موجوداً، ولم يكن التعذير ... حاضراً عتيداً، والله يخزى كل خاين ماين بأسخاطه تعالى داين جزاه، ويرد به برد مضمره ورداه، ويوشك مقارضته وارداه بحوله وطوله، وبالله القسم الأعظم لو أمكننا ان نكون لديكم حاضرين، لأسرعنا بذلك مبادرين، ولما ثنانا عن حمايتكم بأنفسنا ثان، ولا قعد بنا عن معالجة نصركم تراخ ولا توان. وقد جددنا الآن أحث نظر، ونحن نردفه بما يكون عليكم ألم وارد، وأسرع منتظر، فلتهدأ ضلوعكم ويسكن مروعكم، فمالنا والله يشهد هم سوى الذياد عنكم والدفاع، والانفراد لذلك والاستجماع، والاجتهاد، والتوفر عليه أتم الاضطلاع، والله عز وجل المعين المنجد، فم يزل يعضد على ما يرضيه ويؤيد، لا إله الا هو.

7 رسالة وجهها أمير المسلمين علي بن يوسف بتقريع قادته وجنده عقب هزيمتهم أمام ابن رذمير (ألفونسو المحارب) في أراضي بلنسية (منقولة عن المخطوط رقم 538 الغزيري المحفوظ بمكتبة الإسكوريال لوحة 13 أ - 13 ب). " من أمير المسلمين وناصر الدين، أما بعد، يا فرقة خَبُثتْ سرايرها، وانتكثت مرايرها، وطايفة انتفخ سحرها، وغاض على حين مرَّة بحرها، فقد آن للنِّعم أن تفارقكم، وللأقدام أن تطأ مفارقكم، حين ركبتموها جلواء عارية، وأصبحتم في ادِّراع عارها أمثالا سواسية، واختلط المرعى منكم بالهمل، فما يتبين الأنقص من الأكمل، فطأطأتم لها رءوس عشايركم، وقضيتم بالفسولة على سايركم. لا جرم أن قد صرتم سمر الندى، والأحاديث المُلِعنة بالغداة والعشي، بما خامركم من الجبن والخور، واستهواكم من لقاء عدوكم بالجانب الأزور، لا تواجهونهم طرفة عين، ولا تعاطونهم حُمَة حين، بل تعطونهم الظهر هنياً مرياً، وتتخذونهم وراءكم ظهرياً، والرماح نحوكم لم تشرع، والخيل لم تسرع، والنفوس في حياض المنية لم تُكرع، فإنكم ثلة ذيابهم وفريسة أنيابهم، قد نعموا في بوسكم، وناهضوكم بلبوسكم، وحاربوكم عاماً على إثر عام، حتى ألزقُوكم، وتركوكم أسلح من حُبارى، وأشرد من نعام. فالآن حين ملأتم أيديهم متاعاً، وواديهم سلاحاً وكراعاً، قد غزوكم في عقركم، وأذاقوكم وبال أمركم، فلذتم بالجدران، وبؤتم بالندامة والخسران. بابغايا بني الأصفر، وسجايا ذوات الدَّلِّ والخفر، أكرهتم زَحَافهم، وكنتم - علم الله - أضعافهم؟ أفما لكم بالمعذرة، وأين؟ وقد فرض الله الواحد منكم بالإثنين، فقال: " إن تكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ". هذا، وعلمتكم العليى، وحلوبتكم الحياة الدينى، ماشئتم من صارم، وطرف ونحض وركايب وسوام، ونضايد وخيام. فيا أسفاً للحق يدمغه الباطل، والحالي يبهره العاطل. لا بالحنيفية تحرّزتم، ولا إلى الحفيظة والإنابة تحيزتم. ليت شعري بماذا تقلدتموها هندية واعتقلتموها سمهرية خطية، وركبتموها جرداً سوابق، وملكتموها مغارب ومشارق؟

ثاوين في غير عدادكم، منتزين على أضدادكم، يؤدون الإتاوة إليكم حين أشرقنموهم بالهوان، وأنتم فيهم غرباء الوجه واليد واللسان، وصيروكم عبيد العصى، ولستم بالأكثرين منهم حصى، بل شرذمة قليل نفعها، كثير نجعها. فيا عجباً لذهولكم، شبانكم وكهولكم، تأكلون تمرها، ولا تَصْلون جمرها، وتذهبون بحلوائها، ولا تصبرون على لأوائها؟ أي بني اللئيمة، وأعيار الهزيمة، إلى م يريعكم الناقد، ويردكم الفارس الواحد: إلى م يريعكم الناقد ... ويردكم الفارس الواحد ألا هل أتاها على نأيها ... بما فضحت قومها غامد تمنيتم مائتي فارس ... فردكم فارس واحد فليت لكم بارتباط الخيول ... ضئاناً لها حالب قاعد ومن لرعاة الإبل بالجد المقبل؟ لقِدماً ما أذهبتم التالد والطارف، وعجباً عجيباً من جذامي المطارف، وأنتم قد قدحتم في ملكنا، وأذِنتم بانتثار سلكنا، فلولا من لدينا من ذويكم، وضراعتهم إلينا فيكم، لألحقناكم عجلا بصحرايكم، وطهرنا الجزيرة من رُحَضايكم، بعد أن نوسعكم عقاباً، ونحدُّ أن لا تلووا على وجه نقاباً. فاللؤم تحت عمايمكم، والوهن والفشل، طي عزايمكم، لاكن ما جبلنا عليه من الأناة، وتوخيناه قدماً من إيقاظ ذوي الملكات، يكفنا عن استيصالكم، ويحملنا على شحذ نصالكم. فاستنسروا يا بغاث الهيجا، واستيئسوا، بعد الرجا، واحذروا حلماً أغضبتموه، ووادياً من الصبر أنضبتموه، وتوقوا صدراً أحرجتموه، وليثاً من أجمته أخرجتموه، وأيم الله نقسم إنذاراً بكم، وإعذاراً لكم، لنوردنّ الفار منكم من الزحف، ما عافه من موارد الحتف، ولنتجاوزنّ السوط إلى السيف، ولنبدلنّ المعدلة فيكم بالحيف، فليعلم المقدم المحجم منكم عن الإقدام، أنه سلم من الحمام إلى الحمام، وتخطى مصرع الأسد الباسل إلى جذع مائل، وشهادة الأبرار إلى مشهد الذل والصغار، كما أن من أصيب منكم في حرب، أو أبلى بطعن أو ضرب، خلفناه في الأهل والولد، وبعناه الأثرة والكرامة يداً بيد، فاختاروا لأنفسكم وأعقابكم، وانضوا ثوب الخزي عن رقابكم، والسلام على من حمى الإسلام. كمل ما كتب به الفقيه الأديب، الكاتب البليغ الأريب ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبى الخصال عن أمير المسلمين ".

8 رسالة لأبى عبد الله بن أبى الخصال عن بعض المرابطين إلى أمير المسلمين علي بن يوسف تتعلق بشئون حصن أرلبة (أوريخا) (منقولة عن المخطوط رقم 519 الغزيري. مكتبة الإسكوريال لوحة 104 ب و 105 أ). " أطال الله بقاء أمير المسلمين وناصر الدين، مؤيداً بجنوده، معاناً بتوفيقه وتسديده، ولا زال عدله ينعش الأمم، وسعده ينهض الهمم. كتبت أدام الله تأييده، من قرطبة حرسها الله، لست بقين من جمادى الآخرة، وقبل بثلاث وافيتها من الوجهة التي صحبني ومن معي فيها يمن أمره، واكتنفتنا عزة نصره، بعد أن أودعنا حصن أرلبة حماه الله، قوتاً موفوراً، ومرفقاً كثيراً، وحطت عندهم الأسعار وعم الاستبشار، وتسلم أبو الخيار مسعود الدليل، سلمه الله، الحصن، واحتوى عليه، وصار أمره إليه، ووافينا فلاناً أبقاه الله، قد استاق غنيمة ظاهرة، وجملة بن البقر وافرة، وقتل من العدو، قصمه الله عدداً، وقضى وطراً، وشفى وجداً، فتيمن الناس هناك، بولاية الأمير أبى يحيى أعزه الله، وبقيادة هذا القائد، الذي اقترن الفتح بمأتاه، وكانت [عند] مقدمنا هذا الحصن خيل طليطلة بددها الله، مجتمعة، فوقذهم الرعب وشملهم الصغار، والرغم، وتحققنا هناك أن مواشي تلك الجبال، قد أخذت في الإ ... نبساط والإسهال، والدنو من الوادي في طلب الخصب، وتحوله من البرد إلى الدفيء، والله يجعلها للمسلمين طعمة، ويزيدهم بها قوة بعزته، وأنباء العدو، قصمه الله، الآن خامدة، وعزايمهم هامدة، وأيديهم جامدة، استأصل الله، بحد أمير المسلمين نعمتهم، وقطف قممهم، وأداخ بلادهم، وانتسف طارفهم وتلادهم، وألفيت الحضرة حرسها الله، وقد أخذ السرور من أهلها كل مأخذ، وسرى فيهم كل مسرى ومنفذ، بولاية الأمير أبى يحيى أعزه الله، وكثر الدعاء لأمير المسلمين أيده الله، بما جدد لديهم من حسن نظر، وخلع عليهم من جمال سيرة، ولقيته فلقيت كل ما أبهج، وكان وفقاً لما انتشر، ومشاكلا لما استذاع وظهر، تمم الله النعمة، وظاهر عليه الكفاية والعصمة، ووافتنى كتبه الكرام بما بلغ الأمل، وحسم العلل، وأنا ممتثل في كل معنى ما يحره مجتهد، فيما يقيم ذلك الثغر ويسده، إن شاء الله عز وجل ".

9 رسالة موجهة من أمير المسلمين تاشفين بن علي بن يوسف إلى الفقهاء والوزراء والأخيار والكافة ببلنسية (منقولة عن المخطوط رقم 538 إسكوريال السابق ذكره لوحة 11 أ - 12 ب). " بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم تسليماً. من أمير المسلمين وناصر الدين تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين. إلى وليه في الله تعالى، الأعز الأكرم الأحظى في ذات الله لديه، أبى زكريا يحيى بن علي، والفقيه القاضي أبى محمد بن جحاف، وساير الفقهاء والوزراء والأخيار والصلحاء، والكافة ببلنسية، حرسها الله، وأدام كرامتهم بتقواه. سلام مبرور كريم، مردد عميم على جميعكم، ورحمت الله وبركاته، وبعد. فإن كتابنا إليكم، كتبكم الله ممن آثر الحق واتبع سننه، وادّرع الحزم ولبس جننه، وسمع القول واتبع أحسنه، وحافظ على كتاب الله الذي يسره للذكرى وبينه، وجعلنا وإياكم ممن جمّله بتقواه وزينه، من مناخنا بكرنطة، في العشر الأول من جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين وخمس مائة، وبحمد الله من صحيفتنا هذه صدرها الأكرم، وكل قول فبعده يترتب ويتنظم. وقد جاء في الآثار: كل كلام لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أجذم. وبعد أن نستوفي واجب الحمد والشكر، ونذكر نعمه السابغة، علينا أجل الذكر، فنسأل الله توفيقاً قايداً إلى الرشد، وقوة على طاعته نحمل بها من تلزمنا رعايته، على المنهج الأفضل والسنن الأحمد، ونستعيذه من قلب لا يخشع ودعاء لا يسمع، وموعظة لا تنفع، وسجية لا تطاع، وهواً يتبع، ونصلي على محمد نبيه ورسوله الذي طهره تطهيراً، وأرسله رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ رسالة ربه وهداه، وصبر على مشقة البلاغ وأذاه، ولم يخش أحداً إلا الله الذي رجاه، إلى أن بلغ الكتاب أجله والدين مداه، وانتهى ملك أمته إلى ما كان الله له زَواه، صلى الله عليه وعلى صحبه الذين ذبوا عن هذا الدين وحموا حماه، ووالوا من والاه، وعادوا من عاداه.

ولما كان، أعزكم الله، الدين ينعت بالنصيحة لله ولرسوله وللمسلمين، والذكرى تنفع المؤمنين، وجب أن نتخذ لكم من الموعظة به أنفسها الذي مُرُّها في العاقبة حلو، وأخفض مراتبها في الله علو، فاعلموا، أعلمكم الله، ولا أقامكم مقاماً يرديكم، أن أقرب الناس إلى الله أحناهم على عباده، وامحضهم للنصيحة لهم بمبلغ جده واجتهاده، وأن أولى الناس بنا من طاب خبره، وكرم أثره، وحسن مورده في الأمور ومصدره، وكذلك " العامل " منكم و " القاضي " وفقهما الله، إنما أقعدا بذلك المكان لخير يتوليانه وشر يردعانه، وعدل يقضيانه، فليقدما أولا تسديد أمرهما، ولينظرا في إصلاح أنفسهما، قبل إصلاح غيرهما، فمن لا يصلح أمر نفسه لا يصلح سواه، ومن لا يسدد أموره لا يسدد أمر من تولاه. وعليكم أجمعين بتقوى الله في السر والإعلان، والتمسك بعصم الإيمان، والاستعانة على حوايجكم بالكتمان، والتنزه عن فلتات اليد واللسان. ولم تخل أمة من جاهل وعليم، ومعوج وقويم، فليردع الجاهلَ العليم، ولينبه المعوجَ القويم، ولن يزال الناس بخير ما لم يتساووا، فإذا تساووا هلكوا. وأهم أموركم الصلاة، التي هي سبيل النجاة لسالكها، ولا حظ في الإسلام لتاركها، فالزموها في جماعاتها، ولا تخلوا بشىء من مسنوناتها، ومفروضاتها، وأخلصوا فيها لله العلي الأكبر، واعلموا أنها كما قال سبحانه " إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ". وعليكم وفقكم الله بإصلاح ذات البين، واعتماد الحق المخلص في الدارين، وتخير الرفقا وانتخاب الجلسا، فإن مثل الجليس كمثل القين، والصاحب الصالح قوة في الدين، وقرة في العين. وانتدبوا واندبوا من قبلكم للجهاد، الذي هو من قواعد الإيمان والرشاد، أمر الرحمن، وفرض على الكفاية والأعيان، واتصال الهدو بفضل الله وللأمان. وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القايم الصايم الذي لا يفتر عن صلاة ولا صيام ". والذي نأخذ به عهد الله على العامل منكم الرفق بالرعية، والحكم بالتسوية، وإجراء أمورها على السبيل الحميدة المرضية، فهي العنصر الذي منه الاستمداد، والأصل

الذي بثبوته تعمر البلاد، وتتوفر الأجناد، ويتمكن الرباط في سبيل الله والجهاد، وليعلم أن العدل يقسطها، والجور يسخطها، وقلة المساواة تشتتها وتقنطها. ولا سبيل أن يستعمل عليها إلا من يستَثَق جانبه وتحسن الأحدوثة عنه. وأن ظهر أحد منهم بنظر جميل فيه، وكان في نفسه ما يخفيه، فالبدار البدار إلى عزله وعقابه والتشديد فيما نأمر به. واعلموا، رحمكم الله، أن مدار الفتيا ومجرى الأحكام والشورى، في الحضر والبُدا، على ما اتفق عليه السلف الصالح، رحمهم الله، من الاقتصار على مذهب ْإمام دار الهجرة أبى عبد الله مالك بن أنس، رضي الله عنه، فلا عدول لقاض ولا مُفت عن مذهبه، ولا يأخذ في تحليل ولا تحريم إلا به، ومن حاد عن رأيه بفتواه، ومال من الأئمة إلى سواه، فقد ركب رأسه واتبع هواه، ومتى عثرتم على كتاب بدعة، أو صاحب بدعة فإياكم وإياه، وخاصة وفقكم الله، كتب أبى حامد الغزالي، فليتتبع أثرها، وليقطع بالحرق المتتابع خبرها، ويبحث عليها، وتغلظ الإيمان من يتهم بكتمانها. والخمر، نزهكم الله عن خبايث الأمور، التي هي جماع الإثم والفجور، والباب المفضي إلى سواكن الفسق والشرور، فاجتهدوا في شأنها، وأوعزوا في جميع جهاتكم بإراقة دنانها، فقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لعن الله الخمر وعاصرها وحاملها والمحمولة إليه ". وكذلك نوكد العهد فيما نوصي به دايباً، مما أوجبه الله تعالى في حقوق المسلمين من الأعشار والزكوات، والأموال المفروضة للأرزاق المسماة، فليؤخذ ما فرض الله منها في نصابها المعلوم، وعلى سنة نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم. وكذلك نوكد عليكم أتم تأكيد أمر أهل الذمة ألا يتصرف أحد منهم في أمور المسلمين، لأنه من فساد الدين. والسلام الأبر الأكرم الأخطر على جميعكم، ورحمة الله وبركاته، وعلى من هناك من المسلمين ". (تمت الرسائل المرابطية)

1 صيغة التوحيد التي وضعها المهدي ابن تومرت لأتباعه توحيد الباري سبحانه (منقولة عن كتاب " أعز ما يطلب " ص 240 و 241) لا إله إلا الذي دلت عليه الموجودات، وشهدت عليه المخلوقات، بأنه جل وعلا، وجب عليه الوجود على الإطلاق، من غير تقييد ولا تخصيص، بزمان ولا مكان، ولا جهة ولا حد، ولا جنس ولا صورة ولا شكل، ولا مقدار ولا هيئة ولا حال، أول لا يتقيد بالقبلية، آخر لا يتقيد بالبعدية، أحد لا يتقيد بالأينية، صمد لا يتقيد بالكيفية، عزيز لا يتقيد بالمثلية، لا تحده الأذهان، ولا تصوره الأوهام، ولا تلحقه الأفكار، ولا تكيفه العقول، لا يتصف بالتحيز والانتقال، ولا يتصف بالتغيير والزوال، ولا يتصف بالجهل والاضطرار، ولا يتصف بالعجز والافتقار، له العظمة والجلال، وله العزة والكمال، وله العلم والاختيار، وله الملك والاقتدار، وله الحياة والبقاء، وله الأسماء الحسنى، واحد في أزليته، ليس معه شىء غيره ولا موجود سواه، لا أرض ولا سماء ولا ماء ولا هواء، ولا خلاء ولا ملاء، ولا نور ولا ظلام، ولا ليل ولا نهار، ولا أنيس ولا حسيس، ولا رز ولا هميس، إلا الواحد القهار، انفرد في الأزل بالوحدانية، والملك والألوهية، ليس معه مدبر في الخلق، ولا شريك في الملك، له الحكم والقضاء، وله الحمد والثناء، ولا دافع لما قضى، ولا مانع لما أعطى، يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه ما يشاء، لا يرجو ثواباً، ولا يخاف عقاباً، ليس فوقه آمر قاهر، ولا مانع زاجر، ليس عليه حق، ولا عليه حكم، فكل منة منه فضل، ومنقمة منه عدل، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.

2 رسالة الخليفة عبد المؤمن بن علي (منقولة عن مخطوط كتاب نظم الجمان لابن القطان لوحة 56 ب - 65 أ). " أمره رضى الله تعالى عنه، بالأمر بالمعروف، ونهيه عن المنكر وعدله ونهجه مناهج الحق وفضله " (له رسالة جامعة لأنواع من الأوامر، خلدت في مآثره السنية، ووصاياه الحكيمة. وهي من إنشاء الكاتب أبى جعفر بن عطية، وهي بعد البسملة والصلاة). من أمير المؤمنين أيده الله تعالى بنصره، وأمده بمعونته، إلى جميع الطلبة الذين بالأندلس، ومن صحبهم من المشيخة، والأعيان والكافة، وفقهم الله تعالى، واستعملهم بما يرضاه. سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد، فالحمد لله، وهو اللطيف الكريم، الرؤوف الرحيم، الذي بعدله قامت السموات والأرض وبه تقوم، وعلى محمد نبيه المصطفى الصلاة المباركة والتسليم، ولأمته المخلصة في عليين كتابها المرقوم، والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، الذي بعثه رحمة للمؤمنين، ينيلهم به الروح والنعيم، ويريهم رحيقها المختوم. وكتابنا هذا - كتب الله تعالى لكم رأفة ورحمة، وسوغكم من اليمن والأمن أنعم نعمة، وجعلنا واياكم فيمن قدم لدار قراره ونعِمّه - من الحضرة العلية بتينملّل حرسها الله تعالى في سادس عشر من شهر ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وقد وصلناها - والحمد لله - وجناح الرحمة منضوض، وطرف المكاره مغضوض، وفيض العدل والبذل منتشر مستفيض، وشأن الظلم - بإذن الله تعالى - مكفوف مقبوض، والحق أبلج لا كناية ولا تعريض. وكان مقصودنا من هذه الوجهة المباركة زيارة قبر المكرم المهدي، رضى الله تعالى عنه، لتجديد عهد به تقادم، وشفاء شوق إليه لزم ولازم، والنظر في بناء مسجده المكرم تمتعاً ببركاته، ورجاء في تضاعف الأمر بكل لبنة من لبناته، وحرصاً على أن يتوافر به، حظ التوفيق وقسمه، ويعلو في الملأ الأعلى ذكره

ورسمه، ورغبة في رفع بيت من أفضل البيوت، التي أمر الله عز وجل أن ترفع، ويذكر فيها اسمه، ولتنعم الجوارح، بمشاهدة هذه المشاهد المنعمة، والمواسم المعظمة، وتتزود بالتطوف على معاهد ما عهدته من العوارف المتممة، كل ذلك غرضاً في ذات الله تعالى غرضه، وأمر يستحب المرء إليه طلب ذلك الخير ويستنهضه. وقد تم - بحمد الله تعالى - هذا الوطر، واقتضى الإياب إلى النظر في المصالح، والرأي الجميل النظر، وتفجرت - بحمد الله تعالى - منابع الخير وفاضت، وعادت روابض الأمر إلى أشرف حالاته وآضت، وانبعثت موارد البركات بعد ما غارت في غير هذا الزمن المذكور وفاضت، ونسأل الله تعالى عوناً على شكر هذه النعم التي عمت ملابسها، ووعت الأفئدة نفائسها، وخاب عن رحماها خاسر الكلمة وبائسها. وان الله تعالى، قد قضى بأن يكون شرف صاحبه به وامتساكه، وبين العدل والجور حياة العالم وهلاكه، فالسعيد من لقي ربه مبرأ من اتباع الهوى سليماً، والشقي من أتى مليماً، باكتساب الكبائر ملوماً، " ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه، وكان الله عليماً حكيماً "، والله سبحانه يهب الرحمة للمسترحمين، ويحب الرفق ويحل به كنفه الأمين، وفي الحض على ذلك يقول وهو أصدق القائلين " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " وبرحمته سبحانه بسط لعباده النعماء، وبرأفته كشف عنهم العماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما يرحم الله من عباده الرحماء. وقد اتصل بنا - وفقكم الله تعالى - أن من لا يتقي الله ولا يخشاه، ولا يراقبه في كبيرة يغشاها وتغشاه، ولا يؤمن بيوم الحساب فيما أذاعه من المنكر وأفشاه، يتسلطون بأهوائهم على الأموال والأبشار، وينتشرون بالقتل بأعراض الدنيا أقبح الانتشار، يستحلون حرمات المسلمين من غير حلها، ويسارعون إلى نقض عقد الشرع وحلها، ويصفون الشدة والغلظة بطراً ورياءً في غير محلها، ويبتدعون من وجوه المظالم ما تضعف شواهق الجبال عن حملها، ويستنبطون من فواحش الآثام ما تذهب نفوس المؤمنين لأجلها، ويتسببون إلى قتل المسلمين، فضلا عن استباحة أموالهم وأعراضهم بتلبسات يسيئونها، ومزورات يضيفونها إليهم وينسبونها، وينظرون إلى اهتضام حق الله تعالى فيهم بأباطيل

يعدونها ظلماً ويحسبونها، ويسعون في استئصال نفوسهم بكل قاطعة موجعة، ويعيثون فيهم بكل غاضبة للقلوب منتزعة، والنبي، صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم يقول: " من قتل عصفوراً بغير حق عبثاً، جاء يوم القيامة وله صراخ عند العرش يقول: يارب سل هذا فيم قتلني عبثاً من غير منفعة " ولا يلتفتون إلى عاقبته ولا ينظرون، ولا يحرون بآذانهم ما يفعل الله بأمثالهم ولا يخطرون " يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ". هيهات هيهات، إنهم ساء ما كانوا يعملون، تالله ليأتينهم من العقاب الأليم في أقرب أمد ما يهدهم هداً، ويجعل بينهم وبن النجاة من اشتداد الهلكة سداً، ويتأصلهم بصواعق الانتقام فقد جاءوا شيئاً إداً. أما علموا أن الله تعالى يطلع على نجواهم، ويوقعهم في مهاوي بلواهم، ويلبسهم أردية سرائرهم فيما استهواهم الشيطان به. واستغواهم. أما علموا أن أمر المهدي رضى الله تعالى عنه تساوى في الحق به أضعف المسلمين وأقواهم، ألم يقل رسول الله صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم: " المسلمون تنكفي دماؤهم ويسعى لذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ". لقد أمنوا مكر الله جرأة عليه وإقداماً، وأعمت الشهوات بصائرهم إذهاباً لنور الحق من نفوسهم وإعداماً، وتالله لو تعين لنا فاعل ذلك وتشخص، لما خرج من حياله مكروه ولا تخلص، ولسارع إليه من أسرع عقابنا ما يمحو رسمه محو الفنا، ويكتب يديه بما قدمتا من الخنا. ولقد ذكر لنا من تلك المظالم المستغرقة لأنواع المآثم، الموبقة لأهلها حين يقرع سن الندم النادم، أن أولياءك الخائضين في غمرات أبحرها، المثيرين لأسباب منكرها، الصارمين لعلق الشريعة، القاطعين لأبهرها، يمدون أيديهم إلى ضرب الناس بالسياط، إبلاغاً في الانتهاء بكثرتها وإمجاشاً، ويتسببون بذلك إلى أخذ أموال الناس إيغالا للصدور وإيحاشاً، وذلك أمر معاذ الله أن يرضى به مؤمن بالله، أو يتجه إليه حق بنوع من الاتجاه، ما أبعد العدل - أصلحكم الله تعالى - عن هذه الأمثال والأشباه. وقد علمتم أن عادتنا فيما يستوجب الضرب أو يستحقه، ممن يظلم الأمر الشرعي أو يعقه بحدود معلومة، دون إفحاش ولا انتهاك، ومواقف مرسومة تقابل كلا بمقتضى جرمه من أثيم أو أفاك. ولقد ذكر لنا في أمر المغارم والمكوس والقبالات، وتحجير المراسي وغيرها

ما رأينا أنه أعظم الكبائر جرماً وإفكاً، وأدناها إلى من تولاها دماراً وهلكاً، وأكثرها في نفس الديانة عبثاً وفتكاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون. هل قام هذا الأمر العالي، إلا لقطع أسباب الظلم وعلقه، وسد سبيل الحق وطرقه، وإجراء العدل إلى غاية شأوه وطلقه. اللهم إنا نشهدك أن سبيلنا سبيلك، وإنا نستعيذك مما استعاذك منه محمد رسولك. روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أعوذ بالله من المغرم والمأثم " تنبيهاً على ما في أغرام الناس من الظلم المظلم. ولئن نقل إلينا - والله الشاهد - أن نوعاً من هذه الأنواع المحرمة أو صنفاً من تلك الأصناف المظلمة، يتولاه أحد هنالك من البشر أو يأمر بشىء من ذلك الفعل المستنكر، لنعاقبه بمحو أثره عقاباً يبقى [عظة] لمن اتعظ، وعبرة لمن تنبه لزاجر الحق واستيقظ. وإن من ذلك الرأي الذميم والسعي المنقوم، ما ذكر لنا في أمر المسافرين، الذين يريدون الرجوع إلى أوطانهم وعمارتها، والطوائف المارة على البلاد لمعنى تجارتها، يتسبب إليه قوم من هؤلاء الظلمة الدخلاء، الذين يضعون الغش طي ما يوهمون به من النصيحة، ويستنبطون المكر في تصرفاتهم القبيحة، فيقولون للرجل منهم عندك من حقوق الله كيت وكيت، وإن للمخزن جميع ما به أتيت، ويقرنون بهذا من الوعيد والإغلاظ الشديد، ما يرضى له المذكور بالخروج عن جملة ماله، ويعتقد السلامة من ذلك الظالم الغاصب أعظم منالة، وإنها لداهية عاقرة، قاصمة للظهر فاقرة، ويا عجباً لكم معشر الطلبة والشيوخ وكافة الموحدين، فإنكم بذلك مطلوبون، وما حجتكم وما أنتم على حق، كيف تتكيف هذه الكبائر وأنتم للأمور هنالك رصد، أم كيف تجري هذه الظلمات وقد قام للحق أود، أم كيف تكون الدماء على هذه الصورة تسفك والحرمات تنتهك، ولا يمتعض لذلك منكم أحد، كلا ليعاقبنّ كل من جنى، وليظهرن ما قصد القاصد وما عنى، وإن من وراء قولنا لتتبعاً يبحث عن ذلك ويمحص، ونظراً يفرق بين المشكل منه ويخلص. ولا شك - والله أعلم - في أن أسباب تلك المنكرات، ودواعي تغير تلك الأحوال المتغيرات، قوم يتوسطون بينكم وبين الناس، ويقولون ما لا يفعلون ذهاباً الى التدليس عليكم والإلباس، ويجعلون النفير بالظلم والعدوان بدلا من العقل والقول الجميل والإيناس، وذلك لغيب المباشرة ومباينتها، وبعدكم عن

مشاهدة الأمور ومعاينتهما، والتحجب عن مطالعة الأمور داعية كبرى لفسادها واختلالها، وسبب قوي في اننقاضها وانحلالها، وفرصة لوسائط السوء بانهماكها في البواطل واسترسالها، فلا تكلوا النظر فيها إلى أحد سواكم، ولا تبعدوا بغلظ الحجاب عما قصدكم من الخير ونواكم، وباشروا الأحكام هنالك مباشرة المتعهد المتفقد، وعليكم بالتواضع لأمر الله تعالى وترك الاستعلاء المنتقد، وتحفظوا في جانب المسلمين من كل خفيف المقال، كثير الاضطراب في الباطل والانتقال، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القيل والقال، وتثبتوا وفقكم الله تعالى في الأحكام، التي لا بد لكم من النظر فيها تثبت الحث [البحث]، عن حقائق الأمور والاستقصاء، وتعهدوا الناس بالتحذير من اللدد في الخصام وبالغوا في الإيصاء. ولا تظنوا أن الاجتهاد في الأمور يؤدي إلى الهجوم عليها والاقتحام، ويخرج النظر عن التثبت في القضايا والأحكام، فاذهبوا فيها مذهباً وسطاً، واقصدوا الاعتدال مقصداً مقسطاً، ولا تجتهدوا في شىء لا تعلمون فيه حكماً، وشاورونا فيما يخفي عنكم وجهه، لنرسم لكم فيه رسماً، فليس كل مجتهد مصيباً برأيه، ولا كل هاجم على رأى منجحاً في سعيه، وبين طرفي الأحوال واسطة جميلة فيها معقد السياسة ومناطها، وخير الأمور - قال عليه الصلاة والسلام - أوساطها. وعليكم أن تبحثوا بغاية جدكم عن أولئك المسببين لتلك القبائح، الساعين في صد ما يرضاه الله تعالى من المصالح، وتعرفونا بهم بعد تثقيفهم، لنشرد بهم من خلفهم، ونكف بعقابهم نوعهم الظالم وصنفهم، وقد استخرنا الله، في سد تلك الذريعة، وصد تلك الأفعال الشنيعة، فرأينا أن ترفعوا إلينا أحكام المذنبين للكبائر، وتعلمونا بنبأ كل من ترون أنه يستوجب القتل بفعله الخاسر، دون أن تقيموا الحد عليه، أو تبادروا بالعقاب إليه، ولا سبيل لكم إلى قتل أحد من كل من هو في بلاد الموحدين وأنظارهم، ومن هو منهم وداخل في مضمارهم، وكل من ترون أنه يستوجب القتل، ممن يريد المكر في أمر الله تعالى والختل، فعرفونا بجلية أمره وتصحيحه، وخاطبونا بميز أمره ومشروحه، لينفذ فيه من قبلنا ما يوجه الحق ويقتضيه، ونمضي في عقابه ما ينفذه الشرع ويمضيه، فإياكم من مخالفة أمرنا هذا في قتل أحد ممن ذكرنا كائناً من كان، كبر ذنبه عندكم أو هان، ولتبادروا

إلى أعلامنا بذنبه بعد سجنه وتثقيفه، لنقابله بما نراه، ونجري الحق في مجراه. وأنه أعلمنا بأن من يرضي بتلك الفواحش بما يرضاه ويستبيحه، ولا يبالي أحسن الفعل فيه أم قبيحه، يبتاع المرأة ويبيعها دون استبراء، ويعبث في ذلك بكل إقدام على الله تعالى واجتراء، ولا يتحفظ من مواقعة الزنا المحض، ومخالفة الواجب مع الفرض، وأن في ذلك من اطراح ما أمر الله تعالى به من اتباع الشرع، وإفساد الأصل من السنة والفرع، ما لا يحل سماعه، ولا يستقر بنفس مؤمنة استطلاعه، فلا سبيل لأحد ممن هنالك أن يبتاع شيئاً منهن أو يبيع، حتى يستأذن الحاكم لأمره منكم والشيوخ، لئلا يذهب الحق في ذلك ويضيع، ولتقدموا للنظر في أسواقهن من ترضون دينه وأمانته، وتتحققون ثقته وصيانته، فمن أبيح له البيع والابتياع، أحضره الأمين المذكور ليرتفع بشهادته الشك والنزاع، وتجري السنة مجراها ويمتثل الأمر المطاع. وكذلك فليتوقفوا عن بيع النساء في جميع من تغنموه منهن في تلك الأرجاء، حتى تخاطبونا بأصل أمرهن وكيفيته، وتعلمونا من ذلك بجليته، لنرسم لكم فيه ما يكون عليه اعتمادكم، ويجري إليه اقتضاؤكم. والله الله في البحث على الخمور، وتقديم النظر في أمرها، فهو من أهم الأمور، فإنها مفتاح الشرور، ورأس الكبائر والفجور، وهي رابطة أهل الجرم، وجامعة أشتات الظلم. قال النبي صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم: " الخمر جماع الإثم " فجدوا في طلبها في المواطن المتهمة بشأنها، واجتهدوا في إراقتها وكسر دنانها، واعمدوا إلى السبب الذي يؤدي إلى التمكن منها، فارعوه، والحظوه، واطرحوا الإغفال لذلك والفظوه، وقدموا أمناء متخيرين للتطوف على مواضع الترتيب، يكون بالمحافظة على ذلك محل المكالىء الرقيب، ولا يكن منهم إلا من يفرق بين الحلال ويميز، ويعرف ما يجوز شربه، وما لا يجوز، ومروهم بالتعهد لمواضع بيع الرُّب واعتصاره، وخذوهم بتوقف جدهم على ذلك واقتصاره، فما حل منه أباحوه، وما كان غير ذلك قطعوه أصلا وفرعاً وأراقوه، (الحلال بيّن والحرام بيّن) ولقضايا الشرع نظام. قال رسول الله صلى الله تعالى وملائكته الكرام عليه وسلم: " ما أسكر كثيره فالجرعة منه حرام ". وإن من يسعى في نوع من أنواع الفساد، ويستصحب الاضرار بالمسلمين في الإصدار والإيراد، هؤلاء الراقصين الذين يردون بالكتب ويصدرون، ويمشون فيما بيننا وبينكم وينفرون، فإنه ذكر لنا أنهم يأخذون الناس بالنظر في كلفهم،

ويلزمونهم في زادهم من كل موضع وعلفهم، وهذا فعل كل فرقة منهم في سيرها، وسوء رأيهم بذلك في المخازن وغيرها، وأن من جملة ما حكى عنهم أنهم يتألفون في الطرق جموعاً، ويحلون بأفنية الناس حلولا شنيعاً، يكلفونهم مؤناتهم تكليف المجرم، ويتحكمون عليهم بحكم المغرم، حتى أنهم لا يرضون في ضيافاتهم إلا بأسمن الجزر، وناهيكم بهذا الاجتراء العظيم الضرر، فسارعوا وفقكم الله تعالى، إلى حسم هذه العلة من أصلها، وبادروا إلى قطع تلك العادة الذميمة وفصلها، وتخيروا لرسائلكم إرسالا، وانتقوا من أهل المقدرة على ذلك والثقة رجالا، وادفعوا إليهم زاداً يقوم بهم في المجىء والانصراف، ويقطع شأنهم من التكليف والإلحاف، وارسموا لهم أياماً معروفة العدد، معلومة الأمد، لينتهوا بها، إلى مواقف رسائلهم، ويوزعوها على مسافات مراحلهم، وحذروهم من تكليف أحد من الناس ولو مثقال ذرة، وأوعدوا من تسبب منهم إلى مسلم بمساءة أو مضرة، والله تعالى المستعان على دفع أسباب الجور، ونستعيذ به سبحانه من الخور. وكذلك ذكر لنا - وفقكم الله تعالى - من التحكم في الأموال، وقلة المبالاة بالتفريق بين الحرام منها والحلال، أن أولئك الذين ذكرت خدعهم، ووصفت غرضهم الذميم ومنزعهم، يفعلون في أموال الناس ما تقدم ذكره، وشرح فكره، وتمتد أيديهم إلى المخازن هناك، فيعيثون فيها، ويتحكمون، ويجرؤون في التعدي عليها ملء شأوهم وأنفسهم يظلمون، واتقوا الله تعالى فيها، فإنها أمواله المخزونة في أرضه، وبادروا إلى كف كل معتد وقبضه، ولا سبيل لكم أن تنفذوا منها قليلا ولا كثيراً، إلا بعد استئذاننا وتعريفنا بالدقيق والجليل مما هنالك، وهذا أمر منا لكم، ولكل من وقف على كتابنا هذا من الطلبة والشيوخ والموحدين كافة أمراً دائماً لازماً، سنته بالاستمرار مستظلة، وصحته بفضل الله لا تدخلها تعله. وقد خاطبنا بمثل ما خاطبناكم به، جميع الطلبة الموحدين، وكافة البلاد التي هي بالدعوة المهدية معمورة، وبكلمة الإيمان مشرقة منيرة، فأمرنا بجميع فصول كتابنا هذا إليكم ولسواكم شامل، وفي كافة أقطار الموحدين نافذ عامل، فمن خالفه بوجه من وجوه الخلاف، فقد تبين عناده وساء في العاجل والآجل مآله ومعاده، ومن لم يمتثله، بواجب الامتثال، ويكف يده عما رسمناه في كافة الأحوال، فقد تعرض لأشد العقاب وأوحاه، واستقبل من ارتكاب النهي ما يصده الانتقام به عن سواه منحاه، فاستصحبوا حدنا هذا استصحاباً مؤيداً،

واتخذوه في كافة أحوالكم مستنداً ومعتمداً، وعلى كل من إلى نظركم من أهل تلك البلاد المنتظمة في سلك التوحيد، الآخذة بالمذهب الرشيد، عون الأمير - أيده الله تعالى - على بسط العدل وإفاضته على الكل، ورفع العبد المثقل، وكل أن يسلكوا في جميع تصرفاتهم سبيل الاستقامة، ويستمروا على استعمال الحقائق والمواصلة لذلك والاستدامة، ويتجافوا عن مواقع الظلم، فالظلم ظلمات يوم القيامة، وينقادوا للواجبات بداراً إليها وإسراعاً، ويكونوا في التساعد على الصلاح كالنفس الواحدة تألفاً واجتماعاً. ولما كان هذا الأمر عندنا - وفقكم الله تعالى - أهم أمر وأوجبه، وأحق ما أدناه الحق وقر به، وكان اهتمامنا به، قد جعله على كل حالة مقدماً، وأنفذه بأمر الله تعالى إنفاذاً ملتزماً، رأينا أن نجعل في كتابنا هذا علامة بخط يدنا، وها هي قد رفعت الإشكال رفعاً بيناً، وأرتكم فرط اهتبالنا حقاً مبيناً، فبادروا إلى تلقيها بالامتثال والمسارعة، وصلوا ابتدار شأنها بالمواصلة والمتابعة، وأحضروا للاجتماع على هذا الكتاب جميع من في تلكم البلاد من الطلبة والعمال وكافة المقدمين للأعمال، ولا تقدموا أمراً من الأمور على إنفاذ جميع ما تضمنه، والاعتمال بكل ما شرحه وبينه، ولا تشتغلوا بشغل قبل الاشتغال بمعانيه، وبما أمركم به على قواعده ومبانيه، ومخاطبتنا بما يكون منكم في تلقيه، واتباع ما ينهيه إليكم ويلقيه، واقرأوه على الكافة أعالى المنابر، واستحضروا له وفود القبائل من البوادي والحواضر، وأسمعوا به افصاحاً وإعلاناً، وأشربوه قلوب الناس جماعات ووحداناً، وأحسنوا إيصال أغراضه إليهم، فإن الله تعالى يجزي الإحسان إحساناً. فإذا تفرغتم من قراءته على الجماهير وبلغتم صحته بواجب التبليغ والتقرير، فاكتبوا منه نسخاً إلى كل قبيلة من قبائل ذلك النظر، وكل كورة من تلك الكور، وأكدوا عليهم فيما أكدنا عليكم فيه من تقديم العمل فيه على كل الوجوه، وامتثال مغنمه، على ما يحبه الله تعالى ويرتضيه، وحذروهم من التعرض لمخالفته، فلا عذر لمن لا يقصده على الفور ويأتيه، ونحن بمرصد التطلع والتسمع لما يكون منكم ومنهم، لنقابل بالواجب ما يصدر عنكم وعنهم. وقد علم الله تعالى أن غرضنا بجميع المسلمين إشفاق وحنان، وجانبنا لهم دعة مستمرة وأمان، ولدينا من التراؤف بهم والرفق بجانبهم، شأن لا يفارقه من فضل الله تعالى شأن، وقد علمتم ذلك منا واختبرتموه، وجربتموه على مر الزمان

وصبرتموه، فلتتلقوا كل من استرعاكم الله تعالى أمره بكل طلاقة ويسر، ولتنشروا عليهم جناح الرحمة أكمل نشر، ولتعلموا - رعاكم الله - ان من شملته كلمة التوحيد، في العهد القريب أو البعيد، في مضمار واحد من العدل محمولون، وأنكم عن كل من هنالك مسئولون، ولفظ الموحدين بيننا وبينهم جميعاً، والحق يسلك بينهم من التناصف مسلكاً مشروعاً، وقد ألفت الكلمة العلية بينهم، فبعضهم لبعض في الخير أسوة، وقد قال الله تعالى " إنما المؤمنون إخوة " فاعتقدوا فيهم هذا الاعتقاد الجميل، قصداً إلى مرضاة الله تعالى وإيقاناً، وكونوا عباد الله إخواناً، وحسنوا بهم - رعاكم الله - ظناً، وعودوهم الخبر لفظاً ومعنى، وتخلقوا معهم بمحاسن الأخلاق، وقولوا للناس حسناً، واستألفوا الناس بالتي هي أحسن، وابذلوا لهم من المساعدة في ذات الله تعالى غاية ما يتمكن، وانهجوا لهم من المبرات منهجاً يبدو به مضمركم الجميل ويتبين، وسروا بصالح عملكم وبشروا ويسروا - كما قال عليه الصلاة والسلام - ولا تعسروا وسكِّنوا، ولا تُنفِّروا. واعلموا أن السعي في هذا الغرض واجب، والاعتمال في رفع ذلك المانع الحاجب، لا يتأتى لكم جملة واحدة، حتى تكون نفوسكم متآلفة عليه متساعدة، ْوتعاونوا على مرضاة الله تعالى تعاوناً يجمع في الصلاح آراؤكم، ويضمن التجمع التام لكم ولمن وراءكم، فعليكم بالمظافرة، والمناصرة والمؤازرة، فهي سواعد السعد وقواعد الود، وشيم الكرام المحافظين للعهد، وبها يعمر محل الرضا ونديه، وبه أوصى الله تعالى ورسوله ومهديه. وقد نصحنا لكم فاقبلوها نصيحة، قصدت في ذات الله تعالى قصدها، وذكرنا لكم بهذه التذكرة، فاستقبلوها رشدها، ونبهناكم تنبيهاً بالغاً وللحال ما بعدها، جعلنا الله وإياكم ممن امتثل أمره المطاع بخالص نيته، وأفرغ الرحمة على قالب سجيته، وحفظ ما استرعاه الله تعالى، فكل راع مسئول عن رعيته. وكان مما بعثنا - وفقكم الله تعالى - على تنبيهكم وإذكاركم، وإيقاظكم للنظر في تلك المصالح وإشعاركم، ما ألفيناه بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى - من بعض تلك الأنواع، مما أحدثه فيها بعض أهل الابتداع، كنوع القبالة، وما يجري مجراها في وجوب الإزالة، والإحالة، فإنا كنا لا نبحث عن ذلك، لتخيلنا أنه لا يجرؤ أحد أن يسلك في هذا الأمر الذي أظهره الله تعالى تلك المسالك، فلما كان الحث

عما يجب، وأزال عن وجه المشاهدة ما كان يحتجب، طلعنا على ذلك فأنكرنا ما كان نكيراً، وأزلنا بعون الله تعالى ما كان محذوراً بالشرع محظوراً، حتى تطهر ثوب الأمن من دنسه، وتجلى الوجه الخالص عن ملتبسه، واقتبس نور الحق من مقتبسه، وجرت الأمور على ما عهدناها عليه من الاعتدال والقوام، بحكم ما أحكمه الإمام المهدي رضى الله تعالى عنه في القضايا والأحكام، وإذا كان الافتيات في شىء من هذا ونحن على اقتراب، فكيف الأمر فيمن هو في حكم بعد عنا واغتراب. فانظروا هذا - وفقكم الله تعالى - نظرة أولي الألباب، ولتسعوا جهدكم في رفع ذلك العمل المستراب، ولتذهبوا إلى إظهار أمر الله سبحانه، على موجب الكتاب. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

فهرست الموضوعات مقدمة .............................................................. 3 بيان عن المصادر .................................................... 7 تمهيد: الأوضاع العامة لشبه الجزيرة الأندلسية فى عصر المرابطين والموحدين ........................................................ 25 الكتاب الأول الدولة المرابطية فى أوج سلطانها الفصل الأول: يوسف بن تاشفين. خواص إمارته ولامع خلاله ..... 36 الفصل الثانى: أمير المسلمين على بن يوسف وأحداث عصره ....... 57 الفصل الثالث: سقوط سرقسطة ................................. 86 الفصل الرابع: الصراع بين ألفونسو المحارب وبين المرابطين ....... 105 1 - غزوة ألفونسو الكبرى للأندلس ........................... 105 2 - التعتيب والأسوار ........................................ 114 3 - موقعة القلاعة ............................................ 116 4 - موقعة إفراغة ............................................. 120 5 - خاتمة ملك بنى هود بالثغر الأعلى ......................... 126 الفصل الخامس: الأمير تاشفين بن على وغزواته وأعماله فى شبه الجزيرة 131 الفصل السادس: شرق الأندلس ............................... 148 الكتاب الثانى المهدى محمد بن تومرت والصراع بين المرابطين والموحدين وقيام الدولة الموحدية بالمغرب الفصل الأول: محمد بن تومرت، نشأته وظهوره ................ 156 الفصل الثانى: الصراع بين المرابطين والموحدين - المرحلة الأولى. 177

الفصل الثالث: عقيدة المهدى ابن تومرت وتعاليمه الدينية والسياسية. 199 الفصل الرابع: الصراع بين المرابطين والموحدين - المرحلة الثانية ..... 218 الفصل الخامس: نهاية الدولة المرابطية فى المغرب .................... 254 الفصل السادس: الدولة الموحدية فى سبيل التوطد .................. 268 الفصل السابع: فتح المهدية وإجلاء الفرنج عن إفريقية .............. 289 الكتاب الثالث ثورة القوى الوطنية بالأندلس وتغلب الموحدين على شبه الجزيرة الفصل الأول: الثورة فى الأندلس وانهيار سلطان المرابطين .......... 304 الفصل الثانى: عبد المؤمن وشئون الأندلس وافتتاح إشبيلية وقرطبة وغرناطة وألمرية ................................................... 324 الفصل الثالث: الثورة فى شرقى الأندلس وظهور محمد بن سعد بن مردنيش 353 الفصل الرابع: أعوام عبد المؤمن الأخيرة، وفاته وخلاله ............ 373 الكتاب الرابع نظم الدولة المرابطية وخواص العهد المرابطى الفصل الأول: طبيعة الحكم المرابطى وأوضاعه العسكرية والإدارية والمالية. 410 الفصل الثانى: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى - القسم الأول ..................................................... 438 الفصل الثالث: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى - القسم الثانى ...................................................... 455 الكتاب الخامس الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصر المرابطى وأوائل العصر الموحدى الفصل الأول: ألفونسو المحارب وأورّاكا ملكة قشتالة ............. 476 الفصل الثانى: الممالك الإسبانية النصرانية فى عصر القيصر ألفونسو ريمونديس وقيام مملكة أراجون الكبرى ............................ 492 1 - وفاة ألفونسو المحارب وولاية أخيه الراهب راميرو ........... 493

2 - اتحاد أراجون وقطلونية .......................................... 499 3 - غزوات القيصر ألفونسو ريمونديس وحروبه ...................... 502 4 - أعوام القيصر الأخيرة ووفاته .................................... 511 5 - قشتالة بعد وفاة ألفونسو ريمونديس .............................. 515 6 - قيام جماعات الفرسان الدينية ..................................... 518 الفصل الثالث: قيام مملكة البرتغال وبداية عصر ملكها ألفونسو هنريكيز 521 وثائق مرابطية وموحدية 1 - رسالة الإمام الغزالى إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين .......... 530 2 - رسالة الوزير الكاتب ابن شرف إلى أمير المسلمين فى فتح أقليش .. 533 3 - رسالة قاضى سرقسطة والجمهور فيها إلى الأمير أبى الطاهر تميم ابن يوسف حينما حاصرها ابن رذمير ................................. 538 4 - رسالة كتب بها أمير المسلمين إلى الأمير أبى محمد بن أبى بكر بهزيمة القلعة ......................................................... 541 5 - رسالة لأمير المسلمين إلى الفقيه القاضى وسائر الفقهاء والوزراء والأعيان والكافة ببلنسية ............................................ 543 6 - رسالة لأمير المسلمين إلى المذكورين مجاوباً لهم بهزيمة ابن رذمير إياهم فى القلاعة ..................................................... 544 7 - رسالة وجهها أمير المسلمين على بن يوسف بتقريع قادته وجنده .. 545 8 - رسالة لأبى عبد الله بن أبى الخصال عن بعض المرابطين إلى أمير المسلمين على بن يوسف ......................................... 547 9 - رسالة موجهة من أمير المسلمين تاشفين بن على بن يوسف إلى الفقهاء والوزراء والأخيار والكافة ببلنسية ............................ 548 1 - صيغة التوحيد التى وضعها المهدى لأتباعه ....................... 551 2 - رسالة الخليفة عبد المؤمن بن على. أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وعدله ونهجه مناهج الحق وفضله .................................... 552

فهرست الشعر والشعراء رثاء يوسف بن تاشفين .... : ملك الملوك وما تركت لعامل ........... 54 أبو جعفر بن وضاح المرسى: شمرت برديك لما أسيل الموانى .......... 125 ........................... : أما وبيض الهند عنك خصوم .......... 138 أبو بكر بن الصيرفى ....... : يا أيها الملأ الذى يتقنع ................ 139 المهدى ابن تومرت ........ : تكاملت فيك أوصاف خصصت بها .. 221 ........................... : فتح تفتح أبواب السماء له .......... 271 أبو العباس التيفاشى ....... : ما هز عطفيه بين البيض والأسل ..... 296 أحمد بن قسىّ ............. : وما تدفع الأبطال بالوعظ عن حمى ... 330 ابن المنذر ................. : لئن غض منك الدهر يوماً بأزمة ..... 331 مروان بن عبد العزيز ...... : قل للإمام أطال الله مدته ............ 350 أبو جعفر بن عطية ........ : فعفواً أمير المؤمنين فمن لا ........... 351 ابن مردنيش .............. : أكر على الكتيبة لا أبالى ............. 368 أبو عبد الله بن حبوس .... : بلغ الزمان بكم ما أملا .............. 384 القرشى المعروف بالطليق .. : ما للعدى جنة أوقى من الهرب ...... 384 ابن غالب الرصافى ........ : لو جئت نار الهدى من جانب الطور. 384 أحمد بن سعيد ............ : تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر .... 385 الخليفة عبد المؤمن ........ : هو الفتح لا يجلو غرائبه الشرح ..... 403 أحمد بن سعيد ............ : من يشترى منى الحياة وطيبها ........ 452 .......................... : أتانى كتاب منك يحسده الدهر ...... 452 محمد بن عبد الرحمن الجراوى: رحلوا الركايب موهنا ............ 453 عبد الملك بن قزمان ...... : قدر الله وساق الخناس .............. 454 .......................... : وعريش قد قام على دكان .......... 454 أحمد بن حسن الجراوى ... : وبين ضلوعى للصبابة لوعة ......... 465 أبو العباس بن العريف .... : سلوا عن الشوق من أهوى فإنهم .... 466

ابن المنخل الشلبى ..... : تجاف عن الدنيا وعن برد ظلها ............. 467 أبو العباس بن الأقليشى: أسير الخطايا عند بابك واقف .............. 469 ابن السيد البطليوسى.: أخو العلم حى خالد بعد موته .............. 469 ...................... : سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم ........... 469 الفيلسوف ابن باجه .. : سلام وإلمام ووسمى مزنة ................... 471 ...................... : ضربوا القباب على أقاصى روضة .......... 471 ابن أبى الصلت ....... : سكنتك يا دار الفناء مصدقاً ............... 472 أبو العلاء بن زهر .... : يا راشقى بسهام ما لها غرض ............... 473 فهرست الخرائط والصور الثغر الأعلى وما يليه - مواقع حروب المرابطين والنصارى ............ 91 خط سير الذهاب والعودة لغزوة ألفونسو المحارب للأندلس .......... 109 مواقع غزوات المرابطين التى قام بها على وتاشفين فى أراضى قشتالة والبرتغال .......................................................... 137 المغرب - البلاد ومنازل القبائل عند بداية الدولة الموحدية ........... 181 أسوار مراكش وأبوابها فى عهد المرابطين ............................ 187 محراب جامع المهدى وإحدى واجهات الجامع ...................... 197 المغرب - موقع غزوة عبد المؤمن الكبرى .......................... 239 إفريقية - مواقع غزوات عبد المؤمن لافتتاح بجاية والمهدية .......... 283 جبل طارق وبر العدوة ........................................... 379 منظر جبل طارق من البر الإسبانى ................................. 383 بقايا الحصن الأندلسى أعلى الصخرة .............................. 383 الممالك الإسبانية النصرانية فى عهد القيصر ألفونسو ريمونديس ..... 503

القسم الثانى عصر الموحدين وانهيار الأندلس الكبرى

دولة الإسلام فى الأندلس تأليف محمَّد عبد الله عِنَانْ العصْرُ الثالث عَصْرُ المرابطينَ والمُوَحّدينْ فى المغرِبْ والأندَلسْ القسْم الثانى عصْر الموحِّدين وانهيار الأندلسْ الكبرى

_ الناشر مكتبة الخانجي بالقاهرة الطبعة الثانية 1411 هـ = 1990 م

الطبعة الثانية 1411 هـ = 1990 م مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر 68 شارع العباسية. القاهرة. ت: 827851

تصدير

بسم الله الرحمن الرحيم تصدير تناولنا في القسم الأول من هذا الكتاب، تاريخ الدولة المرابطية بالمغرب والأندلس، منذ وفاة عاهلها ومؤسسها يوسف بن تاشفين في سنة 500 هـ (1106 م)، حتى سقوطها بعد ذلك بنحو أربعين عاماً، وقيام الدولة الموحدية، على يد داعيتها وإمامها المهدى ابن تومرت، واستكمال فتوحها، وتوطد دعائمها بالمغرب والأندلس، على يد أول خلفائه، عبد المؤمن بن علي، مؤسس الدولة الموحدية الكبرى. وفى هذا القسم الثاني من الكتاب، نتناول عصر الموحدين في المغرب والأندلس، ونعرض تاريخ الدولة الموحدية الكبرى، منذ بداية عهد ثانى خلفائها، أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن في سنة 558 هـ (1163م)، حتى انحلالها وسقوطها في عهد آخر خلفائها إدريس الملقب بأبي دبوس، وذلك في سنة 668 هـ (1269 م)، وهي حقبة تزيد على قرن من الزمان، وهي حقبة حافلة بعظائم الحوادث والتطورات، سواء في المغرب أو الأندلس. وبالرغم من أن الأندلس لم تكن في ظل الدولة الموحدية، سوى قطر من أقطارها العديدة، يتبع المغرب وحكومة مراكش، حاضرة الدولة الرئيسية، فإنها لبثت محتفظة بأهميتها السياسية والعسكرية، واستقلالها المعنوي والحضاري، ومن ثم فقد خصصنا تاريخ الأندلس، وتاريخ صراعها مع الدول النصرانية الإسبانية، في هذه المرحلة الطويلة من تاريخ الموحدين، بما يستحقه من العناية والإفاضة، ومضينا في استعراضه في ظل الحكم الموحدي، حتى قيام الدولة الهودية المتوكلية، في شرقي الأندلس وأواسطها، ثم قيام مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، على يد مؤسسها العبقري محمد بن الأحمر النصري، وأفضنا القول، بنوع خاص، فيما نزل بالأندلس، في هذه الفترة المدلهمة من تاريخها، من النوائب والمحن، بسقوط قواعدها الكبرى، التي أذكت لوعة الشعر الأندلسي، وأملت على أبي الطيب الرندي مرثيته الشهيرة التي مطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان ... فلا يغرُّ بطيب العيش إنسان وراعينا في سرد أدوار هذه المأساة المشجية، من تاريخ دولة الإسلام في الأندلس، أن نبرز تفاصيل المأساة الأندلسية كاملة، على ضوء مصادرها العربية والقشتالية، وأن نصل بها إلى حيث بدأنا تاريخ مملكة غرناطة في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، وهو خاتمة هذه السلسلة الطويلة من عصور التاريخ الأندلسي، التي استغرقت من حياة مؤلفها أكثر من ربع قرن من الزمان. وقد عنينا في كل من عصري المرابطين والموحدين حسبما نوهنا في مقدمة الكتاب، أن نتحدث في نهاية كل عصر، عن طبيعة نظم هذا العصر وخصائصه، وعن الحركة الفكرية الأندلسية خلاله. وقد تحدثنا في القسم الأول من هذا الكتاب، عما يخص العصر المرابطي من ذلك، وسوف نحاول أن نتحدث في خاتمة هذا القسم، عن نظم العصر الموحدي، وعن سير الحركة الفكرية الأندلسية خلاله وإن لم يكن ذلك بما كنا نبغي من التفصيل والإفاضة. ذلك أن الميدان شاسع، يستوعب المجلدات، وهو ليس في الواقع إلا تاريخ الحضارة الأندلسية، التي يقتضى استعراض مراحلها العظيمة الوضاءة، جهوداً شاقة، لم يسعفنا الوقت والجهد ببذلها. وعنينا في هذا القسم أيضاً -عصر الموحدين- بتقديم طائفة من الخرائط والصور الأثرية، والرسوم الهامة، منها رسوم لميادين بعض المواقع التاريخية التي شهدناها بأنفسنا، ودرسناها على الطبيعة حسبما أشرنا إلى ذلك في مقدمة الكتاب وفيها صور لعدد من الآثار الموحدية الأندلسية التي ما زالت قائمة حتى يومنا، وأشهرها وأروعها جميعاً صومعة جامع المنصور " لاخيرالدا " لؤلؤة إشبيلية الأثرية. ونحن نرجو، وقد من الله علينا آخر الأمر، وبعد أن قضينا هذه الأعوام الطويلة في ارتياد المعاهد والديار بالأندلس والمغرب، وذرفنا الدمع غير مرة على أطلال الإسلام بالأندلس، وقمنا بعديد الرحلات في طلب المصادر الأصيلة واستقصائها، وجمعنا من ذلك أغزر مادة يمكن الظفر بها - نرجو الله بعد ذلك كله، أن نكون قد وفقنا إلى أداء هذه الرسالة العلمية الجليلة التي اتخذناها شعاراً لحياتنا منذ خمسة وعشرين عاماً، على وجه يرضي العلم والتاريخ؛ ومثل هذا التوفيق، أن تحقق الرجاء، يكون لنا خير جزاء لما بذلناه خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن، من جهود مضنية في سبيل تحقيق هذه الغاية الكبرى. القاهرة في: جمادى الأولى سنة 1384 الموافق: سبتمبر سنة 1964 محمد عبد الله عنان

صفحتان من مخطوط كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين " لابن صاحب الصلاة، وهو المحفوظ بالمكتبة البودلية بأكسفورد برقم 1758 (فهرس المخطوطات الشرقية)

صفحتان من مخطوط الجزء الثالث من كتاب " البيان المغرب " لابن عذارى المراكشي، وهو مخطوط الزاوية الناصرية بتامجروت، ويحفظ الآن بخزانة الرباط برقم 200 في قسم مخطوطات الزاويا

صفحتان من مخطوط كتاب " زواهر الفكر " لابن المرابط المحفوظ بمكتبة الإسكوريال برقم 518 الغزيري (520 ديرفبور) وهما تضمان رسالة لأبي المطرف بن عميره المخزومي كتب بها عن أهل شاطبه إلى المتوكل ابن هود

صفحتان من الجزء الخامس من مخطوط " كتاب الذيل والتكملة " لابن عبد الملك المراكشي المحفوظ بالمتحف البريطاني برقم 7940، وهما تضمان بداية نص المنشور الموحدي الذي صدر عن الخليفة يعقوب المنصور ضد الفيلسوف ابن رشد

الفصل الأول عصر الخليفة أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

الفصل الأول عصر الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ولاية أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الخلافة. تخلف بعض إخوته عن بيعته. موقف السيد أبي سعيد والي قرطبة والتوجس منه. مسير السيد أبي حفص إليه. اللقاء بين الأخوين في جبل الفتح. عود التفاهم والصفا. رواية أخرى عن بيعة أبي يعقوب يوسف. ولاية السيد أبي حفص للوزارة. الثورة في غمارة وإخمادها. حملة لإمداد الأندلس. عبور قوات موحدية جديدة إلى الأندلس بقيادة السيد أبي حفص. مسيرها لمقاتلة ابن مردنيش. استيلاؤها على أندوجر. زحفها على بسطة ثم لورقة. استيلاؤها على حصن بلج. خروج ابن مردنيش لقتال الموحدين. مسير الموحدين إلى مرسية. نزولهم في فحص الجلاب. قدوم ابن مردنيش في قواته. الاشتباك بين الفريقين. عنف المعركة واضطرامها. هزيمة ابن مردنيش وفراره إلى مرسية. مسير الموحدين في أثره. تخريبهم لأحواز مرسية. إدريس بن جامع يتولى الوزارة للخليفة أبي يعقوب. عود الثورة إلى منطقة غمارة وإخمادها. احتلال الموحدين للأماكن المفتوحة في ولاية مرسية. عود القوات الموحدية إلى الأندلس. عود السيد أبي حفص إلى مراكش. خروج الخليفة لاستقبال أخيه. وصف للاحتفالات التي نظمت لذلك. المآدب والصلات. تعيين ولاة الأندلس. اتخاذ الخليفة للعلامة. رسالة الخليفة إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة. الحث فيها على وجوب التدقيق في أحكام الإعدام وإراقة الدماء. عود الثورة إلى غمارة واستفحالها. مسير القوات الموحدية لإخمادها وفشلها في ذلك. مسير الخليفة بنفسه لمقاتلة الثوار. منازلة الثوار في جبال غمارة. تمزيقهم ومقتل زعيمهم، عود الخليفة إلى مراكش. رسالة الفتح. الثورة في جبل تاسررت وإخمادها. غزو والي غرناطة لحصن لبة واقتحامه. خطر البرتغال على قواعد الغرب. ملكها ألفونسو هنريكيز وأطماعه. تحالفه مع القوات الصليبية ومسيره لمحاصرة أشبونة. مناعتها وتفاني المسلمين في الدفاع عنها. ضغط الحصار وثلم الأسوار. المعركة الأخيرة. اقتحام النصارى للمدينة. الفتك بأهلها المسلمين واسترقاقهم. استيلاء البرتغاليين على شنترين. استيلاؤهم على قصر الفتح. غزوهم لباجة وتخريبها. جيرالدو سمبافور وغاراته على قطاع بطليوس. وصف ابن صاحب الصلاة له ولأعماله. غزوه لمدينة ترجالة. استيلاؤه على قاصرش وحصون منتانجش وشربه وجلمانية. انشغال الموحدين بقتال ابن مردنيش وبفتنة غمارة. تجديد بيعة الخليفة وتعليله. أقوال ابن صاحب الصلاة. كتاب الخليفة في ذلك. إنعام الخليفة واعطاؤه. تعيين السيد أبي إسحق لولاية قرطبة. إغارة جند ابن مردنيش النصارى على وادي شنيل. مسير والي قرطبة لقتالهم ونجاحه في تمزيقهم. افتتاح الموحدين لثغر طبيرة. مقدم فرناندو ردريجس إلى إشبيلية وطلبه محالفة الموحدين. سفره إلى مراكش وتعاهده مع الخليفة على الإخلاص في محالفته. الصلح بين فرناندو ملك ليون والموحدين. المنافسة بينه وبين ألفونسو هنريكيز. تعريف الرواية الإسلامية به. معاونة الموحدين له في مقاتلة صاحب طليطلة.

- 1 - لما توفي الخليفة عبد المؤمن بن علي بمحلته بثغر سلا في ليلة الجمعة العاشر من جمادى الآخرة سنة 558 هـ (15 مايو سنة 1163 م) خلفه على الأثر، ولده السيد أبو يعقوب يوسف، وعقدت له البيعة بمحلة أبيه في يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخرة، وتولى تنظيمها أخوه شقيقه السيد أبو حفص عمر، والشيخ أبو حفص عمر الهنتاني كبير أشياخ الموحدين، تنفيذاً لوصية الخليفة الراحل، وذلك حسبما فصلناه فيما تقدم (¬1). وكان الخليفة الجديد عند ولايته فتى في الخامسة والعشرين من عمره، وكان مولده بتينملل في الثالث من شهر رجب سنة 533 هـ، وأمه حرة هي زينب بنت الفقيه القاضي موسى بن سليمان الضرير التينمللي (¬2) من أصحاب خمسين. ولما كملت البيعة سار الخليفة الجديد من سلا إلى مراكش، ونزل قصر الخلافة، وتولى الشيخ أبو حفص وعظ الموحدين على اختلاف مراتبهم، وحثهم على التزام فروض الطاعة. ثم أعلنت وفاة الخليفة الراحل، وحمل جثمانه إلى تينملل، حيث ووري إلى جانب إمامه المهدي ابن تومرت. ولم يتخلف عن بيعة أبي يعقوب يوسف، سوى بعض أشياخ الموحدين وثلاثة من الإخوة، هم السيد أبو الحسن علي، والسيد أبو محمد والي بجاية، والسيد أبو سعيد والي قرطبة. فأما السيد أبو الحسن فقد كان حاضراً ليلة وفاة أبيه، وعقد البيعة لأخيه، ولما عاد من تينملل بعد مواراة الخليفة الراحل، لزم العزلة، وبرّحت به عوامل الغيرة والحقد، حتى مرض وتوفي غير بعيد وذلك في أواخر سنة 558 هـ. وأما السيد أبو محمد عبد الله والي بجاية، فقد لزم عاصمة إمارته، وكُتب الخليفة تتردد إليه بالاستعطاف والاستدعاء، وهو يتمهل، ويرد بالاعتذار والاستعداد للرحيل، واستمر في هذا التردد والتسويف نحو عام ونصف، وأخيراً اعتزم أمره، وغادر بجاية في حاشيته، قاصداً إلى مراكش، فأدركته ¬_______ (¬1) وذلك في الفصل الرابع من الكتاب الثالث (ص 394). (¬2) المراكشي في المعجب ص 132، وروض القرطاس ص 134، ويسمى والدة أبي يعقوب عائشة، والحلل الموشية ص 120، وابن الخطيب في الإحاطة، (مخطوط الإسكوريال رقم 1673 الغزيري، لوحة 395).

المنية في الطريق (سنة 560 هـ) فأسف أخوه الخليفة لفقده، وشمل أهله وبنيه بعطفه ورعايته. ونظر فيما يجب لضبط شئون بجاية حتى يعين لها والٍ جديد. وكان تخلف السيد أبي سعيد مثار التوجس، ومختلف الأقاويل، لأنه كان بوجوده في رياسة الأندلس، الشطر الثاني من الإمبراطورية الموحدية، وبما يسيطر عليه بها من الموارد والقوى، حرياً بأن تحدثه نفسه بالخروج والعصيان. ومن ثم فقد بعث أخوه الخليفة لاستدعائه ثلاثة من الحفاظ الموحدين هم أبو عبد الله ابن أبي إبراهيم، وأبو يحيى بن أبي حفص، وأبو الربيع سليمان بن داود، فلما وصلوا إلى قرطبة، تمارض السيد أبو سعيد، ولم يستطيعوا مقابلته إلا بصعوبة، ولم يحصلوا منه إلا على وعود غامضة. ولما عاد هذا الوفد إلى مراكش، ولم يتحقق ما وعد به السيد أبو سعيد من القدوم، وكثر التوجس والإرجاف من موقفه، اعتزم السيد أبو حفص عمر أن يسير بنفسه إلى استدعاء أخيه ولقائه في جبل الفتح (جبل طارق). فغادر مراكش في فاتحة ربيع الأول سنة 560 هـ في جملة من أشياخ الموحدين، منهم أبو يحيى بن أبي حفص، وأبو يعقوب بن يخيت، وإسحق بن جامع، ويوسف بن وانودين، وجماعة من زعماء ثوار الأندلس منهم سيدراى بن وزير، وابن الفخار صاحب لبلة، وجماعة من أشياخ لمتونة ومسّوفة، ومعه قوة من نحو أربعة آلاف فارس، خصصت لإمداد قوات الأندلس وتعزيزها. ولما وصل الركب إلى سلا، تقدم الجند للعبور إلى الأندلس، وأقام بها السيد أبو حفص شهراً، بعث خلاله إلى أخيه السيد أبي سعيد بقرطبة يخطره بمسيره إلى رؤيته، وبأن يكون اللقاء بينهما في جبل الفتح. ولما وصل ركب السيد إلى طنجة، استقل منها سفينة أقلته مع كاتبه عبد الملك بن عيّاش وبعض خاصته إلى سبتة، وسارت بقية الركب إلى سبتة، بطريق البر. وفى اليوم التالي لوصول السيد أبي حفص إلى سبتة، وصلت من الجزيرة الخضراء سفينة، أعلن من فيها وصول السيد أبي سعيد في خاصته وأشياخه إلى جبل الفتح في انتظار أخيه، فعبر السيد أبو حفص وصحبه البحر في نفس اليوم إلى جبل الفتح. ويقول لنا عبد الملك بن صاحب الصلاة، وقد كان من شهود هذا الحفل، ومن حملة الوافدين، أولاً وآخراً، إن اجتماع الأميرين قد تم على خير ما يرجى، بين قرع الطبول ونشر البنود، والسرور بالورود. وجاءت وفود قرطبة، وغرناطة وإشبيلية وغيرها من قواعد الأندلس، وكان على رأس وفد إشبيلية الفقيه الحافظ ابن الجد، والقاضي أبو بكر

الغافقي، وصاحب المخزن محمد بن المعلم. وجلس السيد أبو حفص وأخوه السيد أبو سعيد في قصر الجبل لاستقبال الوفود، فتعاقبت في السلام، وإلقاء الخطب، وأنشد الشعراء قصائدهم، على نحو ما حدث أيام مقدم الخليفة عبد المؤمن، ودامت إقامة الأميرين بالجبل خمسة عشر يوماً، أغدقت فيها " الأعطيات والبركات والكسى". وصفا الجو، وارتفع الإرجاف، ثم انصرفت الوفود، وعبر السيدان أبو حفص وأبو سعيد كل في صحبه، البحر إلى سبتة، وأقاما بها ثلاثة أيام ريثما عبرت بقية الركب من الجبل ومن الجزيرة الخضراء، ثم سار السيدان إلى مراكش، فتلقاهما أخوهما الخليفة أبو يعقوب يوسف خارج الحضرة، وكان اجتماعاً بهجاً، ساده البشر والحبور، وكان وصول السيد أبي حفص وأخيه السيد أبي سعيد إلى مراكش في أول شهر رجب سنة 560 هـ، فاستقبل الجميع بالحضرة أروع استقبال، وأنشد الشعراء تهانيهم ومدائحهم. وهكذا تم التفاهم والتعاطف بين الخليفة وأخيه، وأسبل الستار بذلك على ما كان يحيط بموقف السيد أبي سعيد من التوجس والإرجاف (¬1). هذا وقد اعتمدنا فيما تقدم ذكره عن تولية الخليفة أبي يعقوب يوسف وبيعته، وما حدث من تخلف بعض إخوته عن بيعته، على ما ذكره مؤرخا الموحدين المعاصران، البيذق وابن صاحب الصلاة، باعتباره أوثق ما يمكن الاعتماد عليه في هذا الشان (¬2). بيد أنه توجد إلى جانب ذلك رواية أخرى مفادها أن البيعة التي عقدت لأبي يعقوب عقب وفاة أبيه الخليفة عبد المؤمن، لم تكن بيعة تامة، إذ تخلف عنها بعض أشياخ الموحدين، وبعض إخوته، وأنه لذلك اكتفى باتخاذ لقب الأمير حتى تكمل بيعته، وصرف الجيوش التي كانت مجتمعة للجهاد، وعاد إلى مراكش، فأقام بها، وكتب إلى جميع عمالاته بالمغرب وإفريقية والأندلس في طلب البيعة، فوردت إليه من سائر النواحي، ما عدا قرطبة التي كانت لنظر ¬_______ (¬1) لخصنا ما تقدم عن رواية ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة على المستضعفين (مخطوط أكسفورد السالف ذكره) لوحات 48 إلى 57، وأضربنا عن نقل ما أورده ابن صاحب الصلاة من مختلف قصائد المدح والتهنئة. وراجع في ذلك أيضاً " البيان المغرب " القسم الثالث، وهو يلخص كذلك عن ابن صاحب الصلاة (ص 59 - 62). (¬2) الأول في كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 84، والثاني في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 45.

أخيه السيد أبي سعيد عثمان، وبجاية التي كانت لنظر أخيه السيد أبي محمد عبد الله. وفي سنة 559 هـ، وفد عليه أخواه السيد أبو سعيد، والسيد أبو عبد الله، كل في أشياخ إمارته، طائعين تائبين، وقدما إليه البيعة، وبذلك كملت بيعته. وذكر القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر، وهو من قضاة عبد المؤمن ومن مؤرخي الموحدين، أن أبا يعقوب يوسف بويع بيعة الجماعة واتفقت الأمة على بيعته في اليوم الثامن من ربيع الأول سنة 560 هـ، وذلك بعد وفاة أبيه بعامين، وبعد أن بايعه أخوه السيد أبو سعيد والي قرطبة، وتسمى من ذلك الوقت بأمير المؤمنين، بعد أن كان يتسمى بالأمير (¬1). وتولى السيد أبو حفص منذ البداية شئون الحجابة لأخيه السيد أبي يعقوب " على معنى الوزارة والإمارة " بتنفيذ الأوامر السلطانية باسمه وعن أمره، على نحو ما كان عليه عند أبيه الخليفة عبد المؤمن من تولي شئون وزارته. والظاهر مما تؤكده لنا الرواية من أن السيد أبا حفص كان يزاول سلطته عن رضى من أخيه السيد أبي يعقوب، وأن علائق الأخوين كانت يسودها الصفاء والمحبة، أن السيد أبا حفص، كان في منصبه يزاول سلطة مطلقة، وأنه كان هو الخليفة الفعلي، وأنه لم يترك لأخيه السيد أبي يعقوب سوى مظاهر الإمارة الشكلية. وكان الوزير إدريس بن إبراهيم بن جامع وهو من قرابة المهدي، يمثل بين أيديهما لرفع المسائل، وتوصيل رغبات الوافدين والسائلين، وكان يؤدي دوره في تنظيم الصلة بين الأميرين، وفي التوسط بينهما، ببراعة وكياسة (¬2). بيد أن السيد أبا حفص لم يمكث في منصبه هذا سوى فترة قصيرة لم تطل سوى عامين، وانفرد بشئون الحجابة والوزارة من بعده الوزير ابن جامع (¬3). وفي بداية عهد أبي يعقوب في سنة 559 هـ (1164 م) وقعت ثورة محلية في منطقة غُمارة، بزعامة مزيزدَغ الغماري الصنهاجي من صَنهاجة مفتاح، فتغلب على تلك المنطقة، والتفت حوله جموع غفيرة من غمارة، وصنهاجة، ¬_______ (¬1) راجع روض القرطاس ص 137. (¬2) ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة " (المخطوط السالف الذكر لوحة 48 ب) وكذلك البيان المغرب، القسم الثالث ص 59. (¬3) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 71 أ، والمعجب ص 137، والبيان المغرب القسم الثالث ص 65.

وأورية، وضرب السكة باسمه، ثم سار إلى أراضي تاودا، على مقربة من فاس، وعاث فيها وقتل كثيراً من أهلها، فسير الخليفة أبو يعقوب لقتاله جيشاً موحدياً بقيادة يوسف بن سليمان. وفي رواية البيذق أن الموحدين قاتلوا مزيزدَغ، حتى بددت قواته، وأذعن للتوحيد، ثم سمح له بأن يجوز إلى الأندلس، وهنالك نزل بقرطبة. ولكن صاحب روض القرطاس، يقول لنا بالعكس إن الثائر قتل وحمل رأسه إلى مراكش (¬1). وقد أشرنا فيما تقدم إلى الحملة التي جهزها السيد أبو حفص لإمداد قوات الأندلس، وذلك حين سيره لمقابلة أخيه أبي سعيد بجبل الفتح. وقد عبرت هذه الحملة، وقوامها نحو أربعة آلاف فارس، معظمهم من العرب، البحر بقيادة الشيخين أبي سعيد بن الحسن، وأبي عبد الله بن يوسف، وسارت تواً إلى إشبيلية. وأرسل منها نحو خمسمائة فارس إلى مدينة بطليوس لتعزيز حاميتها، وتصادف أن كانت ثمة قوة من النصارى من أهل شنترين تغير على تلك المنطقة، فقاتلها الفرسان الموحدون ومزقوا شملها، وأفنوا معظمها. وسار الشيخان أبو سعيد وأبو عبد الله ببقية العسكر من إشبيلية إلى قرطبة لتعزيز جبهتها الدفاعية، إزاء هجمات ابن مردنيش. وما كاد الموحدون يستريحون قليلاً، حتى خرجوا إلى أحواز قرطبة، وهنالك التقوا في وادي " لك " القريب منها بجمع من عسكر ابن مردنيش، وهم الذين ينعتهم مؤرخ الموحدين " بالأشقياء "، فنشبت بين الفريقين معركة عنيفة، أبلى فيها الموحدون أحسن البلاء واستمر القتال بينهما طوال اليوم على شرب الماء، وافترقا دون حسم، وكان ذلك في شعبان سنة 560 هـ (1165 م). وبعث الشيخان أبو سعيد وأبو عبد الله بأنباء المعركة إلى مراكش، ووصفا ما لقياه في القتال من هول ومشقة، وطلبا العون والإنجاد، فاهتم لذلك السيد أبو حفص وجهز في الحال جيشاً من الموحدين والعرب، وخرج من مراكش في قواته ومعه أخوه السيد أبو سعيد عثمان والي قرطبة، في أوائل شهر رمضان، وأسرع في السير وعبر البحر، ووصل بجموعه إلى إشبيلية، وهنالك اجتمع بزعماء الموحدين، وقر الرأى على محاربة ابن مردنيش في عقر أراضيه قبل أن يبادرهم بمهاجمة قرطبة (¬2). ¬_______ (¬1) راجع أخبار المهدي ابن تومرت ص 124، وروض القرطاس ص 137. (¬2) ابن صاحب الصلاة في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 57 ب و 58 أ.

وخرجت القوات الموحدية من إشبيلية في أول شهر ذي القعدة سنة 560 هـ، وسارت نحو الشمال الشرقي معرجة على قرطبة، حتى وصلت إلى أندوجر، وهي من معاقل ابن مردنيش التي تهدد سلامة قرطبة. فهاجمتها واستولت عليها في الحال عنوة، وبادر أهل الحصون المجاورة إلى إعلان الطاعة وطلب الأمان، وأغار الموحدون على أحواز أندوجر واستولوا على كثير من السبي والغنائم. ثم حشد السيد أبو حفص صفوة جنده من الموحدين والعرب وسار من أندوجر جنوباً، قاصداً إلى مرسية، من طريق السهل، فوصل إلى مشارف مدينة بسطة، دون أية مقاومة، وجنده تعيث في تلك المنطقة، وتنتزع الأقوات وتستاق الماشية، وهنالك على مقربة من بسطة وافته حشود غرناطة ومنهم فرقة من الرماة، وسار الجيش الموحدي بعد ذلك صوب لورقة، ماراً بحصن بلج أو بلش (¬1) وهو من أهم معاقل ابن مردنيش في تلك المنطقة، فسلم قائده العزفي وأصحابه بالأمان، ووضعت به حامية موحدية (¬2). وكان محمد بن سعد بن مردنيش أثناء ذلك قد حشد قواته، ومنها جمع كبير من النصارى، وخرج من مرسية يزمع اعتراض الموحدين عند لورقة، ويحول دون سلوكهم منها إلى مرسية، فلما رأى الموحدون صعوبة اختراق هذا الطريق الجبلي الوعر تحولوا إلى غرب لورقة، وانحدروا إلى السهل المسمى " بالفندون " وهو السهل الواقع بين لورقة وقرطاجنة، وهو من أخصب بقاع هذه المنطقة، ثم اخترقوا السهل نحو مرسية. وهذا ما ورد في خطاب الفتح الذي أرسل فيما بعد إلى مراكش. ولكن البيذق يقول لنا بالعكس إن الموحدين غلبوا على لورقة، وقرطاجنة وبلّش، ووحد أهلها، وأن ابن مردنيش حينما قدم إلى لورقة كان بها الموحدون (¬3). وكان ابن مردنيش في تلك الأثناء قد ارتد بجنده نحو مرسية من الطريق الجبلي. فلما كان يوم الجمعة السابع من ذي الحجة سنة 560 هـ (15 أكتوبر سنة 1164 م)، أشرف الموحدون عند الظهر على فحص مرسية، على بضعة أميال منها، ونزلوا ¬_______ (¬1) هو المسمى بالإسبانية Velez Rubio. (¬2) وردت تفاصيل سير الحملة الموحدية في خطاب الفتح الذي أرسل إلى مراكش بعد موقعة فحص الجلاب ونقله إلينا ابن صاحب الصلاة وسنأتي على ذكره. (¬3) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 126.

بموضع فيه يعرف " بفحص الجلاّب ". وهنالك أشرف ابن مردنيش بقواته قبالتهم، فنظم الموحدون قواتهم من أهل هرغة وتينملل وهنتانة وجدميوه وباقي القبائل الموحدية، كما نظم الجند العرب من بني هلال ورياح والجشميين والرعينيين وحرس الأمير الأسود. ويبدو من خطاب الفتح السالف الذكر أن جيش الموحدين كان يضم عندئذ زهاء اثنى عشر ألف مقاتل من حامية غرناطة، من ذلك نحو أربعة آلاف هي التي كانت تحت إمرة الشيخين أبي سعيد وأبي عبد الله، وثمانية آلاف هي جملة الحملة التي عبر بها السيد أبو حفص وأخوه. وأما جيش ابن مردنيش فلم تذكر لنا الرواية جملته، ولكنها تقدر من كان به من النصارى المرتزقة بثلاثة عشر ألف مقاتل (¬1). وتعاهد الموحدون على الصدق والثبات والصبر، والاستشهاد في سبيل الله، وبدأ ابن مردنيش الهجوم فانقضت قواته أولاً على الجند العرب، ثم تحول إلى مهاجمة الموحدين، فهاجمهم مرتين متواليتين، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة، قاتل فيها الموحدون والعرب أشد قتال وأروعه، واستمرت حتى مغيب الشمس، ورجحت كفة الموحدين في النهاية، ففتكوا بجيش مردنيش، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وسقط في الموقعة شيوخ العرب السبعة فيمن سقط من الموحدين، وارتد ابن مردنيش في فلول قواته إلى تل قريب إلى أن دخل الليل ففر مسرعاً إلى مرسية، وامتنع بداخلها. وفي صباح اليوم التالي الثامن من شهر ذي الحجة (16 أكتوبر)، سار الموحدون إلى مرسية، حتى اقتربوا منها، ونزلوا بساحتها، وأمضوا بها عيد الأضحى، وخرجت سرياتهم تدمر أحوازها وضياعها، ومنها بساتين ابن مردنيش اليانعة، مدى أيام، حتى امتلأت أيديهم بالغنائم والأقوات، ووصلت طلائعهم إلى أوريولة وألش. وبعث السيدان أبو حفص وأبو سعيد إلى أخيهما الخليفة أبي يعقوب بمراكش بكتاب الفتح والبشرى، من إنشاء الكاتب أبي الحسن بن عياش، فوصل إلى الحضرة في الثالث والعشرين من ذي الحجة، وقرىء على سائر الحاضرين من الأشياخ، والطلبة، ثم قرىء بعد ذلك بالمسجد الجامع على كافة الناس (¬2). ¬_______ (¬1) نشرنا في الفصل الثاني خريطة مملكة الشرق ومواقع غزوات الموحدين لها. (¬2) أورد لنا ابن صاحب الصلاة تفاصيل الغزوة الموحدية لأندوجر، وسير الموحدين إلى مرسية، وموقعة فحص الجلاب في كتاب " المن بالإمامة " المخطوط السالف الذكر لوحة 58 أإلى لوحة 60 ب. كما أورد لنا نص الخطاب الذي أرسل بالفتح إلى مراكش (لوحة 60 ب إلى لوحة 63 أ) =

وكانت هزيمة فحص الجلاب من أقسى الضربات التي أصابت ابن مردنيش، وكانت بداية انحلال ثورته، وانهيار سلطانه في شرقي الأندلس. وحدث في مراكش خلال ذلك أعني في عام 560 هـ، وفي أثناء غياب السيد أبي حفص بالأندلس، حدث هام، هو تولي الخليفة أبي يعقوب يوسف لسلطانه المباشر، واختصاصه للوزير أبي العلاء إدريس بن جامع بتدبير الشئون وتقريبه إياه، واختار ابن جامع لمعاونته صفوة من رجاله المخلصين، في مقدمتهم الخطيب أبو الحسن الإشبيلي، وأبدى في منصبه كفاية وغيرة ونزاهة، وبذل في تصريف الأمور وإقامة العدل، وتوطيد السكينة والأمن، جهوداً مشكورة، حتى كان الراكب وفقاً لقول المؤرخ " يسير حيث شاء من بلاد العدوة في طرقها من جبلها وسهلها آمناً في نفسه وماله لا يخاف إلا الله ". وأحسن لمن وفد عليه واستغاث به، من أجناد الأندلس المُضامين أو المأسورين، يفتديهم بماله، ويهبهم الخيل وآلات الحرب والكساء، وأسبغ رعايته على الموحدين المقيمين، وعلى طلبة الحضر الوافدين إلى العاصمة، وفرض الزكاة على حكم الكتاب والسنة، وأنفقها في وجوهها المشروعة (¬1). وحدث في هذا العام أيضاً أن عادت الفتنة إلى منطقة غُمارة، وعادت بعض بطون صنهاجة إلى نقض الطاعة بقيادة سبع بن منعفاد. فخرج إليهم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، في حملة من الموحدين، سارت إلى جبال غمارة، وضيقت على الثوار، حتى أذعنوا إلى طلب الأمان تائبين ضارعين، معلنين للطاعة والخضوع (¬2). بيد أنه كان، كما سنرى، خضوعاً خادعاً مؤقتاً. - 2 - على أثر انتصار الموحدين في موقعة فحص الجلاب، قام السيدان أو حفص وأبو سعيد، بوضع حاميات موحدية في الأماكن المفتوحة، وتنظيم حكمها، ¬_______ = وتراجع أخبار موقعة فحص الجلاب أيضاً في روض القرطاس ص 137، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 64 و 65، وكذلك في Huici Miranda: Imperio Almohade, V. I. p. 226 & 227 M. O. Remiro: Murcia Musulmana, p. 219 - A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 541 (¬1) كتاب " المن بالإمامة " المخطوط السالف الذكر لوحة 71 أوب، وكذلك البيان المغرب القسم الثالث - ص 65، و 66 وهو ملخص من كتاب " المن بالإمامة ". (¬2) كتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 124، و " المن بالإمامة " لوحة 72 أ.

وضبط الأمور فيها، ثم انصرفا من ظاهر مرسية، في القوات الموحدية، عائدين إلى الأندلس. ولما وصلا إلى قرطبة، تخلف بها السيد أبو سعيد بموافقة سابقة من أخيه الخليفة، ليستأنف بها مهام منصبه في الولاية عليها، وسار السيد أبو حفص إلى إشبيلية، ثم عبر البحر إلى العدوة، عائداً إلى حضرة مراكش، فوصل إليها في ضحى اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 561 هـ. ويقدم إلينا ابن صاحب الصلاة وصفاً ضافياً لاحتفال الخليفة أبي يعقوب باستقبال أخيه في ظاهر مراكش، وما تلا ذلك من الحفلات والمآدب وتوزيع الصلات. ولا بد لنا أن ننقل هنا موجزاً لهذا الوصف، أولا كنموذج لحفلات الابتهاج الموحدية، وثانياً كنموذج لبعض نواحي الحياة الاجتماعية الرسمية، التي يصفها لنا ابن صاحب الصلاة خلال روايته من آن لآخر. يقول ابن صاحب الصلاة، إن الأمير الإمام أبا يعقوب، خرج بنفسه لاستقبال أخيه، بعد أن كتّب كتائبه المنصورة الحاضرين معه بحضرة مراكش، وكسا حرسه الأسود بالثياب الزاهية، واصطفت الفرسان المدرعة من الموحدين وغيرهم، والرجال بالدورق والرماح، وجعل الرايات خلف ركابه، وحملة الطبول مع خاصة أصحابه، وهو راكب جواده، ووزيره أبو العلاء إدريس ابن جامع راجل لصق ركابه، وهو يحدثه، ويصدر الأمير أوامره، فينفذها الوزير، ثم يرجع إليه، وعلى عاتق الأمير رمح طويل. والتقى الأمير بأخيه في الساحة التي كانت قائمة عندئذ تجاه باب الشريعة، فلما التقى الأميران، تجاوبت الخيل بالحملات والحراب والطبول، ثم نزل الأخوان كل عن فرسه، والتقيا وتصافحا، ثم سلم الناس الواصلون على الأمير وعلى من حضر، ثم ركبوا إلى القصر العبيق في أعظم أبهة فوصلا إليه بعد العصر، واجتمعا به. وفي اليوم التالي، أقيمت المآدب الحافلة بالأطعمة والأشربة للموحدين والعرب الواصلين، ولجميع المقيمين، واستمر ذلك خمسة عشر يوماً. ثم وزعت الكسى من العمائم والبرانس والأكسية. وتسلم كل فارس طقماً كاملا من الكساء يتكون من عفارة وعمامة وكساء وقسطية وشقة، وأنعم على جميع الناس من الغازين والقاطنين وطلبة الحضر، ووزعت عليهم الأعطية المالية، من الذهب والدراهم، فخص الفارس سواء من الموحدين أو العرب، عشرون ديناراً، ولكل من أعيان الموحدين وأشياخهم وكذلك أشياخ العرب، مائة دينار، وعم بذلك البشر والحبور، واستمرت

الطبول في قرعها خمسة عشر يوماً، ثم انصرف الغازون إلى قبائلهم (¬1). وكان أول ما عنى به الخليفة أبو يعقوب بعد الانتهاء من هذه الحفلات، هو النظر في تعيين الولاة. وكانت بجاية وإشبيلية في مقدمة الولايات التي خلت رياستها، فقرر الخليفة بعد مشاورة أخيه السيد أبي حفص، أن يعين لولاية بجاية وأقطارها أخاه السيد أبا زكريا يحيى بن عبد المؤمن. فسار إليها من الحضرة في فاتحة جمادى الأولى سنة 561 هـ، ومعه جملة من أبناء الجماعة والحفاظ وعين لولاية إشبيلية الشيخ أبا عبد الله بن أبي إبراهيم إسماعيل، أحد أصحاب المهدي العشرة، وعين له وزيراً لمعاونته هو أبو زكريا بن سنان، وهو من أكابر علماء الدعوة المهدية، فغادر مراكش في صحبة من الحفاظ إلى مقر ولايته، في الحادى والعشرين من جمادى الآخرة، ووصل إلى إشبيلية في أول شهر رجب. وما كاد يصل إليها، حتى كانت جماعة من نصارى شنترين، قد اخترقت ولاية الغرب، ووصلت في غارتها إلى بلدة طلياطة، الواقعة جنوبي شرقي لَبلة. فجهز الشيخ أبو عبد الله حملة لردهم من الحفاظ والعرب وجند إشبيلية، بقيادة أبي العلاء بن عزون، فادركتهم وهزمتهم، واستنقذت منهم الغنائم والأسرى، وأسرت جملة منهم. وبعث الوالي الجديد بخبر هذه الموقعة إلى الخليفة فسر به، وبعث إليه بشكره. ولم يمض على انفراد الشيخ أبي عبد الله بولاية إشبيلية سوى أشهر قلائل، حتى عين الخليفة أخاه السيد أبا إبراهيم إسماعيل بن عبد المؤمن والياً لإشبيلية، فوصل إليها في أول شهر ذي الحجة سنة 561 هـ، وتقرر أن يبقى معه الشيخ أبو عبد الله، على ما كان عليه، وأن يتولى الشئون العسكرية، وتوثقت أواصر المودة والتعاون بين الرجلين، واستمرا معاً في النظر في شئون إشبيلية، حتى وصل أمر الخليفة بندب الشيخ أبي عبد الله للقيام بولاية غرناطة وذلك في أواخر شعبان سنة 562 هـ، فغادر إشبيلية في صحبه من الحفاظ وغيرهم في أوائل شهر رمضان إلى غرناطة، واستقر في ولايتها، واستدعى الخليفة في نفس الوقت أخاه السيد أبا سعيد، والي قرطبة للقدوم إلى الحضرة، فغادرها في أوائل ذي القعدة سنة 561 هـ. وفي نفس هذا العام أعنى سنة 561 هـ قرر الخليفة أبو يعقوب بالاتفاق ¬_______ (¬1) كتاب " المن بالإمامة " لوحة 73 أوب ولوحة 74 أ.

مع أشياخ الموحدين، أن يتخذ العلامة الخلافية ونصها " والحمد لله وحده " وأن يكتبها بخط يده على المراسيم والأوامر، فتنفذ بمقتضاها. وصدرت أول رسالة ممهورة بالعلامة الخلافية في الثالث من شهر رمضان مدبجة بقلم الوزير الكاتب أبي الحسن بن عياش، وموجهة إلى أخي الخليفة السيد أبي سعيد وأصحابه الطلبة بقرطبة، على أن تنفذ منها نسخ إلى مختلف البلاد، وفيها بعد الديباجة الموحدية المعتادة، يوصي الخليفة بأن تجري الأحكام وفقاً للعدل، وأن تُرفع إليه أحكام الإعدام، فلا يقضى الموحدون في الدماء من تلقاء أنفسهم، ولا يريقوها بباد أو رأى من آرائهم، إلا بعد أن ترفع النازلة إلى الخليفة، وتشرح وتقيد بالشهود والعدول " وتكتب أقوال المظلومين وحججهم، وإقرارهم واعترافهم، وحجج الظالمين في مقالاتهم واستظهارهم في بياناتهم معطي كل ذي حق حقه، موفي كل قائل قوله "، وأن يدقق في الجرائم التي دون القتل، من ضرب أو جرح أو سرقة أو قتل خطأ، وكذلك في سائر المعاملات والأموال واستحقاقها وفي الرقاب وعتقها أو استرقاقها، وفي المناكحات فلا يبت في أمرها إلا بعد المطالعة، وتعرّف وجه الحق فيها، والاستناد إلى النصوص والأحكام الصحيحة، وأنه يجب التوقف ومراعاة أنه لا يقدم على إراقة الدماء، واستباحة الأموال، واستحلال الحرمات، إلا بوجه صحيح. ويختتم الخليفة رسالته بحثّ الموحدين على العمل بما جاء فيها، وأنه يجب عليهم في جميع الأحوال، تقوى الله في السر والجهر، وخيفته في الباطن والظاهر، والجرى على سنته، وأنه يجب إذاعة هذا الكتاب، والتشهير به، وجمع الناس لقراءته، وتعريف الحاضر والغائب بما فيه، وأن ترسل منه نسخ إلى سائر الجهات ليعمل الناس بما جاء " في هذا الأمر العزيز من إقامة العدل، وبسط الدعة والأمن، وإقامة أمر الله على وجهه المتعين وسننه الواضح البين " (¬1). وإنه لما يلفت النظر في هذه الرسالة بنوع خاص، اهتمام الخليفة البين بمسألة أحكام الإعدام، وإراقة الدماء، وتشدده في المطالبة برفعها إليه، وفي ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة النص الكامل لهذه الرسالة في كتاب " المن بالإمامة " لوحة 79 أإلى لوحة 82 أونقلها العلامة جولدسيهر في بحثه الذي سبقت الإشارة إليه Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung (Z. der Mog. Geselisch., 1887 p. 184-188) وقد نشرناها نحن في باب الوثائق الموحدية في نهاية الكتاب.

وجوب تحري الدقة في شرحها، وتقييدها بالشهود والعدول، وإثبات أقوال المظلومين وحججهم، وأقوال الظالمين، أعني المدعين وحججهم، فهذا الاهتمام البالغ من أبي يعقوب، بالحرص على صون الدماء، والتنكيب عن إراقتها إلا بوجه الحق، ومنتهى الدقة والحذر، يحملنا على الاعتقاد بأن هذا الخليفة العالم، والفقيه البارع، قد تأثر أيما تأثر بما أبداه الموحدون منذ عهد المهدي، من خفة في سفك الدماء، ومن إسراف في إراقتها، وما اتسم به عهد أبيه الخليفة عبد المؤمن من سيطرة هذه الظاهرة الدموية المروعة، وأنه أراد برسالته أن يحمل زعماء الموحدين من أمراء وأشياخ وحكام، على التزام نوع من الحرص والاعتدال في إراقة الدماء، وفي تقرير أحكام الإعدام. ولما وصلت رسالة الخليفة إلى أخيه السيد أبي سعيد بقرطبة، وجهت منها نسخ إلى سائر بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، وقرئت على الناس في الجوامع، وغادر السيد أبو سعيد قرطبة بعد ذلك بقليل، عائداً إلى حضرة مراكش نزولاً على رغبة الخليفة حسبما تقدم. وفي أوائل سنة 562 هـ (1166 م) عادت الفتنة إلى جبال غمارة بين قبائل صنهاجة، وعاد زعيمها سبع بن منعفاد إلى الخروج والعصيان، وبسط سلطانه على سائر المنطقة الممتدة من بلاد الريف على شاطىء البحر الأبيض المتوسط شمالا حتى سبتة، وأخذ يعيث فساداً في تلك المنطقة، ويقطع الطرق، ويعتدي على السكان الآمنين قتلا وسبياً ونهباً، ووصل عيثه وعدوانه غرباً حتى منطقة القصر الكبير. وكان قيام الثورة في تلك المنطقة الحساسة، التي هي شريان المواصلة بين المغرب والأندلس من أخطر الأمور، التي يجب حسمها بقوة وبسرعة. ومن ثم فقد سير الخليفة جيشاً موحدياً بقيادة أبي سعيد يخلف بن حسين إلى بلاد صنهاجة من جهة القلعة، وكان الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، قد تقدم في عسكره إلى ناحية أخرى من منطقة الثورة، فقاوم الثوار أشد مقاومة، وامتنع سبع بن منعفاد بقواته في جبل الكواكب، ولم تنل القوات الموحدية من الثوار مأرباً. وعندئذ رأى الخليفة أن يسير بنفسه إلى مقاتلة الثوار، فخرج في جيش كثيف، ومعه أخواه السيدان أبو حفص وأبو سعيد، وسار إلى جبال غمارة، ونازلت القوات الموحدية الزعيم الثائر في أعماق معاقله، وأحاطت به وبسائر صحبه من كل ناحية، وأمعنت فيهم قتلا وأسراً، ومزقوهم تمزيقاً، واحتلوا

أراضيهم، وقتل زعيم الثورة سبع بن منعفاد، وصلبت جثته، وأذعنت سائر صنهاجة في تلك المنطقة، وتضرعت إلى الصفح والأمان، فأُجيبت إلى ما طلبت. وتم قمع ثورة غمارة في أوائل شوال سنة 562 هـ (أغسطس سنة 1167 م). واستولى الموحدون على غنائم هائلة من الماشية ودواب الحمل، وأسروا من الثوار نحو أربعة آلاف. وعاد الخليفة أبو يعقوب في عساكره المظفرة إلى حضرة مراكش، وصدرت عن هذا الفتح رسالة مطولة بقلم الكاتب أبي الحسن بن عياش مؤرخة في الرابع عشر من شوال، ووجهت إلى سائر الموحدين والأشياخ والطلبة بالمغرب والأندلس (¬1)، وعين الخليفة أخاه السيد أبا الحسن على والياً على سبتة وسائر منطقة الريف وغمارة. ومما هو جدير بالذكر أنه لم تمض على إخماد فتنة غمارة بضعة أشهر، حتى حدثت فتنة جديدة، وثار بعض البطون البربرية بجبل تاسررت، وأعلنوا خلع الطاعة، فسار إليهم السيد أبو حفص أخو الخليفة في عسكر وافر من الموحدين واشتد في قتالهم، حتى مزقهم واستأصل شأفتهم (¬2). - 3 - أشرنا فيما تقدم إلى ندب الخليفة أبي يعقوب للحافظ الشيخ أبي عبد الله بن أبي إبراهيم لولاية غرناطة وذلك في شعبان سنة 562 هـ. وكان أول ما عنى به الوالي الجديد، أن يطهر أحواز غرناطة من عدوان المرتزقة النصارى من أحلاف ابن مردنيش، وكانت قوة منهم تحتل حصن " لبه " الواقع فيما بين غرناطة ووادي آش، وتعيث باستمرار في تلك المنطقة، وتبث فيها الخراب والروع، وتصل أحياناً إلى أسوار غرناطة، وتهدد أمنها وسلامتها، فحشد الحافظ أبو عبد الله قواته وسار إلى حصن لبه المذكور، وهاجمه بشدة، واقتحمه عنوة، ومزق حاميته من النصارى، وقضى بذلك على عيثها وشرها، وعاد ظافراً إلى غرناطة، وبعث إلى الخليفة ينبئه بسعيه، فبعث إليه الخليفة برسالة يعرب فيها عن شكره ورضاه. على أن أهم حوادث الأندلس التي وقعت في تلك الفترة، كان مسرحها ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 82 أوب، وكذلك لوحة 96. والبيان المغرب القسم الثالث ص 69، و 70 و 71. وينقل إلينا ابن صاحب الصلاة رسالة الفتح بأكملها وهي تشغل اللوحات من 84 إلى 91. (¬2) ابن صاحب الصلاة لوحة 113 ب.

ولاية الغرب الأندلسية، وكان قيام مملكة البرتغال الناشئة، واشتداد ساعدها في عهد ملكها ألفونسو هنريكيز، يمثل الخطر الجديد على قواعد الأندلس الغربية المتاخمة لهذه المملكة الجديدة، وكان ألفونسو هنريكيز حينما اضطربت شئون الأندلس، وعمت الفتنة قواعد الغرب، قد انتهز هذه الفرصة للإغارة على القواعد الإسلامية المجاورة، وكان يتوق بالأخص إلى الاستيلاء على أشبونة لموقعها الفذ عند مصب نهر التاجُه، ولحصانتها، ولكونها كانت معقل المسلمين المنيع في قلب الأراضي البرتغالية. ولما لم يكن لديه قوى كافية لتنفيذ مشروعه فقد اتجه إلى الاستعانة بالقوات الصليبية المتجهة إلى المشرق من الإنجليز والألمان والفلمنك (الهولنديين)، واستطاع بالفعل أن يجذب منهم لمعونته طوائف كبيرة. وفي أوائل سنة 1147 م (أواخر 541 هـ) سار في قواته لمحاصرة أشبونة، ورابطت القوات الصليبية في البحر، في مدخل الميناء لتحول دون وصول أية أمداد إلى المدينة المحصورة. واستمر الحصار بضعة أشهر، وكانت أشبونة الإسلامية مدينة منيعة، تحميها من ناحية البر أسوار منيعة ضخمة، ولها عدة أبواب عظيمة، وبابها الغربي هو أعظم أبوابها، وقد عقدت عليه حنايا فوق حنايا، على عمد من الرخام، مثبتة على حجارة من رخام، ولها باب قبلي يسمى باب البحر، وباب شرقي يسى باب الحمة (¬1). ووقعت بين المسلمين والنصارى معارك عديدة، ودافع المسلمون عن ثغرهم أشد دفاع، ولكن الحصار كان شديداً مرهقاً، وقد نضبت موارد المدينة المحصورة تباعاً، وثلمت الأسوار في عدة مواضع. ثم استعد البرتغاليون للضربة الحاسمة. وخطب فيهم ملكهم ألفونسو، يحثهم على مضاعفة الجهود في القتال، وليقول لهم إن المدينة غنية بالأموال، التي تمكنهم من متابعة الحرب، وإنها معقل الأعداء وكنزهم، ومستودعهم الذي يزخر بالحلي والنفائس، فعليهم أن يقتحموا هذه الأسوار المثلومة، وأن يأخذوا المدينة. وكانت المعركة الأخيرة قصيرة، ولكن دموية هائلة، ودافع المسلمون، بالرغم مما عانوا من أهوال الحصار، عن مدينتهم، دفاعاً مريراً. ولكن هذا الدفاع اليائس لم يغن شيئاً، واقتحم النصارى الأسوار، ودخلوا المدينة من بابها الشرقي - باب الحمة - وقتل من المسلمين مقتلة عظيمة، وأسر الأحياء منهم، وجعلوا رقيقاً، ونهب النصارى المدينة نهباً ذريعاً، وكان فيها من الأموال والنعم ¬_______ (¬1) الروض المعطار - صفة جزيرة الأندلس - ص 16.

أعظم ما يتصور. وفي الحال حول مسجدها الجامع إلى كنيسة، وعين لها أسقف هو الأسقف جلبرتو، وكان استيلاء البرتغاليين على أشبونة في اليوم الخامس والعشرين، وقيل في الحادي والعشرين من أكتوبر سنة 1147 م (جمادى الأولى سنة 542 هـ) (¬1). واستولى ألفونسو هنريكيز في نفس الوقت على مدينة شنترين الواقعة شمال ْشرقي أشبونة، ثم استولى على سائر الأراضي الإسلامية المتاخمة لتلك المنطقة، والتي تكون القسم الغربي من ولاية " استرامادوره ". ولم يكن من الميسور يومئذ على الموحدين، وقد شغلتهم حوادث المغرب، واضطرام الفتنة بالأندلس، أن يبادروا إلى إنجاد هذه القواعد الإسلامية النائية. واستمر ألفونسو هنريكيز أعواماً يغير على أراضي ولاية الغرب من آن لآخر، ويترقب الفرص السانحة، وقد أشرنا من قبل إلى ما كان من محاولة ابن قسي زعيم فتنة المريدين، أن يحالفه، وأن يستعين به على مقاومة الموحدين، وما ترتب على هذه المحاولة من سقوط ابن قسي وهلاكه (سنة 546 هـ). ولما تفاقم عدوان ملك البرتغال على قواعد الغرب، عبر ابن وزير صاحب باجة ويابرة البحر إلى المغرب مستغيثاً بالخليفة عبد المؤمن (سنة 549 هـ)، ولكن عبد المؤمن اكتفى عندئذ ببذل وعوده في الإنجاد والعون. وفي سنة 555 هـ (1160 م) استولى البرتغاليون بقيادة ألفونسو هنريكيز على الثغر الصغير المنيع المسمى بقصر الفتح أو قصر أبي دانس (¬2)، الواقع على مصب نهر سادو (شطوبر) على المحيط جنوبي شرقي أشبونة، بعد أن حاصروه مدى شهرين من البر والبحر، وكان سقوطه في 24 يونيه من العام المذكور (¬3). وفي أواخر سنة 557 هـ (ديسمبر 1162) قبيل وفاة عبد المؤمن بقليل، قامت حملة قوية من نصارى شنترين بغزو مدينة باجة والاستيلاء عليها، ولبثوا فيها أربعة أشهر، ولم يغادروها إلا بعد أن خربوا ربوعها، وهدموا أسوارها (¬4). ¬_______ (¬1) Mariana: Historia General de Espana: Lib. Decimo Cap. XIX (¬2) وهو بالبرتغالية Alcacer do Sal (¬3) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 239 وكذلك H. Miranda: Imperio Almohade Vol. I. p. 266 (¬4) كتاب " المن بالإمامة " لوحة 118 ب.

هذا وسوف نرى فيما بعد أن استيلاء البرتغاليين على باجة قد وقع وفق رواية أخرى بعد ذلك بعشرة أعوام. ولم يمض قليل على ذلك، حتى بدأ نصارى البرتغال سلسلة جديدة من الاعتداءات على القواعد والأراضي الإسلامية. وكان منظم هذا العدوان وقائده مغامر يدعى جيرالدو، وينعت في التواريخ النصرانية " بالباسل " Geraldo sem Pavor ، وكان هذا المغامر الذي تعرفه الرواية الإسلامية " بالعلج جراندة الجليقي " قاطع طريق أو رئيس عصابة ناهبة، ألفى مجالا طيباً لنشاطه في الظروف التي كانت سائدة يومئذ في بلاد الغرب الأندلسية، وكان يغير بالأخص على المحلات والأراضي الإسلامية الواقعة في قطاع بطليوس ما بين نهري التاجُه ووادي يانه، ويعيث فيها قتلا وتخريباً ونهباً، وكان يقوم بهذه الغارات والغزوات لحساب نفسه، وفي أصحابه وعصبته، على نحو ما كان يفعل السّيد الكنبيطور (الكمبيادور) في شرقي الأندلس أيام الطوائف. بيد أنه لم يكن يبلغ من ْحيث شخصيته، ولا من حيث عصبته أو مكانته، مبلغ السّيد، وإن كان بعض البرتغاليين يعتبره قرين السيد، ويسميه " بالسيد البرتغالي ". وكان ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز يؤازره، ويعاونه بالمال والرجال، لما يترتب على نجاح حملاته وغاراته من إضعاف المسلمين، والتمهيد لمشاريعه الضخمة في افتتاح قواعدهم. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة -وهو الراوية المعاصر- أعمال جيرالدو ومغامراته في الفقرة الآتية: " كان أدفونش الرنك الغادر الجليقي، صاحب قلمرية، قد عاين من نجدة هذا الكلب جراندة، وتيقظه لغدر البلاد والحصون، ما أعانه على ذلك برجاله، وسلطه على المسلمين في الثغور بأرجاله، فكان الكلب يتسلل في الليالي المطرة الحالكة المظلمة، الشديدة الريح والثلج، إلى البلاد، وقد أعد آلات من السلالم من أطول العيدان، يعلو سور المدينة التي يؤم ويروم، فإذا نام السامر المسلم في برج المدينة، ألقى تلك السلالم إلى جانب البرج، ورقى عليها بنفسه أولا إلى البرج، وينقض على السامر، ويقول له، تكلم على ما كانت عادتك ليلا يشعر الناس بنا، فإذا استوفى طلوع حملته، ألزمه في أعلى سور المدينة، صاحوا بلغاتهم صيحة عظيمة منكرة، ودخلوا المدينة، وقتلوا من وجدوه

واستلبوه، وأخذوا كل من فيها سبياً وفَنْياً " (¬1). وكانت أول قاعدة إسلامية غزاها جيرالدو في ذلك القطاع من ولاية الغرب، هي مدينة تَرجالُه (¬2) الواقعة شمالي ماردة على مقربة من نهر التاجُه، فدهمها في شهر جمادى الأولى سنة 560 هـ (مايو سنة 1165 م)، ثم انقض على مدينة يابُرة في شهر ذي القعدة من نفس العام (سبتمبر 1165)، وباعها مع ترجالُه إلى النصارى. ثم سار إلى مدينة قاصرش (¬3) الواقعة غرب ترجالُه، واستولى عليها في صفر سنة 561 هـ (ديسمبر 1165)، وتبعها بالاستيلاء على حصن منتانجش الواقع في جنوبها الشرقي في جمادى الآخرة من نفس العام. واستولى أخيراً على حصن شرْبة، ثم حصن جلمانية (¬4) الواقع على مقربة من غربي بطليوس، واتخاذه قاعدة للإغارة عليها، والتضييق على أهلها. وكانت هذه الغزوات المتوالية التي وقعت بولاية الغرب في نفس الوقت الذي شغل فيه الموحدون بمقاتلة ابن مردنيش في شرقي الأندلس، مقدمة لغزو بطليوس وسقوطها، وتحريك الموحدين بذلك إلى المبادرة إلى خوض الصراع مع النصارى، لاسترداد بطليوس، وحماية ولاية الغرب الأندلسية من السقوط. وشغل الخليفة أبو يعقوب في العام التالي - سنة 562 هـ - حسبما رأينا بقمع فتنة غمارة. وفي أوائل سنة 563 هـ (1167 م) اتفق رأي الموحدين على تجديد البيعة للخليفة. وليس في أقوال الرواية ما يوضح سبب هذا الإجراء في تجديد بيعة سبق عقدها عقب وفاة الخليفة عبد المؤمن، واستكمالها في سنة 560 هـ، حينما تمت بيعة السيد أبي سعيد والسيد أبي عبد الله لأخيهما الخليفة، وتسمى أبو يعقوب عقب ذلك بأمير المؤمنين، اللهم إلا أن يكون ذلك عنواناً لإجماع سائر البلاد والقبائل على الطاعة بعد إخماد ثورة غمارة التي شملت منطقة كبيرة حساسة في شمالي المغرب، والتي اقتضى إخمادها أن يسير إليها الخليفة بنفسه. ويزف ابن صاحب الصلاة إلينا هذا الإجراء كعادته في ألفاظ منمقة، ¬_______ (¬1) في كتاب المن بالإمامة لوحة 118 أ. وراجع أيضاً البيان المغرب القسم الثالث ص 78، وكذلك ابن خلدون ج 6 ص 239. (¬2) هي بالإسبانية " Trujillo ". (¬3) هي بالإسبانية " Caceres ". (¬4) منتانجش بالإسبانية Montanchez، وشربه Serpa، وجلمانيه urumena.

ويقول لنا في حوادث سنة 563 هـ، " في أول هذه السنة خنع الله القلوب بخلوص الضمائر المؤذنة بالسعود والبشاير، من الآراء الموفقة، والنفوس المصفقة بتجديد البيعة، والتسريح بالإسمية المستحق لسيدنا، فكمل ذلك بإجماع الموحدين، أعزهم الله ". ثم يقول لنا، إن هذا الأمر العزيز، قد نفذ بكتاب كريم، أرسل إلى أخي الخليفة السيد أبي إبراهيم إسماعيل والي إشبيلية، منبئاً له " بما اتفق من اجتماع الرأي السعيد، والفعل السديد، الذي اجتمعت عليه آراء الموحدين .. من تجديد البيعة الرضوانية والإسمية الإمامية للإمام أبي يعقوب ". وفي هذا الكتاب يأمر الخليفة بأن يأخذ الناس بما جاء فيه، وجميع الموحدين بإشبيلية، وسائر بلاد الأندلس التي تحت نظر الموحدين، مثل قرطبة وغرناطة ومالقة وغرب الأندلس، وذلك بعقد البيعة على أوفى شروطها. فوجه السيد أبو إبراهيم نسخة الكتاب إلى زميله الحافظ أبي عبد الله والي غرناطة، فاحتفل بقراءته من فوق المنابر، وهرع الناس إلى إعطاء بيعتهم، وسجلوها في كتاب أرسل إلى الخليفة. وكتب أهل إشبيلية كذلك بيعتهم، ووقعوها بخطوطهم، ووجهها السيد أبو إبراهيم إلى الخليفة. وقد نقل إلينا ابن صاحب الصلاة نص الوثيقتين المذكورتين، وقد أرخت كلتاهما في النصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وستين وخمسمائة (¬1)، وأرسلت في نفس الوقت بيعات سائر القواعد الأخرى، سواء بالمغرب أو الأندلس، إلى حضرة مراكش. ولما كملت البيعة الجديدة على هذا النحو تسمى الخليفة أبو يعقوب بأمير المؤمنين، وساد اليمن والبشر، وأصدر الخليفة عفوه عن المسجونين، وأمر برفع البقايا عن العمال الخائفين، وتأمينهم من المخاوف، فيما تقيد عليهم في الدواوين، وأغدق الصلات والأعطية، وأمر بأن يجرى " الإنعام والبركات " في سائر بلاد المغرب والأندلس، فكثرت النعم، وعم الرخاء ونمت الجبايات والخراج، وانتعشت حركة العمران في العاصمة الموحدية، وشرع الناس في إنشاء الدور الفخمة، والرياض اليانعة، وكثرت بهذه المناسبة مدائح الشعراء وتهانيهم. فمن ذلك قصيدة نظمها أبو عمر بن حربون شاعر الدولة الموحدية هذا مطلعها: جاءتك تسحب ذيلها للموعد ... زهراء طالعة بسعد الأسعد ¬_______ (¬1) كتاب " المن بالإمامة "، لوحة 100 إلى 104 أ. وقد رأينا أن ننقل نص بيعة إشبيلية في باب الوثائق، فلتراجع هنالك.

فاصدع أمير المؤمنين بدعوة ... لم تترك صمماً لسمع الجامد يهنى الخلافة أن لبست رداءها ... وقعدت منها اليوم أشرف مقعد (¬1). وفي أواخر هذا العام - سنة 563 هـ (1168 م) - ندب أبو يعقوب أخاه السيد أبا إسحاق إبراهيم والياً لقرطبة، وكانت بلا والٍ مذ غادرها واليها السابق السيد أبو سعيد عائداً إلى مراكش نزولاً على رغبة أخيه الخليفة، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 561 هـ. وعبر السيد أبو إسحاق إلى الأندلس في عسكر ضخم من الموحدين وسار إلى قرطبة ليتقلد ولايتها. وكان عبوره فاتحة الحركة التي كانت تجتمع أسبابها منذ حين، لعبور الموحدين إلى شبه الجزيرة، للاضطلاع بمحاربة النصارى، وافتتاح عهد جديد من الجهاد، تُؤَمََنُ فيه الأندلس، ويقمع عدوان المعتدين عليها. - 4 - والواقع أن الموحدين كانت قد انعقدت نيتهم على الاضطلاع بهذه الخطوة، التي برهنت حوادث الأندلس على ضرورتها، وذلك سواء في الشرق أو الغرب. وقد أبلغ الخليفة أمر هذه النية، وما اتفق عليه رأى الموحدين بشأنها، إلى الشيخ الحافظ أبي عبد الله والي غرناطة، في رسالة خاصة وجهها إليه، مؤرخة في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة سنة 563، وفيها يشير إلى ما تقرر من إرسال السيد أبي إسحاق في عسكر من الموحدين والعرب إلى قرطبة، وأنه سوف يتعاون بعسكره مع إخوانه الذين بإشبيلية، ويضطلع الجميع بالجهاد وحماية البلاد، وأن يستمر النظر للحافظ أبي عبد الله في شئون الآلات والأسلحة التي تحتاج إليها القوات الموحدية (¬2). وحدث في نفس الوقت الذي وصلت فيه هذه الرسالة إلى غرناطة، أن أغارت قوة من النصارى المرتزقة من جند ابن مردنيش على وادي شَنيل غربي غرناطة، واندفعت جنوباً حتى وصلت إلى أحواز رُندة، وعاثت في تلك المنطقة، وانتهبت أموالها وماشيتها، فبادر السيد أبو عبد الله بتجهيز عسكر قوي ¬_______ (¬1) أوردها ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 107 أوب، ووردت كذلك في البيان المغرب، القسم الثالث ص 74. (¬2) أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحة 110 أوب و 111 أ.

لردها وردعها، فالتقت بهم حين عودتهم على مقربة من وادي آش، فحاول النصارى الامتناع بجبل قريب، ولكن الموحدين دهموهم في أعلى الجبل، وقاتلوهم بشدة، حتى مزقت صفوفهم، وتساقطوا من حافات الجبل، وقد فنى معظمهم قتلا وأسراً، واستاق الموحدون الغنائم والأسلاب، ومعها ثلاثة وخمسين أسيراً من النصارى ضربت أعناقهم عند وصولهم إلى غرناطة (مارس سنة 1168 م)، وبعث السيد أبو عبد الله، بنبأ ذلك النصر إلى الخليفة، فرد عليه برسالة يزجى فيها الشكر، ويحمد الله على توفيقه (¬1). وفي أواخر هذا العام استولى الموحدون على ثغر طبيرة، الواقع في جنوبي البرتغال غرب مصب نهر وادي يانه، وكانت طبيرة من القواعد التي ثارت بالغرب أيام أن اضطربت شئونه، وذلك في سنة 548 هـ، وكان الخليفة أبو يوسف، أيام أن كان والياً لإشبيلية، في أواخر عهد أبيه الخليفة عبد المؤمن، قد نازل طبيرة مرتين، ولم يظفر بفتحها، وكان صاحب طبيرة، عندئذ الثائر بها عبد الله ابن عبد الله، قد تفاقم شره وعدوانه، وكثر عيثه في تلك المنطقة، يعتدى على السكان الآمنين والسابلة، والتجار، بعصبته من أهل الشر وقطاع الطريق، سواء في البر أو البحر، فعندئذ عول الموحدون على أخذ طبيرة، وحسم دائها. فساروا إليها في حملة قوية، واحتلوا حصن قسطلة القريب منها، وحاصروها براً وبحراً، حتى أذعنت إلى التسليم، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 563 هـ (سبتمبر سنة 1168 م) (¬2). وفي أواخر هذا العام أيضاً وقع حادث ذو مغزى خاص، هو قدوم الزعيم القشتالي فرناندو ردريجيس صهر فرناندو الثاني ملك ليون وزوج أخته إبنة القيصر ألفونسو ريمونديس، مع أخويه إلى إشبيلية، والإعراب عن رغبته لأشياخ الموحدين بها، في أن يكون صديقاً وحليفاً لأمير المؤمنين، ومنابذاً لشيعة النصارى، فبعث الموحدون برغبته إلى الخليفة، فأذن له بالقدوم إلى مراكش، فقدم إليها، واستقبله الخليفة أبو يعقوب بترحاب بالغ، وأنزله ومن معه خير منزل، وأقام بالعاصمة الموحدية خمسة أشهر، معززاً مكرماً، " حتى كاد أن ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحة 112 أوب. (¬2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 116 ب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 77 و 78.

يُسلم "، وقد عاهد الخليفة أن يكون حليفه وحليف المسلمين المخلص، لا يشهر عليه عدواناً قط. ثم عاد إلى بلاده وقد أمر الخليفة بأن يشمله الموحدون بأتم الرعاية. ويقدم لنا ابن صاحب الصلاة هذا الزعيم القشتالي باسم " فرناندو راس النصرانى " ويلقبه بصاحب ترجاله، ويصفه " بالشهير النسب والشهامة عند النصارى " (¬1). وتلا ذلك عقد الصلح والتحالف بين فرناندو الثاني ملك ليون وبين الموحدين. وكانت الخصومة تضطرم بين فرناندو وملك البرتغال ألفونسو هنريكيز، بالرغم مما كان بينهما من أواصر المصاهرة، إذ كان فرناندو متزوجاً بالأميرة أورّاكا ابنة ملك البرتغال، وذلك لأسباب كثيرة، أهمها أن فرناندو لم يستطع أن يزاول حق السيادة على البرتغال الذي ورثه عن أبيه القيصر ألفونسو ريمونديس. وكان فرناندو مذ فرغ من مشاغله وحروبه في قشتالة، يتجه بأطماعه نحو مملكة البرتغال، وينظر بعين الحسد والتوجس إلى ما كان يحرزه ألفونسو هنريكيز من انتصارات متوالية على المسلمين، ويخشى بنوع خاص أن تمتد فتوح ملك البرتغال إلى بعض القواعد والأراضي الإسلامية التي يرى فرناندو أنها من خاصة قشتالة وليون. وكان فرناندو قد عمد إلى تحصين مدينة ردريجو، (ثيوداد ردريجو) (¬2) الواقعة على حدود البرتغال، واتخذها قاعدة للإغارة على أراضي البرتغال القريبة، وأنشأ في نفس الوقت عدة قلاع وحصون منيعة على حدود البرتغال. كل ذلك استعداداً لأن يخوض مع ملك البرتغال صراعاً حاسماً. ثم رأى أخيراً أن يقوى جانبه بعقد التحالف مع الموحدين. وتسمى الرواية الإسلامية فرناندو، " بالبيبوج "، و " بصاحب السبطاط " وتسميه أحياناً صاحب " السبطاط وآبلة وليون وسمورة ". فأما " البيبوج " أو" الببوج " فهو تحريف للكلمة القشتالية El-Baboso، ومعناها الكثير اللعاب، وكذلك الأبله. وهذا ما لم يفت الرواية الإسلامية أن تشير إليه (¬3). وأما " صاحب السبطاط " فمعناه " صاحب ثيوداد ردريجو " وقد كانت وقتئذ ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 117 أ - والبيان المغرب القسم الثالث ص 78. (¬2) وهي بالإسبانية Ciudad Rodrigo وبالقشتالية القديمة Cibdad ومنها حرفت التسمية العربية " سبطاط ". (¬3) راجع المعجب ص 182.

مقره وقاعدة تحركاته. وكانت أول ثمرات محالفة فرناندو للموحدين هو أنهم أمدوه بعسكر لمعاونته على قتال الكونت نونيو دى لارا حاكم طليطلة، والمسيطر على ابن أخيه الملك الصبي ألفونسو النبيل ملك قشتالة. وكانت هذه الحملة الموحدية التي حشدت في إشبيلية بقيادة أبي العلاء بن عزون والحافظ أبو علي عمر بن تمصلت، والحافظ موسى بن حمّو. ودخل الموحدون مع قوات فرناندو أراضي قشتالة، وحاربوا معه ضد خصومه، ثم ساروا معه حتى حدود الأسترياس (أشتريش)، وأقاموا في هذه الغزوة خمسة أشهر، ثم عادوا سالمين، وقد اغتبط ملك ليون بمؤازرتهم ونجدتهم، وقطع على نفسه العهد الوثيق، بأن يبادر إلى القتال مع أمير المؤمنين ضد النصارى، الذين يعتدون على أراضيه، وألا يتوانى في ذلك قط، وأقسم على ذلك في بيعة بلده. وقد أوفى بهذا العهد كما سنرى في حوادث بطليوس أتم وفاء (¬1). ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 117 و 118 أ، والبيان المغرب، القسم الثالث ص 78.

الفصل الثانى حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق

الفصل الثاني حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق اهتمام الموحدين بحوادث الأندلس. عزمهم على استئناف الغزو. رسالة الخليفة أبي يعقوب في ذلك. خطة ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال وجيرالدو سمبافور لافتتاح بطليوس. سقوط المدينة وامتناع الموحدين بالقصبة. تدخل فرناندو ملك ليون لإنجاد الموحدين. بواعث خصومته لملك البرتغال. القتال داخل المدينة بين الفريقين. هزيمة ملك البرتغال وأسره، ثم إطلاقه. فرناندو يسلم المدينة للموحدين. تدعيم الدفاع عن قرطبة. الشقاق بين ابن مردنيش وابن همشك. توحيد ابن همشك وانضمامه للموحدين. بعث ابن مردنيش قواته لقتاله. تعيين الحافظ أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص والياً لبطليوس. مهاجمة جيرالدو سمبافور لبطليوس. القتال بينه وبين الموحدين. هزيمة الموحدين وأسر أكابرهم. استدعاء ولاة قرطبة وإشبيلية وغرناطة إلى الحضرة ثم عودهم. غزو القشتاليين للأندلس. تقاعد الموحدين عن ردهم. بعض الأحداث الطبيعية. غارات جيرالدو على بطليوس. سعى الموحدين لإمدادها. معركة بين الموحدين وجيرالدو. هزيمة الموحدين ومقتل الحافظ أبي يحيى. مرض الخليفة وتأخر حركة الغزو. ترجيح البدء بمحاربة ابن مردنيش والقضاء على حركته. عبور السيد أبي حفص في القوات الموحدية. مسير السيد أبي سعيد في قواته لإنجاد بطليوس. مسير ملك ليون إليها لافتتاحها. لقاء السيد والملك النصراني. تفاهمهما على استبقاء التحالف والصلح. افتتاح السيد أبي سعيد لحصن جلمانية. ابن مردنيش وانحلال قواه. عوامل هذا الانحلال. مصادقة ابن مردنيش للنصارى. خروج قادته ووزرائه عليه. مسير الموحدين بقيادة السيد أبي حفص لقتال ابن مردنيش. استيلاؤهم على قيجاطة. زحفهم على مرسية. دخول لورقة في طاعتهم، ثم سقوطها في أيديهم. دخول ألش والجزيرة ثم بسطة في طاعتهم. مدافعة ابن مردنيش للموحدين. موقف أخيه يوسف والي بلنسية. محاولة النصارى غزو بلنسية. قيام محمد بن مردنيش ومحمد بن هلال بألمرية ودعوتهما للموحدين. اضطراب ابن مردنيش وتخاذله. وفاته وما قيل حولها. انهيار دولته. ثورة ابن مردنيش وصفتها الأندلسية القومية. شخصية ابن مردنيش ومعايبها. مقدرته وشجاعته. إعلان ولده هلال وقادته الطاعة للموحدين. رواية عن وصية ابن مردنيش بالتسليم. دخول السيد أبي حفص والموحدين مرسية. مسير هلال وأكابر الشرق إلى إشبيلية. مبايعتهم للخليفة أبي يعقوب. زواج الخليفة من ابنة ابن مردنيش. ابن همشك ونهايته. لم يكن الخليفة أبو يعقوب وأعوانه من أشياخ الموحدين، بغافلين عن خطورة الحوادث التي وقعت في غربي الأندلس، وما اقترن بها من سقوط قواعد إسلامية جديدة في أيدي النصارى. وكان قد مضى على سقوط أشبونة وشنترين يد الملك

ألفونسو هنريكيز نحو عشرين عاماً، وقد غلب النسيان نوعاً على فقد هاتين القاعدتين الهامتين من قواعد الغرب لموقعهما النائي، ولكن تقدم البرتغاليين نحو بطليوس وماردة، بسقوط ترجالُه وقاصرش ويابرة وجلمانية، وتهديدهم لسائر الأراضي الواقعة على ضفتى نهر وادي يانه، زاد من خطورة الموقف، ونبه الموحدين إلى وجوب البدار إلى إنجاد الأندلس، والعمل على حمايتها. وقد حالت الأحداث والفتن التي وقعت بالمغرب، والتي فصلناها فيما تقدم، دون تنفيذ هذا العزم حيناً. فلما حلت سنة 564 هـ، هدأت تلك الفتن، واستتبت السكينة والسلام بالمغرب، لاح للخليفة ومعاونيه، أن الفرصة قد أزفت للعمل بالأندلس، فجهز أبو يعقوب جيشاً من الموحدين وغيرهم تحت إمرة الشيخ أبي حفص عمر بن يحيى كبير أشياخ الموحدين، وعبر هذا الجيش البحر إلى إشبيلية، ليكون مقدمة لحركة الجهاد العامة، التي اعتزم الموحدون القيام بها في الأندلس. ويبدو مما يقوله لنا ابن صاحب الصلاة، نقلاً عن أبي محمد سيدراي بن وزير، أن التعجيل بإرسال هذا الجيش، كان بسبب وصول الخبر بمهاجمة البرتغاليين لبطليوس، ومحاصرتهم للموحدين الممتنعين بقصبتها، وقد وقع الهجوم على بطليوس في شهر رجب سنة 564 هـ (أبريل سنة 1169 م). على أنه يبدو من نص الرسالة التي وجهها الخليفة بهذه المناسبة إلى الموحدين بالأندلس والتي أرخت في اليوم الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة 564 هـ. أن هذا الجيش الموحدي، قد جهز وأرسل إلى الأندلس، قبل حوادث بطليوس بنحو شهرين أو ثلاثة، ليكون طليعة لحركة الجهاد الكبرى، وليطمئن أهل الأندلس بوصوله وأنه فوجىء بحوادث بطليوس أثناء وجوده بإشبيلية. وهذه الرسالة التي وجهها الخليفة أبو يعقوب " إلى الطلبة والموحدين الذين بجزيرة الأندلس " هي من إنشاء كاتبه أبي الحسن بن عياش، وهي تردد وتؤكد نفس الوعود التي قطعها الخلافة الموحدية على نفسها غير مرة، منذ أواخر عهد عبد المؤمن بالعمل على حماية الأندلس وغوثها ونصرتها (¬1)، وقد ورد فيما يلي بخصوص هذا الشأن: " وما زلنا وفقكم الله على أتم العناية بتلكم الجزيرة، مهدها الله، والحرص ¬_______ (¬1) أشرنا من قبل إلى رسالة بهذا المعنى وجهها الخليفة عبد المؤمن إلى ولده السيد أبي يعقوب أيام أن كان والياً لإشبيلية وذلك في ربيع الأول سنة 555 هـ (القسم الأول ص 379).

على غوثها، والانتواء لنصرتها، والعمل على قصد ذلك بالمباشرة، والمشاهدة، إشفاقاً على ما استضام منها جيرتها الأعداء، وأبناؤها الأغفاء، مجسمين وروما، وما كادوها به من التكلف والتحيف والتنقص، وفغر الأفواه، وكسر الثيوب والأرصاد، لغيض ما فاض فيها من نور التوحيد، وخفض ما نصب من أعلام هذا الأمر، والمناصبة للمنحاشين إليه، المتعلقين بأسبابه، المستذمين بذمته، ممن صح ولاؤه، وصدقت طاعته، وخلص على السبك، ونصح على السبر، ونجعل لها من الفكر حظاً يستحق الصدق على ما سواه من الأفكار، ويأخذ السبق على غيره من معنيات الأمور ". ثم تقول الرسالة إيضاحاً لحركة الشيخ أبي حفص، وتأكيداً لنيات الخليفة في الاضطلاع بأعباء الجهاد: " ورأينا في أثناء ما نحاوله من مروم هذه الغزوة الميممة المباشرة، أن نقدم بين أيدينا عسكراً مباركاً من الموحدين أعانهم الله، صحبة الشيخ الأجل أبي حفص أعزه الله، ليكون تقدمة لجواز جمهور الموحدين، ومؤذناً بما عزمنا عليه. والله المستعان من التحرك لجملة أهل التوحيد، والقصد لهذا الغزو الميمون، الذي جعلناه نصب العين وتجاه الخاطر، فتتعاونون مع إخوانكم الواصلين على بركة الله إليكم، على جهاد أعدايكم، إلى أن يوافيكم إن شاء الله هذا العزم، ويلم بكم هذا القصد، ويعتمدكم هذه الحركة المحكمة أسبابها، المبرمة أمراسها، التي انعقدت بها النية، واحتدمت لها في ذات الله الحمية، واستعانت بتوفيق الله في تأصيل أصولها الفكرة الموجهة والمروية، وإنا لنرجو من المبلغ لآمال القلوب، المتفضل بإدراك كل مطلوب، أن يهب فيها من العون ما يتمم مبدأها، ويكمل منشأها، وتشفى به صدور أوليائه بالنعمة في أعدايه، وإن فضله تعالى ليسمح ببلوغ هذه الأمنية، والإطلال منها على كل شرف وقنية، فما ذلك على الله بعزيز " (¬1). وفي خلال ذلك كان ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، قد وضع خطته للاستيلاء على مدينة بطليوس بالتعاون مع جيرالدوا " سمبافور" أو" جيرانده الجليقي " حسبما تسميه الرواية الإسلامية. وكان ملك البرتغال قد قام في سنة 1161 م ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة نص هذه الرسالة في " المن بالإمامة " لوحات 120 - 122.

(556 هـ) بمحاولة أولى لمهاجمة بطليوس، انتقاماً لما قام به الموحدون قبل ذلك بأعوام قلائل من غزو أراضيه. ولكنه رد على الأثر. وليس من الواضح ما إذا كانت بطليوس عندئذ ما تزال تحت حكم صاحبها ابن الحجام، أحد ثوار الغرب الموالين للموحدين، أم أنها كانت قد خلصت للموحدين، وهم الذين قاموا بالدفاع عنها. وكان جيرالدو سمبافور قد استولى، حسبما ذكرنا فيما تقدم، على حصن جلمانية الواقع على مقربة من غربي بطليوس، وحصن منتانجش على مقربة من شمالها الشرقي. ففي شهر رجب سنة 564 هـ (أبريل سنة 1169 م)، زحف جييرالدو سمبافور في جموعه على مدينة بطليوس، وهاجمها، ورأى واليها أبو على عمر بن تيمصلت أنه لا يستطيع بحاميته الضعيفة أن يدفع المهاجمين، فامتنع بالقصبة، وبعث بصريخه إلى الموحدين بإشبيلية. وما كاد جيرالدو يستولي على المدينة حتى أقبل ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز في قواته، ودخل بطليوس، وحاصر الموحدين في القصبة، وحدد لهم مهلة للتسليم. وكانت قصبة بطليوس من أعظم القصبات الأندلسية وأمنعها (¬1)، ومن ثم فإن ابن تيمصلت كان على يقين من أنه سوف يستطيع الصمود مع حاميته حتى تصل الأمداد الموحدية من إشبيلية. بيد أن النجدة جاءت لأهل بطليوس، وللموحدين المحصورين بقصبتها من طريق آخر لم يكن في الحسبان. جاءت على يد ملك ليون فرناندو الثاني. ويجب لكي نفهم هذا الموقف الذي ترتب عليه اشتباك الملكين النصرانيين ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، وفرناندو الثاني ملك ليون، داخل مدينة بطليوس، وتحت أسوار قصبتها، أن نرتد قليلا إلى الوراء، لنلقي بعض الضوء على علائق هذين الملكين المتنافسين، في هذه الفترة الدقيقة من حياة الحاضرة الأندلسية التالدة - بطليوس. وقد سبق أن شرحنا بإيجاز سبب الخصومة الرئيسي بينهما، وهو ما يتمسك به فرناندو الثاني من دعوى السيادة على البرتغال التي ورثها عن أبيه القيصر ألفونسو ريمونديس، ورفض ملك البرتغال أن يعترف بظل من هذه السيادة، وما اقترن بذلك من إنشاء فرناندو الثاني لمدينة ردريجو الحصينة على مقربة من حدود البرتغال، لكي يتخذها قاعدة للإغارة على أراضي ¬_______ (¬1) أتيح لي أن أزور مدينة بطليوس وأن أشاهد بقايا قصبتها العظيمة الواقعة فوق الربوة الصخرية المشرفة على نهر وادي يانه، والتي ما زالت تدل على ما كانت عليه هذه القصبة من الضخامة والمنعة.

البرتغال. كل ذلك بالرغم مما كان يربط هذين الملكين من وشائج المصاهرة الوثيقة، إذ كان ملك ليون متزوجاً من ابنة خصيمه ملك البرتغال. وكان ألفونسو هنريكيز قد بعث ولده سانشو في جيش ليهاجم مدينة ردريجو ويخربها، فبادر إليها فرناندو في قواته، ورد البرتغاليين عنها، وهزمهم هزيمة شنيعة، وأسر عدداً وافراً منهم، بيد أنه أطلق في الحال سراحهم سعياً إلى استرضاء ملك البرتغال، وتهدئة خصومته. ولكن الأمر كان بالعكس، فقد عول ألفونسو هنريكيز على الانتقام لتلك الهزيمة، وخرج في أواخر سنة 1167 م من شمال البرتغال في جيش قوي، وهاجم جليقية من أراضي مملكة ليون واستولى على مدينة توي، ثم على مدينتي لميا وترونيو وما حولها من الأراضي، ووضع فيها حاميات برتغالية قوية، وذلك بحجة أن هذه المدن والأراضي كانت من أملاك أمه الملكة تيريسا، تلقتها عن أبيها ألفونسو السادس مهراً لزواجها. وفي العام التالي، سنة 1168 م، وضع ألفونسو هنريكيز خطته لمحاربة المسلمين، والبدء بغزو مدينة بطليوس، أهم وأقرب القواعد الإسلامية إليه. ونفذ خطته بالفعل بالتعاون مع جيرالدو سمبافور في أبريل سنة 1169 م. وكان فرناندو ملك ليون، يرقب مشاريع ملك البرتغال وحركاته بمنتهى العناية، ويحرص بالأخص على ألا تمتد فتوحه إلى تلك المنطقة التي كان ملوك قشتالة وليون يعتبرونها منطقة لنشاطهم وفتوحهم. وكان سانشو الثالث ملك قشتالة، قد عقد مع أخيه فرناندو على أثر موت أبيهما القيصر ألفونسو ريمونديس، معاهدة لتقسيم أراضي اسبانيا المسلمة، إلى منطقتي نفوذ، يختص كل منهما بواحدة منهما، فيختص ملك ليون بالغزو والفتح في المنطقة التي تمتد من لبلة حتى أشبونة ومنتانجش وماردة وبطليوس ويابرة وشلب وكذلك نصف مدينة إشبيلية، وسائر الحصون الواقعة في تلك المنطقة، ويختص ملك قشتالة بالغزو والفتح في سائر ما تبقى من أراضي إسبانيا المسلمة، ولاسيما المنطقة الواقعة فيما بين الوادي الكبير وغرناطة، ومن ثم فإنه لما سار ألفونسو هنريكيز إلى غزو بطليوس، اعتبر فرناندو هذه الحركة اعتداء على حقوقه ومنطقة نفوذه، وما كاد ملك البرتغال يدخل بطليوس، حتى كان فرناندو قد سار بقواته في أثره، يحاول رده عن القاعدة الإسلامية. فلما اقترب من بطليوس بعث رسوله خفية إلى واليها ابن تيمصلت المحصور بالقصبة، وإلى أهل المدينة من الأندلسيين، ينبئهم بمقدم

ملك ليون لإنجادهم، ويطلب إلى ابن تيمصلت أن يدله على الطريق الذي يمكن أن يسلكه لدخول المدينة. فبعث ابن تيمصلت بعض رجاله إلى مكان خفي من بعض أسوار القصبة، لم يفطن إليه البرتغاليون، فلما تحققوا من وصول القوات الليونية، نقبوا السور فخرج منه الموحدون إلى أقرب أبواب المدينة وفتحوه، وأدخلوا منه جند ليون، واجتمع الموحدون وجند ليون على قتال القوات البرتغالية داخل المدينة، وحمى القتال بين الفريقين، وأبدى الموحدون وحلفاؤهم الليونيون منتهى الإقدام والبسالة، في مقاتلة البرتغاليين، حتى مزقت صفوفهم. واضطر ملكهم ألفونسو هنريكيز إلى الفرار، ولكنه عندما أراد أن يقتحم باب المدينة وهو في منتهى السرعة والذعر، اصطدمت ساقه اليمنى بعمود الباب بشدة أو علقت برتاج الباب على قول آخر، فسقط من فرسه، وقد كسرت ساقه، وأغمى عليه، فحمله أصحابه وهو فاقد الوعي، إلى بليدة، " قاية " الواقعة على مقربة من شمال المدينة فطاردتهم قوات فرناندو، وأسرت الملك الجريح، وعدة من أكابر أصحابه. وعامل فرناندو خصمه الملك بمنتهى الكرم والشهامة، فعهد إلى أطبائه بمعالجته، ثم أطلق سراحه، بعد أن تعهد له برد سائر الأماكن التي انتزعها من جليقية والتنازل عن كل دعوى بشأنها. وعاد ألفونسو هنريكيز إلى قلمرية، وقد فتت الهزيمة في عضده، وشلت ساقه، حتى أنه لم يستطع بعد ذلك اليوم أن يركب فرساً (¬1). أما جيرالدو سمبافور فقد فر على أثر الموقعة، حسبما يذكر لنا ابن صاحب الصلاة. وفي رواية أخرى أنه أسر مع مليكه، ثم أطلق فرناندو سراحه بعد أن تعهد بالتنازل عن الأماكن والحصون التي استولى عليها شمالي بطليوس مثل ترجالُه، وقاصرش ومنتانجش، وقد استولى الموحدون على قاصرش وحصن شربة فيما بعد. ووقعت هزيمة البرتغاليين وإخراجهم من بطليوس في اليوم الثاني والعشرين من شعبان سنة 564 هـ (21 مايو سنة 1169 م). وفي الحال سلم فرناندو المدينة إلى واليها ابن تيمصلت، وأوفى فرناندو في هذه المناسبة بعهوده للخليفة الموحدي أتم وفاء، وأبدى للموحدين إخلاصه وعرفانه لسابق عونهم وإنجادهم. واستولى ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 122 ب و 123 أ، والبيان المغرب القسم الثالث ص 80 و 81. وكذلك M. Lafuente: Hist. General de Espana, T. III. p. 329 & 330

الموحدون على سائر ما تركه البرتغاليون وراءهم من العتاد والمتاع والمؤن، وكانت مقادير وفيرة. وعاد فرناندو في قواته ظافراً إلى ليون. ووصلت أنباء النصر إلى إشبيلية، على عجل، وتلقاها الشيخ أبو حفص عمر، بينما هو يستعد للسير في قواته إلى بطليوس لإنجادها. فكتب في الحال إلى الخليفة أبي يعقوب، رسالة بالفتح، فسر الخليفة بذلك أيما سرور، ورفع الشعراء مدائحهم وتهانيهم. ومنها قصيدة لشاعر الدولة الموحدية أبي عمر بن حربون هذا مطلعها: بسعدك أضحى الدين جذلان باسما ... وباسمك أمسى الشرك للشرك هادما إلا أنها فيما وعدت لآية يدين بها ... من كان بالله عالما (¬1). - 1 - لما انتهت معركة بطليوس بهزيمة البرتغاليين، وتوكيد سيادة الموحدين على المدينة، غادر الشيخ أبو حفص عمر إشبيلية في قواته وسار إلى قرطبة، لمعاونة واليها السيد أبي إسحاق إبراهيم، على تقوية جبهتها الدفاعية. وكان يخشى دائماً أن تهددها قوات ابن مردنيش من ناحية الشرق، عن طريق جيّان قاعدة حليفه وصهره إبراهيم بن هَمُشك، وتهددها القوات القشتالية من الشمال. بيد أن الخطر من ناحية الشرق تضاءل منذ موقعة فحص الجلاب، التي هزم فيها ابن مردنيش وحطمت قواته. ومن جهة أخرى فقد وقع الشقاق بين ابن مردنيش وصهره ابن همشك، وذلك بسبب طلاق ابن مردنيش لزوجته صُبيحة ابنة إبراهيم، بعد أن بالغ في إهانتها وإيلامها، فغادرته إلى كنف أبيها، وأسلمت إليه ابنها منه، ومما يروى أنها سُئلت عن ولدها، وكيف تصبر عنه، فأجابت " جرو كلب، جرو سوء، من كلب سوء لا حاجة لي به " فأرسلت كلمتها في نساء الأندلس مثلا (¬2). وكانت الوحشة قد سادت قبل ذلك بين ابن مردنيش وصهره، وخشى ابن همشك على نفسه من غدر صهره، وراعه ما شهده بنفسه من إقدام ابن مردنيش على قتل وزيريه ابنى الجذع وبنائهما في الحائط، وغير ذلك من الأعمال المروعة، فاشتدت بينهما الوحشة، وانقلبا إلى خصمين لدودين، والظاهر من أقوال ابن الخطيب أنه قد وقعت بين ابن مردنيش وابن همشك على ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة هذه القصيدة بأكملها في " المن بالإمامة " وتشغل اللوحات من 124 إلى 126 أ. (¬2) ابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 310.

أثر ذلك، معارك ومناوشات هلك فيها جماعة من أنصار الفريقين. وكان ابن همشك يسيطر على قطاع جيّان وبياسة وأبدة، نائباً عن صهره ابن مردنيش. فلما اضطرم العداء بينهما، أخذ ابن مردنيش يرهقه بغاراته، ويؤلب عليه قواده وجنوده، وابن همشك يقاوم ما استطاع. على أن ابن هَمُشك لم يلبث أن جنح إلى قرار حاسم، فكتب إلى الشيخ أبي حفص بقرطبة رسالة يعلن فيها توبته واعتناقه لمذهب التوحيد، ويعرض تمكين الموحدين من بلاده، وهو ما يصفه ابن صاحب الصلاة " بتوحيد ابن همشك " وفي هذا التعبير ذاته ما يدلي بأن " التوحيد " لم يكن يقتصر على الناحية الدينية، ولكنه كان يعني بالأخص الخضوع السياسي لسلطان الدولة الموحدية. ثم شفع ابن همشك رسالته بالسفر إلى قرطبة، وذلك في رمضان سنة 564 هـ (يونيه 1169 م)، فاستُقبل من واليها السيد أبي إسحق ومن الشيخ أبي حفص، وأكابر الموحدين بترحاب ومودة. وأعلن ابن همشك أنه " قد عاهد الله تعالى بالتزام الأمر العزيز المطاع، والدخول في حكم التوحيد ". ثم كتب إلى الخليفة أبي يعقوب يسجل توبته ودخوله في الطاعة، ويلتمس العفو، وحسن المثاب. فرد الخليفة بحسن القبول، وأمر بتقريبه، وإكرامه، واتصلت القواعد والأراضي التي كانت بيد ابن همشك بأراضي الموحدين في أواسط الأندلس. وكان انضمام ابن همشك إلى الموحدين على هذا النحو، ضربة أصابت ابن مردنيش في الصميم، إذ كان ابن همشك ساعده الأيمن، وكان أقدر قواده وأشدهم وطأة على أعدائه، ومن ثم فقد عول ابن مردنيش على الانتقام من صهره ونائبه السابق، ومعاقبته على خيانته، فدفع سائر قواته المجاورة لأراضيه إلى قتاله، وهاجمت هذه القوات جيان واستمرت في مقاتلة ابن همشك وإرهاقه مدى عام، وهو يستصرخ الموحدين لإنجاده. ولكن الموحدين لم يروا أن يتدخلوا في تلك المعركة، إذ كانت لديهم خطة أخرى لمقاتلة ابن مردنيش في عقر بلاده (¬1). وفي أثناء ذلك ورد أمر الخليفة بتعيين الحافظ أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص عمر والياً لمدينة بطليوس مكان ابن تيمصلت. وكان أبو يحيى من أنجب الحفاظ وأوفرهم فروسة وعلماً. وكان عندئذ مع أبيه بقرطبة. فسار إلى بطليوس في جملة ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 126 أوب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 82.

كبيرة من الموحدين والجند الأندلسيين، وتقلد ولايتها وأخذ في تأمينها وتحصين أطرافها. وقام بحفر بئر كبيرة داخل القصبة تنفيذاً لأمر الخليفة، يسرى إليها ماء نهر وادي يانه، وذلك تحوطاً واستعداداً لما قد يقع من حصار أو غيره من الطوارىء، وعرفت هذه البئر باسم " القيوراجة ". وكانت من خير ما عمل لتأمين القصبة الشهيرة وتحصينها. وكان المغامر البرتغالي جيرالدو سمبافور ما يزال مرابطاً بقواته في حصن جلِّمانية القريب من بطليوس، فانتهز فرصة انشغال الوالي الجديد بأعمال الحفر والتحصينات، وأخذ يرهق المدينة بغاراته المتوالية، والحافظ أبو يحيى يبذل جهده في مدافعته ورده بقواته. وأخيراً نظم جيرالدو حملة قوية، اشتركت فيها قوة كبيرة من نصارى شنترين، ورتب من جنده كمائن في مواضع مستورة ثم هاجم أحواز بطليوس القريبة، فخرج إلى لقائه الحافظ أبو يحيى في قواته، وما كاد الموحدون يحملون عليه، حتى تظاهر بالهزيمة والفرار، فتبعه الموحدون حتى وصل إلى مقر الكمائن، وعندئذ أطبق النصارى على الموحدين، وقاتلوهم بشدة، فانهزم الموحدون وأسر النصارى منهم جملة بينهم عدة من الأكابر، افتدى معظمهم فيما بعد، وكان ذلك في أواخر سنة 564 هـ (أواخر 1168 م) (¬1). وفي هذه السنة أيضاً - سنة 564 هـ - استدعى الخليفة أخويه السيد أبا إبراهيم إسماعيل والي إشبيلية، والسيد أبا إسحق إبراهيم والي قرطبة، والشيخ الحافظ أبا عبد الله بن أبي إبراهيم والي غرناطة، إلى الحضرة فغادروا الأندلس في أوائل جمادى الأولى من هذا العام (فبراير 1169 م). والظاهر أن الغرض من هذا الاستدعاء، كان يدور حول الاستعداد للحملة الكبرى التي يزمع الخليفة تسييرها لمقاتلة ابن مردنيش. وأقام هؤلاء الولاة في الحضرة حتى أوائل سنة 565 هـ ثم انصرف السيدان أبو إبراهيم، وأبو إسحق إلى الأندلس، وصحبهما أخوهما، السيد أبو على الحسن الذي ندب والياً لسبتة، ومنطقة جبال غمارة، ليتقلد ولايته. وبقى الحافظ أبو عبد الله بالحضرة حيناً آخر، وسار السيد أبو إبراهيم إلى إشبيلية والسيد أبو إسحق إلى قرطبة. وكان معهما والٍ جديد عينه الخليفة، هو الحافط أبو يحيى زكريا بن يحيى بن شيبان أحد أبناء أشياخ خمسين، وقد عين والياً لطبيرة وشنتمرية الغرب، من أعمال ولاية الغرب الأندلسية، وكانت هذه المنطقة التي تقع في جنوب البرتغال، تضطرم بالفتنة من آن لآخر، فضبطها الحافظ ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة لوحة 128 أوب و 129 أ، والبيان المغرب ص 83.

أبو يحيى بحزم وقوة، وقمع بذور الفتنة، واستمر في حكمها أعواماً طويلة، وقد ساد بها السلام والأمن. وكان من أهم الأحداث في هذه السنة - سنة 565 هـ (1170 م) - إغارة القشتاليين على الأندلس. وكان عدوان القشتاليين على الأراضي الإسلامية قد انقطع حيناً منذ وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس، واضطرام الحرب الأهلية بين الممالك الإسبانية النصرانية، وانشغال قشتالة بنوع خاص بالصراع بين أسرتي لارا وكاسترو القويتين. فلما انتهى هذا الصراع الذي اشترك فيه فرناندو ملك ليون إلى جانب آل كاسترو، بانتصار آل لارا وهزيمة آل كاسترو، بسط آل لارا سيادتهم على طليطلة عاصمة قشتالة، ووضعوا الملك الصبي ألفونسو الثامن تحت حمايتهم، وقام بالوصاية عليه كبير الأسرة الكونت نونيو دي لارا (سنة 1166 م). ولم يمض قليل على ذلك، حتى اعتزم الكونت نونيو - ويسميه ابن صاحب الصلاة، القمط نونه، ويصفه " بظئر أدفونش الصغير" - أن يقوم بغزوة للأراضي الإسلامية، يكون فيها تقوية سلطانه، وتعزيز هيبته. فخرج في قواته من طليطلة، واخترق موسّطة الأندلس، وسار جنوباً، وهو يثخن أينما حل، دون أن تعترضه أية قوة معارضة. ثم عبر الوادي الكبير، وشنيل، وانتهى في غزوته إلى فحص رُندة، وفحص الجزيرة الخضراء، أو أنه استطاع بعبارة أخرى، أن يخترق الأندلس من أقصاها إلى أقصاها دون أن يلقى أية مقاومة على نحو ما فعل ألفونسو المحارب قبل ذلك بنحو نصف قرن. ويقول ابن صاحب الصلاة، إنه وصل في سيره إلى البحر، وقتل المسلمين في تلك الأراضي، واستولى على كثير من السبي والغنائم والماشية، ونحن لا نستطيع أن نفسر جمود الموحدين إزاء مثل هذا العدوان الجرىء خصوصاً وقد كانت لديهم في قرطبة قوات كبيرة بقيادة الشيخ أبي حفص عمر، اللهم إلا حرصهم على قواتهم، وادخارها لمحاربة ابن مردنيش (¬1). ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة طائفة من الأحداث الطبيعية التي حدثت في تلك الفترة. منها تغير الهواء بمراكش أو بعبارة أخرى ظهور وباء مرض منه معظم السادات وكثير من الناس، وذلك في أواخر سنة 564 هـ. ومنها توقف المطر وحدوث الشّرَق بالأندلس حتى شهر ديسمبر سنة 1169، ثم سقوط ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 130.

الأمطار بعد ذلك. وفي شهر جمادى الأولى من سنة 565 هـ، حدثت زلازل عظيمة عند طلوع الشمس وعند زوالها في عدة من مدن الأندلس، وتوالت بالأخص في مدينة أندوجر مدة أيام حتى كادت أن تغوص منها الأرض، ووقعت كذلك بقرطبة وغرناطة وإشبيلية. يقول ابن صاحب الصلاة، وكان من سكان إشبيلية " فكان الرائي يرى حيطان الديار تضطرب وتميل حتى الأرض، ثم ترتفع وترجع على حالها بلطف الله تعالى. وتهدمت من ذلك ديار كثيرة في البلاد المذكورة وصوامع مساجدها " (¬1). وفي شهر رجب سنة 565 هـ (أبريل سنة 1170 م)، كثرت غارات جيرالدو سمبافور على مدينة بطليوس، واشتد في إرهاقها، وقطع المؤن عنها، حتى شعرت المدينة بالضيق، فلما علم بذلك الموحدون في إشبيلية، قرروا أن يرسلوا إليها مدداً وافراً من المؤن، فجهزت إليها قافلة من نحو خمسة آلاف دابة تحمل الطعام والسلاح والعلوفات، وقدم لحراستها الحافظ أبو يحيى زكريا بن علي في قوة من الجند الموحدين بإشبيلية، ولما اقتربت هذه الحملة من مدينة بطليوس، خرج إليها جيرالدو في قواته وقوات أهل شنترين، ونشبت بين الفريقين معركة حامية استمرت عدة ساعات وهزم فيها الموحدون أشنع هزيمة، وأبيدت صفوفهم، وسقط قائدهم الحافظ أبو يحيى ضمن القتلى، واستولى النصارى على قافلة المؤن كلها. وكان ذلك في يوم 26 شعبان سنة 565 هـ (14 مايو سنة 1170 م). ووقعت أنباء هذه النكبة على الموحدين بإشبيلية وقرطبة أسوأ وقع، وبعثوا بخبرها إلى الخليفة في مراكش (¬2). وكان الخليفة أبو يعقوب يوسف مريض في ذلك الوقت، وقد بدأ مرضه منذ أوائل سنة 565 هـ، واستمر أكثر من عام. ونحن نذكر أن الخليفة كان منذ أوائل سنة 564 هـ يزمع تنظيم حركة الجهاد بالأندلس، وأنه وجه رسالته بذلك إلى الموحدين بها في ربيع الآخر من هذا العام، ويذكر لنا ابن صاحب الصلاة أن الخليفة أمر بهذه المناسبة بضرب الطبول والخروج، وركب بنفسه في هيئة الغزو، وخرج من مراكش، ونزل بوادي تانسيفت على مقربة منها، معلناً ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة لوحة 130 ب. (¬2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 131 أ، والبيان المغرب القسم الثالث، ص 84.

عزمه على الجهاد بالأندلس، وأقام به ثلاثة أيام، وانتهى رأي الموحدين عندئذ إلى أن يتقدم الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى بعسكر ضخم من الموحدين. وقد عبر الشيخ البحر إلى الأندلس بعسكره، ونزل في إشبيلية في نفس الوقت الذي كانت قد أنقذت فيه بطليوس من خطر السقوط في أيدي البرتغاليين، بمعاونة ملك ليون، وذلك كله حسبما فصلناه في موضعه. ثم جاء مرض الخليفة، فعاقه عن الاستمرار في تنفيذ حركة الغزو التي وعد بها الموحدين بالأندلس. بيد أنه استمر بالرغم من مرضه في استدعاء جموع العرب من إفريقية، وجموع الموحدين من كافة الأنحاء، وتزويدهم بالأعطية والكسى. وكان تطور الحوادث في الأندلس، يؤذن بضرورة القيام باستعدادات عسكرية عاجلة توجه إلى شبه الجزيرة، وذلك قبل أن تتم الأهبة لتنفيذ الغزوة الكبيرة التي يزمع الخليفة القيام بها. وكان موطن الصراع يبدو في ناحيتين، الأولى في شرقي الأندلس، حيث كان ابن همشك منذ دخوله في طاعة الموحدين، يتلقى ضربات صهره القديم ابن مردنيش باستمرار، ويفقد معاقله تباعاً، ويلح في طلب النجدة من حلفائه الجدد، الموحدين، ويبعث بصريخه المتوالي إلى الخليفة وإلى الشيخ أبي حفص بقرطبة، وقد أوفد إلى مراكش لهذا الغرض وزيره القدير أبا جعفر الوقّشي، وكان قد جنح مثله إلى طاعة الموحدين. ثم عبر ابن همشك بنفسه البحر إلى العدوة، وقصد إلى الخليفة بمراكش (565 هـ) مؤكداً طاعته ومكرراً صريخه. وكانت الناحية الثانية من مواطن الصراع، في غربي الأندلس، حيث تطورت الحوادث تطوراً سيئاً، وغدت مدينة بطليوس مرة أخرى، عرضة لتهديد النصارى المستمر. وكان يلوح أن حوادث شرقي الأندلس تتطلب تدخلا عاجلا، يكفل حماية ابن همشك وأراضيه إلى غدت جزءاً من أراضي الموحدين، والقضاء نهائياً على حركة ابن مردنيش والاستيلاء على بلاده، حتى تخضع الأندلس بذلك من أقصاها إلى أقصاها إلى سلطان التوحيد، وكان الشيخ أبو حفص يؤيد هذه السياسة، ويبعث من قرطبة إلى الخليفة بالحث على اتباعها ومن ثم فقد تقرر أن يسير السيد أبو حفص أخو الخليفة في جيش ضخم من الموحدين إلى جزيرة الأندلس لغزو ابن مردنيش وحلفائه النصارى، ومقاتلته في قلب بلاده، والاستيلاء على مرسية، قاعدته ومقر رياسته. وخرج السيد أبو حفص في عسكره من حضرة مراكش في أول شهر

ذي القعدة سنة 565 هـ (أغسطس سنة 1170 م) ومعه أخوه السيد عثمان أبو سعيد، وعدة من الأشياخ والحفاظ الموحدين، ومن زعماء الأندلس، أبو محمد سيدراى بن وزير، وأخوه أبو الحسن على بن وزير، وعدة من القادة الأندلسيين النازلين بمراكش، صحبهم لينتفع بخبرتهم ومشورتهم في تدبير شئون الجزيرة، وتنظيم الخطط العسكرية بها. فوصل في قواته إلى إشبيلية في أوائل سنة 566 هـ. ووافاه بها من قرطبة الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى ومعه إبراهيم بن همشك. وعقد السيد أبو حفص وصحبه من الأشياخ والزعماء مؤتمراً لبحث شئون الحرب، تقرر فيه أن يبادر السيد أبو سعيد أولا في عسكر إلى مدينة بطليوس، لتقوية جبهتها الدفاعية. فسار إليها في جيش من الموحدين والعرب، ومعه من زعماء الأندلس سيدراى ابن وزير، وأبو العلاء بن عزون، وقد جاءت هذه الحركة في الواقع في الوقت المناسب، إذ كانت بطليوس في تلك الآونة بالذات عرضة لخطر غزو جديد. ذلك أن فرناندو الثاني ملك ليون، لما رأى نشاط البرتغاليين المتكرر في مهاجمة بطليوس، وإلحاح جيرالدو سمبافور في إرهاقها، وما حل بقافلة الأمداد الموحدية من هزيمة ساحقة، خشى أن ينتهي الأمر بسقوط المدينة في أيدي البرتغاليين. وقد رأينا من قبل حرص ملوك قشتالة وليون على اعتبار بطليوس وما إليها داخلة في نطاق فتوحاتهم، وحرصهم على ألا يفوز البرتغاليون بأية فتوح في هذه المنطقة. ومن ثم فقد خرج فرناندو في قواته قاصداً إلى بطليوس ليقوم بالاستيلاء عليها، قبل أن تسقط في أيدي البرتغاليين ومليكهم ألفونسو هنريكيز، وفي الوقت الذي وصل فيه إلى سهل الزلاّقة الواقع شمال شرقي بطليوس على مقربة من نهر وادي يانه، اقترب الموحدون من المدينة، ولما علم السيد أبو سعيد بالموقف، أرسل سيدراى بن وزير، وأبا العلاء بن عزون، وبعض أشياخ الموحدين إلى المعسكر النصراني، ليتعرفوا نيات ملك ليون، وهل هو باق على صلحه ومحالفته للموحدين أم قد نقض هذا الصلح، فرحب بهم ملك ليون، وأجابهم بأنه خرج لحماية بطليوس، " وإمساكها لأمير المؤمنين " فاقترح الرسل أن يجتمع الملك النصراني بالسيد أبي سعيد، لتجديد الصداقة والصلح، فاستجاب فرناندو لدعوتهم، وسار في نفر من خاصته إلى مقربة من بطليوس، والتقى بالسيد أبي سعيد وكلاهما ممتطى صهوة جواده، وتم بينهما التفاهم وتوكيد أواصر المودة والصلح، وانصرف ملك ليون على أثر ذلك في قواته إلى بلاده.

أما السيد أبو سعيد فقد سار في عسكره تواً إلى حصن جلِّمانية الواقع على مقربة من غربي بطليوس، والذى اتخذه البرتغاليون بقيادة جيرالدو سمبافور قاعدة للإغارة على المدينة وإرهاقها، ونازله واستولى عليه عنوة، ثم هدمه، وانقشعت بذلك غمته، وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 566 هـ (نوفمبر 1170 م). وعلى أثر ذلك عاد السيد أبو سعيد في صحبه وعسكره المظفر إلى إشبيلية (¬1). - 2 - وما كاد السيد أبو سعيد يصل إلى إشبيلية، حتى عقد السيد أبو حفص مؤتمراً حربياً جديداً حضره السيد أبو سعيد، والشيخ أبو حفص عمر بن يحيى، واستقر فيه الرأي على القيام بمحاربة ابن مردنيش، وتحطيم سلطانه في شرقي الأندلس. وكان محمد بن سعد بن مردنيش، قد اضطربت شئونه خلال ذلك، وأخذت تخبو قواه، وموارده، ولاسيما منذ هزيمة فحص الجلاب الساحقة. وكان من أهم العوامل في انحلال سلطانه الشامخ الذي استمر منذ قيامه في شرقي الأندلس في سنة 542 هـ، نحو عشرين عاماً يتحدى سلطان الموحدين، وينتبذ سيادتهم ودعوتهم، دون هوادة، عاملان يتلخص أولهما في مصادقة ابن مردنيش للنصارى، وانخلاعه إليهم، واعتماده المطلق عليهم. وقد رأينا فيما تقدم كيف كان النصارى المرتزقة، يؤلفون معظم قوات ابن مردنيش في أية موقعة يخوضها. والثاني، فيما نشب من الشقاق بين ابن مردنيش ومعظم وزرائه وقادته. فأما عن العامل الأول، وهو مصادقة ابن مردنيش للنصارى، فقد كان أمراً طبيعياً، تمليه الظروف المحيطة بابن مردنيش، وثورته على الموحدين. وقد كانت ثورة ابن مردنيش، تمليها فضلاً عن الأطماع السياسة، بواعث وطنية، هي التي دفعت سائر القواعد الأندلسية إلى الثورة على المرابطين، وقد كان الموحدون خلفاء المرابطين في التغلب على الأندلس، فكانت ثورة ابن مردنيش على الموحدين، وكفاحه ضدهم، امتداداً لنفس الثورة، ونزولا على نفس البواعث. وكان النصارى حلفاء طبيعيين لابن مردنيش في هذا الصراع ضد العدو المشترك، أعني الموحدين الوافدين على شبه الجزيرة من وراء البحر. ولم يغفل ابن مردنيش عن أهمية هذا العامل، في اجتذاب النصارى إلى محالفته، ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة لوحات 131 ب و 132 و 133، والبيان المغرب القسم الثالث ص 85 و 86.

وحشدهم في صفوفه. وكانت تربط ابن مردنيش في البداية بسائر أمراء اسبانيا النصرانية، روابط المودة والصداقة، ولكنه لما توفي رامون برنجير الرابع ملك قطلونية وأراجون، وخلفه ولده ألفونسو الثاني في حكم مملكة أراجون المتحدة، تطورت الأمور، وساءت العلائق بينه وبين ابن مردنيش لإصراره على مطالبة ابن مردنيش بالجزية التي كان يدفعها لأبيه، ورفض ابن مردنيش لأدائها. وقد وصل العداء بين الأميرين، إلى حد أن ملك أراجون، بعث ببعض ضباطه وجنده للاشتراك مع الموحدين ضد ابن مردنيش في معركة فحص الجلاب (¬1). ثم تحسنت العلائق بعد ذلك بينهما حينما تدخل ملك قشتالة، وتعهد ابن مردنيش بأداء الجزية وتعهد ألفونسو الثاني بألا يساعد الموحدين أعداء ابن سعد بأية صورة. وأما علائق ابن سعد بقشتالة، فقد كانت على خير ما يرام، من المودة والصفاء، وكانت تربط ابن مردنيش بألفونسو الثامن ملك قشتالة صداقة متينة العرى. وكان ابن مردنيش يحتفظ في بلنسية بحامية كبيرة من الجند القشتاليين، يعيثون في المدينة، وتغص بهم طرقها وأحياؤها، حتى ضاق بهم أهل المدينة المسلمين ذرعاً، وغادرها الكثير منهم إلى الضياع والقرى القريبة، وهم يضطرمون سخطاً على أميرهم المسلم، الذي مكن أعداءهم النصارى من دورهم وأموالهم ومرافقهم، وشردهم بذلك عن أوطانهم. وقيل إن ابن مردنيش هو الذي أخرج أهل بلنسية منها ليوسع لحلفائه النصارى (¬2). وقد كان لهذه السياسة في اصطفاء النصارى وما تقتضيه من إرهاق المسلمين بالمغارم والفروض، وهي السياسة التي سبق أن أشرنا إلى طرف من عناصرها ومظاهرها، وأثرها العميق في النيل من هيبة ابن مردنيش والسخط عليه، وتبرم أهل شرقي الأندلس برياسته وتمنيهم زوالها. وأما العامل الثاني في تضعضع قوي ابن مردنيش، فهو خروج قادته ووزرائه عليه. وقد كان انشقاق صهره إبراهيم بن همشك عليه، وانضمامه للموحدين، بلا ريب أعظم ضربة هزت من رياسته وسلطانه. فقد كان ابن همشك ساعده الأيمن، وكان أقدر قادته، وأوسعهم حيلة وأبعدهم صيتاً، بل كان ابن همشك في الواقع بالرغم من صفاته المثيرة، ومن قسوته، وروعة وسائله، واستهانته بالدماء، من أعظم قادة إسبانيا المسلمة في هذا العصر، إن لم يكن ¬_______ (¬1) A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 542 (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 236.

أعظمهم جميعاً. وخرج على ابن مردنيش غير ابن همشك، عدة من قرابته ووزرائه، ومن هؤلاء صهره يوسف بن هلال، وكان فارساً شجاعاً حازماً، حظى لدى أميره فصاهره، وندبه لرياسة حصن مطرنيش القريب من بلنسية وما حوله من الأراضي، ثم فسد ما بينهما، فثار ابن هلال، ولحق بمورتله (مورادال) وتحالف مع أمير برشلونة على أن يكون تحت حمايته، فأيده بقوة من الفرسان، وأخذ يغير على أحواز بلنسية، وينتزع بعض حصونها. وأوقع الهزيمة بابن مردنيش. ولكن حدث لسوء طالعه أن وقع ذات يوم أسيراً في يد سرية جردها صهره على مورتلة، فأخذ إليه، فأسرع به إلى مورتلة، وطالبه بإخلائها، وإلا نزعت عينه، فأبى، فأمر ابن مردنيش فأخرجت عينه اليمنى بعود، ولما تمادى في رفضه نزعت عينه الأخرى، ثم أخذ إلى شاطبه، حيث بقى بها إلى أن توفي (¬1). وكانت هذه الوسائل المثيرة في الانتقام من أبرز نزوات ابن مردنيش، وقد سبق أن أشرنا إلى ما يرويه لنا ابن صاحب الصلاة، من أنه قتل وزيريه ابنى الجذع وذلك ببنائهما في الحائط. كان ابن مردنيش يعانى من هذه الظروف العصيبة والمتاعب المضنية، حينما وضع الموحدون خطتهم لإنزال ضربتهم الأخيرة به. ففي شهر رجب سنة 566 هـ (مارس سنة 1171 م) خرج السيد أبو حفص وأخوه السيد أبو سعيد، والشيخ أبو حفص في جموع الموحدين من إشبيلية، ومعهم إبراهيم بن همشك، فلما وصلوا إلى قرطبة، أقاموا بها أياماً، يضعون خططهم النهائية. ثم خرجت القوات الموحدية من قرطبة، وسارت شرقاً قاصدة إلى مرسية، وكانت أول قاعدة غزوها من قواعد ابن مردنيش مدينة قيجاطة (¬2) الواقعة شرقي جيان، بينها وبين لورقة. فاقتحموها بعد مقاومة قصيرة، وقبض على قائدها الشرقي وأعدم بإشارة ابن همشك، ثم اخترق الموحدون بعد ذلك بسائط الشرق في طريقهم إلى مرسية حتى وصلوا إلى فحصها، فنازلوها لاختبار مقدرتها الدفاعية، وتغلبوا على حصن الفرج في ظاهرها، وقد كان متنزه ابن مردنيش، ومنزل لهوه وأنسه، واستباحوا الرياض والبساتين، وسائر القوى والبسائط الخضراء في تلك المنطقة، وابن همشك يقود الموحدين ويدلهم ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 260 و 262. (¬2) وهي بالإسبانية Quesada

خريطة: مواقع غزوات الموحّدين لمملكة الشرق (560 و 566 هـ) وغزوة وبذة (567 هـ).

على خير الطرق والمسالك. وكان ابن مردنيش خلال ذلك يستجمع قواته الأخيرة، ويستصرخ حلفاءه النصارى لإمداده، فلم يلب منهم دعوته سوى أربعمائة فارس، بعث بهم إلى لورقة، وهي حصن مرسية الأمامي، لتأمين الدفاع عن قصبتها، وقد كانت بقيادة قائده الأثير وموضع ثقته أبي عثمان سعيد ابن عيسى، فضبطها أبو عثمان، وحصنها أمنع تحصين. ولكن الأمر طال عليه، وهو في عزلته، وذاع بين الناس ما يعانيه ابن مردنيش من اضطراب الأحوال والقلق، وشعروا أن عاقبته قد دنت، فعندئذ ثار أهل لورقة، ودعوا للموحدين، وهاجموا النصارى وأنصار ابن مردنيش، فالتجأ هؤلاء جميعاً إلى القصبة وامتنعوا بها. واتجه أهل لورقة إلى الموحدين في طلب الإنجاد، وبعثوا بصريخهم إلى السيد أبي حفص بمحلته بفحص مرسية، يعلنون دخولهم في دعوة التوحيد، ويستنصرون به على عدوهم، فسار السيد أبو حفص في بعض قواته صوب لورقة، ودخلها واحتلها، وبقيت حاميتها بقيادة أبي عثمان على حالها من الامتناع. وحدث أن خرجت سرية موحدية تجول في الأنحاء المجاورة، فوقع في يدها ولد القائد، محمد بن أبي عثمان، فأمر السيد أبو حفص أن يحمل إلى مقربة من القصبة بمرأى من أبيه عسى أن يحمله ذلك على التسليم، فأبى القائد واستمر في امتناعه، حتى كادت الأقوات والماء أن تنفد، فعندئذ ألح عليه حلفاؤه النصارى في التسليم، وتوسط ابن همشك لأبي عثمان في النزول من القصبة مع جنده بالأمان، وهكذا سلمت القصبة، وانصرف القائد أبو عثمان مع صحبه إلى مرسية، وانصرف الجند النصارى إلى بلادهم، وتم بذلك فتح لورقة وخلوصها للموحدين. وعلى أثر ذلك عاد السيد أبو حفص في قواته إلى مرسية، ليمضي في حصارها، وفي أثناء ذلك أعلن أهل ألش طاعتهم ودخولهم في دعوة التوحيد، وتبعهم في ذلك أهل معظم الحصون المجاورة، فمنحوا جميعاً الأمان، ثم جهز السيد أبو حفص حملة من الموحدين والعرب تحت إمرة الشيخ الحافظ أبي عبد الله بن أبي إبراهيم، سارت إن مدينة بسطة فافتتحتها ودخلت في طاعة الموحدين. وأعقبتها الجزيرة -جزيرة شقر- الواقعة على مقربة من جنوبي بلنسية فأعلن أهلها التوحيد بزعامة عميدهم أبي بكر أحمد بن محمد بن سفيان المخزومي، فطردوا النصارى الذين كانوا بها. وكان أبو بكر زعيماً نابهاً من بيت عريق، وزاهداً محسناً. وأديباً شاعراً،

فلما رأى اختلال أمر ابن مردنيش وضغط الموحدين على قواعده، دعا للموحدين وانضم إليه جيرانه، فندب ابن مردنيش لقتاله، أخاه أبا الحجاج يوسف بن سعد نائبه في بلنسية، وبعث أبو الحجاج قوة من الفرسان قامت بمنازلة الجزيرة، ومحاصرتها والتضييق عليها، في منتصف شوال سنة 566 هـ، واستمر الحصار زهاء شهرين، وابن سفيان يقاوم ما استطاع، وابن سعد يوالي إرسال الجند لتشديد الحصار، ووصلت رسل الجزيرة إلى السيد أبي حفص بمحلته بمرسية في طلب الإنجاد، فوجه معهم قائدهم السابق أبا أيوب بن هلال الشرقي والياً عليهم، وكان قد دخل في دعوتهم للتوحيد واستطاع أبو أيوب أن يقتحم الجزيرة، وأن يقوم بضبطها وحمايتها أشهراً، حتى مرض ابن مردنيش ولحق بمرسية عليلا، وتنفس مخنق الجزيرة (¬1). وكان ابن مردنيش أثناء ذلك، والموحدون قبالة مرسية، يخرج بقواته من آن إلى آخر، ويشتبك مع المحاصرين في معارك طاحنة، وكان أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف بن سعد، يتولى الدفاع عن بلنسية وأحوازها. وقد اختُلف في موقف يوسف من أخيه في هذا المأزق العصيب، ففي رواية أنه خرج على أخيه، وفر عنه إلى الموحدين (¬2)، ودخل في دعوتهم قبيل وفاة أخيه بنحو عام. وفي رواية أخرى، أنه لما رأى تجهم الحوادث دعا في بلنسية لبني العباس، وكاتب الخليفة المستنجد بالله، فكتب له بالعهد والولاية، ثم بايع للموحدين (سنة 566 هـ) (¬3). بيد أنه يبدو من جهة أخرى أن هذه الرواية غير صحيحة، وأن أبا الحجاج يوسف، استمر يعمل إلى جانب أخيه بإخلاص، وأنه اختص بالدفاع عن قطاع بلنسية، بينما تفرغ أخوه محمد (ابن مردنيش) لمدافعة الموحدين في مرسية. والواقع أن هذه الفترة الأخيرة من حياة ابن مردنيش يكتنفها شىء من الغموض، وفي بعض الروايات القشتالية، أن ألفونسو الثاني ملك أراجون انتهز فرصة ضغط الموحدين على ابن مردنيش، وغزا أراضي بلنسية، المتاخمة لحدود قطلونية، واستولى منها على عدة مواقع وحصون، وأنه أرسل حملة برية وبحرية لغزو بلنسية ذاتها، فتولى الرئيس أبو الحجاج مدافعة ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 237. (¬2) أعمال الأعلام ص 271. (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 166.

القوات البرية، وتولى ابن قاسم قائد أسطول ابن مردنيش مدافعة السفن النصرانية فهزمها وأحرق عدداً منها (¬1). وجاءت حوادث ألمرية ضربة أخرى لابن مردنيش، وكان ابن مردنيش قد انتزع ألمرية من الموحدين، وندب لولايتها قائده ابن مقدم. فلما اجتاح الموحدون منطقة الأندلس الشرقية، واستولوا على لورقة وبسطة، واقتربوا من ألمرية، قام بألمرية ابن عم وصهر لابن مردنيش على أخته، هو محمد ابن مردنيش المعروف بصاحب البسيط، وتعاون معه محمد بن هلال أحد القادة الخوارج على ابن مردنيش، وأعلنا بطاعة الموحدين، وبعثا إلى السيد أبي حفص في طلب العون والإنجاد، فوجه إليهم قوة من الجند الموحدين، فقبض على الوالي ابن مقدم وأعدم. فلما علم ابن مردنيش بما حدث، أمر بقتل أخته زوجة ابن عمه وكانت بمرسية، وقتل ابنته منها، فقتلا إغراقاً، فجاء هذا الحادث البشع، دليلا جديداً على ما كان يتسم به ابن مردنيش من بالغ القسوة، والاستهتار بسفك الدماء، لا تعوقه في ذلك صلة رحم أو أية عاطفة إنسانية. يقول ابن صاحب الصلاة: " واختل ذهن ابن مردنيش في أثر ذلك، وقل عونه من الله ومن الناس هنالك، وعاد صبحه كالليل الحالك، وفزع من أذلته أهله وقرابته وشيعته وخاصته، واختلت حياته وحالته " (¬2). والواقع أن ابن مردنيش بما توالى عليه، في تلك الآونة العصيبة، من الضربات الأليمة، ومن انشقاق معظم قادته ووزرائه وقرابته، ومن استيلاء الموحدين على معظم قواعده، وتشددهم في حصاره وإرهاقه، قد بلغ ذروة اليأس والألم. وكانت الضربة الأخيرة والقاضية، ما بلغه من عبور الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف نفسه إلى الأندلس في جموع جرارة من الموحدين والعرب، ونزوله بإشبيلية، وذلك في شوال سنة 566 هـ، فأيقن عندئذ بأنه لم تبق مندوحة عن الهزيمة المطبقة والسقوط النهائي. وكان يستشف خلال يأسه وألمه، نذر الخاتمة المحتومة المروعة، بيد أنه لم يهن ولم يفكر في أن يختتم ثورته العتيدة وسلطانه العريض، الذي استطال زهاء ربع قرن، بالتسليم المهين، لمن كان يعتبرهم أعداء قومه وبلاده، على أنه لم يلبث أن انهارت بنيته المتينة، وحطمه الغم واليأس. ويبدو ¬_______ (¬1) A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 532 (¬2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 136 و 137.

من أقوال ابن صاحب الصلاة، أن ابن مردنيش قد انتهى به اليأس إلى نوع من الذهول والخبل، وزاد من ذهوله ما عمد إليه أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف من المبادرة إلى التوحيد. ثم جاء الموت فأنقذه من المصير المروع الذي كان ينتظره. وكانت وفاته حسبما يقول لنا ابن صاحب الصلاة، في العاشر من شهر رجب سنة 567 هـ (6 مارس سنة 1172 م) في الثامنة والأربعين من عمره، وهو تاريخ يحمل طابع الرجحان لأنه قول المؤرخ المعاصر (¬1). وفي رواية أن ابن مردنيش لم يمت موتاً طبيعياً، وأنه انتحر بتناول السم (¬2)، أو أنه توفي مسموماً بيد والدته. ذلك أنه لما اشتد على أهله وكبراء دولته، وأساء إليهم، نصحته أمه، وأغلظت له القول، فنهرها وخافت بطشه، لما تعلمه من وحشية طباعه، فدبرت قتله بالسم (¬3). على أن هذه الرواية، لا تستند إلى أساس قوي، فإن ابن صاحب الصلاة وهو المؤرخ المعاصر، وشاهد العيان، لم يقل لنا شيئاً عنها. ومن جهة أخرى فإن ابن الأبار، وهو قريب من العصر، وقد عاش في بلنسية في عهد حفيد يوسف بن مردنيش، يذكر لنا أن ابن مردنيش، مرض خلال محاصرته، لجزيرة شقر، فغادرها عليلا إلى مرسية (¬4). ويقول لنا المراكشي أيضاً إن ابن مردنيش توفي " حتف أنفه " خلال حصار مرسية (¬5). وهكذا هلك محمد بن سعد بن مردنيش. وكان موته نذيراً بانهيار دولته الشامخة، التي استطاع بعزمه وجرأته وشجاعته وبراعته، أن ينشئها في شرقي الأندلس، ما بين طرطوشة شمالاً وألمرية جنوباً، وما بين شاطىء البحر شرقاً وجيان غرباً، والتي لبثت زهاء ربع قرن تمثل سلطان الأندلس واستقلالها القومى، وتتحدى سلطان الموحدين وجيوشهم المتدفقة من وراء البحر، بل لقد لاح مدى حين أن ابن مردنيش يكاد يبسط سلطانه على الأندلس كلها، وذلك حينما استولى على جيّان وبياسة وأبدّة ووادي آش، واخترق أواسط الأندلس حتى ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة (لوحة 165). ويأخذ ابن الخطيب بهذه الرواية (الإحاطة ج 2 ص 90). ولكن ابن خلكان يقول لنا إن ابن مردنيش توفي في التاسع والعشرين من رجب سنة 567 هـ (27 مارس سنة 1172 م). راجع وفيات الأعيان ج 2 ص 493. (¬2) M. Gaspar Remiro: Murcia Musulmana p. 228 (¬3) ابن خلكان ج 2 ص 493. (¬4) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 237. (¬5) المعجب ص 140.

إشبيلية، وحينما اجتاح نائبه ومعاونه ابن همشك وادي قرطبة، وهدد قرطبة ذاتها، واستولى على قرمونة، ثم هزم الموحدين في مرج الرّقاد واستولى على غرناطة. ولو لم تضع موقعة السبيكة حداً لتقدمه، لكان سلطان الموحدين في الأندلس عرضة للانهيار، ولكللت ثورة ابن مردنيش بالظفر التام. ولقد كان ابن مردنيش في الواقع يمثل بثورته ضد الموحدين، كل ما كانت تبطنه الأندلس القديمة من الآلام والآمال القومية، التي لبثت تجيش بها منذ استولى المرابطون على قواعدها، وفرضوا سيادتهم عليها. ولم تغير سيادة الموحدين بعد المرابطين لشبه الجزيرة الأندلسية شيئاً من هذا الاتجاه القومي، فقد كان الموحدون كالمرابطين بالنسبة للأندلس، أجانب، وكانوا مثلهم من القبائل البربرية، التي لم تستطع منذ مثولها القوي في شئون الأندلس منذ أيام الحاجب المنصور، أن تحرز من الأمة الأندلسية كثيراً من العطف والتقدير. ولم تكن فكرة الجهاد التي كان يحمل لواءها المرابطون ثم الموحدون، وما كانت الجيوش المرابطية، ثم الموحدية، تبذله في سبيل حماية الأندلس، ومحاربة إسبانيا النصرانية، لتقضي تمام القضاء على الفكرة القومية الأندلسية، وإن كانت تلطف من آن لآخر من جذوتها واضطرامها. على أن ابن مردنيش لم يكن بالرغم من حصافته وجرأته وشجاعته، هو الشخصية المثلى لحمل لواء القومية الأندلسية، فقد كانت ثورته على الموحدين، تفقد كثيراً من قيمها المعنوية، بما كان يجنح إليه من الإفراط في مصادقة النصارى، والاستعانة بهم في حروبه، وتمكينهم من قواعده، وتشبهه بهم في زيه، وفي حياته الخاصة والعامة. وإلى جانب ذلك كان ابن مردنيش يتسم بطائفة من الخلال الذميمة، فقد كان مسرفاً في الشراب، واتخاذ الجواري، حتى " كان يراقد منهم جملة تحت لحاف واحد "، منهمكاً في حب القيان والزمر والرقص (¬1)، ثم كان بعد ذلك طاغية ظلوماً، بالغ القسوة، مسرفاً في الانتقام، مستهتراً بالدماء، وكان عماله على شاكلته من الظلم والجور (¬2). وتضع الرواية الإسلامية ابن مردنيش في سلك ثوار الأندلس، وتنوه بذكائه وشجاعته، وقد وصفه بعضهم بأنه " كان بعيد الغور، قوي الساعد، أصيل الرأي، شديد العزم، بعيد العفو، مؤثراً الانتقام، مرهوب العقوبة ". ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة (المطبوع) ج 2 ص 86، وفي أعمال الأعلام ص 260 و 261. (¬2) الإحاطة ج 2 ص 87 و 88.

وبالرغم من أن ابن صاحب الصلاة يقدمه لنا في كتابه " المن بالإمامة " في صور قاتمة، ويصف أصحابه دائماً بالأشقياء، فإنه في كتابه " ثورة المريدين " الذي يفصل فيه سير الأندلس، يصف ابن مردنيش بقوله " كانت له فروسية وشجاعة وشهامة ورياسة " (¬1). أما ما حدث عقب وفاة ابن مردنيش، فتختلف الرواية في تصويره. ويبدو من أقوال ابن صاحب الصلاة، أنه على أثر وفاته، بادر قواده وأشياخه، بإعلان الطاعة للموحدين، وأقنعوا ولده أبا القمر هلالا بذلك، فصدع برأيهم، وبادر إلى إعلان توحيده، وطاعته، وسار إلى إشبيلية، ليؤكد ذلك لأمير المؤمنين أبي يعقوب. وقد سبق أن أشرنا إلى ما يذكره ابن صاحب الصلاة من أن أبا الحجاج يوسف أخا ابن مردنيش، قد أعلن توحيده، قبيل وفاة أخيه (¬2). ويذكر لنا عبد الواحد المراكشي، أنه لما توفي ابن مردنيش، خلال الحصار، كتمت وفاته حتى قدم أخوه الرئيس أبو الحجاج يوسف من بلنسية، وتباحث مع أكبر أبناء أخيه، واتفق رأي الجميع على أن يدينوا بالطاعة لأمير المؤمنين أبي يعقوب، وأن يسلموا إليه البلاد. ويقرن ذلك برواية أخرى خلاصتها أن محمداً بن سعد حين شعر بدنو أجله جمع بنيه، وكان له من الولد الذكور ثمانية، هم هلال أبو القمر وهو أكبرهم، وإليه أوصى، وغانم، والزبير، وعزيز، ونصير، وبدر، وأرقم، وعسكر، وقال لهم أني أرى أمر هؤلاء القوم، من الموحدين، في صعود، وقد كثر أتباعهم، ودخلت معظم البلاد في طاعتهم، وأنه يظن أنه لا طاقة لهم بمقاومتهم، وأنه لذلك يحسن التسليم لهم طوعاً واختياراً فيحظوا بذلك عندهم، قبل أن ينزل بهم ما أنزل بغيرهم من أهل البلاد التي دخلوها عنوة، على أن عبد الواحد لا يجزم بصحة أي الروايتين (¬3). وعلى أي حال فإنه يبدو من المقطوع به، أنه على أثر وفاة ابن مردنيش، بادر ولده أبو القمر هلال، بإعلان إذعانه وطاعته لأمير المؤمنين أبي يعقوب، وبالتخلى له عن مدينة مرسية قاعدة الإمارة. فوجه الخليفة أخاه السيد أبا حفص إلى مرسية ليتقبل طاعته وليتسلم المدينة، فسار إليها في عسكر منازل من الموحدين ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 2 ص 86. (¬2) كتاب " المن بالإمامة " لوحة 165. (¬3) المعجب ص 140.

فبادر أهلها بالخروج إليه، ثم دخل المدينة وآنس أهلها، ووعظهم وحثهم على طاعة الخليفة، ووعدهم بالخير ورفع المظالم عنهم. ثم سار هلال بنفسه إلى إشبيلية في مستهل شهر رمضان (567 هـ) ومعه أكابر دولة الشرق وقادتها وأعيانها، فاستقبله وصحبه خارج إشبيلية، أخو الخليفة أبو زكريا يحيى صاحب بجاية، وأبو إبراهيم إسماعيل وعلية أشياخ الموحدين، ثم استقبلهم الخليفة بالقصبة العتيقة أجمل استقبال، وقدم هلال وصحبه بيعتهم للخليفة بحضور السادة الإخوة وأشياخ الموحدين. ثم أنزلوا بقصر ابن عباد والدور المتصلة به، وقد غمرهم الخليفة بوافر عطفه وإكرامه. وفي اليوم التالي قدم قادة الشرق وأجناده، وفي مقدمتهم شيخهم أبو عثمان سعيد بن عيسى، بيعتهم وطاعتهم، وأبدوا رغبتهم إلى الخليفة أن يقوم بغزو من جاورهم من بلاد النصارى، وعينوا مدينة وبذة بالذات هدفاً لهذا الغزو، نظراً لضعف تحصيناتها وأسوارها، فوعد الخليفة بتحقيق هذه الرغبة (¬1). وينقل إلينا ابن الخطيب بهذه المناسبة رواية خلاصتها أن الأمير محمداً بن سعد، لما أدركه اليأس، وأيقن بتصيير ملكه إلى الموحدين، أشهد على نفسه بإقامة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن -عدوه- وصياً على ولده وأهله، ورغب إليه قبول هذه الوصية، فلما نقل ذلك إلى الخليفة رق لهذا القصد، وتأثر بهذه الوسيلة، وتزوج زائدة ابنة ابن مردنيش وحفيدة ابن همشك. وكانت شقراء زرقاء العينين، رائعة الجمال، وتم زفافها إليه في ربيع الأول سنة 570 هـ، فحظيت لديه، وغدت أحب نسائه إليه، وأكثرهن نفوذاً لديه " حتى كان الناس على قول ابن الخطيب يضربون المثل بحب الخليفة للزرقاء (المردنيشية) ". وتزوج أختها صفية فيما بعد ولده، وولي عهده الأمير أبو يوسف يعقوب (¬2)، وأغدق الخليفة عطفه على آل مردنيش، واستبقى لهم سلطانهم في شرقي الأندلس، فعين أبا الحجاج يوسف بن سعد والياً لبلنسية وجهاتها، وعين غانم بن محمد ابن مردنيش قائداً لأساطيل العدوة بسبتة، واستبقى هلالا لديه، فعاش في كنفه، أثيراً، رفيع الرتبة (¬3). ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 165 ب و 166 أ. (¬2) المراكشي في المعجب ص 140. (¬3) أعمال الأعلام ص 271.

وأما إبراهيم بن همشك، وهو الذي كان خروجه على صهره وحليفه ابن مردنيش، نذيراً بانهيار مملكة الشرق، فقد لبث مستقراً على ما كان عليه في جيّان وأراضيها، وأقره الخليفة على ولايته، وذلك حتى أوائل سنة 571 هـ، (1175 م)، ثم طلب إليه الخليفة أن ينصرف إلى العدوة، فعبر إليها بأهله وولده، وأسكن مدينة مكناسة وأُقطع بها إقطاعات يعيش منها، ولم يمض قليل على ذلك حتى أصيب بفالج غريب، شديد الأعراض، لم يلبث أن حمله إلى القبر، بعد أن قاسى أهوالا من آلامه المروعة (¬1). ¬_______ (¬1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 311.

الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق فى غزوة وبذة

الفصل الثالث حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق في غزوة وبذة مرض الخليفة أبي يعقوب يوسف. عنايته باستدعاء العرب وحشدهم لمؤازرته. قصيدة ابن طفيل في حثهم على الجهاد. قصيدة ابن عياض في ذلك. استجابة العرب للنداء. مسير بعض طوائفهم إلى مراكش. شفاء الخليفة وجلوسه لاستقبال الوفود. خروج الخليفة وجيشه لاستقبال حشود العرب. المباريات الرياضية بين الفريقين. مبايعة العرب للخليفة. مآدب الطعام. تمييز عسكر العرب والتوسعة في أجورهم. تمييز الموحدين. توزيع الخيل والسلاح على الفريقين. الإنعام والبركة. خروج الخليفة في قواته من مراكش. وصف الموكب الخلافي. رباط الفتح. اتخاذها مركزاً لتجمع الجيوش الموحدية. تجديد منشآتها. تمييز جديد للجيش. استئناف السير إلى قصر مصمودة. العبور إلى الأندلس. المسير إلى إشبيلية ثم قرطبة. جلوس الخليفة للسلام والتهنئة. مسير الخليفة إلى إشبيلية. عزل ابن المعلم ومحاسبته. إنشاء قنطرة طريانة. إمداد بطليوس بالمؤن. إنشاء قصور البحيرة. إنشاء البستان. إجراء الماء إلى المدينة. إنشاء الجامع الأعظم. وصف ابن صاحب الصلاة لمراحل بناء الجامع وصنع منبره. تطور طراز المنشآت الموحدية. اقتراح أكابر الشرق غزو مدينة وبذة. موافقة الخليفة. خروجه في قواته من إشبيلية إلى قرطبة. مسيره صوب القصر فأندوجر. استيلاؤه على حصن بلج. تسليم حصن الكرس. المسير إلى وادي شقر. مسير السيد أبي سعيد في جيش إلى وبذة. معركة بين الموحدين والنصارى. وصول الخليفة في قواته إلى وبذة. هجوم الجيش الموحدي على وبذة. التفافه بالمدينة. انسحاب القشتاليين إلى الداخل وامتناعهم بالقصبة. فشل الهجوم الموحدي. محاصرة الموحدين للمدينة. عصف الرياح والأمطار. مقدم جنود الشرق. استئناف الموحدين للهجوم. فشلهم للمرة الثانية. حث الشيخ أبي محمد للناس على الجهاد. محاولة الموحدين إقناع القشتاليين بالتسليم. فشل هذا المسعى. قرار الخليفة بالرحيل. مهاجمة القشتاليين للجيش المنسحب. ارتداد الموحدين نحو قونقة. عطاء الخليفة لأهل قونقة. مسير الموحدين صوب نهر شقر. ظهور طلائع القشتاليين. إحجام الموحدين عن القتال. استئناف السير نحو أراضي بلنسية. الوصول إلى ركانة. اختلال الجيش وقلة الأقوات. تسريح جنود الشرق. الوصول إلى بلنسية ثم شاطبة فأوريولة فمرسية. نظر الخليفة في شئون مرسية. المسير إلى إشبيلية. نزول آل مردنيش بها. تكوين قوة من أهل الثغور للغزو. تأملات عن فشل الموحدين في حملة وبذة. عجز القيادة الموحدية. تفكك الجيش الموحدي. تقلب العرب وتخاذلهم. حوادث الغرب. الأحوال في مدينة باجة. تربص النصارى بها. مسير ألفونسو هنريكيز وجيرالدو لافتتاحها. مداهمة النصارى لها واستيلاؤهم عليها. تخريبهم لها ثم مغادرتها. عدم اكتراث الموحدين بسقوطها. اشتغال الخليفة في إشبيلية بإتمام الجامع والقصور. غزو القومس الأحدب لأحواز قرطبة. مسير الموحدين لرد النصارى. إدراكهم عند قلعة رباح. القتال بين الفريقين. هزيمة القشتاليين ومصرع

القومس. الاحتفال بالنصر في إشبيلية. غزو الموحدين لأراضى قشتالة. وصولهم إلى طلبيرة وتخريب بسائطها. سعى النصارى إلى عقد المهادنة. عقد الهدنة بين الموحدين وبين صاحب طليطلة وملك قشتالة وملك البرتغال. دخول جيرالدو سمبافور وجنده في خدمة الخليفة. بقية أخباره ومصرعه. تعمير قواعد الغرب. تعمير مدينة باجة. نكث فرناندو ملك ليون وغزوه لأراضي الأندلس. مسير الموحدين إلى مدينة ردريجو. زواج الخليفة بابنة أمير الشرق محمد بن سعد. نكبة الخليفة لابن عيسى. تعيينه لأخيه أبي على والياً لإشبيلية وأخيه أبي الحسن والياً لقرطبة. مغادرة الخليفة لإشبيلية وعبوره إلى المغرب. نرجع الآن قليلا إلى الوراء، لنتتبع مراحل الغزوة الأندلسية التي وعد بها الخليفة أبو يعقوب يوسف من بدايتها. وقد سبق أن أشرنا إلى مضمون الرسالة التي بعث بها الخليفة إلى الموحدين بالأندلس في شهر ربيع الآخر سنة 564 هـ، يؤكد فيها حرصه على إغاثة الأندلس والعمل على نصرتها، ونياته في استئناف الجهاد، وإلى ما قام به من إرسال جيش موحدي إلى الأندلس، تحت إمرة الشيخ أبي حفص عمر، ليكون تقدمة لهذا الجهاد. بيد أنه لم تأت أوائل سنة 565 هـ، حتى مرض الخليفة، واستطال مرضه زهاء أربعة عشر شهراً، حتى ربيع الأول سنة 566 هـ. وكان يتولى علاج الخليفة خلال تلك النازلة الخطيرة، طبيباه، أبو مروان بن قاسم وأبو بكر بن طفيل (¬1). وهذه أول مرة تقدم إلينا الرواية الموحدية فيها، الفيلسوف والطبيب الكبير ابن طفيل، باعتباره طبيب الخليفة الموحدي، وكان يتولى الاتصال به وزيره أبو العلاء إدريس بن جامع، يعرض عليه المخاطبات الواردة في مسائل الوفود، وأخبار الشئون المطمئنة، وتحجب عنه الأمور المكدرة، والقاضي أبو محمد عبد الله المالقي إذ كان يثق بعلمه وأمانته وحسن نصحه وتدبيره، وبعض الثقاة من أشياخ الموحدين. وكان أهم ما عنى به الخليفة أثناء مرضه. هو العمل على استدعاء العرب من إفريقية وترغيبهم للمشاركة في الجهاد. وقد سبق أن أشرنا إلى طوائف أولئك العرب الذين كانوا يحتلون بعض مناطق إفريقية (تونس) الجنوبية، وهم من بني هلال، وسُليم، وزغبة، ورياح، والأثبج، وإلى أسباب نزوحهم إلى إفريقية، وما كان من موقفهم من الخليفة عبد المؤمن، وما قام به عبد المؤمن من محاولة استمالتهم إلى المشاركة في الجهاد بالأندلس. وقد لبثت السياسة الموحدية من ذلك الحين تعمل على استمالتهم وحشدهم في صفوف الجيوش الموحدية، وذلك بالرغم مما جبلوا ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 138 ب.

عليه من التقلب وعدم الولاء. ومن ثم فقد حذا الخليفة أبو يعقوب في ذلك حذو أبيه، وبذل بالرغم من مرضه جهوداً خاصة، في استمالة أولئك العرب إلى مؤازرته فيما ينتويه من الجهاد، والقيام بالغزوة العظمى في جزيرة الأندلس، وكان مما أشار به الخليفة يومئذ، وهو يعلم ما للشعر البليغ في نفس العربي من عميق الأثر، أن توجه إلى العرب قصيدة حماسية، يشاد فيها برفيع أصولهم وأرومتهم، وكونهم هم السيف الماضي في نصرة الدين، وقمع المارقين والكافرين. فنظم طبيبه الفيلسوف ابن طفيل، تحقيقاً لتلك الغاية، قصيدة طويلة تفيض بلاغة، وروعة، وتدل على ما كان للفيلسوف في نفس الوقت، من منزلة عالية في النظم، تضعه في صف أكابر الشعراء. وإليك بعض ما جاء في تلك القصيدة الرائعة التي أوردها لنا بتمامها ابن صاحب الصلاة: أقيموا صدور الخيل نحو المضارب ... لغزو الأعادي واقتناء الرغائب وأذكوا المذاكي العاديات على العدا ... فقد عرضت للحرب جرد السلاهب فلا تقتني الآمال إلا من القنى ... ولا تكتب العليا بغير الكتائب ولا يبلغ الغايات إلا مصمم ... على الهول ركّابٌ ظهور المصائب ومنها في استمالة العرب والإشادة بهم: ألا فابعثوها همة عربية ... تحف بأطراف القَنى والقواضب أفرسان قيس من بني هلال بن عامر ... وما جمعت من طاعن ومضارب لكم قبة للمجد شدوا عمادها ... بطاعة أمر الله من كل جانب وقوموا لنصر الدين قومة ثائر ... وفيئوا إلى التحقيق فيئة راغب دعوناكم نبغي خلاص جميعكم ... دعاء بريئاً من جميع الشوائب نريد لكم ما نبغي لنفوسنا ... ونؤثركم زلفى بأعلى المراتب لكم نصر الإسلام بدءاً فنصره ... عليكم وهذا عوده جد واجب فقوموا بما قامت به أوائلكم ... ولا تغفلوا إحياء تلك المناقب وقد جعل الله النبي وآله ... ومهديّه منكم بلا عيب عائب ومن ذا الذي يسمع ليبلغ شأوكم ... إذا كنتم فوق النجوم الثواقب ومنها في الختام: وما الحزم إلا طاعة الله إنها ... هي الحَرَم المنّاع من كل طالب

نعدكم السيف الذي ليس ينثني ... إذا ما نبا سيف بِرَاحة ضارب ونجعلكم صدر القناة إذا غدت ... تأطّرُ ما بين الحشى والترائب وليس خطيب الصدق من قال فانبرى ... ولكن فعل الحرِّ أصدق خاطب وما خلق الأعْراب خلاف موعد ... ولكن صدق الوعد خلق الأعارب سنعلم من أوفى ومن خان عهده ... ومن كان من آت إلينا وذاهب (¬1). وأمر الخليفة أن تتبع قصيدة ابن طفيل بشعر آخر يوجه إلى العرب، استعجالا لهم واستنهاضاً لهممهم، فوجهت إليهم قصيدة ثانية من نظم ابن عيّاش هذا مطلعها: أقيموا إلى العلياء عوج الرواحل ... وقودوا إلى الهيجاء جرد الصواهل وقوموا لنصر الدين قومة ثائر ... وشدوا على الأعداء شدة صايل ْفما العز إلا ظهر أجرد سابح ... يفوت الصبي في شده المتواصل وأبيض مأثور كأن فرنده ... على الماء منسوج وليس بسائل وأسروا بني قيس إلى نيل غاية ... من المجد تجنى عند برد الأصائل تعالوا فقد شُدت إلى الغزو نية ... عواقبها مقصورة على الأوائل (¬2). وقد كان لهذه الخاطبة الشعرية أثرها فيما يروى ابن صاحب الصلاة، في نفوس العرب في إفريقية، ولاسيما في منطقتي الزاب والقيروان، فاجتمع زعماؤهم، وحزموا أمرهم على المبادرة إلى الاستجابة لنداء الخليفة. وكان شيخ بني رباح وزعيمهم جبارة بن كامل بن أبي العيش، وهو الذي كان قد فر أيام عبد المؤمن من إفريقية، فيمن فر من أشياخ العرب، حين دهمتهم القوات الموحدية في جنوبي القيروان، قد عاد من المشرق في هذه الآونة بالذات بعد أن تجول في ربوعه حيناً، ورأى أن يقتدى بزملائه في الاستجابة إلى " الأمر العزيز ". فجمع قومه، وسار إلى بجاية، وقصد إلى أميرها السيد أبي زكريا يحيى أخي الخليفة، فأكرم وفادته، ولحق به بقية الزعماء والأشياخ، وتحرك الجميع في صحبة السيد ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن صاحب الصلاة تلك القصيدة في " المن بالإمامة " لوحات 139 أوب، و 140 أ، وهي تحتوي على أربعين بيتاً، ونقل ابن عذارى معظمها في البيان المغرب القسم الثالث ص 88 و 89. ونشرت في العدد الأول من مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (سنة 1953). (¬2) أوردها ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 140 ب. وورد قسم منها في المعجب ص 125.

أبي زكريا إلى حضرة مراكش، ومعهم أموالهم وجملة كبيرة من عتاق الخيل، ولما وصلوا إلى تلمسان سار معهم واليها السيد أبو عمران موسى أخو الخليفة بمن عنده من العمال والأموال والخيل. وكان الخليفة أبو يعقوب قد شفى عندئذ من مرضه الطويل، فلما بلغته أنباء مقدم العرب، واقترابهم من الحضرة، سر بذلك أيما سرور، وخرج إلى المسجد الجامع يوم الجمعة السادس عشر من ربيع الأول سنة 566 هـ، في جو يسوده الحبور والبشر، وبعد ذلك بيومين جلس الخليفة لاستقبال أشياخ الموحدين وطلبة الحضر، والأجناد والخاصة من أهل الوفود والقضاة، وخطب في هذا الحفل الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر، والقاضي أبو يوسف، والفقيه أبو محمد المالقي، وأمر الخليفة بإخراج الصدقات للضعفاء والمساكين والوافدين الغرباء، ثم صدر الأمر بأن يكون وصول العرب الوافدين، ومن معهم إلى حضرة مراكش في ضحى يوم السبت الثاني من شهر ربيع الآخر سنة 566 هـ. وكانت الأوامر قد صدرت أثناء ذلك إلى جميع الجند الموحدين بالحضرة بالاستعداد واستكمال الزي والهيئة، وفرقت عليهم بهذه المناسبة الدروع، والبيضات والرماح والأسلحة والكسى والأعلام. وفي صبيحة يوم السبت المذكور بكر الحفاظ والطلبة من الموحدين وسائر الجند إلى باب السدّة، وانتظمت صفوفهم جُملا جُملا، تتقدمهم الطبول العديدة. ولما كمل ترتيب الموكب، برز الخليفة أبو يعقوب ممتطياً صهوة فرسه الأشقر، وإلى جانبه وزيره أبو العلا إدريس ابن جامع، سائراً على قدميه لصق ركابه، وهو يراجعه فيما يعن من الأمور، وفي ساقة الخليفة، يسير سائر الإخوة الصغار والبنين، ومن ورائهم حملة البنود، وأكابر الموحدين يحمل كل منهم علماً، وعليه درع سابغة لامعة تسطع تحت أشعة الشمس، وتتبعهم سائر الأجناد من الحشم والروم والعبيد. وتقرر أن يكون اللقاء في الفحص الشاسع القريب من المدينة، فلما وصل الموكب إلى الفحص المذكور، والطبول تقرع بشدة، والجيوش تبدو في أكمل هيئة، ضربت قبة الخليفة، ونزل فيها مع إخوته وبنيه. وأقبلت عساكر العرب وأهل إفريقية، ومعهم السيدان أبو زكريا يحيى، وأبو عمران موسى أخوا الخليفة. ولما التقى الموكبان على هذا النحو، أمر الخليفة أن يحمل الفريقان من العسكر كل على الآخر حملة مبارزة ورياضة ولعب، ففعلا، وتجاوبا وتصاولا حتى العصر، والطبول

تقرع، وقد أبدع كل منهما في حركاته ومناوراته. ثم تقدم أخوا الخليفة وأشياخ الموحدين وأشياخ العرب وجميع الوافدين للسلام على الخليفة، وانصرف الخليفة بعد ذلك في عسكر الموحدين إلى المدينة، وضرب العرب محلتهم في الفحص. وفي اليوم التالي، الثالث من ربيع الأول، أمر الخليفة بدخول أشياخ العرب والوفود لمبايعته، وأخذ العهد عليهم، فأدخلوا واستغرقت بيعتهم أسبوعاً حتى العاشر من ربيع الأول. وفي يوم الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الأول، خرج الخليفة عقب الصلاة إلى البحيرة (البستان) خارج الحضرة، ومدت المآدب العظيمة لإطعام العرب والوافدين. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان من شهود هذه الحفلات كلها، هيئة الإطعام، فيقول إن كل طائفة من ثلاثة آلاف رجل كان يقدم لها الطعام، وكلما انتهت طائفة من الأكل، سارت إلى موضع الخليفة وسلمت ودعا لها. واستمر حفل الإطعام أياماً، وقد أربى ما كان يقدم فيه على ما تقدم من الإنعام المماثل. ولم يعكر صفو هذا الحفل سوى مشادة حدثت بين صبيان الموحدين وأتباع العرب، وقعت خلالها بعض الاعتداءات على النفس والمال، وبادر العرب بالاعتذار وطلب العفو من الخليفة لما وقع من أتباعهم، فصفح الخليفة عنهم، وأمر بالاستمرار في إطعامهم وإكرامهم (¬1). وكانت آخر خطوة في هذه الأحداث المتعاقبة، إجراء التمييز لعسكر العرب والموحدين، ففي اليوم الثامن من جمادى الأولى أمر الخليفة بتمييز العرب الوافدين ومن وصل معهم، وأن يحضروا بين يديه في رحبة قصره بدار الحجر، ورتب دخولهم كل يوم بعدد معلوم من مختلف القبائل، فاستمر تمييزهم خمسة عشر يوماً، والخليفة جالس في مجلسه مع أشياخ الموحدين وأشياخ طلبة الحضر وأشياخ العرب، يحرض العرب والناس على الجهاد، ويحث على التفاني فيه. ولما انتهى التمييز، دعا الخليفة أشياخهم وكبراءهم، وأحضرت زمامات التمييز الأول، أيام الخليفة عبد المؤمن، فوجدت في التمييز الجديد زيادة كبيرة في الأجور. وكان قصد الخليفة من التوسعة على العرب، أن يمتنعوا عن عاداتهم الذميمة في الاعتداء على الأموال وخطف العمائم والثياب والسروج وغيرها، ¬_______ (¬1) يقدم إلينا ابن صاحب الصلاة وصفاً ضافياً لهذه الاستقبالات والحفلات في" المن بالإمامة " لوحات 146 ب إلى 149 ب.

وأن يستميلهم إلى طاعته ومؤازرته، ثم بدىء بتمييز الموحدين من غرة جمادى الآخرة واستمر تمييزهم أيضاً خمسة عشر يوماً، وفق منازلهم وقبائلهم، ووزعت على أثر ذلك على الموحدين والعرب الخيل وعُدد الحرب من الرماح والدروع والبيض والسيوف وغيرها. واختتم التمييز بما يسمى في المراسيم الموحدية " بالإنعام بالبركة " وتوزيع الأعطية. وأقيم لذلك حفل ضخم جلس فيه الخليفة في مجلسه، ومن حوله أشياخ الموحدين وأشياخ العرب، وأحضرت الأموال بين يديه، أكواماً من الذهب والفضة، من دنانير ودراهم، وقُدم الموحدون في تنفيذ البركة، فأصاب الفارس الكامل منهم عشرة دنانير، وغير الكامل ثمانية، والراجل ْالكامل خمسة دنانير وغير الكامل ثلاثة. وحصل العرب على منح مضاعفة، فأصاب الفارس الكامل منهم خمسة وعشرين ديناراً، وغير الكامل خمسة عشر، والراجل سبعة دنانير، ومُنح أشياخ العرب خمسون ديناراً لكل منهم، ومنح كل رئيس قبيلة مائتا دينار، ووزعت على الجميع الكسى من القباطي والنفاير والعمائم، وزودوا بالسيوف المحلاة والدروع السابغات والبيض والقنا، وأمر لهم بثلاثة آلاف فرس وزعت على مختلف القبائل، وحصل الموحدون كذلك على جملة كبيرة من الخيل قسمت عليهم بحسب قبائلهم ومنازلهم. وكان يوماً مشهوداً، سادت فيه الغبطة والحماسة بين الأشياخ والجند، وارتفعت قواهم المعنوية، وأخذوا يتطلعون إلى الغزو المنشود في عزم وثقة (¬1). - 1 - وهكذا تمت أهبة الخليفة أبي يعقوب يوسف للغزوة الأندلسية التي اعتزمها، والتي عاقه المرض حيناً عن إتمامها، وعلى هذا النمط الذي أفاض في وصفه، ابن صاحب الصلاة، ولخصناه فيما تقدم، كانت تُحشد الجيوش الموحدية، ويجرى استعداد الخليفة الموحدي للغزو. وفي اليوم الرابع من شهر رجب سنة 566 هـ الموافق 13 مارس سنة 1171 م غادر أبو يعقوب حضرة مراكش في حشوده من الموحدين والعرب، وكان خروجه من باب دُكّاله، وقد هرعت الجموع الغفيرة لرؤيته، فسار وأمامه العلم الأبيض، ومن ورائه حملة الطبول، وقد قدم أمامه مصحف عثمان محمولا على جمل مرتفع، وعليه قبة صغيرة حمراء، وقد وضع في تابوته الفخم المرصّع بنفائس الجوهر والياقوت والزمرد، وأمام مصحف ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 150 ب و 151 أوب.

عثمان، مصحف الإمام المهدي، وكان يسير إلى جانب حملة الأعلام والطبول، الوزير أبو العلاء إدريس بن جامع، ومعه الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر صاحب المهدي، وأبو محمد عبد الله المالقي شيخ طلبة الحضر، وقاضي الجماعة أبو موسى عيسى بن عمران، وعدة آخرون من أشياخ الموحدين. ونزل الخليفة في وادي تانسيفت على قيد ثلاثة أميال من مراكش، وهو أول منازل الرحلة، وعساكره محدقة به من كل صوب. ثم غادره في اليوم التالي إلى جسر الخطابة إلى توبين، ثم إلى تودجين. واستمر في سيره على هذا النحو حتى وصل إلى وادي أم الربيع، وهو في كل مرحلة ينزل في الدار التي أعدت لنزوله، وجاز العسكر الوادي تباعاً فوق القنطرة التي عملت لذلك، وقد خصص يوم لجواز كل قبيلة. ثم استأنف السير حتى وصل إلى مقربة من المهدية، وهي التي سُمّيت عندئذ برباط الفتح. وكان موضع هذه المدينة التي غدت في عصرنا عاصمة المغرب، سهلا براحاً به مرافق لأهل سلا، وبعض أعيان إشبيلية، فاشتراه الخليفة عبد المؤمن من أصحابه. ولما وفد في قواته على سلا في سنة 545 هـ، لاستطلاع أحوال جزيرة الأندلس واستدعاء شيوخها وطلبتها من الموحدين، أمر حسبما تقدم، بأن ينشأ في ذلك الموضع قصبة حصينة على اللسان الممتد في البحر أمام سلا، وبأن ينشأ سرب لجريان الماء من عين عبولة، القريبة إلى محلته التي أنشأها، فتم ذلك في بضعة أشهر، وجرى الماء ليستقي منه الناس والدواب وتروى الأرض، وغرست الجنات والرياض، وأذن الخليفة للناس بالسكنى وإنشاء الديار والأسواق. وهكذا قامت مدينة رباط الفتح. وكانت الرباط، منذ عهد عبد المؤمن مركز تجمع الجيوش الموحدية الغازية سواء إلى إفريقية أو الأندلس. ولما تم فتح إفريقية غدت بالأخص مجاز الجيوش المسيرة إلى الأندلس. ولما وصل الخليفة أبو يعقوب إلى مقربة من الرّباط نزل في فحصها مع الوزراء والأشياخ والكبراء، وأمر بأن تُغرس في أركان تابوت مصحف عثمان الأربعة، أربع رايات، رفعت على أربع رماح صغار، في أعلى كل منها تفاحة من الذهب يسطع بريقها الوهاج، وللرايات ألوان أربعة، الخلدى والأحمر، والأصفر والأبيض. ثم اقتعد الخليفة غارب فرسه الأشقر، وسار على النظام الذي سبق وصفه، ومن ورائه حشود الموحدين والعرب وقد ملأت البسائط.

فلما أشرف على الرباط، أمر بتقديم الطبول والرايات أمامه مع المصحفين تعظيماً لشأنهما، وتبعه الوزراء والأشياخ والكتاب والطلبة، حتى وصل إلى باب المدينة، فرد وجهه للناس واستقبلهم ودعا لهم، وأمرهم بالنزول في السهل الشاسع، ونزل بالدار المعدة لنزوله، وكان وصول الخليفة إلى رباط الفتح في اليوم العشرين من شهر رجب سنة 566 هـ، وبذا استغرقت رحلته إليها من مراكش، سبعة عشر يوماً (¬1). وأمر الخليفة على أثر وصوله أن تجدد السقاية التي أنشأها والده عبد المؤمن، وكانت قد خربت، وأسن ماؤها، فجددت وأعيدت إلى حالتها الأولى، وأنشىء إلى جانبها صهريج عظيم ليمدها بالماء المتجمع فيه، وكذلك أمر بأن ينشأ جسر جديد فيما بين الرباط وسلا على نهر أبي رقراق، إلى جانب الجسر الذي كان قد أنشأه أبوه، ثم خرب بفعل الزمن، فأقيم جسر عظيم فوق القوارب، وغطى بالحجر والجيار الثابت. وأمر أخيراً بالبدء في بناء أسوار المدينة من جهتي الجنوب والغرب، وهي الأسوار التي أكملت فيما بعد في عهد ولده الخليفة يعقوب المنصور. وفي اليوم الثامن من نزوله أمر بتحرك العساكر، وأن يقام لهم تمييز جديد، وأشرف على تمييز العرب السيد أبو زكريا أخو الخليفة، وأبو محمد عبد الله المالقي لمعرفته بهم وبأنسابهم. ثم وزعت الكسى على الأشياخ من كل قبيل، وعلى طلبة الحضر، والعرب، وخُص كثير منهم بأخبية وخيل عتاق، وكذلك وزعت الصدقات على الضعفاء والمساكين، وقضيت حوائج الناس، ثم اتخذت الأهبات الأخيرة لاستئناف السير. وفي عشية يوم الجمعة التاسع من شهر شعبان سنة 566 هـ، صدرت الأوامر بالحركة، وعبرت الجند البحر إلى سلا فوق الجسر الجديد. وفي صباح اليوم التالي تقدم الشيخ أبو سعيد يخلف بن الحسين بالموحدين حتى تم جوازهم، ثم تلاه السيد أبو زكريا بالعرب، واستغرق جواز العسكر خمسة أيام، وفي الخامس عشر من شعبان غادر الخليفة رباط الفتح، ومعه وزيره ابن جامع، والأشياخ والحفاظ والطلبة والعبيد، بنفس النظام الذي تقدم وصفه، ونزل بالموضع المعروف بالحمام على مقربة من وادي سبُو تجاه ثغر المعمورة، وتلاحق سائر العسكر إلى الوادي، فاجتمع من عسكر الموحدين عشرة آلاف فارس، واجتمع كذلك ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 152 أإلى 154 ب.

من العرب عشرة آلاف فارس، وهذا غير المتطوعة والمجاهدين، فإذا ذكرنا أن الشيخ أبا حفص بن يحيى، كان قد تقدم الخليفة بجيش كبير إلى شبه الجزيرة في أوائل سنة 564 هـ، وأن السيد أبا حفص أخا الخليفة، تلاه في جيش كبير آخر عبر إلى شبه الجزيرة في أوائل سنة 566 هـ، وهو الجيش الذي اضطلع بمحاربة ابن مردنيش والقضاء على مملكة الشرق، أدركنا ضخامة الجيوش الموحدية التي أعدت للغزو بالأندلس. ووصل الخليفة في قواته الجرارة إلى قصر مصمودة غربي ثغر سبتة (¬1)، وبدأ عبور الجند إلى شبه الجزيرة، عن طريق ثغر طريف، في مستهل رمضان من سنة 566 هـ (8 مايو سنة 1171 م) واستمر عبورها أكثر من أسبوعين، وفي اليوم السابع والعشرين من رمضان عبر الخليفة في خاصته، واستقبله في طريف زعماء الأندلس وأكابرها من سائر القواعد، ثم تحرك إلى إشبيلية، ودخلها في يوم الجمعة الثاني عشر من شهر شوال (18 يونيه) واستقبله الأشياخ والناس استقبالا حافلا، فاستراح بها عشرة أيام، ثم سار إلى قرطبة في الثاني والعشرين من شوال، فوصل إليها في غرة ذي القعدة (5 يوليه). ونزلت القوات الموحدية في داخل قرطبة وفي خارجها على ضفتي الوادي، مدة إقامة الخليفة بها، وقد استطالت إلى آخر ذي الحجة سنة 566 هـ. وفي يوم عيد الأضحى، خرج الخليفة للصلاة وألقيت الخطبة المعتادة، واحتفل بالنحر، ثم استقبل الأشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، وانصرف إلى دار الإمارة. وفي اليوم التالي جلس بالقصر، مجلس السلام والتهنئة، وأقبل أشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، وطلبة الحضر، والفقهاء والقضاة والكتاب، وأهل الوفود، وأعيان قرطبة، أقبلوا جميعاً للسلام، وأنشد الشعراء كالعادة مدائحهم وتهانيهم، وكان في مقدمتهم أبو بكر بن المُنخّل، وقد أنشد بين يدي الخليفة قصيدة طويلة أوردها لنا ابن صاحب الصلاة، ومما جاء فيها: شرّف الخلافة أن ملكتَ زمامها ... يحمي جوانبها فكنتَ حسامها ¬_______ (¬1) قال الإدريسي في وصف قصر مصمودة " إنه يقع غرب سبتة على قيد 12 ميلا، وهو حصن كبير على ضفة البحر تنشأ به المراكب والحراريق التي يسافر فيها إلى بلاد الأندلس. وهي على رأس المجاز الأقرب إلى ديار الأندلس " (وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص 168).

طبع الإله لها حساماً صارماً ... وغدوت من عقد الإمام إمامها ورأت عداة الله أن حمامها ... من قيس عيلان فكنت حمامها فعلى رماحك أن تشق صوبها ... وعلى سيوفك أن تفلّق هامها (¬1). وفي خلال إقامة الخليفة بقرطبة سُيرت حملة موحدية بقيادة عبد الله بن أبي حفص ابن تفريجين وبعض أشياخ الموحدين نحو أراضي قشتالة، وكان القصد من تسييرها أن تقوم بغارة انتقامية لما ارتكبه القشتاليون بقيادة الكونت نونيو دي لارا من العيث والتقتيل في أراضي المسلمين، قبل ذلك بنحو عامين، فسار الموحدون شمالا، وعبروا نهر التاجُه، وعاثوا في منطقة كبيرة من أراضي قشتالة، وعادوا إلى قرطبة مثقلين بالسبي والغنائم، ونحن نذكر أن الجيوش الموحدية، كانت قبل ذلك ببضعة أشهر، قد سارت بقيادة السيد أبي حفص أخي الخليفة لحصار مرسية ومقاتلة ابن مردنيش في عقر أراضيه، والقضاء على سلطانه في شرقي الأندلس، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه، وكانت الأنباء تتوالى على الخليفة، وهو بقرطبة، بما أنزله الموحدون بابن مردنيش من الضربات والهزائم، وما استولوا عليه من بلاده، وبما يؤذن بإحرازهم النصر النهائي في تلك المعركة الحاسمة. - 2 - غادر الخليفة أبو يعقوب يوسف قرطبة، بعد أن أقام بها شهرين، في آخر شهر ذي الحجة سنة 566 هـ، قاصداً إلى إشبيلية، فوصل إليها في الثاني من محرم سنة 567 هـ (5 سبتمبر 1171 م)، ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان شاهد عيان لكل ما تقدم من تنقلات الخليفة، إن الخليفة لم يحتل من دور إشبيلية سوى ستين داراً، وأنه اشترى بها مائة دار من ماله الخاص لتكون منزلا للوافدين إليه، وذلك رفقاً منه بأهل المدينة (¬2)، وكانت إشبيلية قد غدت عندئذ قاعدة الحكومة الموحدية بالأندلس، وذلك بعد أن ترددت هذه الحكومة حيناً بين قرطبة وغرناطة وإشبيلية. وكانت إشبيلية بموقعها على مقربة من البحر وعلى مقربة من العدوة، أصلح من الناحية الإستراتيجية من قرطبة، لاستقبال ¬_______ (¬1) تشغل هذه القصيدة من " المن بالإمامة " لوحة 159 ب و 160 أوب. (¬2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 156 ب.

الجيوش الموحدية الوافدة، واستقبال عتادها وذخائرها ومؤنها، ومن جهة أخرى، فقد أثبتت الحوادث، منذ مقدم الموحدين إلى شبه الجزيرة، أن تيار الغزو النصراني للأندلس، قد تحول إلى ناحية الغرب، وأن قيام مملكة البرتغال الجديدة، واشتداد ساعدها، قد نقل الصراع الرئيسي بين إسبانيا المسلمة، وإسبانيا النصرانية إلى هذه الناحية من شبه الجزيرة، وهذا ما أيدته في الأعوام الأخيرة، معارك بطليوس، وغزوات ألفونسو هنريكيز، وهذا ما سوف تؤيده الحوادث فيما بعد، وهو مما يدل على بعد نظر السياسة الموحدية في هذا الشأن. وأخيراً فقد كانت إشبيلية، بعد الذي أصاب قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، من ضروب التخريب والعفاء منذ أيام الفتنة، ومختلف الحروب والثورات، كانت أرقى عمراناً، وأوسع رحاباً، ولاسيما منذ أيام بني عباد، حيث غدت أعظم حواضر الأندلس وأجملها. ولهذا كله اختار الموحدون أن تكون إشبيلية حاضرتهم وقاعدة حكومتهم بالأندلس. وما كاد الخليفة يصل إلى إشبيلية، حتى أمر بعزل محمد بن سعيد المعروف بابن المعلم، وكان يتولى أعمال المخزن أو إدارة الشئون المالية بإشبيلية والأندلس، وأُمر بالسير إلى قرطبة لمحاسبته، والتحقيق في سير أعماله، وكانت قد علقت به وبتصرفاته في تنفيذ المنشآت والمشاريع العامة ريب كثيرة، وندب لمحاسبته الفقيه أبو محمد المالقي والكاتب أبو الحكم بن عبد العزيز، وانتهى الأمر باستصفاء أمواله، ثم إعدامه فيما بعد. وقدّم الخليفة مكانه على أعمال إشبيلية، أبا داود بلول ابن جلداسن. وقد كان للخليفة عند حلوله بإشبيلية برنامج ضخم من الأعمال الإنشائية، سوف يضطلع بلول، وزير المال الجديد، في تنفيذه بأعظم قسط. وكان أول ما أشار به الخليفة من تلك الأعمال بناء قنطرة عظيمة على نهر الوادي الكبير، تصل ما بين إشبيلية وطريق طُريانة، ضاحيتها الغربية، وتيسر سبل المواصلات في اتجاه الغرب، فحشد لها العرفاء والصناع، وتم إنشاؤها في نحو شهر، في السابع من صفر سنة 567 هـ، وحضر الخليفة يوم إكمالها وافتتاحها، في حفل ضخم، رفعت فيه البنود وقرعت الطبول. وينوه ابن صاحب الصلاة بما كان لإنشاء هذه القنطرة العظيمة من حسن الأثر، وما حققته للناس من يسر ورخاء، إذ كان المرور بها دون قبالة أو رسوم. وفي خلال ذلك، حضر السيد أبو حفص أخو الخليفة من حصن مرسية،

وذلك قبل وفاة ابن مردنيش وانقضاء أمره بأشهر قلائل، فاستقبله الخليفة خارج إشبيلية، باحتفال بالغ. واجتمع الأخوان للبحث فيما يجب عمله لحماية الأندلس ورد عدوان النصارى عنها. وكان أول ما تقرر في ذلك أن ترسل حملة ضاربة من الموحدين تحمل الميرة والعتاد والمرافق اللازمة لمدينة بطليوس، فخرجت هذه الحملة في الثامن من شهر صفر، وجازت فوق القنطرة الجديدة إلى طريانة، فكانت أول عسكر يجوز عليها، وسارت إلى بطليوس. فلما اقتربت من المدينة، هاجمت حصن ليون الواقع على مقربة من شرقي بطليوس على ضفة وادي يانه، وكانت تحتله حامية من النصارى من جند جيرالدو سمبافور، واقتحمته عنوة، وأوصلت حمولتها من الميرة والسلاح إلى بطليوس، ثم عادت سالمة إلى إشبيلية. ولما كللت حملة مرسية بالنجاح، وتوفي ابن مردنيش، وانتهت مملكة الشرق، قَدِم هلال بن مردنيش وأكابر الشرق إلى إشبيلية، في مستهل رمضان سنة 567 هـ، وقدموا خضوعهم وطاعتهم للخليفة، وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه. وقد استطالت إقامة الخليفة أبي يعقوب يوسف بإشبيلية والأندلس زهاء خمسة أعوام، وبالرغم من أنه قام خلال إقامته بغزو أراضي النصارى، وذلك تحقيقاً لمشروعه الرئيسي في العبور إلى الأندلس، فإن أهم ما تميزت به تلك الفترة، هو اضطلاعه بالأعمال الإنشائية العظيمة بمدينة إشبيلية، وهي التي بدأها ببناء القنطرة على الوادي الكبير. والظاهر أن أبا يعقوب، كان يحبو هذه المدينة العظيمة، التي أنفق فيها أعواماً عديدة من شبابه حاكماً لها أيام أبيه عبد المؤمن، بكثير من الحب والإعجاب، ومن ثم فإنا نراه يعمل بهمة عظيمة على تحصينها وتجميلها، وتزويدها بالمنشآت الفخمة، والمياه الجارية. وكان أول ما عنى به بعد إنشاء القنطرة، هو إنشاء القصور الخليفية المعروفة " بالبحيرة ". وكانت إشبيلية تزدان بعدد من القصور الملكية، هي قصور بني عباد السالفة، وكانت ما تزال، في هذا العصر، بعد أكثر من مائة عام، تحتفظ بكثير من روعتها وفخامتها، ولكن الخليفة الموحدي، لم يرق له أن يتخذ من تلك القصور مقامه، واكتفى بتخصيصها لنزول الأمراء والكبراء الوافدين. وكان السيد أبو حفص، أخو الخليفة، قد ابتنى خلال زياراته لإشبيلية بعض الدور في وادي إشبيلية خارج باب الكُحل، فرأى الخليفة أن يقيم قصوره خارج باب جهور، في أرض الجنان المنسوب

لأبي مسلمة القرطبي بعد أن عوض أصحابه جناناً في مكان آخر. وأقيمت في هذا الموضع طائفة من القصور والدور الفخمة للخليفة وحاشيته. وقام على إنشائها العريف أحمد بن باسُه عريف الأندلس، والخبير بشئون القصور، فجاءت على أبدع طراز، وأقيمت حولها من جميع الجهات أسوار من الجيار والرمل والحصى. وعهد الخليفة إلى أبي القاسم أحمد بن محمد الحوفي القاضي، وأبي بكر محمد ابن يحيى الجد، لما عرف عنهما من الأمانة والخبرة الهندسية والزراعية، أن يقوما بإنشاء بستان عظيم حول هذه القصور من أموال المخزن (الأموال العامة) تُجلب إليه الغراس من الزيتون والأعناب والفواكه وسائر الأنواع النادرة الغريبة من الأشجار والغراس، فقاما بتنفيذ أمره، وعُوّض أهل الأراضي التي أدخلت في البستان عن أراضيهم تعويضاً مرضياً. وعهد بأعمال الحفر والغراس إلى أبي داود بلول بن جلداس، متصرف إشبيلية وأعمالها وأمين الخليفة، وجلبت إلى البستان آلاف الغراس والأشجار من مختلف الأنحاء، وغُرست فيه على أجمل نسق. وحملت غراس التفاح والأجاص (الكمثرى) وغيرها من غرناطة ووادي آش، وكان الوزير أبو العلاء بن جامع وابنه يحيى يلازمان الجلوس للإشراف على العمل من الصباح إلى المساء، وكان الخليفة يخرج من قصره بإشبيلية مع أعيان الموحدين لمشاهدة الأعمال الجارية ومدى تقدمها. ويفيض ابن صاحب الصلاة كعادته في وصف هذه القصور وجمالها وفخامتها (¬1). وكانت الخطوة التالية بعد إنشاء القصور والبستان، النظر في استجلاب الماء لتوفير السقاية والري. وكان يوجد خارج باب قرمونة، على الطريق المتجه إلى قرمونة، أطلال قنطرة رومانية قديمة، قد درست وعفت، ولم يبق منها سوى حجارتها المتساقطة. فقام المهندس الأندلسي البارع الحاج يعيش المالقي، وهو الذي تولى الإشراف على أعمال جبل طارق، بالحفر حول هذا الأثر، حتى تحقق لديه، أنه كان قنطرة رومانية تحمل الماء من سرب قديم إلى إشبيلية، ثم تتبع السرب بعد ذلك بالحفر حتى انتهى إلى مأخذه القديم من الوادي على مقربة من قلعة جابر (¬2)، وتم إجراء الماء من ذلك الموضع في سربه القديم إلى البحيرة، ¬_______ (¬1) المن بالإمامة لوحات 161 ب و 162 أوب و 163 أ. (¬2) وهي تقع في جنوب شرقي إشبيلية على قيد نحو عشرة كيلومترات منها، ومكانها اليوم البلدة الإسبانية الصغيرة التي تسمى ( Alcala de Guadaira) .

والقصور والرياض الخليفية، وأمر الخليفة بعد ذلك، بإجراء الماء إلى داخل المدينة لسقاية الناس، وتوفير مرافقهم، فقام الحاج يعيش بتنفيذ هذه الرغبة على أكمل صورة، وأنشىء داخل إشبيلية محبس للماء بحارة منور وهو نهاية جريانه، وتم توصيل الماء إلى المدينة على هذا النحو في اليوم الخامس عشر من جمادى الآخرة سنة 567 هـ، وحضر الخليفة حفل إجرائه في جماعة كبيرة من الجند والأشياخ والفقهاء والطلبة، وضربت الطبول، وساد البشر واليمن بين الناس. على أن أعظم منشآت الخليفة أبي يعقوب يوسف بإشبيلية، هو الجامع الأعظم، الذي ما زالت تقوم منه حتى اليوم بعض البقايا الدارسة، إلى جانب كنيسة إشبيلية العظمى، التي أقيمت فوق أنقاضه. وكان البدء بإنشائه واختطاط موقعه في شهر رمضان سنة 567 هـ، فهدمت لذلك الغرض ديار كثيرة داخل القصبة تحت إشراف العريف أحمد بن باسُه، واجتمع بإشبيلية للقيام بأعمال الإنشاء، العرفاء، والبناؤون من أهل إشبيلية، ومن سائر قواعد الأندلس، ومن أهل العدوة ولاسيما مراكش وفاس، واجتمع معهم أمهر العمال من سائر الحرف المطلوبة. وكان الموحدون حينما افتتحوا إشبيلية قد أنشأوا لهم بقصبتها جامعاً صغيراً يؤدون فيه شعائرهم، ولكنه أضحى يضيق بهم، بعد أن تكاثروا وكثرت وفودهم، ومن جهة أخرى، فإن المدينة ذاتها كانت في أشد الحاجة إلى مسجد جامع يتفق مع ضخامة عمرانها، وأهميتها كمقر للحكومة الموحدية بالأندلس. وكان مسجد إشبيلية الجامع، المسمى بجامع العدبّس أو ابن عدبّس وهو المنسوب للقاضي عمر ابن عدَبّس، والمشيد في سنة 214 هـ، أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، قد ضاق برواده، نظراً لنمو المدينة وتكاثف سكانها، وكثرة الموحدين الوافدين عليها، ولم يفكر أحد من أمراء بني عبّاد أيام دولتهم، في إنشاء مثل هذا الجامع لانهماكهم في شئون الإمارة، وإنشاء القصور ودور القصف، وإهمالهم لشئون العبادة. يقول ابن صاحب الصلاة وقد كان من سكان إشبيلية، وكان شاهد عيان لإقامة هذه المنشآت كلها، إن أمير المسلمين الخليفة أبا يعقوب " قد حاز الذخر والأجر في بناء هذا المسجد الجامع الكبير توسعة للناس، فأسسه من الماء بالآجر والجيار والحصى والأحجار، على أعظم البناء والاقتدار، وأسس أرجله المعقودة بطاقات بلاطابية تحت الأرض، أطول مما فوق الأرض، وجمع عليه الفعلة بكثرة الرجال والخدام، وإحضار الآلات من الخشب المجلوب من سواحل العدوة

مما لا يقدر عليه ملك من ملوك الأندلس قبله، فأعلى بنيته، وصقل صفحته بالإتقان لتشييده وتوثقه، وأنفذ أمره العالي ببنيانه في رمضان من سنة سبع وستين وخمسمائة المؤرخة، لم يرفع عنه البناء قط في فصل من فصول السنين مدة إقامته بإشبيلية، إلى أن كمل بالتسقيف وجاء في أبهى النظر الشريف، أعجز في بنيانه من تقدمه، وتفنن في ميزابه وخبره ورخمه مقدمه، قارب جامع قرطبة في السعة، وليس في الأندلس جامع على نده، وسعته وعدد بلاطاته ". وتولى النظر على بناء الجامع وعرفائه العريف أحمد بن باسُه، والنظر على النفقة أبو داود بن جلداسن خاصة أمير المؤمنين، وكان من الحفاظ على البناء من أهل إشبيلية، أبو بكر بن زهر، وأبو بكر الساقي. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة مراحل إتمام الجامع على النحو الآتي: إن سرب المدينة كانت تشق بجريها تحت الأرض على مواضع اختطاط هذا الجامع، فنكبت عنه، وصرفت إلى جهة الجوف على سرب واسع، وعمل على توثيق البناء تحت الأرض، وعنى العرفاء ببناء القبة التي على محرابه وبنجارتها أعظم عناية، وأقاموا عن يسار المحراب، ساباطاً في الحائط، يشقه الخليفة من القصر إلى الجامع، لشهود صلاة الجمعة، وافتن الصناع في عمل المنبر وصياغته من أكرم الخشب، وفي إبداع نقوشه، وترصيعه بالصندل المجزع بالعاج، وأبنوسه يتلألأ بصفائح الذهب والفضة، " وأشكال في عمله من الذهب الإبريز، يتألق نوراً، ويحسبها الناظر لها في الليل البهيم بدوراً ". ثم عملت له مقصورة من الخشب مزينة بالفضة. وكان الخليفة يتفقد بناءه بنفسه في أكثر الأيام ومعه أشياخ دولته، ويشير للمشرفين عليه بالجد في البناء وإتقانه، حتى كملت جهاته الأربع بالبناء وعقد الأقواس، وكمال التسقيف، واستغرق بناؤه ثلاثة أعوام وأحد عشر شهراً، إلى أن حان موعد عودة الخليفة إلى حضرة مراكش في الرابع عشر من شعبان عام 571 هـ، وأمر بتسريح العرفاء والبنائين والصناع إلى مواطنهم. على أن هذا الجامع لم يفتتح للصلاة بصفة رسمية وتقام به الخطبة، إلا بعد ذلك بنحو سبعة أعوام، وأقيمت فيه الخطبة لأول مرة يوم الجمعة 24 ذي الحجة سنة 577 هـ (30 أبريل سنة 1182 م) وذلك على يد السيد أبي إسحاق إبراهيم ابن الخليفة أبي يعقوب، ووالي إشبيلية عندئذ، وأزيلت الخطبة من جامع ابن عدبّس من ذلك التاريخ (¬1). ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة "، لوحة 167 أو 168 أوب 169 أ، وروض القرطاس ص 138، والبيان المغرب القسم الثالث ص 96.

ومما تجدر ملاحظته بهذه المناسبة أن الموحدين في بداية أمرهم لم يعنوا بزخرفة المنشآت والصروح، ولاسيما المساجد، معتبرين هذا الزخرف من الأمور المكروهة من الناحية الدينية، وكان كل ما يراعى في هذه الصروح هو البساطة والمتانة. بيد أنه لما استحالت الخلافة الدينية من بعد عبد المؤمن إلى ملك باذخ، وبلاط يمتاز بالفخامة والروعة، بدأ زخرف الصروح الموحدية وتجميلها بوفرة وسخاء، فكان منبر جامع إشبيلية المرصع بصفائح الذهب والفضة، وكان تزويد صومعته التي أنشئت فيما بعد بتفافيحها الذهبية الثقيلة (¬1). وسنرى فيما بعد، كيف أنشئت منارة هذا الجامع، وهي المنارة الشهيرة التي ما زالت قائمة حتى عصرنا في مدينة إشبيلية، بعد أن حول جزؤها الأعلى إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية العظمى. - 3 - ذكرنا فيما تقدم أنه لما وفد هلال بن مردنيش وأكابر الشرق وقادته على إشبيلية في مستهل رمضان سنة 567 هـ، ليقدموا خضوعهم وطاعتهم للخليفة أبي يعقوب، اقترح قادة الشرق، وفي مقدمتهم شيخهم أبو عثمان سعيد بن عيسى، على الخليفة أن يقوم بغزو أراضي النصارى من جهة بلادهم، وعينوا له بالذات مدينة وبذة هدفاً لهذا الغزو، وذلك لضعف تحصيناتها وأسوارها، ولأنها حسبما ينقل إلينا ابن صاحب الصلاة " حديثة البنيان قريبة الإسكان " (¬2) أو بعبارة أخرى لم يتأثل عمرانها، ولا أهباتها الدفاعية، وأن الخليفة وعدهم في نفس هذا المجلس بتحقيق رغبتهم متى انتهى شهر الصوم (¬3). وإنه ليبدو لنا من ذلك أن الخليفة حينما عبر إلى الأندلس بقصد الغزو والجهاد لم يكن لديه مشروع معين لهذا الغزو، ومن ثم كان قبوله لاقتراح قادة الشرق. وعلى أي حال، فقد اتخذ الخليفة أهبته لتلك الغزوة، وخرج في قواته من إشبيلية في فجر يوم الاثنين الحادي عشر من شوال سنة 567 هـ (6 يونيه سنة 1172 م)، فوصل إلى قرطبة في السابع عشر منه، وأقام محلته في جبل ¬_______ (¬1) وقد أبدى العلامة جولدسيهر مثل هذه الملاحظة في بحثه Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung (Z. der Morgeni. Geselsch. 1887; p. 105) (¬2) المن بالإمامة لوحة 166 أ. (¬3) المن بالإمامة لوحة 166 أ.

فحص السرادق المطل على براح أرض مدينة الزاهرة القديمة، وفي اليوم التالي دخل قصر قرطبة القديم، وأقام به بضعة أيام. ثم غادر قرطبة في ظهر اليوم الخامس والعشرين من شوال، وسار في قواته صوب مدينة القصر (¬1)، فأندوجر ثم اتجه نحو الشرق حتى صار على مقربة من بياسة، وهنالك لحق به إبراهيم ابن همشك، وكان على حصار حصن بلج (¬2) القريب من بياسه، وكان من أعظم وأمنع حصون هذه المنطقة. وكان هذا الحصن من أملاك ابن همشك، فلما وقع الخلاف بينه وبين صهره ابن مردنيش، من جراء انضوائه تحت لواء الموحدين، استولى ابن مردنيش على هذا الحصن، ووضع به حامية من جنده المرتزقة النصارى، وكان ابن همشك يحاصره بقواته حينما قدم الخليفة في جيشه الضخم، فاقترح عليه ابن همشك أن يسير في الحال إلى الحصن لحصاره والاستيلاء عليه، فاستجاب الخليفة إلى دعوته، وسارت القوات الموحدية صوب الحصن، ونزلت في ظاهره، وعاين الموحدون ضخامته ومنعته، وروعت حاميته النصرانية بما شهدت من كثرة الجيوش الموحدية، فاستدعوا ابن همشك ورجوه أن يتوسط لهم لدى الخليفة ليمنحهم الأمان مقابل تسليم الحصن، فقام ابن همشك بتحقيق رغبتهم ووافق الخليفة، ورأى في تسليم الحصن فاتحة النجح والنصر، وتم تسليم الحصن في يوم السبت 30 شوال، وركب الخليفة إلى الحصن، وراقته ضخامته ومنعته، ورتب به حامية موحدية، وصرف أمره إلى ابن همشك. وفي اليوم الثاني من شهر ذي القعدة سار الخليفة في قواته شمالا نحو حصن الكَرَس (¬3) وكان ابن مردنيش قد فعل به ما فعل بحصن بلج، وسلمه إلى حامية من النصارى. وكان هذا الحصن يقع فوق ربوة عالية يحيط بها الماء والبسائط الخضراء، فلما اقترب منه الموحدون، عرض النصارى تسليمه بالأمان، على نحو ما تم بحصن بلج، فأجيبوا إلى مطلبهم، ونزلوا عن الحصن، وذلك في اليوم السادس من ذي القعدة، وصرف أمره كذلك إلى ابن همشك. ويصف لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان من مرافقي هذه الحملة الموحدية (¬4)، سير الحملة وتنقلاتها بإفاضة، ويقول لنا إنه بعد الاستيلاء على هذين الحصنين، سار ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Alcocer. (¬2) وهو بالإسبانية Vilches. (¬3) وهو بالإسبانية Alcaraz. (¬4) وهو يذكر لنا ذلك في أكثر من موطن، " المن بالإمامة " لوحة 177 أ، 178 ب.

الخليفة في قواته إلى الموضع المعروف ببلاط الصوف (¬1) وهو المتصل بفحص جنجاله، وقد كانت يومئذ مدينة الحدود بين الأندلس وبين قشتالة، ثم تقدم منه إلى الموضع المعروف بالغُدُر قرب منابع نهر وادي يانه، ونزل في سهل بلاط الصوف وقضى فيه يوماً تزود فيه العسكر والناس بالماء. ثم غادره إلى مرج البسيط، وأقام فيه يوماً آخر، وسار منه إلى مقربة من وادي شُقر، حيث ارتوى الناس والدواب من ماء النهر، وقضوا فيه يومهم للراحة. وفي يوم الخميس الثاني عشر من ذي القعدة، أمر الخليفة أخاه السيد أبا سعيد، أن يسير من وادي شُقر في عسكر ضخم من الموحدين والعرب، يبلغ نحو اثنى عشر ألف فارس، ومعهم قوة من الرّجالة والرماة، إلى أراضي قشتالة، صوب مدينة وبذة (¬2)، فسار السيد أبو سعيد في هذا الجيش ومعه أبو العلاء بن عزون " قاضى الدولة المهدية " في جنده، وإبراهيم بن همشك في جنده، فوصلوا في صباح اليوم التالي إلى أول بلاد قشتالة بموضع يسمى " برج جمل " وفيه حصن يحتله النصارى، فافتتحوه في الحال، وأفنوا حاميته قتلا وسبياً، وهدموه. وفي اليوم التالي - السبت - وصلوا إلى مدينة وبذة، والظاهر أن النصارى كانوا على أهبة لرد المغيرين، فما كاد الموحدون يصلون إلى ظاهر المدينة، حتى خرج إليهم القشتاليون. ونشبت بين الفريقين معركة تمهيدية، ظهر فيها تخاذل من بعض الجند العرب، فقتلوا، وأسفرت المعركة حسبما يقول لنا ابن صاحب الصلاة عن " ظهور الإسلام ". وعلى أثر ذلك نزل السيد أبو سعيد بعسكره فوق التل المطل على المدينة (¬3). وفي خلال ذلك وصل الخليفة في قواته إلى وبذة في اليوم السابع عشر من ذي القعدة، وأمر الموحدين والعرب من سائر القبائل بالتأهب للحرب، فانحاز كل عسكر إلى قبيله، واجتمع تحت رايته، وأمر الجميع بالسير، والصعود إلى التل الذي نزل به السيد أبو سعيد بجنده، ليتم اجتماع القوات المحاربة، فصعد الجند على الترتيب المذكور، وصعد بعدهم الخليفة في كتيبته، ومعه أبناء الجماعة، وأبناء أهل خمسين وأهل الدار والعبيد، وخلفه السيد أبو حفص وباقي الإخوة، ومن ورائهم الرايات والطبول وعددها مائة، وفي الحال بدأ الهجوم تحت قرع الطبول وصيحات التكبير، بين الموحدين والقشتاليين، واستولى الموحدون على ¬_______ (¬1) وهو بالإسبانية Balazete (¬2) وبذة هي بالإسبانية Huete. (¬3) تراجع مواقع غزوة وبذة في الخريطة المنشورة في ص 49.

ما كان لصق السور من مداخل أرباض المدينة، وأحرقت الدور وهدمت، وارتد القشتاليون إلى الداخل، ونزل الموحدون بخيولهم في الجنات والكروم المتصلة بالمدينة، وقطعوا عنها ماء الوادي. وفي مساء نفس اليوم طاف السيد أبو حفص ومعه الإخوة والأشياخ والزعماء، وقوة كبيرة من الموحدين بجوانب المدينة الأربعة، وقسم جهاتها على الجند، يختص كل عسكر بجهة ويقوده سيد من الإخوة، ويختص العرب بجمعهم منها بجهة. وكان النصارى في أثناء ذلك قد حفروا على عجل خندقاً خارج المدينة، ووضعوا له زرباً من الخشب، وذلك ليعوقوا اقتحام الموحدين للمدينة. وفي صباح اليوم التالي خرج الخليفة راكباً فرسه، ومن حوله الكتائب الجرارة، وقد اتخذت أهبتها للقتال، وقرعت الطبول، وخفقت الرايات، وإلى جانبه أخوه السيد أبو حفص وأشياخ الموحدين، ولما وصل إلى مقربة من الخندق، نزل فوق ربوة تشرف عليه، واستدعى إلى قبته الفقهاء والقضاة المرافقين للحملة، وهم الحافظ أبو بكر بن الجد، والفقيه أبو محمد المالقي، والقاضي أبو موسى عيسى بن عمران، والقاضي أبو الوليد ابن رشد وأقبل الإخوة والأشياخ، وبايعه الجميع على الثبات على الجهاد، وكانت العساكر قد احتل كل فريق مكانه المعين، وقسمت السهام على الرماة، وأعدت سائر الآلات، ثم قرعت الطبول إيذاناً ببدء القتال، فهجم الموحدون على القشتاليين واضطرمت بين الفريقين معركة عنيفة، فارتد القشتاليون حتى لصق السور وإلى داخل البيوت، وامتنع معظمهم بالقصبة، ولم يثبتوا إلا في الجهة الغربية، حيث عجز أبو العلاء بن عزون وقواته عن ردهم. فحاول أن يستنجد بالخليفة ليمده، فأعرض عنه لاشتغاله في قبته بالمناقشة مع الطلبة. وهدم الموحدون كنيسة المدينة، وانتزعوا نواقيسها، وقتل من تصدى من النصارى لاستردادها. ويقول ابن صاحب الصلاة " ودام القتال على انحلال وضعف وملال إلى بعد أذان الظهر، وارتفع، وما نفع الجيش الكثير عديده، ولا الجمع، إذ كان في نحو ماية ألف بين فارس وراجل، وانصرف أمير المؤمنين، وانصرف الناس إلى أخبيتهم، وقد همهم الحال " (¬1). وهكذا فشل هجوم الموحدين الأول على وبذة، وبالرغم مما يبدو من مبالغة ابن صاحب الصلاة في تقدير عدد الجيش المهاجم، فإنه كان بلا ريب جيشاً وافر ¬_______ (¬1) المن بالإمامة لوحة 178 أ.

العدد، وقد كان من جراء هذا الفشل، أن اتجه الخليفة إلى حصار المدينة. وفي اليوم التالي اجتمع الأشياخ والقواد، وأمر الخليفة أن يخرج ربع الناس من جميع العساكر لزرع الغلات والعلوفات وتحصيل الأقوات، استعداداً لحصار المدينة، فخرج الناس لذلك، وطوق الموحدون المدينة، ومنعوا عنها ماء الوادي، وأمر الخليفة بصنع السلالم والأبراج الخشبية لمقاتلة النصارى في جوانب المدينة. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة إن رسولا من النصارى جاء في ذلك اليوم يعرض تسليم المدينة بالأمان، فلم يلتفت إليه، فكرر مسعاه في مساء نفس اليوم، فصرف بغير طائل. وفي صبيحة يوم الجمعة العشرين من ذي القعدة (14 يوليه) هبت ريح صيفية عاصفة، فأوقعت الاضطراب بمعسكر الموحدين، واقتلعت الأخبية، وفاضت الغدور، وقضى الموحدون ليلتهم في التحوط ضد عصف الريح. وفي صباح اليوم التالي قدم الشيخ أبوحفص عمر بن يحيى من مرسية في جند أهل الشرق، ومعه أبو الحجاج يوسف بن مردنيش وأهل بلنسية والثغر، فخرج إليه الخليفة وسائر الإخوة والأشياخ والزعماء والطلبة، واستقبل استقبالا حافلا. ثم نزل جند الشرق بالجبل المجاور لوبذة ليعاونوا في تشديد الحصار، وشهد القشتاليون من مدينتهم مقدم هذا الجيش الجديد في توجس وفزع. وفي مساء نفس اليوم، هبت ريح عاصفة أخرى أشد من السابقة، فاقتلعت خيام الموحدين، ومزقتها، ثم تلاها مطر وابل ورعد قاصف وبرق. وكانت فرصة طيبة للنصارى أن ارتووا من مياه الأمطار. ويلاحظ ابن صاحب الصلاة أن هذه الرياح قد عصفت، والأمطار قد هطلت " في أشد ما يكون من الحر " في شهر يونيه العجمى (وصحته يوليه). وفي صباح اليوم التالي - الاثنين الثالث والعشرين من ذي القعدة - هاجم الموحدون القشتاليين على الأسوار، ولكنهم ما كادوا يبدأون القتال، حتى أظلمت السماء، وقصف الرعد والبرق، وهطل المطر غزيراً كالسيل، فأغرقت ثياب الموحدين وعجزوا عن القتال، وفزع الناس من تكرر هذه الظاهرة، واعتبروها سخطاً من الله، ورغبوا في التوبة إليه، وارتد الخليفة والناس، وقد اكتسحت السيول الهضبة، وعند الظهر أشرقت السماء، وارتفع المطر، فعاد الموحدون إلى القتال وفق ترتيبهم السابق، ودام القتال حتى المساء، ولكن دون جدوى. وفي ليلة الأربعاء، قام القشتاليون بهجوم مفاجىء من القطاع الذي يحتله جند هسكورة، ففروا منه منهزمين، فلما علم الخليفة في الصباح، أمر بضربهم

بالسباط عقاباً لهم. وفي صباح يوم الخميس، أمرت الفرق المختلفة، أن يخرج من كل ثلثها للبحث عن الأقوات والعلوفات، واجتمع أولئك الجند تحت إمرة الحافظ أبي محمد عبد الله بن أبي تفريجين، وإبراهيم بن همشك، ولكن هذه الحملة فشلت في مهمتها، فلم تجمع شيئاً من المؤن والعلف، فارتفعت الأسعار في المعسكر الموحدي، وكاد أن ينعدم فيه القوت. هذه الأحداث المكدرة المثبطة للهمم، حملت الشيخ أبا محمد عبد الواحد ابن عمر، أن يدعو الناس، وأن يخطب فيهم، تارة بالعربية، وأخرى بالبربرية، يعظهم، ويستنهض هممهم للجهاد، وكان مما قاله لهم: " قد كنتم بمراكش تقولون لو كنا غزونا النصارى لجاهدنا لله واجتهدنا، فلما حضرتم معهم، قصرتم وجبنتم وحنثتم الله عز وجل، ونكلتم وما نصحتم، ما أنتم بمؤمنين ولا موحدين، أن تسمعوا النواقيس تضرب، وتعاينوا الكفر، ولا تدفعوا المنكر. إن أمير المؤمنين ليس يقدر أن يراكم لتفريطكم في حق الله تعالى من الجهاد على كثرتكم من الأعداء " (¬1). وبذلت عندئذ محاولة يائسة لحمل القشتاليين على التسليم بالأمان، فوُجه عبد الرحمن بن أبي مروان بن سعيد الغرناطى، إلى قائد وبذة وهو ولد الكونت مانريكى دى لارا (¬2)، يقول له إنهم على استعداد لتحقيق رغبته في تسليم المدينة بالأمان، وكرر هذا المسعى مرتين في نفس اليوم، فرفض قائد القشتاليين هذا العرض بجفاء، لما رآه من اختلال أحوال الموحدين، ولما علمه من استعداد ألفونسو الثامن لإنجاده بحشوده. ولما وقف الخليفة على ذلك استدعى سائر الأشياخ من الموحدين والعرب إلى خيمته - القبة الحمراء - للبحث فيما يجب عمله، وفي نفس الليلة - ليلة الأحد التاسع والعشرين من ذي القعدة - أمر بحرق البرج المصنوع لقتال النصارى وسائر الآلات التي صنعت معه، وبأن يقوم مقدم الدواب بشحن النواقيس التي أخذت من الكنيسة من وبذة. وفي الصباح ضرب الطبل الكبير إيذاناً للناس بالرحيل، فساد الاضطراب والهرج في المعسكر الموحدي، فلما رأى القشتاليون ذلك، وأيقنوا أن الموحدين قد بدأوا في الانسحاب، خرجوا في قواتهم من الفرسان والرجالة، ونزلوا إلى الوادي، وهاجموا الموحدين وأشعلوا النار في البيوت والخيام، ووصلوا إلى السوق بقرب المحلة، وقتلوا ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 180 أ. (¬2) ويسميه ابن صاحب الصلاة "ولد مرنو".

الضعفاء والمرضى، ونشب القتال بين الجيش المنسحب وبين النصارى، وأمر الخليفة أن يتوقف سائر الجند حتى ترفع الأخبية، فلما رفعت وقفت قوة ترد المهاجمين حتى يتم الانسحاب، وتحرك الجيش المنسحب على قرع الطبول، يتقدمه الخليفة، والسيد أبو حفص في أهل تينملل، وأشياخ الموحدين مع قبائلهم، وزعماء الأندلس مع أصحابهم، والعرب مع قبائلهم، والنصارى خلال ذلك يهاجمون الجيش المنسحب، وقد احتشدت في المؤخرة قوة كبيرة لردهم بقيادة السادة الإخوة، ومعهم يوسف بن مردنيش وإبراهيم بن همشك وأبو العلاء بن عزون في عسكر الأندلس. وسار الجيش المنسحب متجهاً نحو كونكة (قونقة) ونزل في فحص به الماء على قيد بضعة أميال من وبذة ولحقت به قوة المؤخرة في المساء، بعد أن ردت النصارى وقتلت منهم نحو ستين. واستمر الجيش المنسحب في سيره، وهو يحصد الزروع، ويجمع الغلات في طريقه، حتى وصل إلى كونكة بعد يومين، في يوم الثلاثاء أول ذي الحجة. وفي عصر ذلك اليوم ركب الخليفة ومعه إخوته السادة، ووزيره ابن جامع، والفقهاء والقضاة، وسائر الأشياخ من الموحدين والعرب، ودخل المدينة، وكان يرافق هذا الموكب عبد الملك بن صاحب الصلاة راوية هذه الحوادث، وهو يصف لنا قصبة كونكة، ومنعتها، وعلوها الشاهق، وكيف يصل إليها الماء من بحيرة عظيمة تقع خارج السور، وعلى قنطرة عظيمة في جانبها، وكان إلى جانب المدينة من جهة الجوف خندق عميق قد حفر في الحجر الصلد، وفيه أدراج حفرت تحت الأرض، ينزل منها إلى الوادي لشرب الماء، وتحريك الرحى التي على الوادي، وقد غطى بستارة منيعة عليها برج عظيم من بناء الأوائل، وفي فحص المدينة تقوم الكروم وأشجار الجوز والمراعي الخضراء. ولما دخل الخليفة مدينة كونكة، وقصبتها استقبله أهلها كباراً وصغاراً، وكانوا في حالة يرثى لها من الضعف والهزال، وكان النصارى قد حاصروا مدينتهم قبل ذلك ببضعة أشهر، وبرّح بهم الضيق والحرمان، ولم يتركهم النصارى إلا حينما علموا باقتراب الموحدين، فلما سلموا على الخليفة سألهم عن أحوالهم، ووعدهم بجميل رعايته، وأمر بأن تكتب أسماء سائر أهل المدينة من الرجال والنساء والأطفال، فكان عددهم جميعاً سبعمائة، فأمر للفارس منهم باثنى عشر مثقالا، وللراجل ثمانية مثاقيل، وللمرأة أربعة وللطفل أربعة، وأعطاهم سبعين

بقرة لم يكن في محلته سواها، وزودهم بكثير من الرماح والقسي والسهام، والسلاح، وأمر بأن يمدهم سائر الجند بالقمح والشعير صدقة لهم، وتنافس الأكابر والأشياخ في تزويدهم بمختلف الأعطية والصلات. وفي اليوم التالي أمر الخليفة بحصد الزروع، التي للنصارى في تلك المنطقة وسوقها، ولكنهم التقوا بعدد كبير من النصارى على مقربة من قونقة، وسرت الإشاعة بأنهم طلائع جيش ألفونسو الثامن والكونت نونيو دي لارا، فلما علم الخليفة بذلك، أمر بالإقلاع فوراً من ذلك الموضع، والسير إلى وادي شُقر، وأمر الناس بالرحيل، فكان هرج شديد مقرون بالفزع كذلك الذي حدث يوم الإقلاع من وبذة، وعبر الجيش الموحدي نهر شُقر، ونزل بالجبل المتصل بمدينة قونقة لحصانته، وسرعان ما وصلت قوات النصارى، وعسكرت في في جبل تونيس، في الناحية المقابلة من النهر، وصار كل من الجيشين تجاه الآخر دون أن تتاح لأحدهما فرصة الاشتباك، وقضى الموحدون ليلتهم على حذر، وفي صباح اليوم التالي، عقد الخليفة مؤتمراً من الأشياخ واستقر الرأي على أن يقاتل الموحدون النصارى في الغد. ولكن العرب اعترضوا " وجبنوا عن اللقاء " واحتجوا بضيق ساحة القتال. وانضم أهل الأندلس بقيادة أبي العلاء ابن عزون للموحدين في نية القتال، وفي الغد خرجت قوة منازلة بقيادة أبي العلاء واشتبكت مع النصارى في عدة مناوشات لتختبر قوتهم. وفي اليوم التالي تأهب الموحدون لخوض المعركة، وخرج أبو العلاء في بعض قواته ليستطلع أمر العدو، ولكنه عاد مع جنده، وأعلن أن النصارى أقلعوا عن محلتهم منصرفين إلى بلادهم. فعندئذ أمر الخليفة باستئناف الرحيل، وسار الجيش الموحدي حتى وصل إلى جبل " الصومعة " Alminar على بعد عشرة أميال من قونقة، وقضى به الليل، وفي اليوم التالي استأنف سيره حتى وصل إلى وادي تامطة، وقد ظهر الإعياء على الناس، وقلت الأقوات، وارتفعت الأسعار، ثم وصل إلى وادي برج قُبالة في طريق مدينة بلنسية، وقد نفق كثير من الدواب، وبرح الجوع بالناس، ومات الكثير منهم. وفي اليوم التاسع من ذي الحجة عبر الموحدون الربوة العالية المسماة بعقبة الأبالس، ووصلوا بعد جهد شاق إلى قنطرة " أغربالة " (¬1) وقد اشتد الإعياء بالناس من الضعف والجوع، ونفق كثير من الخيل والبغال والجمال. ¬_______ (¬1) وبالإسبانية Puente del Cabriel

وفي ظهر ذلك اليوم، أمر الخليفة بإخراج البركة لسائر العساكر على قدر تمييزهم، فخص الفارس الكامل خمسة مثاقيل، وخص الراجل الكامل مثقالين، وذلك ابتداء من حركة الغزو لسنة سابقة. وفي صبيحة اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الأضحى، أمر الخليفة بصلاة العيد في ذلك الموضع، وألقى خطبة العيد أبو زيد بن عبدون قاضي تلمسان، وعقب الصلاة، سلم الإخوة والأشياخ والأكابر على الخليفة، ووزعت عليهم الأضاحى، وعند الظهر استؤنف السير مدى خمسة عشر ميلا، ونزل الموحدون بمرج القبذاق على مقربة من حصن ركّانة، ووصلوا في اليوم التالي إلى ركّانة، وقد اشتدت المجاعة بين الناس. وينوه ابن صاحب الصلاة خلال وصفه المستفيض لتلك الرحلة المضنية، في غير موضع، بما كان يعانيه الجيش المنسحب من نقص في المؤن، وغلاء شديد في أسعار القمح والشعير والدقيق. وعند مغادرة ركّانة أخطأ الأدلاء الطريق، وافترقت العساكر في شعب الجبال، واشتد بالناس الجوع والألم والضعف. وسار الخليفة إلى موضع يعرف " بمجمع الأودية " وهو الذي يلتقى فيه نهر شقر ونهر أغربالة (كبريل) ولحق به سائر الناس إلى هذا الموضع. ثم استؤنف السير في اليوم التالي، ونزل الخليفة قريباً من حصن بيتول، وهو من حصون بلنسية الأمامية. وهنا صدر الأمر بتسريح الحشود من أهل الشرق وجميع بلاد الأندلس إلى أوطانهم وسارت إلى بلنسية منهم جموع كبيرة (¬1). ووصلت إلى الخليفة في هذا اليوم دفعة كبيرة من الدقيق والشعير والفواكه بعث بها إليه والي بلنسية يوسف بن مردنيش. هذا بينما هرع الناس إلى حصن بنيول يطلبون القوت والعون. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وقد كان منهم، أنهم لم يجدوا شيئاً سوى بعض التين الأخضر، فقصدوا إلى بلنسية. ويصف ابن صاحب الصلاة بهذه المناسبة، مدينة بلنسية وجمالها ونضرة رياضها، بيد أنه يلاحظ أن الضعف كان بادياً عليها، وأن الخوف من الفتنة كان يزداد. وقضى الخليفة في محلته ثلاثة أيام بقرب حصن بنيول، ثم غادره في قواته فوصل إلى مدينة شاطبة في السابع عشر من ذي الحجة، وقضى بقصبتها يومين، وانتهز أشياخ الموحدين هذه الفرصة، فوعظوا أهل المدينة بالجامع عقب صلاة الجمعة، وبشروهم بالخير في ظل العهد الجديد. ¬_______ (¬1) تراجع مواقع غزوة وبذة وارتداد الجيش الموحدي في الخريطة المنشورة ص 49.

وغادر الخليفة بعد ذلك شاطبة، ونزل بحصن بليانة (¬1) على مقربة منها، ثم سار إلى حصن آصف، ثم إلى ألش، ووصل إلى أوريولة في الثالث والعشرين من ذي الحجة، وغادرها في اليوم التالي، قاصداً إلى مرسية، فنزل أولا بحصن أنوط (¬2) على مقربة منها، ثم سار منه إلى المدينة، فخرج أهل مرسية لاستقباله، ودخل المدينة والأعلام تخفق والطبول تضرب، ونزل بقصرها، وقد احتشد أهل المدينة رجالا ونساء خاصتهم وعامتهم، لتحية الخليفة، والإعراب عن سرورهم بمقدمه، وكان الخليفة قد طلب إلى هلال بن مردنيش أن يعد الدور اللازمة لنزول الموحدين، فقام بتحقيق هذه الرغبة، وأنزل أشياخ الموحدين أكرم منزل، وقدم هلال إلى الخليفة ما وسع من الهدايا السنية، وما كان لدى أبيه من الجواري والسراري البارعات في الحسن، فتقبل الخليفة هديته، وأثابه عنها بالعطايا الجزيلة. ولم تمض أيام قلائل حتى ضاقت مرسية، بمن نزل فيها، ووفد إليها، من الموحدين وغيرهم، وارتفعت الأسعار، وعم الغلاء، ورغب كثير من الموحدين والعسكر المرتزقة في الرجوع إلى أوطانهم، فأذن لهم الخليفة، وارتحل كثير منهم. ولما دخل شهر صفر سنة 568 هـ، صدر الأمر بخروج البركة لجميع الموحدين والعساكر المرتزقة، الذين اشتركوا في هذه الغزوة، فخص الفارس الكامل خمسة مثاقيل، وغيره أربعة مثاقيل، وخص الراجل مثقالين، وغيره مثقال ونصف، وتسلم كل شيخ بركة قبيلته، وافترق معظم الناس. وانتهز الخليفة هذه الفرصة لينظم شئون مملكة الشرق القديمة، فأمر بإصلاح معاقل مرسية، وتحصيناتها، وندب مختلف الولاة لجهاتها وحصونها، وجمع هلال بن مردنيش وإخوته وعمهم أبا الحجاج يوسف في مجلسه، وأبدى لهم منتهى العطف والرعاية، وأنهم يكونون من جملة الموحدين والأهل، وأمرهم بالنظر في الارتحال معه، وأقر أبا الحجاج يوسف بن مردنيش على ولاية بلنسية وأقطارها، لما ثبت له من حسن إخلاصه وطاعته، وكذلك أبقى ابن عيسى القائد على ما كان بيده من حصن جنجاله وأراضيه، وأبقى غيره من قادة الحصون والثغور ممن ثبت إخلاصهم وصلاحهم. وفي أول شهر ربيع الأول غادر الخليفة مرسية عائداً إلى إشبيلية، وعرج ¬_______ (¬1) هو بالإسبانية Villena. (¬2) هو بالإسبانية Monetagudo، وقد بقيت أطلاله إلى اليوم.

في طريقه على مدينة غرناطة، وترك بها أخاه السيد أبا سعيد والياً لها، ووصل إلى إشبيلية في الثامن عشر من ربيع الأول سنة 568 هـ (نوفمبر 1172 م). ومعه الإخوة وفي مقدمتهم السيد أبو حفص، وخاصته من أشياخ الموحدين وأكابر الدولة، فاستقبله أهل إشبيلية وعلى رأسهم الحافظ أبو بكر بن الجد، استقبالا حافلا، وقدم معه بنو مردنيش في الأهل والولد، وفقاً لما أمر، وأنزلوا في قصر ابن عباد، والدور المتصلة به، واشترى لهم الخليفة ما لزم لسكناهم وسكنى أتباعهم من الدور، وعين منهم غانم بن مردنيش لرياسة جماعة من الجند الأندلسيين، وأصحاب أبيه وأهل الثغور والأجناد بإشبيلية، لتكون منهم قوة تضطلع بالغزو وحماية الأقطار من العدو وعيث البدو، ونظم هلالا والكبار من إخوته في جملة أشياخ الموحدين وأبناء الجماعة، يحضرون مجلسه العالي، ويشتركون في مباشرة الأمور، وإبداء الرأي تقريباً لهم وتشريفاً وتأنيساً، وكان غانم يخرج في قواته مع الموحدين إلى غزو أراضي قشتالة، وقد ظهر فيما بعد بشجاعته وكفايته. وكان مثلا طيباً للغزاة من الأجناد والعرب. ... والآن وقد انتهينا من استعراض مراحل هذه الغزوة الأندلسية الأولى للخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن واستوعبنا تفاصيلها، وفقاً لرواية مؤرخها المرافق لها، والتي سجلها منذ بدايتها إلى نهايتها، يوماً بعد يوم، نحاول أن نستخلص منها ما يمكن أن تدلي به من الحقائق والعبر. وأول ما تكشف عنه حوادث هذه الغزوة التي لم يطل أمدها أكثر من شهرين ما تجلى تحت أسوار مدينة وبذة من عجز الجيوش الموحدية وتفككها. ويبدو هذا العجز في أسطع صوره متى ذكرنا أن الجيش الموحدي الذي تصدى لحصار وبذة، كان يضم على الأقل عشرين ألفاً من الفرسان النظامية، منهم عشرة آلاف من الموحدين وعشرة آلاف من العرب، الذين عبروا مع الخليفة الموحدي إلى الأندلس حسبما أسلفنا في موضعه. وهذا غير المتطوعة وأجناد الأندلس، وهؤلاء يمكن تقديرهم أيضاً بعدة آلاف. فكيف يعجز هذا الجيش الكبير عن اقتحام مدينة صغيرة غير ممتنعة مثل وبذة، خصوصاً وقد كانت تضطلع بالدفاع عنها حامية محلية صغيرة من القشتاليين؟ إن مثل هذا العجز المطبق يكشف أولا وقبل كل شىء عن عجز القيادة الموحدية، ذلك أنه لم تكن بين أولئك الإخوة والأشياخ

الذين يلتفون حول الخليفة الموحدي، ويديرون دفة الغزوة، هيئة قيادة مقتدرة، بل لم يكن بينهم قادة أكفاء بالمعنى الصحيح، وكان مجلس القيادة يتخذ في معظم الأحيان صورة اجتماع عائلي، تغلب فيه الآراء الفطيرة، والقرارات المرتجلة، وبدلاً من أن نرى الخليفة يخرج من قبته ليقود جنده بنفسه، أو ليحثهم على التفاني في القتال، نراه في اللحظة الحرجة التي هزم فيها أهل الأندلس، وأجلوا عن مواقعهم، يجلس داخل قبته مع الطلبة الموحدين ليناقشهم في بعض المسائل الفقهية. ويجدر بنا ونحن نتحدث في هذا الموطن عن عجز القيادة الموحدية أن نعود قليلا إلى الوراء، لنذكر ما كانت عليه القيادة المرابطية في شبه الجزيرة من المقدرة والكفاية، وما كان يمتاز به القادة المرابطون من البراعة والدربة العسكرية العالية، وهي التي مكنتهم من أن يحرزوا بجيوشهم القليلة العدد، انتصاراتهم الباهرة في مواقع مثل إقليش وإفراغة. هذا ومن جهة أخرى فقد كشفت غزوة وبذة، عما كان يسود الجيوش الموحدية من التفكك، وانعدام التناسق بين مختلف العناصر التي تتكون منها. وقد كان العرب الذين يرافقون الجيش الموحدي يحملون أكبر قسط من تبعة هذا التفكك، فقد رأيناهم يضنون بتعاونهم، ويحجمون عن القتال في الساعات الحرجة، وكان هذا الإحجام من جانب العرب يشل حركة الجيش الموحدي، وينال من مقدرته وقواه المعنوية. أضف إلى ذلك ما كشفته هذه الحملة من سوء تنظيم تموين الجيش الموحدي، وما ترتب على ذلك من ندرة الأقوات والعلوفات، وما كان يصيب الجند من جراء ذلك من الضيق والحرمان وانهيار القوي المعنوية (¬1). - 4 - في الوقت الذي نزل فيه الخليفة أبو يعقوب يوسف بمرسية، ليستريح من وعثاء حملته المنكودة على وبذة، كانت تحدث في الجانب الآخر من شبه الجزيرة في غربي الأندلس، حوادث هامة، مؤسفة في نفس الوقت. وكان ملك البرتغال مذ فتت في عضده نكبته في معركة بطليوس في شعبان سنة 564 هـ (1169 م) قد لزم السكينة حيناً، وهو يرقب الحوادث والفرص، فلما غادرت الجيوش الموحدية قواعدها في إشبيلية في غزوتها إلى وبذة، شعر بأن الفرصة قد سنحت ¬_______ (¬1) تستغرق يوميات ابن صاحب الصلاة عن غزوة وبذة من كتاب " المن بالإمامة " نحو ستة عشرة صفحة كبيرة من لوحة 173 أإلى لوحة 189 ب.

للعمل، وكان يطمح بعد فشله في افتتاح بطليوس، إلى الاستيلاء على مدينة باجة الحصينة، أهم قواعد ولاية الغرب في تلك المنطقة، وكانت باجة، مذ أقيل عن ولايتها سيدراى بن وزير، وبسط الموحدون سيادتهم على قواعد ولاية الغرب، قد أسندت ولايتها إلى بعض الحفاظ الموحدين، فتولاها عمر بن تيمصلت التينمللي مدى حين، ولكنه لم يفلح في تهدئة ما ثار بها من الفتن بين أعيانها وبين الدهماء، فعزل عنها، وولى عليها طالب بربري من الحفاظ يسمى عمر بن سحنون، كان عاجزاً، يغلب عليه الطيش، فاتصل به الدهماء والسفلة، فقربهم وأدناهم، وأذكى بذلك حفيظة الخاصة، واشتد التقاطع بين الناس، واستوزر ابن سحنون أيضاً رجلا بدوياً من سفلة باجة، فاضطهد الناس، واجترأ على سفك الدماء، وأخذ أموال الناس بالباطل، وضربهم بالسياط، وعاونه في طغيانه وعسفه قاضي البلدة عمر بن زرقاج، وكان مغرضاً ظلوماً، واستبد ابن سحنون بأمره، وغلب رأي السفلة والفجار في كل شىء، وقتل بعض الأعيان والفقهاء ظلماً وعدواناً، واشتدت الفتنة بالمدينة، ووصلت أخبارها إلى إشبيلية. كانت هذه حال مدينة باجة في أواخر سنة 567 هـ (صيف سنة 1172 م) حينما كان الخليفة أبو يعقوب يوسف يسير في جيوشه إلى غزوة وبذة، ولم تكن هذه الأحوال بخافية على النصارى، وهم يحتلون يابرة وقصر أبي دانس القريبتين من باجة. وكان من الواضح أن مدينة هذه حالها لا يمكن أن تثبت أمام العدو المغير. ومن ثم فقد أعد ألفونسو هنريكيز عدته لافتتاح باجة، وسار إليها ومعه قائده ومعاونه جيرالدو سمبافور في قواته. وكان من سوء الطالع أن الحراسة بأبراج المدينة كانت مهملة، وكان بعض هذه الأبراج دون سمار (حراس) يلازمونها بالليل، لأن الوالي ابن سحنون كان يحبس رواتبهم ولا يدفعها، وكان برج القصبة المسمى " برج الحمام " قد ترك على هذا النحو دون سامر. ففي ليلة مستهل المحرم سنة 568 هـ (23 أغسطس سنة 1172 م) نفذ النصارى ضربتهم. وكانت ليلة مظلمة على النحو الذي كان يختاره جيرالدو سمبافور لإنزال ضرباته. فوصل النصارى إلى السور زحفاً على أيديهم وأرجلهم، ووضعوا السلالم على برج القصبة دون أن يشعر بهم أحد من السُّمَّار، ثم صاحوا صيحتهم المأثورة، وما كاد الوالي عمر بن سحنون وأهل المدينة يستيقظون من سباتهم حتى كان النصارى قد ملكوا برج القصبة، ثم احتلوا القصبة في الحال. وساد الذعر في المدينة،

وتدلى الوالي من السور وفر إلى ميرتلة، وما كاد يسفر الصبح حتى احتل النصارى المدينة، وأخذ الناس يفرون من أبوابها، وهم يُقتلون ويأسرون من كل جانب، وقتل وأسر جماعة من أعيانها، واستولى النصارى على مقادير عظيمة من المال والمتاع. ولكن النصارى لم يمكثوا طويلا بباجة. ذلك أن ملك البرتغال رأى من ضخامة المدينة ما يجعل الدفاع عنها مهمة شاقة، ومن ثم فقد هدم أسوارها، وأحرق ربوعها، ثم غادرها بعد أن احتلها نحو خمسة أشهر، وتركها قاعاً صفصفاً وذلك في أول يناير سنة 1173 م، وقد أخذ معه كثيراً من أهلها الأسرى. وقد أنقذ معظم هؤلاء فيما بعد بالفداء، وهاجر كثير منهم بعد خراب مدينتهم إلى مراكش (¬1). ولم يتحرك الموحدون لسقوط باجة على هذا النحو، وشغل الخليفة أبو يعقوب منذ وصوله إلى إشبيلية بالعمل على استكمال بناء المسجد الجامع، وكذلك باستكمال بناء القصور والبساتين التي بدىء بإنشائها خارج باب جهور حسبما تقدم في موضعه. وكذلك باستقبال وفود أهل إفريقية. بيد أنه لم يمض على ذلك أشهر قلائل، حتى اضطر الموحدون إلى خوض غمار حرب جديدة جاءت تلك المرة من ناحية قشتالة. ففي أوائل شهر شعبان سنة 568 هـ (مارس 1173 م) خرجت من مدينة آبلة حملة قشتالية بقيادة حاكمها الكونت خمينو، وهو الذي تعرفه الرواية الإسلامية بالقومس " سان منوس " وأحياناً بشانشوا وتصفه بالأحدب عظيم النصارى بآبلة - وقد كان بالفعل أحدباً - وتسميه أحياناً " بأبي بردعة " إذ كان لعاهته يركب على بردعة وثيرة من الحرير مسرجة بالذهب مرصعة بأصناف الجواهر (¬2). وكان الكونت خمينو قد قام قبل ذلك بعدة غارات مخربة في ربوع الأندلس، ووصل ¬_______ (¬1) نقلنا هذه الرواية المفصلة عن غزو البرتغاليين لباجة عن ابن عذارى (البيان المغرب - القسم الثالث ص 100 - 103). وقد سبق أن أشرنا في موضعه إلى الرواية الموجزة التي يقدمها إلينا ابن صاحب الصلاة عن ذلك الحادث وهو ينسب وقوعه إلى شهر ذي القعدة سنة 557 هـ (ديسمبر سنة 1162 م) أعني إلى ما قبل التاريخ الذي يقدمه إلينا ابن عذارى بعشرة أعوام. (كتاب المن بالإمامة لوحة 118 ب). ولم يذكر لنا صاحب البيان المغرب مصدره. ولكن يبدو من أسلوب روايته أنها ربما نقلت عن ابن صاحب الصلاة من السفر الثالث من كتابه وهو لم يصل إلينا. وفي هذه الحالة تكون رواية ابن صاحب الصلاة الأولى من قبيل اللبس والخلط. (¬2) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 190 ب، وروض القرطاس ص 139 والبيان المغرب القسم الثالث ص 98.

في بعض غاراته إلى طريف والجزيرة الخضراء، وأصاب المسلمين من عدوانه وعيثه بلاء كثير. فخرج بقواته من آبلة واخترق قلب الأندلس جنوباً، حتى عبر نهر الوادي الكبير، من المخاضة الواقعة بين حصن بلمة وحصن الجرف، وانحدر إلى أحواز إستجّة، ثم اتجه صوب قرطبة، وعاث في واديها، وخرب الزروع واستاق من الماشية نحو خمسين ألفاً ومن البقر نحو مائتين. وأسر من المسلمين نيفاً ومائة وخمسين رجلا، ثم سار بغنائمه وأسراه غرباً صوب مخاضة بليارش على مقربة من بلدة القصر. وكان الخليفة في تلك الأثناء قد أمر بالتأهب لمحاربة القشتاليين، وقمع غارتهم، فخرج من إشبيلية في الثالث عشر من شهر شعبان (568 هـ) جيش موحدي بقيادة السيد أبي زكريا يحيى ابن الخليفة، ومعه أخوه أبو إبراهيم إسماعيل، وعدة من الحفاظ والأشياخ وقوة مختارة من الفرسان والرجالة العرب بقيادة أشياخهم، وعبر هذا الجيش الموحدي نهر الوادي الكبير على عجل، وسار صوب قرطبة، فوصلها في السادس عشر من شعبان، وكان القشتاليون قد وصلوا عندئذ إلى بلدة القصر. واجتمع أقطاب الموحدين بالشيخ أبي حفص عمر، واستقر الرأي على مطاردة القشتاليين وقتالهم أينما كانوا، ولو في أراضي قشتالة ذاتها، وانضم الشيخ أبو حفص بقواته إلى الجيش الموحدي، واستعد بالميرة والعلوفات، وخرج الموحدون في أثر النصارى، تتقدمهم قوة من الطلائع بقيادة الحافظ أبي عمران موسى بن حمّو الصنهاجي صاحب يابرة، لتخبرهم تباعاً عن تحركات النصارى، وكان القشتاليون قد توقفوا في سهل متسع يعرف بفحص " كركوي " على مقربة من قلعة رباح. فأدرك الموحدون أنهم يريدون اللقاء في هذا المكان، فاستعدوا للمعركة في عزم وثقة، ولكنهم ما كادوا يقتربون من السهل، حتى عجل النصارى بالمسير، ولكنهم لما أيقنوا بأنه لا مفر من القتال، لجأوا إلى جبل وعر في نهاية السهل. فاندفع الموحدون وراءهم إلى أعلى الجبل، واشتبكوا معهم في معركة حامية. وكان الكونت خمينو، يراقب المعركة من خيمته في أعلى الجبل، ويحث جنوده على التفاني في القتال، ولكن ما كاد ينتصف النهار، حتى رجحت كفة الموحدين، ومزقت صفوف القشتاليين، وكثر القتل فيهم، ووصل الموحدون إلى خيمة الكونت خمينو، وقتلوه واحتزوا رأسه، ولم يفلت من القتل من النصارى سوى نحو مائتين، فروا في مختلف الأنحاء. وفني في هذه المعركة معظم أهل آبلة، واستولى المسلمون على عتاد

النصارى، وأسلابهم وخيولهم، واستنقذوا الأسرى المسلمين، واستردوا سائر الغنائم والماشية والدواب، وأعيدت بأمر الخليفة إلى أصحابها. وجمعت رؤوس النصارى، وحملت إلى الشيخ أبي حفص وابني الخليفة " وميزت " رأس الكونت خمينو، وأرسلت إلى الخليفة بإشبيلية، عن يد يحيى ابن الوزير أبي العلاء بن جامع فوصل إليها في ظرف يومين بعد رحلة مسرعة شاقة، ووصف للخليفة تفاصيل الموقعة المظفرة، وفي الحال قرعت الطبول إيذاناً بالنصر، وأقبل الناس للتهنئة. وفي يوم الجمعة الحادي والعشرين من شعبان، وهو ثالث يوم بعد الموقعة، وصل الشيخ أبو حفص وصحبه إلى إشبيلية، واجتمع بالخليفة وأخيه السيد أبي حفص، بقصره بالقصبة، واصطف الموحدون من الأشياخ والطلبة والفقهاء والكتاب والخطباء، وأدخل المهنئون وفق مراتبهم. وخطب الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن عمر أولاً باللغة البربرية، ثم بالعربية، وخطب من بعده الحافظ أبو بكر بن الجد، فالقاضى أبو موسى عيسى بن عمران، فالفقيه أبو محمد المالقي. ثم أنشد الشعراء تهانيهم ومدائحهم، ووزعت عليهم الصلات، وكان يوماً حافلا (¬1). وشجع هذا النصر الذي تلا فشل حملة وبذة الموحدين على الاضطلاع بغارات جديدة في أراضي النصارى. فجهزت حملة موحدية قوامها أربعة آلاف فارس، وقوة من أجناد الأندلس والعرب، بقيادة أبي يعقوب يوسف بن أبي عبد الله تيجيت وعبد الله بن إسحق بن جامع، ومعها مقادير عظيمة من الميرة والعتاد برسم مدينة بطليوس تحملها قافلة من ثلاثة آلاف دابة، وغادرت هذه الحملة إشبيلية، إلى بطليوس، وبعد أن سلمت أحمال الميرة إلى واليها أبي غالب بن أبي الحسين، سارت نحو الشمال الشرقي حتى وصلت إلى أحواز مدينة طلبيرة، الواقعة على نهر التاجُه غرب طليطلة، فعاثت في بسائطها، وقتلت وأسرت كثيراً من النصارى، واستولت على أكثر من ثلاثين ألفاً من الغنم والدواب، وعادت سالمة إلى إشبيلية. ثم خرجت من بعدها حملة أخرى، وسارت إلى أراضي طليطلة، وعاثت فيها واستولت على كثير من الغنائم. وأدرك النصارى أن موجة الغزو الموحدي قد تشتد، وقد تتخذ صورة مزعجة، فجنحوا إلى المسالمة، وطلب المهادنة. وكان أول من سعى منهم إلى الصلح، الكونت نونيو دي لارا حاكم طليطلة، ثم تلاه ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 191 إلى 194 ب، والبيان المغرب القسم الثالث ص 99.

ألفونسو الثامن ملك قشتالة، فبعث رسله إلى الخليفة، وحذا ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال حذو ملك قشتالة فبعث رسله في طلب المهادنة والصلح. واستمرت المفاوضات نحو شهرين، وانتهت بعقد الهدنة بين الخليفة وبين الملوك النصارى، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 568 هـ (يوليه سنة 1173 م). وكان مما حمل الخليفة على إيثار الصلح والمهادنة رغبته في التفرغ لأعمال الإنشاء، وتعمير البلاد التي خربت أو أقفرت من جراء العدوان والغزو، مثل باجة وغيرها (¬1). وكان من أثر عقد المهادنة بين الخليفة وبين ملك البرتغال، أن شعر حليفه وقائده السابق جيرالدو سمبافور أو جراندة الجليقي، أنه فقد مكانته، وأغلقت في وجهه فرص المغامرة، والعمل المثمر ضد الموحدين، ولم يجد أمامه خيراً من الدخول في خدمة الخليفة، فسار في صحبه، وهم ثلاثمائة وخمسون جندياً، إلى إشبيلية (سنة 568 هـ - 1174 م) والتمس قبوله " عبداً وخديماً " للخليفة، فقبل الخليفة التماسه، ووصله بالإحسان والإكرام، واستمر الأمر على ذلك بضعة أشهر، ولكن ألفونسو هنريكيز، الذي لم يرقه تصرف قائده السابق لبث يرسل إليه سراً، أن يتحيل في الارتداد والعود، فضبطت بعض هذه المراسلات وظهر منها موقف جيرالدو المريب، فقبض عليه وعلى أصحابه، وأرسلوا إلى سجلماسة، واعتقلوا هنالك تحت رقابة شديدة. ثم حاول جيرالدو الفرار من معتقله ليجوز إلى البحر، فقبض عليه، وقتل واحتز رأسه، وانتهى بذلك وفي رواية أخرى أن جيرالدو لبث في خدمة الخليفة حتى غادر الخليفة إشبيلية إلى المغرب في شعبان سنة 571 هـ (مارس 1176 م)، فسار في ركابه، وعينه الخليفة للخدمة في " السوس " وهنالك اتصل جيرالدو بالمكاتبة سراً بمليكه السابق، وعرض عليه أن يجهز أسطولا لفتح هذه الناحية، وبذلك تمتلك البرتغال بعض مراكز على ساحل المغرب، فضبط الموحدون بعض هذه الرسائل (¬2)، وأصدر الخليفة أوامره سراً إلى عامله بدرعة موسى بن عبد الصمد بأن يقسم جيرالدو ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 195 أوب. وهنا ينتهي السفر الثاني من كتاب المن بالإمامة، وهو الذي وصل إلينا من مؤلف ابن صاحب الصلاة، ولم يصلنا شىء من السفر الثالث الذي يبدأ بحوادث سنة 569 هـ. (¬2) أخبار المهدي بن تومرت ص 127، ويقول لنا البيذق إن مصرع جيرالدو كان في سنة 565 هـ، والبيان المغرب القسم الثالث ص 103. وراجع H. Miranda ; Imperio Almohade, T. I. p. 271.

وأصحابه على القبائل، ثم يقتل جيرالدو لما ثبت من خيانته، وبعث بجيرالدو إلى درعة فسار إليها مع أصحابه، وهنالك نفذت فيهم أوامر الخليفة. وكانت أهم الحوادث في العامين التاليين، قبيل عودة الخليفة إلى المغرب، تتلخص في اهتمام الخليفة بتعمير قواعد الغرب، وفي تجدد الحرب مع ملك ليون. وقد بدأ الخليفة أعمال التعمير، بإصلاح حصن القلعة الواقع على مقربة من جنوب شرقي إشبيلية على النهير المتفرع من الوادي الكبير (¬1)، وكان قديماً حصنها الشرقي، وقد تهدم منذ أيام الفتنة الكبرى، وبقى خراباً حتى ذلك الوقت، فأمر الخليفة بإصلاحه وبنائه ليعود إلى الاضطلاع بمهمته الدفاعية القديمة، وكان ذلك في صفر سنة 569 هـ. وفي العام التالي كانت حركة تعمير مدينة باجة، التي خربها وهدمها ألفونسو هنريكيز قبل إخلائها. ففي شهر ربيع الآخر سنة 570 هـ، استقبل الخليفة وفداً من أعيان أهل باجة السابقين، ووعدهم بتعمير مدينتهم لكي يعودوا إلى سكناها، ويسكنها معهم الموحدون، وعين لولايتهم الحافظ أبا بكر بن وزير، ثم سار أهل باجة إلى مدينتهم الخربة، وكانوا يومئذ نحو مائتي شخص من مختلف الأعمار، ونزلوا بقصبتها، وبنوا بابها، وأصلحوا ما تيسر من أطلالها. ثم لحق بهم عمر ابن تيمصلت والي شلب في نحو خمسمائة رجل من الفعلة والبنائين، ومعهم أقواتهم وأدواتهم، وأخذوا في بناء أسوارها فكملت في نحو شهر، وجاءت للعمل والبناء حشود أخرى، واستمر العمل في التعمير بهمة. وحدث خلال ذلك أن استبد والي باجة أبو بكر بن وزير وأساء السيرة، ونشب بينه وبين أهلها خلاف شديد وفتنة، فأمر الخليفة بعزله، وتعيين عمر بن تيمصلت والياً مكانه، فأحسن السيرة، وأقبل الناس على البناء والتعمير، وإنشاء الرباع والحدائق، وراجت الأحوال، وانتظم التعامل، واستعادت باجة سابق عمرانها ورونقها (¬2). وفي أثناء ذلك كانت الحرب قد نشبت بين الموحدين وبين فرناندو الثاني ملك ليون المسمى " بالببوج "، وكان فرناندو قد عقد الصلح والتحالف مع الخليفة الموحدي منذ سنة 564 هـ (1169 م)، وعاونه الموحدون في حربه ضد آل لارا زعماء قشتالة، وأبدى هو، حينما حاصر البرتغاليون مدينة بطليوس، وكادوا يستولون ¬_______ (¬1) وهو بالإسبانية Alcala de Guadaira ويسمى كذلك قلعة جابر. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 107.

عليها، صدق ولائه، فحارب إلى جانب الموحدين، وعاون على صد البرتغاليين وهزيمتهم. وامتنع عن مهاجمة بطليوس مرة أخرى، حينما نبهه الموحدون إلى الحلف المعقود، وأبدى تمسكه بعهوده، وهاداه الخليفة وأثنى عليه، واستمر محافظاً على صداقته وولائه حتى أواخر سنة 569 هـ (1174 م)، وعندئذ، ودون أية أسباب ظاهرة، قام فجأة بغزو أراضي الأندلس وعاث فيها، فاستشاط الخليفة غضباً، وأمر بمهاجمته في عقر داره، فجهزت حملة كبيرة من الموحدين والعرب، وخرجت من إشبيلية بقيادة السيد أبي حفص أخي الخليفة في الثالث من صفر سنة 570 هـ (3 سبتمبر 1174 م)، وسارت تواً إلى مدينة ردريجو قاعدة ملك ليون، وهي التي تسميها الرواية الإسلامية بمدينة " السبطاط " (¬1)، ومعه الزعيم القشتالي فرناندو ردريجيس صهر ملك ليون حليف الموحدين القديم في صحبه، وهاجم الموحدون مدينة ردريجو، فلم ينالوا منها مأرباً، ولكنهم استولوا على حصني القنطرة وناضوش من أماكن الحدود. ولما عاد السيد أبو حفص إلى إشبيلية، احتفل بهذا النصر الجزئي، وأنشد الشعراء قصائدهم كالعادة (¬2). ولزم فرناندو ملك ليون السكينة مدى حين. بيد أنها كانت هدنة قصيرة، وكانت كما سنرى مقدمة لسلسلة من الغزوات الجديدة، التي قام بها الملوك النصارى في أراضي المسلمين. ... وفي أوائل سنة 570 هـ، عقد الخليفة أبو يعقوب زواجه بالحسناء زائدة إبنة زعيم الشرق الراحل محمد بن سعد بن مردنيش، وتم زفافها إليه في اليوم الخامس من ربيع الأول في مهرجان فخم. وكان صداقها الرسمي خمسين ديناراً، ولكن الخليفة وجه إليها ألف دينار من الذهب العين " تأنيساً ". ولما وصلت إليه بإشبيلية مع أهلها وحشمها، وهب لها كل ما كان أهداه إليه إخوتها عند فتح مرسية. وكان زواجاً موفقاً، حظيت فيه العروس الأندلسية، واستأثرت بحب الخليفة وإعجابه، حتى كان يضرب المثل بهذا الحب للحسناء ذات العينين الزرقاويين. وحظى قومها آل مردنيش لدى الخليفة، وأحرزوا في كنفه رفيع ¬_______ (¬1) سبق أن أوضحنا أن مدينة السبطاط، هي تحريف لكلمة Cibdad القشتالية ومعناها المدينة. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 104.

المناصب والرتب، حسبما أشرنا إليه في موضعه. وكان من غرائب القدر أن يحظى عقب الثائر الذي شغل الموحدين ودوخ جيوشهم زهاء ربع قرن، على هذا النحو في بلاط عدوه القديم المتغلب عليه (¬1). وكانت إقامة الخليفة بالأندلس تدنو عندئذ من نهايتها، وقد استطالت هذه الإقامة زهاء خمسة أعوام، منذ مقدم الخليفة في رمضان سنة 566 هـ. ولم تدون الرواية في الأشهر الأخيرة من إقامته شيئاً من الحوادث، سوى ما أمر به من نكبة محمد بن عيسى المشرف على إشبيلية وذلك في شهر جمادى الآخرة من سنة 571 هـ، وكانت قد لحقت به ريب كثيرة من تبديد الأموال واختلاسها، فقبض عليه، وتولى بلول بن جلداس محاسبته، واستصفاء أمواله، ثم عذب وضرب حتى مات، وألقيت جثته في الوادي الكبير. ولم يمض على ذلك سوى أسبوعين أو ثلاثة، حتى اتخذت الأهبة لسفر الخليفة، وذلك بعد أن عقد لأخيه أبي على الحسين على ولاية إشبيلية، ولأخيه أبي الحسن على، على ولاية قرطبة. وغادر أبو يعقوب إشبيلية في ركبه في يوم الخميس الرابع عشر من شهر شعبان سنة 571 هـ (28 فراير سنة 1176 م) ومعه الخواص والأشياخ والعمال والكتاب، ومن زعماء الأندلس بنو مردنيش، وإبراهيم بن همشك وغيرهم. وكان خروجه من مرسى طلياطة على نهر الوادي الكبير، فجاز النهر ثم البحر إلى طنجة، وأقام بها أياماً، ثم غادرها إلى مراكش، فوصلها في منتصف شهر رمضان من نفس العام (28 مارس سنة 1176 م). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 108، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 271، وروض القرطاس ص 139. وكذلك: A. P. Ibars: Valencia Arabe, T. I. p. 552

الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب

الفصل الرابع أحداث الأندلس والمغرب عصف الوباء بالمغرب والأندلس. ثورة عشائر صنهاجة وإخمادها. غزو النصارى لمدينة قونقه وحصارها. غزو الموحدين لأراضي طليطلة وطلبيرة. استمرار النصارى في حصار قونقه. سقوطها في أيديهم. غزو ملك ليون لفحص إشبيلية. إغارة البرتغاليين على باجة وطريانة. خروج جند باجة للغزو وهزيمتهم. فرار أهل باجة وإخلاؤها. رواية أخرى عن غزوة البرتغاليين. نكبة الخليفة لبني جامع وغيرهم. وفاة بعض السادة والأعلام. غزو السفن الموحدية لثغر أشبونة، ورد السفن البرتغالية. غزوة ثانية للسفن الموحدية. نفاذ الموحدين إلى الداخل وهزيمتهم. معركة بحرية بين الموحدين والبرتغاليين. هزيمة البرتغاليين ومقتل قائدهم. غزو الموحدين لأراضي يابرة. غزو البرتغاليين لأراضي إشبيلية. غزوهم للشرف ومدينة شلوقه، وحصن القصر. غزو القشتاليين لأراضي قرطبة. توغلهم في وادي إشبيلية وجنوبي الأندلس. استيلاؤهم على حصن شنتفيلة. غزو الموحدين لحصن شنتفيلة وحصاره. صموده وإقلاعهم عنه. إخلاء النصارى له. غزو الموحدين لأحواز طلبيرة. اشتباكهم مع القشتاليين. هزيمة القشتاليين وفرارهم. القائد ابن وانودين والخليفة. وفاة السيد أبي حفص. ثورة بني الرند بقفصة. مسير الخليفة لقمع الثورة. تواطؤ ابن المنتصر مع بني الرند ونكبته. محاصرة قفصة وضربها. تسليم ابن الرند. حث الخليفة العرب على الجهاد. استجابة العرب لدعوته. سياسة الموحدين في اصطناع العرب. دأبهم في التقلب وعدم الولاء. عقد الصلح بين ملك صقلية والخليفة. رسالة الفتح. عود الخليفة إلى مراكش. مسير الخليفة إلى تينملل. زيارته لقبر المهدي وقبر أبيه. قصيدة في مناقب المهدي وصحة دعوته. توسيع مدينة مراكش. ثورة عرب سليم وهزيمتهم للسيد أبي الحسين وأسره. حوادث أخرى. لم تمض أسابيع قلائل على استقرار الخليفة أبي يعقوب بمراكش، حتى ظهر الوباء بالمدينة في أول شهر ذي القعدة (سنة 571 هـ) واشتد حتى بلغت ضحاياه كل يوم نحو مائتي شخص، ولما ضاق الجامع بالصلاة على الموتى، أمر الخليفة أن يُصلى عليهم بسائر المساجد. وأصيب معظم السادات بالوباء، ومات منهم أربعة من إخوة الخليفة هم السيد أبو عمران، ثم أخوه السيد أبو سعيد، فأخوهما السيد أبو عبد الله، ثم أخوهم السيد أبو زكريا والي بجاية. ومات من أشياخ الموحدين أبو سعيد بن الحسين، وكان الشيخ أبو حفص عمر الهنتاني قادماً من قرطبة قاصداً إلى مراكش، فأصيب بالوباء وتوفي بالطريق، ودفن برباط الفتح، وفقدت الدولة الموحدية بوفاته ركناً من أهم أركانها، وبناء من أعظم بناتها، وقائداً من

أعظم قوادها. ومرض الخليفة، وأخوه السيد أبو حفص، وأشرفا على الهلاك، ولكن تداركتهما العناية حتى شفيا. ويروى ابن صاحب الصلاة عن السيد أبي علي الحسين ولد الخليفة، أنه كان يموت كل يوم في القصور الملكية ثلاثون شخصاً حتى فني معظم رجال الحاشية والخدم والعبيد. واستمر هذا الوباء مدى أيام، وساد الروع حاضرة مراكش، حتى أنه لم يكن يدخلها أو يخرج منها أحد، وكان كل من خرج منها فاراً، أدركه الوباء في الطريق. ولم يكن عصف الوباء قاصراً على أهل المغرب، بل تعدى أثره إلى الأندلس، ولكن فيما يبدو بصورة مخففة. وكان من أعيان المتوفين به بالمغرب والأندلس غير من تقدم ذكرهم، القاضي أبو يوسف حجاج بن يوسف قاضي مراكش، وكان من أعلام عصره زهداً وعدلا وأدباً، والكاتب أبو الحكم بن هرودس المالقي، وأخوه أبو الحسن وكان من جلة الطلبة، والكاتب أبو الحسن على بن زيد الإشبيلى، ومشرف غرناطة أبو عمرو بن أفلح، وجملة كبيرة من أعيان الطلبة والموحدين في مختلف القواعد (¬1). وما كادت تنقشع غمة الوباء حتى وقعت ثورة محلية بين عشائر صنهاجة القبلية، وذلك في أواخر سنة 572 هـ (أوائل 1177 م)، فخرج الخليفة إلى غزوها في الرابع من شهر ذي القعدة، وترك أخاه السيد أبا حفص بمراكش والياً عليها، فلما وصل إلى رباط هسكورة في منطقة الأطلس، جنوب شرقي مراكش، أمر ببناء محلة للعسكر، وقدم عليهم ابنه السيد أبا يوسف يعقوب، وعاد إلى مراكش في الحادي والعشرين من ذي القعدة، ولم تلبث العشائر الثائرة أن أذعنت وعادت إلى الطاعة، وانصرف جميع الأجناد (¬2). وفي تلك الآونة بدأت حوادث الأندلس تتخذ وجهة خطيرة سواء في الشرق أو الغرب. وكان التهادن والصلح قد عقد بين الخليفة وبين الكونت نونيو دي لارا صاحب طليطلة، وألفونسو الثامن ملك قشتالة، وألفونسو هنريكيز ملك البرتغال، في سنة 568 هـ (1173 م) أثناء إقامته بإشبيلية. ولكن الخليفة ما كاد يغادر شبه الجزيرة عائداً إلى المغرب في شعبان سنة 571 هـ، حتى عول النصارى على نقض الهدنة، واستئناف الغزو. ففي العام التالي، أعني سنة 572 هـ (1177 م) وهي السنة التي عصف فيها الوباء بمراكش، خرج ألفونسو الثامن ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 109 و 110، وابن خلدون ج 6 ص 240 (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 110.

ملك قشتالة، ووصيه السابق الكونت نونيو دي لارا، لغزو الأراضي الإسلامية، واتجها بقواتهما صوب مدينة قونقة (كونكة) وهي تقع فوق ربوة عالية صعبة المنال عند ملتقى نهري شقر ووقر، في شمال شرقي الأندلس، وهي من حصون ولاية بلنسية الأمامية المنيعة، وضربا حولها الحصار (يناير سنة 1177 م). ويقول ماريانا، إن قونقة كانت من المدن التي أنشأها المسلمون في تلك المنطقة، لأنه لم يرد ذكرها في سير الرومان والقوط، وأن ملك أراجون كان مشتركاً في تلك الحملة، وقد تحالف مع ملك قشتالة على محاربة المسلمين، كما اشترك في الحملة إلى جانب الملكين عدد كبير من القادة ومشاهير الفرسان مثل بيدرو أسقف برغش، وسانشو صاحب آبلة، وريموندو صاحب بلازنسيا، وغيرهم (¬1). فبعث أهل قونقة إلى الخليفة بمراكش في طلب الغوث والنجدة، فبعث الخليفة إلى ولديه السيد أبي علي الحسين والي إشبيلية، والسيد أبي الحسن علي والي قرطبة، وأن يتحركا لغزو جهات طليطلة وطلبيرة، وذلك حتى يرغم القشتاليون على رفع الحصار عن قونقه. فخرج السيد أبو الحسن في عسكر قرطبة في اليوم السادس من شوال (أبريل 1177)، وأغار على أراضي طليطلة وأثخن فيها، وارتد بغنائمه سالماً إلى قرطبة. وخرج السيد أبو علي الحسين بعسكر إشبيلية في أربعة آلاف فارس، وأربعة آلاف راجل، وسار شمالا صوب طلبيرة، وعاث في أحوازها، واستولى على كثير من السبي والغنائم، وعبر نهر تاجُه في قارب كان قد حمله معه من إشبيلية على أكتاف الرجال، وفاء لنذر نذره. على أن هذه الحركة التي نظمها الموحدون لغزو أراضي قشتالة، لم تؤت ثمرتها في إنجاد قونقة، فقد لبث القشتاليون على حصارها، ولم تصدهم قسوة الشتاء، ولا مناعة المدينة المحصورة، ولا ضخامة حاميتها، عن المضي في إرهاقها والتضييق عليها. والظاهر من أقوال الرواية النصرانية أن الموحدين قد أرسلوا صوب قونقة بعض أمداد مباشرة لإنجادها، لكن هذه الأمداد عاقتها عن الوصول إلى المدينة المحصورة، قوات ملك أراجون حليف ملك قشتالة. وطال حصار قونقة زهاء تسعة أشهر من أواخر يناير سنة 1177 حتى أواخر سبتمبر، وفي النهاية اضطرت المدينة المسلمة، بعد أن استنفدت كل وسائل الدفاع، وبعد أن برّح بها الجوع والحرمان إلى التسليم إلى ملك قشتالة، وذلك في اليوم ¬_______ (¬1) Mariana: Historia General de Espana ; Lib. Undecimo, Cap. XIV.

الحادي والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1177 م. وفي الحال حول مسجدها الجامع إلى كنيسة، جرياً على القاعدة المأثورة، ثم جعلت قونقة بعد ذلك مركزاً لأسقفية. وكان سقوط قونقة ثغرة خطيرة في خط الدفاع الشمالي الشرقي الأندلسي، وكان تقصير الموحدين أو قصورهم في إنجادها وإنقاذها، ينطوي على خطأ عسكري خطير، يكشف عن ناحية أخرى من ضعف وسائل الدفاع الموحدي عن شبه الجزيرة الأندلسية (¬1). وانتهز فرناندو الثاني ملك ليون (الببوج) نفس الفرصة في الإغارة على الأراضي الإسلامية، فخرج في نفس العام بقواته، وغزا فحص إشبيلية، ووصل في سيره حتى أحواز مدينتي أركش وشريش جنوبي إشبيلية. فخرج إليه الموحدون من إشبيلية، فلحقوا بقوة من النصارى من أهالي منطقة طلبيرة، وكانت قد خرجت فيما يبدو للانتقام مما أنزله الموحدون بأراضيهم، فأحدق بها الموحدون وأبادوها، واستنقذوا ما كان معها من الغنائم والماشية، وأسروا منها ثمانين، أخذوا إلى إشبيلية، وهنالك ضربت أعناقهم أمام الخليفة والأشياخ (¬2). ووقع في غربي الأندلس عدوان مماثل، وحذا ألفونسو هنريكيز ملك البرتغال حذو زميليه ملكي قشتالة وليون، وقد اعتزم مثلهما أن ينقض الهدنة التي عقدها مع الخليفة الموحدي. وكانت مدينة باجة هدفه مرة أخرى، وخصوصاً بعد أن عمرت واستردت رونقها ورخاءها. فسار إليها في سنة 573 هـ (1177 م)، وانتسف زروعها، ونازلها أياماً حتى كاد أن يتغلب عليها. ثم تركها وسار بقواته، نحو الجنوب الشرقي قاصداً وادي إشبيلية، ووصل في زحفه إلى ضاحيتها الغربية طريانة، فدخلها وأثخن فيها، وعاث في أحواز إشبيلية، ثم عاد إلى باجة مرة أخرى فوجدها خراباً وقد أقفرت من أهلها. وكان أهل باجة في تلك الأثناء قد أصابتهم محنة أخرى، اضطرتهم إلى الفرار من مدينتهم. وذلك أن واليها عمر بن تيمصلت خرج منها بجندها وفرسانها، وانضم إليه علي بن وزير حاكم حصن شربة في قواته، وأغار على فحص أبي دانس، ونشب القتال بينهم وبين النصارى. وفي أثناء ذلك قدمت قوة من نصارى شنترين فجأة، وانضموا ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب - القسم الثالث ص 110 و 111. وراجع أيضاً: M. Lafuente: Historia General de Espana T. III. p. 326 & 327 (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 111.

إلى إخوانهم في مقاتلة الموحدين، فانهزم ابن تيمصلت وزميله ابن وزير وأسرا مع جملة من الفرسان والرجالة، وقتل الباقون، ووصل الخبر إلى أهل باجة فبادروا بالفرار من مدينتهم في الأهل والولد، وقصدوا إلى مدينة ميرتلة، وذلك في شهر المحرم سنة 574 هـ (يوليه 1178 م) وحُمل ابن تيمصلت وزميله ابن وزير إلى قلمرية، وعذب ابن تيمصلت ثم أعدم، وافتُدي ابن وزير بأربعة آلاف دينار (¬1). وتقدم إلينا الرواية البرتغالية قصة هذه الغزوة في صورة أخرى، فتقول إن الذي قام بغزو وادي إشبيلية هو سانشو ولد ألفونسو هنريكيز وولي عهده، وذلك في سنة 1178 م (574 هـ) وأنه بعد أن هزم الموحدين في ظاهر طريانة، سار لغزو مدينة لَبلة، ولكنه علم عندئذ أن جيشاً موحدياً قد سار لمحاصرة باجة، فبعث قوة مختارة من فرسانه ردت المهاجمين، ثم لحق بها بباقي قواته، وهزم الموحدين مرة أخرى، وبقيت باجة في حوزة البرتغاليين (¬2). وعلى أثر هذه الأحداث المتوالية، استدعى الخليفة أبو يعقوب أخويه السيدين أبا علي الحسين والي إشبيلية، وأبا الحسن علي والي قرطبة إلى حضرة مراكش، فغادرا إشبيلية في اليوم الثامن من شهر رمضان سنة 573 هـ (27 فبراير 1178 م)، ومعهما أبو علي بن عزون وجملة من أشياخ الموحدين بإشبيلية، فلما وصلا إلى الحضرة بحث معهما الخليفة طويلا في شئون الأندلس، وفيما يجب عمله لمحاربة النصارى، والدفاع عن أراضي المسلمين. ثم أمرا بالانصراف إلى شبه الجزيرة، فوصلا إليها في المحرم سنة 574 هـ (يونيه 1178 م). وفي نفس هذا العام، أعني سنة 573 هـ، قام الخليفة أبو يعقوب بحركة تطهير شاملة بين وزرائه وعماله، فنكب وزيره أبا العلاء إدريس بن إبراهيم ابن جامع وبنيه، فقبض عليهم، واستصفى أموالهم، ونفاهم إلى مدينة ماردة بالأندلس، فأقاموا بها في فقر وضعة نحو ستة أعوام، حتى توفي الخليفة أبو يعقوب، فعفا عنهم ولده الخليفة أبو يوسف. وكان بنو جامع يتولون وزارة الخليفة الموحدي، منذ بداية حكمه، أي منذ خمسة عشر عاماً، وعميدهم إدريس ابن جامع، هو ولد إبراهيم بن جامع من أصحاب أهل الدار، أعني من قرابة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 107 و 108. (¬2) H. Miranda: Imperio Almohade, T. I. p. 277 & 278

المهدي ابن تومرت، فلما سما شأنهم، وتمكن سلطانهم، طغوا كالعادة وبغوا، فنكبهم أبو يعقوب ليتخلص من نيرهم. ونكب الخليفة عدة آخرين من العمال، وأعدم بعضهم، وكان من هؤلاء أبو عبد الله بن المعلم مشرف إشبيلية، وابن فاخر مشرف سجلماسة، وأبو الحسن علي بن حنون، وغيرهم (¬1). وفي سنة 574 هـ، بعث الخليفة ابني السيد أبي الحسن والي قرطبة، إلى الأندلس، فولى أبو زيد نظر غرناطة، وولى أبو محمد عبد الله نظر مالقة. ولم يمض قليل على ذلك حتى توفي أخو الخليفة السيد أبو علي الحسين والي إشبيلية، ثم أخوه السيد أبو العباس بن عبد المؤمن، وكان والياً لمدينة سجلماسة. وتوفي من أعلام الدولة الموحدية اثنان كانا من أركان حكومة الخليفة أبي يعقوب ومجلسه، وهما أبو علي بن عزون عميد زعماء الأندلس، والفقيه أبو محمد المالقي شيخ طلبة الحضر بمراكش، وكان من أقطاب الفقه والحديث والأدب، وحظى لدى الخليفة عبد المؤمن، ثم ولده الخليفة أبو يعقوب، وعلت مكانته في الدولة الموحدية. وكان يتولى رفع المسائل للخليفة، وتوصيل الرسائل الواردة، وقراءة كتب الفتح، ويتقدم للخطابة والصلاة بأمير المؤمنين، ويرفع إليه أشعار الشعراء في المناسبات المختلفة، ويلازم ركب الخليفة في الحركة والغزو، وكان له أدب بارع، وشعر جيد ولاسيما في الزهد (¬2). - 1 - وفي العام التالي أعني سنة 575 هـ (1179 م) اشتد عدوان البرتغاليين في البر والبحر. وكان ألفونسو هنريكيز قد نقض الهدنة التي عقدها مع الخليفة، وقام البرتغاليون بغزو وادي إشبيلية، ثم مدينة باجة، حسبما قدمنا، ثم تفاقم عدوانهم تباعاً، فعندئذ قرر الخليفة أن يقوم الموحدون بمجهود لرد هذا العدوان، فبعث أسطوله المرابط بسبتة تحت إمرة غانم بن مردنيش لغزو شواطىء البرتغال، فسار غانم صوب أشبونة، وهاجم ثغرها، واستولى على سفينتين من سفن البرتغاليين، وعاد بأسطوله إلى سبتة. فعندئذ سارت حملة بحرية برتغالية إلى الجنوب وهاجمت شواطىء ولاية الغرب الجنوبية، واستولت على جزيرة شلطيش، الواقعة قبالة ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 137، والبيان المغرب القسم الثالث ص 112 أ. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 112.

ولبة في مصب نهر أوديل، وأسرت كثيراً من سكانها المسلمين فبقوا في الأسر حتى افتداهم الخليفة أبو يعقوب (¬1). ورأى الخليفة أن ينتقم لهذا الاعتداء، وأمر لانشغاله بغزوة قفصة التي نتحدث عنها بعد، بأن يقوم أسطوله بغزو البرتغال مرة أخرى، فخرج غانم بن مردنيش وأخوه أبو العلاء، في حملة بحرية، سارت إلى مياه البرتغال الشمالية، ورست عند سان مارتن دي بورتو شمالي أشبونة، ونفذ المسلمون إلى الداخل، وحاولوا مهاجمة " بورتو دي موس ". التي تقع على مقربة من الشاطىء، ولكن حاكمها البرتغالي الأميرال روبينو استنفر لمعاونته أهالي مدينة شنترين، وألكانينا التي تقع في شمالها، فهرعوا لإنجاده، ودبر البرتغاليون كميناً للمسلمين في جبال منديجا، وانقضوا عليهم، فمزقت صفوفهم، وأسر غانم وأخوه أبو العلاء، وجملة من أكابر الموحدين، واحتوى البرتغاليون على أسلابهم ومتاعهم، واستولوا على السفن الموحدية وأسروا من كان فيها، وساروا بها إلى أشبونة. ووقعت هذه الموقعة في منتصف شهر المحرم سنة 576 هـ (11 يونيه سنة 1180 م). وكتب غانم من موضع اعتقاله إلى الخليفة يلتمس الغوث، فعهد الخليفة إلى أخيه هلال ابن مردنيش بالنظر في فداء أخيه، فجمع المال اللازم لذلك، وبعث به إلى إشبيلية، فحمل إلى النصارى، وأفرج عن غانم وأخيه وبقية أصحابه (¬2)، ولكن سنرى أن ابن عذارى، وهو صاحب هذه الرواية، يقدم لنا رواية أخرى عن افتداء غانم وأصحابه. وحاول البرتغاليون أن يُتبعوا نصرهم، بنصر أكبر، فحشدوا أسطولا ضخماً سار بحذاء شاطىء ولاية الغرب بقيادة الأميرال روبينو، وكان مقصد البرتغاليين أن يقوموا بضربة لميناء سبتة مركز الأسطول الموحدي. ولكن قائد أسطول سبتة عبد الله بن جامع، وهو الذي تولى قيادته منذ أسر غانم، خرج منها بأسطوله، وخرج في نفس الوقت أسطول إشبيلية بقيادة أبي العباس الصقلي، واجتمعت الأساطيل الموحدية بثغر قادس، ثم سارت منه مجتمعة صوب شاطىء البرتغال الجنوبي، ثم انعطفت لتسير شمالا بحذاء شاطىء ولاية الغرب، وكان الأسطول البرتغالي قد بدأ عندئذ سيره نحو الجنوب، فالتقى الفريقان قبالة رأس إسبكل ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 113. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 116.

جنوبي أشبونة، وكان من غرائب القدر أن وقع هذا اللقاء في الخامس عشر من شهر المحرم سنة 577 هـ (أواخر مايو سنة 1181 م) أعني لعام بالضبط من اليوم الذي وقعت فيه موقعة " بورتو دي موس " وعلى مقربة من المكان الذي رسا فيه الأسطول الموحدي بقيادة غانم بن مردنيش، فنشبت بين الأسطولين معركة بحرية عنيفة هزم فيها البرتغاليون شر هزيمة، وقتل قائدهم الأميرال روبينو، واستولى المسلمون على عشرين سفينة من سفنهم، وأسروا نحو ألف وثمانمائة أسير، وغنموا غنائم وفيرة من العتاد والسلاح، وكان نصراً موحدياً باهراً. وبادر القائدان الظافران ابن جامع والصقلي، فسارا إلى الحضرة في الأسرى، والغنائم وقدماها إلى أمير المؤمنين، فأمر بتخصيص بعض الأسرى لافتداء غانم بن مردنيش وأصحابه، وأمر بإعدام الباقين (¬1). وقام القشتاليون في نفس الوقت ببعض الغارات في أراضي الأندلس من ناحية طليطلة، وأثخنوا فيها كالعادة تخريباً وسبياً، بيد أن المعركة الرئيسية، كانت تضطرم بين الموحدين والبرتغاليين. ذلك أنه في نفس الوقت الذي وقعت فيه المعارك البحرية السالفة الذكر بين الفريقين، كان الموحدون يغزون أراضي البرتغال الداخلية، ففي فاتحة سنة 577 هـ، خرجت من إشبيلية، حملة موحدية قوية بقيادة أبي عبد الله محمد بن وانودين الهنتاني، وسارت نحو الشمال الغربي صوب مدينة يابرة وعاثوا في أحوازها، وانتسفوا الزروع والكروم والثمار والأشجار، واستاقوا كثيراً من الماشية، وامتنع البرتغاليون داخل المدينة، والمسلمون يثخنون في كل ناحية من نواحيها. وفي ذات يوم خرج البرتغاليون من يابرة فجأة، واشتبكوا مع الموحدين في معركة حامية، فهزموا شر هزيمة، وقتل منهم عدد جم، ولجأ الباقون إلى المدينة. فأقام عليها ابن وانودين يومين ثم انصرف عنها، وهاجم في طريق عودته حصناً آخر للنصارى واستولى عليه، وسبى رجاله ونساءه، ثم عاد إلى إشبيلية، مثقلا بالغنائم والأسرى، وذلك في أواخر شهر محرم سنة 577 هـ (يونيه سنة 1181 م) (¬2). ولم يمض قليل على ذلك حتى خرجت حملة برتغالية، من أهل شنترين، وعبرت نهر وادي يانه، وسارت حتى فحص الشرف من أحواز إشبيلية، فخرج ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 117 و 118، وابن خلدون ج 6 ص 341. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 117.

إليهم عسكر إشبيلية، ونشب بينهما قتال عنيف قتل فيه من النصارى مائة وسبعون، ولكن البرتغاليين كانوا قد رتبوا كميناً، فخرج كمينهم واشترك في المعركة، فانهزم المسلمون وقتل منهم جماعة. وأغار القشتاليون في نفس الوقت على مدينة إستجة وعلى أراضي قرطبة. ثم انصرفوا دون قتال ولا مقاومة، وأحيط الخليفة بمراكش علماً بما حدث (¬1). وفي العام التالي، أعني سنة 578 هـ (1182 م) تفاقم عدوان البرتغاليين على أراضي الأندلس. فخرجت حملة برتغالية قوية قوامها فرسان شنترين، وأشبونة، وعبرت نهر وادي يانه، واجتاحت الشرف جنوبي إشبيلية، حتى وصلت إلى مدينة شلوقة (¬2)، على مصب الوادي الكبير، فنازلتها في ألف فارس وألف راجل، واقتحمتها، وقتلت من كان بها من المسلمين، واحتوت على كثير من الأسرى والغنائم، ثم استولت على حصن القصر (¬3) وغيره من حصون تلك الناحية، وعادت من طريق لَبلة، دون أن يقف في سبيلها أحد. وتفاقم في نفس الوقت عدوان القشتاليين، فخرج ألفونسو الثامن أو أذفنش الصغير كما تسميه الرواية الإسلامية في قواته، وسار أولا صوب قرطبة، وعسكر في ظاهرها، وذلك في الرابع من شهر صفر، ثم بعث طوائف من قواته سارت نحو مالقة، ورندة، وغرناطة، فساد الاضطراب في تلك القواعد الأندلسية، وارتفعت الأسعار، واشتد الضيق. واجتمع مجهود الموحدين الدفاعي حول إشبيلية، والتحوط لحمايتها، فوجه قائدها أبو عبد الله بن وانودين قواته إلى الأنحاء المجاورة، وتعزيزها، ووجه بعض عسكره إلى دفع القشتاليين عن فحص قرمونة، كل ذلك والقشتاليون يثخنون في الأراضي الواقعة بين قرطبة وإشبيلية، دون أن يردهم أحد، ثم سار ألفونسو الثامن إلى منازلة مدينة إستجّة، وكاد يتغلب عليها، ولكن واليها أبا محمد بن طاع الله الكومي استطاع أن يصمد فيها. فغادرها ألفونسو صوب إشبيلية، وهو يعيث في تلك المنطقة فساداً وتدميراً. وفي خلال ذلك تغلب القشتاليون الزاحفون نحو الجنوب على بعض حصون رندة، وأسروا فيه ألفاً وأربعمائة من المسلمين، وانتسفوا الزروع ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 118، وابن خلدون ج 6 ص 241. (¬2) وهي بالإسبانية سان لوكار Sanlucar la Mayor (¬3) وهو بالإسبانية Aznulcazar

في أراضي رندة والجزيرة، واستولوا على مقادير عظيمة من الغنائم من الماشية وغيرها. وكان استيلاء ألفونسو الثامن على حصن شنتفيلة (¬1) أخطر ما حققه القشتاليون في تلك الغزوة. وكان من أمنع حصون المنطقة الواقعة بين إشبيلية وقرطبة، يقع فوق ربوة عالية وله أسوار منيعة، فاستولى عليه القشتاليون في السابع عشر من صفر (22 يونيه 1182 م) وأسروا من كان به من المسلمين، وعددهم سبعمائة بين رجال ونساء، فافتداهم أهل إشبيلية بمبلغ ألفين وسبعمائة وخمسة وسبعين ديناراً، جمعت من الناس بالمسجد الجامع. وعنى ألفونسو الثامن بتقوية الحصن، ومضاعفة أهباته الدفاعية، ووضع به حامية من خمسمائة فارس وألف راجل، وأسكنه بالنصارى وشحنه بالأقوات والعدد والسلاح، ويروى أنه قال، حين الاستيلاء على هذا الحصن: " الآن آخذ قرطبة وإشبيلية ". وأقلع ملك قشتالة بعد ذلك في قواته عائداً إلى بلاده، وذلك في الثالث عشر من ربيع الأول سنة 578 هـ (17 يوليه 1182 م) بعد أن قضى في غزوته خمسة وأربعين يوماً (¬2). وأدرك الموحدون خطورة فقد حصن شنتفيلة، فقرروا العمل على استرداده. واستدعى السيد أبو إسحق ولد الخليفة ووالي إشبيلية، الحشود من سائر أنحاء الأندلس برسم الجهاد، وخرج في قواته في غرة ربيع الآخر سنة 578 هـ. وحدث في نفس الوقت أن خرجت حامية شنتفيلة النصرانية لتغير على بعض الأنحاء المجاورة، فخرج إليها المسلمون من قرمونة وغيرها، وقاتلوها وهزموها، وقتلوا منها سبعين فارساً، وأسروا جملة أخرى، واستاقوا الأسرى إلى السيد أبي إسحاق فأمر بإعدامهم في الطريق. وشجع هذا النصر المحلي، الموحدين على منازلة حصن شنتفيلة، فطوقوه من كل ناحية، وأحكموا حصاره، وقطعوا عنه المؤن والعلوفات، واستمر الحصار ستة وأربعين يوماً حتى مات أكثر الجند والدواب، وفي خلال ذلك خرج ألفونسو الثامن في قواته من طليطلة قاصداً إنجاد الحصن المحصور، ووصل نبأ مقدمه إلى الموحدين في السادس من جمادى الأولى، فرفعوا الحصار، وانصرفوا عائدين إلى إشبيلية. وعلى أثر ذلك وصل ألفونسو الثامن إلى الحصن فلم يجد به سوى خمسين فارساً، هم البقية من حاميته الخمسمائة، ومن ¬_______ (¬1) وهو بالإسبانية Santafila (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 119.

الرجالة ستمائة من ألف، وقد هلك الباقون من أثر الحصار والمرض والوباء، فأمر بإخلاء الحصن، والرحيل عنه وذلك في الخامس عشر من جمادى الثانية (16 سبتمبر سنة 1182 م) (¬1). وما كادت تنتهي غزوة شنتفيلة، حتى قرر الموحدون استئناف الغزو، واهتم أبو عبد الله بن وانودين بحشد الجند، فاجتمع منهم بإشبيلية عدد جم، وفي الثامن من جمادى الآخرة سنة 578 هـ (9 سبتمبر 1182 م)، غادر إشبيلية في عسكره ومعه أشياخ الموحدين وأشياخ الأندلس، وسلك طريقاً منعرجة حتى وصل إلى حصن بتة، وهنالك ميز عسكره، وعقد الأشياخ مجلساً للشورى، تقرر فيه السير إلى غزو مدينة طلبيرة الواقعة غربي طليطلة على نهر التاجُه، وهي أولى مدن الحدود القشتالية. ومن ثم فقد اتجه الجيش الموحدي نحو الشمال، وعبر جبال الشارات (سييرا مورينا) ثم نهر وادي يانه، وكان الجو قاتماً ملبداً بالضباب، فسار حتى أضحى على مقربة من طلبيرة دون أن يفطن النصارى إلى مقدمه، وهنالك التقى الموحدون بسرية من النصارى في نحو عشرين فارساً، فأحدقوا بهم وأسروهم جميعاً إلا دليلهم فإنه نجح في الفرار. ولما أشرف الموحدون على وادي التاجُه، لم يجدوا أمامهم مغنماً، فعلموا أن الدليل الفار قد أخطر بمقدمهم، فأسرعوا السير حتى وصلوا إلى ظاهر طلبيرة، وذلك في منتصف جمادى الآخرة. وفي اليوم التالي احتل الموحدون ربوة مرتفعة تقع على نحو ميل من المدينة، وضربوا محلتهم بها. ودهش النصارى لإقدام المسلمين على دخول بلادهم على هذا النحو، بعد أن مضت مدة طويلة لم يجرؤ أحد منهم على الظهور في تلك المنطقة، وفي الحال حشدوا قواتهم واستنجدوا بأهل الحصون المجاورة، وخرجوا لقتال الموحدين، وكان الموحدون خلال ذلك قد غادروا الربوة منصرفين، بعدما امتلأت أيديهم من الغنائم، فجد النصارى في اتباعهم مصممين على قتالهم، ولما أصبح الموحدون على قيد نحو ثمانية أميال من المدينة، توقفوا وراء أحد التلال واستعدوا للقاء النصارى، وابن وانودين يحثهم على الجهاد والتفاني، إذ هم في أراضي العدو بعيدين عن بلادهم. ثم نشبت المعركة المرتقبة بين الفريقين فثبت الموحدون، وحملوا على القشتاليين حملة صادقة، هزموا على أثرها، ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 120، وابن خلدون ج 6 ص 241.

ومزقت صفوفهم، وولوا الأدبار، وقتل منهم حسبما تقول الرواية الإسلامية أكثر من عشرة آلاف بين فارس وراجل، واستولى المسلمون على عتادهم، ودوابهم. وعاد الموحدون إلى إشبيلية ظافرين مغتبطين، وبعث ابن وانودين إلى الخليفة بكتاب الفتح، فسر به، ولكنه أبدى غضبه على ولده السيد أبي إسحاق لأنه لم يحضر تلك الغزوة التي نسبت برمتها إلى ابن وانودين، مع أنه من جملة قواده، وعاقب كل من تخلف من الأجناد، وحرمهم من العطاء. ومن جهة أخرى فإنه يبدو من رد الخليفة على ابن وانودين، وقوله في خطابه إليه " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ". يبدو من ذلك أن الخليفة قد غص بالانتصارات المتوالية التي أحرزها ابن وانودين، دون بقية الأشياخ والسادة. وكان أبو عبد الله محمد بن وانودين هذا، هو ولد أبي يعقوب يوسف ابن وانودين الهنتاني من كبار أهل خمسين، وقد نشأ في مهاد العلم، ونظمه الخليفة عبد المؤمن في مجلسه، وقربه إليه، ثم قدمه على العسكر وولاه القيادة وصحبه في سائر غزواته في إفريقية. ولما أوفد إلى الأندلس ظهر في محاربة ابن مردنيش ثم في هزيمته لنصارى شنترين، وفي قيادة قافلة الميرة إلى بطليوس، ثم في رد القشتاليين عن قرمونة، وأخيراً في غزوة طلبيرة. ومع ذلك كله فسرعان ما غضب عليه الخليفة لأتفه الأسباب، وذلك عند مقدمه إلى إشبيلية في العام التالي، حيث وشى في حقه الوشاة، فأمر بتغريبه إلى غافق، على مقربة من قلعة رباح، فلبث بها حيناً، ثم نزح إلى تونس واستقر بها (¬1). - 2 - نرجع الآن قليلا إلى الوراء لنستعرض ما حدث في المغرب في تلك الأعوام القلائل التي اشتد فيها عدوان القشتاليين والبرتغاليين على الأندلس، والتي شغل فيها الخليفة بالأحداث الداخلية عن تجديد حركة الجهاد. وكان من أهم الأحداث الداخلية، في تلك الفترة، وفاة السيد أبي حفص عمر بن عبد المؤمن أخي الخليفة أبي يعقوب، وكان أبو حفص شقيقه وكبيره، وأمهما حسبما تقدم حرة هي زينب بنت القاضي موسى بن سليمان الضرير، من أصحاب خمسين، وكانت وفاته في شهر ربيع الأول من سنة 575 هـ (أغسطس ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 123 و 124 و 132.

1179 م)، وكان أبو حفص، منذ أيام أبيه الخليفة عبد المؤمن يشغل مكانة ملحوظة في الدولة الموحدية، وقد تولى في فتوته ولاية تلمسان، ثم وزر لأبيه بعد مصرع وزيره عبد السلام الكومي. ولما توفي عبد المؤمن سنة 558 هـ، ْبثغر سلا، قام السيد أبو حفص مع الشيخ عمر بن يحيى الهنتاني كبير الأشياخ بتنظيم البيعة لأخيه الأصغر أبي يعقوب يوسف، تنفيذاً لوصية أبيه، ثم تولى له في البداية منصب الحجابة على نحو ما كان لأبيه. واضطلع السيد أبو حفص بأعظم قسط في حملة شرقي الأندلس، وفي الأعمال الحربية التي انتهت بتحطيم مملكة الشرق، وانتهاء ثورة ابن مردنيش، وكان على العموم يحتل في دولة أخيه الخليفة أبي يعقوب أعظم مكانة، وفي تدبير الأمور والبت فيها أعظم نصيب. وفي نفس هذا العام أعني سنة 575 هـ وقعت الثورة بمدينة قفصة الواقعة جنوبي القيروان على مشارف الصحراء. وكانت قفصة مذ ضعفت دولة بني باديس الصنهاجيين بإفريقية، منزل إمارة محلية في ظل بني الرند، وعميدهم عبد الله ابن محمد بن الرند، فاستقل بقفصة، وقوى أمره تباعاً، وبسط سلطانه على عدة من البلاد المجاورة حتى قسنطينة، ثم خلفه في الإمارة ولده المعتز، ثم حافده يحيى بن تميم بن المعتز. ولما قام عبد المؤمن في سنة 554 هـ بغزوته لإفريقية، استولى على قفصة، ونقل بني الرند إلى بجاية، وعين لقفصة والياً موحدياً. وكان والي قفصة الموحدي حينما وقعت الثورة، عمران بن موسى الصنهاجي، وكان قد أساء السيرة، ووقع الاضطراب بالمدينة، فبعث لفيف من أهلها إلى بجاية في دعوة علي بن عبد العزيز بن الرند المعروف بالطويل، فقدم إليهم، واضطرمت الثورة، وقتل عمران بن موسى، واستبد ابن الرند بالمدينة، وكان يشجعه في ثورته، ويحرض العرب للانضمام إليه قريبه القائد على بن المنتصر من بجاية (¬1). فلما نميت هذه الأنباء إلى الخليفة أبي يعقوب، اعتزم السير بنفسه إلى إفريقية، فخرج في قواته من مراكش في الخامس عشر من شوال سنة 575 هـ (مارس سنة 1180 م)، ويروى لنا ابن صاحب الصلاة، أن البركة الدورية التي كانت تعطى للعسكر في تلك الغزوة كانت تبلغ في كل مرة ألف ألف دينار، سوى العلوفات والمرافق، مما يدل على ضخامة الجيش الذي حشد (¬2)، واستمر الخليفة ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 166. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 112.

في سيره وئيداً، واحتفل في الطريق بعيد الأضحى، وقدم ولده السيد أبا يوسف يعقوب على مقدمة الجيش، فسبقه إلى تلمسان. ووصل الخليفة في قواته إلى تلمسان في أوائل سنة 576 هـ، ولما كملت أهبة الجيش وتعبئته، خرج من تلمسان في الثاني عشر من شهر صفر، متجهاً إلى إفريقية، فلما وصل إلى بجاية نزل بها. وتحقق لديه أن القائد علي بن المنتصر متواطىء مع قريبه الثائر بقفصة، وأنه يوالي تحريضه على الاستمرار في الثورة، ويوالي تحريض العرب لتأييده، وضبطت بمنزله رسائل تؤيد ذلك، فقبض عليه، وأحيط بسائر أمواله. ثم سار الخليفة من بجاية، فلما قرب من قفصة، بادر أشياخ العرب من رياح إلى المثول لديه، وتأكيد ولائهم وطاعتهم. وضرب الخليفة الحصار حول قفصة وضربها بالمجانيق، حتى اضطر علي بن الرند إلى الإذعان والتسليم، أو التوحيد وفقاً لقول البيذق، ثم ارتد إلى تونس وفقاً لرواية أخرى، واحتل الموحدون قفصة وذلك في رمضان سنة 576 هـ (فبراير 1181 م) وعقد الخليفة بولاية إفريقية والزاب لأخيه السيد على أبي الحسين، وبولاية بجاية أو ولاية القيروان على قول آخر لأخيه السيد أبي موسى (¬1). وانتهز الخليفة هذه الفرصة لتجديد مساعيه في استمالة العرب الذين ينزلون بهذه الأنحاء من إفريقية وترغيبهم في الجهاد بالأندلس. وقد شرح لنا هذه المساعي في رسالة الفتح التي وجهها إلى الموحدين بقرطبة. وذلك أنه لما اجتمع لديه أشياخ قبائل رياح وكبراؤهم من جميع الأنحاء، ذُكّروا بما كان لأسلافهم من فضل سابغ في نصرة الدين، وأنه يجدر بهم أن يحذوا حذو أسلافهم في الاضطلاع بتلك المهمة الجليلة، وأن خير ما يصنعونه في ذلك هو المساهمة في الجهاد بالأندلس، وغزو النصارى بها، سيما وقد تفاقم عدوانهم في الآونة الأخيرة، وأن أولئك الأشياخ أبدوا أنهم على أتم أهبة للاستجابة إلى هذه الدعوة، وأن قبائل رياح كلها، وبطونها وأفخاذها، أبدوا جميعاً أنهم يقبلونها بقلوب خالصة، ونيات صافية، وأنهم أخذوا بالفعل في الحركة والاحتشاد، كل طائفة صوب الطريق التي تفضلها وتراها أيسر لمجازها، وتوالت جموعهم حتى امتلأت بها تلك البطاح والسهول. وكان ممن حضر ذلك الجمع الشيخ أبو سرحان مسعود بن سلطان بن زمام، فلما وقع العزم على الاستجابة، أخذ في الرحيل بأهله وولده وكل من تبعه من ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 114، وابن خلدون ج 6 ص 240 و 241، وكتاب أخبار المهدي ابن تومرت ص 125، والمعجب للمراكشي ص 141، و 142.

قومه، وبادر الجميع بالامتثال والرحيل، مبايعين ربهم على الجهاد في سبيله. وينوه الخليفة في رسالته، بأنه كان من أثر هذه الحركة أنه لم يبق بإفريقية من طوائف العرب، سوى من نزل من قبائل سليم بجهات طرابلس وما وراءها شرقاً نحو برقة والإسكندرية، وأن هؤلاء قد خوطبوا أيضاً بما خوطب به زملاؤهم، وكوتبوا، وبذلت لهم أطيب الوعود، وأنذروا في نفس الوقت، أملا في استمالتهم واستجلابهم إلى مشاركة إخوانهم. وقد سبق أن أشرنا إلى خطة السياسة الموحدية في استمالة القبائل العربية النازلة بإفريقية وحشدها في الجيوش الموحدية، وهي الخطة التي وضعها الخليفة عبد المؤمن منذ افتتاحه لثغر المهدية في سنة 555 هـ، وتابعها ولده الخليفة أبو يعقوب وضاعف اهتمامه بتنفيذها حسبما سبق أن فصلناه. وقد كان للسياسة الموحدية من تحقيق هذه الخطة هدف مزدوج أشارت إليه رسالة الفتح المتقدمة الذكر، وهو أولا تخليص إفريقية من طوائف العرب النازلة بها، وكف أيديهم عنها، وذلك لما كان من استطالتهم عليها، وتخريبهم لربوعها ومدنها، وثانياً لاستنفارهم إلى الجهاد والاستعانة بهم في تدعيم الجيوش الموحدية المرسلة إلى الغزو بالأندلس. وقد استطاع الخليفة أبو يعقوب أن يحشد بالفعل منهم حشوداً عظيمة عبرت معه إلى الأندلس، واشتركت مع الجيوش الموحدية في غزوة وبذة وفي محاربة النصارى في مختلف الميادين في شبه الجزيرة. ولما أراد أبو يعقوب العودة إلى المغرب في سنة 571 هـ، فرق العرب الباقين في مختلف القواعد، فأنزل بعضهم في نواحي قرطبة، وبعضهم في نواحي إشبيلية الجنوبية، مما يلي مدينة شريش وأعمالها. بيد أن السياسة الموحدية لم تجن خيراً من هذه الخطة في استمالة العرب وحشدهم إلى جانبها، وذلك لما كانوا يتسمون به من حب التقلب، ومجانبة الولاء، والسعي إلى اجتناء المغانم المادية بأي الوسائل. وسوف نرى فيما بعد، كيف انقلبوا إلى محاربة الدولة الموحدية، وغدوا من أخطر خصومها في منطقة إفريقية (¬1). وحدث أيضاً أثناء وجود الخليفة بإفريقية، أن وفدت إليه رسل ملك صقلية، النورماني، وهو يومئذ وليم الطيب، يطلب الصلح والمهادنة، وكان ملوك صقلية ¬_______ (¬1) راجع رسالة الخليفة أبي يعقوب المتضمنة لشرح مساعيه في حشد العرب في كتاب " مجموع رسائل موحدية ". الرسالة السادسة والعشرون ص 149 - 157، وراجع أيضاً كتاب المعجب للمراكشي ص 124 و 125، وروض القرطاس ص 139.

منذ استرد منهم عبد المؤمن ثغر المهدية، وقضى على سلطانهم في شواطىء إفريقية قبل ذلك بعشرين عاماً، يخشون بأس الدولة الموحدية، ويؤثرون السلم معها. ويقول لنا صاحب المعجب إن ملك صقلية عقد الصلح مع الخليفة على أن يحمل إليه إتاوة سنوية اتفق عليها، وأنه أرسل إلى الخليفة تحفاً وذخائر نفيسة منها حجر ياقوت يسمى " الحافر " لاستدارته بمثل حافر الفرس، وقد وضع في تابوت مصحف عثمان، الذي كان يبالغ الموحدون في تكريمه (¬1). وعلى أثر افتتاح قفصة ارتحل الخليفة إلى تونس، وكتب من هنالك برسالة الفتح إلى حضرة مراكش، وإلى الأندلس -إلى إشبيلية وقرطبة- وبعث مع الرسالة بقصيدة طويلة من نظم طبيبه العلامة الفيلسوف أبي بكر بن طفيل، يشيد فيها بالفتح، وبالجيش الموحدي، وقد جاء في أولها: ولما انقضى الفتح الذي كان يرتجى ... أصبح حزب الله أغلب غالب وساعدنا التوفيق حتى تبينت ... مقاصدنا مشروحة بالعواقب وأنجزنا وعد من الله صادق ... كفيل بإبطال الظنون الكواذب وهبوا كما هب النسيم إذا سرى ... ولم يتركوا بالشرق علقة آيب وأذعن من عليا هلال بن عامر ... أبي ولبى الأمر كل مجانب يغص بهم عرض الفيافي وطولها ... وقد زحموا الآفاق من كل جانب ولما وصل كتاب الفتح، وقصيدة ابن طفيل، إلى السيد أبي إسحاق ولد الخليفة ووالي إشبيلية، عم البشر والسرور، ومثل لديه أشياخ إشبيلية للتهنئة، وخطب بين يديه الفقيه ابن الجد، وأنشد أبو مروان عبد الملك بن صاحب الصلاة صاحب تاريخ " المن بالإمامة " قصيدة جاء فيها: خير البشائر صوغت حمل المنى ... بقفول خير خليفة وإمام وافت كما ابتسم الأمان لخائف ... وانهل أثر المحل سكب غمام (¬2) ثم قفل الخليفة عائداً إلى حضرة مراكش، فوصل إليها في شهر صفر سنة 577 هـ، وعلى أثر وصوله، سارت وفود الأندلس إلى العدوة لتهنئته، يتقدمهم ولده السيد أبو إسحاق والي إشبيلية، وابن وانودين وغيره من أشياخ الموحدين، ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 142. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 115.

وقدمت كذلك وفود قرطبة وغرناطة ومرسية لغرض التهنئة، وأقامت هذه الوفود بالحضرة إلى أواخر العام، ثم انصرفت عائدة إلى بلادها. وفي خلال ذلك علم الخليفة أن طائفة من أهل جبل السوس الواقع على مقربة من بلاد هرغة وهي قبيلة المهدي ابن تومرت، قد استولوا لأنفسهم على ما تحصل من معدن الفضة الذي يستخرج من ذلك الجبل، وذلك بطريق الاغتصاب من عمال المنجم الخاص بذلك، فخرج الخليفة في بعض عسكره من مراكش في أول صفر سنة 578 هـ، ولما وصل إلى الجبل المذكور، أمر ببناء حصن عليه، ووضع به حامية، ثم سار من هنالك إلى تينملل فزار قبر المهدي وقبر والده، الخليفة عبد المؤمن، وكان معه وفد من أهل إشبيلية قدم لزيارته بالحضرة قبل ذلك بقليل، ويقول لنا ابن صاحب الصلاة وقد كان ضمن هذا الوفد، إنه زار القبرين بصحبة أبي بكر بن زهر، وأبي الوليد ابن رشد، وأن الخليفة زار فضلا عن القبرين الغار الذي في جبل إيجليز حيث كان يتعبد المهدي والمسمى برابطة الغار، والرابطة الأخرى المسماة رابطة وانسرى، وكان الناس يأخذون التراب منهما للتبرك ويجعلونه على المرضي. وأمر الخليفة بهذه المناسبة، أن ينظم الشعراء قصائدهم في رثاء المهدي ورثاء أبيه، وأن يذكروا مناقبهما ومآثرهما، وأغدق عليهم صلاته الكثيرة (¬1). وكان مما قيل بهذه المناسبة، في ذكر مناقب المهدي، وشرح أسطورته، والإشادة برسالته، قصيدة نظمها شاعر من أهل الجزائر، وفد على أبي يعقوب بتينملل، وأنشد قصيدته على قبر المهدي ابن تومرت بمحضر من الخليفة وشيوخ الموحدين، وإليك بعض ما ورد فيها: سلام على قبر الإمام الممجد ... سلالة خير العالمين محمد ومشبهه في خلقه ثم في اسمه ... وفي اسم أبيه والقضاء المسدد ومحيي علوم الدين بعد مماتها ... ومظهر أسرار الكتاب المسدد أتتنا به البشرى بأن يملأ الدنا ... بقسط وعدل في الأنام مخلد ويفتتح الأمصار شرقاً ومغرباً ... ويملك عرباً من مغير ومنجد فمن وصفه أقنى وأجلى وإنه ... علاماته خمس تبين لمهتدي زمان واسم والمكان ونسبة ... وفعل له في عصمة وتأيد ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 120 - 122.

وتتبعه للنصر طائفة الهدى ... فأكرم بهم إخوانُ ذي الصدق أحمد هي الثلة المذكور في الذكر أمرها ... وطائفة المهدي بالحق تهتدي بهم يقمع الله الجبابرة الأولى ... يصدون عن حكم من الحق مرشد ويقطع أيام الجبابرة التي ... أبادت من الإسلام كل مشيد فيغزون أعراب الجزيرة عنوة ... ويعرون منها فارساً وكأن قد ويفتتحون الروم فتح غنيمة ... ويعرون منها فارساً وكأن قد ويفتتحون الروم فتح غنيمة ... ويقتسمون المال بالترس عن يد ويغدون للدجال يغزونه ضحاً ... يذيقونه حد الحسام المهند وينزل عيسى فيهم وأميرهم ... إمام فيدعوهم لمحراب مسجد يصلي بهم ذاك الأمير صلاتهم ... بتقديم عيسى المصطفى عن تعمد فيمسح بالكفين منه وجوههم ... ويخبرهم حقاً بعز مجدد وما أن يزال الأمر فيه وفيهم ... إلى آخر الدهر الطويل المسرمد فأبلغ أمير المؤمنين تحية ... على النأي مني والوداد المؤكد عليه سلام الله ما در شارق ... وما صدر الوارد من ورد مورد وقيل إن منشىء هذه القصيدة لم يحضر لإلقائها بنفسه، للكبر وبعد الشقة، وأنه أرسل بها فأنشدت باسمه على قبر الإمام، وكان نظمه إياها أيام حياة الخليفة عبد المؤمن (¬1). وفي العام التالي، أعني في سنة 579 هـ، كانت توسعة مدينة مراكش. وكانت العاصمة الموحدية، قد بدأت تضيق بسكانها الذين هرعوا إلى استيطانها من كل صوب، وبالرغم مما أقيم بها منذ أيام الخليفة عبد المؤمن، من الأحياء الكبيرة والدور العديدة الفخمة لسكنى رجال البلاط، وعلية القوم، والوافدين إليها من مختلف أنحاء المغرب والأندلس، فإنها أضحت قاصرة عن أن تستوعب سكانها، وحركة عمرانها الضخمة. وكان الخليفة قد أمر قبائل هسكورة وصنهاجة أن يتركوا بلادهم، وأن يأتوا إلى العاصمة بأهلهم لسكناها، فلما وصلوا إليها لم يجدوا بها متسعاً لنزولهم، فشكوا إلى الخليفة أمرهم. فعندئذ رأى الخليفة أنه لابد من العمل على توسعة المدينة، وعهد إلى ولده وولي عهده السيد أبي يوسف ¬_______ (¬1) راجع المعجب ص 104 - 106 حيث يورد هذه القصيدة وقصتها، وينفرد المراكشي بذلك بين المصادر الموحدية.

يعقوب بتلك المهمة، فركب في يوم أول ربيع الآخر ومعه شيوخ الموحدين وعرفاء البنائين لينظروا خير موقع يصلح لتحقيق هذه الرغبة، فاتفق رأيهم على زيادة المدينة من الجهة القبلية، بإنشاء مدينة جديدة متصلة بها من هذه الناحية، ووافق الخليفة على هذا المشروع، وقام العبيد والرجال بهدم سور المدينة من جهة باب الشريعة، ووضعت خطط المدينة الجديدة في يوم الاثنين الخامس والعشرين من ربيع الآخر، واتصل بناء السور حول المواقع الجديدة، وبناء باب الشريعة أربعين يوماً، حتى كمل، وبدأ إنشاء الدور والرباع بسرعة في هذا القطاع الجديد من العاصمة الموحدية (¬1). ولم يمض قليل على ذلك حتى وقع بإفريقية حادث مكدر. ذلك أن طوائف العرب من بني سُليم ثاروا على مقربة من مدينة قابس، فسار أبو الحسن على ابن الخليفة ووالي تونس لقتالهم، ودامت الحرب بينهم أياماً، ثم أمر الفرسان الموحدون من أهل الرايات أن ينتقلوا من موضعهم إلى جبل قريب يسمى جبل كسرى، فظن أن هذا الانتقال بسبب الهزيمة، فتركوا عتادهم وفروا منهزمين دون قتال، فلجأ السيد ومن معه إلى الجبل، ولكنهم لم يجدوا به ماء، فلما اشتد بهم العطش كروا على العرب دفعة واحدة، فهزمهم العرب، وأحدقوا بهم وأسروا السيد وأصحابه. (جمادى الأولى سنة 579 هـ). ولما علم الخليفة بذلك قرر في الحال غزو بني سليم والانتقام منهم، ولكن لم تمض بعد ذلك سوى أيام قلائل حتى ورد الخبر بأن السيد وأصحابه قد أطلق سراحهم لقاء ما دفعوا من المال، وأنهم وصلوا سالمين إلى تونس (¬2). ومن حوادث هذا العام أيضاً نكبة الخليفة لأبي زكريا بن حيون شيخ قبيلة كومية وابنه على الذي كان مشرفاً على تلمسان، وقبض على أبي زكريا وحوسب مدة، ثم نفي إلى بطليوس بالأندلس، وبقى ابنه علي في السجن، حتى خرج الخليفة إلى الغزو، فأمر بأن يحمل معه مصفداً، ولكنه استطاع الفرار أثناء السير. ومنها فرار الداعية علي بن محمد بن رزين المعروف بالجزيري من مراكش، وكان على مذهب الخوارج الأزارقة يقول بتكفير جميع المسلمين، وتبعه قوم من البربر يقرأون عليه مذهبه، وشاع خبره، وعندئذ خشي بطش ولاة الأمر. ففر من المدينة واختفى حيناً، حتى قبض عليه فيما بعد وقتل أيام الخليفة المنصور. ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 126. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 127.

الفصل الخامس غزوة شنترين

الفصل الخامس غزوة شنترين ومصرع الخليفة أبي يعقوب يوسف استعداد الخليفة للجهاد بالأندلس. ولاة الأندلس وقضاتها الجدد. قسمة السلاح والعتاد. مسير الخليفة إلى رباط الفتح. الاتفاق على توجيه الحملة إلى الأندلس. مسير الخليفة إلى مكناسة، ثم إلى فاس. تعيين السيد أبي حفص لقيادة العرب، وبعض السادات لقيادة الموحدين. مسير الخليفة إلى سبتة. جواز قبائل العرب فقبائل البربر ثم الموحدين إلى شبه الجزيرة. عبور الخليفة ومسيره إلى إشبيلية. أقوال ابن صاحب الصلاة. اختيار مدينة شنترين هدفاً للغزوة المنشودة. حكمة هذا الاختيار وبواعثه. منشآت الخليفة بإشبيلية. خروج الخليفة في قواته إلى بطليوس. تحالف ملكي قشتالة وليون ضد الموحدين. ملك ليون يحاصر قاصرش. الرواية النصرانية عن خطة الموحدين. رفع الحصار عن قاصرش. مسير الموحدين إلى شنترين. عدد الجيش الموحدي. شنترين وموقعها. أشبونة هدف الغزوة الموحدية. محاصرة الموحدين لشنترين. اقتحامهم للربض الخارجي. اعتصام النصارى بالقصبة. المعارك بين الموحدين والبرتغاليين. أمر الخليفة بالكف عن القتال. تحول الجيش الموحدي عن موقعه. صدور الأمر بالرحيل. غموض بواعث هذا الأمر. رواية في تعليله. رواية أخرى في شرح ما حدث في المعسكر الموحدي. شرح الرواية النصرانية لأسباب الانسحاب. ما حدث خلال الانسحاب من الفوضى والاضطراب. مهاجمة النصارى لساقة الجيش المنسحب. وصولهم إلى محلة الخليفة. جرح الخليفة ثم وفاته خلال السير. بعض روايات عن هذا الحادث. رواية أخرى عن مرض الخليفة ووفاته. أسباب نكبة الجيش الموحدي. مسير الجيش وكتمان وفاة الخليفة. التوقف في طرش. اجتماع القادة ومبايعة الأمير أبي يوسف يعقوب. الوصول إلى إشبيلية. إعلان الوفاة وأخذ البيعة للخليفة. انقضاء الغزو والأمر بالرحيل. مسير الركب الخليفي إلى طريف. عبوره إلى العدوة. المسير إلى رباط الفتح. الخليفة أبو يعقوب. حزمه وتقواه وعلمه. حرصه على تنفيذ حكم الشرع. مطاردته للعمال الظلمة. خبرته بشئون المملكة. شغفه بالجهاد. علمه وأدبه. تمكنه من الحديث والفقه واللغة. دراسته للفلسفة والطب. صلاته بابن طفيل وابن زهر وابن رشد. كيف وضع ابن رشد شروحه لأرسطو. ابن طفيل سفير الخليفة لدى العلماء. شغف أبي يعقوب بجمع كتب الفلسفة. أثر من آثاره العلمية. كلفه بالمنشآت العمرانية. وزراؤه وقضاته وكتابه. أبناؤه وصفته. كان من الواضح للخليفة أبي يعقوب وأعوانه من أقطاب الموحدين، أن حوادث الأندلس، قد أخذت في الأعوام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، تسير نحو اتجاه مكدر، وأن عدوان الممالك الإسبانية النصرانية، قد أخذ يشتد ويتفاقم، وأن غزوات البرتغاليين لولاية الغرب، وما أحرزوه من انتصارات في البر

والبحر على القوات الموحدية، وغزوات ملك قشتالة لموسّطة الأندلس وتهديده لقرطبة وإشبيلية، وتوغل قواته جنوباً حتى غرناطة ومالقة ورندة، كل ذلك قد كشف عن ضعف الجبهة الدفاعية الموحدية بالأندلس، وعن قصور القوات الموحدية عن حماية الأندلس، وصد عدوان النصارى عنها. ومن ثم فقد رأى الخليفة أنه لابد من تنظيم حركة جديدة للجهاد بالأندلس ليقودها بنفسه، وظهرت بوادر هذه النية منذ أوائل شهر جمادى الآخرة من سنة 579 هـ، حينما أمر الخليفة بتمييز طوائف الموحدين والعرب والقبائل استعداداً للغزو، وبصنع عشرة مجانيق جربت بعد صنعها بالرمي أمامه، في منطقة البحيرة خارج مراكش، واستمر تمييز الجند طوال شهر جمادى الثانية (سبتمبر 1183 م). وفي شهر شعبان أصدر الخليفة المراسيم بتولية أربعة من أبنائه قواعد الأندلس الأربعة الرئيسية، وهم السيد أبو إسحق لولاية إشبيلية كما كان، والسيد أبو زكريا يحيى لولاية قرطبة، وذلك تنفيذاً لرغبة القاضي أبي الوليد بن رشد، والسيد أبو زيد لولاية غرناطة، والسيد أبو عبد الله لولاية مرسية، وأمر بسفرهم إلى مقر أعمالهم، تمهيداً لحركة الغزو. وأصدر أمره في نفس الوقت بتولية أبي المكارم ابن الحسين المصري لقضاء إشبيلية، وأبي الوليد بن رشد لقضاء قرطبة، وأبي عبد الله بن الصقر لقضاء غرناطة، وتحرك الجميع للسفر إلى شبه الجزيرة في السابع والعشرين من شعبان. وفي منتصف شهر رمضان، أجريت قسمة السلاح والعتاد، وخصص خباء لكل عشرة من الفرسان، ثم أخرجت البركة لسائر الجند من الفرسان والرجّالة. وفي يوم السبت الخامس والعشرين من شوال (فبراير 1184 م) صدرت الأوامر بالحركة، وركب الخليفة كعادته بعد صلاة الصبح، وخرج من باب دُكّالة، وهو الذي يسلكه إلى الغزو بإفريقية. ويصف لنا صاحب البيان المغرب -والمرجح أنه ينقل عن ابن صاحب الصلاة (¬1) - موكب الخليفة ومراحل سيره، فيقول إنه سار يتقدمه العلم الأبيض مع الرجّالة، كالعادة، ومعه مصحف عثمان على جمل أبيض مرتفع، وقد وضع تابوته المرصع بنفيس الجواهر، وعليه قبة حمراء لصيانته، ويليه مصحف المهدي يحمله بغل، وقد سار بنو الخليفة مع ¬_______ (¬1) يدفعنا إلى هذا الاستنتاج ما نلاحظه من مطابقة في السرد والوصف لأسلوب ابن صاحب الصلاة، وورود عبارات كثيرة مسجعة وغيرها مطابقة لما يستعمله ابن صاحب الصلاة في مواطن كثيرة.

إخوته خلفه، ووصل الخليفة في ركبه الضخم إلى سلا في الثالث عشر من ذي القعدة، ونزل بمدينة المهدية (رباط الفتح)، وهنالك وفد عليه أبو محمد ابن أبي إسحاق بن جامع قادماً من إفريقية، فأخبره أن السلام يسودها، وأن العرب الذين يخشى من شغبهم، قد فروا من البلاد بأهلهم، حينما سمعوا بحركة الغزو، وبذلك أمن شرهم واستتبت السكينة والأمن. وفي أثناء ذلك وصل شيوخ العرب المنضمون للحملة بجميع قبائلهم، فصدر أمر الخليفة بالإنعام عليهم بالكسى والبركات والصلات الجزيلة. وتعهد الأشياخ بأن يساهموا في هذه الغزوة بمائة وثلاثين ألفاً ما بين فارس وراجل. ثم أمر الخليفة باجتماع شيوخ الموحدين والعرب والقادة في مؤتمر عام، وخرج إليهم ولده أبو يوسف المنصور، وأبلغهم أن أمير المؤمنين يطلب رأيهم ويستشيرهم في أمر توجيه هذه الحملة، هل توجه إلى إفريقية أم توجه إلى الأندلس، فكان رأيهم بالإجماع أن توجه إلى الأندلس لغزو النصارى والجهاد في سبيل الله، فأبدى الخليفة ارتياحه لهذا الرأي (¬1). ومعنى ذلك أن الخليفة، حين خروجه من مراكش لم يكن لديه رأى حاسم في شأن الغزوة التي ينوي القيام بها، وهذا في ذاته يكشف لنا جانباً من ضعف الخطط العسكرية الموحدية. وفي اليوم الثامن والعشرين من ذي القعدة، بدأت العساكر في الجواز على قنطرة سلا، وفي اليوم الثلاثين غادر الخليفة في موكبه، رباط الفتح إلى مكناسة، فوصلها في السادس من ذي الحجة، وقضى بها عيد الأضحى، ثم غادرها إلى فاس، وكانت قد ترامت إليه الأنباء عن خيانة مشرفها وعمالها المختلفين، واختلاساتهم، فأمر بالقبض عليهم جميعاً، ومصادرة دورهم وأموالهم لحساب " المخزن "، وألزموا بأن يردوا " للمخزن " أربعمائة ألف وستين ألف دينار، تعهدوا بأدائها أقساطاً، ورتب عليهم الرقباء حتى قاموا بأدائها. وفي الثاني عشر من ذي الحجة، أمر الخليفة بأن يتقدم العسكر قبيلتا هنتانة وتينملّل برسم الجواز إلى الأندلس، وبأن يتقدم ولده السيد أبو حفص على طوائف العرب، وأن يشرف على جوازهم إلى الأندلس، ثم قدّم على قبائل الموحدين وحشودهم، بعض السادات من الأبناء والإخوة، وكتب إلى الولاة ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 130، وكذلك في روض القرطاس ص 139.

بالأندلس أن يستعدوا لاستقبال هذه الحشود المختلفة، وأن يكونوا هم في جموعهم في هيئة استعداد للجهاد. وفي يوم الثلاثاء الرابع من شهر المحرم سنة 580 هـ (8 أبريل 1184 م) غادر الخليفة أبو يعقوب مدينة فاس في موكبه، على الترتيب السابق وصفه، حتى وصل إلى ثغر سبتة فأقام به بقية شهر المحرم. وأمر في أثناء ذلك ببدء الجواز، فجازت قبائل العرب أولا، ثم قبائل زناتة، فالمصامدة، فمغراوة وصَنهاجة وأورية وغيرهم من بطون البربر، ثم جازت جيوش الموحدين. فلما كمل جواز الجيش عبر الخليفة فيمن بقى من طوائف العبيد والحرس، وكان عبوره في الخامس من صفر (17 مايو) ونزل بجبل الفتح (جبل طارق) ثم سار منه إلى الجزيرة الخضراء، ثم إلى إشبيلية عن طريق أركش وشريش، فوصل إليها في عساكره في اليوم الثالث عشر من صفر (25 مايو)، وخرج أهل الحاضرة الأندلسية إلى لقائه والسلام عليه، وفي مقدمتهم قاضيهم ابن الجد. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، إنه كان حاضراً في هذا اليوم، وإنه قام بالسلام على الخليفة مع من تقدم إليه من الطلبة، وأنه لم يستطع الكلام لشدة الزحام، وأن الخليفة نزل بقصره داخل حدائقه الواقعة خارج باب قرمونة. وفي اليوم التالي لوصوله أمر بتمييز العساكر وتوزيع السلاح والعتاد عليهم. ووزعت ألف فرس من عتاق الخيل على أشياخ الموحدين والعرب وكبار الجند. وأمر قائد الأسطول أبو العباس الصقلي بإعداد سفن الغزو وما يلزمها من الآلات والمعدات. وكانت أجناد الأندلس، تتلاحق خلال ذلك من أوطانها وقواعدها إلى إشبيلية، لتنضم إلى جيش الغزو (¬1). وأقام الخليفة بإشبيلية أسبوعين وهو دائب العناية باستكمال الاستعدادت وتنظيم الحشود، والنظر في كل ما يلزم للقيام بالغزوة المنشودة، وضمان نجاحها. أما هدف هذه الغزوة، فقد استقر الرأي على أن يكون مدينة شنترين البرتغالية. وقد سبق أن أوضحنا أن الخليفة لم يحدد هدف هذه الغزوة منذ البداية بصورة قاطعة، بل لم تتحدد وجهة الحملة الموحدية إلى شبه الجزيرة الأندلسية إلا حينما وصل الخليفة إلى سلا. ولكن اختيار مدينة شنترين بالذات هدفاً للغزوة الموحدية يرجع إلى أسباب عديدة، مادية ومعنوية. فقد كانت البرتغال في عهد ¬_______ (¬1) نقله البيان المغرب عن ابن صاحب الصلاة ص 132. وكذلك روض القرطاس ص 130.

أبي يعقوب أول مملكة نصرانية في شبه الجزيرة ناصبت الموحدين العدوان، وكانت مدينة شنترين بالذات أهم قواعد هذا العدوان، فمنها خرجت الحملات العدوانية المتوالية التي شنها الفارس المغامر جيرالدو سمبافور على بلاد ولاية الغرب وحصونها في قطاع بطليوس، وهي ترجالُه وقاصرش، ومنتانجش وشربة، وجلمّانية. ثم كانت بعد ذلك قاعدة لمهاجمة ملك البرتغال وجيرالدو سمبافور لمدينة بطليوس ذاتها، واستيلائهما عليها، ولو لم يتعاون فرناندو ملك ليون مع الموحدين على إنقاذ المدينة، لبقيت في أيدي البرتغاليين. وكانت شنترين أخيراً مركزاً للحملات المخربة التي شنها البرتغاليون في أحواز إشبيلية، والتي وصلت في سيرها مرة إلى طُريانة، وأخرى إلى الشّرف ومدينة شلوقة، وعلى الجملة فقد كانت شنترين هي المركز الرئيسي لعدوان البرتغاليين على قواعد ولاية الغرب وأراضيها، وقد اضطلع فرسانها وجندها بأعظم دور في هذه الحملات العدوانية، والغزوات المخربة، وكان الخليفة وقادته يرون أن الاستيلاء على شنترين يلحق بالبرتغاليين وملكهم ألفونسو هنريكيز ضربة شديدة، ويقضي على أهم مراكز العدوان في البرتغال، ومن ثم كان اختيارها هدفاً للغزوة الموحدية الكبرى. ومما هو جدير بالذكر أن الخليفة أبا يعقوب، لم ينس خلال هذه المشاغل الحربية الطامية برنامج منشآته العظيمة بمدينة إشبيلية، وهو الذي بدأه حين إقامته الأولى بإشبيلية قبل ذلك بنحو خمسة عشر عاماً، بإنشاء المسجد الجامع والقصور الموحدية، وقنطرة طريانة. ومشاريع الري والسقاية، ذلك أنه أمر قبل تحركه إلى الغزو عامله أبا داود بلول بن جلداسن، أن يقوم خلال غيبته في الغزو، بإنشاء سور حصين على قصبة إشبيلية، يمر من مبدىء بنيانه أمام رحبة ابن خلدون داخل المدينة، وببناء صومعة للجامع في موقع اتصال السور بالجامع المذكور، وبناء دار صنعة للسفن تتصل من سور القصبة الذي على الوادي بباب القطائع، إلى الرحبة السفلى المتصلة بباب الكحل (¬1). وسوف نعود فيما بعد إلى التحدث عن مصير هذه المنشآت في موطنه المناسب. - 1 - في صبيحة يوم الخميس السادس والعشرين من شهر صفر سنة 580 هـ الموافق لليوم السابع من شهر يونيه سنة 1184 م، تحركت الجيوش الموحدية وعلى رأسها ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 170 أ.

الخليفة أبو يعقوب يوسف، من مدينة إشبيلية، نحو الشمال، بنفس الترتيب الذي سبق وصفه. وكان السير هيناً وئيداً، فوصلت بعد تسعة أيام إلى حصن العرجة (¬1) في طريق بطليوس، وهنالك تم اجتماع الجيوش الموحدية، وقد بدت في أكمل نظام، وأحسن زي، وتقلد الجند كامل أسلحتهم من السيوف والدروع والقسي وغيرها، ثم استأنفت الجيوش سيرها، حتى وصلت إلى مدينة بطليوس، فأمر الخليفة بالنزول في ظاهرها، وأن يجرى تمييز الجند، واستكملت الجيوش ما كان ينقصها من الزاد والميرة. وكان الوزير السابق إدريس بن جامع منفياً في بطليوس ومعه في المنفى أيضاً أبو زكريا بن حيون الكومي شيخ قبيلة كومية، فالتمسا إلى أمير المؤمنين حين مقدمه أن يأذن لهما بالاشتراك في الجهاد فأذن لهما. وكان الموقف بالنسبة للممالك النصرانية قد تغير قبل ذلك بأعوام، وانقطعت كل مهادنة بينها وبين الموحدين، وجنحت كلها إلى العدوان، وإلى غزو أراضي الأندلس كل من الناحية التي تليها، وذلك حسبما فصلناه من قبل. وكان فرناندو ملك ليون قد نبذ محالفة الموحدين حسبما تقدم، وحذا حذو زملائه في انتهاج هذه السياسة العدوانية، وعقد مع ملك قشتالة ألفونسو الثامن معاهدة تعهد فيها بأن يلتزم معاداة الموحدين، وألا يعود إلى محالفتهم قط، وقطع زميله ملك قشتالة على نفسه مثل هذا العهد (يونيه سنة 1183 م). وكان في الوقت الذي عبرت فيه الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، يقوم بغزوة جديدة لأراضي الأندلس، ويحاصر مدينة قاصرش (¬2) الواقعة شمال شرقي بطليوس على مقربة من نهر التاجُه، واستمر يحاصرها طول الشتاء حتى نهاية الربيع. وكان الخليفة الموحدي يعلم بأمر هذا التحالف الجديد بين قشتالة وليون. وكان الذائع بين الملوك النصارى أن الجيوش الموحدية الغازية، قد تغزو أي الممالك النصرانية، أعني قشتالة أو ليون أو البرتغال، إذ كانت جميعاً سواء في موقفها العدواني من الموحدين، وفي الإغارة على أراضي الأندلس. بل إن الرواية النصرانية، وبخاصة الرواية البرتغالية، تنسب إلى الخليفة الموحدي من غزوته هذه مشاريع أجل خطراً، وأبعد مدى، فتقول لنا إنه كان يبغي، بعد الاستيلاء على شنترين، أن يقوم بافتتاح مملكة البرتغال كلها شمالا حتى نهر دويرة، ثم يسير بعد ذلك إلى غزو مدينة طليطلة ¬_______ (¬1) وهو بالإسبانية Alanje. (¬2) وهي بالإسبانية Caceres.

حاضرة قشتالة (¬1)، وعلى أي حال فإن فرناندو ملك ليون، حينما علم بسير الجيوش الموحدية نحو بطليوس واقترابها بذلك من مواقعه، بادر برفع الحصار عن قاصرش، وعاد إلى حاضرته مدينة ردريجو، وأخذ يرقب سير الحوادث. وفي يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الأول غادر الخليفة في قواته مدينة بطليوس، وسار نحو الشمال الغربي مخترقاً الناحية اليسرى من وادي التاجُه، ثم أمر الجند الموحدين أن يتقدموا صوب شنترين، فعبروا نهر التاجُه بقيادة السيد أبي إسحاق والي إشبيلية، ثم تلاهم بقية الجند وعلى رأسهم الخليفة، ونزلت الجيوش الموحدية جميعها بالتل المرتفع المشرف على شنترين من ناحيتها الشرقية والجنوبية، وكان ذلك في يوم الأربعاء السادس عشر لربيع الأول سنة 580 هـ (27 يونيه سنة 1184 م) وفقاً لقول الرواية الإسلامية المعاصرة (¬2)، وتضع الرواية النصرانية مقدم الجيوش الموحدية إلى شنترين قبل ذلك بثلاثة أيام في اليوم الرابع والعشرين من يونيه وهو يوم القديس خوان (¬3). وتنوه معظم الروايات الإسلامية بضخامة هذا الجيش الموحدي، ووفرة حشوده (¬4)، ويقدم إلينا بعضها عن عدده أرقاماً مدهشة، فيقول لنا صاحب الروض المعطار إنه كان يضم أربعين ألفاً من أنجاد العرب الفرسان، ومن الموحدين والجنود والمطوعة وفرسان الأندلس ما ينيف على مائة ألف فارس (¬5)، وإذن فقد كان هذا الجيش الذي أعد لغزو البرتغال، وافتتاح شنترين أضخم من الجيش الذي سار من قبل عند جواز الخليفة الأول إلى الأندلس، إلى حصار وبذة، وتنوه الرواية النصرانية أيضاً بضخامة الجيش الموحدي، وذلك بما تذكره من أرقام خسائره، حسبما نشير إليه فيما بعد. وتقع مدينة شنترين، وقد أتيحت لنا زيارتها، في شمال شرقي أشبونة على ¬_______ (¬1) H. Miranda: Ibid, cit. Chronicon Lusitanum p. 292 (¬2) هذه هي رواية البيان المغرب، منقولة فيما يرجح عن ابن صاحب الصلاة، وكان مرافقاً للحملة (البيان المغرب القسم الثالث ص 133) ويضع صاحب روض القرطاس مقدم الموحدين إلى شنترين في السابع من ربيع الأول (ص 140). (¬3) راجع في ذلك H. Miranda: Ibid, p. 297 & 300 (¬4) راجع ما ينقله البيان المغرب في القسم الثالث عن القاضي أبي الحجاج يوسف بن عمر (ص 135) وكذلك ابن خلكان في الوفيات ج 2 ص 394. (¬5) الروض المعطار - صفة جزيرة الأندلس في مقاله عن " شنترين " ص 114.

قيد خمسين كيلومتراً منها، فوق ربوة مرتفعة تقع على الضفة اليمنى لنهر التاجُه، أمام حنية نصف دائرية. وقد كانت في العصر الذي نتحدث فيه من أمنع القواعد البرتغالية، وكانت في عهدها الإسلامي، نظراً لحصانة موقعها في منعطف النهر من المراكز الأمامية للمعارك المستمرة بين المسلمين والنصارى. وقد سقطت في أيدي النصارى لأول مرة في سنة 486 هـ (1093 م)، حينما استولى عليها ألفونسو السادس ملك قشتالة، ولكن المسلمين استردوها، واستمرت في حوزتهم عصراً آخر، ولما اشتد ساعد مملكة البرتغال الناشئة في عهد ملكها ألفونسو هنريكيز، وأخذ هذا الملك يغير على القواعد الإسلامية المجاورة، كانت شنترين وأشبونة من القواعد التي استولى عليها، وذلك في سنة 542 هـ (1147 م) حينما اضطربت شئون ولاية الغرب على أثر قيام الثورة ضد المرابطين وبقيتا بيد النصارى إلى ذلك الحين. وكان الموحدون يتوقون إلى استرداد هاتين القاعدتين الهامتين من قواعد ولاية الغرب. وهنالك في الواقع ما يدل على أن استرداد ثغر أشبونة كان من أهداف هذه الحملة الموحدية الكبرى بل ربما كان هو هدفها الرئيسي (¬1). ذلك أن الأسطول الموحدي، كان وقت عبور الخليفة إلى شبه الجزيرة، قد حشد عند مصب الوادي الكبير ومصب وادي يانه، وكان في نفس الوقت الذي اتجهت فيه الجيوش الموحدية صوب شنترين، يسير إلى مياه أشبونة، ثم يحاصرها (¬2). بيد أنه كان من الطبيعي أن يقوم الجيش الموحدي قبل السير إلى أشبونة، بالاستيلاء على شنترين، وهي حصن أشبونة من الشمال، وبذلك تؤمن مؤخرة الجيش الموحدي ضد أي هجوم يقوم به النصارى من تلك الناحية. ومن ثم فإنه ما كادت القوات الموحدية تصل إلى ظاهر شنترين، حتى أمر الخليفة بأن يتقدم الجند حتى أبواب المدينة، وأن يضربوا حولها الحصار، ونزل الموحدون في الربض الواقع في جنوبها الشرقي والممتد على طول النهر وضربت به قبة الخليفة، وكان البرتغاليون وعلى رأسهم ملكهم ألفونسو هنريكيز، قد احتشدوا داخل شنترين وقصبتها وجدوا في تحصينها، واتخذوا أعظم أهبة للدفاع عنها (¬3)، ¬_______ (¬1) راجع روض القرطاس ص 140. (¬2) الروض المعطار، صفة جزيرة الأندلس، ص 114. (¬3) المراكشي في المعجب ص 145.

خريطة: خط سير الجيش الموحدي والأسطول الموحّدي إلى غزوة شنترين. رسم: مواقع معركة شنترين سنة 580 هـ - 1184 م.

وكان المدافعون عن الربض الخارجي قد أقاموا حواجز يستطيعون الاعتصام بها، والدفاع منها. فاقتحم الموحدون الربض وهدموا أحياءه المتصلة بالسور، وهدموا الكنيستين اللتين به، وقتل كثير من المدافعين عنه، وارتد الباقون إلى القصبة، واعتقد القادة الموحدون أن السبيل ممهد لاقتحام المدينة وأخذها، وأعدت بالفعل السلالم اللازمة لاقتحام الأسوار. وفي يوم الجمعة 19 ربيع الأول 29 يونيه)، هاجم الموحدون الأسوار، واشتبكوا مع قوة من النصارى خرجت لقتالهم فهزموها وردوها صوب القصبة. وفي صبيحة اليوم التالي - السبت - تجدد القتال بين الموحدين وبين النصارى، واستمر القتال بين الفريقين حتى يوم الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول (2 يوليه). ونشبت بينهما خلال ذلك عدة معارك عنيفة. وتقدم إلينا الروايات النصرانية عن هذه المعارك صوراً مختلفة، ويقول بعضها إن المعارك لبثت تضطرم بين النصارى والموحدين في الربض الخارجي للمدينة خمسة أيام، وأن الموحدين بالرغم من خسائرهم لبثوا يجددون هجماتهم، حتى حطمت سائر الحواجز والتحصينات بالربض، وأضحى الموقف مستحيلا، واضطر النصارى إلى اللجوء إلى ناحية القصبة. وهذه الرواية تقترب في جملتها من أقوال الرواية الإسلامية. بيد أن بعض الروايات النصرانية تقدم إلينا مزاعم لا يستطيع أن يسيغها العقل، ولاسيما الرواية المنسوبة إلى الحبر الإنجليزي راؤول دي ديستو، وخلاصتها أن الموحدين وصلوا إلى شنترين في يوم القديس خوان، أعني في يوم 24 يونيه، وحاصروها، وأنهم بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال من القتال المستمر، نجحوا في اقتحام المدينة من ثلمة أحدثوها. ولكن وصل في اليوم التالي أسقف بورتو وابن الملك وقتلوا من الموحدين خمسة عشر ألفاً، وسدوا تلك الثلمة بجثثهم. وفي اليوم الذي يليه وصل أسقف شنت ياقب ومعه عشرون ألف مقاتل، وفي الفجر قتلوا ثلاثين ألفاً من الموحدين (¬1). بيد أنه وقفت في اليوم الختامي لهذه المعارك، وهو يوم الاثنين 21 ربيع الأول (2 يوليه) بالعسكر الموحدي مفاجأة مذهلة، وهي صدور أمر الخليفة بالكف عن القتال، وكان الأمر قد صدر في نفس الوقت بتحرك الجيش من موضع نزوله إلى موضع آخر، أو من شرقي شنترين إلى غربها وشمالها حسبما يقول صاحب ¬_______ (¬1) H. Miranda: Ibid ; C. R. de Diceto y Cronica de Alfonso Enriquez p. 297 & 300.

روض القرطاس. فعجب الناس لذلك، ولم يفقهوا له سبباً، بل إن في هذا التعليق ذاته ما ينم عن إنكار الشيوخ والقادة الموحدين لهذا الأمر الفجائي الذي لم يدرس، ولم تتضح مبرراته. فما الذي حدث في المعسكر الموحدي، وكيف ولِم وقع هذا التحول الفجائى في حركة الجيش الموحدي، ولمّا يمض على مقدمه إلى شنترين سوى ستة أيام؟ إن الرواية الإسلامية لا تقدم إلينا في هذا الموطن أي شرح واضح أو أي تعليل مقنع لهذا الارتداد الفجائي لجيش ضخم غازٍ يربى عدده على المائة ألف، عن مدينة مرهقة بالحصار وقد سقطت أرباضها في أيدي الغزاة، ولا تدافع عنها سوى حامية محلية، قد أنهكتها المعارك المتوالية مع الغزاة، ولجأت في النهاية إلى القصبة ترقب المصير المحتوم، ولم يقل لنا ابن صاحب الصلاة، وهو مرافق الحملة ومؤرخها، شيئاً سوى التعليق على أمر الارتحال بقوله: " فتعجب الناس من هذا الرأي في الانتقال والارتحال، وتعطلت في النفوس جميع الآمال، وظهر الخلل في جميع الأحوال ". ثم يقول إنه قد حدث في هذا اليوم -أي يوم صدور الأمر بالارتحال- على عسكر أهل مرسية حادث مروع، وذلك أنهم خرجوا للإغارة في بسائط النصارى، فخرجوا عليهم وهزموهم هزيمة شنيعة فارتدوا إلى المحلة منهزمين، " وبات الناس في المحلة على حذر، ومن الوجل في ألم وضرر " (¬1). ويقول لنا مؤرخ موحدي آخر كان مرافقاً للحملة أيضاً هو القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر، إن الخليفة أبا يعقوب حينما قصد مدينة شنترين أمنع بلاد ابن الرنك، وأكثرها أجناداً، وأقواها استعداداً، فزع النصارى وروعت نفوسهم لما رأوه من ضخامة الجيش الموحدي وتفوقه العظيم. وكان القصد محاصرة المدينة وإرهاقها، ثم يقول دون أي إيضاح آخر: " فلما استراءت من جهاتها الأنباء، وطال لغير طائل الثواء، عزم أمير المؤمنين على الارتحال، وترويح الجيوش والنفوس من السآمة والكلال، فأمر بالرحيل ليلا " (¬2). على أن مؤرخاً معاصراً آخر، ويعتبر كذلك من مؤرخي الموحدين، هو عبد الواحد المراكشي، يقدم إلينا عن هذا الارتداد للجيش الموحدي رواية، قد تبدد بعض هذا الغموض الذي يثيره صمت شاهد العيان، وهي أن أبا يعقوب حينما ¬_______ (¬1) نقله البيان المغرب - القسم الثالث ص 134 و 135. (¬2) نقله البيان المغرب - القسم الثالث ص 136.

حاصر شنترين وبالغ في التضييق عليها، وانتساف أقواتها، وقطع المؤونة والمدد عنها، لم يزد ذلك أهلها إلا حزماً في الدفاع، وجلداً في تحمل مشاق الحصار، فخشى الموحدون هجوم البرد، إذ كان الوقت آخر فصل الخريف، وخافوا أن يفيض النهر فلا يستطيعون عبوره، وتنقطع عنهم الأمداد، فأشاروا على أمير المؤمنين بالارتداد عن شنترين والرجوع إلى إشبيلية، فإذا تغيرت الظروف، عاد الموحدون إلى حصارها، وصوروا له أن الأمر هين، وأن المدينة تعتبر غنماً في يده لا يمنعه عنها مانع، فاستمع الخليفة إلى نصحهم، وقال نحن راحلون غداً إن شاء الله، ولم يقف أحد على هذا القول سوى الخاصة، وكان أول من قوض خباءه وأظهر الأخذ بأهبة الرحل، أبو الحسن علي بن عبد الله المعروف بالمالقي، وكان من أكابر البلاط الموحدي، ويوصف بخطيب الخلافة، فلما رأى الناس صنعه، حذوا حذوه لما يعلمونه من وقوفه على أسرار الدولة، وعبر النهر في تلك العشية أكثر العسكر، يريدون التقدم خشية الزحام، ولم يبق إلا من كان بقرب خباء أمير المؤمنين، وبات الناس يعبرون الليل كله، وأمير المؤمنين لا علم له بما حدث (¬1). وينقل ابن خلكان هذه الرواية بنصها وتفاصيلها في ترجمة الخليفة أبي يعقوب (¬2). ونلاحظ فيما يتعلق بهذه الرواية أن حصار شنترين لم يقع في أواخر الخريف، ولكنه وقع أواخر شهر يونيه سنة 1184 م، أعني في أوائل الصيف، وقد رأينا أن الحصار، وفقاً لرواية شاهد العيان، وكذلك وفقاً للرواية النصرانية، لم يدم سوى عدة أيام (¬3). وعلى ذلك فإن تعليل الارتداد باقتراب الشتاء، والخوف من فيضان النهر ليس بالتعليل المقنع، وإن كان على أي حال محاولة لتفسير تصرف الخليفة الموحدي. هذا، وهنالك محاولة أخرى من جانب الرواية الإسلامية لتفسير ما حدث في المعسكر الموحدي، هي رواية صاحب روض القرطاس، وهي أنه لما أمر أمير المؤمنين بانتقال الجيش من موضع نزوله إلى موضع آخر، أنكر الناس ذلك ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 145. (¬2) وفيات الأعيان ج 2 ص 494. (¬3) ذكر ابن الأثير في حوادث سنة 580 هـ، أن الخليفة أبا يعقوب حاصر شنترين مدة شهر (ج 11 ص 190). وينقل ابن خلكان هذه الرواية (ج 2 ص 492).

ولم يعلموا له سبباً، وأنه لما جن الليل، وفرغ الخليفة من صلاة العشاء، استدعى ولده السيد أبا إسحق والي إشبيلية، وأمره بالرحيل من تلك الليلة إلى غزو مدينة أشبونة وشن الغارة على أنحائها، وأن يسير لها بجيوش الأندلس خاصة، وأن يكون رحيله نهاراً، فأساء السيد أبو إسحق فهم أوامر الخليفة، وظن أنه أمره بالرحيل في جوف الليل إلى إشبيلية. يقول صاحب الروض: " وصرخ الشيطان في محلة المسلمين أن أمير المؤمنين قد عزم على الرحيل. وفي هذه الليلة تحدثت الناس بذلك، وتأهبوا له، فرحل من الناس طائفة بالليل. فلما كان قرب الفجر أقلع السيد أبو إسحق، وأقلع كل من كان يليه، وتابعه الناس بالرحيل، فارتحلوا وأمير المؤمنين مقيم في مكانه لا علم له بذلك " (¬1). على أن ما تقدمه إلينا الرواية النصرانية عن أسباب انسحاب الجيش الموحدي قد يفسر لنا ما وقع بطريقة أوضح، وأكثر اتفاقاً مع منطق الحوادث. ذلك أن الموحدين، بعد أن اشتبكوا مع البرتغاليين في ربض شنترين وسلسلة من المعارك الطاحنة استمرت بضعة أيام، واستولوا خلالها على أرض الربض وحطموا تحصيناته الخارجية، أدركوا أن المدينة من المناعة، وأن المدافعين عنها من الاستعداد والكثرة، بحيث يتعذر اقتحامها، ولابد لأخذها من الاعتماد على حصار طويل صارم. وفي أثناء ذلك وقع حادث كان له فيما يبدو تأثير حاسم في تطور الموقف. ذلك هو مقدم فرناندو الثاني ملك ليون وقواته. ونحن نذكر أنه لما تحرك الجيش الموحدي من إشبيلية، صوب بطليوس، كان فرناندو الثاني يحاصر مدينة قاصرش الواقعة شمال شرقي بطليوس محاولا الاستيلاء عليها، فلما وقف على حركة الجيش الموحدي، رفع الحصار عن قاصرش، وارتد إلى قاعدته القريبة مدينة ردريجو. ولما تعينت وجهة الجيش الموحدي بالسير إلى شنترين وحصارها، سار فرناندو في قواته صوب ميدان المعركة لإنجاد المدينة المحصورة، وذلك تنفيذاً للعهد الذي قطعه على نفسه بقتال الموحدين، وتقول الرواية النصرانية أيضاً إن ألفونسو ملك البرتغال كان متوجساً في البداية من مقدم فرناندو وجيشه، فلما علم أنه قادم لإنجاده وإنجاد إخوانه النصارى، اطمأنت نفسه وأيقن بالخلاص (¬2). ومن ثم فإنه يبدو أن تطور الحوادث على هذا النحو ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 140. (¬2) Primera Cronica General de Espana (Ed. Pidal) p. 676

هو الذي حمل الخليفة على اتخاذ قراره الفجائي، بالارتداد، خشية أن يعمل الليونيون على إعاقة عبوره النهر إلى الضفة اليسرى، ولاسيما بعد أن اقتنع بصعوبة الاستيلاء على شنترين. بيد أنه إذا كان هذا التعليل يلقى شيئاً على بواعث قرار الارتداد، فإنا لا نستطيع أن نفهم سر ذلك الاضطراب المروع الذي اقترن بتنفيذه. ومن المحقق أن الخليفة ومعاونيه كانوا يقصدون أن يكون الارتداد وفق خطة منظمة، تقي الجيش المنسحب كل اضطراب وكل عثار. وهذا ما يؤكده لنا القاضي أبو الحجاج يوسف بن عمر في روايته حين يقول " إن ثقات الخليفة تطوفوا أول الليل على الرؤوس والجموع، وأوعزوا إليهم، ترتيب التحرك وكيفية القلوع، وأن يكون كل قبيل من جهتهم ثابتين مرصدين حتى ترحل الحمولة والأثقال، وتتخلص إلى السعة من المضايق والأوحال " (¬1). بيد أن الذي حدث هو العكس تماماً. وهو الفوضى المروعة، والاختلال المطبق. يقول أبو الحجاج يوسف، وهو شاهد العيان: " فاضطرب إقلاع الناس اضطراباً شنيعاً، وكثر الضجيج، واختلاط الأصوات، وتهولت المحلات، وأخذ العموم على شتى المسالك، فلا ترى سميعاً ولا مطيعاً ". وكان أشنع ما في ذلك، هو ما حدث من غموض في فهم أوامر الخليفة، وتسرع في تنفيذها. ذلك أن كثيراً من الأشياخ ورؤساء القبائل فهموا أنه يجب الارتداد فوراً وفي جوف الليل، فهرعت طوائف غفيرة من الجند إلى الارتداد. وعبور النهر، ووقع الارتداد في مناظر مروعة من الاختلال والضجيج والفوضى. يقول الراوية شاهد العيان: " حضرت يوم هذا الإقلاع وليله، فما رأيته في تاريخ قبله، ولا يحصر واصف هوله "، وأقلع السيد أبو إسحاق ولد الخليفة نفسه في جنده عند الفجر قاصداً إشبيلية، واعتقد كثير أن الخليفة نفسه قد أقلع في السحر، واستمر عبور الجند على هذا النحو تباعاً، حتى عبر معظم الجيش، كل ذلك والخليفة غافل عما حدث. فلما أسفر الصبح، ظهرت الحقيقة المروعة، ولم يبق حول الخليفة الموحدي سوى الساقة، فعندئذ أمر الخليفة بضرب الطبول، فاجتمعت الفلول الباقية، وانحدر الخليفة صوب النهر، وبقى ابنه يعقوب المنصور مع بقية الساقة، في موضع المحلة مستعداً للقاء النصارى وردهم وحماية أبيه ومن معه. ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 136.

ولكن نصارى شنترين أدركوا عندئذ ما وقع في المعسكر الموحدي، من إقلاع وارتداد، فبادروا بالخروج من المدينة، وهجموا على القوات المنسحبة بشدة، وأدركوا ساقة الخليفة، ودافعت الفلول الموحدية بمنتهى البسالة، وسقط خلال ذلك عدد من أكابر الموحدين والأندلسيين، ووصل النصارى إلى مقر الخليفة نفسه بعدوة الوادي، وأصابه بعضهم بجراح خطيرة. وعلى أثر انتهاء المعركة أمر الخليفة بتفرق الجموع، ورجوع كل جندي إلى قبيلته، وأمر بتخريب الوادي، وانتساف زروعه، وقطع أشجاره وهدم ضياعه، وتغوير مائه، وحرق كل ما يمكن حرقه، كما أمر بتقسيم السرايا في نواحي الوادي لتحصيل الأقوات، وانتزاع السبي والغنائم. كل ذلك الخليفة الجريح ملتزم فراشه، ومن حوله أطباؤه ابن زهر وابن طفيل (¬1) وابن قاسم، وهو يزداد ضعفاً على ضعف، ثم أمر الخليفة بالرحيل، وهو محمول في محفة، حتى تم اجتياز وادي التاجُه، وما كاد الموكب يقطع بضعة أميال أخرى، حتى أسلم الخليفة الروح، وذلك في الثامن عشر لربيع الآخر سنة 580 هـ (29 يوليه سنة 1184 م) (¬2). تلك هي رواية القاضي أبي الحجاج يوسف بن عمر، المرافق للجيش المنسحب عن ظروف الارتداد وعن إصابة الخليفة أبي يعقوب يوسف ووفاته متأثراً بجراحه. بيد أن هناك رواية أخرى هي رواية المراكشي، وهو أيضاً معاصر، ومن مؤرخي الموحدين، وهي أنه لما رأى نصارى شنترين ما حدث من عبور الموحدين، وانصراف معظم الجيش المحاصر، ووقفوا على ما قرره الخليفة من الارتحال في بقية جيشه، خرجوا من المدينة في خيل كثيفة، وحملوا على المحلة الموحدية بشدة، حتى بلغوا قبة أمير المؤمنين، ودافعهم من حولها، وجلهم من أعيان الأندلس، حتى قتل كثير منهم، ونفذ النصارى إلى خباء الخليفة، فطعنه أحدهم تحت سرته طعنة توفي منها بعد أيام يسيرة، وتكاثر الموحدون على الروم حتى ردوهم، فانهزموا راجعين إلى المدينة، وعبر أمير المؤمنين النهر ¬_______ (¬1) وردت في النص "ابن مقبل " ولكنا نعتقد أن ذلك تحريف لاسم ابن طفيل طبيب الخليفة الخاص. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 137 و 138. وتضع معظم الروايات تاريخ وفاة الخليفة في شهر ربيع الآخر على خلاف في اليوم الذي توفي فيه. ولكن المراكشي ينفرد بالقول بأن الخليفة أبا يعقوب توفي في اليوم السابع من رجب سنة 580 هـ (أكتوبر سنة 1184 م) المعجب ص 147. ويجاريه في ذلك ابن خلكان. فيذكر نفس التاريخ (الوفيات ج 2 ص 494).

جريحاً في محفة، فلم يمض على ذلك يومان أو ثلاثة حتى توفي متأثراً بجراحه (¬1). وهنالك رواية أخرى مماثلة تقترب في جوهرها من رواية المراكشي، وهي رواية صاحب روض القرطاس، وهي أنه لما وقع ارتداد معظم الجيش الموحدي ليلا، وجاء الصبح، فلم يجد الخليفة حوله سوى اليسير من خاصته وحشمه الذين يرحلون لرحيله، وينزلون لنزوله، وقواد الأندلس لأنهم هم الذين كانوا يمشون أمام ساقته وخلف محلته، فلما أشرقت الشمس وشهد النصارى ما وقع من ارتحال المحلة الموحدية، وأنه لم يبق منها حول المدينة سوى قبة أمير المؤمنين وعبيده وحشمه وأهل دائرته، وتحققوا ذلك من جواسيسهم، فتحوا أبواب المدينة، وخرج جميع من فيها خرجة عنيفة وهم ينادون " الري. الري " (¬2) أعني الملك، فاقتحموا محلة العبيد، حتى وصلوا إلى خباء الخليفة، فمزقوه واقتحموه، فدافعهم الخليفة بسيفه حتى قتل منهم ستة رجال، فطعنه أحدهم طعنة نافذة، وقتل ثلاث من جواريه كن قد انصبن عليه حتى طعن، وسقط على الأرض، فتصايح الفرسان والعبيد والأجناد والموحدون وقواد الأندلس، واجتمع المسلمون فقاتلوا النصارى قتالا عنيفاً حتى ردوهم عن الخباء، ثم تابعوا قتالهم بشدة حتى هزموهم وردوهم إلى أبواب المدينة، وقتلوا منهم جموعاً غفيرة تقدر بما يزيد على عشرة آلاف، واستشهد من المسلمين جماعة. ثم ركب أمير المؤمنين، وقد أشرف على الموت، وارتحل الناس، ومات الخليفة خلال الطريق، وكانت وفاته في يوم السبت الثاني من ربيع الآخر سنة 580 هـ (13 يوليه سنة 1184 م) وذلك على مقربة من الجزيرة الخضراء في طريق جوازه إلى العدوة (¬3). ويؤيد هذه الرواية عن مصرع الخليفة أبي يعقوب متأثراً بجراحه، من المؤرخين المتأخرين، الوزير ابن الخطيب، حيث يقول لنا إن الخليفة توفي بظاهر شنترين من سهم أصابه في خبائه وهو محاصر لها، قضى عليه، وكتم موته. بيد أنه يضع تاريخ مصرعه في الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة 580 هـ ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 145 و 146، ونقل ابن خلكان هذه الرواية في وفيات الأعيان ج 2 ص 494. (¬2) " El Rey El Rey ". (¬3) روض القرطاس ص 140، 141.

وهو يوافق الثامن من أغسطس سنة 1184 م (¬1). ويوجد أخيراً رواية مفادها أن الخليفة أبا يعقوب لم يمت متأثراً بجراحه، ولكنه توفي من مرض لم تذكر لنا الرواية كنهه، وهذه هي رواية ابن الأثير، حيث يقول إن الخليفة حاصر شنترين شهراً، فأصابه مرض مات منه في ربيع الأول (580 هـ) وحمل تابوته إلى مدينة إشبيلية (¬2)، ويأخذ صاحب الروض المعطار بهذه الرواية فيقول لنا إن الخليفة، وهو مقيم على شنترين عرض له المرض الذي توفي منه، وأقام الرحل به مضطجعاً على فراشه، وضعفه يتزايد، إلى أن تُفقد في بعض أميال فوجد ميتاً وذلك في سنة 580 هـ (¬3). ويتردد ابن خلدون بين الروايتين، فيقول لنا إن الخليفة توفي من سهم أصابه في حومة القتال عندما اقتحم النصارى محلته أو أنه توفي من مرض أصابه (¬4). وكان الخليفة أبو يعقوب عند وفاته في السابعة والأربعين من عمره، إذ كان مولده، حسبما تقدم في سنة 533 هـ بتينملّل. وإنه ليبدو لنا إزاء اتفاق الروايات الموحدية المعاصرة، ومعها صاحب روض القرطاس وابن الخطيب، أن القول الراجح هو أن الخليفة أبا يعقوب قد أصيب في الموقعة التي نشبت بين النصارى وبين محلته، وأنه توفي متأثراً بجراحه. ومن الواضح أن وقوع مثل هذا الحادث ممكن ومعقول في مثل الظروف التي أحاطت بالجيش المنسحب، وفي غمرة الخلل الذي أصابه، والفوضى التي سادته. ولقد كان انسحاب الجيش الموحدي من أمام أسوار شنترين نكبة مؤلمة، تفوق في نتائجها الخطيرة المروعة، نكبة انسحابه من وبذة قبل ذلك باثنى عشر عاماً. ونستطيع هنا أن نستشف نفس الأسباب، ونفس وجوه الضعف التي انتابت الجيش الموحدي، وعصفت بتماسكه ونظامه، وجعلته بالرغم من ضخامته، ووفرة استعداده وعدته، أشبه بكتلة بشرية مفككة، لا تجمعها أية قيادة حازمة، ولا هدف مشترك، وفتت في قواه المعنوية، فانهارت لديه فكرة الجهاد التي حشد من أجلها، وأضحت كل طائفة من طوائفه تبحث فقط عن سلامتها، ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة في مخطوط الإسكوريال الذي سبقت الإشارة إليه لوحة 395 (¬2) ابن الأثير ج 11 ص 190. (¬3) الروض المعطار " صفة جزيرة الأندلس " ص 114. (¬4) ابن خلدون ج 6 ص 241، وكذلك نفح الطيب ج 2 ص 546.

وترقب أول فرصة للانسحاب. ومن الواضح أيضاً أن استئثار الخليفة بتوجيه حركات جيشه دون الاعتماد على رأي قواده، كان له أكبر الأثر فيما حدث من سوء فهم للأوامر الصادرة، بل ربما نستطيع أن نستشف من ذلك أثر الانشقاق وعصيان الأوامر الصادرة من الخليفة دون دراسة ودون تدبر، وقد كان منها الأمر بنقل مواقع الجيش الموحدي من شرقي وجنوب شنترين إلى الشمال والغرب، وهو أمر عارضه القواد الموحدون، لأنه يضع الجيش الموحدي في مواقع تعرضه لخطر التطويق، ثم أمر الانسحاب المفاجىء الذي استأثر الخليفة بإصداره، فكان نذيراً بكارثة الانسحاب المروع، وما اقترن به من شنيع الاضطراب والفوضى، وما انتهى الأمر إليه من فقد الاتصال بين الفرق المنسحبة، وبين حرس الخليفة وخاصته، وكانت النكبة المروعة، باقتحام محلة الخليفة وإصابته القاضية، أضف إلى ذلك كله ما كان يعانيه الجيش الموحدي من نقص في تمويناته، حتى اضطر حين الانسحاب أن يبحث عن أقواته بشن الغارات على الأراضي التي يخترقها خلال مسيره. وقد أثبت الخليفة أبو يعقوب وقواده بذلك كله، أنهم لم يتعلموا شيئاً من دروس حملة وبذة، ولم يحاولوا إصلاح جيوشهم، على ضوء ما تبين من وجوه النقص فيها، واستمر اعتمادهم في حشدها على التفوق العددي دون سواه. - 2 - لما توفي الخليفة أبو يعقوب متأثراً بجراحه بعد عبوره نهر التاجُه بقليل، محمولا على محفته حسبما تقدم، كتمت وفاته، وحمل كالعادة مسجياً في محفته، حتى نزل الركب خلال الطريق إلى إشبيلية، بعد موضع يسميه صاحب البيان المغرب " بحصن طرش " وهنالك ضربت أخبية الخليفة كالعادة، وأحدق الفتيان والخدمة بالقبة الخليفية وفقاً للرسوم المعتادة، وكان السيد يعقوب أبو يوسف ولد الخليفة هو الذي يدخل على أبيه منذ إصابته، ويخرج من لدنه، ويتصرف في الأمور باسمه (¬1)، فلما نزل الركب بالموضع المذكور، وتكامل وصول الناس، بعث السيد أبو زيد ابن الخليفة إلى إخوته الأكابر الموجودين مع الجيش، وإلى أكابر الموحدين، وأطلعهم على وفاة الخليفة، وكشف لهم عن جثمانه وهو مسجى في فراشه، وطلب إليهم مبايعة الأمير يعقوب أبي يوسف، فاستجابوا إليه، وتمت البيعة في مساء نفس اليوم. وفي اليوم التالي استؤنف السير، وكل شىء على ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 141.

حاله، واستمر كتمان وفاة الخليفة الراحل، بيد أنه كفن وأدرج في تابوت، حتى وصل الركب إلى إشبيلية، وذلك بعد نحو شهر من بداية انسحاب الجيش وعبوره لنهر التاجُه. واستراح أبو يوسف يعقوب بإشبيلية ثلاثة أيام، تلاحقت خلالها الحشود، ووصلت جموع العرب والموحدين وسائر الطوائف الأخرى، ونزلت في أكناف إشبيلية، ودعى الناس خاصتهم وعامتهم، لتقديم البيعة، وأعلنت وفاة الخليفة الراحل، وغصت القصبة بوجوه القوم من موحدين وغيرهم، وأخذت البيعة للخليفة الجديد مدى يومين هما وفقاً لقول صاحب البيان غرة وثاني جمادى الأولى (¬1) وأغدق الخليفة بهذه المناسبة صلاته على قرابته وأهل بيته، وخص أخاه السيد أبا زيد بهبة جليلة قدرها عشرة آلاف لما بذل في خدمته، وتنظيم بيعته. وقد تمت بيعة الخليفة أبي يوسف في هدوء وسلام، ودون أية معارضة، أولاً لأن أباه الخليفة الراحل أبا يعقوب كان قد خصه بولاية عهده أثناء حياته، وإن لم تقدم لنا الرواية تاريخ هذا التعيين (¬2)، وثانياً لأنه كان أكبر أولاده (¬3)، فكان هذا الاعتبار في ذاته مبرراً لتقديمه، وذلك خلافاً لما كان عليه أبوه الخليفة أبو يعقوب بن عبد المؤمن حيث قدم للخلافة مع وجود شقيقه الأكبر السيد أبي حفص، وذلك تتفيذاً لوصية أبيه. ولما كمل أمر البيعة، وشملت سائر أنحاء الأندلس، وسائر الطبقات، وتم تنظيم شئون الأندلس، دعا الخليفة في اليوم الرابع والعشرين من جمادى الأولى (2 سبتمبر سنة 1184 م) أشياخ الموحدين والعرب، وشيوخ الوفود من سائر القواعد، وأذن بالحركة وانقضاء الغزو، والتأهب للرحيل، وكتب بذلك لسائر البلاد والقبائل من المجاهدين والمسافرين، وقدم القائد أبو العباس الصقلي إلى ثغر طريف، في ثلاث عشرة سفينة لنقل الخليفة وخاصته وجيشه، وتقدمت سفينتان ¬_______ (¬1) وهذا التاريخ لا يتفق مع سير الأحداث والتواريخ السابقة. فقد كانت وفاة الخليفة وفقاً لنفس المؤرخ في 18 ربيع الثاني سنة 580 هـ، وقد استغرق وصول الجيش المنسحب مدى شهر. وإذاً فقد كان من المنطق أن تكون البيعة في نحو منتصف شهر جمادى الأولى لا في غرته (البيان المغرب القسم الثالث ص 138 و 142). (¬2) المعجب للمراكشي ص 147. (¬3) الحلل الموشية ص 120.

بالانتقال إلى رباط الفتح بمياه سلا. وفي فجر اليوم التالي، خرج أهل الأندلس إلى بحيرة الوادي في جموع حاشدة، وضربت قبة الخليفة على شاطىء النهر (الوادي الكبير)، ونظم الموكب الخليفي، يتقدمه المصحف الكريم، وسار الخليفة في ضحى اليوم، فنزل بقرية طريانة قبالة إشبيلية، ثم غادرها إلى شريش، تتبعه الجيوش، ثم إلى مدينة شذونة، أو مدينة ابن السليم (¬1)، حيث التقى بالسيد أبي زكريا ابن أخيه السيد أبي حفص قادماً من تلمسان مع أعيان عرب زغبة، ومعه سبعمائة جواد معونة لأهل الأندلس. وسار الخليفة بعد ذلك جنوباً صوب الشاطىء حتى وصل إلى الموضع المسمى بحجر الإيل (¬2)، وهي ربوة تقع على مقربة من طريف، وقد اجتمع الأسطول على طول الشاطىء، على قدم الأهبة لنقل الخليفة وجيشه، وفي اليوم السابع من جمادى الآخرة سنة 580 هـ (12 سبتمبر) ضربت قبة الخليفة، وقام أهل الأندلس بتحية الوداع، وكذلك ودع الخليفة إخوته الذين قدّمهم للولاية بالأندلس، وهم أبو إسحاق وأبو زيد وأبو يحيى. وفي ضحى نفس اليوم ركب الخليفة البحر، وأمام سفينته مصحف عثمان، ونزل بقصر مصمودة، أو القصر الصغير، قبالة ثغر طريف من البوغاز، واستراح هنالك ريثما تم جواز سائر الجيش. ثم غادر القصر إلى رباط الفتح، وهنالك تسمى لأول مرة بأمير المؤمنين، وكان منذ بيعته يكتفي بلقب " الأمير يعقوب "، وكتب في الحال بذلك إلى بلاد الأندلس. وتلقاه في الرباط، أبو عبد الله بن واجاج في وفود العرب وأهل فاس ومكناسة وعمالهم، وأقال إبراهيم بن إسماعيل من عمل فاس، وأمر سائر العمال بالمثول إلى الحضرة، وقام بدفن أبيه أمير المؤمنين أبي يعقوب مؤقتاً بدار الخليفة بالرباط، ثم نقل منها بعد ذلك ودفن بتينملل إلى جانب أبيه عبد المؤمن والمهدي ابن تومرت (¬3). وغادر الخليفة بعد ذلك رباط الفتح إلى حضرته مراكش (¬4). - 3 - كان الخليفة أبو يعقوب يوسف من أعظم خلفاء الدولة الموحدية، وبالرغم ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Medina Sidonia (¬2) وهي بالإسبانية La Pena del Cierro (¬3) روض القرطاس ص 141، والحلل الموشية ص 143. (¬4) البيان المغرب القسم الثالث ص 143.

من أنه لم يحقق في ميادين الحرب والسياسة نتائج عظيمة كالتي حققها أبوه الخليفة عبد المؤمن، وولده الخليفة يعقوب المنصور، فإنه يعتبر مع ذلك، ولاسيما من النواحي الإدارية والعمرانية، ثالث هؤلاء الخلفاء الثلاثة، الذين بلغت الدولة الموحدية في ظلهم أوج قوتها وعظمتها. وقد امتاز حكم الخليفة أبي يعقوب بالحزم، وتحري الحق والعدالة ومطاردة الظلم والبغي (¬1)، وترجع هذه النزعة إلى ما كان يتسم به هذا الخليفة من التقى والورع، ومن العلم والتبحر في العلوم الشرعية. وقد ظهرت هذه النزعة بصورة عملية، في غير مناسبة من أوامره وتصرفاته. وربما كانت رسالته التي وجهها إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة، وإلى سائر الطلبة الموحدين بالأندلس في سنة 561 هـ، بشأن وجوب تحري الدقة في تنفيذ الأحكام وتوقيع العقوبات، أبرز محاولة بذلها في هذا الشأن. وقد رأينا كيف عنى الخليفة في هذه الرسالة التي لخصنا محتوياتها فيما تقدم، بإصدار أمره إلى الموحدين بألاّ يُقضى بحكم الإعدام إلا بعد أن ترفع النازلة إلى الخليفة مشفوعة بالشرح وأقوال الشهود والعدول، وأن تكتب أقوال المظلومين وحججهم، وإقرارهم واعترافهم، وأن يدقق في الجرائم التي دون القتل، وكذا في سائر المعاملات والأموال، واستحقاقها، وفي الرقاب وعتقها وغير ذلك. وكان الخليفة إلى جانب هذه المحاولات الشرعية، يقوم بمطاردة الظلم والعمال الظلمة، فإذا وقف على ما يرتكبه بعضهم من ظلم أو عسف أو اغتيال أموال الناس بالباطل، عزله ونكبه. وكان من أبرز ما فعله في ذلك بطشه بعمال مدينة فاس وملحقاتها، والتنكيل بهم، ومصادرة دورهم وأموالهم (¬2)، وما قام به في جوازه الأول إلى الأندلس من نكبة بعض عمال إشبيلية والمخزن من المختلسين وغيرهم، وما قام به بعد ذلك من نكبة عماله ووزرائه بني جامع الذين استأثروا بالوزارة دهراً، وغير ذلك مما أشرنا إليه. وإلى جانب هذه النزعة إلى تحقيق العدالة، كان حكم أبي يعقوب متسماً بالمقدرة والحزم، فقد كان خبيراً بشئون مملكته، عارفاً بسياسة رعيته، دؤوباً ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 46 ب. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 131.

على النظر في الأمور، وكان عارفاً بالشئون المالية، ضابطاً لخراج مملكته (¬1)، وربما كانت هذه المقدرة في فهم الشئون وتدبيرها راجعة بالأخص إلى ممارسته إياها ردحاً من الزمن قبل توليه الخلافة أيام أن كان والياً لإشبيلية، وقائماً بشئون الأندلس. وقد تجلى هذا الحزم في حكم أبي يعقوب في شدة عنايته بقمع أية نزعة إلى الخروج والعصيان، والسير بنفسه إلى مقاتلة الخوارج، وذلك كما حدث عند فتنة غمارة، ثم فتنة صنهاجة، وحين ثورة قفصة، وغيرها مما سبق أن فصلناه في مواضعه. والخلة الثانية التي امتاز بها الخليفة أبو يعقوب يوسف، هي شغفه بالجهاد في سبيل الله، وقد ظهر أثر هذا الشغف بالجهاد من الناحية النظرية فيما ألفه أبو يعقوب في فضل الجهاد، مما نذكره بعد؛ وظهر من الناحية العملية في عنايته بحشد الجيوش العظيمة وتمويلها، ثم قيادتها في حملتيه العظيمتين إلى شبه الجزيرة الأندلسية. وبالرغم من أن الخليفة أبا يعقوب لم يكن موفقاً في حملتيه المذكورتين، وقد سجل فشله الأول تحت أسوار وبذة، ثم سجل فشله الثاني أمام أسوار شنترين، وبالرغم من أن الحملتين لم تكونا بعيدتين عن تحقيق الأغراض العسكرية والإقليمية، فإن مقصد الجهاد كان هو النزعة المسيرة لهما، وقد ذهب الخليفة ضحية هذه النزعة واستشهد في ميدان الجهاد. وكان أبو يعقوب إلى جانب ذلك ملكاً عظيماً " شديد الملوكية " على حد قول المؤرخ، بعيد الهمة، وافر البذل والجود، عمت صلاته وأعطيته سائر الطوائف. ويصفه ابن الخطيب بأنه كان " آية الموحدين في الإعطاء والمواساة، وفي أيامه ساد الرخاء واستغنى الناس، وكثرت في أيديهم الأموال " (¬2). على أن ألمع وأعظم خلة كان يتسم بها أبو يعقوب، هو علمه وأدبه، وقد أفاضت الروايات المعاصرة واللاحقة في التنويه بمواهبه العلمية والأدبية، ويجمل ابن صاحب الصلاة وهو المؤرخ المعاصر، العارف بشخص أبي يعقوب وخلاله، مواهبه العلمية، في تلك الفقرة: " كان الأمير أبو يعقوب يوسف رضي الله عنه كاملا فاضلا عدلا ورعاً جَزْلا مستظهراً للقرآن، حافظاً له، عالماً بالحديث، ¬_______ (¬1) ابن خلكان ج 2 ص 490. (¬2) المعجب ص 133، وابن الخطيب في الإحاطة مخطوط الإسكوريال لوحة 395.

متقناً للعلوم الشرعية والأصولية، متقدماً في علم الإمام المهدي رضي الله عنه " (¬1). على أن ما يجمله ابن صاحب الصلاة في تلك الكلمات القليلة، يفصله لنا المراكشي بإفاضة في حديثه عن أبي يعقوب. وقد عاش المراكشي قريباً من عصر أبي يعقوب، وكانت تربطه بعدة من أبنائه مثل أبي زكريا يحيى، وأبي عبد الله محمد، وأبي إبراهيم إسحق، روابط وثيقة. يقول المراكشي إن أبا يعقوب كان " أعرف الناس كيف تكلمت العرب، وأحفظهم بأيامها ومآثرها وجميع أخبارها، في الجاهلية والإسلام ". ثم يقول: " إنه كان أحسن الناس ألفاظاً بالقرآن، وأسرعهم نفوذ خاطر في غامض مسائل النحو، وأحفظهم للغة العربية " (¬2). ويجب لكي نقدر روعة هذه الصفات في أبي يعقوب، أن نذكر أولا أنه كان بأرومته من صميم أصول البربر، وذلك سواء من ناحية أبيه أو ناحية أمه، وقد ولد ونشأ بتينملل عاصمة المهدي، في بيئة بربرية محضة، ولكن يجب أن نذكر إلى جانب ذلك أن أبا يعقوب كانت تحمله نفس الروح العلمية التي امتاز بها أبوه الخليفة العالم عبد المؤمن بن علي، ثم يجب أن نذكر أيضاً أن أبا يعقوب قضى زهرة فتوته في إشبيلية مذ عينه أبوه والياً لها في سنة 551 هـ، وهو في نحو الثامنة عشرة من عمره، حتى وفاة أبيه في سنة 558 هـ، حينما استدعى لتولي الخلافة من بعده. ففي هذه الأعوام الثمانية التي قضاها أبو يعقوب في المدينة الأندلسية العظيمة، التي كانت قد غدت منذ اضمحلال قرطبة عاصمة الأندلس الفكرية، تفتحت مواهب أبي يعقوب العلمية والأدبية، وقد كانت إشبيلية يومئذ مجمع أقطاب اللغة والعلوم الدينية، وكان أبو يعقوب منذ حداثته حافظاً للقرآن متمكناً من الحديث، حتى قيل إنه كان يحفظ صحيح البخاري. وكان في نفس الوقت بارعاً في الفقه، وفي إشبيلية تلقى علوم اللغة عن بعض أقطابها، وفي مقدمتهم العلامة اللغوى أبو إسحق إبراهيم بن عبد الملك المعروف بابن ملكون، وبرع في النحو والأدب. ولما ولي الخلافة، وعاد إلى إشبيلية في جوازه الأول إلى الأندلس، واستطالت إقامته بها زهاء خمسة أعوام أخرى، تجلت في هذه الفترة روعة مواهبه العلمية، وجنح إلى دراسة الفلسفة والطب، واجتمع حوله يومئذ ثلاثة من أعظم ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 46 ب. (¬2) راجع المعجب ص 132 و 133.

أئمة التفكير الإسلامي، هم طبيبه الخاص، الفيلسوف العلامة أبو بكر بن طفيل الوادي آشي، وتلميذه القاضي الفيلسوف أبو الوليد بن رشد (¬1)، والطبيب العبقري أبو بكر بن عبد الملك بن زهر. وكان الخليفة يشغف بالأخص بملازمة صديقه وطبيبه ابن طفيل، ولا يصبر على فراقه. وهكذا أتيح لأبي يعقوب أن يطلق العنان لشغفه بالدراسات الفلسفية في ظل هذا الأفق العلمي الباهر، ويبدو مما يذكره لنا المراكشي، عن بعض مجالس الخليفة الفلسفية نقلا عما رواه له أبو بكر ابن يحيى القرطبي عن أستاذه ابن رشد، أن الخليفة كان يأخذ من الفلسفة بقسط ملحوظ، ويبدي في شرح مسائلها " غزارة حفظ " تدعو إلى الإعجاب. ويضيف القرطبي إلى ذلك رواية أخرى مفادها أن أبا يعقوب هو الذي أوعز إلى ابن طفيل بوجوب عمل تلخيص جديد لشروح أرسطو وتقريب أغراضها وتحرير تراجمها مما يشوبها من الغموض، وأن ابن طفيل هو الذي اختار تلميذه ابن رشد للقيام بهذه المهمة لما يعلمه من مقدرته وقوة نزوعه وصفاء قريحته، وأن هذا هو الذي حمل ابن رشد حسبما يقول لنا، على القيام بتلخيص شروح أرسطو، وهي الشروح التي اشتهر بها ابن رشد، وترجمت فيما بعد إلى اللاتينية، وأذاعت شهرة الفيلسوف المسلم في دوائر التفكير الغربي. وكان ابن طفيل يقوم بمهمة السفارة بين الخليفة وبين العلماء، ويدعوهم إليه من مختلف القواعد والأقطار، وينبه على أقدارهم لديه، ويحضه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نوه بفضل ابن رشد وبراعته (¬2). وحمل الخليفة أبو يعقوب شغفه بالدراسات الفلسفية على الاهتمام بجميع كتبها، والتنقيب عنها، وعن غيرها من الكتب الجليلة، في سائر أنحاء المغرب والأندلس، وبذل في ذلك جهوداً وأموالا جمة، واجتمع له منها مقادير ضخمة قيل إنها بلغت قرب ما كانت تبلغه المكتبة الأموية العظيمة أيام الحكم المستنصر. ويروي لنا المراكشي طرفاً من هذه الجهود، وكيف وقع عمال الخليفة على مجموعات عظيمة من كتب الطب والفلك كانت لدى رجل بإشبيلية يعرف بأبي الحجاج المراني، وأن هذه الكتب كانت قد وقعت إلى أبيه أيام الفتنة بالأندلس (¬3). ¬_______ (¬1) كان ابن رشد قاضياً لإشبيلية منذ سنة 565 هـ. (¬2) راجع المراكشي في المعجب ص 136. (¬3) المعجب ص 133 و 134.

وقد انتهى إلينا من آثار الخليفة أبي يعقوب العلمية، بحث ديني يكشف لنا عن براعته في علم الحديث والعلوم الشرعية، وهو كتاب " الجهاد " الذي ألحق بكتاب المهدي ابن تومرت أو كتاب " أعز ما يطلب " وفيه يورد مؤلفه طائفة كبيرة من الأحاديث التي وردت في فضل الجهاد في سبيل الله، والحث عليه، وتبيان محاسنه. ويلحق بذلك الكلام عن الجهاد ببذل المال وما ورد فيه أيضاً من الأحاديث وما يتسم به من الفضائل. ويحمل هذا الكتاب في خاتمته اسم مؤلفه، وهو الخليفة أمير المؤمنين، وتاريخ الانتهاء من وضعه، وهو العشر الأواخر من شعبان سنة تسع وسبعين وخمسمائة أعني قبيل وفاة واضعه بنحو تسعة أشهر (¬1). وكان الخليفة أبو يعقوب كلفاً بالمشاريع الإنشائية العظيمة، وقد قام بإنشاء طائفة من المنشآت العمرانية الهامة، والصروح الجليلة، التي خلدت اسمه، وجعلته في مقدمة خلفاء الموحدين، بل وفي مقدمة ملوك المغرب قاطبة في هذا الميدان. ويكفى أن نذكر هنا ما قام به في إشبيلية حاضرة الأندلس، من المشاريع والمنشآت العظيمة مثل قنطرة طريانة، ومسجد إشبيلية الجامع، وصومعته العظيمة التي أتمها ولده يعقوب المنصور، ومشروع إمداد إشبيلية بالماء، وتجديد أسوارها التي خربها السيل، وإنشاء القصور والبساتين الموحدية العظيمة خارج إشبيلية، وإنشاء قصبة بطليوس العظيمة وإمدادها بالماء، وهي التي ما زالت أطلالها القائمة تنبىء عما كانت عليه من الضخامة والمنعة. وما قام به أخيراً من توسيع حضرة مراكش وتجميلها، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في مواضعه. ... وتولى الحجابة لأبي يعقوب أول ولايته، شقيقه وكبيره السيد أبو حفص، ولما تنحى عنها وزر له أبو العلاء إدريس بن إبراهيم بن جامع، واستمر في منصبه نحو خمسة عشر عاماً. ولما اشتد طغيانه، وبدت مثالبه، نكبه أبو يعقوب واستصفى أمواله، ونفاه مع ولده إلى الأندلس سنة 573 هـ. فخلفه في الوزارة أبو بكر ابن يوسف الكومي، ليعمل تحت رياسة ولده وولى عهده أبي يوسف يعقوب، واستمر الأمر كذلك حتى وفاة أبي يعقوب وقيام ولده يعقوب بالأمر من بعده (¬2). ¬_______ (¬1) راجع فصل الجهاد في كتاب المهدي ابن تومرت ص 377 - 400. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 140، وابن الخطيب في الإحاطة في ترجمة الخليفة أبي يعقوب، مخطوط الإسكوريال لوحة 395.

وتولى القضاء في عهده أبو محمد المالقي، ثم عزل وولى بعده عيسى بن عمران التازي التسولي، وكان عالماً متمكناً، وأديباً نابهاً، وشاعراً مجيداً، وخطيباً بليغاً، وكان يخطب عن الوفود وفي المناسبات الهامة، وكانت له مكانة رفيعة في البلاط الموحدي. ثم ولى القضاء من بعده حجاج بن يوسف. ثم أبو جعفر أحمد بن مضاء من أهل قرطبة. واستمر في منصبه حتى وفاة أبي يعقوب، ومن بعده فترة أخرى في أوائل عهد ولده يعقوب المنصور. وتولى الكتابة لأبي يعقوب أبو الحسن بن عياش القرطبي كاتب أبيه من قبل. وكان هذا الكاتب الأندلسي، قد فر من بلده قرطبة عند قيام الثورة بها في أواخر العهد المرابطي، ولجأ إلى إشبيلية، واتصل بالسيد أبي حفص بن عبد المؤمن فاختاره لكتابته، ثم صحبه معه إلى تلمسان، ولم يزل متولياً كتابته حتى نكبة الخليفة عبد المؤمن لوزيره ابن عطية، فاستدعاه الخليفة وعينه لكتابته. ولبث ابن عياش كاتباً للخليفة أبي يعقوب حتى توفي في سنة 568 هـ، وكتب لأبي يعقوب أيضاً أبو القاسم القالمي، وتلميذه أبو الفضل طاهر بن محشرة وهو من أهل بجاية، وأبو الحسين الهوزني الإشبيلي، وأبو عبد الرحمن الطوسي. وفي مجموعة الرسائل الموحدية، رسائل عديدة بقلم ابن عياش وزميله ابن محشرة تدلى بما كان لهذين الكاتبين من مقدرة راسخة في أساليب البيان (¬1). وترك أبو يعقوب من البنين ثمانية عشر، وهم ولي عهده يعقوب المنصور وشقيقه إسحق، ويحيى، وإبراهيم، وعبد العزيز، وإدريس، وأبو بكر، وعبد الله، وأحمد، ويحيى الصغير، ومحمد، وعمر، وعبد الواحد، وعبد الحق، وطلحة وعبد الرحمن، وموسى، وعثمان. كما ترك عدة من البنات. وأما عن شخصه، فقد كان أبو يعقوب أبيض اللون مشرباً بالحمرة، فاحم الشعر، مستدير الوجه، أعين، إلى الطول أقرب، وكان جهير الصوت، طيب المجالسة، فصيح العبارة، حلو الألفاظ، رقيق الخلال (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 140، والمراكشي في المعجب ص 137، وابن الخطيب في الإحاطة مخطوط الإسكوريال السابق ذكره لوحة 395. (¬2) المراكشي في المعجب ص 132. وقد عاش المراكشي قريباً من عصر الخليفة أبي يعقوب وكانت له صلة وثيقة ببعض أبنائه.

الكتاب السابع عصر الخليفة يعقوب المنصور حتى موقعة العقاب

الكِتابُ السابع عصْر الخليفة يعقوبْ المنصُور حَتى مَوقعَة العِقابْ

الفصل الأول عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بنى غانية

الفصل الأوّل عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بني غانية الخليفة أبو يوسف يعقوب. رواية في معارضة بيعته. اهتمامه بمطاردة الفساد والمنكر. حظره لبس الثياب الحريرية. عنايته بتحقيق العدل وقمع الظلم. جلوسه للنظر في المظالم. إنشاؤه لضاحية الصالحة الملوكية. مضاعفته لوزن الدينار. بداية عدوان بني غانية بإفريقية، فتح المرابطين للجزائر الشرقية. ولاية وانور اللمتوني عليها. ولاية محمد بن غانية. استقلاله بعد سقوط المرابطين بحكم الجزائر. وفاته وولاية ولده إسحاق. الجزائر تغدو مثوى لبقايا المرابطين. تقدم الجزائر ونمو قوتها. غزوات سفنها لشواطىء الدول النصرانية. عقد التهادن بينها وبين بيزة وجنوة والبندقية. اطمئنانها أيام حكم ابن مردنيش. تحولها إلى مصانعة الموحدين بعد وفاته. اهتمام الموحدين بأمر الجزائر. مطالبتهم لإسحاق الاعتراف بالطاعة. وفاة إسحاق وولاية ولده محمد. مقدم على الربرتير سفير الخليفة إلى الجزائر. اعتراف محمد بطاعة الخليفة. خروج إخوته عليه واعتقالهم إياه. حجزهم لسفير الخليفة ورفضهم لطاعة الموحدين. خطتهم لمحاربة الموحدين في إفريقية. تدبيرهم لغزو بجاية. مسير على بن إسحاق إليها في حملة بحرية. اقتحامه إياها بمواطأة بعض أهلها. نزوله بها ودعوته لبني العباس. تعيينه لأخيه يحيى والياً لها. مطاردته لواليها الموحدي السيد أبي الربيع. هزيمة السيد وفراره. استيلاء على على الجزائر ومليانة وأشير والقلعة. وصف لمدينة مليانة. عوده إلى بجاية وانتهابه ما فيها. مسيره إلى قسنطينة ورده عنها. اهتمام الخليفة المنصور بتلك الحوادث. إرساله جيشاً إلى إفريقية بقيادة السيد أبي زيد. تسييره للأسطول في نفس الوقت. ثورة المدن المحتلة ضد الغزاة. استيلاء الأسطول الموحدي على مدينة الجزائر. القبض على يحيى بن غانية وعلى حاكم مليانة المرابطي. الثورة داخل بجاية. دخول الموحدين إياها. فرار يحيى بن غانية وإخوته. أسر رشيد قائد سفن الميارقة والاستيلاء عليها. فشل علي بن إسحاق في اقتحام قسنطينة. فراره وإخوته وفلوله إلى الصحراء. مطاردته وعجز الموحدين عن إدراكه. فراره إلى بلاد الجريد ونهبه لمحلاتها. استمالته لطوائف العرب. اقتحامه لمدينة توزر ونهبها. الفوضى في بجاية. اقتحام غزى الصنهاجي قائد ابن غانية لأشير. قدوم الموحدين لإنجادها ونجاحهم في استردادها. مصرع غزى وأخيه. مقتل رشيد الرومي. مقتل وتشريد أنصار بني غانية في بجاية. زحف على بن غانية على قفصة واستيلاؤه عليها. دعوته للخليفة العباسي. استمالته لطوائف العرب. تحالفه مع قراقوش الأرمني. كيف نزح قراقوش وصحبه الترك إلى المغرب. افتتاحه لفزان وطرابلس. التفاف العرب حوله. تطور الحوادث في الجزائر الشرقية. مؤامرة الربرتير لخلع طلحة بن إسحاق وإعادة أخيه محمد. نجاح المؤامرة. دعوة الربرتير للخليفة الموحدي. مغادرته لميورقة. محاولة الموحدين تملك الجزائر. فشل هذه المحاولة. ثورة أهل ميورقة على محمد. مقدم عبد الله بن غانية. انتزاعه الولاية ونفيه لمحمد. محاولة أخرى للموحدين لافتتاح الجزائر. فشلهم في أخذ ميورقة. تفاقم أمر على بن غانية بإفريقية. تحالفه مع قراقوش وطوائف العرب. انضواؤه تحت لواء الخلافة العباسية. يبسط حكم الإرهاب

على إفريقية. اهتمام الخليفة يعقوب بذلك. تجهيزه لجيش موحدي. مسيره في قواته إلى رباط الفتح ثم إلى فاس. عنايته بالشئون خلال مسيره. مسيره إلى قسنطينة ثم إلى تونس. استعداد ابن غانية وحلفائه. الخليفة يرسل حملة لقتاله بقيادة السيد أبي يوسف. اللقاء بين الموحدين والميارقة وحلفائهم قرب قفصة. موقعة عمرة. هزيمة الموحدين ومصرع أكثرهم. الاستيلاء على محلتهم. فرار السيد أبي يوسف وفلوله. اهتمام الخليفة لتلك النكبة. خروجه في قواته من تونس. مسيره صوب القيروان. إنذاره لابن غانية. مسيره إلى الحمة قرب قابس. مقدم ابن غانية وحلفائه. مهاجمة الموحدين للعرب حلفاء ابن غانية. تخاذلهم وتبددهم. مهاجمة الموحدين للميارقة والترك. المعركة الدموية. هزيمة الميارقة. فرار ابن غانية وقراقوش إلى الصحراء. استيلاء المنصور على قابس وبلاد الجريد. محاصرته لقفصة وتسليمها بالأمان. القبض على قادة الغز وإعدامهم. توحيد قراقوش وابن زيان. عودة المنصور إلى تونس. مسيره إلى تلمسان ثم إلى مكناسة. تآمر أخيه الرشيد وعمه سليمان ضده. نكوصهما ومسيرهما لمقابلة الخليفة. القبض عليهما وإعدامهما. دخول الخليفة إلى الحضرة. اهتمامه بشئون الأندلس واستعداده للجهاد. استعرضنا فيما تقدم مجمل الحوادث التي وقعت عقب نكبة شنترين ومصرع الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وما تم من مراحل بيعة الخليفة أبي يوسف يعقوب ولد الخليفة الراحل، وعبوره من الأندلس إلى العدوة عائداً إلى حضرة مراكش. وكان الخليفة الجديد في نحو الخامسة والعشرين من عمره، إذ كان مولده بمدينة قصر عبد الكريم أو القصر الكبير أواخر شهر ذي الحجة سنة 554 هـ (يناير سنة 1160) أو في سنة 555 هـ على قول آخر. وأمه أم ولد كان قد أهداها سيدراي بن وزير صاحب شلب لأبيه الخليفة أبي يعقوب (¬1). لقبه المنصور بفضل الله، أسبغته عليه انتصاراته المتوالية ولاسيما في معركة الأرك العظيمة. وقد رأينا كيف تمت بيعته الخاصة عقب وفاة أبيه، بمحلة الجيش المنسحب، وهو في طريقه إلى إشبيلية، ثم تأيدت بعد ذلك بيعته العامة بإشبيلية، ولم تلق هذه البيعة يومئذ معارضة من أحد. ولكن صاحب المعجب، يقول لنا إنه كان له من إخوته وعمومته منافسون لا يرونه أهلا للإمارة لما كانوا يعرفون من سوء سيرته في صباه، وأنه لقى منهم شدة. بيد أنه لما نزل خلال عودته بسلا، استجاب لبيعته من كان قد تخلف من أعمامه بني عبد المؤمن، بعدما أغدق عليهم الأموال والإقطاعات الواسعة (¬2). ¬_______ (¬1) البيذق في أخبار المهدي ابن تومرت ص 116، والبيان المغرب القسم الثالث ص 14، وروض القرطاس ص 143، وتاريخ الدولتين للزركشي ص 10. (¬2) المراكشي في المعجب ص 150.

وبدأ الخليفة يعقوب عهده بعمل خير مشكور، فأخرج من بيت المال مائة ألف دينار من الذهب، فرقت في أسر الفقراء والضعفاء في سائر أنحاء المغرب، وأمر بتسريح المسجونين (¬1). ثم نشط إلى مطاردة مظاهر الفساد التي بدت بالحاضرة الموحدية على أثر عودته، وكان الناس قد انغمسوا، في الدعة، وانهمكوا في ضروب اللهو والملاذ، وراجت سوق الخمور والقيان والغانيات، فأريقت الخمور في كل مكان، ونفذت الأوامر بذلك إلى سائر الجهات، وأنذر المخالفون بعقاب الموت، وطاردت الشرطة كل مستهتر، وألقت القبض على من وجد من المغنين، فتفرقوا في كل مكان، ولاذوا بالنكيرة والاختفاء، واختفى القيان، وزهد الناس في مجالسهن، وبعث الخليفة بهذه المناسبة إلى إشبيلية، حاضرة الأندلس الموحدية، برسالة إلى الطلبة والموحدين والأشياخ مؤرخة في عقب رمضان سنة 580 هـ يأمر فيها بمطاردة شراب الرُّب، وهو مسكر ذائع، وقطعه جملة، ومنع بيعه وإغلاق حوانيته، وإراقة ما يوجد منه، وتوقيع أشد العقاب على من يقتنيه، وبأن تنفذ هذه الرسالة إلى كافة الجهات للعمل بما فيها (¬2). وأمر الخليفة كذلك بمنع الثياب الحريرية الغالية، والاجتزاء منها بالرمم الرقيق، ومنع النساء من لبس الثياب الحفيلة، والاقتصار على الساذج القليل، وأخرج ما كان في المخازن من ضروب ثياب الحرير والديباج المذهب، فبيعت منه مقادير وفيرة بأثمان باهظة. وهكذا هبت على العاصمة الموحدية ريح من الاقتصار والتواضع والتقشف، واختفى كثير من ضروب الفساد التي كانت ذائعة بها (¬3). وعنى الخليفة في نفس الوقت بالعمل على بسط العدل وتأييده ورد المظالم التي وقعت أيام أبيه، ومطاردة الظلم والعمال الظلمة، فنفذت كتبه إلى سائر الولاة والعمال بمراعاة العدل، وتأنيس الرعية، والعمل على إرضائهم في اقتضاء حقوقهم، وكف الظلمة عن إرهاقهم، وإباحة جواز البحر إلى المشتكين والمتظلمين من شبه الجزيرة. فاستبشر الناس بالعهد الجديد وطوالعه، وأملوا تحقيق العدل والخير. ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 143. (¬2) الرسالة الثامنة والعشرون من الرسائل الموحدية (ص 164 - 167). (¬3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 143، و 144، و 145.

ورأى الخليفة أن يقرن هذا التوجيه إلى تحقيق العدالة، بأن يجلس للنظر بنفسه في المظالم وإجراء العدل، واتخذ مجلسه لذلك الغرض بالمسجد الجامع المجاور لقصر الحجر القديم، وكان بدأ جلوسه في غرة شهر رجب سنة 580 هـ، وكان يداوم جلوسه منذ الضحى إلى قرب الزوال. ويفد إليه المتظلمون من كل ضرب، فيؤنسهم برفقه ولينه، ويستمع إلى ظلاماتهم، وكثرت دعاوى المدعين من السوقة والتجار، قبل السادة والأشياخ والأكابر، بطلب الحقوق والأموال، وكثر في ذلك الزور والتدليس، فكان يقع الصلح في معظم الأحوال بما يرضي المدعين دفعاً للفضيحة، فلما تمادى هذا الأمر، وكثر وفود السفلة والغوغاء وانكشف أمرهم، وبدا تحاملهم، قطع الخليفة جلوسه للعامة، وأسدل الستار على هذا السيل من الإفك والبهتان (¬1). وفي العام التالي، اعتزم الخليفة أن ينشىء ضاحية ملوكية تتفق مع روعة الملك ومقتضياته، وذلك بعد أن ضاق قصر الحجر القديم - قصر على بن يوسف - وملحقاته، عن استيعاب الأغراض الخليفية، ومطالب البلاط والحاشية، فاختطت ضاحية الصالحة، على رقعة مستطيلة تمتد في جنوبي مراكش، ما بين باب أغمات شرقاً وباب الشريعة غرباً. وكان البدء في إنشائها في مستهل شهر رجب سنة 581 هـ (28 سبتمبر سنة 1185 م) وحشد لبنائها رهط من المهندسين والعرفاء، وآلاف من العمال والبنائين والفنانين، من المغرب وإفريقية والأندلس، وجمعت لها سائر الآلات اللازمة، ورتب لها الحفاظ والنظار. وأمر الخليفة أن يراعى في إقامتها منتهى الإتقان والمتانة، وأنشئت بها عدة قصور ملوكية، ومسجد جامع، ما زال يقوم بها حتى اليوم، ويحمل اسم منشئه الخليفة يعقوب المنصور، واستمر العمل في بنائها نحو أربعة أعوام، حيث كملت في شهر ربيع الأول سنة 584 هـ (مايو سنة 1188 م)، وبدت في أجمل هيئة، وأضحت عروس الحاضرة المراكشية، بما أسبغ عليها من ضروب التنسيق والإتقان، والفخامة (¬2). وفي نفس هذا العام الزاخر بمشاريع الإصلاح والإنشاء أعني سنة 581 هـ (1185 م) اتخذ الخليفة خطوة جديدة لها خطرها، في ميدان الإصلاح المالي، وذلك هو ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 144 و 145. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 145 و 146.

إقدامه على مضاعفة وزن الدينار الموحدي. وكان الدينار الموحدي القديم صغير الحجم، صغير الوزن، لا يعدو وزنه القانوني بحسب الوزن الحديث جرامين وخمسة وثلاثون في المائة من الجرام، فأمر المنصور بمضاعفة وزنه، وأخرجت دار السكة الموحدية بمدينة فاس، الدينار الجديد بوزن أربعة جرامات وسبعين في المائة من الجرام، فكان لذلك الإجراء أثر بالغ في بث الطمأنينة المالية، واستقرار التعامل بين الناس (¬1). ْبيد أنه حدثت في نفس تلك الفترة التي خيم فيها ظل الأمن والاستبشار على العاصمة الموحدية، والتي عنى فيها الخليفة الجديد، بأعمال الإصلاح والإنشاء - حدثت بإفريقية حوادث في منتهى الخطورة، إذ هاجم بنو غانية أصحاب الجزائر الشرقية، أو أصحاب ميورقة، ثغر بجاية واستولوا عليه، واستولوا على عدة أخرى، من ثغور الشاطىء، وكان ذلك بداية ذلك الصراع المرير الذي نشب في أراضي إفريقية بين الموحدين وبني غانية، واستطال أكثر من نصف قرن، وكان له أبلغ الأثر في انحلال الدولة الموحدية واستغراق جهودها، وتبديد قواها ومواردها. ولابد لنا لكي نفهم طبيعة ذلك الصراع وتطوراته، والبواعث التي أدت إليه، أن نعود فترة طويلة إلى الوراء، نستعرض فيها تاريخ الجزائر الشرقية، مذ أسندت ولايتها إلى بني غانية أيام العهد المرابطي. - 1 - ذكرنا فيما تقدم من أخبار الدولة المرابطية أن أمير المسلمين علي بن يوسف، حينما غزا الجنويون والبيزيون وحليفهم أمير برشلونة، الجزائر الشرقية (جزائر البليار) في أواخر سنة 508 هـ (أوائل سنة 1115 م) واستولوا على مدينة ميورقة بعد حصار طويل، بادر بتجهيز أسطول مرابطي ضخم لاسترداد الجزائر، واستردها المرابطون بالفعل في أواخر سنة 509 هـ (1116 م) وعين أمير المسلمين لولايتها وانور بن أبي بكر اللمتوني، فلبث في حكمها زهاء عشرة أعوام، ولكنه أساء السيرة واستبد وبغى، حتى اضطرمت الثورة في الجزائر، وقبض الثوار على وانور، وبعثوا به إلى أمير المسلمين، يشرحون ظلاماتهم، ويلتمسون إليه أن ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 154، وراجع كتاب " الدوحة المشتبكة في ضوابط دار السكة " المنشور بعناية الدكتور حسين مؤنس (معهد الدراسات الإسلامية بمدريد سنة 1960).

يعين لهم والياً آخر، فاستجاب أمير المسلمين إلى رغبتهم، وعين والياً جديداً للجزائر، ولم يكن هذا الوالي الجديد، سوى محمد بن غانية المسّوفيى، وهو أخو الأمير القائد أبي زكريا يحيى بن غانية، وكان يتولى النظر على أعمال قرطبة. فقدم إلى الجزائر في سنة 520 هـ (1126 م) وتولى شئونها بحزم وكفاية، وشاء القدر أن تكون ولايته للجزائر، فاتحة عهد جديد في تاريخها، يتصل مدى أمد قصير بتاريخ الدولة المرابطية، ثم يغدو بعد ذلك مستقلا في ظل بني غانية. وقد سبق لنا التعريف ببني غانية، وتتبع سيرة زعيمهم القائد البطل يحيى ابن غانية، حتى وفاته بغرناطة سنة 543 هـ (1148 م)، خلال غمار الثورة التي اضطرمت بأرجاء الأندلس ضد المرابطين. أما أخوه محمد بن غانية، فقد لبث على ولايته للجزائر، حتى سقطت الدولة المرابطية، ودخل الموحدون مراكش، في شوال سنة 541 هـ (مارس 1147). وكان محمد، مذ رأى انهيار الدولة المرابطية، وقيام أمر الموحدين، يعمل على توطيد سلطانه بالجزائر، والاستقلال بشئونها. ولما قضى الأمر وانتهت الدولة المرابطية، لبث محمد مع ذلك على ولائه لقضية المرابطين ولمتونة، واستمر يدعو في الخطبة لأمير المسلمين وبني العباس، وجعل من ميورقة والجزائر، ملجأ ومثوى للوافدين والفارين من فلول لمتونة والمرابطين، يستقرون بها تحت حمايته ورعايته. واستطال حكم محمد بن غانية للجزائر زهاء ثلاثين عاماً، وكان يرقب من مقره النائي بالبحر، سير الحوادث، وتقدم أمر الموحدين بشبه الجزيرة. بيد أنه كان يرى في قيام ابن مردنيش ضد الموحدين، وتمكن سلطانه في شرقي الأندلس، عاملا يدعو إلى الطمأنينة. وكان مذ شعر بتوطد أمره، في تلك الجزائر المنعزلة، يعتزم أن يجعل منها ملكاً مؤثلا له ولعقبه. وكان له من الولد أربعة هم عبد الله وإسحق والزبير وطلحة، فاختار لولاية عهده أكبر أولاده عبد الله. وهنا تختلف الرواية فيقال إن إسحاق حقد على أخيه ودبر مؤامرة قتل فيها أبوه وأخوه. وفي رواية أخرى أن عبد الله خلف أباه في حكم الجزائر حينما توفي سنة 550 هـ (1155 م)، وأن أخاه إسحاق خلفه في الحكم بعد وفاته (¬1). وعلى أي حال فقد تولى إسحاق بن محمد بن غانية حكم الجزائر الشرقية، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 190، والمعجب للمراكشي ص 152، وراجع أيضاً: A. Bel: Les Benou Ghania (Paris 1903) p. 19.

وضبطها بحزم وقوة. واستمر على سياسة أبيه من جعلها ملجأ للوافدين من فلول لمتونة، ورمزاً لثورة المرابطين الأخيرة ضد الموحدين. وكان أولئك المرابطون ْالوافدون على الجزائر يمدونها بعونهم، وروح البغض المتأصلة فيهم ضد الموحدين، بقوى ذات شأن. وفي عهد إسحاق نمت موارد الجزائر وقوتها نمواً كبيراً، وأضحت أساطيلها القوية عاملا يحسب حسابه في ميزان القوي البحرية في هذا الجانب من البحر المتوسط. ويبدو من خطاب أرسله الفارس برنجير دي ترّاجونا، وهو من أشراف برشلونة، وكان قد لجأ إلى ميورقة، فراراً من اضطهاد أميره، إلى ألفونسو الثاني ملك أراجون في سنة 1171 (567 هـ) ما كانت عليه ميورقة الإسلامية في ذلك العهد من القوة والازدهار ووفرة الموارد. وكانت حملات إسحاق البحرية تتردد بالغزو بانتظام لشواطىء الممالك النصرانية القريبة، وتثخن فيها، وتحرز مقادير عظيمة من الغنائم والسبي، ويقول لنا المراكشي إنه كان يغزو هذه الشواطىء في العام مرتين (¬1). وفي الروايات النصرانية، أن مسلمي ميورقة في عهد إسحاق غزوا ثغر طولون في جنوبي فرنسا، واستولوا عليه في سنة 1178 م (574 هـ) وأسروا الفيكونت هوجو جودفريد صاحب مرسيليا، وعدة آخرين من أكابر النصارى، وكان من أثر اشتداد قوة ميورقة البحرية، وتوالي غزواتها لشواطىء الدول النصرانية القريبة، أن سعت جمهوريات جنوة وبيزة والبندقية إلى عقد المهادنة والصلح مع إسحاق، فعقدت بين الفريقين في سنة 1177 م (573 هـ) معاهدة صلح وصداقة تعهد فيها كل منهما ألا يحدث أضراراً للآخر في البر ولا في البحر، واستمرت هذه المعاهدة سارية حتى توفي إسحاق في أوائل سنة 579 هـ (1183 م) (¬2). ونحن نعرف أن ثورة ابن مردنيش ضد الموحدين، استطالت زهاء ربع قرن حتى وفاته في سنة 567 هـ (1171 م)، وفي خلال ذلك كان ابن مردنيش يسيطر على شرقي الأندلس كله، وعلى أجزاء من الأندلس الوسطى. وكانت مملكة ميورقة خلال هذه الفترة، تشعر بما تسبغها عليها سيطرة ابن مردنيش لشرقي الأندلس من طمأنينة وسلامة. بيد أن سلطان ابن مردنيش ما لبث أن أخذ في التصدع، ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 152. وكذلك A. Bel: Les Benou Ghania, p. 24 & 25 (¬2) راجع: A. Campaner y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamica en las Islas Baleares (Cit. Espana Sagrada) p. 144 - 145.

ولاسيما منذ انقلب عليه صهره وحليفه القوي إبراهيم بن همشك وانحاز إلى الموحدين. ثم انتهى أمر ابن مردنيش وانهارت مملكة الشرق بوفاته (567 هـ) ودخل الموحدون مرسية، وبسطوا سلطانهم على شرقي الأندلس، وأضحوا على مقربة من الجزائر. وهنا رأى إسحاق ابن غانية، أن يتحول إلى مصانعة الموحدين ومهادنتهم، وأخذ يراسلهم، ويبعث إليهم بنفيس الهدايا من خاصة غنائمه وسبيه، وكان الموحدون في البداية، يستصغرون شأن الجزائر، ولا يحفلون بأمرها، فلما سيطروا على شواطىء الأندلس وثغورها الشرقية، ولما رأوا تقرب إسحاق منهم، أخذوا يهتمون بشأنها، ويدركون أهمية موقعها البحري، فتوالت كتبهم على إسحاق بطلب الدخول في طاعتهم، وبعث الخليفة أبو يعقوب يوسف إلى إسحاق كتابه بذلك في سنة 578 هـ (1182 م) وطلب إليه بصفة رسمية أن يعترف بطاعته وأن يدعو له في الخطبة. فعرض إسحاق هذا الأمر على أكابر أصحابه، فاختلف رأيهم بين الاستجابة والرفض، فرأى أن يرجىء رده على الخليفة. وخرج في أسطوله غازياً إلى بعض السواحل النصرانية القريبة، فقتل في بعض المعارك، وقيل أنه طعن في حلقه، وحمل حياً إلى ميورقة، وهنالك مات في قصره. وكانت وفاته سنة 579 هـ (1183 م) (¬1). ولما توفي إسحاق بن محمد بن غانية، خلفه في حكم الجزائر أكبر أولاده العديدين محمد (¬2). وكان قد اختاره في حياته لولاية عهده. وكان محمد يواجه في بداية حكمه تلك المشكلة الدقيقة، التي أثارها الخليفة الموحدي بدعوته إلى خضوع الجزائر لسلطانه. وازدادت هذه المشكلة دقة بما عمد إليه الخليفة أبو يعقوب من إرسال سفيره إلى ميورقة في بعض السفن الموحدية، التي سارت به من سبتة، ليعرض الطاعة بنفسه على أميرها، وليختبر مدى استعداد بني غانية للاستجابة إلى الدخول في الدعوة الموحدية. وكان سفير الخليفة إلى محمد بن غانية، رجلا من طراز خاص، هو أبو الحسن على الربرتير، وهو ولد الفارس النصراني الربرتير El Reverter أو روبرتو القطلوني، قائد جند الروم أو النصارى المرتزقة في الجيش المرابطي أيام علي بن يوسف، وقد أبلى الربرتير وجنده الروم ¬_______ (¬1) المعجب ص 152، وكذلك A. Bel: Ibid ; p. 24 & 25. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 190. ويقول المراكشي إن الذي خلف إسحاق هو أكبر أولاده على (ص 152).

حسبما فصلنا من قبل، خير البلاء في محاربة الموحدين، وانتصر عليهم مراراً ثم توفي قتيلاً في إحدى المعارك، وذلك في سنة 539 هـ (1144 م) وترك ولدين، كان أحدهما على هذا الذي اعتنق الإسلام، وتحول إلى خدمة الموحدين. واستقبل محمد بن غانية سفير الخليفة بترحاب ومودة، وأبدى استجابته إلى الدخول في طاعة الخليفة. وكان الخليفة أبو يعقوب عندئذ قد عبر البحر إلى الأندلس في جيوشه الجرارة، وذلك في صفر سنة 580 هـ (أبريل سنة 1184 م)، قاصداً استئناف الجهاد ضد النصارى، فلم يكن أمام محمد سوى الخضوع وسيلة لاتقاء الغزو الموحدي. ولكن اخوة محمد، وهم علي ويحيى وطلحة وعبد الله وسير وتاشفين ومحمد المنصور وإبراهيم، لم يرقهم هذا الخضوع، فثاروا ضد محمد، وقبضوا عليه واعتقلوه، وقدموا أخاهم علياًّ لولاية الجزائر، ووضعوا في الوقت نفسه سفير الخليفة علياًّ الربرتير في شبه اعتقال، وحالوا بينه وبين مغادرة الجزيرة، واعتقلوا بحارة السفن الموحدية، ووضعوا بها بحارة من ميورقة، ولبثوا يطاولون الربرتير، حتى جاءت الأنباء بمصرع الخليفة أبي يعقوب عقب موقعة شنترين، وتفرق الجيوش الموحدية الغازية، فعندئذ أعلن على وإخوته جهاراً رفضهم للدعوة الموحدية والدخول فيها، وألقوا بعلي الربرتير إلى ظلام السجن (¬1). ولم يكتف بنو غانية -على وإخوته- برفض طاعة الموحدين واعتقال سفيرهم، بل فكروا كذلك في انتهاز فرصة ما أصاب الموحدين من آثار هزيمة شنترين، وتفرق جيوشهم الغازية، وجنوح الخليفة الجديد أبي يوسف يعقوب إلى القيام بأعمال الإصلاح والإنشاء في ظل السكينة والعافية، لإنزال أول ضرباتهم بالموحدين، فاتجهوا بأبصارهم إلى إفريقية، إلى تلك المنطقة المضطربة، التي كانت دائماً مثار القلاقل والمتاعب للموحدين، والتي كانت طوائف العرب بها تجعل بتقلبها من فريق إلى فريق، ميزان القوي دائماً في تردد، وأزمعوا غزو مدينة بجاية أقرب ثغور هذه المنطقة إلى ميورقة. ولم يكن تفكير بني غانية في غزو بجاية دون تمهيد سابق، فقد اتصل علي ابن غانية ببعض العناصر الناقمة على الموحدين في المدينة، من أولياء بني حماد ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 146، وابن خلدون ج 6 ص 190، وكذلك: Campaner y Fuertes: ibid , p. 146 - A. Bel: ibid ; p. 29.

أمرائها السابقين، وراسله جماعة من أهلها، وكان يعتمد فوق ذلك على مؤازرة بعض طوائف العرب من بني هلال ورياح والأثبج. ونحن نذكر ما حدث قبل ذلك بأعوام قلائل من ثورة بني الرند في قفصة، وقيام الخليفة أبي يعقوب بإخماد هذه الثورة (سنة 576 هـ)، وإسناده عندئذ ولاية إفريقية لأخيه السيد علي أبي الحسين، وولاية بجاية والزاب لأخيه السيد أبي موسى عيسى، وما حدث بعد ذلك بقليل من ثورة عرب بني سُليم على مقربة من قابس، وأسرهم للسيد أبي الحسين وأصحابه عندما تصدوا لمقاومتهم، ثم إطلاق سراحهم لقاء فدية كبيرة. وكان تكرار هذه الحوادث وأمثالها، مما يشجع بني غانية على اختيار هذه المنطقة بالذات مسرحاً لمغامراتهم ضد الموحدين. وحشد علي بن إسحاق الملقب بالميورقي أسطولا صغيراً من اثنين وثلاثين سفينة تحمل نحو مائتي فارس وأربعة آلاف راجل، تحت إمرة القائد رشيد النصراني، واستخلف على ميورقة عمه أبا الزبير. وسار مع إخوته في سفنه صوب بجاية، فوصلت بسلام إلى مقربة من الميناء. وكان كل شىء في المدينة هادئاً، ولم يخطر ببال أحد من أهلها أن الغزاة على الأبواب. ودفع القائد رشيد رجاله في زورق إلى أسفل الأسوار للاستخبار والتحري، وكان والي المدينة السيد أبو الربيع سليمان عم الخليفة خارج المدينة وعلى مقربة منها راحلا إلى الحضرة، وقد حل بها السيد أبو موسى مع بعض أصحابه في طريقه إلى تلمسان، ولم يك ثمة أية أهبات دفاعية يعتد بها. فتقدمت السفن المهاجمة من المدينة. واحتشد رهط كبير من الغزاة في مكان معين قبالة الأسوار، كان متفقاً على اختياره لاقتحام المدينة مع الضالعين مع الغزاة، وتدلى بعض هؤلاء من الأسوار ليدلوا الغزاة على عورات السور، وثغرات الدفاع. واجتمعت جماعة من أهل البلد لمقاومة الغزاة دون قائد يجمع شملهم، ودون استعداد، وقد تخاذل الرؤساء وأولو الأمر، فسلط الميورقيون عليهم القسيّ والسهام ففتكت بهم. ثم تقدم الفرسان والمشاه، واقتحموا المدينة من ثلمات السور، واستولوا عليها، وقبضوا على السيد أبي موسى وآله وعلى سائر الموحدين الذين يخشى بأسهم. وكان سقوط بجاية على هذا النحو في يد علي بن إسحاق الميورقي في السادس من شهر شعبان سنة 580 هـ (13 نوفمبر سنة 1184 م) (¬1). ¬_______ (¬1) المعجب ص 153، والكامل لابن الأثير ج 11 ص 191، وابن خلكان ج 2 ص 429. ويأخذ ألفرد بل بهذا التاريخ Les Benou Ghania, p. 42. ولكن صاحب البيان =

وأقام علي بن غانية أسبوعاً في بجاية ينظر في شئونها، وصلى بها الجمعة، ودعا في الخطبة لبني العباس، وللخليفة العباسي أحمد الناصر، وكان خطيبه يومئذ هو خطيب بجاية الفقيه المحدث والأديب الشاعر، أبو محمد عبد الحق بن عبد الرحمن الأزدي الإشبيلي صاحب كتاب " الأحكام " وغيره. وكان الخليفة أبو يوسف يعقوب، حينما بلغه موقفه يزمع قتله والاقتصاص منه. ولكنه توفي غير بعيد ونجا من نقمته (¬1). وترك علي بن غانية النظر على بجاية لأخيه يحيى بمعاونة رشيد الرومي، وخرج من فوره لمطاردة واليها السيد أبي الربيع، وكان ما يزال على مقربة من بجاية، فلحق به بموضع يعرف بياميلول، وكان معه رهط من الأعراب الموالين للموحدين فانخذلوا كعادتهم عند الشعور بالهزيمة، وانضموا إلى ابن غانية، وهزم السيد أبو الربيع، وقتل عدد من رجاله، وسقطت محلته بأسرها في يد العدو، وفيها أهله وأمواله، ولكنه استطاع الفرار إلى الجزائر، ومنها إلى تلمسان، فنزل بها على واليها السيد أبي الحسن بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وأخذا في تحصينها، والاستعداد في الدفاع عنها (¬2). وتابع علي بن غانية زحفه المظفر صوب الجزائر فدخلها، وقدم عليها يحيى ابن أخيه طلحة، ثم سار إلى مليانة ومازونة ثم إلى أشير والقلعة (قلعة بني حماد) واستولى عليها جميعاً، واستباح أهلها، واستصفى أموالهم. وكانت مليانة، وهي أهم هذه البلاد، في الأصل مدينة رومانية، جددها زيري بن مناد الصنهاجي وحصنها، وكانت في ذلك الوقت حسبما يصفها لنا الإدريسي، مدينة قديمة البناء، حسنة البقعة، نضرة المزارع، ولها نهر يروي معظم مزارعها وجناتها، قد ركبت على ضفافه الأرحاء، ولأراضيها حظ من مياه نهر شلف، وعلى ثلاثة أيام منها، وفي جنوبها الجبل المسمى بجبل وانشريش، يسكنه قبائل من البربر منها مكناسة، وحرسون، وأوربة، وبنو أبي خليل، وكتامة ومطماطة، وبنو مليلت، ¬_______ = المغرب يضع تاريخ سقوط بجاية في التاسع عشر من صفر سنة (581 هـ) القسم الثالث ص 148) ويتابعه في ذلك ابن خلدون (ج 6 ص 190) وكذلك الزركشي في تاريخ الدولتين ص 10. (¬1) المعجب ص 153. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 191، والبيان المغرب القسم الثالث ص 148.

وبنو وارتجان وبنو أبي خليفة، ويصلاتن، وزولات، وزواوة، وهوارة وغيرها. وطول هذا الجبل مسيرة أربعة أيام، وينتهي طرفه إلى مقربة من تاهرت (¬1). وقدم علي بن غانية على مليانة يدّر بن عائشة، ووقف بها أياماً، ثم عاد إلى بجاية، وهنالك جلس بمسجدها الجامع، فأقبل الناس لمبايعته والدخول في طاعته، والتف حوله الدهماء والعامة، واستخرج ما كان في المخازن من الأموال والثياب، وكسا أوباش العرب ومن انضم إليهم من الأخلاط والكافة، ولما رتب شئونه ببجاية، ترك بها رشيداً الرومي إلى جانب ابن أخيه يحيى، وسار في قواته إلى قسنطينة، ولكنها كانت على أهبة الدفاع، واستبسل أهلها في قتاله، وقتلوا جملة من رجاله ثم اعتصموا بمدينتهم، فضرب حولها الحصار، مؤملا أن تسقط في يده (¬2). وعلم الخليفة يعقوب المنصور، بتلك الحوادث المؤسفة، وهو ما يزال في بداية عهده، وما يكاد يبدأ حملته الإصلاحية، فاهتز لها، وأدرك في الحال خطورتها، واعتزم أن يبذل قصارى جهده لقمعها، فجهز حملة قوية من الجند المختارة قوامها عشرون ألف مقاتل مزودة بوافر العدة والآلات، وجعل قيادتها لابن عمه السيد أبي زيد بن أبي حفص، وسار في نفس الوقت أسطول موحدي كبير من سبتة، تحت قيادة أبي محمد بن إسحاق بن جامع، وأبي محمد بن عطوش الكومي، وأبي العباس الصقلي، وسارت القوات البرية والبحرية وفق خطة موحدة لمحاربة العدو، متعاونين في البر والبحر، وسار الجيش الموحدي أولا إلى فاس، وتوقف بها وقتاً لاشتداد البرد والأمطار، ثم رحل إلى تلمسان وكان بها السيد أبو الحسن بن أبي حفص، وقد حصن أسوارها وشحنها بالمقاتلة ومعه السيد أبو الربيع والي بجاية السابق، وكان قد لجأ إلى تلمسان، وتوقف بها يرتقب الفرصة لاستنقاذ أهله وذويه من قبضة العدو المغير. وسار الجيش الموحدي من تلمسان شرقاً بحذاء الشاطىء، والأسطول يحاذيه من البحر، وكان الخليفة يعقوب قد وجه إلى أهالي القواعد المغزوة، كتباً يعدهم فيها بالأمن والأمان والصفح والإحسان لمن تعاون مع العدو. واستطاعت الجواسيس ¬_______ (¬1) الإدريسي في وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس " ص 84 و 85، وكذلك الاستبصار في عجائب الأمصار (طبعة جامعة الإسكندرية 1958) ص 171. (¬2) الرسائل الموحدية - الرسالة التاسعة والعشرون ص 172، و 173. والبيان المغرب - القسم الثالث 148.

الموحدية أن تدس هذه الكتب تحت جنح الليل إلى مختلف القواعد، فلما علم الناس أن القوات الموحدية قد اقتربت منهم، وثبت طوائف كثيرة منهم بالمحتلين ولاسيما بالجزائر، وقبضت على العديد منهم، وبادر الأسطول الموحدي، فاستولى على الجزائر قبل أن يصل إليها الجيش، وأسر بها يحيى بن غانية وأتباعه الميورقيين، ثم استولى على مليانة، وكان حاكمها المرابطي يدّر بن عائشة قد فر منها، فاقتفى أهلها أثره، وطاردوه ثم قبضوا عليه وعلى أصحابه بعد معركة شديدة، وسيق مع أصحابه مصفداً. ثم أعدم بعد ذلك. وكان السيد أبو زيد قد وصل عندئذ إلى وادي شلف، وأمر بمتابعة الحرب، وتقدم نحو بجاية على جناح السرعة، إذ علم بأن ابن غانية يروم نقل السيد أبي موسى وزملائه من أكابر الموحدين إلى ميورقة، وسار الأسطول إليها في نفس الوقت. وتقدم القائد أبو العباس الصقلي في إحدى السفن مع بعض أهالي بجاية، ودسوا الكتب إلى أهلها بوصول القوات الموحدية، فثارت العامة داخل المدينة، وفتحوا الأبواب، ونزل بحارة الأسطول وعلى رأسهم أبو محمد بن جامع إلى المدينة، وفتكوا بالميورقيين وأنصارهم، وفر يحيى بن غانية وأخوه عبد الله في عدد قليل من أصحابه، ولحق بأخيه أمام قسنطينة، وأسر الموحدون رشيداً الرومي قائد الميورقيين، واستولوا على السفن الميورقية خارج الميناء، وأطلق سراح السيد أبي موسى ومن معه من أكابر الموحدين. وهكذا استنقذت بجاية بضربة سريعة، وكان استردادها في اليوم التاسع عشر من شهر صفر سنة 581 هـ (22 مايو سنة 1185)، بعد أن لبثت في قبضة بني غانية نحو سبعة أشهر (¬1). وفي ذلك الحين كان ابن غانية تحت أسوار قسنطينة، وكانت المدينة المحصورة قد استنفدت كل وسائل الدفاع، وأشرفت على السقوط في يد العدو، ولكن ما كادت أنباء استرداد بجاية تصل إلى المحصورين، حتى اضطرمت قواهم المعنوية وثبتوا في معقلهم، ورأى الميورقي من جهة أخرى ما حل بقضيته من الخسران، بعد سقوط بجاية، وضياع أسطوله ومصرع الكثير من أصحابه، ونكول الأعراب عن مؤازرته، وخشى من إدراك الموحدين له، وهو في هذه الحالة اليائسة، فارتد عن قسنطينة مع إخوته وفلوله الباقية، وتوغل في الصحراء، بعيداً عن ¬_______ (¬1) الرسائل الموحدية - الرسالة التاسعة والعشرون ص 176 - 178، والبيان المغرب القسم الثالث ص 150، وابن خلدون ج 6 ص 191. وكذلك A. Bel: Les Benou Ghania, p. 50-53

المطاردة. ولم تمض على فراره ثلاثة أيام حتى وصل السيد أبو زيد في قواته إلى تيكلات على مقربة من بجاية، وهنالك وافاه طلبة بجاية وأكابرها وعلى رأسهم السيد أبو موسى، وأخذ الجميع في الأهبة والاستعداد لمطاردة العدو الفار، وسيق إلى المحلة الموحدية كل من قبض عليه وأسر في بجاية من أنصار الميورقي سواء منهم من جاز معه من ميورقة، أو من انحاز إليه، ارتداداً عن الدعوة الموحدية، وميزوا وقتل معظمهم. واستبقى يحيى بن طلحة الميورقي رهينة. وفي اليوم الثالث سار الموحدون في أثر ابن غانية واستمروا في مسيرهم حتى مقرّة ونفاوس، ولكنهم لم يستطيعوا إدراكه، لأنه كان قد ألقى معظم أثقاله في الطريق وفرق قواته، وسبق الموحدين بمراحل، ولم يستطع الموحدون بقواتهم الكثيفة وعددهم الثقيلة لحاقاً به، فعندئذ ارتد السيد أبو زيد في جموعه إلى بجاية، وذلك بعد أن أنفقت الحملة الموحدية زهاء ستة أشهر في حركة متواصلة لم تنعم خلالها بقسط من الراحة (¬1). أما علي بن غانية، فقد اتجه وأخوه يحيى في فلوله جنوباً، واخترق جبال الأطلس إلى منخفض حندة، ثم إلى منطقة الواحات الواقعة جنوبي ولاية إفريقية المسماة بلاد الجريد، وهو ينهب المحلات الغنية في تلك المنطقة، ويستميل بجزيل صلاته طوائف العرب النازلين في تلك الأنحاء، ولاسيما بني رياح وبنى جشم. ولما اطمأنت نفسه وكثرت جموعه، سار إلى افتتاح مدينة تَوزَر، فضرب حولها الحصار، وقطع غابات النخيل المحيطة بها، فقاومته المدينة بشدة، ولكنه استطاع بمعاونة بعض الضالعين معه من أهلها أن يدخلها أخيراً. فلما دخل أغضى عن أهلها الذين ناصروه ومنحهم الأمان، واستصفى أموال الآخرين، ثم فرض عليهم فروضاً أخرى لافتداء أنفسهم، فمن استطاع أن يفتدي نفسه، أطلق سراحه، ومن عجز قتل ثم ألقى بعد قتله إلى بئر بالمدينة سميت فيما بعد بئر الشهداء، وكان سقوط توزر في سنة 582 هـ (1186 م) (¬2). وكان السيد أبو زيد قد استقر في تلك الأثناء في بجاية، وكانت المدينة قد سادها الاضطراب والفوضى، وخربت دورها ومعاهدها، وأقفرت سائر المناطق المحيطة بها، وخربت على يد جند ابن غانية وأنصاره الأعراب، وعدمت المؤن والموارد والغلات، وارتفعت الأسعار، وفر كثير من السكان وهاموا على ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 151. (¬2) رحلة التجاني (المنشورة بعناية المطبعة الرسمية بتونس سنة 1958) ص 162.

وجوههم، ثم سرى الوباء إلى المدينة وكثر الموت. ووصلت أنباء تلك الحالة إلى الخليفة بمراكش، وكثرت لديه الأقوال في حق السيد أبي زيد، وقصوره عن معالجتها، فبعث إليه معاتباً، وحاثاً على العمل لتدارك الأمر، وغادر الأسطول في نفس الوقت مياه بجاية، عائداً إلى قواعده في سبتة. وبالرغم من ابتعاد الميورقي عن بجاية وأحوازها، وتوغله في القفار الجنوبية فإنه بعث جملة من جنده تحت إمرة غزي الصنهاجي، فسار إلى مدينة أشير، واقتحمها، وقتل حافظها الموحدي، فبادر السيد أبو زيد إلى توجيه ولده السيد أبي حفص عمر في قوة موحدية ومعه أبو الظفر بن مردنيش في جملة أخرى من الأجناد، فساروا لقتال غزي وأصحابه، ونشبت بينهما معركة هزم فيها غزي وقتل، وأرسل رأسه إلى بجاية وعلق بها، واستولى أبو الظفر بن مردنيش على محلة العدو وحريمه وعتاده وماشيته، وحل عبد الله الصنهاجي كان أخيه غزي في الدفاع عن أشير، فاستماله القاضي أبو العباس بن الخطيب، وأغراه بالوعود، واستنزله من المدينة، ثم قبض عليه وأرسل إلى بجاية، حيث صلب إزاء رأس أخيه (¬1). وكان من أحداث بجاية في هذا العام، أن قُتل رشيد الرومي قائد ابن غانية السابق، وقتل عدد من أهل بجاية ممن انحازوا إلى جانب بني غانية، وكان من هؤلاء أبناء القائد ابن حملة، وغُرب بنو حمدون من بجاية إلى سلا، لاتهامهم بالتواطؤ مع بني غانية، بعد أن أرغموا على تصفية أموالهم بها بثمن بخس، وأبعد غيرهم من الأعيان أيضاً إلى سلا، بعد أن صفيت أموالهم وديارهم (¬2). وعلى أثر ذلك استدعى السيد أبو زيد من قبل الخليفة إلى الحضرة، فسار إليها في حملة من صحبه بالرغم من اشتداد البرد والأنواء خلال فصل الشتاء، فلما وصل إليها أحسن الخليفة استقباله، وأكرم وفادته، وسرى بذلك عنه ما كان قد لحق به من أوزار الوقيعة، وتهمة القصور والإهمال. وكان علي بن غانية، بعد أن استولى على توزر يطمح إلى الاستيلاء على قفصة. ونحن نذكر أن الخليفة أبا يعقوب يوسف، كان قد استرد قفصة في سنة 576 هـ (1181 م) وأخمد بها ثورة بني الرند، وكانت المدينة بالرغم من ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 153. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 154، وابن خلدون ج 6 ص 243.

أنضوائها تحت لواء الموحدين، ما تزال مسرحاً لمختلف الدسائس والتيارات، وولاؤها للموحدين غير ثابت، ولا مستقر، ومن ثم فإنه ما كاد الميورقي يزحف عليها بقواته ويضرب حولها الحصار، حتى بادر أهل المدينة بإخراج الموحدين منها، وتسليمها إلى الميورقي، فوضع بها حامية من جنده المرابطين وحلفائه الجند الأتراك، وجدد تحصيناتها، وكان ذلك أيضاً في سنة 582 هـ (1186 م). وهكذا سيطر علي بن إسحاق بن غانية الميورقي على معظم إفريقية، وقطع بها خطبة الموحدين، ودعا لطاعة الخليفة العباسي، الناصر لدين الله، وأرسل إليه في طلب المراسيم والخلع والأعلام السود. وكان مما يزيد في خطورة هذا الموقف بالنسبة للموحدين، أن الميورقي استطاع أن يستميل إلى جانبه كثيراً من طوائف العرب من سُليم ورياح وغيرهم، واستطاع من جهة أخرى أن يعقد الحلف مع قراقوش الأرمني مملوك الأيوبيين وجنده الترك، وكانوا قد نزحوا من مصر إلى المغرب واستولوا على طرابلس، وبسطوا سلطانهم على كثير من أطراف إفريقية الشرقية (¬1). ويجب أن نشير بهذه المناسبة إلى الظروف التي وقع فيها نزوح أولئك الجند الترك إلى هذه الأنحاء من إفريقية. وذلك أنه لما تم استيلاء الملك الناصر صلاح الدين ابن أيوب على مصر، على أثر وفاة الخليفة العاضد، آخر خلفاء الدولة الفاطمية، ووقعت الوحشة من أجل ذلك بينه وبين سيده القديم السلطان نور الدين، فكر بعض أمراء بني أيوب، أن ينزحوا، إذا ما تغلب عليهم نور الدين، إلى بعض الجهات النائية المأمونة مثل اليمن أو المغرب. واتجه نحو المغرب بالأخص تقي الدين عمر بن شاهنشاه أخو صلاح الدين. ولكنه عدل عن مشروعه لما رأى ما يكتنفه من الصعاب والمخاطر، ففكر اثنان من أولياء بني أيوب، هما شرف الدين قراقوش الأرمني مملوك تقي الدين (وهو غير بهاء الدين قراقوش وزير صلاح الدين فيما بعد) وإبراهيم بن قراتكين المعظمي، نسبة إلى الملك المعظم شمس الدولة أخي صلاح الدين، في تنفيذ المشروع، وفرا في طائفة كبيرة من الجند الترك، وسارا صوب المغرب، ثم افترقا ليسعى كل منهما إلى مصيره فسار قراقوش إلى قلب ولاية طرابلس، وافتتح سنترية وأوجلة، ودعا للسلطان صلاح الدين، وابن أخيه تقي الدين عمر، ثم سار إلى فزان فافتتحها، وقضى على دولة الهواريين القائمة بها ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 196.

وكانت زويلة مقر ملكهم، وخطب فيها أيضاً لصلاح الدين وابن أخيه. وقوى أمر قراقوش تباعاً، فسار إلى طرابلس، والتف حوله العرب من بني دباب ونهضوا معه إلى جبل نفوسة، فاستولى عليه، واستخلص منه أموالا عظيمة فرقها في حلفائه العرب، ثم وفد إليه مسعود بن زمام أمير بني رياح، وكان من الخارجين على بني عبد المؤمن فانضم إليه بقواته، وضرب قراقوش بقواته المشتركة الحصار حول طرابلس، وكانت خالية من الأجناد والأقوات، فاستولى عليها بأيسر أمر، وذاع صيته واشتد ساعده، وهرعت طوائف العرب من كل فج إلى لوائه. وملك قراقوش كثيراً من أنحاء إفريقية المجاورة، وتضخمت موارده وقواته، ومعظمها من العرب الذين عاثوا فساداً في تلك الأنحاء " بما جبلت عليه من التخريب والنهب والإفساد، بقطع الأشجار والثمار وغير ذلك " وأخذت نفسه تحدثه بالاستيلاء على سائر إفريقية (¬1). - 2 - وفي ذلك الحين حدثت بميورقة حوادث هامة. وكان من الطبيعي بعد أن خلت الجزيرة من معظم الجند والقادة، منذ رحيلهم تحت إمرة عاهلهم على ابن غانية إلى إفريقية، واستولى الموحدون على سفن الأسطول الميورقي في مياه بجاية، أن تتخذ الأحداث بالجزيرة وجهة جديدة. وكان رسول الخليفة الموحدي علي الربرتير منذ اعتقل بالجزيرة، يرقب الفرص لكي يتحرر من معتقله، وليقوم في نفس الوقت بضربة تحقق الغاية من رسالته. وألفى على فرصته في الاتصال بالجند المرتزقة النصارى من حراس معتقله ومن إليهم من أبناء ملتهم، وكان معظمهم يرومون مغادرة الجزيرة إلى أوطانهم، فوعدهم علي بأنهم متى عاونوه على تحقيق غرضه، فإنه يعمل على تسريحهم في أهلهم وأولادهم إلى أوطانهم. وكانت أرومة الربرتير وأصله النصراني، مما يحببه إلى نفوس أولئك الجند النصارى ويجعله موضع ثقتهم وأملهم. والظاهر أيضاً أن الربرتير استطاع أن يجذب إلى جانبه بعض أعيان المدينة من أنصار محمد بن غانية المعزول وخصوم أخيه علي. وهكذا دُبرت مؤامرة قوامها الجند النصارى لخلع والي الجزائر القائم وهو طلحة ابن إسحاق بن غانية، وإعادة أخيه محمد المعزول، ونفذ المتآمرون مشروعهم ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 146، ورحلة التجاني ص 111 - 113، وابن خلدون ج 6 ص 191 و 192.

في يوم جمعة، وفي وقت الصلاة، حينما شغل معظم الناس بأداء الصلاة في المسجد الجامع، وغيره من المساجد. فأخرج المتآمرون علياً الربرتير من سجنه، ووثبوا إلى مخازن السلاح، فاستولوا على ما فيها، ثم حاصروا القصبة، وقتلوا من بها من الجند المرابطين، وتحصن الربرتير وأنصاره بالقصبة، فحاصرهم جمهور من أهل ميورقة. وضربوا القصبة بالمجانيق وأرسلوا على من بها وابلا من الحجارة والسهام. فأتى الربرتير من داخل القصبة، بأهل علي بن غانية، وفيهم أمه وأبناؤه، ووضعهم فوق الأسوار، ليرغم المحاصرين على الكف عن ضرب القصبة، فعندئذ هدأت الأمور، واضطر أهل البلد إلى المفاوضة، وتبادل العهود (¬1). وعلى أثر ذلك استدعى محمد بن إسحاق بن غانية حاكم الجزائر السابق، وكان قد خلعه إخوته، حينما اعترف بطاعة الموحدين عند مقدم الربرتير إلى ميورقة، واعتقل في أقصى الجزيرة، واتفق على إعادة تنصيبه والياً للجزائر، ونزل الربرتير عن القصبة والسلطة، وأعلن طاعة الموحدين، وخطب للخليفة الموحدي، وجمع الربرتير من الأموال والذخائر ما استطاع، وصرح المرتزقة النصارى بأموالهم وأهلهم إلى بلادهم. ثم غادر الجزائر عائداً إلى المغرب، وقصد إلى حضرة مراكش. ووقع ذلك في أوائل سنة 581 هـ (1185 م). وفي رواية أخرى أن محمداً بن إسحاق غادر ميورقة مع الربرتير ولحق بالحضرة، ليقدم طاعته بنفسه إلى الخليفة (¬2). وهكذا حكم محمد بن إسحاق ميورقة في ظل طاعة الموحدين الإسمية. ولما حاول الخليفة يعقوب المنصور بعد ذلك أن يجعل من هذه الطاعة حقيقة واقعة، بتملك ميورقة، وأرسل لهذه الغاية إليها أسطولا بقيادة أبي العلاء بن جامع، أبي محمد أن يستجيب إليه، واستغاث بملك أراجون فأمده بالجند، ولم يستطع الموحدون تنفيذ مشروعهم. ومن جهة أخرى، فإن الهدوء لم يستمر طويلا بالجزائر، ذلك أن أهل ميورقة ثاروا على محمد لخضوعه للموحدين، ورفعوا إلى الولاية أخاه تاشفين. وفي رواية أخرى أنه لما وقف علي بن إسحق بن غانية وإخوته وهم بإفريقية، على ما حدث في ميورقة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 155 و 156. وراجع: Campaner y Fuertes: ibid, p. 148 et suiv. وكذلك A. Bel: ibid ; p. 68 & 66 (¬2) البيان المغرب ص 156، وابن خلدون ج 6 ص 194.

سار منهم عبد الله في بعض صحبه، وركب البحر إلى صقلية، وهنالك زوده النصارى ببعض السفن فسار إلى ميورقة، والتف حوله جمع من أهل الجزيرة واستطاع أن يدخل ميورقة باستمالة بعض أعيانها، وأن ينزع الولاية لنفسه، وقبض على أخيه محمد، وبعث منفياً إلى الأندلس. فالتجأ هنالك إلى الموحدين فولوه على مدينة دانية، واستقر عبد الله في ولاية الجزائر دون منازع. وعاد الخليفة المنصور فبعث أسطوله إلى الجزائر بقيادة أبي العلاء بن جامع، ثم أرسله مرة أخرى بقيادة الشيخ إبراهيم الهزرجي، فقاوم عبد الله أشد مقاومة، وقتل كثير من الموحدين، ولم ينالوا مأرباً من ميورقة، ولكنهم استطاعوا الاستيلاء، على جزيرتي يابسة ومنورقة، وكان ذلك في سنة 583 هـ (1187 م). واستردت الجزائر في عهد عبد الله قوتها ورخاءها، واستمر في رياستها أعواماً طويلة، وهو يعاود الغزوات البحرية للشواطىء النصرانية القريبة، حتى كان افتتاح الموحدين للجزائر في سنة 599 هـ (1203 م) على ما نذكر بعد (¬1). - 3 - عظم أمر علي بن غانية بأنحاء إفريقية الجنوبية والوسطى، ولاسيما مذ تقاطرت طوائف العرب من بني هلال وجشم وبني رياح والأثبج إلى لوائه. وعقد التحالف بينه وبن قراقوش الأرمني وأجناده الترك الوافدين من مصر، وبسط سلطانه على سائر أنحاء إفريقية، ولم يبق بيد الموحدين منها سوى المهدية وتونس، ودعا علي للخلافة العباسية حسبما أسلفنا، وتلقب بأمير المسلمين جرياً على ما كان عليه أمراء الدولة المرابطية (¬2) وبعث ولده عبد المؤمن إلى الخليفة الناصر بن المستضىء ببغداد ليطلب إليه المدد والرعاية، فعقد له الخليفة على سائر ما يملكه، وبعث ديوان الخليفة صحبة عبد المؤمن إلى مصر، خطاب الخليفة إلى الملك الناصر صلاح الدين باعتباره نائب الخليفة بمصر والشام، فكتب له صلاح الدين كتابه إلى مملوكه قراقوش، بالعمل المشترك على تأييد الدعوة العباسية (¬3)، وكانت ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 155 و 156، والبيان المغرب القسم الثالث ص 157، وابن خلدون ج 6 ص 194، وابن الأثير ج 11 ص 196. (¬2) ابن الأثير ج 11 ص 196. (¬3) ابن خلدون ج 6 ص 192.

استعادة الجزائر على يد عبد الله بن غانية وتمكين سلطان بني غانية بها، عاملا جديداً، في ذيوع أمر علي وتوطيد هيبته وسلطانه. وبسط علي بن غانية على إفريقية حكم إرهاب مطبق، وأطلق العنان لأحلافه من طوائف العرب، يعيثون أينما استطاعوا فساداً، ويطلقون أيديهم بالإيذاء والسلب والنهب والسبي، لا يرعون حرمة ولا يرحمون ضعفاً، وعلىٌّ لا يستطيع منعهم أو ردعهم استبقاء لولائهم ومحالفتهم. وقد وصف مؤرخ رحالة حالة إفريقية في ذلك الوقت بإيجاز في قوله " إنه هلك العباد وخراب البلاد ". وكان من شنائع علي بن غانية أنه سار إلى جزيرة باشو بالقرب من حضرة تونس في غضون سنة 582 هـ (1186 م)، فسأله أهلها الأمان، فمنحهم إياه، ولكن ما كاد عسكره يدخل إليها، حتى نهبوا سائر ما فيها، وهتكوا الحرمات، وفر من استطاع منهم إلى تونس، ونزلوا بين أسوارها، فأهلكهم البرد خلال فصل الشتاء، وبلغ من هلك على قول الرواية اثنا عشر ألفاً (¬1). وتوالت أنباء هذه الحوادث الإفريقية المزعجة على الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور فأهمته، وأدرك مبلغ خطورتها، وبعث إليه أخوه السيد أبو عبد الله الذي كان قد حل مكان السيد أبي زيد في ولاية إفريقية من تونس، يستغيث به ويستنفره إلى تدارك الأمر بعد أن بلغ الخطر أقصاه، وظهر عجز القوات الموحدية القليلة، وأضحت سيادة الموحدين في إفريقية على وشك الانهيار، فاتخذ الخليفة أهبته للحركة إلى إفريقية، وبدأ بالتحرك إلى تينملل، حيث زار قبر المهدي، جرياً على تقليدهم المأثور، في التيمن بزيارته، عند الملمات والحوادث الجسام، ثم عاد إلى مراكش، وجهز جيشاً مختاراً من الموحدين قوامه عشرون ألف فارس، وغادر الحضرة في قواته عقب عيد الفطر في الثالث من شوال سنة 582 هـ (17 ديسمير 1186 م) مستخلفاً عليها أكبر أعمامه السيد أبا الحسن، ومسنداً إليه في نفس الوقت الإشراف على تكملة الأعمال الخاصة بضاحية الصالحة، وتابع الخليفة سيره دون توقف حتى رباط الفتح، وهنالك وافاه ولاة الأندلس والمغرب، فألقى إليهم بتعليماته وتوجيهاته. وكان من الأمور الظاهرة في تجهيز هذه الحملة الموحدية، أن الخليفة لم يصطحب معه في جيشه كتائب العرب إلا قلّة من أشياخ بني رياح مثل بني زيان وذلك تحوطاً من تقلباتهم ¬_______ (¬1) رحلة التجاني عن ابن شداد ص 14.

وخطر انسلاخهم أثناء القتال إلى جانب إخوانهم عرب إفريقية، ومن جهة أخرى فقد اقتصر الخليفة في حشوده على القلة المختارة من الجند، نظراً لصعوبة تموين الحشود الجرارة في إقليم خربت أرجاؤه، ونضبت موارده، من كثرة الغزوات والمعارك (¬1). وأصدر الخليفة أوامره المشددة في نفس الوقت إلى سائر العمال بالمنازل وأمهات الطرقات بتمهيد المسالك، وتوطيد السبل، ونصب الجسور في أماكنها، وإعداد الأقوات والعلوفات، فكان الجند يسيرون في طرق ممهدة، موفورة المرافق والموارد، مما لم يكن معهوداً من قبل في مثل هذه الرحلات الغازية. واستراح الخليفة وجيشه في حضرة فاس، وقضى بها معظم أشهر الشتاء، وغمر والي فاس وأهلُها الجيش الموحدي، بمختلف ضروب الإكرام والضيافات، وجدد الجند أسلحتهم وعددهم وملأوا أزودتهم، ونظر الخليفة في شئون المدينة، وترتيبها على أكمل وجه، ثم غادر الخليفة وجيشه فاس إلى رباط تازة وهو خلال الطريق دائب النظر في شئون الرعية، ومجتهد في إزالة المظالم، وتحقيق مبادىء العدل والإنصاف. وفي تازة لاحظ الخليفة أن الإخوة والأعمام قد اختصوا بلباس الغفائر الزبيبية، والبرانس المسكية، فأنكر عليهم اتخاذ ذلك الزي لكونه زي الخليفة في حالتي ركوبه وجلوسه، فجمعهم السيد أبو زيد والي بجاية السابق باعتباره عميدهم، المقدم عليهم، وذكرهم بوجوب التزام المراسيم الخلافية، وأن يتجنبوا التشبه بالخليفة فيما هو خاص به فامتنعوا من ذلك الحين عن اتخاذ الملابس التي تحمل الألوان الخلافية (¬2). ولما وصل الجيش الموحدي إلى أراضي قسنطينة، وكان علي بن غانية يرقب حركاته، اجتمع ابن غانية في قواته من الميارقة والأعراب والأغزاز وبعض طوائف سُليم، على مقربة من القيروان، وبدت طلائعهم أمام الجيش الموحدي، وكان رأي الخليفة يعقوب أن يبادر بمهاجمة خصومه من قبل أن يكمل استعدادهم، ولكن الأشياخ والوزراء رأوا في المجلس الذي عقد للشورى أن الأفضل، أن يتابع الجيش الموحدي سيره إلى تونس، وهنالك ينال قسطه من الراحة والاستعداد، وهكذا وصل الجيش الموحدي إلى تونس في شهر صفر سنة 583 هـ. ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب القسم الثالث ص 158. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 158 و 159.

وقد كان هذا خطأ عسكرياً دفع الموحدون ثمنه غالياً. ذلك أنه لما وصل الجيش الموحدي إلى تونس، واستراح الجند من أثقالهم، وجددوا مؤنهم ولوازمهم، جهز الخليفة حملة من ستة آلاف فارس تحت إمرة ابن عمه السيد أبي يوسف يعقوب ابن أبي حفص، وعمر بن أبي زيد من أشياخ الموحدين، والقائد علي الربرتير، وسارت هذه الحملة إلى مقاتلة علي بن غانية وجموعه، وكانت ترابط على مقربة من قفصة. فلما اقترب الموحدون من محلة الميارقة وحلفائهم الترك تحت إمرة قراقوش، خرج إليهم علي بن غانية في جموعه، والتقى الفريقان في السهل المسمى بسهل " عُمرة " وذلك في اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة 583 هـ (25 مايو سنة 1187 م) ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وظهر انقسام الجيش الموحدي واختلاله منذ البداية، حيث تقدم الجناح الذي يقوده علي الربرتير إلى الهجوم فمزقته سهام الأعداء وطعناتهم، وسقط الربرتير أسيراً وتفرق صحبه، وحدث مثل ذلك حينما هجم القائد أبو علي بن يومور في طوائف العرب الذين يقودهم، فخذلوه في القتال كعادتهم المأثورة، وأسر ابن يومور وقد أثخن جراحاً. واختلت صفوف الموحدين في كل ناحية وكثر القتل فيهم، وما انتهى النهار حتى كان الجيش الموحدي قد مزق تمزيقاً، وفر السيد أبو يوسف في فل من أصحابه صوب تونس، وهلك عدة من الأشياخ، وفي مقدمتهم عمر بن أبي زيد، وبقى معظم الرجالة ممن لم يستطيعوا الفرار ولاسيما الجرحى، فلجأوا إلى قفصة، وشجعهم على ذلك ابن غانية، ووعدهم بالأمان وتركهم يملأون طرقات المدينة، حتى إذا اجتمعوا فيها أمر بقتلهم، فقتلوا جميعاً. وجلس ابن غانية بخباء السيد أبي يوسف، وجمعت بين يديه أسلاب الموحدين وأسلحتهم، ففرقها في جنده، واقتيد إليه علي بن الربرتير وابن يومور، فأمر بتعذيبهما ثم قتلهما، وعلق رأس ابن يومور على باب قفصة. وكانت على الجملة هزيمة ساحقة للموحدين لم يصبهم مثلها منذ بعيد (¬1). وكان لتلك النكبة في نفس الخليفة يعقوب المنصور أعمق وقع، فاعتزم أن يأخذ بالثأر، وأن يستأصل شأفة العدو، ولم يدخر وسعاً في الأهبة، وفي تمييز جيشه وفي إعداده للضربة الحاسمة. ثم خرج في قواته من تونس في مستهل شهر رجب سنة 583 هـ (8 سبتمبر سنة 1187 م) وسار جنوباً صوب القيروان، ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب القسم الثالث ص 160 و 161، ورحلة التجاني ص 136 و 162. وراجع A. Bel: ibid ; p. 78 - 80

وقد برز الجيش الموحدي في أروع حلله واكتمال عدته، وسمة خطورته، ولما وصل المنصور إلى القيروان، وجه منها إلى ابن غانية وحلفائه كتاباً ينذرهم فيه بوجوب دخول الطاعة، ونبذ الشقاق والعدوان، فاعتقل ابن غانية الرسول ولم يجبه بشىء (¬1) ولكنه جد في أهباته، ورأى الخليفة خلال تجواله بالقيروان، وأحيائها الخربة المقفرة، ما انتهى إليه جامعها الشهير من العفاء والبلى، فبعث من فوره إلى ولاة شرقي الأندلس، بإعداد كساه وفرشه وزخارفه. واستمر سير الجيش الموحدي بعد ذلك جنوباً في طريق قابس حتى وصل إلى مقربة من " الحَمّة " الواقعة على مقربة منها، وقد بدت طلائع العدو، وكان علي بن غانية وحلفاؤه من الترك والعرب، قد عسكروا في موقع حصين على مقربة ْمن الحمة في انتظار الموحدين. فضرب الموحدون محلتهم إزاء العدو، واعتزم المنصور أن يبادر منذ الغد بمهاجمة العدو، وأن يقود المعركة بنفسه بالرغم من اعتراض القرابة والأشياخ، وقدم المنصور على مختلف القبائل أشياخ قرابته وأكابر عشيرته. وما كاد الصبح يسفر، وتبدد الشمس حجب الضباب المتراكم، حتى دفع المنصور بعض قواته على معسكر العرب الضالعين مع العدو، فبدد شملهم وأركنوا كعادتهم إلى الفرار، واحتوى الموحدون على سائر أسلابهم، وفتت هذه الضربة الأولى في عضد ابن غانية وحلفائه. ثم انقض المنصور بعد ذلك في سائر قواته على جموع الميارقة والترك، ونشبت بين الفريقين معركة دموية عنيفة لم تدم سوى بضع ساعات، وقد أدرك علي بن غانية وحليفه أنهما يخوضان المعركة الحاسمة في ظروف قاتمة. ولم يأت الظهر حتى كان الموحدون قد مزقوا صفوف العدو تمزيقاً، وأبيد معظمهم بالقتل، وفرقت فلولهم في مختلف الأنحاء، وكانت ضربة دموية ساحقة للميارقة والترك، وفر ابن غانية وحليفه قراقوش في بعض فلولهما صوب توزر، فسار الموحدون في أثرهم، ولما اقترب الموحدون من توزر علم المنصور أن ابن غانية وحليفه قد فرا إلى الصحراء وغاض أثرهما. وتمت هذه الهزيمة الساحقة على ابن غانية في يوم الأربعاء التاسع من شعبان سنة 583 هـ (15 أكتوبر سنة 1187 م) (¬2). ¬_______ (¬1) الرسائل الموحدية - الرسالة الثلاثون ص 186. (¬2) ابن الأثير ج 11 ص 196، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 162 و 163، ورحلة التجاني ص 136، و 137 و 162، والرسالة الثلاثون من رسائل موحدية ص 188. وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 81 & 82

خريطة: إفريقية والمغرب الأوسط ومواقع الصراع بين بني غانية وبين الموحّدين سنة 580 هـ - 605 هـ.

وسار المنصور على الأثر إلى قابس، وقد كانت مركز قراقوش، فاستولى عليها في اليوم التالي بالأمان، وقبض فيها على أهل قراقوش وذويه وصحبه، بعد أن حاولوا عبثاً الامتناع بالقصبة، واستصفى أموالهم، وأرسلهم، رقيقاً إلى مراكش (¬1). ثم سار من قابس إلى بلاد الجريد في طرق وعرة مقفرة، واستولى تباعاً على قواعد هذه المنطقة: نواوة وتوزر، وتقيوس، والحَمّة، ونفطة، وأهمها هي توزر عاصمة بلاد الجريد، وقام أهل هذه البلاد ضد من كان بها من بقية الميارقة، وأبادوهم قتلا وأسراً، وفرت فلولهم من توزر إلى الصحراء. ثم سار الموحدون بعد ذلك من توزر إلى قفصة، وكانت بها بقية كبيرة من صحب الميورقي وحلفائه الغز، فامتنعوا بها معتمدين على حصانتها، وأسوارها العالية، فضرب الموحدون حولها الحصار، وسلطوا عليها المجانيق وخربوا ما حولها من الزرع وغابات النخيل الهائلة، وصنعوا برجاً عالياً من سبع طبقات، شحن بالكماة والرماة، ودفع حتى حاذى السور، وردموا الخندق المقابل لثلمة السور حتى ساوى وجه الأرض، وأصبح السبيل ممهداً لاقتحام المدينة، بيد أن المهمة كانت شاقة، وقد ألقى المدافعون عند أول محاولة، على الموحدين، وابلا هائلا من الأحجار، فارتدوا ليستعدوا لإعادة الكرة في اليوم التالي. ولكن أهل المدينة أدركوا ما سوف يحل بهم من الدمار، فخرج أعيانهم بالليل، وقصدوا إلى الخليفة المنصور ملتمسين الأمان، وبحث المنصور الأمر مع القرابة والأشياخ، فاستقر الرأي على أن يؤمن أهل البلد الأصليين في أنفسهم وأملاكهم، وأن يؤمن الأغزاز (الغز) في أنفسهم وما ملكت أيمانهم، وأن يخرج كل من كان بالبلد من الحشود، والغرباء على الحكم، وأنه لا أمان للميورقيين ومن والاهم من الصحب والأوباش، فتم الاتفاق على ذلك، وفي صباح اليوم التالي خرج سائر من بالبلد من الشيخ الهرم إلى الغلام اليافع، ولم يبق بالبلد سوى النساء والأطفال، ومُيز الناس، وعزل منهم أهل البلد، فأخلى سبيلهم، وسُمح لهم بالرجوع إلى بلدهم، وعزل أصناف الجنود والغوغاء وسائر أهل الحشود، ومن جملتهم إبراهيم بن قراتكين أحد قواد الغزو الوافدين من مصر وهو الذي سبق ذكره، فقبض عليهم جميعاً، وزجوا إلى البرج الكبير، ثم اقتيدوا بعد صلاة الظهر بين يدي المنصور، فأمر بإعدامهم جميعاً فأعدموا زمراً، وألقوا إلى الحفير، ¬_______ (¬1) الرسالة الثلاثون من رسائل موحدية ص 190.

ونقل المنصور محلته بعيداً عن مسرح المذبحة، وأمر بهدم أسوار قفصة فهدمت على الأثر. وكان الاستيلاء على قفصة فيما يرجح في أوائل ذي القعدة سنة 583 هـ (يناير سنة 1187 م) وليس في شعبان حسبما يقول صاحب البيان المغرب، إذ كانت موقعة الحمّة في التاسع من شعبان، ثم كان بعدها الاستيلاء على قابس وسائر قواعد بلاد الجريد، ثم حصار قفصة، وقد اقتضى وحده مجهودات متعاقبة، وليس من المعقول أن تقع هذه الأحداث كلها في أسبوعين أو ثلاثة. ومن جهة أخرى فإن الخليفة يؤرخ رسالته التي وجهها من قفصة إلى الطلبة والأشياخ والأعيان والكافة بمراكش عن فتح قفصة في الثالث عشر من ذي القعدة سنة 583 هـ (¬1). ووصل إلى المنصور، يوم حلوله تحت أسوار قفصة، خطاب من قراقوش، يعرب فيه عن خضوعه ورغبته في دخول التوحيد، وأنه على استعداد إذا ما قبلت توبته أن يأتي إلى الموحدين مستنيباً طائعاً. وفي اليوم التالي وصل خطاب مماثل من أبي زيان زعيم الغز، وزميل قراقوش السابق، وهو الذي استقل بحكم طرابلس، يعرب فيه عن انضوائه تحت لواء التوحيد، وأنه قد أظهر دعوة التوحيد بطرابلس ونواحيها (¬2). وكان لهذه الانتصارات الرنانة التي أحرزها المنصور على أعدائه في إفريقية أبعد صدى. وقد أكثر الشعراء بهذه المناسبة من نظم قصائد التهنئة والمديح، فكان مما قاله أبو بكر بن مُجبر في يوم الحمّة قصيدة هذا مطلعها: أسائلكم لمن جيش لهام ... طلائعه الملائكة الكرام أتت كتب البشائر عنه تترى ... كما يتحمل الزهر الكمام ومنها: لقد برزت إلى هون المنايا ... وجوه كان يحجبها اللثام وما أغنت قسي الغز عنها ... فليست تدفع القدر السهام غدوا فوق الجياد وهم شخوص ... وأمسوا بالصعيد وهم رمام ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 166 - 168، ورحلة التجاني ص 138 و 139، والرسالة الثانية والثلاثون من رسائل موحدية ص 204 - 208. (¬2) الرسالة الحادية والثلاثون من رسائل موحدية ص 198.

هو الأمير الرضي طوبى لنفس ... يكون لها بعصمته اعتصام حياة الدين دولته فدامت ... لأمر قد أتيح له الدوام سلام الله من قرب وبعد ... عليه وحسب ما نزل السلام وعاد المنصور بعد افتتاح قفصة في قواته إلى تونس. ويقول لنا ابن عذارى إنه دخل تونس في العشرة الأخيرة من شوال سنة 583 هـ. ونحن نعتقد تبعاً لما سبق أن أوضحناه عن تاريخ فتح قفصة، أن عودته إلى تونس كانت بعد ذلك بقليل. ومكث المنصور في تونس بضعة أسابيع ينظم الشئون، ويوطد الأحوال بعد ما طرأ عليها من الاضطراب والتزعزع، وعقد لأخيه السيد أبي زيد على ولاية إفريقية. ولما انتهى من ترتيب الشئون، سار إلى المهدية وقد أعلن عزمه على القفول إلى المغرب، وأمر باتخاذ العدة للرحيل، فقضى بها فترة يسيرة، وبعد أن نظر في شئونها، وندب عمالها، غادرها مرتحلا إلى الحضرة، وذلك في المحرم سنة 584 هـ (مارس سنة 1188 م). فسار تواً إلى تلمسان عن طريق تاهَرْت، حتى وصلها دون توقف أو تلوم. وكانت قد وصلته خلال وجوده بإفريقية أنباء مقلقة عن بعض مؤامرات تُدبر، وعن بعض شخصيات من القرابة تتحفز للتمرد والوثوب. وكان أول من تلقاه بتلمسان عمه السيد أبو إسحق إبراهيم بن عبد المؤمن، وكان قد نُمي إلى الخليفة، أن هذا العم يطعن في آرائه، ويسفه تصرفاته، ولاسيما عقب هزيمة عُمرة، فلما قدم للسلام عليه، رده المنصور بجفاء، وكان مريضاً منذ مدة، فاشتد به المرض ولم يلبث أن توفي. بيد أنه كان ثمة ما هو أخطر من النقد الصراح. ذلك أنه على أثر هزيمة عُمرة التي مزق فيها الجيش الموحدي وقتل معظم قادته، لاح لبعض السادة أن دولة المنصور قد تصدعت دعائمها، وأضحت على وشك الانهيار، وكان في مقدمة هؤلاء وأشدهم إقداماً وجرأة، أخو الخليفة السيد أبو حفص عمر الملقب بالرشيد والي مرسية، وعمه السيد أبو الربيع سليمان والي تادلا. فأما الأول وهو الرشيد، فقد كان يبسط على ولاية مرسية حكم إرهاب حقيقي، وكان يسوم الناس الخسف، ولاسيما التجار، ويستصفي أموالهم بالإرهاب والقتل، ويستنزف ما في بيوت المال، وكان مما فعله أن قبض على ابن رجاء مشرف مرسية، وألزمه بإحضار تقييدات أبواب الجباية، ولما عجز عن ذلك أمر بقتله

فقتل، وفر ابن سليمان صاحب العمل إلى بلنسية، وكذلك فر منها الكاتب حكم ابن محمد ناجياً بحياته، ولكن الرشيد استدعاه بالخديعة ولين القول، ثم غدر به وقتله، والخلاصة أن الرشيد كان يرهق أهل مرسية، خاصتهم وعامتهم بصنوف بطشه وبغيه. بيد أن الأمر لم يقف عند هذا الحد. ذلك أن الرشيد كان يضمر مشاريع أخرى. فلما وقعت هزيمة عُمرة، اضطربت مخيلته بمختلف الأطماع والمشاريع، وبادر بالاتصال بألفونسو الثامن ملك قشتالة، وعقد معه حلفاً سرياً تسربت أنباؤه إلى الخليفة مع الواصلين من الأندلس. فلما حدثت موقعة الحمّة، وأحرز المنصور نصره الساحق على ابن غانية وحلفائه، أدرك الرشيد أنه توغل في أوهامه، وارتد إلى شىء من التعقل والتريث، ولم يلبث أن وصله أمر أخيه الخليفة بالاستدعاء إلى حضرة مراكش، فسار إليها وهو معتمد على عطف أخيه وصفحه وإغضائه، وتنفس على أثر رحيله مخنق أهل مرسية. وأما السيد أبو الربيع عم الخليفة، فقد كان ممن عارض في توليته وتخلف عن مبايعته منذ البداية، وكان حين وقعت حوادث إفريقية يتولى النظر على إقليم تادلا الواقع على مقربة من شمال شرقي مراكش، فلما وقعت نكبة الجيش الموحدي بعُمرة، أخذ السيد أبو الربيع في مفاوضة بعض قبائل صَنهاجة القريبة لمعاونته على الثورة، والقيام بأمرها، فلم تنجح محاولته، وأعرضت تلك القبائل عن مساومته. وسار إليه في نفس الوقت السيد أبو زكريا يحيى بن السيد أبي حفص في سرية كبيرة من الموحدين، فأحاطت بقاعدة تادلا وحالت بين السيد أبي ربيع وبين أية حركة أو نشاط يخشى منه، ولم يجد السيد أمامه سبيلا سوى التوبة والاستسلام، فأمر بالذهاب لمقابلة الخليفة، وكان الخليفة في طريقه إلى الحضرة، فقصد إليه في محلته على مقربة من مكناسة، ووصل السيد أبو حفص عمر الرشيد في نفس الوقت قادماً من الأندلس، فأمر الخليفة بنزوله مع نفر من صحبه وحاشيته على انفراد. ثم أمر بالقبض على السيدين أخيه وعمه، وبعث بهما مكبولين إلى رباط الفتح، واعتقلهما بالقصبة، حتى يصدر في شأنهما أمره. ولما وصل الخليفة إلى مراكش، وانتهت مراسيم التحية، واستقبال الوفود، بحث مع السيد أبي الحسن، نائبه بمراكش، ومع أشياخ الموحدين، أمر السيدين المذنبين، وذلك على ضوء ما صدر منهما من محاولات في الخروج والثورة، وهو ما يستوجب إعدامهما شرعاً، وانتهى الأمر بتقرير إعدامهما، وبعث الخليفة إلى عثمان

ابن عبد العزيز الكومي قائد قصبة رباط الفتح، بأن يتولى تنفيذ هذا الحكم فيهما، فقام بالمهمة، وضرب عنقاهما، وقُتل معهما في نفس الوقت عدد ممن تحقق اشتراكه معهما في محاولاتهما (¬1). ويزيد صاحب روض القرطاس على ذلك، أن الخليفة قتل أيضاً أخاه أبا يحيى، بمعنى أنه أمر بإعدام ثلاثة من السادة دفعة واحدة، أحد أعمامه، واثنين من إخوته (¬2)، ووقع ذلك فيما يرجح في أواسط سنة 584 هـ، (1188 م). ويقول لنا المراكشي إنه كان لهذا التصرف الدموي وقع عميق لدى قرابة الخليفة فهابوه، واشتد خوفهم وتوجسهم منه بعد أن كانوا يتهاونون بأمره ويحتقرونه، لأشياء كانت تصدر منه في صباه أيام أن كان بالأندلس والياً لإشبيلية (¬3). وما كاد المنصور يستقر بمراكش، بعد أن اطمأن إلى استتباب السكينة، وتوطد سلطان الموحدين بإفريقية، حتى أخذ ينظر في شئون الأندلس. وكانت الأحوال في شبه الجزيرة، قد أخذت خلال انشغاله بحوادث المغرب وحملة إفربقية، تتطور بصورة تدعو إلى القلق، واشتد عدوان البرتغاليين من جهة على قواعد ولاية الغرب الجنوبية وانتهى بالاستيلاء على شلب وأحوازها، ووصلت غارات القشتاليين من جهة أخرى إلى أحواز إشبيلية؛ ومن ثم فقد خص المنصور شئون الأندلس بعنايته، وأخذ في الاستعداد لتدارك تلك الحال، والعمل على قمع عدوان النصارى. فأذاع الدعوة إلى الجهاد على حكم الاختيار والتطوع، فتقاطرت جموع المتطوعين المجاهدين إلى الحضرة، من سائر جنبات المغرب، ومن مختلف الطوائف والقبائل، وبعث الخليفة إلى العمال بالاستعداد، وضرب الآلات الحربية، وإعداد العتاد والأقوات، ثم ندب لولاية إشبيلية ابن عمه السيد أبا حفص يعقوب بن السيد أبي حفص عمر، وكان موضع ثقته وإيثاره، كما كان أبوه من قبل موضع حب أبيه وإيثاره، وذلك لكي يعمل على مواجهة الأحداث بالأندلس بروح وهمة جديدين، وندب ابن عمه السيد أبا الحسن ابن أبي حفص والياً لتلمسان، وعهد إليه بشئون المخازن والمؤن، والسهر على إعدادها وتوفيرها للحشود المقبلة (¬4). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 171 - 173، والمعجب ص 156. (¬2) روض القرطاس ص 143. (¬3) المعجب ص 157، ويقول لنا المراكشي أيضاً إن قتل السادة كان في سنة 583 هـ، وهو تاريخ خاطىء، لأن عودة الخليفة من غزوته الإفريقية، كان في المحرم سنة 584 هـ. (¬4) البيان المغرب - القسم الثالث ص 174.

الفصل الثانى حوادث الأندلس وإفريقية

الفصل الثاني حوادث الأندلس وإفريقية أطماع البرتغال في ولاية الغرب. تهيؤ الفرص لتحقيقها. مقدم السفن الصليبية إلى مياه أشبونة. اتفاق سانشو ملك البرتغال مع الصليبيين على غزو شلب. موقع شلب وخواصها في ذلك العصر. مسير سانشو وحلفائه الصليبيين إلى الجنوب. زحفهم على شلب واستيلاؤهم على أرباضها. محاصرة شلب وضربها. صمود المدينة. قطع النصارى للماء عنها. اضطرارها إلى التسليم بالأمان. خروج المسلمين منها واستيلاء النصارى عليها. غزوات القشتاليين في منطقة إشبيلية. تأهب الخليفة أبي يوسف يعقوب للجهاد بالأندلس. مسيره إلى رباط الفتح. عبور الجيوش الموحدية ثم الخليفة إلى شبه الجزيرة. مسير الخليفة إلى قرطبة. اجتماع الحشود الموحدية بالأندلس، ومسيرها إلى شلب. مسير الأسطول الموحدي إلى مياه البرتغال الجنوبية. عقد ملكي ليون وقشتالة الصلح مع الخليفة. مسير الخليفة في قواته من قرطبة إلى وادي التاجة. غزوه لمنطقة شنترين. استيلاؤه على قلعة طرش. محاصرته لطومار. تخريبه لبسائط تلك المنطقة. صمود طومار. أمر الخليفة بالكف عن الغزو. عوده في قواته إلى إشبيلية. عود الجيش المحاصر لشلب. فشل هذه الغزوة لأراضي البرتغال. نظر الخليفة في أمر المسجونين والعمال. فتنة الجزيري ومطاردته. ما أذيع حول شخصه. القبض عليه وإعدامه. حقيقة أمره ودعوته الإصلاحية. سفارة صلاح الدين إلى المنصور. ظروف الشرق الإسلامي يومئذ. عدوان الصليبيين واستيلاؤهم على ثغور الشام وبيت المقدس. نهضة صلاح الدين وتحطيمه للمملكة اللاتينية. أثر ذلك في مضاعفة الغرب لأهباته العدوانية. اتجاه صلاح الدين إلى طلب العون من المغرب. رسالته الأولى إلى الخليفة الموحدي. سفارته إليه على يد ابن منقذ. ما جاء في رسالته إلى الخليفة. أقوال الروايات المصرية والمغربية عن حركات السفير المصري ومصير سفارته. استقبال الخليفة لابن منقذ وتسلم هدية صلاح الدين. فشل هذه السفارة وبواعث هذا الفشل. المغزى العظيم الذي تنطوى عليه، أهبة المنصور لاستئناف الغزو. خروجه في قواته من إشبيلية. مسيره إلى البرتغال. مهاجمته لقصر الفتح. تسليم النصارى إياها بالأمان. استيلاء الخليفة على حصن قلمالة والحصون المجاورة. مسير الموحدين إلى شلب. محاصرتها وضربها بالمجانيق. اقتحامها وتسليمها بالأمان. عود المنصور إلى إشبيلية. عبوره إلى العدوة ومسيره إلى الحضرة. مرض المنصور. اخياره لولده محمد لولاية العهد. ملخص بيعة أهل قرطبة لولي العهد. مقدم السيد أبي زيد وأشياخ العرب. استجمام الخليفة بفاس. مسيره إلى رباط الفتح وتجديد قصبتها. عوده إلى مراكش. أمره بإنشاء حصن الفرج بشرف إشبيلية. فتنة الأشل ببلاد الزاب. مطاردة والي بجاية له. حماية العرب له. تحيل الوالي في القبض على العرب. اضطرار عشائرهم إلى القبض على الثائر وتسليمه. استئناف بني غانية لحركاتهم. عيثهم في بلاد الجريد. وفاة علي بن إسحاق ابن غانية. قيام أخيه يحيى مكانه بالأمر. توحيد قراقوش ومسيره إلى تونس. بواعث هذا التصرف. فراره من تونس وعوده إلى مغامراته. استيلاؤه على طرابلس. الخلاف بينه وبين يحيى. هزيمة قراقوش وفراره. استيلاء يحيى على طرابلس. ثورة أهل طرابلس وعودهم لطاعة الموحدين.

لم يكن ثمة شك في أن نكبة شنترين، وما ظهر خلالها من عجز الجيوش الموحدية الجرارة، واختلال نظامها، كان له أكبر الأثر في إذكاء أطماع ملك البرتغال ألفونسو هنريكيز (ابن الرنق) في انتزاع ما تبقى من ولاية الغرب الأندلسية، وفي مضاعفة شهوة العدوان والتغلب، في نفسه الوثابة المضطرمة. ولكن ألفونسو هنريكيز لم يعش طويلا ليقوم بنفسه بتحقيق هذه الأطماع العريضة، إذ توفي في السادس من شهر ديسمبر سنة 1185 م (أواخر سنة 581 هـ)، بعد أن حكم مملكة البرتغال زهاء نصف قرن، وبعد أن وطد أركانها، ووسع حدودها شرقاً وجنوباً على حساب الأراضي الإسلامية، وكانت وفاته لنحو عام ونصف فقط من وفاة الخليفة أبي يعقوب يوسف عقب نكبة شنترين. فخلفه ولده سانشو الأول، وهو يضطرم بمثل أطماعه، وقضى أعوام حكمه الأولى في العمل على إصلاح البلاد والحصون التي خربتها الحرب، وتعميرها بالسكان. ومنذ بداية سنة 1189 م (585 هـ) نراه يعد العدة لاستئناف غزو الأراضي الإسلامية. وكانت كل الظروف تشجعه، وتعضد مشاريعه. فقد كان الخليفة الموحدي، بعيداً في المغرب تشغله أحداث إفريقية، ومغامرات بني غانية، ومؤامرات الخوارج عليه، وكانت هذه الأحداث المحلية الخطيرة تجعل من المتعذر على الخليفة الموحدي، أن يبعث بشىء من حشوده إلى شبه الجزيرة، وكانت القوات الموحدية بالأندلس قليلة العدد والعُدد، لا تكفى لدفع عدوان النصارى سواء من ناحية مملكة قشتالة أو مملكة البرتغال. ومن جهة أخرى، فقد كانت الظروف تهيىء لنصارى البرتغال أمداداً طارئة لم تكن في الحسبان، هي الأمداد الصليبية، التي عادت تتقاطر إلى المشرق من ناحية المحيط، لتنجد الجيوش الصليبية التي ضعضعتها ضربات صلاح الدين، وسقوط المملكة اللاتينية، باسترداد صلاح الدين لبيت المقدس في رجب سنة 583 هـ (أكتوبر سنة 1187 م). ففي أوائل سنة 1189 م (أوائل 585 هـ)، وصل أسطول صليبي ضخم من خمسين سفينة، يحمل عدداً وافراً من الجند الألمان والفلمنك إلى مياه إسبانيا الغربية في طريقه إلى البحر المتوسط، ورسا في مياه جليقية قبالة مدينة شنت ياقب المقدسة، ونزلت منه بعض طوائف من الجند لتزور قبر القديس ياقب، ولكن أهل المدينة توجسوا شراً من مقدم أولئك الجند، وخشوا أن تمتد أيديهم إلى الذخائر التي يحفل بها مزار هذا القديس، فردوهم بعد معركة عنيفة، قتل فيها عدد من

الجانبين، وعاد الجند الصليبيون إلى سفنهم، فسارت بهم نحو الجنوب، وتقدم في نفس الوقت إلى هذه المياه أسطول صليبي آخر من انجلترا وبلاد الفلاندر، ودفعته الأنواء والعواصف الجامحة نحو مياه أشبونة، ثم انضمت إليه السفن القادمة من مياه جليقية، فاجتمع بذلك في مياه أشبونة عدد ضخم من السفن الصليبية، تحمل ألوفاً عديدة من المقاتلة، فتلقاهم سانشو ملك البرتغال بترحاب، وألفي في مقدمهم فرصة طيبة للاستعانة بهم في غزو القواعد الإسلامية الجنوبية، وتفاهم مع الرؤساء والقادة الصليبيين على تسيير حملة قوية مشتركة إلى مدينة شلب، لانتزاعها من المسلمين، لأنهم يتخذونها بالأخص قاعدة للخروج إلى شواطىء المحيط يغزونها، وينهبون ثغورها، ويأسرون كثيراً من النصارى (¬1)، فاستجاب إليه الصليبيون، بما أذكى أطماعهم من إحراز الغنائم والثروات من أراضي المسلمين. وكانت شلب، في ذلك الوقت، بعد باجة ويابرة، أمنع قواعد ولاية الغرب الأندلسية، وأوفرها عمراناً وثراء، وهي تقع في أقصى جنوب البرتغال، على مقربة من المحيط، فوق ربوة متدرجة تشرف على نهر دراد الذي يصب في المحيط جنوباً قرب ثغر بورتماو الصغير، ومن حولها بسائط خضراء، تكثر فيها غابات الزيتون، والحدائق والحقول اليانعة، وإليك كيف يصفها لنا الشريف الإدريسي، وقد زارها قبل ذلك بنحو نصف قرن: " ومدينة شلب حسنة في بسيط من الأرض وعليها سور حصين، ولها غلات وجنات. وشرب أهلها من واديها الجاري إليها من جهة جنوبها وعليه أرحاء البلد، والبحر منها في الغرب على ثلاثة أميال، ولها مرسى في الوادي وبها الإنشاء، والعود بجبالها كثير، يحمل منها إلى كل الجهات. والمدينة في ذاتها حسنة الهيئة بديعة المباني مرتبة الأسواق، وأهلها سكان قراها من عرب اليمن وغيرها، وكلامهم بالعربية الصريحة، ويقولون الشعر، وهم فصحاء نبلاء خاصتهم وعامتهم " (¬2). تلك هي شلب الإسلامية التي أزمع سانشو ملك البرتغال وحلفاؤه الصليبيون ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 175، وأشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين، الترجمة العربية، الطبعة الثانية، ص 329 و 330، وراجع أيضاً: Huici Miranda: Imperio Almohade, cit. Las Cronicas dos Sete Reis de Portugal p. 342 (¬2) الإدريسي في وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس (ص 179 و 180)، ونقله صاحب الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) ص 106.

أن ينتزعوها من المسلمين. ففي أوائل سنة 585 هـ (أوائل سنة 1189 م)، بعث سانشو بقواته البرية جنوباً صوب شلب، وسارت سفن الصليبيين من خليج التاجُه حذاء الشاطىء البرتغالي حتى مياه ثغر بورتماو الصغير، الواقع على قيد إثنى عشر كيلومتراً من جنوبي شلب. وبدأ البرتغاليون بمهاجمة حصن ألبور (¬1) الواقع على مقربة من غربي بورتماو، وقتلت حاميته الإسلامية ومن كان به من اللاجئين المسلمين، وعددهم جميعاً يقرب من الستة آلاف (¬2)، ثم زحف سانشو بعد ذلك في قواته وقوات حلفائه الصليبيين، نحو المدينة الإسلامية، وهاجموا أرباضها، واستولوا عليها في الحال. وكان والي المدينة عندئذ الحافظ عيسى بن أبي حفص ابن علي، رجلا عاجزاً قليل الخبرة بشئون الدفاع، فامتنع بقواته داخل المدينة، معتمداً على حصانتها الطبيعية، وأسوارها القوية العالية، وشغل الصليبيون عن مهاجمة المدينة بنهب ما حولها من الأرباض والمحلات، وحاول سانشو مدى بضعة أسابيع أن يقتحم المدينة بالهجوم في قواته، ولكن محاولاته ذهبت عبثاً. فاضطر أن يلجأ إلى الحصار، وأن يستدعي قوات جديدة لمعاونته قدمت في أربعين سفينة جديدة. وتضع الرواية النصرانية بدأ حصار شلب في 21 يوليه سنة 1189 م (ربيع الآخر سنة 585 هـ). وحاول سانشو في بدء الحصار أن يعاود اقتحام المدينة، فضربها بالمجانيق والنبال ضرباً شديداً، ولكن ذلك لم يؤثر شيئاً على تحصينات المدينة القوية، وحاول الجند الفلمنك من جهة أخرى أن يحفروا السراديب تحت الأسوار وأن يحدثوا بها ثلمات للدخول، فأحبط أهل المدينة كل محاولاتهم. وكان من الممكن أن يطول هذا الموقف، وأن تصمد المدينة للحصار، مدة طويلة، لولا أن عمد سانشو إلى محاولة قطع الماء عن المدينة، وإرغامها إلى التسليم من جراء العطش. وكانت شلب تستمد ماءها من النهر القريب بواسطة بئر كبيرة أقيمت قرب السور تسمى " القراجة "، وأقيم فوقها لحمايتها برج قوي، ففكر المحاصرون في هدم هذا البرج، وهاجموه بواسطة السلالم، فلما رأى المسلمون هذه المحاولة، خرجوا لمنعها، ونشبت حولها معركة تفوق فيها النصارى واستولوا على البئر. وكانت هذه بالنسبة للمسلمين ضربة مؤلمة، لم تلبث أن حققت نتيجتها المحتومة. ذلك أن العطش أخذ إلى جانب الجوع، يحدث أثره ¬_______ (¬1) حصن ألبور بالإفرنجية Alvor. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 175.

خريطة: مواقع غزوات النصارى وغزوات الموحدين في شبه الجزيرة في عهد أبي يعقوب يوسف وأوائل عهد المنصور.

المروع في أهل المدينة، وكان النصارى يترقبون الفرصة القريبة لمهاجمة المدينة واقتحامها، بعد أن يعجز أهلها عن الدفاع تماماً. ولكن المدينة لم تستطع أن تصمد حتى هذه اللحظة، ولم يلبث أن بعث أهلها وفدهم إلى سانشو، يعرض عليه تسليم المدينة، إذا وافق على أن يخرجوا منها حاملين سائر أمتعتهم، فتفاوض سانشو مع حلفائه، وكان رأي الفلمنك الصليبيين أن يقتل أهلها المسلمون جميعاً، ولكن الرأي انتهى بإقناعهم بالحصول على أسلاب المدينة، واتفق في النهاية على أن يؤمن أهل المدينة في أنفسهم، وأن يتركوا البلد بجميع ما فيه من أموالهم وأثاثهم. وهكذا غادر أهل شلب مدينتهم " مسلوبين "، ودخل النصارى مدينة شلب، بعد حصار دام ثلاثة أشهر، في يوم الاثنين العشرين من رجب سنة 585 هـ (3 سبتمبر سنة 1189 م) (¬1). وكان سقوط مدينة شلب على هذا النحو ضربة قاصمة لسلطان الموحدين في ولاية الغرب، إذ كانت هي آخر معاقلهم في تلك المنطقة الحساسة، وسقوطها بعد سقوط باجة قبل ذلك بعشرة أعوام، يفتح الطريق لتهديد بقية ولاية الغرب في اتجاه ولبة ولبلة ثم إشبيلية. على أن الأمر لم يقف عند ذلك الحد. ذلك أن القشتاليين كانوا من الناحية الأخرى، يهددون موسّطة الأندلس، ومنطقة إشبيلية بالذات، بغاراتهم المتوالية. ففي نفس الوقت الذي سارت فيه القوات البرتغالية والصليبية لافتتاح شلب، خرج ألفونسو الثامن ملك قشتالة في قواته، نحو منطقة قرطبة، ثم اكتسح البسائط غرباً نحو إشبيلية، وهو يعيث فيها قتلا وسلباً، فخرجت قوات إشبيلية إلى لقائه فأوقع بها الهزيمة، والتجأت فلولهم إلى حصن المنار، فطاردهم النصارى واستولوا على الحصن، واستأصلوا من فيه من المسلمين قتلا وأسراً. ولم يمض قليل على ذلك، حتى سار ألفونسو إلى أم غزالة، وكانت قد أخليت من سكانها قبل وصوله، فحاصرها وقتاً ثم تركها، وسار إلى ربينة، واستولى عليها، وقتل معظم سكانها وأسر الباقين، واستمر في حملته الغازية حتى قلعة جابر، ثم حصن شلير، وكان ذلك في جمادى الآخرة من سنة 585 هـ (أغسطس سنة 1189) (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 175 و 176، والروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس ص 106) وراجع: Huici Miranda: ibid ; (cit. Relaciones) , p. 342 - 346 (¬2) البيان المغرب ص 175 و 176.

وعاد ملك قشتالة بعد حملته المظفرة إلى طليطلة. - 1 - كان لتلك الحوادث أعمق وقع في نفس الخليفة يعقوب المنصور، فما كاد يقف على أخبارها، حتى أخذ في التأهب للعبور إلى الأندلس، واستئناف الجهاد، واعتمد في هذه المرة على التطوع في جمع الحشود، حسبما ذكرنا من قبل، وعنى عناية خاصة بتوفير العتاد والسلاح والمؤن، ثم خرج في قواته من مراكش في الرابع عشر من شهر ذي الحجة سنة 585 هـ (23 يناير سنة 1190 م)، وذلك بعد أن وجه كتبه إلى إشبيلية، وغيرها من قواعد الأندلس، بما اعتزمه من قدومه إلى شبه الجزيرة لنصرة أهلها على عدوهم، وما يرجوه من تيسير استقبال الجيوش الوافدة، وسار إلى رباط الفتح، فلما وصلها، أقام بها نحو الأربعين يوماً، حتى وصلت باقي الحشود وقوات القبائل، واستكملت أهبة الجيش الغازي. وفي أواخر شهر المحرم من سنة 586 هـ (أوائل مارس سنة 1190 م) غادر المنصور رباط الفتح في قواته، وسار إلى قصر مصمودة (القصر الصغير) وجدد منه كتبه إلى إشبيلية متضمنة قرب وصوله. ولبث مقيماً بالقصر، حتى كان بدء الجواز في الخامس عشر من ربيع الأول، ولما انتهى جواز الجند، عبر المنصور البحر في يوم الأحد الثالث والعشرين من ربيع الأول، ونزل بجزيرة طريف، وهنالك أقبلت وفود بعض البلاد للسلام عليه، وشكا البعض مما يقع من ظلم العمال، فأغضى المنصور عن مناقشة هذا الأمر في هذه الظروف الدقيقة. ثم تحرك من طريف في غرة جمادى الأولى، وسار شمالا صوب مدينة أركش، وهنالك ودع الوفود الملتفة حوله، وسار إلى قرطبة. وبعث إلى السيد يعقوب بن أبي حفص والي إشبيلية، بأن يتحرك منها بعساكره، وأن يجمع سائر الحشود، من العرب والبربر، من غرناطة وغيرها، ومن تأخر من صنهاجة وهسكورة، وسائر المتطوعة والمجاهدين. فصدع السيد يعقوب بالأمر، وحشد سائر القوات المتقدمة، وسار فيها قاصداً إلى شلب، وذلك في غرة جمادى الأولى (6 يونيه) وعسكر في ظاهر المدينة. ولم يمض شهر على ذلك حتى وصلت سفن الأسطول الموحدي إلى مياه البرتغال الجنوبية

على مقربة من ثغر بورتماو، ثم دنا الموحدون من أسوار شلب، ونصبوا عليها المجانيق، وآلات الرمى، وضربوا حول المدينة حصاراً صارماً مرهقاً. وأما المنصور، فإنه لما وصل بقواته إلى قرطبة نزل بها بالقصر الذي كان أنشأه السيد أبو يحيى. ثم تجول بأطلال مدينة الزهراء، ليشاهد آثار القرون الماضية، وليعتبر بما أحدثته صروف الدهر، وأمر بإنزال التمثال الذي كان منصوباً فوق بابها، وقد كان وفقاً لقول البكري تمثالا للعذراء. ويقول لنا صاحب البيان إنه هبت في عصر ذلك اليوم ريح عاصفة أحدثت بعض الخلل في محلة الساقة، فأذاع بعض عامة قرطبة أن ذلك كان بسبب إنزال تمثال الزهراء، وأن هذا التمثال كان طلسماً لحمايتها، وبلغ المنصور ذلك فسخر منه، وأنحى باللائمة على جهل أهل قرطبة (¬1)، وأمر بالاجتهاد والتأهب. وكان قد وصل إلى قرطبة رسل من قبل ملك قشتالة، جاءوا ليسعوا إلى عقد الهدنة، وكان مقدم الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، قد بث حسبما تحدثنا رسالة الخليفة، بين النصارى، أسباب الجزع والفزع، فبادر ملوكهم إلى إرسال رسلهم في التماس المسالمة والتهادن، وأنه بينما كان الخليفة على وشك العبور من القصر الصغير، وصل رسل ملك قشتالة إلى إشبيلية، يعرضون السلم ويطلبون عقد الهدنة، ويعرضون التحالف على قتال غيرهم من النصارى. تكررت هذه العروض عند وصول الخليفة إلى قرطبة، فاستجاب الخليفة إلى مطالبهم، لأنه حسبما يقول لنا في رسالته، رأى مصلحة المسلمين في افتراق كلمة الكفر، وكذلك عقد ملك ليون الهدنة مع الخليفة، ولم يأبه بالحلف القديم الذي كان قد عقده أبوه فرناندو مع ملك البرتغال أيام موقعة شنترين (¬2). ثم أمر الخليفة السيد أبا زكريا بن أبي حفص أن يسير إلى إشبيلية في جيش خاص من العرب وزناتة وأهل تلمسان ومن إليهم، ليتجهز هنالك وليلحق به وبإخوته في طريق الغزو. وقام المنصور بعد ذلك بتمييز القوات المرتزقة، والحشود الواصلة من العدوة، وفرقت فيهم البركة، ثم أمر بعقد الرايات، وخرج في قواته من قرطبة متجهاً نحو الشمال الغربي إلى وادي التاجُه، ولحق به السيد أبو زكريا في قواته في نفس الاتجاه. وكانت خطة المنصور، فيما يبدو هي العمل ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 175. (¬2) رسائل موحدية - الرسالة الرابعة والثلاثون ص 222 و 223.

على إرغام ملك البرتغال على احتجاز قسم كبير من قواته وقوات حلفائه الصليبيين، في الشمال بعيداً عن شلب، لكي يخفف ضغط النصارى بذلك على القوات الموحدية الضاربة حولها، فتستطيع تكريس جهودها للتغلب على منعة المدينة ذاتها. ومن ثم فقد سار المنصور صوب السهل الممتد على ضفاف التاجه شمالي شنترين، وأثخن الموحدون في تلك الرقعة الخضراء، فانتسفوا زروعها، وخربوا ضياعها، ثم عبروا النهر وساروا لمهاجمة قلعة طرش (¬1) الواقعة على مقربة من شمال شنترين، وهي قلعة عظيمة شديدة المنعة، تقع فوق ربوة عالية، فحاصروها بشدة، ولم تمض أيام قلائل، حتى عرض قائدها التسليم بالأمان، فوافق الخليفة وغادر القلعة كل من كان فيها من النصارى، وفي الحال خرب الموحدون القلعة وسائر متعلقاتها، وتركوها قاعاً صفصفاً، وكانت حسبما تصفها رسالة الخليفة محلة عامرة نضرة، تغص بالغراس والكروم. ثم سار الموحدون بعد ذلك شمالا، وهاجموا مدينة طومار (¬2)، وهي قاعدة منيعة، تقع في بسيط مخصب زاهر، وكانت تدافع عنها حامية من فرسان المعبد (الداوية) فخرب الموحدون بسائطها، ولكنهم اضطروا إلى حصارها، نظراً لما أبدته حاميتها من شدة في الدفاع. ودام الحصار وقتاً دون أن تسلم طومار، ويقول لنا صاحب البيان المغرب، إن رسل ابن الرنك (ملك البرتغال) قدموا عندئذ في طلب المهادنة والسلم، وأن المنصور أمر بتخفيف القتال ريثما ينعقد السلم، وتنتظم الأمور (¬3). ومن جهة أخرى، فإنه يبدو مما يقصه علينا الخليفة في رسالته أن الموحدين، كانوا خلال هذا الحصار، يوجهون سراياهم في سائر البسائط القريبة تثخن فيها، وتمعن في تخريبها، وأن سانشو ملك البرتغال كان في ذلك الحين مرابطاً بقواته في شنترين، لا يجرؤ على الخروج منها لملاقاة الموحدين (¬4). وعلى أي حال فإن الموحدين لم يستمروا في حصار طومار، ولم يأخذوها، وحدث العكس حيث أمر الخليفة بالكف عن القتال واختتام أعمال الغزو. ويقدم إلينا صاحب البيان تفسيراً لذلك خلاصته، أن الخليفة شعر بتوعك تمادى أمره، ¬_______ (¬1) هي بالإفرنجية Torres، وتقوم اليوم مكانها بلدة Torres Novas البرتغالية. (¬2) هي بالإفرنجية Tomar وهي تقع على مقربة من شمالي T. Novas. (¬3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 180. (¬4) الرسالة الموحدية الرابعة والثلاثون ص 225 و 226.

وأنه من جهة أخرى لاحظ أن شئون التموين بالجيش قد اختلت، وأخذت المؤن والعلوفات تنضب، وقد كانت تحمل إليهم على خط تموين طويل يمتد من قرطبة. وهذا بعكس ما كان عليه البرتغاليون حيث استطاعوا قبل الغزو أن يحصدوا معظم زروعهم، وأن يختزنوا المؤن الكافية (¬1). ولهذا كله قرر الخليفة أن يختتم أعمال الغزو، وأن يأمر بالارتداد إلى إشبيلية، وصدرت الأوامر في نفس الوقت إلى الجيش المحاصر لشلب بأن يغادرها على وجه السرعة، وأن يرتد كذلك أدراجه. وقضى المنصور في هذه الغزوة ثلاثة وأربعين يوماً. وكانت عودته إلى إشبيلية في الحادي عشر من شهر جمادى الآخرة سنهّ 586 هـ (يوليه 1190 م) (¬2). ونستطيع أن نقول إن غزوة المنصور لأراضي البرتغال لم تسفر عن نتائج ذي شأن، وأنها كانت بالعكس غزوة فاشلة، فلم تؤخذ طومار، ولم تُسترد شلب، وهي غاية الغزو الأولى. ونستطيع أيضاً أن نلاحظ مرة أخرى أن اختلال شئون التموين في الجيوش الموحدية، كان دائماً في مقدمة أسباب فشلها في تحقيق أغراضها العسكرية. على أننا نستطيع أن نلاحظ في نفس الوقت، أن ما تذرع به المنصور من الحزم في تنظيم الارتداد في الوقت المناسب، كان كفيلا بسلامة الجيش الموحدي، وعدم تعرضه لكارثة أخرى، من طراز كارثة شنترين. على أن المنصور لم تقف همته ومشاريعه عند هذا الحد. ذلك أنه كان يشعر أنه لابد من تحقيق الهدف الرئيسي من عبوره إلى شبه الجزيرة، باسترداد شلب، وضرب قوي البرتغال العسكرية، ومن ثم فقد عول على البقاء بالأندلس، والعكوف على الاستعداد الوئيد المجدي. وانتهز المنصور فرصة وجوده بإشبيلية، فأخذ ينظر في شئون الناس والعمال، وأمر بفحص قضايا المسجونين الذين طال سجنهم، وإعدام من يستحق الإعدام منهم بعد عرض أمره عليه، واشتد في مطاردة المنكرات والملاهي. وأما عن العمال فقد أمر المنصور، بالقبض على ابن سنان لما نمى إليه من أنه كان في موقعة المنار أول من بادر بالفرار، وأمر كذلك باستصفاء أمواله. ¬_______ (¬1) الرسالة الموحدية السالفة الذكر ص 227. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 180.

وفي ذلك الحين بالذات، رُفع إلى المنصور أمر ثائر من نوع جديد ظهر بمراكش. ويدعى علي الجزيري. ويقدم إلينا صاحب البيان المغرب هذا الثائر في صورة غامضة مثيرة، فيقول لنا إنه كان يتظاهر بطلب العلم، ويعنى بنوع خاص " بحفظ المتشابهات "، وإنه لما ظهر أمره لأول مرة، أمر الخليفة بطرده من مراكش، فغادرها، وأخذ يتجول في الأقطار، وهو يبث دعوته سراً، ولاسيما بين العامة حيث يخاطبهم، ويسايرهم في أفكارهم، ثم ظهر من جديد بمراكش وكثر القول عن دعايته ومساعيه، فأمر والي المدينة السيد أبو الحسن ابن أبي حفص بمطاردته والبحث عنه أينما وجد، ولكنه استطاع أن يلوذ بالفرار، ثم ظهر بمدينة فاس، وأخذ يختلط بعامتها وأوباشها وتبعه منهم جماعة، فرفع خبره إلى واليها ابن ومازير، فقبض على عدة من أتباعه وقتلهم، وأفلت الثائر من المطاردة مرة أخرى، واختفى ولم يوقف له على أثر. ثم تواترت الأنباء بأن الثائر قد عبر إلى الأندلس، فأمر المنصور بالكتب إلى سائر الولاة والعمال بصفته وهيئته وأماراته، وبأن يقبض عليه أينما وجد. وذاعت بهذه المناسبة عن الثائر أقوال وروايات خرافية كثيرة، فقيل إنه ساحر قدير، وإنه يتصور في صور الحيوانات المختلفة، مثل الحمير والكلاب والسنانير، وترددت هذه الأقاويل بين العامة. ثم قيل إنه عُثر عليه في مالقة، وقُبض على كثير من الأوباش الذين التفوا حوله، وفيهم أخوه، فأمر المنصور بإحضارهم إلى إشبيلية، وقيل إن الثائر كان ضمن هؤلاء المقبوض عليهم، ولكنه استطاع أن يفلت بواسطة رشوة دفعها أتباعه للقاضي المختص، ويدعى الواني. فأمر المنصور بقتل أولئك الأتباع، وعددهم تسعة وتسعون، وأمر بأن يجلد القاضي بعدد الدنانير التي تقاضاها على سبيل الرشوه، فهلك قبل أن يستوفى هذا العدد، وقتل في نفس الوقت في مختلف الأنحاء كثيرون آخرون ممن نسب إليهم مسايرة الثائر واتباع دعايته. وأخيراً، وبعد بحوث ومطاردات عنيفة، قبض على الثائر في بعض قرى مرسية، وأخذ إلى إشبيلية، وحمل إلى مجلس الموحدين، وطيف به على الحاضرين وهو يعلن إنكاره لما نسب إليه من المبادىء والنظريات الثورية، ثم انتهى الأمر بصلبه، والقضاء على ما دار حول شخصه من ضروب الإرجاف والخرافة (¬1). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 182.

ونظم الشعراء قصائدهم كالعادة في امتداح المنصور، وتهنئته بالقضاء على هذه الفتنة. فمن ذلك ما قاله الجراوي من قصيدة طويلة: نار من الفتنة العمياء أطفاها ... سعد الإمام وحد الصارم الذكر ما زال إبليس في الأقطار يوقدها ... وترتمي من شرار الخلق بالشرر زاد الشقي على الخفاش مشبهه ... ضعف البصيرة إذا ساواه في البصر جارى إلى سقر أصحابه فهووا ... فيها سراعاً ووافاهم على الأثر تلك هي رواية صاحب البيان المغرب عن ثورة الجزيري، وهي فيما يبدو مستمدة من أقوال ابن صاحب الصلاة، وهي رواية بلاط لا تمثل سوى وجهة النظر الرسمية. بيد أنه يبدو من جهة أخرى أن ثورة الجزيري، كان لها شأن آخر، وأن الجزيري واسمه الكامل أبو عبد الله محمد بن عبد الله الجزيري، لم يكن ذلك الدجال المشعوذ، الذي تقدمه إلينا الرواية الموحدية. فهو عالم أندلسي من أهل الجزيرة الخضراء، أخذ من مختلف العلوم قسط وافر، وكان يُنعي على الدولة الموحدية ما جنحت إليه من الأخذ بأسباب الأبهة والترف، ومن مخالفة تعاليم المهدي الأصلية. وكان يضطرم بنزعة إصلاحية، ويطمح إلى إحياء سنن المهدي ابن تومرت، ويبث دعوته بين الكافة بقوة وبراعة، حتى عظم أمره، وكان شاعراً مجيداً. ومن قوله يشير إلى رسالته الإصلاحية: في أم رأسي سر ... يبدو لكم بعد حين لأطلبن مرادي ... إن كان سعدى معيني أو لا فأكتب ممن ... سعى لإظهار ديني وكانت الجموع تهرع إلى الالتفاف حوله أينما وجد، وتذاع عنه وعن دعايته أغرب الروايات، حتى زعم بعض الناس أنه يتصور في صور الحيوانات مثل القطط والكلاب وغيرها. وكان من الطبيعي أن تفزع السلطات الموحدية لأمر هذا المصلح الثائر، وأن تخشى من تأثير دعايته في الجموع، وأن تبث عليه العيون والأرصاد في كل مكان. وكان ينجح في الإفلات من المطاردة في أحيان كثيرة، حتى قبض عليه أخيراً في بعض قرى مدينة بسطة، وقتل،

وأرسل إلى مراكش، وكانت ثورة الجزيرة في سنة 586 هـ (1190 م) (¬1). - 2 - وفي هذا العام بالذات أعني في سنة 586 هـ، تلقى الخليفة الموحدي سفارة هامة، من الملك الناصر صلاح الدين سلطان مصر والشام، على يد وزيره عبد الرحمن بن منقذ، ولم تكن هذه أول مرة يحاول فيها عاهل مصر، أن يتصل بالخليفة الموحدي، وأن يكتب إليه. ولابد لنا قبل التحدث عن موضوع هذه السفارة، أن نشير إلى الظروف التي كان الشرق الإسلامي يجوزها في تلك الفترة، والتي حملت صلاح الدين، على أن يتجه ببصره إلى الغرب الإسلامي، ذلك أن الشرق الإسلامي كان منذ أواخر القرن الخامس الهجرى (أواخر القرن الحادي عشر الميلادى)، يواجه عدوان الغرب المنظم في صورة الحملات الصليبية المتوالية. وكان هذا العدوان قد أسفر عن ثماره الأولى باستيلاء الصليبيين على ثغور الشام وبيت المقدس، وقيام المملكة الفرنجية اللاتينية في بيت المقدس. وكانت مصر في تلك الفترة المؤلمة، وهي أواخر العهد الفاطمي، تجوز مرحلة انحلال وضعف، وتعوزها الوسائل والقوى الدفاعية الناجعة. فلما انتهت الدولة الفاطمية، ونهضت مصر نهضتها المشهورة، على يد الملك الناصر صلاح الدين، واستطاعت أن تسحق قوي الصليبيين، وأن تسترد بيت المقدس، وأن تقضي بذلك على المملكة اللاتينية (583 هـ - 1187 م) هرع الغرب في حشوده العظيمة مرة أخرى إلى الشرق، ليقضي على تلك القوة الجديدة، التي تهدد أطماعه ومشاريعه بالانهيار. وكان صلاح الدين، بالرغم مما شاده من القوي العظيمة، وما أحرزه من الانتصارات الباهرة، يشعر بأخطار هذا التكتل الصليبي الجديد، ويخشى إذا لم يتداركه العون من إحدى النواحي، أن يضعف عن مدافعته. وهنا اتجه صلاح الدين ببصره نحو المغرب، يرجو منه العون والغوث. وكان يرى في الدولة الموحدية التي بلغت يومئذ ذروة عظمتها وقوتها، ملاذاً يجدر قصده والالتجاء إليه. فكتب إلى الخليفة الموحدي، - يعقوب المنصور - في سنة 585 هـ (1189 م) رسالته الشهيرة مدبجة بقلم القاضي الفاضل يستصرخه، ويستنصر به على قتال الجيوش الفرنجية الزاحفة يومئذ على مصر والشام، وفيها ¬_______ (¬1) هذه رواية صاحب المغرب في حلي المغرب (ج 1 ص 323 و 324). وقد نقل المقري هذه الرواية وهذا الشعر في نفح الطيب.

يصفه " بأمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدين " ويصف له جهوده في محاربة الصليبيين وهزيمتهم، وما كان لذلك من أثر في تحالف النصرانية، ودول الغرب عليه، ونهوض ملوكه بجيوشهم وأساطيلهم لمحاربته، ومحاولة الاستيلاء على ثغور المشرق، والقضاء على قوى الإسلام المجتمعة تحت لوائه، ويطلب صلاح الدين إلى عاهل المغرب، أن يمد الشام، مسرح القتال، بشطر من أساطيله المنصورة، وأن يرسل في الوقت نفسه، جناحاً من أسطوله إلى صقلية، فيشغل طاغيتها، ويعطله عن الاشتراك مع زملائه الملوك النصارى في مهاجمة مصر، ويعتقله بذلك في جزيرته. ثم يقول صلاح الدين في رسالته إلى الخليفة الموحدي: " وبذلك يذهب سيدنا وعقبه بشرف ذكرٍ لا ترد به المحامد على عقبها، ويقيم على الكفر قيامة، ويُطلع بها شمس النصر من مغربها " (¬1). والظاهر أن البلاط المصري لم يكن على علم تام بحقيقة سير الأمور في المغرب والأندلس في تلك الفترة. ذلك أن يعقوب المنصور، ما كاد يتولى الخلافة عقب مصرع أبيه في موقعة شنترين، حتى أخذ يواجه حسبما رأينا سلسلة من الأحداث المزعجة سواء في المغرب أو الأندلس. فأما في المغرب فقد رأينا كيف شغل بثورة بني غانية، واعتدائهم على إفريقية، واستخلاص ثغورها من أيديهم. وأما في الأندلس، فقد عنى المنصور، كما رأينا بحشد الجيوش، لاستئناف حركة الجهاد، ورد عدوان النصارى عن أراضي الأندلس، بعد ما تفاقم هذا العدوان سواء من جانب قشتالة أو من جانب مملكة البرتغال. وقد كان من الطبيعي، في تلك الظروف الدقيقة التي يجوزها الموحدون، في المغرب والأندلس، أن صريخ صلاح الدين إلى الخليفة الموحدي، لم يلق صدى، وأن رسالته لم يكن لها الأثر المرغوب. على أن صلاح الدين لم ييأس من الفوز بعون الخليفة الموحدي. ذلك أنه كان يشعر بأنه يتوجه بصريخه إلى الوجهة الصحيحة، وأن نزعة الجهاد، كانت تضطرم في المغرب على يد الدولة الموحدية، اضطرامها في المشرق، وأن الكفاح الذي يضطرم به الموحدون ضد اسبانيا النصرانية، لم يكن إلا شطراً من الكفاح الذي تضطلع به مصر في المشرق. ومن ثم فقد اعتزم صلاح الدين أن يكرر محاولته. فعاد في العام التالي في سنة 586 هـ (1190 م)، فأرسل إلى الخليفة ¬_______ (¬1) تراجع رسالة صلاح الدين إلى الخليفة الموحدي في صبح الأعشى ج 6 ص 26 - 530.

يعقوب المنصور، سفارة على يد وزيره الشهير شمس الدولة أبي الحارث عبد الرحمن ابن منقذ، يحمل إليه رسالة وهدية فخمة. وكان ابن منقذ، وهو سليل أمراء بني منقذ أصحاب حصن شيزر السابقين بالشام، من رجالات الدولة الصلاحية البارزين، وممن يصطفيهم السلطان لقضاء المهام الدقيقة. ويصف صلاح الدين في رسالته إلى الخليفة الموحدي، ما حدث من تقاطر الفرنج على الشام براً وبحراً، وفي مقدمتهم جيوش ملك الألمان وملك الإنجليز وأساطيله، وما وقع حول عكا التي حاصرها الفرنج من المعارك الخطيرة، وما بذله السلطان لإنقاذها من الجهود في البر والبحر. ثم يتجه إلى الخليفة يطلب الإنجاد ويقول: إنه كان من المتوقع من " تلك الدولة العالية، والعزمة الفادية، مع القدرة الوافية، والهمة المهدية الهادية، أن يمد غرب الإسلام والمسلمين، بأكثر مما أمد غرب الكفار الكافرين، فيملأها عليهم جوارى كالأعلام "، وأنه لما تأخرت الإجابة " ظن أنها توقفت على الاستدعاء، فاستصرخه بهذه التحية فقد تحفل السحاب ولا تمطر، إلى أن تحركها الرياح " (¬1). وهنا تختلف الروايتان المصرية والمغربية في تاريخ وصول السفير المصري إلى المغرب، وفي ظروف لقائه مع الخليفة. فتقول الرواية المصرية إن ابن منقذ أبحر من الإسكندرية قاصداً إلى المغرب في شهر رمضان سنة 586 هـ، وأنه وصل إلى مراكش في شهر ذي الحجة من هذا العام، وأدخل إلى الخليفة في العشرين منه، وحملت هدية السلطان إلى الخليفة في نفس اليوم. بيد أنه يبدو أن الرواية المصرية لم تكن مطلعة تمام الاطلاع على سير الحوادث في المغرب والأندلس في تلك الفترة. ومن ثم فإنها لم تستطع أن تتبع حركات السفير المصري بدقة. ذلك أن الخليفة المنصور، كان وقت وصول السفير المصري إلى المغرب، قد عبر البحر حسبما تقدم في جيوشه إلى الأندلس معتزماً مقاتلة النصارى، وإنقاذ مدينة شلب من قبضة البرتغاليين، وأنه كان في تلك الآونة بالذات مقيماً بإشبيلية، يجد في الأهبة، ويترقب الحوادث. ومن ثم فإن الرواية المغربية، وهي رواية صاحب البيان المغرب، المستقاة فيما يبدو من رواية ابن صاحب الصلاة، مؤرخ البلاط الموحدي، تقدم إلينا تفاصيل أخرى عن تحركات السفير المصري، ¬_______ (¬1) الروضتين في تاريخ الدولتين ج 2 ص 171 - 173. وراجع مفرج الكروب في أخبار بني أيوب (المنشور بعناية الدكتور جمال الدين الشيال) ج 2 ص 361 و 362.

تبدو أكثر اتفاقاً مع سير الحوادث. فتقول لنا إن السفير المصري حينما وصل إلى المغرب، نزل بثغر تونس، ثم بثغر بجاية، فاستقبله السيد أبو زيد والي إفريقية والسيد أبو الحسن والي بجاية، بمنتهى الحفاوة والإكرام، وكتبا إلى الخليفة المنصور وهو يومئذ بإشبيلية بمقدم السفير، فوصلت كتبهما إليه في شهر رجب سنة 586 هـ فرد الخليفة عليهما بالشكر، وأن يستمرا في مجاملة السفير وإكرامه، وأن يطلب إليه كتمان رسالته حتى يستقبله الخليفة، وبأن يستقر بمدينة فاس معززاً مكرماً، حتى يتم هذا الاستقبال (¬1). ْولبث ابن منقذ مقيماً بفاس زهاء عام ينتظر لقاء الخليفة. وكان المنصور في تلك الأثناء، حسبما نفصل بعد، قد نظم غزوته الكبيرة لأراضي البرتغال، واستولى على ثغر قصر أبي دانس أو قصر الفتح في جمادى الأولى في سنة 587 هـ، ثم سار إلى مدينة شلب واستولى عليها في جمادى الثانية، وعاد ظافراً إلى إشبيلية، ثم غادرها عائداً إلى المغرب في شهر رمضان سنة 587 هـ (يوليه 1191 م)، ولما وصل إلى مراكش واستقر بها، استقبل ابن منقذ، وقدمت إليه هدية السلطان، وكان فيها مصحف كريم في ربعة مخيشة بالمسك، وثلاثمائة مثقال من العنبر، وعشر قلائد من الجوهر، ومائة قوس بأوتارها، ونصول سيوف هندية وغيرها. ويقول لنا صاحب كتاب " الإستبصار " إن اجتماع ابن منقذ بالخليفة كان في السادس من محرم سنة 588 هـ (يناير 1192 م) وإنه غادر الحضرة بعد ذلك بخمسة أيام (¬2). وأفضى ابن منقذ إلى عاهل المغرب بمضمون سفارته، فتلقى جواب المنصور عنها مجملا. ويقول لنا ابن خلدون إن الخليفة اعتذر عن إعارة الأسطول (¬3) وأحيل ابن منقذ إلى الوزراء لاستكمال التفاصيل. ثم غادر مراكش في العاشر من المحرم سنة 588 هـ، وهو يحمل من الخليفة إلى السلطان هدية تضارع هديته في القيمة والفخامة، فوصل إلى الإسكندرية في أواخر جمادى الثانية من هذا العام (¬4). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 183. (¬2) كتاب الإستبصار في عجائب الأمصار (المنشور بعناية الدكتور سعد زغلول عبد الحميد 1958) ص 107. (¬3) ابن خلدون ج 6 ص 246. (¬4) البيان المغرب القسم الثالث ص 183، و 184.

ومما تذكره الرواية بهذه المناسبة أن ابن منقذ رفع إلى المنصور، قصيدة من نظمه من أربعين بيتاً، يمدحه فيها، فمنحه المنصور صلة سخية قدرها أربعون ألف دينار، ألفاً عن كل بيت، وقال له إنما أعطيناك لفضلك ولبيتك، وهذا بعض ما جاء في القصيدة المذكورة: سأشكر بحراً ذا عباب قطعته ... إلى بحر جود ما لأخراه ساحل إليك أمير المؤمنين ولم تزل ... إلى بابك المأمول تزجي الرواحل قطعت إليك البر والبحر موقناً ... بأن نداك الغمر بالنجح كافل فلا زلت للعلياء والجود بانياً ... تبلغك الآمال ما أنت آمل (¬1). ونحن نعرف أنه لم يكن لهذه السفارة نتائج عملية، ولم يحصل صلاح الدين على ما كان يرجوه منها من عون وإنجاد. وفي بعض الروايات أن الخليفة المنصور لم يستجب إلى صريخ صلاح الدين، لأنه لم يلقبه في رسالته بألقاب الخلافة (¬2). وهي رواية ظاهرة الضعف. ذلك أن الأسباب الحقيقية لموقف الخليفة الموحدي، يجب أن تفهم على ضوء الحوادث والظروف التي كان يجوزها الغرب الإسلامي. أعني المغرب والأندلس، في تلك الفترة. فقد كانت إفريقية وهي منطقة حساسة من المغرب ما تزال معرضة لعدوان بني غانية، ومن إليهم من الأعراب الضالعين معهم، وكانت الأندلس تواجه مثل الأخطار التي كان يواجهها الشرق الإسلامي، من عدوان النصارى والصليبيين. وبالرغم من نجاح الموحدين في غزو البرتغال، واستردادهم لقصر الفتح وشلب، فإنه كان ثمة احتمال دائم، بأن يتكرر عدوان البرتغاليين وحلفائهم الصليبيين القادمين من الثغور الشمالية، على غربي الأندلس، وأن يتكرر عدوان القشتاليين على أواسطها. وقد كانت الأساطيل الموحدية، التي كان صلاح الدين يطمح بالأخص إلى عونها، ترابط باستمرار في مياه الأندلس الجنوبية والغربية، استعداداً لمؤازرة الجيوش الموحدية لرد كل عدوان محتمل. ومن ثم فإنه لم يك ثمة إزاء هذه الظروف والأخطار كلها، فيما يبدو، مجال لأن يتقدم عاهل المغرب إلى غوث إخوانه المشارقة، بقوات كان هو في أشد الحاجة إليها. وكان على كل فريق أن يعتمد على نفسه في رد العدوان الذي يواجهه. ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 207. (¬2) ابن خلكان في الوفيات ج 2 ص 432.

على أننا نستطيع، بالرغم من هذه الآثار السلبية، التي انتهت إليها محاولات صلاح الدين للحصول على عون الخليفة الموحدي، أن نقول إنها كانت تنطوي على نفس المغزى العظيم الذي أوحى ببذلها، وهو رسوخ التضامن الروحي، وقوة المشاعر المشتركة، بين شطري الكتلة الإسلامية، في المشرق والمغرب، في تلك العصور التي تعرض فيها كلاهما لمحنة العدوان الصليبي. - 3 - لبث المنصور خلال إقامته بإشبيلية، مذ عاد إليها في جمادى الآخرة سنة 586 هـ، يجد في أهباته العسكرية، ويجمع الآلات والعدد، ويستكمل ضم الحشود. فلما تمت أهباته، واستكملت من سائر نواحيها، عزم على الحركة والسير لاستئناف الغزو، فخرج من إشبيلية في غرة ربيع الآخر سنة 587 هـ (28 أبريل سنة 1191 م) في قوات كثيفة، حسنة الأهبة والهيئة والنظام، وعبر نهر وادي يانه مخترقاً أراضي البرتغال، ومتجهاً نحو الشمال الغربي، وكان مقصد الخليفة الأول، هو قاعدة قصر الفتح أو قصر أبي دانس الحصينة، الواقعة جنوب شرقي أشبونة على الضفة اليمنى لنهر سادو، على مقربة من البحر (¬1)، فلما وصل إليها قُسمت الحشود الموحدية وفق نظام خاص، وقام العبيد وأهل الخدمة بردم خندق المدينة من جهاتها الأربع، وأقبلت القوات الموحدية إلى السور تحاول اقتحام المدينة، ولكن البرتغاليين أمطروا المهاجمين وابلا كثيفاً من النبال والحجارة، فأصيب كثير من الجند الموحدين بالجراح. فلما رأى المنصور فتك النبال بجنده، أمر بوقف القتال ثلاثة أيام، طلباً للراحة، والعود إلى مهاجمة المدينة بعزائم أشد. ووصل في تلك الأثناء جانب من الأسطول الموحدي، دخلت سفنه النهر الذي تقع عليه المدينة، وهي تحمل آلات الهجوم الفتاكة. وفي الحال - في خلال يوم وليلة فقط - نصبت حول المدينة أربعة عشر منجنيقاً. وفي اليوم الخامس عشر من جمادى الأولى (سنة 587 هـ) الموافق 10 يونيه سنة 1191، صدر الأمر لسائر الجيش الموحدي بمهاجمة المدينة، فانقض عليها من سائر الجهات، وأخذت ¬_______ (¬1) كانت قاعدة القصر Alcacer do Sal في ذلك الوقت، حسبما يصفها لنا الإدريسي، مدينة حسنة متوسطة على النهر المسمى شطوبر ( Sadoa) وهو نهر كبير تصعد فيه السفن والمراكب السفرية بكثرة. وفيها استدار بها من الأرض كلها أشجار الصنوبر، وبها الإنشاء الكثير، وبينها وبين البحر عشرون ميلا (وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس ص 181).

المجانيق تضرب المدينة بشدة، فلما تفاقم الأمر، ووصل هجوم الموحدين إلى ذروة عنفه وروعته، بادر أهل المدينة بطلب الأمان، ونزلوا من المدينة مستسلمين فحملوا في المراكب، وبعثوا إلى إشبيلية ليكونوا هنالك عنوان الفتح، واستولى الموحدون على المدينة، وشرع المنصور في النظر في شئون الحصن وأحواله، وأمر بإصلاحه وشحنه بالمقاتلة الأنجاد من الموحدين، ورتب لهم من المؤن والمواد رواتب شهرية وسنوية، في مخازن إشبيلية وسبتة، وندب لولاية الحصن المذكور أبا بكر محمد بن وزير وهو ابن أبي محمد سيدراي بن وزير زعيم الغرب السابق، أيام ثورة ابن قسيّ، وكان حاكم الحصن من قبل، قبل أن يسقط في أيدي البرتغاليين في سنة 555 هـ (1160 م) (¬1). وسار الموحدون بعد ذلك إلى حصن قلماله (¬2)، وكان أمنع حصون هذه المنطقة، وبه حامية قوية، ولكنهم أيقنوا باستحالة المقاومة، وعرضوا التسليم في الحال، والجلاء عن الحصن، فاستجاب المنصور لرغبتهم، وأخلى سبيلهم، فساروا آمنين إلى بلادهم، ونهب الموحدون سائر ما في الحصن من الأثاث والأقوات والسلاح. ثم أمر المنصور بهدمه، فهدم حتى محيت آثاره. وزحف الموحدون على حصن المعدن (¬3) القريب، فاستولوا عليه، وأمر المنصور كذلك بهدمه، فهدم حتى صار أثراً بعد عين. وتقول الرواية النصرانية في شأن هذه الحصون، إن أهل الحصون المجاورة، وهي حصون قلماله، وكوبنا والمعدن، لما رأوا سقوط حصن القصر بالرغم من مناعته بهذه السرعة، بادروا بإخلاء حصونهم، وفروا في مختلف الأنحاء، ولما أشرف الموحدون عليها، أمر المنصور بهدمها، فهدمت حتى سويت بالأرض (¬4). ثم اتجه الموحدون بعد ذلك جنوباً إلى المقصد الرئيسي في هذه الغزوة، وهو مدينة شلب. فوصلوا إليها في يوم الخميس الثاني من جمادى الآخرة (27 يونيه سنة 1191 م). وفي الحال طوقها الموحدون بقوات كثيفة، وردمت الخنادق ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 185. (¬2) حصن قلماله، وهو بالبرتغالية Palmela. (¬3) حصن المعدن هو بالبرتغالية Almada. (¬4) Huici Miranda: ibid ; (cit. Cronica de Sancho I, p. 537)

المحيطة بها، ونصبت حول أسوارها المجانيق، وأخذت تضربها بشدة. واستمر الحصار والضرب حتى يوم الأربعاء الخامس عشر من جمادى، ففي فجر تلك الليلة، كان الموحدون ساهرين يرقبون الفرص. وكان الحراس وأهل المدينة، قد غلب عليهم التعب والنوم، ولم يتوقعوا أن يقوم الموحدون بأية محاولة في مثل هذه الفترة. ولكن الموحدين بالعكس، لما رأوا إغفاء أهل المدينة، تقدم أحد أدلائهم من السور، ووثب إلى ثلمة فيه، وتبعه جماعة من الأنجاد، فرفعوا الرايات على السور، وضربت الطبول، وضج الجند بالتهليل والتكبير، واقتحم الموحدون المدينة، فلم يستيقظ أهلها، إلا وقد سيطر عليها الفاتحون، يثخنون فيهم قتلا وجرحاً، فبادروا بطلب التسليم والأمان، فضرب لهم المنصور أجلا قدره عشرة أيام لإخلاء المدينة، وخرج النصارى من قصبة شلب في يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الثانية (23 يوليه سنة 1191 م) ودخلها الموحدون في الحال، وعادت شلب بذلك إلى قبضة الإسلام، بعد أن لبثت في أيدي البرتغاليين، منذ سقوطها في رجب سنة 585 هـ، زهاء عامين (¬1). وقدم المنصور على ولايتها ابن وزير (¬2). تلك هي الرواية الإسلامية عن استرداد شلب. أما الرواية النصرانية، فلا تقدم إلينا شيئاً من تلك التفاصيل، بل تكتفي بالقول بأن الموحدين نصبوا المجانيق حول المدينة، وأخذوا في ضربها بالنهار والليل دون هوادة، حتى اضطر أهلها إلى التسليم، وخرجوا منها بأنفسهم وأمتعتهم. ولبث المنصور ثلاثة أيام أخرى في ظاهر شلب، ثم غادرها في قواته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من جمادى الثانية، بعد أن أنفق في غزوته زهاء ثلاثة أشهر، فوصل إلى إشبيلية في الرابع من شهر رجب سنة 587 هـ (28 يوليه سنة 1191 م). وأنفق المنصور في إشبيلية شهرين آخرين، عنى خلالهما بتنظيم شئون الأندلس واختيار أكفاء القادة لرياسة الثغور، أو بعبارة أخرى مدن الحدود وحصونها، وشحنها بصفوة الجند، وتعيين بعض قرابته لولاية المدن الشاغرة من الولاة. ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 185 و 186. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 245.

وفي غرة رمضان، جلس بحدائق البحيرة خارج إشبيلية، لتلقي تحيات المودعين، ولما تمت مراسيم الوداع، غادر إشبيلية، ميمماً شطر العدوة، وعبر البحر في الخامس عشر من رمضان، واستمر في سيره حتى وصل إلى حضرة مراكش (¬1) وما كاد يستقر بها حتى استقبله الشعراء كالعادة بقصائد التحية والتهنئة. فمن ذلك ما قاله شاعره الجراوي: إياب الإمام حياة الأمم ... توالى السرور به وانتظم وجاد به الأرض صوب الحيا ... وجلى الظلام به بدر تم فتوح عظام جناها الزمان ... لذي همم دونهن الهمم على أن المنصور ما كاد يستريح من وعثاء السير والسفر، حتى دهمه المرض واشتد به، وطال أشهراً حتى خيف منه على حياته. وأشار عليه الأطباء بالانتقال إلى فاس، فحُمل إليها في محفة، واستمر بها أشهراً حتى تماثل إلى الشفاء. ويروي لنا المراكشي بهذه المناسبة أن الخليفة حينما اشتد مرضه، أرسل يستدعي أخاه السيد أبا يحيى والي إشبيلية، وأن أبا يحيى لبث يتلكأ في العود مؤملا أن يموت أخوه، وأنه قام في ظل هذا الأمل باستكتاب بعض أشياخ الجزيرة مساطير لتأييد دعوته؛ فلما برىء الخليفة من مرضه عاد أبو يحيى إلى المغرب. وكان أخوه الخليفة قد وقف على حركته، فأمر بالقبض عليه وقتله، فتولى قتله أخوه لأبيه السيد عبد الرحمن بن يوسف، وذلك بمحضر من الناس (¬2). ونحن نلاحظ على هذه الرواية بأنها متأخرة عن موضعها، وأن حادث ائتمار السادة بالخليفة وقع في سنة 584 هـ (1188 م)، حسبما أشرنا إليه في موضعه، وأن السيد أبا يحيى وهو ولد الخليفة وليس بأخيه، لم يكن بين المتآمرين، الذين عاقبهم الخليفة بالإعدام. ¬_______ (¬1) يقدم إلينا صاحب روض القرطاس، رواية أخرى عن غزوة الموحدين للبرتغال واسترداد مدينة شلب، فيقول لنا إن الذي اضطلع بهذه الغزوة هو محمد بن يوسف والي قرطبة، وأنه سار إلى شلب في جيش عظيم من الموحدين والعرب والأندلسيين، حتى نزل شلب فحاصرها، وشد عليها القتال حتى فتحها، وفتح قصر أبي دانس ومدينة باجة ويابرة، ورجع إلى قرطبة فدخلها بخمس عشرة ألف سبية وآلاف من أسرى الروم، وذلك في شوال سنة سبع وثمانين وخمسمائة (ص 144) وهي رواية ظاهرة الضعف والخلط، خصوصاً وأنها تغفل ذكر المنصور بالمرة وتنسب لغيره قيادة هذه الغزوة. (¬2) المعجب ص 158 و 159.

وشعر الخليفة إبان مرضه بدقة الموقف، وأراد أن يحتاط لكل احتمال، فعقد البيعة لابنه أبي عبد الله محمد بولاية عهده، وكان سنه نحو عشر سنين (¬1)، وهو الذي تسمى بالناصر فيما بعد، وكتب بذلك إلى خاصة القرابة كالسيد أبي زيد والي إفريقية، وولده السيد أبي يحيى والي إشبيلية، فبادروا بالحضور إلى الحضرة، مطيعين مؤيدين لذلك العهد، وجاء وفد من شبه الجزيرة يحمل تأييد أهل الأندلس، وجاء معهم يوسف بن الفخار اليهودي رسول ملك قشتالة يسعى إلى توطيد الهدنة المعقودة. وكان الخليفة قد أبل عندئذ من مرضه، فتلقى تهنئة الوفود والأكابر بإبلاله، وأنشد الشعراء قصائدهم كالمعتاد (¬2). وقد انتهت إلينا صورة وثيقة البيعة الرسمية التي كتبها أهل قرطبة بمبايعة ولى العهد أبي عبد الله محمد الناصر، وهي مؤرخة في العشر الأوائل من ذي القعدة سنة 588 هـ، وتبدأ بالتنويه بأهمية الاستخلاف في الولاية، وشرعيته، منذ عهد النبي، حينما استخلف أبا بكر في الصلاة، ثم تنوه بقيام المهدي، وإعلاء كلمة الدين بظهوره، وتقول لنا بعد ذلك في صدد البيعة ما يأتى: " وبعد فهذا ما أجمع عليه الملأ بقرطبة وأعمالها حرسها الله، من الطلبة، والموحدين والعرب والأجناد والوجوه من الأشياخ والأعيان والقواد والخواص والعوام من الرعية، من حاضر منهم ومن باد، أجمعوا بتوفيق الله وعونه، وإحسانه العميم ومنه، على المبايعة للأمير الأجل الملك السعيد، السيد الأوحد ... المؤهل المؤثل، الحائز لشرف الانتساب .... فرع الشجرة المباركة الطيبة الانتماء التي أصلها في مقر الهدى ثابت، وفرعها في السماء ... أبو عبد الله محمد بن سيدنا الإمام المنصور، الناصر لدين الله تعالى الخليفة المرتضى أمير المؤمنين بن سيدنا أمير المؤمنين، بن سيدنا أمير المؤمنين أعلى الله أمرهم وأسماه ". ثم يقول " فبايعوه بمقتضى أمره العلي، ونصه الواضح الجلي، بيعة مباركة سعيدة، استقبلوا بها آمالا فسيحة مديدة، وأعمالا من البر والتقوى جديدة. أسكبت عليهم شآبيب الرحمة والأمان، وأسحبت فواضل الإنعام والإحسان، وازدادت بهاء وجمالا معالم الإسلام والإيمان .. " وإن أهل قرطبة " بادروا إلى ¬_______ (¬1) المعجب ص 175. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 187.

التزام عهد هذه البيعة المباركة عهداً، وإحكام عقدها السعيد عقداً، فبايعوا للأمير الأجل السيد السعيد الأوحد ... بيعة إخوانهم الموحدين، على صفاء من قلوبهم، وخلوص من عيوبهم، وصحة من عقائدهم وضمائرهم، وتوافق من بواطنهم، وطواييرهم، وعلى أوفى عهود البيعة وشروطها، وأكمل عقودها وربوطها، من السمع والطاعة في السر والجهر، والعسر واليسر، وعلى اعتقاد النصيحة والموالاة الصريحة، أعطوه بذلك عهد الله المؤكد، وميثاقه المشدد، وأعطوه به صفقة قلوبهم وإيمانهم، وعهدة إسلامهم وإيمانهم، وخالصة سرهم وإعلانهم " (¬1). وفي العام التالي سنة 588 هـ (1192 م) وصل السيد أبو زيد والي إفريقية، ومعه برسم الخليفة هدية جليلة من التحف الملوكية، وفي صحبته وفد من أعيان عرب سليم ورياح، وأنجادهم (¬2)، وكان الخليفة قد تحرك في تلك الأثناء من الحضرة قاصداً إلى فاس نزولا على نصح أطبائه، فالتقى به السيد أبو زيد ومن معه في تانسيفت، وأمر الخليفة بعد انقضاء مراسيم التحية واللقاء، بمسير الوفود القادمة إلى مراكش لمشاهدة القصور والمرافق الخلافية، وما تحويه الحضرة من جليل الآثار والمنشآت، الدالة على عظمة الدولة الموحدية وقوتها. فأمضت الوفود بالحضرة أياماً، ثم لحقت بأمير المؤمنين في طريقه لتزجي إليه آيات الشكر، والعرفان. ورحل الخليفة إلى رباط الفتح ثم إلى فاس. وعنى خلال إقامته بفاس بالنظر في شئون إفريقية. وكانت هذه الشئون بما يعتورها من المتاعب، ومن الأخطار المترتبة على عدوان بني غانية، تلقى من الخليفة أعظم اهتمام، وغمر الخليفة بهذه المناسبة وفود العرب من سليم ورياح بوافر صلاته وإكرامه، والتزمت الوفود من جانبها بالوفاء ومقابلة البر بحسن الصنيعة، ثم عادت إلى مواطنها بإفريقية، وقد نالت من إنعام الخليفة وبره أضعاف ما أملت. ولما شعر الخليفة باكتمال الصحة والعافية، سار إلى رباط الفتح مرة أخرى، وكان يؤثر هذه المدينة التي أسسها جده عبد المؤمن بحبه، ويميل إلى سكناها والاستجمام بها. وكان في تلك المرة قد عقد العزم على الانتقال إليها بصفة نهائية، ¬_______ (¬1) ورد نص هذه البيعة كاملا ضمن المخطوط رقم 488 الغزيري بمكتبة الإسكوريال، وهو الذي سبق أن نقلنا عنه عدة من الوثائق المرابطية. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 245.

واتخاذها حاضرة لمملكته، فأمر بتجديد قصبتها، وكانت تسمى بالمهدية، إذ كانت بخططها وموقعها على البحر، وإحاطته بها، تشبه المهدية الفاطمية بإفريقية، وألقى بشأن تنظيمها وتجميلها بقية أوامره، ثم عاد إلى مراكش في منتصف هذا العام (588 هـ)، واستقر بها، وهو دائب الاهتمام بأعمال الإنشاء، وتجديد الأهبات، واستكمال العدد (¬1). وفي العام التالي سنة 589 هـ، أمر المنصور بإقامة صرح عظيم حصين خارج إشبيلية ليكون منزلا للمجاهدين، وأن يكون موقعه في وسط الشَّرْف. ويقدم إلينا المراكشي بعض تفاصيل عن هذا الصرح، فيقول لنا، إن المنصور حينما عاد ظافراً من غزوته لاسترداد شلب، أمر أن يُبنى له على النهر الأعظم (نهر الوادي الكبير) حصن، وأن تبنى له في ذلك الحصن قصور وقباب، جارياً في ذلك على عادته من حب البناء، وإيثار التشييد، فتمت له هذه القصور المذكورة على ما أراد، وسمى ذلك الحصن حصن الفرج. ويضيف صاحب البيان المغرب إلى ذلك، وهو ينقل فيما يرجح عن ابن صاحب الصلاة، أن هذا الحصن أو القصر الكبير، قد كمل بمجالسه المشرفة على إشبيلية وما والاها من البطاح، وأنه جاء من أضخم ما عمل، وكان المنصور وهو بالحضرة دائب التشوف إلى متابعة أخبار هذا الصرح، والوقوف على ما تم فيه، وعلى صفاته، حتى إنه أمر أخيراً باستدعاء المشرف على بنائه إلى الحضرة ليقص عليه بنفسه كل ما يتعلق بهذا الصرح، وطرازه وصفاته (¬2). ووقعت في تلك السنة سنة 588 هـ، ببلاد الزاب، جنوبي إفريقية، فتنة جديدة كان بطلها زعيم يدعى الأشل. وليس في الرواية الموحدية، ما يلقى ضوءاً على شخصية هذا الزعيم الثائر، ولا كنه دعوته، وكل ما هنالك أنها تقول لنا، إن الأشل قام ببلاد الزاب ودعا لنفسه، فالتف حوله شرذمة من العرب، وكثير من أشتات الناس من أهل تلك المنطقة، ومن أهل الجبال المجاورة ممن تصفهم الرواية " بالغوغاء والسفلة " وكان يلقي في روع أتباعه بأنه موعود بأمره، وأن ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 188 و 189. ويقول ابن خلكان إن رباط الفتح كانت على هيئة الإسكندرية في الاتساع وحسن التقسيم وإتقان البناء وتحسينه (الوفيات ج 2 ص 431) وهو قول تطبعه المبالغة. (¬2) المعجب ص 165، والبيان المغرب القسم الثالث ص 189.

الكتب والدلائل نصت على خبره، وعظم أمره، وذاع ذكره، وكثر عدوانه في تلك المناطق، وتوالت على الخليفة المنصور أنباؤه، فبعث إلى السيد أبي زكريا والي بجاية، بأن يبذل كل ما في وسعه للقبض على هذا الزعيم الثائر، فخرج السيد أبو زكريا في عسكره من بجاية، وهو يتحسس أخبار الأشل، ويتقصى آثاره. ولما توغل بعيداً في الصحراء، اجتمعت طوائف من عرب البوادي ليحاولوا مهاجمته، وانتهاب محلته، ولكنه استطاع أن يجتنب اعتداءهم طوراً بلين القول وطوراً بالوعيد وإظهار القوة، وأنفذ السيد رهطاً من رجاله، يتحسسون أخبار الثائر ومكان وجوده، وحاول في نفس الوقت أن يغري بعض الأعراب بالصلات والوعود ليكشفوا له مكان وجوده، ولكنه لم يظفر منهم بطائل، ثم عاد إليه رسله الثقاة، وأخبره بعضهم بمكان وجود الثائر، وأنه يتصدر مجلس الزعامة وهو في ثياب فاخرة، وعلى رأسه عمامة خضراء، وبين يديه سيف مُحلّى، وقد التف حوله لفيف من شيعته وهو يحدثهم بلسان حضري. وعندئذ حاول السيد مرة أخرى أن يحمل بعض الأعراب على إرشاده عن هذا المكان، وهو يبذل لهم أطيب الوعود. ولكن الأعراب عقدوا العزم على مخادعته وغدره. ثم سار السيد في قواته ميمماً شطر قلعة بني حماد، وهي من أعمال بجاية، ودخلها بعسكره. وهنالك وفد عليه الزعماء العرب يطالبونه بإنجاز وعوده، فاحتفل بهم وقدم لهم الطعام. فلما استقروا داخل القلعة، أغلقت أبوابها، وأمر السيد بالقبض على جملة من أولادهم، ثم استدعى آباءهم ورؤساء العشائر منهم، وأقسم لهم بأوثق الأيمان أنه لن يحل وثاقهم، ولن يطلق سراحهم إلا بإحضار الأشل أو رأسه، أو يحمل رؤوسهم مكان رأس الأشل إلى الخليفة المنصور. فأبدى العرب أنهم لا يستطيعون الغدر بمن لجأ إليهم، واحتمى بجوارهم، ولو قتلوا جميعاً. وعندئذ تدخلت أمهات الأبناء المعتقلين، وصاحوا كيف نضحي بأبنائنا في سبيل شقي منافق، وعندئذ نشب الخلاف بين الأمهات والآباء، وذاع الخبر في مختلف الأحياء، ووقف الأشل على ما حدث فأراد الفرار اتقاء الغدر، ولكن رهطاً من عشائر المعتقلين بادروه بالهجوم، وقبضوا عليه وعلى وزيره وحملوهما إلى القلعة، فغمرهم السيد بإحسانه وصلاته، وأخلى سبيل المعتقلين، وأمر بإعدام الثائر وصاحبه، وحملت رأسه إلى بجاية، وعلقت على بابها مع ذراعه وعضده، وأخمدت بذلك ثورته في مهدها (¬1). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 190 و 191.

ولم تكد تنتهي هذه الفتنة حتى وردت على المنصور في سنة 590 هـ، أنباء مقلقة عن إفريقية، خلاصتها أن بني غانية قد استأنفوا حركاتهم بنشاط مضاعف، وأن حلفاءهم من العرب والغز، يعيثون فساداً في أنحاء إفريقية ولاسيما بلاد الجريد. ونحن نعرف أن على بن إسحاق بن غانية الميورقي، بطل هذه الحركة التي كادت تقضي على سلطان الموحدين في إفريقية، كان على أثر هزيمته الساحقة في معركة الحمّة (سنة 584 هـ) قد فر جريحاً إلى أعماق الصحراء. وهنا تختلف الرواية في مصيره، فيقول لنا صاحب المعجب إنه توفي بعد قليل متأثراً بجراحه التي أصابته في معركة الحمة (¬1). ويقول ابن خلدون إنه توفي في بعض حروبه مع أهل نفزاوة من سهم أصابه في بعض المعارك، وذلك في نفس العام (584 هـ) فدفن هنالك، ثم حمل رفاته إلى ميورقة (¬2). ويقول التجّاني في رحلته إن على بن غانية، حينما طارده المنصور بعد موقعة الحمّة، توغل في صحراء توزر، فرجع عنه المنصور، ثم مات على بعد ذلك على توزر من سهم أصابه في ترقوته فقضى عليه (¬3). ولما توفي علي بن غانية، قام بالأمر من بعده أخوه يحيى، وهو يضطرم بمثل مُثُله، ويرمي إلى تحقيق مثل غاياته، أعني قيادة الثورة ضد الموحدين، والقضاء على سلطانهم في إفريقية، معتمداً في ذلك، مثل أخيه على محالفة سائر العناصر الخصيمة من العرب والغز وغيرهم. ومن ثم فإنه جدد التحالف الذي كان بين أخيه وبين قراقوش أو قراقش زعيم الغز. ولكن هذا التحالف لم يطل أمده. ذلك أن قراقش ما لبث أن جنح إلى طاعة الموحدين، فسار إلى تونس واجتمع بواليها السيد أبي زيد، فتلقاه بمنتهى الترحاب والتكريم، وأقام بها وقتاً في كنفه وتحت رعايته، وكان ذلك في سنة 586 هـ (¬4). وهنا يحق لنا أن نتساءل هل كانت ثمة علاقة بين تصرف قراقوش وبين سفارة ابن منقذ التي أوفدها صلاح الدين في نفس هذا العام إلى الخليفة الموحدي؟ لقد كان قراقوش مملوكاً للملك المظفر تقي الدين بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي، ابن أخي السلطان ¬_______ (¬1) المعجب ص 154. (¬2) ابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 193. (¬3) رحلة التجاني ص 162. (¬4) رحلة التجاني ص 104.

صلاح الدين، ومن الممكن أن يكون تصرف قراقوش قد وقع بإيحاء السلطان، حتى لا تعتور الصعاب مهمة سفيره لدى البلاط الموحدي. بيد أننا لا نميل إلى الأخذ بهذا الرأي، لأن قراقوش لم يكن إلا مغامراً لا ذمام له، ولا يدين في الظروف التي كان يجوزها بدين الولاء لأحد. وقد أقدم قراقوش من قبل على مثل هذه الخطوة حينما كتب إلى المنصور عقب موقعة الحمّة بعرض التوبة والطاعة. ومن ثم فإنا نراه بعد فترة يسيرة من التظاهر بطاعة الموحدين، يفر من تونس ليستأنف مغامراته، وذلك قبل أن ينتهي ابن منقذ من تأدية سفارته. ولما وصل قراقوش إلى قابس، استطاع أن يدخلها مخادعة، وقتل جماعة من أهلها، وأعلن خروجه على الموحدين مرة أخرى، واستدعى أشياخ العرب من ذباب وسليم، فقتل سبعين منهم، ومن بينهم محمود بن طوق بن بقية زعيم المحاميد، وحميد بن جارية، وذلك داخل قصر العروسين بقابس (¬1). ثم سار إلى طرابلس فاستولى عليها من يد حاكمها الموحدي، وسار بعد ذلك إلى بلاد الجريد فاستولى على معظم أنحائها. وكانت بلاد الجريد مقر حليفه يحيى بن غانية. وعندئذ وقع الخلاف بينهما، وسار يحيى لقتال حليفه السابق، فالتقيا بموضع يعرف " بمحسن من أعمال طرابلس، فهزم قراقوش هزيمة شنيعة، وفر إلى الجبال، وأتبع يحيى نصره بانتزاع طرابلس من يد ياقوت نائب قراقوش، وذلك بعد حصارها من البحر بمركبين بعث بهما إليه أخوه عبد الله والي ميورقة، وقبض على ياقوت وأرسله مصفداً إلى ميورقة، فلبث سجيناً بها، حتى استولى الموحدون على ميورقة سنة 599 هـ، وعندئذ أفرج عنه، وقصد إلى مراكش. وعين يحيى ابن عمه تاشفين بن غازي نائباً عنه بطرابلس، وغادرها ليتابع مغامراته. فلم يمض سوى قليل حتى ثار أهل طرابلس بنائب الميورقي وأخرجوه منها، وأعلنوا طاعتهم للموحدين مرة أخرى (¬2). ونحن نقف في حوادث إفريقية عند هذا الحد، لنعود إلى تتبع حركات يحيى بن غانية، الذي قدر له أن يمضي في قيادة المعركة ضد الموحدين زهاء خمسين عاماً، وهو ينزل بقواتهم الضربة تلو الأخرى، وسلطان الدولة الموحدية بإفريقية يهتز ويتصدع تباعاً. ¬_______ (¬1) رحلة التجاني ص 104، وابن خلدون في العبر ج 6 ص 193. (¬2) رحلة التجاني ص 244 و 245.

الفصل الثالث موقعة الأرك

الفصل الثالث موقعة الأرك عزم المنصور على السير إلى إفريقية. مسيره إلى رباط الفتح. مقدم ولاة الأندلس وإبلاغهم بانقضاء الهدنة مع النصارى. غارات النصارى وعيثهم في أراضي الأندلس. تعديل المنصور لخطته وعزمه على العبور إلى الأندلس. رواية أخرى عن بواعث هذا التحول. إتمام الأهبة ومقدم سائر الحشود. مسير المنصور من مراكش إلى قصر المجاز. جواز الجيوش الموحدية ثم الخليفة إلى شبه الجزيرة. مسيره إلى إشبيلية. إجراء التمييز واستكمال الأهبة. مسير الخليفة إلى قرطبة ثم خروجه إلى قشتالة. أهبة ألفونسو الثامن. مسيره نحو قلعة رباح. نزوله بقواته في ربوة الأرك. مسير الخليفة إلى لقائه ونزوله قرب الأرك. اشتباك الطلائع. رأى ابن صناديد في خطة القتال. تقسيم الجيش الموحدي وقواده. زحف الموحدين صوب الأرك. استعدادهم لخوض المعركة. ترتيب الجيوش الموحدية. تبادل الغفران والحث على الجهاد. وصف عيان لميدان معركة الأرك. بدء المعركة في ضحى التاسع من شعبان. نزول القشتاليين واندفاعهم نحو المعسكر الموحدي. هجوم القشتاليين على القلب. عنف القتال وروعته. مقتل القائد العام أبي يحيى. اندفاع جيوش الأندلس والمغرب والأغزاز نحو النصارى. اضطرار النصارى إلى الارتداد والفرار إلى الربوة. حملة العرب والمطوعة والأغزاز عليهم وحصدهم. زحف الخليفة في سائر قواته نحو النصارى. ارتياع النصارى وفرارهم. اقتحام الموحدين لحصن الأرك. وصف الرواية النصرانية لأدوار المعركة. ارتداد ملك قشتالة في فله نحو طليطلة. الاتفاق بين الفريقين على تسليم حصن الأرك. استنقاذ الأسرى المسلمين وتسريح حامية الحصن. نتائج المعركة. عدد الجيش القشتالي وخسائره. خسائر المسلمين. الغنائم والأسلاب. المقارنة بين موقعة الزلاقة وموقعة الأرك. عنصر الأسطورة في المعركتين. الخلاف بين الموقعتين من حيث الظروف والنتائج. أسباب نصر الموحدين. زحف الموحدين على قلعة رباح واقتحامها. وصف عيان لأطلال هذه القلعة. تقسيم المنصور للغنائم. عوده إلى إشبيلية. توجيه كتب الفتح. تهاني الشعراء. عناية المنصور بإصلاح الجامع وإتمام صومعته. قضاؤه الشتاء في إشبيلية. التمييز والاستعداد لاستئناف الغزو. مسير المنصور من إشبيلية إلى منطقة استرمادورة. افتتاح الموحدين لحصن منتانجش. استيلاؤهم على مدينة ترجالة، وسانتا كروث. اقتحامهم لمدينة بلاسنثيا وأسر حاميتها. مسيرهم إلى طلبيرة وتخريبهم لأحوازها. احتجاب القشتاليين وإحجامهم عن لقاء الغزاة. اقتراب الموحدين من طليطلة وتخريبهم لبسائطها. رواية عن غزوهم لطليطلة. استنصار ملك ليون بالمنصور. إمداده بقوة من الموحدين. غزو الموحدين والليونيين لقشتالة وتخريبهم لأراضيها. عود المنصور إلى قرطبة ثم إلى إشبيلية. نتائج هذه الغزوة السلبية. عناية المنصور بأمر العمال والنظار. قيامه بتعيين بعض الولاة. استعداده للغزوة التالية. مسيره إلى قرطبة ونزوله بها.

لما تواترت على المنصور خلال سنة 590 هـ (1194 م) تلك الأنباء المقلقة عن حوادث إفريقية، وتوالت عليه كتب واليها الشيخ أبي سعيد بن أبي حفص عن استفحال أمر بني غانية، وتفاقم غارات العرب واشتداد عيثهم، اعتزم أن يسير إلى إفريقية لمعالجة الأمور بنفسه، فغادر مراكش إلى رباط الفتح، ليقوم هنالك بإعداد الحملة المرغوبة، وبعث بكتبه إلى ولاة الأندلس بالحضور لتلقي تعليماته فلما وفدوا عليه بالرباط قرروا أن الهدنة التي عقدت مع ملك قشتالة في سنة 586 هـ (1190 م) عقب جوازه السابق إلى الأندلس، قد انتهى أجلها، وأنه أي ملك قشتالة قد بعث إلى جميع الثغور الإسلامية الواقعة على حدودها ينذرها بذلك، وأنه اعتماداً على انشغال الخليفة بحوادث إفريقية، وباستعداده للحركة إليها، قد بعث أقماطه وقادته إلى مختلف أنحاء الأندلس يغيرون عليها، ويثخنون فيها، حتى بلغت غاراتهم أحواز إشبيلية (¬1). فصرف المنصور ولاة الأندلس، وغادر رباط الفتح إلى مكناسة، وهو على عزمه أن يسير إلى إفريقية. ولكن توالت عليه عندئذ كتب أهل الأندلس، وقادة الثغور فيها، باشتداد وطأة العدو، وتفاقم غاراته. وكان ألفونسو الثامن ملك قشتالة، قد بعث مطران طليطلة مارتن لوبث في حملة تخريبية محضة إلى أراضي الأندلس، عاثت فيها أشد عيث، واستولت على كثير من الغنائم والماشية. فرفعت هذه المخاطبات والأنباء كلها إلى المنصور، وهو في مكناسة يستعد للسير إلى إفريقية فأقلقته وأهمته، ورأى عندئذ أن يُعدل خطة سيره، فأمر بأن تُبعث الأمداد إلى ولاة إفريقية، وأن تعد العدة للسير إلى الأندلس، فاشتدت الحركة عندئذ، وأقبلت الحشود من كل صوب، وكانت رغبة المجاهدين في العبور إلى الأندلس أشد لقربها، وتيسير المؤن والأقوات بها (¬2). تلك هي البواعث والظروف التي أملت على المنصور عزمه على العبور إلى الأندلس للمرة الثانية. ولكن توجد ثمة رواية أخرى خلاصتها أن ملك قشتالة، ¬_______ (¬1) وتوجد ثمة رواية أخرى خلاصتها أن ملك قشتالة كان قد بعث إلى المنصور، وهو يتأهب لغزو إفريقية، رسوله يطلب تجديد الهدنة، وهو يضمر الكيد، فلما وصلت أنباء الغارات التي قام بها القشتاليون في أراضي الأندلس، والرسول في محلة المنصور، أمر المنصور بطرده وتجهيزه إلى البحر (أورد هذه الرواية خلال حديثه عن موقعة الأرك أبو الحسن حازم القرطاجنى في كتابه (مخطوط المتحف البريطاني ص 152). (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 191 و 192، وابن خلدون ج 6 ص 245.

على أثر انقضاء الهدنة التي كانت معقودة بينه وبين الموحدين، غزا أراضي الأندلس، وتوغل في غاراته حتى الجزيرة الخضراء. وهناك وجه إلى الخليفة المنصور كتاباً من إنشاء وزيره اليهودى ابن الفخار، يتحداه فيه بأسلوب يفيض غروراً ووقاحة، أن يأتي لقتاله، فإن جبُن أو عجز، فليرسل إليه السفن ليجوز فيها إليه، ويقاتله في أعز مكان لديه، وأن المنصور غضب لذلك، واستنفر الناس للجهاد، وكانت حركته الثانية إلى الأندلس (¬1). على أنه يبدو من نص هذا الخطاب، ومن تحدثه عن " تواكل رؤساء الأندلس، وإخلادهم إلى الراحة " أنه يمكن بطريقة أرجح نسبته إلى ألفونسو السادس ملك قشتالة، وأنه كان موجهاً إلى يوسف بن تاشفين، وليس إلى الخليفة الموحدي. وفي أوائل سنة 591 هـ (1194 م) كانت أهبات الحملة الموحدية، قد تقدمت تقدماً كبيراً، واجتمعت الحشود من سائر بلاد المغرب والقبلة. وفي يوم الخميس الثامن عشر من جمادى الأولى من السنة المذكورة، خرج الخليفة يعقوب المنصور من حضرة مراكش، والجيوش تتلاحق في أثره من سائر النواحي، وسار تواً إلى قصر المجاز (القصر الصغير)، وهنالك عنى بتنظيم تموين الجيوش، ثم بدأ الجواز، فكان أول من جاز البحر قبائل العرب ثم قبائل زناتة، ثم المصامدة، فغمارة، فالجيوش المطوعة، ثم الموحدون، فالعبيد، ولما تم جواز الجيوش على هذا النحو واستقرت بأراضي الجزيرة الخضراء، عبر الخليفة المنصور البحر في جمع كبير من أشياخ الموحدين والزعماء والفقهاء، والعلماء، وكان عبوره إلى طريف (¬2) في يوم الخميس عشرين من جمادى الآخرة سنة 591 هـ (أول يونيه سنة 1195 م). وأقام المنصور بطريف يوماً واحداً، ثم استأنف سيره إلى إشبيلية، ولقيه في الطريق والي إشبيلية السيد يعقوب بن أبي حفص وجماعة من أعيانها، ثم تقدمه ليعد له أسباب النزول في الحضرة الأندلسية، ونزل الخليفة بقصر البحيرة خارج باب جَهور، وهرع أهل الحاضرة للسلام عليه، وعهد الخليفة إلى أبي بكر ¬_______ (¬1) راجع ابن الأثير ج 12 ص 44، وابن خلكان في الوفيات ج 2 ص 425، وروض القرطاس ص 145، والنويري طبعة ريميرو في مجلة ( Revista del Centro de ج 8 ص 273 Estudios Historicos T. VIII ano 1919 p. 218) (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 192، وفي روض القرطاس أنه عبر إلى الجزيرة الخضراء (ص 146).

ابن زُهر وزملائه أشياخ المدينة، بإنزال الأشياخ والأكابر في الدور المعدة لنزولهم، وبعد الظهر أذن بدخول السادات للسلام عليه، وكان ذلك يوم الخميس السابع والعشرين من جمادى الثانية. وفي الغد ركب الخليفة إلى حصن الفرج الذي كان قد أمر بإنشائه خارج إشبيلية، وأعجب بمنعته وحسن روائه. ثم عاد فزار المسجد الجامع. وفي يوم السبت أمر بإجراء التمييز، فانتظم سائر الجند بالزي الفاخر، والعدد الكاملة، وركب الخليفة ومعه من حضر من الأبناء، والقرابة والوزراء، واستعرض الجند صفاً صفاً، وقبيلا قبيلا، ثم أخرجت الرواتب والبركات، ووزعت على سائر الحشود (¬1). وأنفق المنصور في إشبيلية أسبوعين وهو يستكمل أهباته، ويضع خططه في أناة وروية، وفي صبيحة يوم الخميس الحادي عشر من رجب (22 يونيه) غادر إشبيلية قاصداً إلى قرطبة، مخترقاً طريق نهر الوادي الكبير فوصل إليها يوم الجمعة التاسع عشر منه، واستراح بها ثلاثة أيام. ثم خرج منها من باب مورادال في يوم الثلاثاء الثالث والعشرين منه، وسار في قواته شمالا ميمماً صوب سهول شلبطَرَّة وقلعة رباح. - 1 - وكانت أنباء عبور الخليفة الموحدي وجيوشه الزاخرة، قد ترامت أثناء ذلك إلى ملك قشتالة ألفونسو الثامن، فجمع " الكورتيس " في مدينة كريون على عجل وأخذ يتأهب للحرب بكل ما وسع، واستدعى سائر أتباعه من الأمراء والأشراف في قواتهم، وحشد كل ما استطاع من الجند، وبعث إلى زميليه ملكي ليون ونافارا في طلب العون، فوعداه بذلك، وانتظر أياماً بطليطلة حتى وفد أتباعه في حشودهم، ثم غادرها مسرعاً إلى الجنوب، واخترق نهر وادي يانه متجهاً نحو أراضي قلعة رباح، ولم ينتظر مقدم زميله وحليفه ملك ليون، وكان قد وصل في قواته إلى طلبيرة، ولم ينتظر كذلك مقدم قريبه ملك نافارا (نبرّة)، إذ كان واثقاً من رجحان كفة قواته وأهباته، واثقاً من النصر على أعدائه، مهما بلغت قواتهم. وكان ملك قشتالة قد بدأ قبل ذلك بقليل بإنشاء حصن جديد في المحلة المسماة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 192 و 193.

" بالأرك ". وهي محلة صغيرة من أعمال قلعة رباح، تقع على مسافة أحد عشر كيلومتراً في غربي مدينة " ثيوداد ريال " الحديثة (¬1)، وتقوم فوق ربوة عالية، تمتد سفوحها حتى نهر وادي يانه، وكانت عندئذ هي نقطة الحدود بين قشتالة وأراضي المسلمين، فإلى هذه المحلة اتجه ملك قشتالة بقواته، وعسكر بها معتزماً أن يلقى الموحدين وألا يسمح لهم بعبور الحدود إلى داخل أراضيه. وأما الخليفة المنصور فاستمر في سيره مخترقاً قلعة رباح حتى وصل إلى مقربة من محلة الجيش القشتالي المعسكر في الأرك. ويقول لنا صاحب روض القرطاس إن الخليفة استمر في سيره حتى بقى بينه وبين الأرك مرحلتان قريبتان، وإنه نزل هنالك، وذلك في يوم الخميس الثالث من شعبان سنة 591 هـ (13 يوليه سنة 1194 م)، وما كاد الجيش الموحدي يستقر في محلته حتى ظهرت سرية من خيل القشتاليين خرجت لتستطلع أخبار المسلمين، فظفرت بها طائفة من الجند الموحدين وأبادتها قتلا. ومضت بضعة أيام أخرى قبل أن يقع الاشتباك بين الجيشين، ولم تكن ثمة سوى الطلائع من الجانبين، وكانت الخسارة تقع في معظم الأحيان على القشتاليين. وفي خلال ذلك كان الخليفة المنصور، يعقد المؤتمرات الحربية، ويجري مشاوراته مع أشياخ مختلف القبائل، ويروي لنا صاحب روض القرطاس أنه لما استشار قواد الأندلس أحالوه على كبيرهم أبي عبد الله ابن صناديد، وأن ابن صناديد أبدى رأيه للخليفة، بأنه يجب أن تبدأ المعركة باشتباك سائر حشود الأندلس وقبائل العرب، وسائر قبائل المغرب من زناتة والمصامدة وغيرهم وجند المتطوعة، وأن ينتظر الخليفة في المؤخرة ومعه جيوش الموحدين والعبيد والحشم في موضع مستور، فإن أسفرت المعركة عن انتصار المسلمين فبها، وإن أسفرت عن هزيمتهم، فعندئذ يبادر الخليفة في قواته إلى لقاء العدو، وليحمي ظهور المسلمين، ويكون العدو عندئذ قد خبت قواه، فيكون النصر للمسلمين، وأن الخليفة قد أعجب بهذا الرأي وقرر اتباعه (¬2). ويقدم إلينا صاحب روض القرطاس فوق ذلك تفاصيل هامة عن تقسيم الجيش ¬_______ (¬1) الأرك هي بالإسبانية Alarcos، وثيوداد ريال هي Ciudad Real ومعناها المدينة الملكية. وتقوم مكان الأرك اليوم محلة صغيرة تسمى Sta Maria de Alarcos في فحص قلعة رباح. (¬2) روض القرطاس ص 147.

خريطة: مواقع موقعة الأرك سنة 591 هـ - 1194 م.

الموحدي وقواده في ذلك اللقاء الهام، فيقول لنا إن الخليفة جلس في يوم السبت الخامس من شعبان في قبته الحمراء واستدعى الشيخ أبا يحيى بن أبي محمد بن أبي حفص، وهو حفيد الزعيم عمر بن أبي حفص الهنتاني صاحب المهدي، وكان من أكبر وزرائه، فولاه قيادة الجيش العامة، وقدم ابن صناديد على عساكر الأندلس وحشودها، وجيرمور بن رياح على جميع قبائل العرب، ومنديل المغراوي على قبائل مغراوة، وعقد لمحيو بن أبي بكر بن حمامة على جميع قبائل بني مرين، ولجابر بن يوسف على قبائل عبد الواد، وعقد لعبد القوي التجيني على قبائل تجين، ولتجليدر على قبائل هسكورة وسائر المصامدة، ولمحمد بن منعفاد على قبائل غمارة. وعقد أخيراً للحاج أبي خزر يخلف الأورينى على سائر المتطوعة، وذلك على أن تكون هذه القيادات جميعها تحت القيادة العامة لأبي يحيى بن أبي حفص. واختص أمير المؤمنين من جانبه بكافة عسكر الموحدين والعبيد (¬1). وكان الخليفة المنصور، قد قرر مع قادته أن تبدأ الجيوش الموحدية بالزحف على محلة النصارى. وتحركت الجيوش الموحدية بالفعل خلال السهل المنبسط أمام ربوة الأرك، حتى صارت على مقربة منها، ونزلت في السهل المنخفض الممتد أمامها، وهي تشرف عليه بمنعتها ووعورتها من عل، وكان ذلك في يوم الثلاثاء الثامن من شعبان (17 يوليه) فلما رأى النصارى اقتراب الموحدين خرجت جملة من قواتهم، وتقدمت قليلا من مراكز الجيش الموحدي، ولكن الموحدين لم يفعلوا شيئاً للاشتباك مع العدو. ذلك أن الخليفة المنصور لم يشأ أن يخوض الموحدون المعركة في ذلك اليوم، بل قرر خوضها في اليوم التالي. فلما رأى النصارى المتقدمون جمود الموحدين، عادوا إلى محلتهم فوق ربوة الأرك وقد أثقلتهم أسلحتهم (¬2). وفي اليوم التالي. وهو يوم الأربعاء التاسع من شعبان سنة 591 هـ (18 يوليه سنة 1195 م) كانت الجيوش الموحدية كلها على قدم الأهبة، وقد " عبئت تعبئة حرب "، وعقدت الرايات لسائر القبائل والطوائف، وجعل القائد العام أبو يحيى عسكر الأندلس في الميمنة، وزناتة وسائر القبائل المغربية والعرب في ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 148. (¬2) الرواية النصرانية اللاتينية Chronique Latine des Rois de Castille وقد أوردها الأستاذ هويثي في بحثه عن معركة الأرك Campana de Alarcos المنشور بمجلة المعهد المصري بمدريد Vol. II. p. 62-67، ثم في كتابه Grandes Batallas de la Reconquista, p. 152.

الميسرة، وجعل المتطوعة والرماة والأغزاز في المقدمة، واحتل هو القلب مع قومه من قبيلة هنتانة. وبقى المنصور في خاصته، وفي جند الموحدين والعبيد في المؤخرة، على أهبة للتدخل في اللحظة الحاسمة (¬1). ووقعت قبيل المعركة بقليل في المعسكر الموحدي، مناظر مؤثرة، حيث قام القائد العام الوزير أبو يحيى وصاح بصوت جهوري يقول للناس: إن أمير المؤمنين يطلب إليهم أن يغفروا له، فإن هذا موضع غفران، وأن يتغافروا فيما بينهم، وأن يطيبوا نفوسهم، وأن يخلصوا نياتهم لله، فبكى الناس، وصاحوا من جانبهم بطلب الغفران من الخليفة، وأنهم بيمن نيته وصدق طويته، يرجون الخير من الرحمن. ثم قام القاضي أبو علي بن حجاج، وألقى خطبة بليغة تفيض حماسة وبياناً، في الحث على الجهاد وفضله ومكانته وقدره عند الله، وكان لهذه الحركة آثارها في إنعاش النفوس وتنبيه الضمائر، وتنقية السرائر، وإذكاء العزائم (¬2). ويجدر بنا قبل أن نصف أدوار المعركة، أن نصف البقعة التاريخية، التي وقعت فيها، وقد أتيح لنا زيارتها ودراستها (¬3). إن ميدان معركة الأرك Alarcos، ما زال معروفاً بمواقعه وحدوده، تعينه وتحدده، لا الرواية المتواترة فقط، ولكل تحدده كذلك آثار حصن الأرك الشهير، الذي عرفت باسمه المعركة، والذى تقوم اليوم مكانه، فوق نفس الربوة التي كان يحتلها، كنيسة، أو معبد يسمى " كنيسة القديسة مريم صاحبة الأرك " Sta Maria de Alarcos. ويقع هذا المكان على قيد نحو ستة كيلومترات من غربي مدينة " ثيوداد ريال " الحديثة، وشمال غربي بلدة " بوبليتي " الصغيرة، وتفضي إليه طريق جبلية معبدة، تخترق في البداية بسيطاً أخضر من الأرض، يفضي غير بعيد إلى مجموعة من الهضاب الصغيرة. وعلى نحو أربعة كيلومترات من هذه الهضاب، تقع ربوة الأرك Alarcos التي تقوم عليها اليوم، فوق أنقاض الحصن القديم كنيسة القديسة مريم، أو سيدة الأرك، وهذه الكنيسة أو المعبد، حسبما يسمى في تلك الناحية Ermita ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 148 و 149، ونفح الطيب ج 2 ص 537. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 194. (¬3) كان ذلك في اليوم الثالث والعشرين من أبريل سنة 1963.

عبارة عن بناء قديم، يقوم وسط فناء شاسع، تحيط به أسوار قديمة. وتوجد بداخله كنيسة بها صفان من العقود الكبيرة، يحتوى كل منهما على أربعة عقود، وهي بسيطة جداً، وليست بها أية مظاهر فخمة. وأما آثار حصن الأرك القديم، فتبدو أولاً في مصطبة صخرية كبيرة تمتد خارج سور المعبد على حافة الربوة، وتدور حولها، وهو ما يدل على أن المعبد قد بني فوق موقع الحصن القديم، وتبدو ثانياً في وجود عدة بقايا صغيرة من أسوار الحصن تقع في غربيه، وظاهر من وجود الأحجار والأنقاض المتماثلة، وامتدادها غرباً حتى قرب النهر أن بناء الحصن، كان يمتد نحو ثلاثمائة متر، كما أنه يوجد في الناحية الخلفية، من الربوة، وهي تطل أيضاً على نهر وادي يانه، آثار عقدين قديمين. ويوجد عند نهاية الأنقاض غرباً، كتلة كبيرة من الأحجار والصخور، وتحتها أثر سرب قديم، يقال إن الفرسان، كانت تقود منه خيلها إلى النهر لتشرب من مائه، وأنقاض مصطبة الحصن التي سبق ذكرها، تصل إلى هذه الكتلة من الأنقاض، مما يدل على أن الحصن كان يمتد حتى ذلك المكان. كما أنه يبدو خلال الأنقاض الممتدة كثير من أسس الجدران القديمة. وتشرف الربوة في اتجاه الجنوب على واد عميق متدرج، يصطلح على أنه المكان الذي وقعت فيه الموقعة. ويجري نهر وادي يانه بحذاء هذا الوادي من شماله وغربه، ويدور في انحناءة كبيرة حول ربوة الأرك، ويطلق اليوم على هذا الوادي الذي تغمره الخضرة اسم محلة ديجو " Villa Diego . ويبدو من أوصاف أدوار المعركة أن محلة الجيش القشتالي، كانت تحتل مكاناً يتصل بمشارف ربوة الأرك، على مقربة من الحصن، ويمتد في اتجاه قرية بوبليتي، ويستند إلى الحصن، وإلى نهر وادي يانه، وأن المسلمين كانوا يحتلون البسيط الواقع قبالتهم في أسفل الوادي، وتستند محلتهم غرباً إلى يسار النهر. وفي ضحى هذا اليوم - التاسع من شعبان سنة 591 هـ (18 يوليه سنة 1194 م) - نشبت المعركة المرتقبة. وكان القشتاليون حينما رأوا جيوش الموحدين تزحف نحو محلتهم ببطىء، وقد عبئت للهجوم أكمل تعبئة، قد نزلوا من محلتهم في صفوف كثيفة قاتمة، أو حسبما تصفهم الرواية الإسلامية وهم " كالليل الدامس،

رسم تخطيطى لميدان موقعة الأرك حسبما يبدو اليوم.

والبحر الزاخر، أسراباً تتلو أسراباً وأمواجاً تعقب أمواجاً ". ويقدر صاحب روض القرطاس، من هبط في هذه الدفعة الأولى من القشتاليين بنحو سبعة آلاف أو ثمانية آلاف فارس " كلهم قد احتجب بالحديد والبيضات والزرد ". ثم يتتبع حركات هذه القوة النصرانية المهاجمة، فيقول إنها اندفعت حتى لطمت خيلها أطراف رماح المسلمين أو كادت، ثم تقهقرت قليلا، وعادت إلى الاقتراب من المسلمين، ثم ارتدت وتهيأت للهجوم الفعلي، وفي أثناء ذلك كان الشيخ أبو يحيى والقائد ابن صناديد، يحث كل منهما الجند على الثبات وإخلاص النيات والأعمال. وأخيراً تركز هجوم القشتاليين على قوات القلب التي يقودها القائد العام أبو يحيى، معتقدين أنه هو الجناح الذي يقوده الخليفة، وكان المنصور قد أمر بالفعل بأن ترفع الأعلام الخليفية على القلب، فقاتل أبو يحيى وجنوده أشد قتال، ولكن الصدمة كانت عنيفة، فقتل أبو يحيى، وقتل معه جماعة من من هنتانة، والمطوعة وغيرهم. وعندئذ تقدمت قبائل العرب والمطوعة والأغزاز والرماة، وأحاطوا بالنصارى من كل جانب، ودفع القائد ابن صناديد بجيوش الأندلس إلى المعركة وزحفت معه قبائل زناتة وسائر قبائل البربر، واندفعت الجيوش الموحدية بجملتها نحو محلة القشتاليين، واشتد القتال بين الفريقين، وسالت الدماء بغزارة، وكثر القتل في مقدمة القشتاليين، التي اضطلعت بالهجمة الأولى، واستمر القتال على هذا النحو بعنف وشدة، حتى اضطر القشتاليون إلى التقهقر والفرار نحو الربوة التي تحتلها محلتهم، وبدت بوادر الهزيمة على القشتاليين (¬1). ولكن صاحب البيان المغرب، وهو فيما يرجح ينقل عن رواية ابن صاحب الصلاة وهي رواية معاصرة، يقدم إلينا عن المعركة صورة أخرى. فيقول لنا إن هجوم القشتاليين تركز أولاً على ميسرة الجيوش الموحدية، وأنه أسفر عن تقهقر جماعة من المطوعة وأخلاط السوقة، فلما رأى المنصور ذلك، نهض بنفسه، وترك ساقته على حالها، وتقدم منفرداً، وهو يحث الجند على الثبات والهجوم على العدو، فكان لحركته أعمق وقع في نفوس الجند، فاضطرمت هممهم وعزائمهم، واندفعت سائر الحشود والقبائل نحو القشتاليين بشدة، والتحم الجيشان، واشتد القتال، وكثر القتل في صفوف القشتاليين، واضطروا في النهاية إلى التقهقر والفرار. ودامت المعركة من ضحى اليوم حتى غروب الشمس، وأسفرت عن قتل جموع ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 149 - 150.

صورة: كنيسة الأرك (سانتا ماريا دي ألاركوس) التي أقيمت على أنقاض حصن الأرك. صورة: مجموعة أطلال قلعة رباح.

عظيمة من النصارى، واستطاع ملك قشتالة أن يفر في نحو عشرين فارساً من أصحابه، فسار تحت جنح الليل صوب طليطلة لا يلوي على شىء، واعتصمت معظم فلول النصارى بحصن الأرك (¬1). وتفصل لنا الرواية الإسلامية ما حدث بعد هزيمة القشتاليين في الجولة الأولى. ويبدو من أقوال صاحب روض القرطاس، أن ألفونسو الثامن ملك قشتالة، كان عندئذ معتصماً مع باقي قواته بربوة الأرك، فلما ارتد القشتاليون، وفروا نحو الربوة يحاولون الاعتصام بها، حالت بينهم القوات الموحدية، فارتدوا ثانية نحو السهل، فحملت عليهم العرب والمطوعة وهنتانة والأغزاز والرماة، وحصدوهم حصداً، وأفنوهم حسبما تقول الرواية عن آخرهم. ولما علم أمير المؤمنين بما حدث، ضربت الطبول ونشرت الرايات، وفي مقدمتها اللواء الخليفي الأبيض، وزحف المنصور في القوات الموحدية نحو القشتاليين، تؤيده سائر الحشود والقبائل. وكان ملك قشتالة حينما رأى ما حل بقواته، وضرب الطبول، وعجيج الأبواق، قد اعتزم أن يلقى ضد الموحدين بما تبقى من قواته، ولكن القشتاليين حينما رأوا كثافة الجيوش الموحدية، وروعة هجومها واضطرامها عولوا على الفرار، فتلاحقت بهم فرسان الموحدين، تحصدهم قتلا وأسراً، وأحاط المسلمون بحصن الأرك، يظنون أن ألفونسو الثامن قد اعتصم به، ولكن تبين أنه قد لاذ بالفرار من أحد أبوابه الخلفية، فدخل المسلمون الحصن عنوة، وأضرموا النار في أبوابه، واحتووا على جميع ما فيه، وما في محلة النصارى، من الذخائر والأسلاب والسلاح والمتاع والدواب والنساء (¬2). وعلى أي حال، فإنه يبدو من أقوال الرواية الإسلامية، أن القشتاليين هم الذين بدأوا بالهجوم على الموحدين، وتؤيدها في ذلك الرواية النصرانية. وتقدم إلينا الرواية النصرانية عن المعركة، وصفاً موجزاً يختلف قليلا عما تقوله الرواية الإسلامية، وهو أنه لما رأى القشتاليون الموحدين، يتقدمون من محلتهم في الصباح الباكر من ذلك اليوم، حدثت ضجة في معسكر النصارى، وخرج القشتاليون في قليل من النظام وتقدموا، ثم اشتبكوا مع المسلمين، وفي الصدمة الأولى سقط عدة من أكابر النصارى، واشتد القتال بين الفريقين، وسالت الدماء بغزارة. ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 194 و 195. (¬2) روض القرطاس ص 150.

ولما رأى ملك قشتالة رجاله يسقطون في المعركة على هذا النحو تقدم بنفسه إلى الأمام، وأخذ يثخن مع طائفة من رجاله في المسلمين يميناً وشمالا. ولكن رجاله رأوا أنه يستحيل عليهم أن يقاوموا ضغط الحشود الموحدية، خصوصاً بعد أن سقط كثير من النصارى، وقد استطالت المعركة إلى منتصف النهار، فتضرعوا إليه أن يحتفظ بحياته، خصوصاً وأنه يبدو أن الله قد تخلى عن النصارى. ولكنه أبي أن يصغى إليهم، فجذبوه من المعركة رغم إرادته، وارتد نحو طليطلة في نفر من الفرسان وقلوبهم تنفطر لما حدث حزناً وأسى (¬1). وتتفق الروايتان الإسلامية والنصرانية على أنه عقب الهزيمة، لجأت فلول القشتاليين إلى حصن الأرك بقيادة دون ديجو لوبث دي بسكاية. وتقدر الرواية الإسلامية هذه الفلول بخمسة آلاف، فطوق الموحدون الحصن، وكان الخليفة المنصور يعتقد أن ملك قشتالة قد لجأ إليه، ولكنه تأكد من أقوال حليفه وخديمه القشتالي دون بيدرو فرنانديث دي كاسترو الموجود بمحلته، أن الملك قد لاذ بالفرار إلى طليطلة، فعندئذ طالب المنصور بتسليم الحصن في الحال، وأن يُعطى اثنى عشر فارساً كرهينة، حتى يحضر دون ديجو إليه بمراكش ويسلم نفسه أسيراً، وإلا فإنه سوف يقتحم الحصن ويقتل كل من فيه. وتقول لنا الرواية الإسلامية من جهة أخرى، إن الاتفاق تم بواسطة دون بيدرو فرنانديث (وتسميه ببطره ابن فراندس) على أن يفرج عن خمسة آلاف من أسرى المسلمين مقابل إطلاق القشتاليين المحصورين بالحصن، وأن المنصور ارتضى هذا الاتفاق، حرصاً على استنقاذ أسرى المسلمين، وأخذت رهائن وُجهت إلى إشبيلية. وهكذا استطاع دون ديجو لويث أن يخرج من الحصن، وأن يلحق بمليكه في طليطلة (¬2). ولكن صاحب روض القرطاس يقدم إلينا عن تسليم حصن الأرَك رواية يطبعها شىء من الخيال، وهو أن الموحدين أخذوا في حصن الأرك أربعة وعشرين ألف أسير من زعماء الروم، فرأى الخليفة المنصور أن يمن عليهم بالإفراج، فأطلق سراحهم وأقالهم من الأسر بعد أن مَلَكهم، وأن هذا التصرف من جانبه، ¬_______ (¬1) الرواية النصرانية اللاتينية Chronique Latine des Rois de Castille التي سبقت الإشارة إليها. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 195 و 196. والرواية النصرانية اللاتينية التي سبقت الإشارة إليها. وينقل صاحب الحجب المستورة هذه الرواية (مخطوط المتحف البريطاني ص 154).

قد عز على الموحدين وعلى كافة المسلمين، واعتبروه سقطة من سقطات الملوك (¬1). تلك هي تفاصيل موقعة الأرك العظيمة التي أحرز فيها الموحدون أعظم نصر، حققوه خلال حكمهم الطويل لشبه الجزيرة الأندلسية. على أن الرواية الإسلامية تقدم إلينا عن نتائج المعركة بعض الأقوال والأرقام المغرقة، وهي قبل ذلك تقدم إلينا عن عدد الجيش القشتالي أرقاماً لا يسيغها العقل لكي تتفق مع هذه النتائج. وهي لا تقدم إلينا شيئاً واضحاً عن عدد الجيش الموحدي، وتكتفي بأن تتحدث عن عظمة حشوده، وبأن تصفه بأنه جيش يضيق له الفضاء (¬2)، ولكنها تقول لنا إن جيش القشتاليين يزيد على ثلاثمائة ألف ما بين فارس وراجل (¬3). ويقول الضبي إنه كان ينيف على خمسة وعشرين ألف فارس ومائتي ألف راجل (¬4). أما عن خسائر النصارى، فيقول لنا صاحب روض القرطاس، إنه قتل في المعركة من الكفرة ألوف لا تعد ولا تحصى. ويقول لنا ابن الأثير ويتابعه النويري، إن عدد القتلى من الفرنج بلغ مائة ألف وستة وأربعين ألفاً، وبلغ عدد الأسرى ثلاثة عشر ألفاً (¬5). بيد أنه توجد عن خسائر النصارى رواية أخرى أكثر اعتدالا، هي رواية يوسف بن عمر، مؤرخ الموحدين، التي نقلها إلينا صاحب البيان المغرب، وهو أنه قتل في المعركة من النصارى زهاء ثلاثين ألفاً (¬6). ويأخذ بهذه الرواية صاحب كتاب " الحجب المستورة " وهو يتابع في روايته رواية البيان المغرب مع تعديلات يسيرة (¬7). وأما عن خسائر المسلمين فيقول لنا ابن الأثير، ويتابعه النويري، إنه قتل من المسلمين نحو العشرين ألفاً، وهي رواية تبدو معقولة وربما مبالغاً فيها بعض الشىء من حيث الكثرة (¬8)، وتقول لنا بعض الروايات الأخرى إنه قتل من أعيان المسلمين نفر قلائل، وإن عدد القتلى من المسلمين يبلغ نحو الخمسمائة وهو عدد ضئيل بالنسبة لاشتداد القتال، وطول أمد المعركة. ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 151. (¬2) ابن الأثير ج 12 ص 45، والنويري (طبعة جسبار ريميرو السالفة الذكر ج 8 ص 274). (¬3) روض القرطاس ص 149. (¬4) بغية الملتمس (المكتبة الأندلسية) ج 3 ص 35. (¬5) ابن الأثير ج 12 ص 45، والنويري؛ الطبعة المشار إليها ص 274. (¬6) البيان المغرب - القسم الثالث ص 195. (¬7) كتاب المعجب المستورة في محاسن المقصورة (مخطوط المتحف البريطاني ص 154). (¬8) ابن الأثير ج 12 ص 45، والنويري (الطبعة السالفة الذكر) ج 8 ص 274.

وعلى أي حال، فإنه لا يسعنا إلا أن نلاحظ أن الرواية الإسلامية هنا، وكعادتها في مثل هذه المواقع العظيمة الحاسمة، التي تضطرم بين الإسلام والنصرانية، تجنح إلى نوع من المبالغة والإغراق، يمكن فهمه وتعليله وإن لم تمكن استساغته. ومن المحقق أن خسائر النصارى كانت فادحة في مثل هذه المعركة التي بلغ فيها القتال أشده، والتي ثقلت فيها وطأة المطاردة على الجيش المنهزم، وأثخن الموحدون في فلوله قتلا وأسرا، ولكنها لا يمكن أن تعدو بضع عشرات من الألوف. ومن ثم كان الرقم الذي يقدمه إلينا المؤرخ الموحدي المعاصر وهو ثلاثون ألفاً، يطبعه التعقل والاعتدال. ثم إن الرواية الإسلامية تقدم إلينا بعد ذلك من الغنائم والأسلاب أرقاماً مدهشة. فيقول لنا ابن الاثير، ويتابعه النويري، إن المسلمين حازوا من الخيام مائة وخمسين ألفاً، ومن الخيل ستة وأربعين ألفاً، ومن البغال مائة ألف، ومن الحمير مائة ألف، هذا غير مقادير لا تحصى من الأموال والتحف. وقسم الخليفة الغنائم بعد استبعاد الأخماس، بين المسلمين وفقاً لأحكام الشريعة. وكان الخليفة فضلا عن ذلك، قد نادى في عسكره أن من ِغنم شيئاً فهو له سوى السلاح، فحُصر ما حمل إليه منه، فكان يزيد على سبعين ألف لباس (¬1). وثمة مسألة أخرى تميل الرواية الإسلامية إلى ذكرها بمناسبة وقيعة الأرَك، وهي المقارنة بين هذه الموقعة وبين موقعة الزلاّقة، وذلك من حيث ظروفها ونتائجها. فهى تذكر كيف أن جنود الأندلس كانوا أول من أصيب من عسكر المسلمين في الزلاقة، وكيف كثر القتل فيهم لولا أن تداركتهم في النهاية قوات ابن تاشفين المرابطية، وهذا بخلاف ما حدث يوم الأرك حيث لقيت الجيوش الموحدية النصارى، مجتمعة وفي جبهة واحدة، ومن ثم فقد كانت موقعة الزلاقة مقسومة الثقل، مكدرة الصفو، ولكن موقعة الأرك جاءت " هنيئة الموقع عامة المسرة ". ثم هي ترى بحق أن غزوة الأرك، كانت مثل الزلاقة من أيام الإسلام المشهورة، وبها اعتز الإسلام وعلت كلمته، بل ترى أنها كانت أعظم من موقعة الزلاقة، وأنها أنست كل فتح تقدمها بالأندلس (¬2). على أن المقارنة ¬_______ (¬1) ابن الأثير ج 12 ص 45، والنويري (طبعة راميرو المشار إليها) ص 274 هـ، ونفح الطيب ج 1 ص 207. (¬2) راجع البيان المغرب - القسم الثالث ص 196، وروض القرطاس ص 151.

لا تقف عند هذا الحد، فقد رأينا فيما تقدم من حديثنا عن موقعة الزلاقة (¬1)، كيف أن الرواية الإسلامية تحيطها بطائفة من الأساطير التي تسبغ عليها هالة من القدسية، وكذلك فإن حديثها عن موقعة الأرك لا تخلو من ذكر هذه الأساطير، وأسطع ما تقصه علينا في ذلك هو حديث الحلم الذي يقال إن الخليفة يعقوب المنصور رآه قبل الموقعة ببضعة أيام، في ليلة الجمعة الرابع من شعبان، واستبشر به ببلوغ النصر، وهو أنه لبث طوال الليل راكعاً ساجداً مبتهلا، وداعياً لتأييد المسلمين على أعدائهم، فبينما هو راكع في مصلاه إذ غلبه النوم، فرأى كأن باباً قد فتح في السماء، ونزل منه فارس أبيض حسن الوجه، وبيده راية خضراء منشورة، قد سدت الأفق من عظمها، فسلم عليه، فقال له من أنت يرحمك الله، فقال أنا ملك من السماء، جئت لأبشرك بفتح من رب العالمين، لك ولعصابتك المجاهدين الذين أتوا تحت رايتك. ثم أنشد هذا الفارس أبياتاً حفظها الخليفة وهي: بشائر نصر الله جاءتك سافرة ... لتعلم أن الله ينصر ناصره فأبشر بنصر الله والفتح إنه ... قريب وخيل الله لا شك ظافرة فتفنى جيوش الروم بالسيف والقنا ... وتخلى بلاداً لا ترى بعد عامرة وأن الخليفة نهض من نومه موقناً بالفتح والظفر (¬2). فهذا الحلم الذي تقصه الرواية الإسلامية بمناسبة معركة الأرك، يذكرنا بالحلم الذي تذكره لمناسبة موقعة الزلاّقة وهو أن الفقيه الناسك أبا العباس بن رميلة القرطبي وكان بمحلة ابن عباد، نهض في جوف الليل، قبيل نشوب المعركة فرحاً مسروراً، وهو يقول إنه رأى النبي، وإن النبي بشره بالفتح والشهادة (¬3). ثم تذكرنا كذلك بالحلم الذي تقول لنا إن ألفونسو السادس ملك قشتالة رآه قبيل معركة الزلاقة، وخلاصته أنه رأى أنه يركب فيلا، قد تدلى بجانبه طبل يحدث صوتاً مزعجاً كلما قرعه، وأن فقيهاً من أهل طليطلة، نبأه بأن هذا الحلم هو نذير هزيمته، مشبهاً ذلك بما حدث عام الفيل من سحق أبرهة، وقد كان يركب الفيل أيضاً. ثم يذكرنا كذلك، بما تزعمه الرواية النصرانية من آن لآخر، من أن الملوك النصارى، كانوا متى اشتد القتال بينهم وبين المسلمين، يرون ملاكاً يهبط من السماء وفي يده صليب أو نحو ذلك. ¬_______ (¬1) راجع كتابي " دول الطوائف " ص 319 - 321. (¬2) روض القرطاس ص 147، 148. (¬3) الروض المعطار ص 91.

والرواية سواء أكانت إسلامية أو نصرانية تجنح إلى مثل هذه الأساطير، بالأخص في المواقع العظيمة الحاسمة بين الإسلام والنصرانية، مثل الزلاقة، والأرك وغيرها، على أن موقعة الأرك تختلف عن موقعة الزلاقة من بعض الوجوه الهامة. فقد كان المسلمون من أندلسيين ومرابطين يواجهون في الزلاقة، قوي اسبانيا النصرانية كلها، ملتفة حول عميدها ألفونسو السادس. أما في يوم الأرك فقد كانت الجبهة النصرانية، مقتصرة على ملك قشتالة وقواته. وقد غادر ألفونسو الثامن طليطلة في قواته، حينما علم بزحف الموحدين نحو أراضي قشتالة، ولم يرد أن ينتظر حليفه ملك ليون، وكان قد وصل عندئذ بقواته إلى طلبيرة، ولكنه لم يقدم على معاونة زميله، لأنه أبي أن يعطيه بعض الحصون التي طلبها، ثم انقلب بعد ذلك إلى خصومته، ومحالفة الموحدين أعدائه. وكذلك لم ينتظر ألفونسو الثامن معاونة من ملك نافارا، أو من ملك أراجون وذلك لوثوقه من رجحان قواته، ويقينه ببلوغ النصر على أعدائه. وقد انتصر عليهم من قبل مراراً في معارك محلية. ومن الغريب المدهش ما تقصه علينا الرواية الإسلامية من دلائل يقين ملك قشتالة بإحراز النصر على أعدائه، وهو أنه كان يصطحب معه حين مسيره لقتال الموحدين جماعات من التجار اليهود، جاءوا لشراء أسرى المسلمين، وأسلابهم، وأعدوا لذلك الأموال اللازمة (¬1). وتختلف كذلك موقعة الأرك في نتائجها عن موقعة الزلاقة. ذلك أن موقعة الزلاقة بالرغم من كونها قد صدعت من قوي مملكة قشتالة، وقضت مؤقتاً على الخطر الذي كان يهدد دول الطوائف، فإنها اقتصرت على تحقيق النصر للمسلمين، ْولم يُتبع يوسف بن تاشفين نصره في الموقعة، بأية محاولة أخرى لاسترداد طليطلة أو غزو أراضي قشتالة. هذا في حين أن المنصور بث جيوشه عقب النصر مباشرة في أراضي قلعة رباح فاستولت على عدة حصون. ثم إنه لم تمض بضعة أشهر على معركة الأرك، حتى خرج المنصور في قواته ثانية لغزو أراضي قشتالة، واخترقها حتى شمالي طليطلة، واستولى على طائفة من المواقع والحصون حسبما نفصل بعد. ولقد كان انتصار الموحدين في معركة الأرك، يرجع فضلا عن تفوقهم العددي، إلى عدة أسباب، روعي تحقيقها لأول مرة في الغزوات الموحدية ¬_______ (¬1) بغية الملتمس (المكتبة الأندلسية) ج 3 ص 35.

الكبرى، وأولها وأهمها العناية بالمحافظة على نظام الجيش، وتوفير تموينه ومؤنه بصورة مؤكدة، وتقسيم حشوده، وتنظيم قياداته، وتعيين قائد عام يشرف على هذه القيادات، واعتماد الخليفة على مشورة قواده، ثم مراعاة الحزم والسرعة في تحرك الجيش، وإعداده لضرب العدو على الفور. فهذه الميزات التي روعي تحقيقها في الجيش الموحدي، كانت كفيلة بأن تحقق له الظفر في معركة الأرك، وأن تجنبه تلك المفاجآت السيئة، التي أصيب بها في غزوة وبذة، ثم بعد ذلك في نكبة شنترين (¬1). - 2 - ما كادت تنتهي معركة الأرك العظيمة، حتى بث المنصور سريات من جنده في أراضي قلعة رباح، فاستولت على عدة من حصون العدو في هذه المنطقة، ثم هاجم الموحدون قلعة رباح ذاتها، واقتحموها بعد قتال عنيف، وانتزعوها من أيدي فرسان جمعية قلعة رباح المتولين للدفاع عنها، وقتل أثناء المعركة أستاذ الجماعة نونيو دي فوينتس. وغادر الفرسان القلعة، ولجأوا إلى قلعة شلبطرّة القريبة منها. وهكذا استرد المسلمون هذه القلعة المنيعة، بعد أن لبثت في حوزة النصارى منذ سقوطها في أيديهم في سنة 1147 ذذ، زهاء نصف قرن. وأمر المنصور بتطهير جامعها الذي كان قد حول إلى كنيسة، وقدم على حاميتها يوسف بن قادس (¬2). نقول، وقد أتيح لنا أن نزور أطلال قلعة رباح القديمة (¬3) هذه، وأن نشهد بقايا هذه القلعة المنيعة، التي لبثت دهراً من حصون الأندلس الأمامية، والتي لعبت دوراً كبيراً في الصراع بين المسلمين والنصارى. وتقع هذه ¬_______ (¬1) راجع في معركة الأرك، روض القرطاس ص 145 - 151، والبيان المغرب القسم الثالث ص 193 - 196، وابن الأثير ج 12 ص 44 و 45، والنويري (طبعة جسبار ريميرو) ص 274 و 275، وابن خلكان ج 2 ص 429 و 430، وابن خلدون ج 6 ص 245، والمعجب للمراكشي ص 159 و 160، ورفع الحجب المستورة في محاسن المقصورة (مخطوط المتحف البريطاني ج 2 ص 152 - 156). ونشره الأستاذ هويثي ضمن مقاله المنشور بمجلة المعهد المصري بمدريد ج 2 ص 57 - 61 وراجع أيضاً: H. Miranda: Las Grandes Batallas de la Reconquista, p. 137-169 (¬2) الروض المعطار ص 163. (¬3) وهي بالإسبانية Calatrava la Vieja.

صورة: جانب من أطلال قلعة رباح. الأطلال على قيد خمسة عشر كيلومتراً من مدينة ثيوداد ريال، وعلى قيد نحو سبعة كيلومترات من ضاحيتها كريون، وهي عبارة عن مجموعة ضخمة من الأطلال الدارسة، تقع فوق ربوة قليلة الارتفاع، وسط بسيط كبير تظلله الجبال الشاهقة، ويستند من الشمال إلى نهر وادي يانه، وتنقسم هذه الأطلال إلى مجموعتين، في إحداهما وهي اليمنى، يوجد جدار برج عال، ومن تحته عضادة تظلل عقداً كبيراً كاملا، وفي الوسط يقوم جدار ضخم من عقد سابق. والمجموعة الأخرى، يفصلها عن المجموعة الأولى فراغ كبير تتخلله الأنقاض والخرائب، يبلغ طوله نحو ثمانين متراً، وهي عبارة عن كتلة كبيرة، يبدو أنها كانت قاعدة لعدة أبراج ضخمة. وتمتد الأطلال من الناحية الأخرى إلى مدى يبلغ نحو مائة وخمسين متراً، ويغمر هذه الأطلال الضخمة العالية، والمكان كله، جو من الوحشة والرهبة انقبضت له نفسي، وأنا أطوف حول المكان منفرداً، بين الأشواك والأدغال البرية، تحت أشعة الشمس الساطعة، وعواء الكلاب المتوحّشة، ونعيق الغربان والنسور الصغيرة، التي تعمر المكان، يزعجني، وينذرني بسرعة الرحيل. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن المنصور لم يكتف بذلك، بل سار مخترقاً أراضي قشتالة يثخن فيها قتلا وأسراً وسبياً حتى وصل إلى جبل سليمان (¬1) على مقربة من قلعة هنارس شمالي طليطلة. بيد أنه لا يوجد ما يؤيد هذه ¬_______ (¬1) وهو بالإسبانية Cuesta de Zulema " مرتفع سليمان ".

الرواية. والظاهر أن صاحب روض القرطاس يشير بذلك إلى غزوة المنصور التالية لأراضي قشتالة بعد ذلك بعامين، وهي غزوة سوف نتحدث عنها فيما بعد (¬1). وبعد أن أخرج المنصور خمس الغنائم، وقسم ما فيها على المجاهدين، سار في جيوشه المظفرة ميمماً شطر إشبيلية، وقد محا بهذا النصر الباهر ما لحق [[هيبة]] الحراب الموحدية في شبه الجزيرة، عقب نكبة شنترين من الانتكاس والتصدع، فوصل إليها في يوم الثلاثاء السابع والعشرين من شعبان سنة 591 هـ (6 أغسطس سنة 1195 م)، وأقبلت إليه الوفود من كل فج تزجي إليه تهاني النصر. ثم أمر أن يكتب بالفتح إلى سائر جهات الأندلس والمغرب. وطلب إلى أبي الفضل بن طاهر ابن محشرة أن يتوخى في كتب الفتح غاية الإيجاز، وأن يكتبها على مثل كتب الصحابة في فتوحهم، فصدع أبو طاهر بالأمر. ورفع الشعراء قصائدهم إلى الخليفة كالعادة، ونظم أبو العباس الجراوي شاعر البلاط الموحدي، في الفتح قصيدة جاء فيها: هو الفتح أعيى وصفه النظم والنثرا ... وعمت جميع المسلمين به البشرى وأنجد في الدنيا وغار حديثه ... فراقت به حسناً وطابت به نشرا لقد أورد الأذفونش شيعته الردى ... وساقهم جهلا إلى البطشة الكبرى حكى فعل إبليس بأصحابه الألي ... تبرأ منهم حين أوردهم بدرا رأى الموت للأبطال حوليه ينتقى ... فطار إلى أقصى مصارعه ذعرا ألوف غدت مأهولة بهم الفلا ... وأمست خلاء منهم دورهم قفرا ودارت رحى الهيجا عليهم فأصبحوا ... هشيماً طحيناً في مهب الصبا يذرا وأنشد الشاعر الأندلسي المرسي، علي بن حزمون بين يدي الخليفة قصيدة، وقعت منه أجمل وقع، وهذا بعض ما جاء فيها: حيتك معطرة النفس ... نفحات الفتح بأندلس فذر الكفار ومأتمهم ... إن الإسلام لفي عرس أإمام الحق وناصره ... طهرت الأرض من الدنس وملأت قلوب الناس هدى ... فدنا التوفيق لملتمس ورفعت منار الدين على ... عُمد شُمٍّ وعلى أسس ¬_______ (¬1) راجع روض القرطاس ص 151.

وصدعت رداء الكفر كما ... صدع الديجور سنا قبس لاقيت جموعهم فغدوا ... فرساً في قبضة مفترس جاءوك تضيق الأرض بهم ... عدداً لم يحص ولم يقس ومضيت لأمر الله على ... ثقة بالله ولم تخس فأناخ الموت كلاكله ... بظباك على بشر رجس وتساوى القاع بهامهم ... المرفض مع الحدب والضرس فأولئك حزب الكفر ألا ... إن الكفار لفى نكس (¬1). وأمر المنصور بتسريح الحشود والقبائل وسائر الجنود، على أن يكونوا على أهبة للاستعداد للجهاد في أية لحظة. وقضى فصل الشتاء بإشبيلية، وانتقل إلى حصن الفرج، الواقع جنوب غربي المدينة على الضفة الأخرى من النهر الأعظم (الوادي الكبير) وهو الحصن، الذي أمر بإنشائه قبل ذلك بقليل، وكان يحبه ويؤثر الإقامة فيه، وأمر باستكمال غروس بستانه، وإنشاء النواعير على شاطىء النهر تحت الحصن لريه، كما أمر بإصلاح المسجد الجامع، واستكمال بناء صومعته، وهو الجامع الذي كان قد أنشأه أبوه، وأمر بإنشاء صومعته قبيل وفاته بقليل. ولما انتهى الشتاء وأقبل الربيع، أمر المنصور باستئناف الحركة والاستعداد لمعاودة الجهاد، واستنفار مختلف الحشود من منازلها، فلما تم وصول مختلف الطوائف وحشدها، أمر الخليفة بتمييز الجيوش وتنظيمها، واستعدادها لاستئناف الغزو. على أن المنصور، قبل أن يبدأ الحركة، رأى أن يستشير الزعماء والقادة في أمر توجيه الغزو، واختيار المنطقة الملائمة في أراضي النصارى لإجرائه. وفي أثناء ذلك تردد رسل ملك قشتالة في طلب المهادنة وعقد السلم، فرفض المنصور (¬2)، واستقر الرأي على أن توجه الغزوة إلى ما تسميه الرواية الإسلامية " ببلاد الجوف " أعني منطقة إسترمادورة، وذلك لاسترداد ما انتزعه النصارى من قواعد هذه المنطقة. وخرج المنصور من إشبيلية في قواته في منتصف جمادى الأولى سنة 592 هـ (¬3) (منتصف أبريل سنة 1196 ذذ)، واتجه شمالا إلى حصن منتانجش (¬4). ¬_______ (¬1) راجع هذه القصيدة بأكملها في المعجب ص 165 - 167. (¬2) الرسالة الخامسة والثلاثون من رسائل موحدية (ص 231). (¬3) ذكر صاحب البيان المغرب أنه منتصف رجب. ولكن هذا التاريخ يتعارض مع سياق الحوادث ومع التواريخ التي توردها الرواية النصرانية. (¬4) ورد اسمه في الرسالة الموحدية الخامسة والثلاثين الخاصة بهذه الغزوة (منت أنتش) ص 231.

وقد كان حسبما أشرنا إليه من قبل من أمنع حصون منطقة بطليوس، فتقدمت لمهاجمته قوة من الأندلسيين، فلما رأت الحامية القشتالية مقدم الجيوش الموحدية الزاخرة، طالبت بالأمان والتسليم، فأجيبوا إلى ما طلبوا، وأمر قائد الجيوش الأندلسية أبو عبد الله بن صناديد، بتوصيلهم إلى المنطقة الآمنة، ولكن حدث حينما بدأوا السير أن هاجمتهم جماعة من " أوباش العرب " وسبت من كان معهم من النساء والأطفال، فغضب الخليفة لهذا الاجتراء والإخلال بالعهود المقطوعة، وأمر بسجن من عثر عليه من المعتدين، ورد النساء والأطفال إلى ذويهم، وأوصل الجند القشتاليين آمنين إلى أوائل بلادهم. وقصدت القوات الموحدية بعد ذلك إلى مدينة تَرجالُه " قاعدة الثغر الشمالي " الواقعة شمال شرقي منتانجش، وشرقي مدينة قاصرش، وكان سكانها النصارى قد أخذوا في إخلائها، حينما شعروا باقتراب الموحدين، فاستولى الموحدون على المدينة، وطاردوا سكانها وأفنوا الكثير منهم، وسبوا الكثيرين من نسائهم. واستولوا كذلك على بلدة سانتا كروث " (¬1) القريبة منها، وكانت حاميتها قد لاذت بالفرار. ثم عبر الموحدون نهر التاجُه، واتجهوا شمالا نحو مدينة " بلاسنثيا " وهي التي تسميها رسالة الفتح الموحدية (ابلتانسية) وكان ألفونسو الثامن ملك قشتالة، قد انفق بضع سنين في إنشائها وتحصينها، ونقل إليها كثيراً من أهل الشمال، وكان أهلها المدنيون قد غادروها، وبقيت حاميتها في قلعتها، فاستولى الموحدون على المدينة ودمروها، ثم هاجموا القلعة وضربوها بالنبال ضرباً شديداً، حتى اضطرت الحامية بعد ليلة واحدة فقط من الاعتصام إلى التسليم، واعتبر أفرادها أسرى بحكم مقاومتهم (¬2). ويقول صاحب الروض المعطار، وهو يسمى (بلاسنثيا) بلنسية، إن الموحدين فتحوها عنوة، وقبضوا على قائدها، مع مائة وخمسين من أعيان النصارى، وجهوا إلى خدمة الجامع الكبير بسلا مع أسارى معركة الأرك (¬3). وتقول الرواية النصرانية إن الموحدين بالعكس قتلوا الأسقف والرهبان وكثيراً من النصارى. ¬_______ (¬1) وتسميها الرسالة الموحدية " شنتقروص Santa Cruz وتصفها بالقلعة " الحسيبة في الامتناع " ص 232. (¬2) الرسالة الموحدية السالفة الذكر، ص 234. (¬3) الروض المعطار ص 13.

واستمر الموحدون في زحفهم شرقاً صوب مدينة طلبيرة، وهي أكبر مدن ولاية طليطلة، وهم يثخنون في أراضي قشتالة، تخريباً، وأسراً وسبياً، فلما أشرفوا على طلبيرة انتسفوا زروعها، وحدائقها وأشجارها، ولكنهم لم يحاولوا اقتحام المدينة لمنعتها، ولعدم استعدادهم لضرب الحصار حولها، إذ كانت تنقصهم آلات الحصار، فقنعوا باجتياح كل ما حولها من مظاهر العمران، وصيروا أراضيها قاعاً صفصفاً. كل ذلك وملك قشتالة محتجب داخل مملكته، غير مجترىء على لقاء الغزاة في أية ساحة. ثم اتجه الموحدون شمالا إلى مكّادة (¬1)، وأنزلوا بأراضيها من التخريب ما أنزلوه بطلبيرة. وهبطوا أخيراً إلى طليطلة من ناحيتها الشمالية، وبرزت أمامها الحشود الموحدية فرساناً ومشاة في أكمل عددها وعدتها، وقد امتنع النصارى بداخلها مستعدين للكفاح والدفاع، ثم عبر الموحدون بعد ذلك نهر التاجُه، إلى ساحتها الجنوبية، وانتسفوا زروعها، وكرومها وحدائقها، ولاسيما منيتها الشهيرة، وهي التي كانت من قبل لبني ذي النون، وورثها النصارى، وامتدت أيامها حتى خربها الموحدون فيما خربوه من مرافقها وأراضيها، وقضى الموحدون حول طليطلة بضعة أيام، واقتصروا على تخريب ديارها، وإبراز مظاهر قوتهم، وروعة حشودهم الزاخرة (¬2). ويقدم إلينا المقري عن غزوة طليطلة رواية خلاصتها أن المنصور لما حاصر طليطلة وضيق عليها، واشتد في ضربها بالمجانيق حتى أوشكت على السقوط، خرجت إليه والدة ألفونسو الثامن ملك قشتالة، وبناته ونساؤه، ومثلن بين يديه باكيات متضرعات إليه، أن يبقى البلد عليهن، فرق المنصور لضراعتهن، وكف عن ضرب المدينة، ووهب لهن قدراً من المال والجواهر الجليلة، وردهن مكرمات. وهذه رواية يصعب علينا تصديقها لمجانبتها للمنطق والمعقول (¬3). وفي خلال الغزوة الموحدية لأراضي قشتالة، بعث ملك ليون، وهو ألفونسو التاسع إلى المنصور، يرجوه أن يعاونه ببعض قواته، على غزو قشتالة، فاستجاب المنصور لرغبته، لما كان من سالف موقفه قبيل معركة الأرك، وتنحيه عن معاونة ملك قشتالة ضد الموحدين، وجنوحه إلى مصادقتهم ومحالفتهم. وغزا ملك ليون، ومعه قوة من الموحدين أراضي قشتالة من ناحية تييرا دي كامبوس "، ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Maqueda. راجع الروض المعطار ص 13. (¬2) الرسالة الموحدية الخامسة والثلاثون ص 336 و 337. والبيان المغرب ص 199. (¬3) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 207.

وتقول الرواية النصرانية إن الموحدين الذين كانوا يقاتلون معه، ضربوا الكنائس والأديار القشتالية بمنتهى القسوة، وقام الليونيون بانتساف وتخريب الضياع، ووصل ألفونسو التاسع في غزوته هذه حتى مدينة كريون. وفي نفس الوقت أغار سانشو ملك نافارا من جانبه على أراضي قشتالة المتاخمة له، واقتحم مدينة سُرية، وعاث في تلك المنطقة تخريباً ونهباً. ولما انتهى المنصور من غزاته، وأثخن ما شاء في أراضي عدوه، وأبرزت ْحشوده أمام أعين النصارى كل مظاهر قوتها وروعتها، قرر العود بسرعة، قبل أن يختل نظام التموين في الجيش، فارتد بقواته نحو الجنوب، واقتحم الموحدون في طريقهم بعض حصون منطقة طليطلة الجنوبية، فاخترق أراضي قلعة رباح، ثم اتجه نحو جيان ثم إلى قرطبة، وسار من قرطبة إلى إستجة فقرمونة، ووصل إلى إشبيلية في أوائل رمضان (592 هـ) بعد أن قضى في غزوته نحو ثلاثة أشهر (¬1). وما نود أن نلاحظه هو أن هذه الغزوة الموحدية التي استطاع الموحدون أن يدفعوها إلى صميم أراضي قشتالة، وإلى تطويق العاصمة القشتالية ذاتها، أعني طليطلة، لم تسفر عن أية نتائج مستقرة، ولم يحز الموحدون خلالها أية أراضٍ أو مواقع ذات شأن. وإنه لمما يلفت النظر أن يكتفي الخليفة المنصور، وهو الذي حطم قوي قشتالة قبل ذلك بأقل من عام في موقعة الأرك بالعيث والتخريب، والسبي والنهب في أراضي العدو، دون أن يتحرى غاية عسكرية جليلة، في وقت كان فيه في أوج قوته وأهباته العسكرية، وفي وقت كان فيه عدوه الرئيسي ملك قشتالة في منتهى الضعف والاستسلام، حتى أنه لم يحرك ساكناً للقاء الغزاة في أية مرحلة من مراحل الغزو. وإنه يحق لنا أن نتساءل ألم يكن في وسع الخليفة الظافر، في مثل هذه الظروف المؤاتية، أن يركز جهوده على محاولة الاستيلاء على طليطلة حصن الإسلام القديم على نهر التاجُه، وفي اعتقادنا أنه لو فعل، لما كانت هنالك، ثمة عقبات خطيرة تحول دون بغيته، ولكن السياسة العسكرية الموحدية آثرت مع الأسف أن تقنع بالمظاهرات العسكرية الجوفاء، التي يستطيع العدو القديم الخالد دائماً أن يصبر عليها، وأن يهضمها بسرعة ليعود إلى عدوانه. ¬_______ (¬1) فصلت لنا الرسالة الموحدية المؤرخة في التاسع من شهر رمضان سنة 592 هـ، وهي الرسالة الخامسة والثلاثون من رسائل موحدية، مراحل هذه الغزوة بإسهاب يغلب عليه الزخرف الأدبي، وهي من إنشاء الكاتب أبي عبد الله بن عياش (ص 228 - 241).

وعنى المنصور خلال إقامته عندئذ بإشبيلية بأمرين، الأول النظر في أحوال الأعمال والنفقات ومحاسبة بعض العمال والنظار، الذين لحقت بهم ريب التقصير والاختلاس، والثاني الاستعداد للغزوة القادمة بعد أن ينال الجند قسطهم من الراحة والاستجمام والضيافة والإحسان. وقد أمر المنصور فيما يتعلق بالأموال بمحاسبة أبي سليمان داود بن أبي داود، وندب لمحاسبته لجنة من الكتاب، فحققت في سائر أعماله وتصرفاته مدى ستة أشهر، ثم انتهت بإدانته وإثبات ما في ذمته من أموال، بلغت في الأعمال نحو مائة وخمسين ألف، فاستصفيت أمواله، ولكنه لم ينكب ولم يعاقب حتى عُفي عنه. وأمر الخليفة في نفس الوقت بمحاسبة أبي على عمر بن أيوب، على ما كان تحت يده من أموال النفقات، فتبين أن في ذمته قدراً كبيراً من المال، فطولب به، ولما عجز عن الوفاء، اعتقل مع أبي سليمان حتى عفى عنه أمير المؤمنين. وفي هذا العام أيضاً قام الخليفة ببعض التعيينات الهامة، فقلد أبا زيد بن يوجان أشغال البرّين (المغرب والأندلس) من الأعمال العلية والشئون السلطانية والوزارة، وما يتعلق به من أشغال الموحدين وملازمة الخدمة، فأبدى في تأدية مهامه المختلفة كفاية ظاهرة، وقدم أبا القاسم بن نصير على الإشراف على عمل إشبيلية، وقدم الكاتب المؤرخ يوسف بن عمر، بعد أن ترك خدمة بني حفص ابن عبد المؤمن، على المستخلص بمنطقة الشَّرْف ومدينة لبلة. وكان المنصور يعني في نفس الوقت بالاستعداد لاستئناف الغزو في أراضي قشتالة. فلما انتهى فصل الشتاء أمر بالحركة وتعبئة الحشود، فاجتمعت مختلف الطوائف والقبائل حتى ضاقت إشبيلية بجموعهم، فلما استكمل الحشد والاستعداد، خرج الخليفة في قواته من إشبيلية في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 593 (14 أبريل سنة 1196) وسار ميمماً شطر قرطبة، وكانت سنة خصب ورخاء، فسارت الجموع طول الطريق في دعة وعيش طيب. ولما وصل المنصور إلى قرطبة، دخلها ونزل بها وقسم جيوشه لانتجاع الخصب ووفرة الأقوات، حتى تحل الفترة التي تكثر فيها المؤن والأقوات بأراضي قشتالة (¬1). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 201 و 202.

الفصل الرابع ما بعد الأرك

الفصل الرابع ما بعد الأرك حتى وفاة المنصور إقامة الخليفة المنصور بقرطبة. الفيلسوف ابن رشد ومؤلفاته ومكانته العلمية. اجتماع الأسباب لنكبته. سعي خصومه في الإيقاع به. تأويل آرائه ومسخها. إتهامه وبعض زملائه بالمروق. توجيه الاتهام إليه بالمسجد الجامع. إدانته ونفيه إلى بلدة اليسانة. مصادرة كتبه وإحراقها. كتاب المنصور في تبرير تصرفه وفي شرح تهم المارقين. أسباب أخرى لغضب المنصور على الفيلسوف. عفو المنصور عنه وعن زملائه. عودة ابن رشد إلى مراكش ثم وفاته. ما تكشف عنه نكبة الفيلسوف من مغزى. خروج المنصور إلى الغزو. مسيره إلى طلبيرة ثم إلى طليطلة. مسيره إلى مجريط وحصارها. تخريبه لمنطقة وادي الحجارة. توجيه كتاب الغزو. عود المنصور إلى قرطبة ثم إشبيلية. أمره بإتمام صومعة الجامع. أقوال ابن صاحب الصلاة في بناء الصومعة. تزويدها بالتفافيح الذهبية. وصف لهذه التفافيح وعملية رفعها. قيام هذه الصومعة حتى اليوم. انتقال المنصور إلى حصن الفرج. تعيينه للعمال. تحالف قشتالة وأراجون ضد الموحدين. غزو قوات قشتالة وأراجون لمملكة ليون. عقد السلم بين المنصور وملك قشتالة. رفض المنصور معاونة ملك ليون. عبور المنصور إلى المغرب. وعوده إلى مراكش. أخذ البيعة لولده الناصر. عطفه على اليتامى. أمره لإلزام اليهود بزي خاص. بواعث هذا القرار. مرض المنصور وشعوره بدنو أجله. استدعاؤه للشيوخ والقرابة. توصيته بولده وبمن يثق بهم من السادة. توصيته برعاية الأندلس والذود عنها. توصيته بالأغزاز والعرب والطلبة. ْتوصيته بقبائل الموحدين. ما ينسب إليه من آخر أقواله. وفاة المنصور. عظمته والإشادة بصفاته. عنايته بتنظيم الجيش وتقويته. شغفه بالجهاد. حزمه وعنايته بتوطيد العدل. ورعه وتقواه. عنايته بتطبيق أحكام الشرع وإقامة الصلاة والحدود. مطاردته لعلم الفروع والمذهب المالكي. اعتناقه للمذهب الظاهري. انتشار الظاهرية في عهده. إجلاله للعلامة ابن حزم. موقفه من إمامة المهدي وعصمته. ما ينسب إليه من نيته في افتتاح مصر. قول المراكشي في ذلك. أقوال الرحالة ابن جبير عن أحوال الشرق وضلال أهله. أقواله عن صدى الدعوة الموحدية بمصر. الفكرة الموحدية في غزو مصر. الفكرة لم تكن سوى أمنية. عظمة مصر وقوتها أيام المنصور. صفات المنصور العلمية. عطفه على العلماء وطلبة العلم. أدبه وفصاحته. اجتماع الشعراء حوله. أبو العباس الجراوي يؤلف له كتاب " صفوة الأدب ". مدائح ابن مجبر. مواهب المنصور الإدارية والإنشائية. عنايته بالشئون المالية. منشآته العمرانية. إنشاؤه لضاحية الصالحة. تجديده لرباط الفتح وإنشاء مسجدها العظيم. إنشاؤه البيمارستان بمراكش. منشآته بالأندلس. وزراؤه وكتابه. قضاته. أولاده. صفته.

- 1 - في خلال إقامة المنصور بقرطبة، في تلك الفترة من شهور سنة 593 هـ، وقع حادث مؤسف ذو مغزى عميق، هو نكبة القاضي الفيلسوف أبي الوليد بن رشد. وقد سبق أن أشرنا إلى صلة ابن رشد بالبلاط الموحدي، وإلى ما كان يتمتع به من عطف الخليفة أبي يعقوب يوسف، ولاسيما عن طريق أستاذه العلامة الفيلسوف الطبيب أبي بكر بن طفيل، صديق هذا الخليفة وأستاذه الأثير لديه. وكان ابن رشد في هذا الوقت يتولى قضاء إشبيلية، ويشغل في نفس الوقت منصب الطبيب الخاص للخليفة إلى جانب أستاذه ابن طفيل. ثم تقلب بعد ذلك في عدة من المناصب القضائية والإدارية العامة، أحياناً بقرطبة وأحياناً بإشبيلية، وكان يتنقل في معظم الأحيان مع بلاط الخليفة، سواء بالمغرب أو الأندلس. ولما توفي أستاذه ابن طفيل في سنة 581 هـ (1185 م) انفرد بمنصب الطبيب الخاص للخليفة، واستمر على حظوته ومكانته لدى الخليفة يعقوب المنصور، كما كان من قبل لدى والده الخليفة أبي يعقوب يوسف. وكان ابن رشد خلال ذلك قد ذاعت شهرته الطبية والفلسفية ذيوعاً عظيماً، وكتب كثيراً من كتبه الفلسفية، ومعظمها في تلخيص كتب أرسطو وشروحها، وكتب كذلك كثيراً من الكتب الطبية، ومعظمها تلخيص وشروح لكتب جالينوس. ومنها " شرح لأرجوزة " الشيخ الرئيس ابن سيناء في الطب، وكتب كذلك كتابه " الكليات "، ليتناول فيه أبواب الطب الكلية أو الرئيسية، مقابل التفاصيل الجزئية التي تناولها أستاذه العلامة الطبيب أبو مروان عبد الملك بن زهر في كتابه " التيسير ". وهذا كله عدا ما كتبه في الأصول والفقه وعلم الكلام والحكمة والمنطق. وقد بلغت تصانيف ابن رشد في مختلف العلوم أكثر من سبعين كتاباً ورسالة اشتهرت كلها في المشرق والمغرب، وترجم الكثير منها فيما بعد إلى اللاتينية، ولاسيما شروحه لفلسفة أرسطو، وهي التي جعلت لابن رشد أعظم مكانة في ميدان التفكير الأوربي. وكان الخليفة يعقوب المنصور، كأبيه عالماً متمكناً يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين، وكان يعشق الجدل والمناقشات الفلسفية ويعقد مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء ابن رشد وشروحه، ولاسيما في علاقة الفلسفة بالدين، وهو

الموضوع الذي كتب فيه ابن رشد فيما بعد رسالة " فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ". وكان الفيلسوف يقضي معظم أوقاته عندئذ في البلاط الموحدي، حيثما كان الخليفة، وكان المنصور يعظم الفيلسوف ويقدره، إلى حد أنه كان يجلس إلى جانبه مباشرة، ويتعدى بموضعه مواضع أشياخ الموحدين الأكابر. ومن الغريب أن يقال لنا إن ابن رشد، بالرغم مما كان يحيط بمقامه العلمي من ضروب التوقير والتكريم، لم يكن يتمتع بالمظهر اللائق بمكانته من حيث الملبس والتجمل. وقد وصفه لنا القاضي أبو مروان الباجي في قوله " كان القاضي أبو الوليد ابن رشد حسن الرأي ذكياً، رث البزة، قوي النفس ". وقد شاء القدر أن يُنكب الفيلسوف، في تلك الفترة التي نزل فيها المنصور بقرطبة. وكان ابن رشد قد عاد إلى الأندلس في ركاب الخليفة، ونزل بدار أسرته في قرطبة. وكانت أسباب هذه النكبة في الواقع تتجمع منذ بعيد. وكانت قد نشأت من قديم بين الفيلسوف وبين أهل قرطبة وحشة. " أحدثتها أسباب الحسد ". وكان الحفاظ والطلبة والفقهاء الموحدون فضلا عن ذلك، ينقمون على ابن رشد آراءه ودراساته الجدلية والفلسفية، وينقمون بالأخص منزلته لدى الخليفة. ونحن نعرف ما كان يتمتع به أولئك الحفاظ والطلبة لدى الخليفة الموحدي من عظيم النفوذ، ولاسيما وقد كانوا نصحاءه ومستشاريه الروحيين. وكان كثير من هؤلاء وكثير من غيرهم من خصوم الفيلسوف، يبثون حول آرائه ونظرياته دعاية مسمومة، ويرمونه بالمروق والخروج على أحكام الشريعة، " وإيثاره فيها لحكم الطبيعة ". وكانت الفلسفة ودراساتها بالرغم مما كان يتسم به البلاط الموحدي، منذ عهد الخليفة عبد المؤمن، من رعاية العلم والعلماء، من الموضوعات المريبة المكروهة. وهكذا كان خصوم ابن رشد يجدون في صميم دراساته وكتاباته، مواد اتهامهم. وأكثر من ذلك أنهم كانوا يدسون عليه ألفاظاً وعبارات محرجة. ومن ذلك وصفه في أحد شروحه " الزهرة " بأنها " أحد الآلهة " وقد جمع أولئك الخصوم مقالات وأوراق كثيرة منسوبة إلى الفيلسوف، وحملوها إلى مراكش في أوائل سنة 591 هـ (1194 م)، وحاولوا أن يرفعوها إلى الخليفة. ولكن المنصور كان يشغل عندئذ بالأهبة للعبور إلى الأندلس. ومن ثم فقد فشل الساعون في مسعاهم، واضطروا للعودة خائبين. ويقول لنا ابن عبد الملك في " الذيل والتكملة " وهو فيما يرجح ينقل عن

ابن صاحب الصلاة: " فلما كان التلوم من المنصور بمدينة قرطبة، وامتد بها أمد الإقامة، وانبسط الناس من مجالس المذاكرة، تجددت للطالبين آمالهم، وقوى تألبهم، واسترسالهم، فأدلوا بتلك الألقيات، وأوضحوا ما احتجنوه من شنيع الهفوات الماحية لأبي الوليد كثيراً من الحسنات، فقرئت بالمجالس، وتؤولت أغراضها، ومعانيها وقواعدها ومبانيها، فخرجت بما دلت عليه أسوأ مخرج، وربما ذيلها مكر الطالبين، فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام. ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأغمد السيف بالتماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه، وفقهاء دولته، بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأنه مرق من الدين، وأنه استحق لعنة الضالين " (¬1). ولم يكن الاتهام بالمروق مقصوراً على الفيلسوف، ولكنه شمل عدة من زملائه وتلاميذه ممن يشتغلون " بالحكمة وعلوم الأوائل ". وكان من هؤلاء أبو جعفر الذهبي، والفقيه أبو عبد الله محمد بن ابراهيم المهري المشهور بالأصولي، وأبو الربيع الكفيف، وأبو العباس الحافظ الشاعر. وأحضر ابن رشد، والفقيه أبو عبد الله المهري وحدهما إلى جامع قرطبة، وتوارى الباقون. وتولى توجيه الاتهام إلى الفيلسوف وزميله، القاضي أبو عبد الله بن مروان، والخطيب أبو علي بن الحجاج. ولم يقل لنا صاحب " التكملة "، ماذا كان موقف ابن رشد، ولكن المرجح أنه قام بالرد على أسانيد متهميه. وعلى أي حال فقد انتهى الأمر بإدانة الفيلسوف، وقضى الخليفة المنصور بمعاقبته بالنفي من قرطبة، واعتقاله ببلدة " أليسّانة " أو" اللسّانة "، الواقعة في جنوبها على مقربة من نهر شَنيل. وكانت هذه البلدة منذ عصور منزل اليهود في هذه المنطقة من الأندلس. وكانت بالأخص مدينة غنية زاهرة أيام دولة بني باديس أصحاب غرناطة (¬2). وقيل في اختيارها لاعتقال الفيلسوف " إنه يُنسب في بني إسرائيل، ولأنه لا يعرف له نسب في قبائل الأندلس ". وكان من الواضح أن الخليفة قد راعى في الاقتصار على عقوبة الفيلسوف بالنفي، سنه ¬_______ (¬1) التكملة لابن عبد الملك المراكشي المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني. ونقله إلينا صاحب البيان المغرب مع الاختصار ص 202. (¬2) وهي بالإسبانية Lucena. راجع الإدريسي، وصف المغرب والأندلس (طبعة دوزي) ص 205.

وحالته الصحية. وكان ابن رشد يومئذ قد جاوز السبعين من عمره. وقُضي على زملاء الفيلسوف الذين تقدم ذكرهم كذلك بالنفي إلى جهات أخرى، وكان أبرزهم بعد ابن رشد، هو إبراهيم الأصولي. وصودرت كتب الجميع، وأمر بإحراقها أينما وجدت. ولم يكتف البلاط الموحدي بتوقيع العقوبة المادية على المتهمين، ولكنه رأى أن يقرنها بإعلان وجهة نظره، وتبرير تصرفه، فوجه المنصور كتاباً في هذا الموضوع، من إنشاء كاتبه أبي عبد الله بن عياش، إلى مراكش وغيرها من قواعد المغرب والأندلس. وإليك بعض ما جاء في هذا الكتاب المشهور، الذي انفرد بتدوينه ابن عبد الملك صاحب " الذيل والتكملة ": " وقد كان في سالف الدهر قوم، خاضوا في بحور الأوهام، وأقرّ لهم عواقّهم، بشفوف عليهم في الإفهام، حيث لا داعي يدعو للحيّ القيوم، ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلّدوا في العالم صحفاً، ما لها من خلاق، مسوّدة المعاني والأوراق، بعدها من الشريعة بعد المشرقين، وتباينها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها، وهم يتشعبون في القضية الواحدة فرقاً، ويشيدون فيها شواكل وطرقاً. ذلكم ما في الله خلقهم للنار، وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة، ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يذرون. ونشأ منهم في هذه [اللمحة] البيضاء شياطين .. يخادعون الله والذين آمنوا، وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ولو شاء ربك ما فعلوه، فذرهم وما يفترون، فكانوا عليها أضر من أهل الكتاب، وأبعد من الرجعة إلى الله .. لأن الكتابي يجتهد في ضلال، ويجد في كلال، وهاؤلاء جهدهم التعطيل، وقصاراهم [الغمومة] والتخييل، وبث عقاربهم في الآفاق برهة من الزمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم، على رجال كان الدهر قد سالمهم على شدة حروبهم، وأغفى عنهم سنين على كثرة ذنوبهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً، وما أمهلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو، وسع كل شىء علماً. " وما زلنا وصل الله كرامتكم، نذكرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقربهم إلى الله سبحانه ويدنيهم. فلما أراد الله فضيحة عمايتهم، وكشف غوايتهم، وقف لبعضهم على كتب مسطورة من الضلال، موجبة أخذ

كتاب صاحبها بالشمال، ظاهرها موشّحٌ بكتاب الله، وباطنها مصرّحٌ بالإعراض عن الله، لُبّس منها الإيمان بالظلم، وجىء منها بالحرب الزبون في صورة السِّلم، مزلّة للأقدام، وسمٌّ يدب في باطن الإسلام، وأسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم، ويخالفونهم بباطنهم وبهتانهم، فلما وقفنا منهم على ما هو قذًى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقصي السفهاء من الغواة. وأبغضناهم في الله، كما أنا نحب المؤمنين في الله، وقلنا اللهم إن دينك هو الحق المبين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهاؤلاء قد صدفوا عن [الله]، وعميت أبصارهم وبصائرهم عن بيناتك، فباعدت أسفارهم، وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم، ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام فلا. . في مجال ألسنتهم، والإيقاظ [بحدة] من عقلهم ونصتهم، ولاكنهم رفعوا بموقف الخزي والهوى، ثم طردوا عن رحمة الله، ولو ردوا لعادوا، لما نهواً عنه، وإنهم لكاذبون. " فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذركم من السهوم السارية في الأبدان. ومن عُثر له على كتاب من كتبهم، فجزاؤه النار التي بها يُعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عُثر منهم على مُجْرٍ في غلوائه، عم عن سبيل الله استقامته واهتدائه، فَلْيُعاجل فيه بالتثقيف والتعريف، ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون. أو لا يرد الذين حبطت أعمالهم، أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، وحبط ما صنعوا فيها، وباطل ما كانوا يعملون. . . والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، إنه منعم كريم " (¬1). هذا كله فيما يتعلق بناحية التكفير، وناحية العقيدة، وهي التي اتخذت ذريعة لاتهام الفيلسوف وإدانته. بيد أنه كانت ثمة أسباب أخرى لغضب المنصور على الفيلسوف. منها توثق صلاته بالسيد أبي يحيى أخي المنصور ووالي قرطبة، وقد ¬_______ (¬1) أورد ابن عبد الملك المراكشي نص هذا الكتاب الموحدي في " الذيل والتكملة " في ترجمة ابن رشد (المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني).

كان بين الأخوين موجدة وجفاء. ومنها أنه أي ابن رشد، كان يجري في أحاديثه مع الخليفة على مخاطبته دائماً بقوله " تسمع يا أخي " وكان المنصور يُسرّ له هذه الجرأة في مخاطبته. ومنها أخيراً، وهو ما يدخل في باب العيب في ذات الخليفة، أن ابن رشد قال في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطاطاليس ما يأتي: ورأيت الزرافة عند ملك البربر مشيراً إلى المنصور، وقد وجد ذلك مكتوباً بخطه (¬1). فهذه الأسباب كلها قد اجتمعت لتهيىء لخصوم الفيلسوف ومتهميه فرصة النيل منه، وإقناع الخليفة بصحة ما نسب إليه من تهم المروق والإلحاد. ولبث ابن رشد في معتقله في " أليسّانة " زهاء ثلاثة أعوام. ثم إن جماعة من أكابر أهل إشبيلية، خاطبوا المنصور في شأن الفيلسوف وزملائه، وتشفعوا لديه في سبيل إقالتهم والعفو عنهم، ونفوا بالأخص عن الفيلسوف تهمة المروق والزيغ، وشهدوا بحسن إيمانه وسلامة عقيدته. ونفى ابن رشد عن نفسه من جهة أخرى، تهمة العيب في حق المنصور، بوصفه ملك البربر " وقال إن صحة الوصف هي ملك " البرين " وإن ما وقع هو تحريف من الناسخ، فاستجاب المنصور إلى شفاعتهم، وعفا عن ابن رشد وزملائه، وذلك في سنة 594 هـ. وهكذا استرد الفيلسوف حظوته ومكانته في البلاط الموحدي، وعاد إلى مراكش ليلتحق ببلاط الخليفة. بيد أنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، وتوفي في التاسع من شهر صفر سنة 595 هـ (10 ديسمبر سنة 1198 م)، وهو في الخامسة والسبعين من عمره. ودفن ابن رشد أولا في مقبرة " باب تاغزوت " خارج مراكش، ثم حمل منها بعد أشهر قلائل إلى قرطبة مسقط رأسه، وموئل أسرته، ودفن في روضة آبائه بمقبرة ابن عباس (¬2). تلك هي أدوار المأساة المشجية التي اقترنت بحياة فيلسوف من أعظم أقطاب التفكير الإسلامي والتفكير العالمي. ولقد تكررت هذه المأساة، التي اتخذت صورة الاضطهاد الفكري، غير مرة في ظل المرابطين ثم الموحدين، وكانت مطاردة ابن رشد ومحاكمته، بلا ريب وصمة في عهد خليفة عظيم عالم كالخليفة ¬_______ (¬1) المعجب للمراكشي ص 174 و 175. (¬2) راجع في نكبة ابن رشد " الذيل والتكملة " لعبد الملك المراكشي (المخطوط المشار إليه)، والتكملة لابن الأبار في ترجمته (القاهرة) رقم 1497.

المنصور. ببد أنها تكشف بالأخص عن روح التزمت العميق التي كان يتسم بها التفكير الديني في عهد الموحدين. - 2 - وكان الخليفة في تلك الأثناء يستكمل أهبته للغزوة المنشودة، فلما تم له ما أراد من ذلك، غادر قرطبة في قواته، واخترق جبل الشارات (سييرا مورينا) ميمماً شطر طَلَبيرة. فلما وصل إلى حدود قشتالة، قصد إليه رسل ألفونسو الثامن في طلب المهادنة، فصرفهم دون جواب، وقد عقد العزم على اختراق أراضي قشتالة، وغزوها وفقاً للخطة التي وضعها. ولما وصل إلى طلبيرة، سار إلى مكادة، وضرب ما حولها من الأراضي دون أن ينال منها شيئاً، ثم انعطف جنوباً نحو طليطلة وحاصرها، وهنالك علم أن ملك قشتالة قد حصل على عون زميله ملك أراجون، وأنهما يرابطان بقواتهما عند قلعة مجريط (¬1) في انتظار الاشتباك مع الموحدين، فتحول المنصور نحو مجريط بسرعة، بعد أن خرب أراضي طليطلة، مؤملا أن يلتقي بالقوات النصرانية. ولما وصل إلى مجريط، حاصرها بضعة أيام، ولكن الملكين لم يكونا بها، بل كانا قد انسحبا في معظم قواتهما إلى جبال وادي الرملة (¬2)، وتركا في حصن مجريط قوة مختارة بقيادة دون ديجو لوبث دي هارو، وهو الذي كان قد لجأ إلى حصن الأرك يوم الموقعة. فدافع القشتاليون عن مجريط بشدة، فغادرها المنصور عندئذ، وسار ميمماً شطر قلعة هنارس (قلعة النهر) ثم وادي الحجارة، وهو ينتسف الزروع، ويخرب الضياع والقرى، ولكن الموحدين لم يستطيعوا كذلك الاستيلاء على وادي الحجارة لمنعتها. وخرجت حاميتها، وفاجأت قافلة المتاع والعتاد والخدم، فأوقعت بها، واستطاعت أن تنتزع منها بعض الأسلاب، قبل أن يتداركها الموحدون، ويردوا المغيرين على أعقابهم، ويقتلوا عدداً منهم. وفي اليوم التالي، نظم الموحدون مظاهرة عسكرية ضخمة في ظاهر وادي الحجارة، بدا فيها الجيش الموحدي بمختلف طوائفه وحشوده، إظهاراً لقوتهم وإرهاباً للعدو، وبعث المنصور من محلته بتفاصيل الغزوة إلى مختلف الجهات. ¬_______ (¬1) وهي التي غدا موقعها فيما بعد نواة لموقع مدريد عاصمة اسبانيا الحديثة، وتطور اسمها العربى من مجريط Majerit إلى Madrid. (¬2) جبال وادي الرملة هي بالإسبانية Guadarrama.

ثم أمر بالحركة والعود، وسار بطريق وبذة. وهنا اتجه المنصور، وفقاً للرواية النصرانية شرقاً نحو قونقة وحاصرها، ثم ارتد نحو أقليش وسار منها جنوباً نحو الكرس وبيّاسة، ووصل إلى قرطبة في أواخر رمضان سنة 593 هـ، ثم غادرها في الحال إلى إشبيلية، فوصلها في يوم عيد الفطر (أغسطس سنة 1197 م) وذلك بعد أن أنفق في غزوته الثانية لأراضي قشتالة أربعة أشهر (¬1). وما كاد المنصور يستقر في إشبيلية، حتى عنى بإتمام الأعمال الأخيرة لصومعة الجامع الأعظم (المنارة) وهي التي كان أبوه الخليفة أبو يعقوب يوسف، قد أمر ببنائها قبل خروجه إلى غزوة شنترين في سنه 580 هـ. وكان المنصور قد أمر بالمضي في إنشائها عقب توليه الخلافة. ووضع العريف أحمد بن باسُه أسسها لصق الجامع ثم تعطل البناء حيناً لعزل بعض العمال المختصين، أو لغير ذلك من الأسباب. وفي سنة 584 هـ (1188) بعد أن فرغ المنصور من غزواته بإفريقية، أصدر أمره بإصلاح ما اختل من الجامع الأعظم وإتمام بناء صومعته. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وهو حسبما أشرنا من قبل غير مرة مؤرخ معاصر وشاهد عيان، أنه شُرع في بناء الصومعة بالآجر الذي يؤخذ من سور قصر ابن عباد، ودام العمل في ذلك أعواماً، يجري البناء فيها بصورة متقطعة، فإذا حضر الخليفة إلى إشبيلية، ضوعفت الهمة في البناء، وإذا غادرها إلى الحضرة تعطل البناء، ثم يُستأنف متى حضر. وكان الخليفة المنصور كأبيه الخليفة أبي يعقوب، شغوفاً بالبناء، وكان وقت وجوده بإشبيلية، يلازم في أوقات فراغه الإشراف على أعمال البناء بنفسه، واستمر الأمر كذلك حتى عاد المنصور من موقعة الأرك مكللاً بغار الظفر، وأصدر أوامره بمضاعفة الهمة لإتمام الصومعة، ولما عاد إلى إشبيلية من غزوته الأخيرة، كان بناء الصومعة قد تم، ولم تبق سوى أعمال التجميل. وبالرغم من أن المنشآت الموحدية، كانت حتى ذلك العهد تقتصر على مراعاة الروعة والمتانة، ولا تميل إلى الزخرف والزينة، فقد أصدر الخليفة أمره، بأن تزود صومعة الجامع بتفافيحها الذهبية الشهيرة. وإليك كيف يصف لنا ابن صاحب الصلاة قصة هذه التفافيح، ورفعها إلى أعلى المنارة، في حفل كان من شهوده: ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 203، وابن خلدون ج 6 ص 245. وراجع: Altamira: Historia de Espana; Vol. I. p. 364.

صورة: صومعة جامع المنصور بإشبيلية المسماة لاخيرالدا La Giralda

" فلما وصل أمير المؤمنين، وهزم الله أذفونش الطاغية، أمر رضي الله عنه في مدة إقامته بإشبيلية بعمل التفافيح الغريبة الصنعة العظيمة الرفعة، الكبيرة الجرم، المذهبة الرسم، الرفيعة الاسم والجسم، فرفعت في منازلها بمحضره، وحضر المهندسون في إعلايها على رأيه، وبلوغ وطره، مركبة في عمود عظيم من الحديد مرسى أصله في بنيان أعلى الصومعة أعلاها، زنة العمود ماية وأربعون ربعاً من الحديد، موثقاً هناك في تلاحك البنيان، بارز طرفه الحامل لهذه الأشكال المسماة بالتفافيح إلى الهواء، يكابد من زعازع الرياح، وصدمات الأمطار، ما يطول التعجب من مقاومته وثباته. وكان عدد الذهب الذي طليت به هذه التفافيح الثلاثة الكبار والرابعة الصغرى، سبعة آلاف مثقال كباراً يعقوبية، عملها الصياغ بين يدي أمير المؤمنين وحضوره. ولما كملت سترت بالأغشية من شقاق الكتان ليلا ينالها الدنس من الأيدي والغبار، وحملت على العجل مجرورة حتى إلى الصومعة، بالتكبير عليها والتهليل، حتى وصلت ورفعت بالمسدسة حتى إلى أعلى الصومعة المذكورة، ووضعت في العمود، وحصلت فيه، وحصلت بمحضر أمير المؤمنين أبي يوسف المنصور رضي الله عنه، وبمحضر ابنه وولي عهده أبي عبد الله السعيد الناصر لدين الله، وجميع بنيه وأشياخ الموحدين والقاضي وطلبة الحضر، وأهل الوجاهة من الناس، وذلك في يوم الأربعاء عقب ربيع الآخر بموافقة التاسع عشر من شهر مارس العجمي عام أربعة وتسعين وخمس ماية، ثم كشف عن أغشيتها فكادت تغشى الأبصار من تألقها بالذهب الخالص الإبريز وشعاع رونقها " (¬1). ويضيف صاحب روض القرطاس إلى ما تقدم، أن الذي قام بالإشراف على صنع هذه التفافيح الذهبية، ورفعها إلى أعلى المنار، هو المعلم أبو الليث الصقلي، وأن هذه التفافيح قومت يومئذ بمائة ألف دينار من الذهب (¬2). ونقول نحن، إن هذه الصومعة أو المنارة العظيمة التي أمر بإنشائها الخليفة أبو يعقوب يوسف لجامع إشبيلية الأعظم، وأتمها ولده يعقوب المنصور، وزودها بتفافيحها الذهبية الرائعة، ما زالت تقوم حتى يومنا، وإن كانت قد فقدت تفافيحها الذهبية منذ بعيد، وحولت طبقتها العليا إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة (المخطوط السابق ذكره لوحه 171، أوب). (¬2) روض القرطاس ص 151.

العظمى، وهي التي قامت بدورها فوق أنقاض الجامع الأعظم، وهي تحمل اليوم اسمها الإسباني " لاخيرالدا La Giralda "، بيد أنها ما زالت بالرغم من تحولها إلى برج للأجراس، تحتفظ بكثير من روعتها الإسلامية القديمة، ومازالت تعتبر من أعظم الآثار الأندلسية الباقية (¬1). ولما تم الاحتفال بإتمام صومعة الجامع الأعظم على هذا النحو انتقل المنصور إلى حصن الفرج، وقضى به فصل الصيف، وكان يؤثره لجمال موقعه، وطيب هوائه، ثم عاد إلى إشبيلية، فأقام بها أربعين يوماً أخرى، وعنى خلال هذه الفترة بتنظيم الشئون، وتعيين الولاة والعمال، فأسند ولاية إشبيلية إلى ولده السيد أبي زيد، وولاية بطليوس وجهاتها إلى السيد أبي الربيع بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وولاية منطقة الغرب إلى أبي عبد الله بن أبي حفص بن عبد المؤمن، وندب العمال للنظر في شئون الجباية في مختلف الجهات، ورتب الحاميات المختارة في مختلف القواعد، وأمر بتحصينها وإصلاح أسوارها (¬2). وكانت الأحوال قد تطورت عندئذ في مملكتي قشتالة وليون، وأنشىء حلف جديد لمقاومة الموحدين بين قشتالة وأراجون، وتقدم ملك أراجون بيدرو الثاني لمعاونة حليفه ألفونسو الثامن، وظهر أثر هذه المعاونة في اجتماع القوات المتحالفة لمقاومة الموحدين في منطقة وادي الحجارة، حينما قام المنصور بغزوته الثانية لأراضي قشتالة. ومع أنه لم يقع بين الفريقين اشتباك ذو شأن، فإن المنصور لم يغفل من حسابه أمر ذلك التكتل الجديد بين القوي النصرانية، ومن جهة أخرى فقد كان لذلك التطور أثره في موقف ألفونسو التاسع ملك ليون حليف الموحدين. ذلك أنه كان قد غزا أراضي قشتالة بمعاونة قوة من الموحدين، ووصل في زحفه حتى مدينة كَرْيون، وذلك في نفس الوقت الذي غزا فيه الموحدون أراضي قشتالة من الجنوب. فلما انتهى الموحدون من غزوتهم، وانسحبوا إلى الجنوب، قامت قوة مشتركة من القشتاليين والأرجونيين بغزو مملكة ليون، واخترقت أراضيها حتى كويانسا (بلنسية دي دون خوان)، وحاصرت ملك ليون وحلفاءه الموحدين في قاعدة بنافنتي، فالتزم ملك ليون الدفاع، ولم يحاول ¬_______ (¬1) راجع تاريخ منارة المنصور، وأوصافها القديمة والحالية في كتابي " الآثار الأندلسية الباقية " الطبعة الثانية ص 51 - 56. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 204، وابن خلدون ج 6 ص 245.

أن يشتبك مع خصومه. ثم انسحب القشتاليون وحلفاؤهم من أراضي ليون مثقلين بالغنائم، وعاد ملك أراجون إلى بلاده وزال الخطر عن مملكة ليون. وقبيل مغادرة المنصور لإشبيلية، وفدت عليه رسل ملك قشتالة مرة أخرى في طلب المهادنة والسلم، فرأى المنصور على ضوء هذه التطورات، أن يجيبه إلى رغبته بشروط اشترطها، وهو ما يصفه صاحب البيان المغرب بأن التهادن عقد وفقاً لشريعة الإسلام (¬1). ومن جهة أخرى فإن ملك ليون، بعد أن تحرج مركزه، وأعلن البابا نفيه من الكنيسة، باعتباره خارجاً على الدين، وأذن لملك البرتغال بمحاربته متشحاً بالصفة الصليبية، قصد بنفسه إلى إشبيلية ملتجئاً إلى المنصور، وطالباً إليه معاونته بالجند والمال، ولكنه لم يوفق في مسعاه هذه المرة، نظراً لقيام التهادن والسلم بين الموحدين وبين مملكة قشتالة. ولما انتهى المنصور من النظر في سائر الشئون، أصدر أوامره بالتأهب للعودة إلى حضرة مراكش. ثم غادر إشبيلية في أواسط جمادى الأولى سنة 594 هـ (أواخر مارس سنة 1198 م) وعبر البحر في غرة جمادى الثانية، وقصد أولا إلى فاس، فأقام بها نحو عشرين يوماً طلباً للراحة والاستجمام، ثم غادرها إلى الحضرة، فدخلها في شعبان سنة 594 هـ. استقر المنصور في حاضرته، وهو متعب منهوك القوى، من جراء ما اضطلع به من الغزوات والأعمال مدى أربعة أعوام متوالية. وكان أول ما عنى به هو أخذ البيعة لولده أبي عبد الله محمد الملقب بالناصر، وكان قد اختاره لولاية عهده، حينما اشتد به المرض في سنة 587 هـ، حسبما أشرنا إلى ذلك من قبل، فبايعه سائر أشياخ الموحدين، وأخذت له البيعة في سائر القواعد والجهات. وكانت تصرفات الخليفة في هذه الفترة الأخيرة من حياته، تصطبغ بنوع من التقى والورع. فمن ذلك أنه أمر أن يجمع الأطفال الأيتام، وأن يُختنوا، وأمر لكل منهم بثوب ودينار من الذهب ودرهم من الفضة وحبة من الفاكهة، توضع في يده تخفيفاً لألمه. ويقول لنا المراكشي إن هذا الموسم لتختين اليتامى كان يقام كل عام (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 204، وابن خلدون ج 6 ص 245. ويقول المراكشي أن الهدنة عقدت بين الموحدين وملك قشتالة لمدة عشر سنين (المعجب ص 160). (¬2) المعجب ص 162.

ومن ذلك أنه أمر بتمييز اليهود بلباس خاص. ونحن نعرف أن السياسة الموحدية، كانت منذ عهد الخليفة عبد المؤمن، تجري نحو الذميين على قاعدة التزمت وعدم التسامح، وأن عبد المؤمن، أمر في أواخر عهده بأن يعتنق النصارى واليهود الإسلام، أو يغادروا الأراضي الموحدية، وقرر الموت عقوبة للمخالفين. ولكن السياسة الموحدية جنحت من بعد عبد المؤمن إلى نوع من الاعتدال والتسامح، فترك النصارى واليهود أحراراً يعيشون في البلاد الموحدية. وكانت النظرة إلى اليهود دائماً أكثر تزمتاً وشدة منها إلى النصارى. وكان الذي حدا بالمنصور إلى تمييز لباسهم، هو أنهم ازدهروا في عهده وتشبهوا بالمسلمين في اللباس، وشاركوهم في مظاهرهم وأساليب حياتهم، فرأى أن يفرض عليهم لباساً خاصاً يميزهم عن المسلمين. وكان هذا الزي عبارة عن قميص أزرق طوله ذراع وعرضه ذراع، وبرنس أزرق ذو أكمام مفرطة السعة والطول، وقلنسوة زرقاء يضعونها على الرأس مكان العمامة، تصل إلى الأذنين. ويقول لنا المراكشي إن الذي حمل المنصور على هذا التصرف إزاء اليهود، هو شكه في إسلامهم، وأنه كان يقول لو صح عندى إسلامهم، لتركتهم يختلطون بالمسلمين في سائر أمورهم، ولو صح عندى كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئاً للمسلمين، لكني متردد في أمرهم، وهم يظهرون الإسلام، ويغشون المساجد، والله أعلم بما تكن صدورهم. وصدر قرار المنصور بتمييز اليهود في أوائل سنة 595 هـ. وقد نظم ابن نغرالة زعيم اليهود المغاربة يومئذ، وهو فيما يبدو سليل أسرة بني نغرالة أو بني النغريلي التي ازدهرت في غرناطة أيام باديس بن حبوس، أرجوزة يتهكم فيها على هذا القرار، وما فرضه من اللباس الأزرق، ويواسي مواطنيه اليهود، هذا مطلعها: لبس ذا الأزرق ليس فيه خسارا ... فافهموا يا قوم هذه الإشارا ولما تولى الخلافة أبو عبد الله محمد الناصر لدين الله ولد المنصور، استغاث به اليهود، واستشفعوا لديه بكل من استطاعوا لإقالتهم من هذا الزي المرهق، فأمر أن يستبدلوه بثياب صفر وعمائم صفر، واستمروا على ذلك بقية عهد الموحدين (¬1). ¬_______ (¬1) المعجب ص 173 - والبيان المغرب القسم الثالث ص 205، ودائرة المعارف اليهودية: Vol. I. p. 433.

- 3 - ولم يمض قليل على ذلك حتى مرض المنصور مرضه الأخير، وكان قد انتقل من الحضرة إلى ضاحية الصالحة الملكية التي كان قد أنشأها في بداية عهده، ولما شعر بخطورة مرضه، ودنو أجله، استدعى شيوخ الموحدين، ووجوه أهل بيته، وأعيان بلاطه، وقد وصف لنا صاحب البيان المغرب، ما وقع في هذا المجلس الأخير للخليفة الراحل، وما أوصى به أشياخ دولته وأهل بيته، فقال إنه لما استقر المجلس بالحضور، اتجه الخليفة إليهم ببصره، وقد اغرورقت عيناه بالدمع، فسألهم عن أحوالهم وأعمالهم، ثم قال: " أيها الناس رحمكم الله، إن هذه العلل والأمراض قد توالت علينا، وهدت قوانا، وهتكت جوارحنا، وأظن والله أعلم بغيبه أن هذه العلة هي آخر عهدنا بهذه الدنيا، وأنها القاضية علينا، فانظروا رحمكم الله، وأعانكم على طاعته، من تقدمون على أنفسكم وعلى رقاب المسلمين ". قال، فغلب البكاء على الحاضرين، وتكلم أبو موسى بن محمد بن الشيخ أبي حفص بن علي، وقال " كأنكم يا أمير المؤمنين يا سيدنا تخرسنا بهذا القول، أنتم أمير المؤمنين، فإن توفيتم فإلى رحمة الله تعالى، والجميع صائرون ومنقلبون إلى ما تصيرون إليه، وكنتم قلدتمونا عهدكم الكريم لسيدنا الأمير الأجل أبي عبد الله ابنكم، فنحن باقون عليه، إلى أن تلحق نفوسنا بنفوسكم، وهو خليفتكم علينا بعدكم ". ثم تعاقب الحضور في الكلام، وأبدى الخليفة لهم قلقه لصغر سن ولده، وطلب إليهم أن يدعوا الله تعالى باليمن والإقبال، فيما انعقدت عليه النية، وأن يتولوه بمعونتهم، ولا يتركوه لرأيه، حتى ينتبه، ويكمل عقله. ثم التفت إلى السيد أبي الحسن، وأخيه السيد أبي زيد، ابني السيد أبي حفص. وقال إنهما لخير هذا البيت، وإنه قدّمهما على الإخوان، وعلى البلاد، فليكونا على ما عهد منهما، وعلى ما ربط لهما من قبل. ثم أوصى الخليفة الحاضرين بالسادات، وبعض الأشياخ، وخص منهم بالذكر الشيخ أبا زكريا، وأبا محمد عبد الواحد، وأن يعتبر هذان الشيخان مستشارين لولده محمد، لا يصدر إلا من رأيهما ومشورتهما.

وقال الخليفة للحضور بعد ذلك وعيناه تذرفان الدمع، أوصيكم بتقوى الله تعالى، وبالأيتام واليتيمة. فسأله الشيخ أبو محمد عبد الواحد، يا سيدنا يا أمير المؤمنين، ومن الأيتام واليتيمة؟ قال اليتيمة جزيرة الأندلس. والأيتام سكانها المسلمون، وإياكم الغفلة فيما يصلح بها من تشييد أسوارها وحماية ثغورها، وتربية أجنادها وتوفير رعيتها، ولتعلموا أنه ليس في نفوسنا أعظم من همها، ونحن الآن قد استودعنا الله تعالى، وحسن نظركم فيها، فانظروا من المسلمين، وأجروا الشرائع على مناهجها. وأوصى الخليفة أخيراً بالأغزاز (الغز) ومنحهم البركة التي أمر بها، كما أوصى بملاطفة العرب والإحسان إليهم، وشغلهم بالحركات، وعدم تركهم للعطلة والراحة. وأوصى بطلبة الحضر، وأن يكون لهم موضع خاص يشتغلون فيه بالمذاكرة. وأوصى أخيراً ببعض أصحاب المناصب، والعمال الذين أولاهم ثقته. واختتم المنصور حديثه بالتوصية بقبائل الموحدين ووجوب مزاورتهم، وسماهم قبيلا بعد قبيل. وكرر حديثه إلى الأشياخ بأن يحفظوا الأمانة التي ألقيت إلى أعناقهم، وأن يجروا الشرائع على سننها، وأن يحرصوا على اجتناب الباطل. ثم دعا للناس، وانفض المجلس، وانصرف الموحدون، وكان هذا آخر العهد به (¬1). ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن المنصور لما اشتد به المرض، وشعر بدنو أجله، قال لمن كان حوله من الأشياخ، ما ندمت على شىء فعلته في خلافتي، إلا على ثلاث، وددت أني لم أفعلها، أولها إدخال العرب من إفريقية إلى المغرب لأنى أعلم أنهم أهل فساد، والثانية بناء رباط الفتح، أنفقت فيه من بيت المال، وهو بعد لا يعمر، والثالثة إطلاق أسارى الأرك، ولابد لهم أن يطلبوا بثأرهم (¬2). وفي ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 595 هـ (22 يناير سنة 1199 م)، توفي الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور بقصره بالصالحة (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 206 - 209. (¬2) روض القرطاس ص 152. (¬3) ويقول لنا صاحب روض القرطاس إنه توفي بقصبة مراكش (ص 152) وفي رواية أنه توفي في غرة جمادى الأولى سنة 595، وفي أخرى أنه توفي غرة صفر (ابن خلكان ج 2 ص 431) ويقول ابن الأثير إنه توفي ثامن عشر ربيع الآخر، وأن وفاته كانت بمدينة سلا (ج 12 ص 57).

ودفن مؤقتاً بمجلسه بالقصر، وكتمت وفاته حيناً، ثم نقل رفاته إلى تينملل، ودفن بها، وثارت حول اختفائه بعض الروايات والأساطير، فزعم البعض أنه ترك الملك وأضحى مرابطاً بالأندلس، وزعم آخرون أنه تزهد وساح فى البلاد، وقصد المشرق ومات خاملا، ودفن بالشام، إلى غير ذلك (¬1). وبوفاة المنصور يختتم عهد من ألمع عهود الدولة الموحدية. - 4 - كان الخليفة يعقوب المنصور أعظم خلفاء الدولة الموحدية، إذا استثنينا جده عبد المؤمن، مؤسس الدولة وموطد دعائمها. وفى ظله بلغت الدولة الموحدية أوج قوتها وعظمتها، وظهرت على يديه روعة الملك وفخامته، فى أبهى حللها. ويصفه ابن الخطيب بأنه كان " نجم بنى عبد المؤمن " وهى كلمة قوية جامعة (¬2). وتشيد الرواية الإسلامية بخلال المنصور، وتفيض فى استعراض مآثره، وامتداح تصرفاته وسياسته، سواء من الناحية الداخلية أو من الناحية الخارجية، وتشيد بنوع خاص بغيرته فى الجهاد، وتفانيه فى الذود عن قضية الإسلام بالأندلس، ومن ثم كانت عنايته بتنظيم الجيش وتنميته، وشحنه بالفرق الجديدة من الفرسان والرجّالة، وتزويده بموفور العتاد والسلاح، والإنفاق عليه بسعة وسخاء، وإعداده للجهاد بصفة مستمرة. وكان يعنى بتوفير أرزاق الجند، ومنحها فى مواعيدها المقررة. وكان نظام العطاء فى الجيش، أن يمنح الجند الموحدون العطاء، (الجامكية) ثلاث مرات فى العام بصورة منتظمة، مرة فى كل أربعة أشهر، ويمنح الجند الغز أو الأغزاز، وكذلك العرب عطاءهم كل شهر. وكان رأى المنصور فى اختصاص الأجناد الغز والعرب بهذه المزية، هو أن الموحدين من أهل البلاد الأصليين ولهم بها الإقطاع والأموال الكثيرة. أما الغز والعرب، فهم غرباء لا شىء لهم فى البلاد يعتمدون عليه سوى هذا العطاء الرسمى المنظم (¬3). وكان لهذه العناية بتوفير أعطية الجيش أثرها القوى فى رفع همم الجند، وشحذ ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 211، وابن خلكان ج 2 ص 431. (¬2) ابن الخطيب فى الإحاطة فى ترجمة أبى يعقوب يوسف (مخطوط الإسكوريال السالف الذكر - لوحة 395). (¬3) المراكشى فى المعجب ص 163، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 208.

الرغبة فى الجهاد. والواقع أن الجهاد هو ألمع ما فى حياة المنصور العامة، وقد أسبغت عليه غزواته الموفقة للممالك النصرانية فى شبه الجزيرة، ولاسيما انتصاره الباهر فى موقعة الأرك، على شخصه وعلى جهاده، هالة من العظمة والجلال غلبت على كل خلاله ومناقبه الأخرى. وقد رأينا المنصور منذ بداية حكمه ملكاً حازماً، يعمل على إقامة العدل وتوطيد أسسه، والنظر فى الأحكام بنفسه، ومراقبة أعمال الولاية والعمال، ومحاسبتهم، ومطاردة من ينحرف منهم عن جادة الحق والعدل وعزلهم، ثم رأيناه ملكاً مصلحاً، يضطرم بروح إنشائية قوية، ويعنى بإقامة المنشآت العظيمة، من مدن وحصون وجوامع وغيرها، سواء بالمغرب أو الأندلس. وأول ما تشيد به الرواية من صفات المنصور هو ورعه وتقواه، والتزامه أحكام الشريعة وسننها، ومحاولة تطبيقها على حقيقتها، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وإقامة الحدود، حتى فى أهله، وعشيرته الأقربين، وكان مثل جده عبد المؤمن يشدد فى إلزام الرعية بإقامة الصلوات الخمس، ويأمر بالمناداة عليها، ويعاقب على تركها، وكان يشتد كذلك فى إقامة الحدود، ويذهب فى ذلك أحياناً إلى حدود بعيدة، حتى قيل إنه عاقب على شرب الخمر بالقتل، وأمر بقتل بعض العمال الذين تشكو الرعية منهم (¬1). وقد كان للمنصور من الناحية الدينية موقف خاص، يمكن أن يوصف بأنه انقلاب فى ميدان المذهب والعقيدة فى الدولة الموحدية، فهو أولا قد طارد علم الفروع، أعنى دراسة تفاصيل العبادات والمعاملات. وأمر بإحراق كتب المذهب المالكى فى سائر البلاد مثل مدونة سحنون، وكتاب ابن يونس، ونوادر ابن أبى زيد، وكتاب التهذيب للبرادعى، وواضحة ابن حبيب، وأمر الناس بترك الاشتغال بعلم الرأى والخوض فيه، وأنذر من يفعل ذلك بشديد العقاب، وأمر جماعة من العلماء المحدثين بجمع أحاديث من المصنفات العشرة فى الصلاة وما يتعلق بها على نحو المجموعة التى جمعها ابن تومرت فى الطهارة، وذاع هذا المجموع فى المغرب، وأقبل الناس على حفظه. وكان قصد المنصور من ذلك أن يمحو ¬_______ (¬1) ابن خلكان ج 2 ص 418، و 433، وابن الأثير ج 12 ص 57، والبيان المغرب القسم الثالث ص 205، والمقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 536.

مذهب مالك وأن يزيله من المغرب (¬1). وكان المنصور أيضاً من أشد دعاة المذهب الظاهرى، وهذا المذهب الذى اشتهر على يد الفيلسوف ابن حزم القرطبى فى أوائل القرن الخامس الهجرى، يرجع إلى القرن الثالث، ومؤسسه هو خلف بن داود الأصفهانى المتوفى سنة 270 هـ، وقد وضع أسسه فى نحو منتصف القرن الثالث، وخلاصتها أنه يجب فى صوغ أحكام الشريعة أن يُرجع فقط إلى ظاهر القرآن والسنة أى الحديث، وألا يُؤخذ فى ذلك بالرأى أو القياس، وأن يبقى الإجماع محصوراً فى إجماع صحابة رسول الله. ويبدى ابن حزم إمام المذهب الظاهرى بالأندلس تشدداً فى تطبيقه على العقائد، وهو لا يأخذ فى تفسير الأحكام إلا بالكلمة المكتوبة، والحديث الثابت، ويعتبرهما حاسمين فى صوغ الأحكام. وقد حمل الخليفة المنصور الناس على اعتناق المذهب الظاهرى، والتزام الأخذ بالظاهر من القرآن والحديث. وكان المنصور يشكو من تعدد الآراء والأحكام المذهبية فى المسألة الواحدة، ويرى أن الأخذ بالمذهب الظاهرى يحسم كثيراً من هذه الخلافات. ونستطيع القول إن المذهب الظاهرى، غدا هو المذهب الرسمى فى عهد المنصور، وعظم أمر الظاهرية، وانتشروا بالمغرب، وكانوا يسمون بالحزمية نسبة إلى الفيلسوف ابن حزم عميد المذهب. وكان المنصور يبجل ابن حزم، ويرتفع به وبعلمه إلى أسمى مكانة. ومما يذكر فى هذا الصدد، ما يروى، من أن المنصور، مر فى عودته من غزوه لأراضى البرتغال فى سنة 587 هـ (1191 م)، بشمال مدينة ولبة، حيث توجد قرية منت ليشم، وهى بلد بنى حزم، وبها قبر العلامة ابن حزم، فوقف المنصور على قبره، وهو يقول عجباً لهذا الموضع يخرج منه مثل هذا العالم، ثم قال " إن كل العلماء عيال على ابن حزم " (¬2). ويقول لنا ابن الأثير إن المنصور عين فى أواخر أيامه قضاة من الشافعية. وقد كان الجنوح إلى مذهب الظاهرية، فيما يذكر لنا المراكشى من صفات أبيه الخليفة أبى يعقوب يوسف، وجده الخليفة الفقيه العالم عبد المؤمن بن على، إلا أنهما لم يفصحا عن هذا الاتجاه بشكل ظاهر، ¬_______ (¬1) المراكشى فى المعجب ص 157 و 158، والتكملة لابن الأبار (القاهرة) ج 2 ص 563. وابن الأثير ج 12 ص 57، وابن خلكان ج 2 ص 432، والنويرى طبعة جسبار ريميرو السابق الإشارة إليها ج 8 ص 277. (¬2) المقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 162. ومازالت هذه القرية التى دفن بها العلامة الأندلسي الكبير، قائمة حتى يومنا، وهى تسمى اليوم باسمها الحديث " كاسا مونتيخو Casa Montejo ".

إذ كانت الدولة الموحدية ما تزال فى بدايتها، وكانت عقيدة التوحيد تعلو على كل ما عداها. وكان من آثار هذا الاتجاه أن ازدهر علم الحديث فى عهد المنصور، وحظى طلابه بمنتهى التشجيع والرعاية (¬1). ومن جهة أخرى فإنه يوجد ما يحمل على الاعتقاد، بأن المنصور لم يكن من الغلاة فى تصوير إمامة المهدى، ولم يكن بالأخص من المؤمنين بعصمته، وهو اتجاه تبلور فيما بعد، واتخذ على يد خلفائه صورته العملية (¬2). ومما يتصل بتقى المنصور، وورعه، وحماسته الدينية، ما نسب إليه من أنه كان ينوى افتتاح مصر، وضمها إلى الإمبراطورية الموحدية، لأنها كانت فى نظر الموحدين بلداً يجنح إلى البدع، وتشيع فيه المنكرات، وقد نوه بمشروع المنصور هذا نحو مصر، غير واحد من المؤرخين والرواة. فيقول لنا المراكشي، وهو معاصر لعهد المنصور إنه قد بلغه عن غير واحد " أن المنصور صرح للموحدين بالرحلة إلى المشرق، وأنه كان يذكر البلاد المصرية وما فيها من المناكر والبدع، ويقول، نحن إن شاء الله مطهروها، ولم يزل هذا عزمه إلى أن مات " (¬3). ويفيض الرحالة ابن جبير، وهو أيضاً معاصر المنصور، فى رحلته، فى الكلام عن هذه النية الموحدية فى غزو مصر، وصداها فى مصر ذاتها، ويبدأ حديثه بالحملة على أحوال البلاد المشرقية، ولاسيما ما يقع ببلاد الحجاز من ظلم الحجاج وانتهاب أموالهم، ويعرب عن أمله فى أن تُقمع هذه البدع المجحفة بالمسلمين " بسيوف الموحدين أنصار الدين، وحزب الله أولى الحق والصدق، والذابين عن حرم الله عز وجل، والغائرين على محارمه، والجادين فى إعلاء كلمته، وإظهار دعوته، ونصر ملته ". ثم يقول ابن جبير فى التنديد بأحوال المشرق وضعف إسلامه: " وليتحقق المتحقق، ويعتقد الصحيح الاعتقاد، أنه لا إسلام إلا ببلاد المغرب، لأنهم على جادة واضحة لا بنيات فيها، وما سوى ذلك مما بهذه الجهات المشرقية، فأهواء وبدع، وفرقة ضالة وشيع، إلا من عصم الله عز وجل من أهلها، كما أنه لا عدل ولا حق ولا دين على وجهه، إلا عند الموحدين أعزهم الله، فهم أئمة العدل فى هذا الزمان، وكل من سواهم من الملوك فى هذا الأوان، فعلى غير ¬_______ (¬1) المراكشي فى المعجب ص 157 و 158. (¬2) المراكشي فى المعجب ص 164. (¬3) المعجب ص 160.

الطريقة، يُشعرون تجار المسلمين كأنهم أهل ذمة لديهم، ويستجلبون أموالهم بكل حيلة وسبب، ويركبون طرائق من الظلم لم يسمع بمثلها، اللهم إلا هذا السلطان العادل صلاح الدين، الذى قد ذكرنا سيرته ومناقبه، لو كان له أعوان على الحق ". وأهم من ذلك ما ينوه ابن جبير من صدى الدعوة الموحدية بمصر، وانتشارها بصورة تدعو إلى الدهشة، ومن أن أكثر أهل مصر، بل كلهم " يرمزون بذلك رمزاً خفياً، وينسبون ذلك إلى آثار حدثانية، وقعت بأيدى بعضهم، وأنذرت بأشياء من الكوائن. . ولم يبق إلا الكائنة السعيدة من تملك الموحدين لهذه البلاد، فهم يستطلعون بها صبحاً جلياً، ويقطعون بصحتها، ويرتقبونها ارتقاب الساعة التى لا يمترون فى إنجاز وعدها. فشاهدنا من ذلك بالإسكندرية ومصر وسواهما مشافهة وسماعاً، أمراً غريباً، يدل على أن ذلك الأمر العزيز، أمر الله الحق، ودعوته الصدق. ونُمى إلينا أن بعض فقهاء البلاد المذكورة وزعمائها، قد حبّر خطباً أعدها للقيام بين يدى سيدنا أمير المؤمنين، وهو يرتقب ذلك اليوم ارتقاب يوم السعادة، والله عز وجل يبسطها من كلمة، ويعليها من دعوة، إنه على ما يشاء قدير " (¬1). ونستطيع أن نربط بين هذه الأقوال التى يصف فيها ابن جبير صدى الدعوة الموحدية بمصر خلال مروره بها فى سنة 579 هـ (1183 م)، أعنى قبيل عهد المنصور بقليل، وبين ما ذكره أبو القاسم المؤمن المصري فى كتابه المسمى " بالأنساب فى معرفة الأصحاب "، ونقله البيذق، عن أصحاب المهدي بمصر، فقد ذكر لنا من هؤلاء واحداً وخمسين رجلا بأسمائهم، وقال إنهم كانوا من أعيان بلادهم " وإنهم كانوا سامعين لقوله، مجيبين لأمره، مؤمنين به، مختارين صحبته، مؤثرين لحقه، معظمين لحرمته " (¬2). ويستخلص مما تقدم، ومن أقوال ابن جبير خاصة، أنه كانت توجد ثمة فكرة موحدية لغزو مصر، وأن هذه الفكرة ترجع إلى ما قبل عهد المنصور، وأنها ربما تبلورت فى عهد المنصور، واتخذت طابعاً قوياً، وذلك لما أبداه ¬_______ (¬1) رحلة ابن جبير (المنشورة بعناية الدكتور حسين نصار - القاهرة سنة 1955) ص 53 و 54. (¬2) نقله البيذق فى " أخبار المهدي ابن تومرت " ص 30 - 32.

المنصور من عزم وضخامة فى أهباته العسكرية، وما وفق إليه من انتصارات باهرة ضد النصارى فى شبه الجزيرة الإسبانية، ولاسيما فى معركة الأرك العظيمة. وربما كان من بواعث هذه الفكرة ومشجعاتها، مَثل الفاطميين، الذين ساروا من المغرب، قبل ذلك بأكثر من قرنين، وغزوا مصر، واستولوا عليها بأيسر أمر. ولكن شتان بين العصرين، وشتان بين ما كانت عليه مصر وقت الفتح الفاطمى، وما كانت عليه أيام الخليفة المنصور. بيد أننا لا نستطيع مع ذلك، أن نعتقد أن الموحدين كانوا يحتضنون مشروع غزو مصر بصورة جدية. وأكبر الظن أنها ربما كانت أمنية، وربما كانت مُثُل هذه الأمنية ترجع إلى عصر المهدي ذاته، فقد رأينا المهدي أثناء مقامه بثغر الإسكندرية يغضب لما رآه فيها من " البدع " ثم يقوم بها بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، حتى قيل بأنه خرج منها منفياً، لما ترتب على دعايته من الشغب. بل قيل أكثر من ذلك، وهو أن المهدي قال ذات يوم لبعض أصحابه فيما قال ووعدهم به، وكانوا يجلسون تحت شجرة الخروب المواجهة لمسجد تينملّل: " ليبصرنّ منكم من طالت حياته أمراء أهل مصر، مستظلين بهذه الشجرة، قاعدين تحتها " (¬1). كذلك يلوح لنا أن ما يذكره ابن جبير عن انتشار فكرة الغزو الموحدى بمصر، وماكان يهمس به الناس من ذلك الأمر، إنما هو مبالغة ترجع إلى ولاء ابن جبير للدولة الموحدية، التى خدم فى ظلالها وتمتع برعايتها، والأغلب أن ابن جبير تلقى أخباره من بعض الغلاة الهائمين من أتباع المهدي وأنصاره بمصر، فصورها على أنها تعبر عن اتجاه أغلبية الأمة المصرية، وهو ما يعتبر فى نظرنا من ضروب الوهم المغرق. ولاشك أن الموحدين، وفى مقدمتهم الخليفة المنصور، كانوا يعرفون ما كانت عليه قوة مصر فى ذلك العهد، التى نعمت فيه بقيادة الملك الناصر صلاح الدين، وما أحرزته بقواتها العسكرية الضخمة البرية والبحرية، من انتصارات باهرة على الصليبيين، فلم يكن من المعقول أن يفكروا فى غزو مثل هذه الإمبراطورية الإسلامية الضخمة، التى تحطمت على صخرة قوتها الراسخة حملات الصليبيين المتوالية، ومن جهة أخرى، فإن قصور الموحدين فى هذا الوقت بالذات عن القضاء على ثورة بنى غانية فى إفريقية بصورة حاسمة، واستمرار هذه الثورة العتيدة، أيام المنصور ومن بعده أعواماً طويلة، يقطع بأن فكرة ¬_______ (¬1) المراكشي فى المعجب ص 164.

غزو مصر، إن كانت، لم تكن لدى الموحدين سوى أمنية خيالية بعيدة المنال. وكان المنصور عالماً مستنيراً، متقناً للحديث والفقه واللغة، مشاركاً في كثير من العلوم، وكان محباً للعلماء مؤثراً لهم يجمع حوله صفوة العلماء والمفكرين، وقد أشرنا من قبل إلى شغفه بالجدل والمناقشات الفلسفية، وما كان يعقده من مجالس خاصة يستمع فيها إلى آراء الفيلسوف ابن رشد. وقد كانت نكبة الفيلسوف العظيم ونفيه إلى اليسّانة من سقطاته البارزة، ولكن كان متأثراً في ذلك بضغط الفقهاء والطلبة الموحدين. وكان المنصور يعنى بأمر طلبة العلم أعني علم الحديث، أعظم عناية، حتى نالوا على يديه من الرعاية والنفوذ ما لم ينالوه أيام أبيه وجده. وكان الموحدون يتبرمون بالطلبة، وينقمون عليهم حظوتهم ونفوذهم لدى الخليفة، حتى اضطر المنصور ذات يوم، أن يصرح أمام سائر الموحدين، وقد بلغه موقفهم من الطلبة، " يا معشر الموحدين، أنتم قبائل، فمن نابه منكم أمر فزع إلى قبيله، وهؤلاء الطلبة لا قبيل لهم سواى، فمهما نابهم أمر، فأنا ملجؤهم، وإلىّ فزعهم، وإلىّ ينتسبون ". يقول المراكشي، فعظم من ذلك اليوم أمر الطلبة، وبالغ الموحدون في برهم وإكرامهم (¬1). وكان المنصور أديباً فصيحاً، جزل الألفاظ، وكان يجتمع حوله شعراء العصر من العدوتين، المغرب والأندلس، يصغى إلى مدائحهم، ويغمرهم بصلاته، وقد وضع له شاعره الأثير أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي كتابه الذي سماه " صفوة الأدب وديوان العرب " في مختار الشعر (¬2). وانتشر هذا الديوان بين أهل المغرب انتشاراً عظيماً، وكان لديهم ككتاب الحماسة لأبي تمام عند أهل المشرق، وقد سبق أن أشرنا في غير موضع إلى قصائد الجراوى ومدائحه للمنصور، وأبيه الخليفة أبي يعقوب يوسف، في مختلف المناسبات، ْوكان من شعراء دولته أيضاً أبو بكر يحيى بن عبد الجليل بن مُجْبَر المرسى الأندلسي، وقد أشرنا إلى مدائحه كذلك من قبل غير مرة، وقد ذكر لنا ابن خلكان أن مدائح ابن مُجبر للمنصور جمعت في ديوان، وأورد لنا منها قصيدة رقيقة في مطلعها: أتراه يترك الغزلا ... وعليه شب واكتهلا ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 158. (¬2) ابن خلكان ج 2 ص 432 و 494، وروض القرطاس ص 142.

كلف بالغيد ما عقلت ... نفسه السلوان مذ عقلا وإلى جانب هذه الصفات العلمية والأدبية اللامعة، كان المنصور جواداً، وافر البذل، كثير الصدقات، وكان يقدر قيمة البذل في أسر النفوس وترويضها، وكان يؤثر بصلاته الوفيرة أجناد الغز (الأغزاز) والعرب الذين ينضمون لجيشه، استبقاء وتأكيداً لولائهم (¬1). هذا وأما عن كفاية المنصور ومواهبه الإدارية والإنشائية، فلدينا من ذلك تفاصيل عديدة. فقد كان المنصور في الواقع من أقدر الخلفاء الموحدين في فهم شئون الدولة الإدارية وتنظيمها، وكانت ولايته لوزارة أبيه مدرسة درس فيها هذه الشئون خير دراسة. وفيها " بحث عن الأمور بحثاً شافياً، وطالع أحوال العمال والولاة والقضاة وسائر من ترجع إليه الأمور مطالعة أفادته معرفة جزئيات الأمور (¬2). وقد رأيناه سواء في المغرب أو الأندلس يعكف على معالجة شئون الدولة بهمة، ويتقصى شئون الولاة والعمال. وكان يولى شئون الأندلس في ذلك عناية خاصة، ففي كل مرة يعبر فيها إلى شبه الجزيرة، يعنى إلى جانب أهباته للغزو، بتنظيم شئونها الداخلية، وفي سنة 592 هـ، نراه بعد ظفره في معركة الأرك، يعنى خلال إقامته بإشبيلية، بمطاردة العمال المقصرين والمختلسين ومحاسبتهم، واستصفاء أموالهم، كما يعنى بتعيين غيرهم من الحائزين لثقته. ثم هو في نفس الوقت يولى شئون الدولة المالية اهتماماً خاصاً، ويندب لأعمال الجباية رجالا من ذوى الأمانة والنزاهة. وكان من أهم ما فعله المنصور في باب السياسة المالية، هو تغييره للدينار الموحدي، ومضاعفته لوزنه، حسبما أشرنا إلى ذلك في موضعه. وكذلك أبدى المنصور همة ظاهرة في إقامة المنشآت العمرانية العظيمة، فأنشأ لأول عهده ضاحية الصالحة الملوكية في جنوبي مراكش، فوق البسيط الممتد بين باب أغمات شرقاً وباب الشريعة غرباً، فجاء إنشاؤها دليلا على ما كانت تجيش به نفسه من إظهار أبهة الملك وروعته، على مثل ما كان عليه خلفاء الأندلس، وعنى بتوسيع مدينة رباط الفتح، التي كان قد اختطها جده فأبوه وتجديد قصبتها، وإتمام أسوارها وأبوابها، واستكمال أحيائها ومبانيها. وأنشأ ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 163، والبيان المغرب - القسم الثالث ص 208. (¬2) المعجب ص 148، ونقله ابن خلكان ج 2 ص 428.

بها مسجداً عظيماً واسع الفناء، يقول المراكشي بأنه كان أكبر مسجد في المغرب، وأنشأ له صومعة متناهية في العلو " على هيئة منار الإسكندرية " يُصعد إليها بغير درج. ولكن هذا المسجد لم يتم إذ انقطع العمل فيه بوفاة المنصور (¬1). ونزيد نحن على ذلك بأن معالم المسجد المشار إليه، وقواعد أعمدته مازالت قائمة في مكانها، تدل على عظم مساحته، وما زالت صومعته الشاهقة التي لم يكمل بناؤها قائمة في مكانها، على مقربة من شاطىء المحيط، وهي التي تعرف اليوم بمنارة حسّان (تور حسان)، وهي على نمط صومعة جامع إشبيلية الشهيرة (لاخيرالدا) (1). بيد أن أهم منشآت المنصور في الحاضرة الموحدية - مراكش - كان هو البيمارستان (المستشفى) العظيم، الذي كان أول صرح من نوعه حظيت به مراكش. وقد اختار لإقامته ساحة شاسعة، وعنى بتخطيطه وبنائه أعظم عناية، وغرست من حوله الحدائق، وأجريت المياه إلى سائر أجنحته، وزود بنفيس الأثاث والرياش، ومختلف صنوف الأدوية، وعين له رهط من مهرة الصيادلة لإعداد الأدوية على اختلاف أصنافها، ورصدت الأموال اللازمة للإنفاق على المرضى، وإطعامهم وكسائهم، وكان المريض الفقير إذا تم شفاؤه، زُود عند خروجه بمال يعيش منه حتى يرزق بعمل، وإن كان غنياً دُفع إليه ماله وتُرك وشأنه، وكان يؤم هذا المستشفى الكبير سائر المرضى من المحليين والغرباء، وكان المنصور يركب إليه في كل جمعة بعد الصلاة، ويعود المرضى، ويسأل عن أحوالهم وحاجاتهم، وكانت هذه المأثرة الإنسانية من أعظم مآثر المنصور وأخلدها (¬2). وأما عن منشآته بالأندلس فقد أشرنا إلى ما كان من إنشائه لحصن الفرج خارج مدينة إشبيلية، وإنشاء قصوره وقبابه، ثم إتمامه لصومعة جامع إشبيلية العظيمة، وهي التي كان أبوه قد أمر بإنشائها، ولم تكمل في عهده، فقام المنصور على إتمامها، وتزويدها بتفافيحها الذهبية حسبما أشرنا إليه في موضعه. وأنشأ المنصور في نفس الوقت بمدينة مراكش منارة الكُتيبة العظيمة على نسق صومعة جامع إشبيلية، كما أنشأ بمدينة الرباط صومعة مسجدها على نفس الطراز، وهي منارة حسّان التي لم يكمل بناؤها، حسبما تقدم. وقيل في شأن منارة الكتيبة إنه بدىء بإنشائها في عهد جده الخليفة عبد المؤمن، وقام هو بالعمل على إتمامها، ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 150. (¬2) المراكشي في المعجب ص 162.

وطبقاً لهذه الرواية تكون منارة الكتيبة سابقة على صومعة إشبيلية، وتكون هي أم هذا الطراز من الصوامع الموحدية، وعلى أي حال فقد تم إنشاء الكتبية في سنة 594 هـ، قبيل وفاة المنصور بقليل (¬1). ووزر للخيلفة المنصور في بداية أمره أخوه السيد أبو عبد الله. ثم خلفه في الوزارة أبو حفص عمر بن أبي زيد الهنتاني، ولما توفي خلفه أبو يحيى أبو بكر ابن عبد الله بن أبي حفص عمر الكبير، واستمر في منصبه إلى أن قُتل في موقعة الأرك وهو يقود الصفوف. فتولى الوزارة من بعده أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن الشيخ أبي حفص، وهو ابن عم أبي يحيى الشهيد المتقدم الذكر، ولكنه لم يلبث في الوزارة سوى أيام يسيرة، ثم تركها مختاراً وهام على وجهه في بعض نواحي إشبيلية، وتزهد، فأرسل الخليفة إليه من استرده وأعفاه من الوزارة، وخلفه في الوزارة أبو زيد عبد الرحمن بن موسى بن يوجّان الهنتاني، فلم يزل في منصبه حتى توفي الخليفة المنصور، فتولى الوزارة بتوصية الخليفة، لابنه محمد الناصر مدى حين (¬2). وكتب للمنصور عدة من أكابر الكتاب منهم أبو الفضل جعفر ابن محشرة من أهل مدينة بجاية، وكان تلميذاً لأبي القاسم القالمي، كاتب أبيه الخليفة أبي يعقوب، وكان كاتباً مجيداً، بارع الأسلوب، واسع الرواية غزير الحفظ، تشهد له بذلك رسائله العديدة التي انتهت إلينا، واستمر في منصب الكتابة حتى توفي. فكتب من بعده للمنصور أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن ابن عياش، وهو أندلسي من أهل بُرْشانة من أعمال ألمرية، واستمر في منصبه حتى توفي المنصور، فكتب من بعده حيناً لابنه محمد الناصر، ثم لحفيده يوسف. وكان من ألمع كتاب الدولة الموحدية وأبرعهم أسلوباً. وقد انتهت إلينا كذلك عدة من رسائله الصادرة عن الخليفة المنصور، ومنها الرسالة التي وضعها في اتهام ابن رشد وزملائه بالخروج على شريعة الإسلام، وكلها تشهد بروعة بيانه (¬3). ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 151. (¬2) المعجب ص 148، والحلل الموشية ص 121، والبيان الغرب القسم الثالث ص 209. (¬3) راجع في مجموعة الرسائل الموحدية الرسالة السادسة والعشرين إلى الرسالة الرابعة والثلاثين وهي جميعها من إنشاء ابن محشرة، وراجع الرسائل الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين والسابعة والثلاثين وهي من إنشاء أبي عبد الله بن عياش.

وتولى القضاء في عهد المنصور، أبو جعفر أحمد بن مضاء من أهل قرطبة، وكان يتولاه من قبل في عهد أبيه الخليفة أبي يعقوب، ولما توفي خلفه في القضاء أبو عبد الله محمد بن مروان من أهل وهران، ثم عُزل وتولى القضاء من بعده أبو القاسم أحمد بن محمد من ولد بقى بن مخلد فقيه الأندلس الأشهر، واستمر في منصبه حتى وفاة المنصور، ووقتاً من عهد ولده محمد الناصر (¬1). وترك المنصور من الولد ستة عشر من الذكور، هم محمد ولى عهده والخليفة من بعده، وإبراهيم، وعبد الله، وعبد العزيز، وأبو بكر، وزكريا، وإدريس، وعيسى، وموسى، وصالح، وعثمان، ويونس، وسعد، ومساعد، والحسن، والحسين. وقد تولى الخلافة منهم غير محمد، اثنان آخران هما أبو محمد عبد الله العادل، وأبو العلاء إدريس المأمون. وترك المنصور كذلك عدة من البنات. هذا، وأما عن شخص الخليفة يعقوب المنصور، فقد وصفته الرواية المعاصرة، بأنه كان شديد السمرة، طويل القامة، جميل المحيا، أعين، أفوه، أقنى الأنف، شديد الكحل، مستدير اللحية، ضخم الأعضاء، جهورى الصوت، جزل الألفاظ (¬2). تلك هي مآثر الخليفة الموحدي، الظافر في معركة الأرك العظيمة، وتلك هي صفاته وخلاله الوضاءة اللامعة. ¬_______ (¬1) المعجب ص 149. (¬2) المعجب ص 147 و 148، وابن خلكان ج 2 ص 428.

الفصل الخامس عصر الخليفة محمد الناصر

الفصل الخامِسُ عصر الخليفة محمد الناصر جلوس الخليفة محمد الناصر. وزيره ومستشاروه. أعماله الأولى. أحوال إفريقية. استيلاء يحيى ابن غانية على قابس. ابن عبد الكريم وظهوره. خلافه مع والي المهدية. القبض عليه ثم إطلاق سراحه. استيلاؤه على المهدية واستبداده بها. مسيره لغزو تونس. اشتباكه مع الموحدين وهزيمتهم. لومه وعوده إلى المهدية. الخلاف بينه وبين يحيى الميورقي. استيلاؤه على قفصة. اشتباكه مع الميورقي. هزيمته والتجاؤه إلى المهدية. محاصرة الميورقي له. تسليمه للمهدية. قبض الميورقي عليه هو وولده ثم اغتيالهما. امتداد سلطان يحيى إلى معظم أنحاء إفريقية. سيره إلى باجة واقتحامها. مسير الموحدين لقتاله. هزيمة الموحدين وسقوط محلتهم. مسير يحيى إلى بسكره واقتحامها. عوده إلى المهدية. قلق البلاط الموحدي لحوادث إفريقية. تجهيز حملة كبيرة لقتال الميورقي وتوقفها. ثورة أبي قصبة ببلاد السوس. مسير الموحدين لقتاله. هزيمة الدعى ومقتله. وقوع السيل العظيم بإشبيلية. تأهب الموحدين لافتتاح الجزائر الشرقية. عبد الله بن إسحاق حاكم الجزائر. مسالمته للدول النصرانية وتعاونه معها. انتزاعه لمدينة منورقة من الموحدين. إعداد الحملة الموحدية لافتتاح الجزائر. خروجها من دانية إلى يابسة ثم إلى ميورقة. استيلاء السفن الموحدية على منورقة. نزول الموحدين في ميورقة. القتال بينهم وبين عبد الله بن إسحاق. هزيمة عبد الله ومقتله. اقتحام الموحدين لمدينة ميورقة وافتتاحها. تعيين ابن طاع الله الكومي لولايتها. صدى هذا الفتح في أراجون والدول النصرانية الأخرى. تأثيره في خطط يحيى بن إسحاق. عزم يحيى على فتح تونس. مسيره إليها في قواته. قطع اتصالها بالبحر ومحاصرتها. اقتحام يحيى لها. قبضه على واليها السيد أبي زيد وأولاده وأشياخ الموحدين. يحيى يفرض غرامة فادحة على تونس. خروجه إلى جبل نفوسة وتغريم أهله. وقع سقوط تونس في بلاط مراكش. الناصر يعين ولاة الأندلس. عزمه على سحق الميورقي. مسير الحملة الموحدية والأسطول الموحدي إلى إفريقية. حركات يحيى بن إسحاق في الجنوب. وصول الأسطول الموحدي. وصول الحملة الموحدية بقيادة الناصر. عودة يحيى إلى تونس. إرساله لأمواله وذخائره إلى المهدية. إخلاؤه لتونس ومسيره في قواته إلى قفصة. احتلال الموحدين لتونس. مسير الحملة الموحدية في أثر الميورقي. تحصن الميورقي بجبل دمر. تحصينه للمهدية. مسير الناصر لمحاصرة المهدية. مسير حملة موحدية بقيادة الشيخ أبي حفص إلى جبل دمر. معركة دموية في رأس تاجرا. هزيمة الميورقي ومقتل أصحابه. فراره في فلوله. انقاذ السيد أبي زيد وصحبه. اشتداد المقاومة بالمهدية، المعارك المستمرة. طلب الغانى حاكم المهدية التسليم بالأمان. موافقة الناصر. خروجه من المهدية مع صحبه. دخوله في طاعة الموحدين. سحق بني غانية وتحرير إفريقية. مثل بني غانية في محاربة الموحدين. تحولها إلى مغامرة في سبيل السلطان والثراء. مثالب حكومة الميورقي وأساليبها الهمجية. بغض المحكومين لها. التجاء يحيى الميورقي إلى الصحراء الجنوبية. مطاردة الموحدين لطوائف المفسدين. تعيين الشيخ أبي محمد عبد الواحد لولاية إفريقية. اعتذاره وشروطه للقبول. موافقة الناصر ومغادرته لتونس. مسيره إلى تلمسان ثم إلى فاس. أعماله ومطاردته لعاملى فاس ومكناسة

مسيره إلى رباط الفتح ثم إلى مراكش. نظره في الأعمال السلطانية ومراجعته لأعمال العمال. وفاة السيد أبي الربيع والي بجاية. تعيين السيد أبي عمران موسى والياً لتلمسان. عود يحيى الميورقي إلى الحركة. تحول بعض طوائف العرب عن محالفته إلى الموحدين. مسير يحيى إلى الشمال. خروج الشيخ أبي محمد إلى لقائه. معركة تبيشة. هزيمة الميورقي وفراره. جمعه لقواته ومسيره غرباً صوب واحات سجلماسة. اقتحامه لسجلماسة ونهبها. اهتمام الموحدين في إفريقية ومراكش. عوده صوب تلمسان. مفاجأته لواليها السيد أبي عمران وقواته. هزيمة الموحدين ومصرع السيد وصحبه. اقتحام الميورقي لمدينة تاهرت. عيث الميورقي في أحواز تلمسان. إنجاد المدينة وتأمينها. مسير حملة جديدة لمقاتلة الميورقي. ارتداده صوب طرابلس. عوده إلى الحركة. تضخم جيشه بالعرب والأغزاز. خروج الشيخ أبي محمد ْلقتاله. مسيره نحو جبل نفوسة. اشتباك الفريقين. هزيمة الميارقة وحلفائهم. مقتل أشياخ العرب. فرار يحيى وفله. عود القائد الظافر أبي محمد. كتابه إلى الخليفة بالفتح. معالجة الشيخ أبي محمد لشئون إفريقية. فضله في إخماد ثورة بني غانية. توطيده لسلطان الموحدين في إفريقية. التجاء سير أخي يحيى إلى الشيخ أبي محمد. أعمال الناصر وتعييناته للولاة والكتاب والقضاة. بعض حوادث المغرب في تلك الفترة. حريق مراكش. وفد المسلمين الصقليين إلى تونس. أحوال مسلمى صقلية منذ افتتاح النصارى للجزيرة. أقوال الرحالة ابن جبير عن ذلك. لما توفي الخليفة يعقوب المنصور، في ليلة الجمعة الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 595 هـ (22 يناير سنة 1199 م)، خلفه في صباح اليوم التالي ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالناصر لدين الله، وأخذت له البيعة العامة بعد ذلك بأسبوع في نهاية شهر ربيع الأول. ولم يعارضه أحد من الإخوة ولا العمومة. وكان المنصور قد اختاره لولاية عهده، وعقد له البيعة بذلك في أواخر سنة 587 هـ، حينما دهمه المرض الشديد، عقب عوده إلى المغرب، من جوازه الأول إلى الأندلس. ثم أخذت له البيعة بعد ذلك في سائر أقطار المغرب والأندلس. وكان الخليفة الجديد حين جلوسه، في نحو السابعة عشر من عمره، إذ كان مولده في أواخر سنة 576 هـ. ويقول لنا المراكشي إن أمه أم ولد رومية تدعى زهر. ولكن صاحب روض القرطاس، يقول إن أمه بالعكس كانت حرة اسمها أمّة الله، وأنها ابنة السيد أبي إسحق بن عبد المؤمن (¬1). وتولى الوزارة للخليفة الجديد، وزير أبيه أبو زيد عبد الرحمن بن موسى ابن يوجان، وهو ابن أخي الشيخ أبي حفص (¬2)، وتولى مهمة الاستشارة والتوجيه، الشيخ أبو زكريا وأخوه الشيخ أبو محمد عبد الواحد، إبنا الشيخ ¬_______ (¬1) المعجب ص 175، وروض القرطاس ص 152. (¬2) وقد ورد في بعض الروايات " أبو زيد بن يوجاق " (راجع رحلة التجاني ص 363)

أبي حفص عمر الهنتاني، وتولى رياسة البيت المالك السيد أبو الحسن وأخوه السيد أبو زيد، ابنا السيد أبي حفص عم الخليفة الراحل، وذلك كله، وفقاً لوصية المنصور في مرض موته حسبما أشرنا إليه من قبل. وأقام الخليفة الجديد عقب ولايته بحضرة مراكش بضعة أسابيع، حتى آخر شهر ربيع الثاني من سنة 595 هـ، وتمت البيعة خلال ذلك في سائر النواحي، ووصلت إلى الحضرة، وخرجت البركات للموحدين والأجناد كالعادة، وقدم الشعراء تهانيهم بتجديد البيعة. ثم غادر الخليفة مراكش في أول شهر جمادى الأولى، وقصد إلى مدينة فاس، فأقام بها حتى نهاية هذا العام. وعنى الخليفة خلال ذلك بتصريف الشئون، بمعاونة وزيره عبد الرحمن بن يوجان، وكان في مقدمة المراسم الجديدة، أن عين الخليفة السيد الحسن بن السيد أبي حفص والياً لبجاية وأعمالها، وأمده بالرجال والأموال ليستطيع مواجهة الحوادث في تلك المنطقة المضطرمة، وعين أخاه السيد أبا محمد عبد الله بن المنصور والياً على إشبيلية مكان أخيه السيد أبي زيد (¬1). وكانت الأحوال في إفريقية قد ساءت في أواخر عهد المنصور، ولا سيما حين شغل بأمر الجهاد في الأندلس، ولم تسعفه الظروف حين عودته بعد ذلك إلى المغرب، ليعنى بالنظر في شئون إفريقية، وتدارك ما دهمها من الحوادث، حيث فاجأه المرض وتوفي. فكان على ولده الخليفة الفتى محمد الناصر، أن يواجه هذه الظروف، وأن يقوم بتداركها. - 1 - وقد وصلنا فيما تقدم من سرد حوادث إفريقية، إلى ظفر يحيى بن إسحاق ابن غانية الميورقي، بخصمه شرف الدين قراقوش، وفراره إلى الجبال، وانتزاع طرابلس من يد نائبه. ولما تم ليحيى ما تقدم سار إلى قابس، وكان نائب قراقوش قد غادرها على أثر هزيمة سيده، ووجه إليها الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص والي تونس، حافظاً من الموحدين يسمى ابن تفراجين. فقصد إليها يحيى بقواته ووجه إلى أهلها كتاباً ينذرهم فيه بالتسليم، ويحذرهم من المخالفة، ويحدد لهم ثلاثة أيام لإجابة مطلبه، فلما انتهى هذا الأجل دون أية إجابة، زحف ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 212 و 213

يحيى على المدينة، وحاصرها حصاراً شديداً، وقطع غابات النخيل القريبة منها، إلا نخلة واحدة تركها للعبرة. فأذعن أهل المدينة إلى التسليم، على أن يؤمن واليهم ابن تفراجين، ويُسمح له أن يغادر المدينة بأهله من طريق البحر، فأوفى لهم يحيى بذلك، وفرض على المدينة إتاوة قدرها ستون ألف دينار. وكتب كاتبه أبو محمد عبد البر بن فرسان كتاباً بهذا الفتح، يشيد فيه بعود المدينة إلى الدعوة العباسية (¬1). وبينما كان الميورقي يتابع مغامراته، ويعمل على توطيد سلطانه في بلاد الجريد، إذ ظهر بإفريقية عامل مقلق جديد بثورة ابن عبد الكريم. وكان محمد ابن عبد الكريم الرجراجى هذا، من زعماء الجند، الذين امتازوا بالشجاعة والنجدة، وأبوه جندى من أهل المهدية، ينتمى إلى قبيلة كومية الموحدية. وكان قد ظهر في مقاتلة الأعراب وغيرهم من العناصر المشاغبة المفسدة، واستطاع في كثير من المواطن أن يقمع شغبهم وضررهم، بمن التف حوله من الجند والأنصار، فلما قوي أمره، وظهرت كفايته، قدمه الوالي لتلك المهمة، وأطلق يده في محاربة الخوارج والمعتدين، فكان يطاردهم وينكل بهم، ويقتل من يقتل، ويعتقل من يعتقل، فلا يطلقه إلا بعد دفع الأموال الكثيرة، وإعطاء العهود المؤكدة على التزام الطاعة والسكينة. فلما وُلى الشيخ أبو سعيد بن أبي حفص، من قبل الخليفة المنصور، على إفريقية، قدم على المهدية، أخاه أبا على يونس بن أبي حفص، فطالب ابن عبد الكريم أن يُشركه فيما يغنمه من أموال الأعراب المخالفين، فرفض ابن عبد الكريم تحقيق رغبته، وطلب إليه أن يتركه على ما كان عليه الولاة من قبل. فقبض عليه أبو علي وأهانه، وزجه إلى السجن، فاستغاث ابن عبد الكريم بالشيخ أبي سعيد والي إفريقية فلم يسعفه. وحدث عندئذ أن اشتد عيث الأعراب بالساحل، وكثرت الشكوى منهم، وألح الناس على أبي على أن يطلق ابن عبد الكريم، فاضطر إلى إطلاقه خشية الفتنة، ورد إليه منصبه وجنده، وأمره بالعمل على كف عيث أولئك الأعراب. فخرج ابن عبد الكريم في صحبه، وأقام محلته في ظاهر المهدية، وشكا إلى جنده ما لحقه من ظلم الوالي، وتفاهم معهم على الغدر بأبي على والاستيلاء على المدينة. ويقدم إلينا ابن الأثير تفسيراً آخر لتصرف ابن عبد الكريم، خلاصته أن جماعة من عرب بني عوف نزلوا على مقربة من المهدية، فخرج ¬_______ (¬1) راجع رحلة التجاني ص 105 - 108

إليهم ابن عبد الكريم، فخافوا وفروا تاركين عيالهم وأموالهم، فاستولى ابن عبد الكريم على المال والعيال، وسلم العيال وجزءاً من المال والأسلاب إلى الوالي واحتفط بالباقى، فسار رؤساء بني عوف إلى الشيخ أبي سعيد، وقدموا الطاعة ووحّدوا واستغاثوا به، أن يرد إليهم أموالهم وعيالهم، فاستدعى ابن عبد الكريم وطالبه برد ما أخذ من أسلابهم، فاعتذر ابن عبد الكريم بأنه أعطاه إلى الجند ولا يستطيع رده. فأغلظ له الشيخ أبو سعيد القول، وهم أن يبطش به، فاستمهله حتى يعود إلى المهدية، ويحاول أن يسترد من الجند ما استطاع. فلما عاد إلى المهدية، نبأ صحبه بما حدث، واتفق معهم على الوثوب بأبي على يونس. وعلى أي حال فقد نفذ ابن عبد الكريم مشروعه، ودخل المدينة في أواخر الليل في ثُلة مختارة من صحبه، وبادر إلى قصر الوالي ونفذ إليه، وقبض على أبي على، وحبسه في موضع من القصر، ولم يطلقه إلا بعد أن وصل فداؤه من قبل أخيه الشيخ أبي سعيد، فارتد إلى أخيه مخذولا، وبسط ابن عبد الكريم بذلك حكمه على المهدية، وكان استيلاؤه عليها في شهر شعبان سنة 595 هـ (¬1)، لأشهر قلائل من ولاية الناصر. واستبد ابن عبد الكريم بحكم المهدية، وتسمى " المتوكل على الله "، واستفحل أمره. وفي تلك الأثناء وصل السيد أبو زيد ابن السيد أبي حفص من قبل الناصر والياً على إفريقية، مكان الشيخ أبي سعيد، ومعه جماعة من الأشياخ والأجناد. فاعتزم ابن عبد الكريم أن يحاصره بتونس، قبل أن يستعد لقتاله، فسار إلى جهة قرطاجنة وعسكر عند مدخل البحر إلى البحيرة، فسير السيد أبو زيد السفن في البحر، والجند في البر لقتاله، وكان ابن عبد الكريم قد رتب كمائنه في بعض المواضع، فلما أقبل إليها الموحدون، خرجت عليهم تلك الكمائن، فأوقعت بهم الهزيمة وفتكت بمعظمهم، وانتشر عسكر ابن عبد الكريم في أحواز تونس، وعاثوا فيها نهباً. وعندئذ بعث السيد أبو زيد والشيخ أبو سعيد إلى ابن عبد الكريم، أشياخاً من الموحدين يسوقون إليه اللوم، ويذكرونه بانتمائه إلى الموحدين، وأن ما يفعله مروق ونكران لا يليق به، وأنه من الخير أن يعود إلى طائفته، فوعدهم ابن عبد الكريم خيراً، ثم عاد إلى المهدية. وكانت قد حدثت في تلك الأثناء وحشة بين ابن عبد الكريم، ويحيى الميورقي ¬_______ (¬1) رحلة التجاني ص 350 - 352، وابن الأثير ج 12 ص 52

لما دب بينهما من عوامل التنافس والحسد، وفكر ابن عبد الكريم في محاربته ومحاصرته، وهو يومئذ بقابس، فاستخلف على المهدية ولده عبد الله وسار إلى قابس، ولكنه لما أشرف عليها بجموعه هالته منعتها، فارتد منها إلى قفصة واستولى عليها. وعندئذ خرج الميورقي من قابس لمطاردته ومحاربته، فخرج ابن عبد الكريم بقواته من قفصة، والتقى الفريقان في مكان يعرف بقصور لالة، فهزم ابن عبد الكريم، وفر إلى المهدية ناجياً بنفسه، وتبعه إليها من نجا من فلوله، واحتوى الميورقي على معسكره وجميع أسلابه. وكان ذلك في بداية سنة 597 هـ. وأراد الميورقي أن يقضى نهائياً على خصمه، وأن ينتزع منه المهدية، فبعث إلى السيد أبي زيد بتونس يسأله المهادنة والسلم، ويطلب منه أن يعينه بعدة سفن يستطيع بها محاصرة المهدية من البحر، والقضاء على ابن عبد الكريم. وكان السيد أبو زيد يتوق إلى التخلص من هذا الثائر الذي استفحل أمره، فبعث إلى الميورقي سفينتين، فعندئذ أدرك ابن عبد الكريم أنه لا مفر من التسليم، وبعث إلى الميورقي ولده عبد الله يعرض التسليم على أن يؤمن في نفسه وماله، فأجابه الميورقي إلى ذلك، وخرج ابن عبد الكريم وولده من المهدية وتوجها إلى الميورقي للسلام عليه، فلما رآهما أمر في الحال بالقبض عليهما متفرقين، واستولى على المهدية وعلى سائر ما كان بها لابن عبد الكريم من الأموال والذخائر. ثم زج بابن عبد الكريم وولده إلى السجن ولم تمض أيام قلائل حتى أخرج ابن عبد الكريم ميتاً من سجنه، ثم أخرج ولده عبد الله وحمل إلى السفينة، بزعم إرساله إلى ميورقة، ولكن السفينة ما كادت تصل إلى مقربة من قسنطينة، حتى ألقى به مكبولا إلى البحر، فابتلعته المياه (¬1). وهكذا بسط يحيى بن إسحاق الميورقي حكمه على سائر إفريقية، ما عدا شاطئها الشمالي، واستولى على سائر قواعدها، طرابلس وقابس وصفاقس والمهدية والقيروان وسائر بلاد الجريد، ووصلت دعوته إلى بونة ولم يبق بيد الموحدين منها سوى تونس وبجاية وقسنطينة، وقد أصبحت كذلك في خطر السقوط. وبينما كان السيد أبو زيد والي إفريقية، ما يزال يعتقد أن الميورقي يرغب حقاً في السلم، وأنه ينوى أن يضع حداً لأعماله العدائية، إذا بالميورقي ¬_______ (¬1) نقلنا هذه التفاصيل عن رحلة التجاني، وهي فيما يبدو أوثق الروايات عن هذه الحوادث ص 352 - 354. وراجع ابن خلدون في كتاب العبر ج 6 ص 194 و 195، وهو فيما يرجح، ينقل عن التجاني.

يسير فجأة إلى بلدة باجة الواقعة غربي تونس، وقد كانت من أخصب بلاد هذه المنطقة وأوفرها حنطة وطعاماُ (¬1) ويقتحمها عنوة، ويستولي عليها، ويقتل حاكمها الموحدي على الفور. فبعث السيد أبو زيد في الحال جيشاً، تحت إمرة أخيه السيد أبي الحسن والي بجاية، لكي يعمل على إنقاذ باجة وحماية سكانها الذين عادوا إليها، وكان الميورقي قد عاد لحصارها، فلما علم بمقدم الموحدين، رفع الحصار عن المدينة وسار للقاء خصومه، وعسكر في موضع حصين بالقرب من قسنطينة، وهنالك أشرف عليه السيد أبو الحسن بجموعه، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها الموحدون، واستولى الميورقي على معسكرهم وأسلابهم. وارتد أبو الحسن في بعض فلوله إلى بجاية وهو في أسوأ حال (¬2). وكانت مدينة بسكرة التي استولى عليها الميورقي من قبل قد خلعت طاعته، وعادت إلى طاعة الموحدين، فسار إليها يحيى، واقتحمها عنوة، وعاقب السكان على نكثهم، بقطع أيدي الكثير منهم، وقبض على عاملها الموحدي وزجه إلى السجن. وخشى أهل بونة أن يصيبهم ما أصاب أهل بسكرة، فبعثوا إلى الميورقي بطاعتهم. ووقعت هذه الحوادث في سنة 598 هـ (1202 م)، وعاد يحيى بعد ذلك إلى المهدية فاستقر بها بعض الوقت (¬3). وفي خلال ذلك كان البلاط الموحدي بمراكش يتتبع أنباء الحوادث في إفريقية بمنتهى الجزع، ويحاول أن يقمع العدوان بالحملات المحلية المتوالية. فلما توالى فشل هذه المحاولات، جهز الخليفة الناصر، أو بالحرى مستشاروه من أشياخ الموحدين، حملة كبيرة ندب لقيادتها الوزير ابن يوجان، وسارت هذه الحملة إلى تلمسان ثم إلى بجاية ثم إلى قسنطينة، ولكنها لم تقم بأية محاولة لمقاتلة الميورقي، وعاد الوزير إلى تلمسان، وهنالك وصله الأمر بالنظر في أعمالها، ثم نُدب إلى ولاية فاس، وأقام بها حتى ندبه الناصر للسير معه إلى إفريقية (¬4). وكان هذا التردد في مطاردة الميورقي، راجعاً إلى اضطرام ثورة جديدة في منطقة السوس. وذلك أن دعياً من أصل أندلسي، ينتمى إلى قبيلة جزولة، ¬_______ (¬1) وهي طبعاً غير باجة بالأندلس. راجع الاستبصار في عجائب الأمصار ص 160. (¬2) المعجب ص 179. (¬3) ابن خلدون ج 6 ص 195، وكذلك: A. Bel: Les Benou Ghania, p. 113. (4) (¬4) البيان المغرب - القسم الثالث ص 214، والمعجب ص 179. هذا وتراجع خريطة إفريقية في ص 163، حيث وضحت بها سائر المواقع التي كانت مسرحاً لتلك المعارك المتوالية.

يسمى عبد الرحيم بن عبد الرحمن بن الفرس، ويعرف بالمهر وبأبى قصبة، كما يعرف عند البربر بما معناه " ابن الجزارة " ثار بالسوس. وكان هذا الدعى من طبقة العلماء بالأندلس. وحضر ذات يوم مجلس الخليفة يعقوب المنصور وبدرت منه بعض أقوال جدلية خشى عاقبتها، فاختفى حيناً، ثم ظهر بعد وفاة المنصور، في السوس في منازل جزولة، وانتحل الإمامة، وادعى أنه " القحطاني " الذي ورد ذكره في الحديث، بأنه لا تقوم الساعة، حتى يخرج رجل من قطحان، يقود الناس، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً، ومما ينسب إليه في مصير بني عبد المؤمن شعر يقول فيه: قولوا لأبناء عبد المؤمن بن علي ... تأهبوا لوقوع الحادث الجلل قد جاء سيد قحطان وعالمها ... ومنتهى القول والغلاب للدول وذاعت دعوة أبي قصبة في أرجاء بلاد السوس، والتفت حوله جموع غفيرة، فبعث إليه بلاط مراكش عدة حملات صغيرة متوالية، كان يهزمها تباعاً، وأخيراً اضطر الناصر أن يجهز لقتاله حملة كبيرة من الموحدين والغز وغيرهم، وسار الموحدون إلى بلاد السوس، وأنذروا المصامدة وغيرهم من القبائل المجاورة، بأن الدعى يعتمد على تسامحهم وتغافلهم، وبذلك يقوى أمره، ولو شاءوا لقضوا عليه، فعند ذلك تحركت القبائل وانضمت إلى الجيش الموحدي القادم، في مقاتلة الدعى، فانفض عنه معظم جموعه، وقتل منهم من وقف إلى جانبه، وقُبض على الدعى وقتل، واحتز رأسه، وأرسل إلى مراكش، وكان مصرع أبي قصبة وانهيار ثورته، على هذا النحو سنة 598 هـ (1202 م) (¬1). وكان من حوادث الأندلس في تلك الفترة أن عزل الناصر أخاه السيد أبا محمد عبد الله بن المنصور عن ولاية إشبيلية، ولكنه عاد فاستبقاه في منصبه تحقيقاً لرغبته، وكان ذلك في سنة 597 هـ. وفي أوائل هذا العام بالذات، وقع بإشبيلية حادث مفزع هو وقوع السيل العظيم، الذي لم يسمع بمثله من قبل، فاجتاح أجزاء كبيرة من سور المدينة، ولاسيما ما بين باب طُريانة وباب المؤذن، وغمرت المياه المدينة بأسرها، وسقط عدد كبير من دورها قيل إنه ستة آلاف، وكان من رحمة القدر أن وقع هذا السيل ظهراً، وكان وقوعه يوم الاثنين 19 من جمادى الأولى سنة 597 هـ ¬_______ (¬1) ابن خلدون في العبر ج 6 ص 246 و 250، والبيان المغرب القسم الثالث ص 215، والمعجب ص 180

(26 مارس 1201 م) واستمر ثلاثة أيام، ولو حدث وقوعه بالليل لغرق آلاف من أهل المدينة. واجتاح هذا السيل وادي النهر الكبير كله من قرطبة إلى إشبيلية، وحتى ثغر قادس، ومات من جرائه الكثيرون غرقاً. وكان من أشنع الحوادث التي شهدتها إشبيلية من عهد طويل (¬1). - 2 - وكان الخليفة الناصر، وأشياخ الموحدين، يتأهبون في نفس الوقت لمشروع ضخم، هو افتتاح الجزائر الشرقية (جزائر البليار). وكان استمرار يحيى ابن إسحاق الميورقي في عدوانه، وتفاقم أمره في إفريقية، وفشل الحملات الموحدية المتوالية في القضاء على سلطانه، قد حمل البلاط الموحدي على أن يفكر في افتتاح ميورقة، والقضاء على سلطان بني غانية فيها، وضربهم بذلك في موطن قوتهم الأصلى، ومصدر مواردهم وأمدادهم البحرية، فيكون ذلك الفتح ذاته، وسيلة لضرب سلطان يحيى الميورقي في إفريقية، والتمهيد للقضاء على حركته. وقد سبق أن فصلنا ظروف استيلاء بني غانية على الجزائر الشرقية، وقيام حكمهم في ميورقة، ومحاولة الخليفة أبي يعقوب يوسف أن يخضع عميدهم إسحاق ابن غانية لسلطان الموحدين، وما كان من إرساله سفيره علياً الربرتير إلى ميورقة، ليعمل على تحقيق هذه الغاية، وإخفاق الربرتير في مهمته، ثم قيام علي بن إسحاق بافتتاح بجاية، وبداية تلك الحركة المضطرمة، وتلك الحملات المخربة المتوالية، التي قام بها بنو غانية في إفريقية، واستيلائهم تباعاً على معظم قواعدها. وكان على حكم ميورقة في ذلك الوقت الذي اشتدت فيه حركة يحيى بن إسحاق بإفريقية، أخوه عبد الله بن إسحاق بن غانية. وقد سبق أن أشرنا إلى الظروف التي استطاع فيها عبد الله أن ينتزع حكم ميورقة من أخيه محمد بن إسحاق وذلك في سنة 584 هـ (1188 م)، واستبد عبد الله بحكم ميورقة، كبرى الجزائر، وازدهرت في عهده، واستمر على رياستها طوال هذه الأعوام دون منازع. وكان عبد الله، يتبع سياسة أبيه إسحاق بن غانية في مسالمة الدول النصرانية القريبة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 214. والذيل والتكملة لابن عبد الملك (الجزء الرابع من مخطوط المتحف البريطاني، في ترجمة محمد بن أحمد بن تمام العذري.

ولاسيما جنوة وبيزة، ويعقد معها الصلات الودية، وكان ذلك مما يساعد على رواج التجارة بين ميورقة وبين هذه الدول البحرية. وفي سنة 594 هـ (1198 م) عقد عبد الله مع جمهورية جنوة معاهدة صلح وتجارة لمدة عشرين عاماً، وذلك بواسطة نيقولا لاكانوتزى سفير جنوة إلى ميورقة. وكان التجار النصارى في الجزيرة، يعيشون في دعة وطمأنينة آمنين على أنفسهم وأموالهم، وتعاون جهودهم في ترويج تجارة الصادر والوارد بين الفريقين. وكان من الواضح أنه منذ اضطرمت الخصومة بن بني غانية والموحدين، لم يكن في وسع الجزائر أن تعتمد في تموينها ومواردها الحيوية على الأندلس المعادية، ومن ثم فقد كانت تسعى للحصول على مواردها من النصارى، وكان هؤلاء يمدونها بالسفن والسلاح والذخائر، مقابل الحبوب ومنتجات الجزيرة الأخرى. ومن جهة أخرى، فقد كان النصارى يجنون ثمار هذه الصلات الودية مع ميورقة، وذلك بامتناع عبد الله عن الإغارة على شواطئهم. على أن عبد الله كان ما يزال ينظم غاراته البحرية على شواطىء الدول التي لم يكن يرتبط معها بعهود الصداقة والمودة، مثل فرنسا، وكانت هذه الغارات، توطد من مكانته لدى شعبه وتزيد في ثرائه. وبالرغم من أن عبد الله لم يكن في وسعه دائماً، أن يمد أخاه يحيى بالسفن والجند، في مغامراته الإفريقية، فإن ميورقة كانت تعتبر مع ذلك بالنسبة لبني غانية، مركزهم الرئيسي وموطن قوتهم الحقيقية (¬1). كانت هذه أحوال ميورقة، حينما وصلت غزوات يحيى بن غانية للثغور الإفريقية إلى ذروتها، وحينما اعتزم البلاط الموحدي أن ينفذ مشروعه لغزو ميورقة، كوسيلة لضرب بني غانية في صميم مثوى قوتهم وسلطاتهم. وكان الموحدون يرون أنه متى سقطت ميورقة في أيديهم، فإنهم يستطيعون عندئذ أن يتفرغوا لمطاردة يحيى بن غانية والقضاء على سلطانه في إفريقية، دون أن يكون أمامه ملاذاً وملجأ أخيراً يتجه إليه. وبذل الخليفة الناصر وأعوانه من أشياخ الموحدين جهوداً مضاعفة لإعداد حملة بحرية عظيمة توجه لغزو ميورقة. وفي تلك الأثناء، وقبل أن يتم إعداد الحملة، عمد عبد الله بن إسحاق بن غانية إلى مهاجمة جزيرة يابسة الواقعة جنوب ¬_______ (¬1) A. Bel: Les Benou Ghania, p. 118 & 119

غربي ميورقة محاولا انتزاعها من الموحدين، وكان ذلك في أوائل سنة 597 هـ، خلال فصل الشتاء، حينما تكون الأساطيل الموحدية راسية في سبتة، فقاومته السفن الموحدية المرابطة بقيادة ابن ميمون، وانتزع ابن ميمون منه سفينتين وأحرقهما، فارتد إلى ميورقة خائباً. ولكنه سار في العام الثاني (598 هـ)، وهاجم جزيرة مِنورقة وانتزعها من أيدي الموحدين، وولي عليها من قبله رجلا اسمه الزبير بن نجاح. والظاهر أن عبد الله كان قد ترامت إليه الأخبار عن مشروع الموحدين في غزو ميورقة، فأراد أن يبادر بإبعادهم عن هذه المياه، وتأمين ميورقة بالسيطرة على منورقة ويابسة جناحيها من الشرق والغرب. وأخيراً تم إعداد الحملة البحرية المنشودة، مكونة من أسطول سبتة بقيادة السيد أبي العلاء إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن، ومن جيش من الفرسان والرماة والرجالة، بقيادة الشيخ أبي سعيد بن أبي حفص. والتقت القوتان بثغر دانية، أقرب قواعد الأندلس البحرية إلى الجزائر. وكانت القوي البرية تتألف من ألف ومائتى فارس، وسبعمائة من الرماة، وخمسة عشر ألفاً من الرجالة غير غزاة القطع (أي السفن). وكان الأسطول يتكون من ثلاثمائة جفن (سفينة) منها سبعون غراباً، وثلاثون طريدة، وخمسون مركباً كباراً، ومائة وخمسون قارباً من مختلف الأنواع، وكانت الحملة مزودة بكميات كبيرة من العدد والسلاح والمجانيق والسلالم، ومختلف الأدوات، وكذلك من الدروع والسيوف والرماح والبيضات والدرق، والقسىّ، وصناديق النشاب، وكانت بالأخص مزودة بكميات وافرة من الطعام استعداداً لطول المقاومة أو طول الحصار. وأقلعت الحملة من ثغر دانية في أواخر سنة 599 هـ (1203 م)، فوصلت بعد أيام قلائل إلى جزيرة يابسة، فصلوا بها الجمعة، ثم أقلعت منها يوم السبت الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة (سبتمبر سنة 1203) قاصدة إلى ميورقة (¬1). ويبدو مما يقوله صاحب البيان المغرب، أن السيد أبا العلاء، قد انحرف أولا بجزء من الأسطول نحو جزيرة منورقة، وانتزعها من ابن نجاح، وقبض عليه، وأرسله مع بعض صحبه مصفداً إلى الحضرة، وهنالك أعدم وعلقت رأسه (¬2). وبذلك تم تأمين جناحى الحملة الموحدية، وتطويق ميورقة كبرى الجزائر. ثم أقبلت ¬_______ (¬1) نقلنا هذه التفاصيل عن صاحب الروض المعطار (ص 189) وهو ينفرد بها. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 216.

السفن الموحدية إلى ميورقة واحتلت مرساها، وأنزل العسكر المهاجم بالقرب من مدينة ميورقة عاصمة الجزيرة، فخرج إليهم عبد الله بن إسحاق في جموعه، واضطرم القتال بين الفريقين، واستمرت المعارك بينهما سبعة أيام، وعبد الله وجنوده يدافعون بمنتهى الشدة ويقاتلون قتال اليأس، وأخيراً دارت عليه الدائرة فهزم وقتل ومعظم أصحابه. وأغلق المدافعون في الداخل أبواب المدينة فطوقها الرماة وغزاة البحر، واقتحموها، ودخلها الموحدون وبدأوا بنهبها، ودخل السيد أبو العلاء والشيخ أبو سعيد المدينة، وأمامهما رأس عبد الله مرفوعة على قناة، فأمر في الحال بمنع النهب، وتأمين الناس، وقبض على أولاد عبد الله وأهله، فخرج الناس، وقد أمنوا واطمأنوا، وكُتب في الحال بالفتح إلى الخليفة الناصر. وكان فتح ميورقة على هذا النحو في شهر ربيع الأول سنة ستمائة (شهر ديسمبر سنة 1203 م) (¬1). تلك هي تفاصيل الفتح الموحدي لميورقة حسبما يوردها لنا صاحب الروض المعطار، وحسبما تقصها علينا رسالة الفتح الصادرة عن الخليفة الناصر، والمدبجة بقلم كاتبه أبي عبد الله بن عياش. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن الحملة الموحدية لفتح ميورقة كانت بقيادة الخليفة الناصر نفسه، وأنه خرج من مدينة فاس فوصل إلى جزائر بني مزغنة، وجهز من هنالك الأساطيل والعساكر لفتح ميورقة، ففتحها وانتزعها من أيدي المرابطين (¬2). بيد أنه لا توجد أية رواية أخرى تؤيد هذا القول، فضلا عن أن رسالة الفتح الرسمية صريحة قاطعة في عدم صحته. ويقدم إلينا ابن خلدون إسمى قائدى الحملة وهما كما تقدم السيد أبو العلاء إدريس قائد الأسطول، والسيد أبو سعيد بن أبي حفص قائد القوي البرية (¬3). ويقول لنا صاحب البيان المغرب إن الناصر كان في الوقت الذي سارت فيه الحملة الموحدية إلى الجزائر مقيماً بحضرة مراكش (¬4). وندب السيد أبو العلاء لولاية الجزائر عبد الله بن طاع الله الكومي، فكان ¬_______ (¬1) الروض المعطار في روايته السابقة الذكر ص 189، وراجع الرسالة السادسة والثلاثين من رسائل موحدية، وهي خاصة بفتح ميورقة (ص 235 وما بعدها)، وكذلك روض القرطاس ص 153. (¬2) روض القرطاس ص 153، ويتابعه في ذلك الأستاذ الفرد بل: Les Benou Ghania, p. 167 (¬3) ابن خلدون في العبر ج 6 ص 247. (¬4) البيان المغرب - القسم الثالث ص 218.

أول ولاتها من الموحدين، وعين لقضائها الفقيه المحدث عبد الله بن حوط الله. ثم ولى الناصر عليها عمه السيد أبا زيد بن أبي يعقوب يوسف، وندب ابن طاع الله لقيادة البحر. وكان فتح الموحدين لميورقة ضربة شديدة لبني غانية، قضت نهائياً على سلطانهم في الجزائر، ومن جهة أخرى فقد كان له وقع عميق لدى الممالك النصرانية القريبة، ولاسيما مملكة أراجون المواجهة في شبه الجزيرة. وإلى هذا تشير رسالة الفتح صراحة بقولها " ولأخذُ ميورقة على صاحب أرغون وبرشلونة، أشدُّ من رشق النبل وأهول من وقع السيف، وأوحش من القطع بحلول الممات " وقد سبق أن أشرنا إلى ما كان يتبعه بنو غانية من سياسة المسالمة والمودة نحو الدول النصرانية المجاورة، ولاسيما مملكة أراجون وجمهوريتى جنوة وبيزة. وكانت تجمع بين بني غانية أصحاب الجزائر وبين أراجون بالأخص فكرة مشتركة، هي خصومة الموحدين والكفاح ضدهم وكانت أراجون وحليفاتها من الدول النصرانية لذلك، تنظر إلى سيادة بني غانية للجزائر بعين الإغضاء، ما التزم بنو غانية سياسة المودة والمسالمة. أما الآن، وقد احتل الموحدون الجزائر، فإنه كان لابد للدول النصرانية، وفي مقدمتها أراجون أن تتخذ نحو الجزائر موقفاً آخر. ومن المحقق أن أراجون ومن ورائها جنوة وبيزة كانت تطمع دائماً إلى انتزاع الجزائر من المسلمين. وقد جاء استيلاء الموحدين على الجزائر عاملا جديداً، يذكى هذه الرغبة ويؤكدها. على أن ظفر الموحدين بالاستيلاء على الجزائر، كانت تقابله من الناحية الأخرى، ضربة جديدة مؤلمة الموحدين في إفريقية. ذلك أن يحيى بن إسحاق بن غانية، كان يشعر حين ترامت إليه أنباء الحملة الموحدية، التي سيرت إلى الجزائر، أن مصير ميورقة قد بت فيه، وأنه لم يبق لبني غانية إلا أن يعملوا على توطيد أمرهم بإفريقية، وأنه لابد لتحقيق هذه الغاية أن يسحق سلطان الموحدين نهائياً في تلك المنطقة. وكان يحيى قد ظفر عندئذ بالاستيلاء على المهدية، والقضاء على خصمه ابن عبد الكريم. ففكر عندئذ في الاستيلاء على تونس عاصمة إفريقية. وكانت سائر الثغور الشرقية، وسائر القواعد الجنوبية القريبة من تونس قد سقطت في يد يحيى، وجردت العاصمة من سائر مواردها المعتادة، وكان والي إفريقية السيد أبو زيد لا يحتكم على قوي كافية للدفاع. ومن جهة أخرى، فإن انشغال الموحدين في نفس

هذا الوقت بالذات، بتسيير حملتهم الكبيرة إلى الجزائر، كان يحول دون إرسالهم الأمداد العاجلة إلى إفريقية. ومن ثم فإن الظروف كلها كانت مؤاتية لمشروع يحيى الميورقي. فاستعمل على المهدية ابن عمه علي بن الغانى بن عبد الله بن محمد ابن غانية ويعرف بالكافى. وسار في قواته وعُدده صوب تونس، وذلك في أوائل شهر ذي الحجة سنة 599 هـ، ونزل بالجبل الأحمر في ظاهر تونس، ونزل أخوه الغازى بن إسحق بالموضع المعروف بحلق الوادي حيث يتصل البحر بالبحيرة شرق المدينة، فردم المجرى الموصل بينهما وجعله أرضاً يابسة، ورتب عليه الحرس، وقطع بذلك سير القوارب الداخلة إلى المدينة والخارجة منها، ثم تحول إلى قبلى المدينة، على مقربة من باب الجزيرة وردم الخندق المواجه له، ونصب أمام الباب المجانيق وآلات الحرب، وضرب الميورقيون حول تونس حصاراً صارماً، ولم يجرؤ الموحدون على الخروج من المدينة، والاشتباك مع العدو في أية معركة، لقلة عددهم، وضآلة مواردهم. واستمر هذا الحصار المرهق أربعة أشهر. وفي يوم السبت السابع من شهر ربيع الآخر سنة ستمائة (15 ديسمبر سنة 1203 م)، اقتحم يحيى في قواته البلد، وقبض على واليها السيد أبي زيد وولديه، وجماعة من أشياخ الموحدين، وثقفوا بمكان بداخل القصبة تحت حرس قوي، وأعلن يحيى الأمان لأهل تونس في أنفسهم وأملاكهم، ولكنه فرض عليهم غرامة قدرها مائة ألف دينار، قال إنها هي مقدار ما أنفقه في الاستيلاء عليها، وقُسّطت هذه الغرامة على أهل المدينة وفق أحوالهم المادية، وعهد باقتضائها إلى كاتبه الأثير ابن عصفور، وإلى أبي بكر بن عبد العزيز السكاك من أهل المدينة، فاشتطا في تحصيل المال، ولحق الناس من ذلك منتهى الإرهاق والعنت، وقتل منهم كثير بسبب ذلك، وانتحر إسماعيل بن عبد الرفيع المقدم على قبض مال المخزن وغيره من الناس، فلما علم الميورقي بذلك، أمر برفع ما بقى من الغرامة عن الناس، ونودى فيهم بالأمان. وعلم الميورقي بعد ذلك أن أهل جبل نفوسة توقفوا عن أداء الإتاوة المفروضة عليهم، وكان أهل هذه المنطقة معظمهم من الخوارج، وكانوا يبغضون نير الموحدين ونير بني غانية معاً، ويثورون من آن لآخر محافظة على استقلالهم. فخرج إليهم يحيى بنفسه، واستصحب معه السيد أبا زيد وزملاءه من الموحدين المعتقلين، مبالغة في التحفظ عليهم، وفرض على أهل نفوسة ألفى ألف دينار. ولما انتهى من اقتضائها منهم

بوسائله المروعة، عاد إلى تونس واستقر بقصبتها (¬1). - 3 - وهكذا تم ليحيى بن إسحاق الميورقي الاستيلاء على عاصمة إفريقية، ولم يبق بيد الموحدين من إفريقية، بعد أن سقطت جميع قواعدها الشرقية والداخلية في يد الميورقي، سوى ثغر بجاية، وما يليه غرباً. وكان لسقوط تونس، وما اقترن به من أسر واليها وزملائه من أشياخ الموحدين، وقع عميق في بلاط مراكش. وكان مما يضاعف هذا الوقع، ما يرتكبه الميورقي باستمرار من ضروب العيث والقمع والقسوة، في مختلف القواعد التي يسيطر عليها. وكان الموحدون، بعد أن ظفروا بالاستيلاء على ميورقة، وجردوا بني غانية بذلك من ملاذهم ومركز سلطانهم في الأندلس، يرون أن الوقت قد حان للقضاء على سلطانهم بإفريقية، وتحريرها من نيرهم ومن عيثهم، واسترداد سلطان الموحدين، والعمل على توطيد هيبتهم في تلك الأنحاء. بيد أن الموحدين كانوا يشعرون في نفس الوقت بفداحة هذه المهمة، ومن ثم فإن الخليفة الناصر حينما شاور الأشياخ في ذلك الأمر، رأى معظمهم أن يكتفي بمسالمة ابن غانية والاتفاق معه، ولكن أبا محمد بن الشيخ أبي حفص أشار بوجوب السير إلى إفريقية، ومحاربة ابن غانية، ووافق الناصر على هذا الرأي. وكان الناصر في الوقت الذي سار فيه الموحدون لفتح ميورقة، أعني في سنة ستمائة، يقيم بحضرة مراكش، ويعنى بشئون الأندلس الإدارية والعسكرية، وكان من أهم ما عنى بذلك إرسال الأوامر المؤكدة إلى سائر ولاة الأندلس بالنظر في صنع الآلات الحربية. ففي شهر المحرم من هذا العام، وصل الأمر إلى إشبيلية بضرب الآلات وشراء الدروع المحكمة. وفي شهر ربيع الأول ندب الناصر عمه السيد أبا إسحق بن يوسف بن عبد المؤمن لولاية إشبيلية، مكان الشيخ أبي عبد الله ابن يحيى، الذي نقل إلى ولاية بسطة. ووُلّى السيد أبا محمد عبد الواحد بن يوسف ابن عبد المؤمن على مدينة شلب وبلاد غربي الأندلس، والشيخ أبا يحيى بن أبي سنان على مدينة بطليوس وجهاتها. وندب أبا عبد الله بن عبد السلام الكومي لقيادة أسطول سبتة. وفي نفس العام وصل إبراهيم بن الفخار اليهودى رسول ¬_______ (¬1) رحلة التجاني ص 354 - 356، وابن خلدون ج 6 ص 195 و 248.

ألفونسو التاسع ملك قشتالة ووزيره، إلى مراكش، يطلب تجديد المهادنة. فلما ترامت الأنباء بسقوط تونس في يد الميورقي، واشتداد عيثه وبطشه بأنحاء إفريقية، وعقد الخليفة الناصر عزمه على محاربته والقضاء على سلطانه، أعدت حملة موحدية جديدة للسير إلى إفريقية، وصدرت الأوامر إلى الأسطول بالسير من سبتة إلى مياه إفريقية، وعين لقيادة وحداته أبويحيى بن أبي زكريا الهزرجى. وكان يحيى الميورقي في ذلك الوقت بالذات، ما يزال ينزل ضرباته بمختلف أنحاء إفريقية، وكان بعد أن قام بإخماد ثورة أهل جبل نفوسة، قد سار إلى ناحية طرّة قاعدة بلاد نفزاوة لإخماد ثورتهم أيضاً، فاقتحم أحياءهم، واشتد في معاقبتهم، وقتل جنده كثيراً منهم، وأضرموا النار في دورهم، ثم سار إلى حمة مطماطة، ففعل بأهلها مثل ذلك، وضجت هذه الأنحاء كلها من سفكه وشديد عيثه (¬1). هذا وبينما الميورقي سادر في هذا العيث والسفك، إذ بلغته الأنباء باقتراب القوات الموحدية، وعلى رأسها الخليفة الناصر. وكان الناصر قد غادر مراكش على رأس قواته في أواسط جمادى الآخرة سنة 601 هـ (فبراير سنة 1205 م) وسار إلى رباط الفتح قاعدة تجمع الجيوش الموحدية. ثم غادر رباط الفتح في قواته متجهاً صوب إفريقية، وكانت وحدات الأسطول الموحدي، تسير في نفس الوقت بحذاء الشاطىء، صوب بجاية وتونس، بقيادة أبي يحيى بن أبي زكريا الهزرجى. فلما علم الميورقي باقتراب الأسطول الموحدي من تونس، ووصول الجيش الموحدي إلى بجاية، وأدرك أنه لا قبل له بالصمود أمام هذه القوي الجرارة جمع أمواله وذخائره، وأرسلها إلى المهدية، لتكون تحت حراسة ابن عمه على ابن الغانى، ثم بادر بإخلاء تونس، وارتد في قواته جنوباً، فوصل إلى القيروان وأقام بها أياماً، وهو يجد في الأهبة، ثم سار إلى قفصة، وهنالك استدعى طوائف العربان، وبذل لهم الأموال والوعود، وأخذ مواثيقهم ورهائنهم على مناصرته والقتال معه. ووقف الموحدون على انسحاب الميورقي من تونس، فنزلتها القوات البحرية الموحدية، وقتلوا كل من وجدوه بها من أتباع الميورقي، وأصدر قائد الأسطول الأمان لأهلها. ولما علم الناصر باستيلاء قواته على تونس، وفرار الميورقي في قواته نحو الجنوب، سار في أثره ¬_______ (¬1) رحلة التجاني ص 356.

صوب قفصة. فسار الميورقي في قواته إلى جبل دمّر، وتحصن به. وسار الناصر إلى قفصة، فأقام بها أياماً، ثم توجه إلى قابس وندب لها عاملا من قبله. وكان يحيى الميورقي قد قرر أن يركز مقاومته الأخيرة في المهدية، فضاعف تحصيناتها، وشحنها بطائفة من قواته المختارة، ووكل الدفاع عنها لابن عمه علي بن الغازى. واستعد هو للقاء القوات الموحدية بمكانه الحصين من جبل دمّر، وقرر الموحدون من جهة أخرى مطاردة الميورقي في مركزى مقاومته في وقت واحد، فسار الناصر بنفسه لمحاصرة المهدية، وطوقها بقوات كثيفة من الموحدين والعرب، ونصب عليها المجانيق، وسار إليها الأسطول الموحدي ليحاصرها من ناحية البحر. وبعث الناصر في نفس الوقت جانباً من القوات الموحدية يحتوى على أربعة آلاف فارس بقيادة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص لمقاتلة الميورقي في جبل دمّر، فلما أشرف الموحدون على محلته، وشهد ضخامة عددهم، أراد الفرار بقواته في البداية، ولكن ضباطه شجعوه على الثبات وخوض المعركة، فنشبت بين الفريقين فوق جبل صغير يعرف برأس تاجْرَا، على مقربة من وادي مجسر، جنوب شرقي قابس (¬1) معركة دموية عنيفة، استمرت نحو ثلاث ساعات ودارت فيها الدائرة على الميورقي وأصحابه، فقتل وأسر معظمهم، وكان بين القتلى أخوه جبارة، وكاتبه علي بن اللمطى، وعامله الفتح بن محمد؛ وفر يحيى مع جماعة قليلة من صحبه، وكان قد ترك ولده وأهله في موضع بعيد عن مكان المعركة فصحبهم في فراره، وأنقذوا بذلك من الأسر، واستطاع الشيخ أبو محمد القائد المظفر أن ينقذ السيد أبا زيد وأصحابه أحياء من أسر الميورقي، وكان الموكل بالسيد أبي زيد على وشك أن يجهز عليه، واستولى الموحدون على محلة الميورقي، ورايته العباسية السوداء، وسائر ما كان بالمحلة من الأموال والأسلاب والإبل، وكانت غنيمة وافرة تحتوي على ثمانية عشر ألفاً من أحمال المال والمتاع والآلات، وحمل ذلك كله إلى الخليفة الناصر، وهو تحت أسوار المهدية، وكان بين الأسرى الأمين الموكل بثقاف السيد أبي زيد، فشهر به فوق جمل عال، وبيده الراية السوداء؛ ووقعت هذه الهزيمة الساحقة بالميورقي بجبل تاجْرا في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول سنة 602 هـ (17 أكتوبر سنة 1205 م) (¬2). ¬_______ (¬1) تراجع خريطة إفريقية المنشورة في ص 163 ففيها بيان لمواقع هذه المعركة. (¬2) رحلة التجاني ص 357 - 359، وروض القرطاس ص 123 و 124، والبيان المغرب القسم الثالث ص 220 و 221، وراجع أيضاً: A. Bel: Les Benou Ghania, p. 129

وكان الموحدون في تلك الأثناء يضاعفون جهودهم للضغط على المهدية، وإرغامها على التسليم. وكان يحيى الميورقي، توقعاً لهذا الحصار، قد بالغ في اتخاذ الأهبة، وشحن المهدية بالرجال والمؤن. وكان حاكم المدينة علي بن الغازى جندياً جريئاً، ومدافعاً قوي الشكيمة، فبذل جهوداً عنيفة لرد المحاصرين، وخرج لقتالهم عدة مرات، وفي كل مرة يوقع بهم ويحرق مجانيقهم وآلاتهم ويسبب لهم خسائر شديدة، واضطر الموحدون إزاء ذلك إلى الإكثار من المجانيق والآلات، وإعداد السلالم والأبراج العالية للإشراف على المدينة، ومضاعفة الحشود حولها، واستمر الأمر على هذا المنوال، حتى وقعت معركة رأس تاجْرا، وهزم يحيى وألجىء إلى الفرار، وحمل الموحدون الغنائم والعلم الأسود إلى الناصر تحت أسوار المهدية، وقاموا بتبريز الغنائم، وتوزيعها بمشهد ظاهر من أهل المدينة المحصورة، ومع ذلك فإن الغازى وصحبه لبثوا حيناً غير مؤمنين بهزيمة يحيى، واستمرت المعارك بينهم وبين المحاصرين وقتاً، وجمع الناصر المجانيق على جهة واحدة من السور، وشدد في ضرب المدينة، فكثر القتلى والجرحى من أهلها، واضطر الغازى وصحبه أخيراً إلى طلب الأمان والتسليم، على أن يُسمح لهم باللحاق بيحيى، فوافق الناصر على طلبهم، وسلمت المدينة للناصر في اليوم السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 602 هـ (11 يناير سنة 1206 م) وغادر علي بن الغازى - وكان الموحدون يسمونه بالحاج الكافر - المدينة مع صحبه، ونزل بموضع قريب منها بنية اللحاق بيحيى، ولكنه عاد في اليوم التالي، فعدل عن هذه النية، وبعث إلى الناصر يعلن طاعته ودخوله في الدعوة الموحدية، فاغتبط الناصر بتوحيده، واستدعاه إليه، وغمره بعطفه وإكرامه، وصحبه معه فيما بعد إلى مراكش، ولما عبر الناصر البحر بعد ذلك إلى الأندلس بقصد الجهاد، سار علىٌّ معه، واشترك مع الموحدين في معركة العقاب، وقتل ضمن من قتل منهم (¬1). وفي يوم عشرين من جمادى الأخرى، غادر الناصر المهدية، بعد أن عفا عن سائر أهلها، من المقاتلين وغيرهم، وأمر بترميم أسوارها، وتنظيم أمورها، وعين لها والياً هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن يغمور الهنتاني، وعين لولاية طرابلس عبد الله بن إبراهيم بن جامع. ثم سار إلى تونس، ومنها أصدر كتب الفتح، واستقر بها بقية عام اثنين وستمائة، ومعظم العام التالي. ¬_______ (¬1) رحلة التجاني ص 358 و 359، وروض القرطاس ص 153 و 154، والبيان المغرب القسم الثالث ص 220 و 221 و 223.

- 4 - وهكذا انتهت هذه المعركة العنيفة الشاملة، بسحق يحيى بن إسحاق الميورقي، وسحق سلطان بني غانية في إفريقية، واسترداد الموحدين لسلطانهم وهيبتهم، في تلك المناطق الغنية الآهلة. وكان قد مضى نحو ربع قرن، منذ نفذ بنو غانية أصحاب الجزائر الشرقية، مشروعهم في مهاجمة إفريقية، واتخاذها مسرحاً للصراع ضد الموحدين خصوم الدولة المرابطية والمنتزعين لتراثها، ومنذ استولى عميدهم علي بن إسحاق بن غانية الميورقي، على ثغر بجاية في سنة 580 هـ (1184 م) في أوائل عهد الخليفة المنصور. وقد تتبعنا حركات بني غانية ومغامراتهم في إفريقية من ذلك التاريخ، وأتينا على فتوحاتهم المتوالية للقواعد والثغور الإفريقية، وعلى ما نشب بينهم وبين الموحدين، في مختلف المواطن والتواريخ، من معارك مريرة مستمرة. ولقد كان بنو غانية رجال حرب وسياسة معاً، يبغون افتتاح الأقطار، وبسط السيادة والسلطان على ما يفتحونه من الأراضي، ولكن كانت تحفزهم إلى خوض هذه المعارك مع الموحدين مشاعر ومثلٌ خاصة، فقد كانت تجثم وراء هذه المعارك والفتوحات المتوالية، إلى جانب شهوة السلطان والملك، رغبة مضطرمة في تقويض أسس الدعوة الموحدية، والقضاء على سلطان الموحدين. وكانوا يرون الدعوة الموحدية، دعوة ختل وخداع، ويعتبرون الموحدين غاصبين آثمين، استولوا بغير حق ولا سند شرعى، على تراث الدولة المرابطية غدراً وظلماً، ويعتبرون المرابطين سادتهم وحماتهم الأوائل، وبنى قبيلهم وجلدتهم، مجاهدين شهداء، يجب الانتقام لهم، والانتصاف لحقهم المغصوب. كانت هذه العواطف والمثل هي التي تحرك بني غانية في البداية إلى شهر صراعهم ضد الموحدين في إفريقية، ولكنهم بعدما تحقق لهم الظفر في ذلك الصراع، وبعد أن استولوا على معظم القواعد والثغور الإفريقية، ونعموا بالملك والسلطان، وامتلأت أيديهم من الأموال والغنائم، تحولوا إلى فئة من المغامرين، تقصد قبل كل شىء إلى تحقيق الغُنم والسلطان بأى الوسائل، وتضاءل لون المعركة المذهبي والمثالى شيئاً فشيئاً، واستحال إلى صراع مادي على امتلاك ملك المنطقة الغنية الآهلة - إفريقية - وانتزاعها من أيدي الموحدين، لتغدو غنماً لبني غانية. وقد أسفر هذا الصراع عن تحقيق أمنية بني غانية كاملة، واستطاع

يحيى بن غانية، بعد فترة قليلة من مصرع أخيه علي بن غانية، أن يفتتح سائر القواعد والثغور الإفريقية - القيروان وسوسة والمهدية وصفاقس وقفصة وبلاد الجريد، وجبل نفوسة وطرابلس وغيرها، وانتهى أخيراً بأن افتتح تونس ذاتها، وتغلب على خصومه من الغز في المنطقة الشرقية، وسحق سائر الحملات الموحدية التي وجهت لقتاله، ولم يبق بيد الموحدين من إفريقية سوى بجاية، وما يليها من الشاطىء. على أن هذه المملكة العظيمة، التي استطاع يحيى بن غانية أن يبسط عليها سلطانه، لم تكن وحدة متماسكة متناسقة، فقد كان سكانها يتألفون من عناصر مختلفة متنافرة، من العرب والبربر، وكان من بينها في الجنوب في جبل نفوسة، وما يليه، طوائف من الخوارج لا تدين بالولاء لأحد. ولم يكن يحيى بن غانية بالرغم من براعته وبسالته كجندى وقائد، يتصف بشىء من المقدرة الإدارية والنظامية، ولم يستطع بالرغم من ظفره على خصومه في معظم المعارك التي خاضها، أن ينشىء في البلاد التي افتتحها أية نوع من الحكومة المنظمة، بل كان يجرى في حكمها على نوع من الارتجال الخطر، وكانت أساليبه في الحكم هي أساليب الطاغية المطلق، أعني حكم عسف وهوى، لا يعرف معنى للحق والعدل، فلم يكن ثمة في ظله ضمان للنفس أو الأموال أو الحرم، بل كان يتميز قبل كل شىء بالقتل والغصب واستباحة الحُرم، وعلى الجملة، فلم تكن حكومة الميورقي، وعماله في تلك الأقطار، سوى حكومة عصابات ناهبة تعتمد في تدعيم سلطانها على الإرهاب المطبق. وكان يحيى لا يدخر وسعاً في استلاب المال بكافة الوسائل، ينفق منه على حملاته ومشاريعه الحربية التي لا تنتهي، ويبذل الوفير لأحلافه من طوائف الأعراب القُلّب الذين لا يخبو لهم جشع. وقد رأينا ما كان من بالغ جشعه واشتطاطه في فرض الغرامات على أهل تونس، وجبل نفوسة، وما اقترن باقتضائها من رائع السفك والتقتيل. وقد كان حريًّا بمثل هذا الحكم أن يثير بغض سائر المحكومين ومقتهم وأن يحفزهم إلى ترقب انهياره والخلاص منه. وهكذا كان سلطان بني غانية، يقوم على بركان من البغض الخطر، الذي لا يلطف منه أي عطف أو ولاء. وبالرغم من أن حكم الموحدين لإفريقية لم يكن حكماً مثالياً، فقد كان على الأقل حكماً نظامياً، في معنى من المعانى، وكان بعيداً عن مثل هذه الفظائع، التي كانت تصم حكم

بني غانية باستمرار، ومن ثم فإنه لم يكن غريباً أن يتوق أهل المدن الإفريقية إلى عودة الحكم الموحدي، وأن يستقبلوا الجيوش الموحدية بالترحيب والرضى، وأن يبتهجوا لسقوط الميورقي وانهيار سلطانه. تلك هي الظروف والعوامل التي اجتمعت لتقوض سلطان بني غانية في إفريقية، ولتحول انتصارات يحيى الميورقي وفتوحاته، إلى حملات ناهبة غير مستقرة الدعائم، ولتجعل من حكمه لتلك المملكة الغنية الشاسعة، حكم عصابة مغامرة، ولتحمل إليه في النهاية عوامل الانهيار والسقوط. على أن يحيى الميورقي، بالرغم من هزيمته الساحقة في جبل تاجرا، ومن فقده لأمواله وعتاده، ومعظم صحبه، وفراره في فلوله شريداً إلى الصحراء الجنوبية، لم ييأس مع ذلك، ولم تتكسر نفسه الوثابة، ولم تخب قواه المعنوية، ولم يعتبرها كلمة الفصل النهائية، في معركته مع الموحدين، وسوف نراه عما قريب ينزل إلى ميدان النضال والصراع مرة أخرى، مزوداً بقوى جديدة، وآمال جديدة. - 5 - كان أهم ما عنى به الناصر خلال إقامته بتونس، هو أن يتخذ كل إجراء ممكن، لتأمين إفريقية، وتوطيد سلطان الموحدين بها، والحيلولة دون قيام أمر بني غانية مرة أخرى. وكان يحيى الميورقي على أثر هزيمته الساحقة في موقعة تاجرا، قد فر في فلوله حسبما تقدم إلى الواحات الجنوبية، بيد أنه لم يكن ثمة ما يدل على أنه قد سحق بصورة نهائية. ومن جهة أخرى فقد كانت توجد ثمة طوائف أخرى من البربر والأعراب في الجهات الجنوبية، دائبة الشغب والعصيان. ففي شهر صفر سنة 603 هـ، وجه الناصر وهو ما يزال بتونس حملة موحدية جديدة، تحت إمرة أخيه السيد أبي إسحق، إلى الأطراف الجنوبية لاستئصال أهل الشر والفساد، فسارت هذه الحملة، وهي تتقصى آثار " الأشقياء " شرقاً وغرباً، حتى وصلت إلى أحواز طرابلس، وقامت بردع بني دمر، ومطماطة، ووصلت إلى آخر جبال نفوسة، وهي تعمل على مطاردة العناصر المشاغبة وسحقها، ثم عادت إلى تونس بعد أن قامت بتأدية مهمتها، دون أن تلقى معارضة أو مقاومة (¬1). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 223 و 225.

على أن أنجع إجراء اتخذه الناصر لتأمين إفريقية هو إسناده ولايتها إلى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر الهنتاني، وهو الظافر في معركة تاجرا. وكان أبو محمد يومئذ عميد أشياخ الموحدين، وأعلاهم مكانة، وأشدهم نفوذاً لدى الخليفة. وكان يمت إلى الخليفة بصلة النسب الوثيق، إذ كان متزوجاً أخته إبنة الخليفة المنصور. وكان الناصر يثق بحكمته، وسديد رأيه ووافر مقدرته. وقد اعتذر أبو محمد بادىء ذي بدء عن قبول هذا المنصب، وشعر أنه نوع من الإبعاد له عن البلاط، والمشاركة في الجليل من الشئون، فبعث الناصر إليه ابنه وولىّ عهده الفتى يوسف، ليقنعه بالقبول. ويفصل لنا التجاني في رحلته، ما قاله ولى العهد للشيخ، وما نوه به من أهمية إفريقية، وما ضحى به الموحدون في سبيلها من المال والرجال، وأن الخليفة لم يجد عن اختيار الشيخ معدلا، وقد أكبر الشيخ حركة الخليفة ومقدم ولى عهده، فأبدى قبوله لولاية إفريقية، بشروط خلاصتها أنه لا يبقى في منصبه إلا بقدر ما تصلح أحوال إفريقية، وينقشع خطر الميورقي عنها، وهو يقدر لذلك ثلاث سنين، وأن يختار من قوات الجيش من يرى بقاءهم معه، وألا يُسئل عن تصرفاته كائنة ما كانت، وأن يُخير في أمر الولاة الذين اختارهم الخليفة لبلاد إفريقية، فيبقى من يشاء ويعزل من يشاء، فقبل الناصر كل شروطه. ثم أزمع الرحلة إلى المغرب، فغادر تونس في السابع من شهر شوال سنة 603 هـ، وصحبه الشيخ أبو محمد مدى ثلاثة أيام. وحدث عند خروج الناصر أن مثل بين يديه أهل تونس وأبدوا له خوفهم، من أن يعود الميورقي إلى عدوانه، بعد سفره، فاستدعى الناصر أعيانهم، وطمأنهم بوجود الشيخ أبي محمد على رأس الولاية، وأنه آثرهم بوجوده رغم شدة حاجته إليه، فاطمأن الناس لقوله واستبشروا بولاية الشيخ (¬1). وسار الناصر أولا إلى تلمسان، فوصل إليها في أوائل شهر ذي الحجة، واستقر بها وقتاً، وأنفذ منها الأوامر إلى ولاة إشبيلية وقرطبة وغرناطة وبسطة وألمرية ومرسية، لموافاته مع أتباعهم، وكان عند خروجه إلى غزوته في إفريقية، قد أمر بعزل السيد أبي إسحق عن ولاية إشبيلية، وقدم عليها أخاه السيد أبا موسى. وقضى أيام عيد النحر بتلمسان، وبقى بها حتى نهاية ذي الحجة، ثم غادرها إلى مدينة فاس، ونزل بها في أوائل شهر المحرم سنة 604 هـ، واستأنف بها النظر في ¬_______ (¬1) رحلة التجاني ص 361 و 362، وابن خلدون ج 6 ص 248 و 249.

الأعمال، وشكا إليه أهل فاس من مظالم عاملهم أبي الحسن بن أبي بكر، كما شكا إليه أهل مكناسة من مظالم عاملهم أبي الربيع بن أبي عمران، فأمر بالقبض عليهما، واستصفاء أموالهما، ثم رحل إلى مكناسة، ونزل بها في صفر، وأصابته هنالك وعكة، يبدو أنها كانت من أثر مرض وبائى فشا ببلاد الأندلس وانتقل إلى العدوة. فلما تماثل للشفاء، غادر مكناسة إلى رباط الفتح، فوصل إليها في شهر ربيع الأول، ثم رحل منها مباشرة، إلى مراكش، فوصلها بعد أيام قلاثل (¬1). وما كاد الناصر يستريح من وعثاء السفر، حتى عاد إلى النظر في الأعمال السلطانية، فقدم أبا محمد عبد العزيز بن عمر بن أبي زيد على الأشغال بالعدوتين المغرب والأندلس. وكان أبو سعيد بن جامع متولياً للوزارة، فبقى على ما كان عليه، وكانت تربطه بعبد العزيز بن أبي زيد روابط الصداقة. ووصل معظم العمال مع أتباعهم وكتابهم، وفقاً للأمر الصادر بذلك، وأخذ في تصفح أعمالهم ومراجعتها، وكان ممن وصل من العمال بالأندلس، يوسف بن عمر الكاتب ومؤرخ الخليفة المنصور، وكان يتولى النظر على بعض الأشغال المخزنية والسهام السلطانية، وكان قد لحقت بتصرفاته بعض الريب، فما كاد يقترب من الحضرة حتى أحيط بأحماله ومتاعه وقبض عليه وثقف، ثم فتحت أحماله وأمتعته بحضور الشهود وروجعت، فلم يوجد بينها شىء مما يدينه، فأمر الخليفة بإطلاق سراحه، ورد ماله ومتاعه إليه، وكان مما شفع له في ذلك عند الناصر، كتابه الذي ألفه في محاسن والده المنصور (¬2). وفي هذا العام توفي السيد أبو الربيع بن عبد الله بن عبد المؤمن والي بجاية، وكان قد قام بتجديدها عقب الحريق الذي أصابها وخرب كثيراً من ربوعها. وفي العام التالي أعني سنة خمس وستمائة أقيل السيد أبو الحسن بن عمر والي تلمسان لمرضه وعجزه عن ضبط الأمور، واضطراب قبائل زناتة في تلك المنطقة، وعين مكانه في الولاية السيد أبو عمران موسى أخو الخليفة، فقدم إلى تلمسان ومعه عسكر من الموحدين ليستعين بهم في ضبط الأمن والسكينة في تلك المنطقة. وفي تلك الأثناء كانت الحوادث في إفريقية قد عادت إلى اضطرامها، وعاد يحيى الميورقي إلى استئناف نشاطه ومغامراته. وكان مذ لحقت به ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 225 و 226. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 249، والبيان المغرب ص 227 و 228.

الهزيمة الساحقة، بجبل تاجرا، وارتد بفلوله إلى الجنوب، يرقب الفرص للانتقام واسترداد شىء من سلطانه الضائع. وكان ما يزال يلتف حوله بعض طوائف من حلفائه الأعراب، الذين بقوا إلى جانبه بالرغم من محنته. وقد أشرنا من قبل غير مرة إلى الدور الذي كانت تقوم به طوائف العرب في أرجاء إفريقية، من احتراف الحرب، والتقلب في محالفة مختلف الجهات. وكان بنو غانية يعتمدون بالأخص على معاونة العرب في سائر مشاريعهم الحربية. وكان يحيى الميورقي يجمع حوله كثيراً من حشودهم، ويأسرهم بوافر بذله، وإطلاق أيديهم كلما سنحت الفرص، في أعمال السلب والنهب. وكذلك كان الموحدون يعتمدون على بعض طوائف العرب في تزويد جيوشهم بفرق المرتزقة. فلما حلت الهزيمة بيحيى وتحطم سلطانه، تركه كثير من حلفائه العرب السابقين، وانضموا إلى جانب الموحدين الظافرين، وكان من هؤلاء بنو مرداس وبنو عوف من بطون بني سُليم، وكانت أحياؤهم تقع في المنطقة الممتدة من قابس نحو بونة، أما بنو زغبة فقد كانوا أصلا من خصوم بني غانية، ولم ينقطعوا عن محاربتهم قط، وكانوا دائماً إلى جانب الموحدين، ثم تحالفوا بعد ذلك مع بربر زناته الضاربين في المغرب الأوسط، واستمرت المصادمات بينهم وبين بني غانية. بيد أن يحيى استطاع بالرغم من محنته أن يستبقى إلى جانبه بالأخص، حشوداً كبيرة من رياح وسليم، ومن الزواودة من بطون رياح، وشيخهم محمد بن مسعود البلط لم يفارقه في ضرائه. فلما غادر الخليفة الناصر، تونس، وسار في معظم قواته صوب المغرب، في أواخر سنة 603 هـ، أخذ يحيى الميورقي، يتأهب للنهوض والحركة مرة أخرى، ثم سار على رأس جموعه نحو الشمال، وهو يعيث حيثما حل، وكان الشيخ أبو محمد الحفصى والي إفريقية ساهراً، يرقب عن طريق عيونه حركات الميورقي، فلما ترامت إليه الأخبار بتحركه، خرج في جيش من الموحدين والعرب، من بني عوف وسليم ومرداس، وسار تواً للقائه. والتقى الفريقان في منطقة تبيشة على ضفة وادي شبرو، واقتتل الفريقان بشدة وعنف، واستمرت المعركة طول اليوم، وأسفرت في النهاية عن ظفر الموحدين وهزيمة المرابطين الميورقيين ومن معهم من العرب، فارتد يحيى في فلوله وهو جريح، والموحدون في أثره، ولكنه استطاع أن يلحق بالصحراء في اتجاه طرابلس، واستولى الموحدون على

محلته وسائر عتاده وأسلابه ومتاعه، وكانت غنيمة وافرة، وتمت هذه الهزيمة على يحيى الميورقي في 30 ربيع الأول سنة 604 هـ (24 أكتوبر سنة 1207 م). ورجع أبو محمد إلى تونس مكللا بغار الظفر، وكتب إلى الناصر بالفتح، واستنجزه وعده في الإقالة من منصبه، فبعث إليه الخليفة يشكره ويعتذر له بانشغاله بشئون المغرب، ويرجوه الاستمرار في النظر، وبعث إليه بالمال والخيل والكسى للإنفاق والعطاء، وبلغ ما أرسله من المال وحده مائتي ألف دينار (¬1). على أن هذه الهزيمة الثانية لم تفت في عضد يحيى بن غانية، ولم تخمد لديه عزم التوثب والنضال، فجمع أشتات قواته مرة أخرى، ورأى تلك المرة، تجنباً للصدام مع أبي محمد، وتفادياً لضرباته القاصمة، أن يتجه نحو المغرب، فسار في جموعه من المرابطين وطوائف العرب، متجهاً صوب الجنوب الغربي، وهو يعيث قتلا ونهباً أينما حل، وتحالف مع بطون زناتة الضاربة في تلك الأنحاء، واستمر في سيره حتى وصل إلى واحات سجلماسة، ثم هاجم سجلماسة واقتحمها، ونهبها، وفرق الغنائم في أصحابه، وكانت وفيرة، فانتعشت نفوسهم. وكان وصول الميورقي على هذا النحو إلى أعماق المغرب، واقترابه من العاصمة الموحدية، مثار الدهشة والروع بين الموحدين، ونهض الشيخ أبو محمد في قواته مرة أخرى للقاء الميورقي عند العود، وبعث إلى والي تلمسان السيد أبي عمران موسى يحذره من مفاجآت الميورقي، وأن يتجنب لقاءه، وكان السيد أبو عمران قد خرج من تلمسان يجوس بين قبائل زناتة الضاربة في جنوبها، يسترضيهم، ويستميلهم إلى أداء الجبايات، والتزام الطاعة والسكينة. وكان بين قوات الميورقي كثير من بطون زناتة، الخوارج على طاعة الموحدين، فاتصل بهم زملاؤهم زعماء زناتة المقيمين في جنوبي تلمسان، وعرّفوا الميورقي بظروف السيد أبي عمران، وعدم استعداده وضعف قواته، وابتعاده عن مدينته المحصنة، فسار الميورقي نحو الشمال حتى اقترب من جنوبي تلمسان. وعلم السيد أبو عمران ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 196 و 278. وقد جاء في " العبر " أن مبلغ ما أرسله الخليفة من مال كان " مائة ألف ألف دينار ثنتان ". ومعنى ذلك أن المال بلغت جملته مائة مليون دينار. وهذا رقم يصعب تصديقه، ولا يتفق بأي حال مع تقديرات العصر وموارده. وربما كان هناك تحريف في النص.

بمقدمه وتردد وقتاً في لقائه. ولكن الميورقي لم يلبث أن فاجأه بجموعه من المرابطين والعرب. واضطر السيد أن يلقاه في قواته القليلة، وتكاثر المرابطون والعرب على القوات الموحدية، وفتكوا بها، وصمد السيد أبو عمران ومن معه، فقتلوا جميعاً، وأسر بعض بني السيد، والكاتب أبو الحسن بن عياش، وبعض طلبة تلمسان، واستولى الميورقي على المحلة الموحدية وسائر ما فيها من العتاد والسلاح والخيل، واقتحمت مدينة تاهَرْت ونهبت وخربت حتى غدت أطلالا (605 هـ - 1209 م)، وانتشرت جنود الميورقي من المرابطين والعرب في أحواز تلمسان ونهبوها، وانتسفوا زروعها، فارتاع أهل المدينة، وأغلقوا أبوابها، وهم يتوقعون أسوأ مصير، وبادر السيد أبو زكريا يحيى والي فاس في قوة من الموحدين، فوصل مسرعاً إلى تلمسان، وطمأن أهلها وسكن روعهم. وأمر الناصر في نفس الوقت بتجهيز حملة كبيرة من قوات مختارة، زودت بوافر العدد والأقوات، وعين لولاية تلمسان الوزير أبا زيد بن يوجان، وقدّمه على العسكر، فسار ابن يوجان في قواته إلى تلمسان، وعلم يحيى الميورقي بهذه الاستعدادات الضخمة كلها، فغادر منطقة تاهرت في قواته، وقصد إلى الصحراء متجهاً نحو طرابلس، ومعه محمد بن مسعود شيخ الزواودة، وطوائف رياح وسليم وغيرهم (¬1). ولم يمض قليل على ذلك حتى اعتزم يحيى بن غانية أن يستأنف غاراته. وكانت نفسه قد قويت بما أحرز من نصر في تاهرت، وانتعشت جموعه لما أحرزت من المال والغنائم، وكان حلفاؤه العرب من جهة أخرى يتوقون إلى استئناف العيث والنهب، وهو قوام أطماعهم، ومورد عيشهم، وقد تضخم جيش يحيى بما انضم إليه من طوائف جديدة من الغز والعرب، جاءت لتبحث عن طالعها، ولتغتنم فرص الكسب، وكان من هؤلاء رياح وزغبة وعوف ودباب ونعات وغيرهم، هذا إلى الزواودة وشيخهم محمد بن مسعود. وكان يحيى ينوى هذه المرة أن يعود إلى مهاجمة أراضي إفريقية ذاتها. ولم تكن نيات الثائر بخافية على أبي محمد بن أبي حفص والي إفريقية اليقظ الحازم. فبادر بحشد قواته، معتزماً أن يبادر الميارقة وحلفاءهم قبل أن يخترقوا إفريقية، وخرج من تونس ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 229 و 230، وابن خلدون ج 6 ص 249 و 278. وراجع أيضاً: A. Bel: Les Benou Ghania, p. 148 & 149

سنة ست وستمائة، في جيش كثيف وافر العُدة، وسار جنوباً نحو قابس، ثم اتجه نحو جبل نفوسة، حيث كان يحتشد المرابطون وحلفاؤهم العرب. والتقى الفريقان في موضع من جبل نفوسة، وأقام أبو محمد محلته مزودة بالفساطيط والأبنية، حتى لا تكون ثمة أية فكرة في التراجع. ثم اشتبك الفريقان في معركة عنيفة دامية، فانكشفت ميسرة الموحدين في البداية، وولي من كان بها من الغُز والأعراب منهزمين، وثبت الشيخ أبو محمد في القلب مع الموحدين والحفاظ، وانحازت إليه بعض طوائف من بني عوف وبنى سليم، واستمر القتال طول اليوم على أشده، وأسفر في النهاية عن هزيمة المرابطين وحلفائهم، وطارد الموحدون الجيش المنهزم، وأمعنواً فيه قتلا وأسراً، ولم ينقذهم من الفناء الشامل سوى دخول الليل، واستولى الموحدون على محلة الميورقي، وسائر ما بها من الأسلاب والغنائم، واستولوا كذلك على ظعائن العرب وغنائمهم التي كانوا يحتفظون بها، وذكر ابن خلدون نقلا عن ابن نجيل كاتب أبي محمد أن أحمال الغنائم في هذه الموقعة بلغت ثمانية عشر ألفاً، وكان بين القتلى محمد بن مسعود شيخ الزواودة، وابن عمه حركات بن أبي الشيخ، وشيخ بني قرة، وشيخ مغراوة، ومحمد بن الغازى ابن غانية، وكثيرون من أنجاد بني رياح وبنى هلال. وكانت ضربة ساحقة ليحيى ابن غانية، وحلفائه، تضارع في عنفها وأهمية نتائجها ضربة جبل تاجرا، وفر يحيى في فلٍّ من صحبه، وقد هدته النكبة، وأوقعت في قلبه اليأس، وارتد أبو محمد في قواته إلى تونس مكللا بغار الظفر، وكتب إلى الخليفة الناصر بالفتح، فقرىء كتابه بالمسجد الجامع، وجلس الناصر لتقبل الهناء والاستماع لمدائح الشعر (¬1)، وكان منها قصيدة لأبي عبد الله بن يخلفتن الفازازى هذا مطلعها: هذه فتوح تفتحت أزهارها ... وتدفقت ملء الملا أنهارها وتأرّجت نفحاتها وتبرجت ... صفحاتها وتبلجت أنوارها وأتت بشائرها إليك سوافرا ... عن أوجه يا حبذا إسفارها ولم ينس أبو محمد ما قام به عرب سليم من محالفة الميورقي والقتال إلى جانبه، فاخترق ديارهم خلال عوده، وأمر بالقبض على زعمائهم، وأرسلهم مصفدين إلى تونس، فكان لتصرفه وقع عميق في تلك المنطقة، التي كثر فيها تقلب ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 231 و 232، وابن خلدون ج 6 ص 196 و 278.

الأعراب وفسادهم. وبالعكس عومل العرب الذين وقفوا إلى جانب الموحدين بالرعاية والإحسان، ووزعت عليهم أراض شاسعة خصبة في وادي القيروان. وكان أهل جبال نفوسة قد أرهقهم ابن عصفور نائب يحيى بجوره، وأثقل كاهلهم بالمظالم والفروض، فما كادت تقع الهزيمة على الميورقي، حتى وثبوا بابن عصفور فقتلوه ومعاونيه من المرابطين، كما قتلوا ولدين ليحيى. وعكف أبو محمد بعد نصره الحاسم على معالجة شئون إفريقية، بما عرف عنه من الحزم والبراعة، فقمع كل صنوف الفساد والشغب، ووطد دعائم السكينة والنظام، واستوفى فروض الجباية من سائر الطوائف، فازدهرت في ظله بلاد إفريقية، وعمها الأمن والرخاء، وذاع اسم أبي محمد، واشتهر أمره، وسمت مكانته، حتى غدا ثانى رجل في الدولة بعد الخليفة ذاته، وكان العمل الذي اضطلع به ونجح في تحقيقه، وهو إخماد ثورة بني غانية، وتحرير إفريقية من نيرهم، وردها إلى سلطان الموحدين، وذلك في فترة يسيرة لا تتجاوز خمسة أعوام أو ستة، من أعظم الأعمال العسكرية والسياسية، التي استطاعت الدولة الموحدية أن تقوم بها في مدى ربع قرن، مذ نزل بنو غانية بإفريقية لأول مرة. ولم يكن ذلك عملا هيناً ولا ميسوراً إزاء ما كان يتصف به علي بن غانية وأخوه يحيى، وبقية هذه العصبة، من الجرأة والبسالة وشدة المراس. وكان توطيد سلطان الموحدين بإفريقية على هذا النحو، عمل إنقاذ وقى الدولة الموحدية كثيراً من أخطار التمزق والتفكك، التي كانت تتعرض لها، من جراء تغلب بني غانية على جزء من أهم أراضي الدولة، وعجزها عن رد عدوانهم. واستمر أبو محمد بن أبي حفص عدة أعوام أخرى حتى وفاته في سنة 618 هـ (1221 م) يسيطر على مصاير إفريقية، ويسهر على سلامتها وأمنها، ويوطد شئونها بمقدرة فائقة، فهل كان عندئذ يضمر أو يدور بخلده أنه إنما يمهد بهذا التوطيد لسلطان عقبه، وتأسيس أسرته الملوكية المستقلة، التي قامت بعد ذلك بقليل، في هذا القطر من أقطار الإمبراطورية الموحدية؟ (¬1). أما يحيى بن غانية فقد لبث بعد نكبته الأخيرة في جبل نفوسة، ملتجئاً مع فلوله إلى الصحراء الجنوبية، يلوذ مؤقتاً بأهداب السكينة، ويرقب الحوادث. بيد أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى انفصل عنه أخوه سير بن إسحاق بن غانية، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 279. وراجع أيضاً A. Bel: Les Benou Ghania, p. 152 - 154

وكان ممن شهد معه غزوة تلمسان، وسار إلى تونس ملتجئاً إلى الشيخ أبي محمد، لائذاً بطاعة الموحدين، فأكرم الشيخ مثواه، ثم استأذنه في السفر إلى الحضرة فأذن له، واستقبل هناك بالمودة والترحاب (سنة 607 هـ). وفي خلال ذلك كان الخليفة الناصر عاكفاً على معالجة الشئون الإدارية، والنظر في أعمال الولايات. وكان كثير التغيير والتبديل للولاة ورجال الدولة. ومن ذلك أنه في سنة خمس وستمائة، أقال أبا يحيى بن الحسن بن أبي عمران من الوزارة، وألزمه أن يبقى في داره، ثم عينه بعد ذلك والياً لميورقة مكان السيد أبي عبد الله بن أبي حفص، وعين السيد أبا عبد الله والياً لبلنسية، وقدم للوزارة أبا سعيد ابن أبي إسحاق بن جامع مكان أبي زيد بن يوجان. ثم عين أخاه السيد أبا إسحق والياً لإشبيلية، وأخاه السيد أبا محمد والياً لشرقى الأندلس، والشيخ أبا عمران بن ياسين الهنتاني والياً لمرسية، مكان أبي الحسن بن واجاج، وعين السيد أبا زيد والياً لجيان، وأبا عبد الله بن أبي يحيى بن الشيخ أبي حفص والياً لغرناطة. وعين لكتابة الديوان الكاتبين أبا محمد بن الحسن، وأبا عبد الله بن منيع، وكان كلاهما من الكتاب المجيدين، واختص الأول بكتب التوقيعات والظهائر، واختص الثاني بديوان العسكر، والتنفيذات السلطانية. وكذلك تناولت هذه التعيينات شئون القضاء فعُزل القاضي أبو عبد الله الباجى عن قضاء إشبيلية، وعُين مكانه أبو محمد عبد الحق بن عبد الحق. وعُين لقضاء قرطبة ابن حوط الله، مكان أبي علي بن أبي محمد المالقي، واستدعى أبو علي إلى الحضرة حيث قُدم على طلبة الحضر، وهو المنصب الذي كان يتولاه أبوه وإخوته من قبل. وعُين أبو إبراهيم ابن يغمور لقضاء بلنسية. وندب القائد أبو عبد الله بن عيسى المرسى لقيادة قوات الغرب بشلب، ونُدب أبو الجيش محارب لاستقبال ملوك الروم وسفرائهم، والاشتغال بإنزالهم وضيافتهم، والترجمة عنهم، مكان ابن عوبيل، وهي وظيفة مستحدثة في البلاط الموحدي، ولم يسبق أن وقفنا على ذكرها من قبل ضمن مناصب الإدارة الموحدية. ووقعت هذه التغييرات والتعيينات كلها في عام واحد، هو سنة 607 هـ (1210 م) (¬1). ووقعت بالمغرب في هذا العام عدة حوادث أخرى تستحق الذكر، منها ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 230 و 231 و 233 و 234، وابن خلدون ج 6 ص 249.

مصرع ابن عطية الزناتى، أحد رؤساء زناتة الخوارج في منطقة تلمسان الجنوبية، وكان ممن تحالف مع ابن غانية حين غزوته لمنطقة تلمسان، فدس إليه ابن يوجان والي تلمسان من اغتاله بمقره. وفي هذا الحادث ما يدل على أن الاغتيال السياسي، كان من وسائل الموحدين في القضاء على خصومهم. ومنها أن الشيخ أبا محمد قام بغارة على أحياء الخوارج والمشاغبين من بني سليم، واستاق أشياخهم وأموالهم، وجعلهم رهينة لديه في تونس، حسماً لفسادهم وشغبهم، وإرغامهم على قطع إمدادهم ومعاونتهم لابن غانية، ومن جهة أخرى فقد قام محمد بن عبد السلام عامل طرابلس بغارة على منطقة جبل نفوسة واقتحم بها قصراً، ألفى فيه جملة من ثمين المتاع والأموال لبني غانية، ووطد أسباب الهدوء في تلك المنطقة. وكان من أهم الحوادث في هذا العام أيضاً، الحريق الكبير الذي وقع بمراكش، وكان وقوعه في ليلة يوم الخميس الثالث عشر لجمادى الأولى، والناس يرقدون في مضاجعهم. وشبت النار أولا في حى القيسارية، وانتشرت بسرعة، وأتت على الحى كله، فشب الناس مذعورين من نومهم، وكثر الصراخ والاستغاثة، ونهض الخليفة الناصر على الضجيج وغادر قصره مسرعاً، واعتلى صومعة الجامع ليشهد تغلغل النار عاجزاً. واقتحم الغوغاء كثيراً من الدروب، وسلبوا ما استطاعوا سلبه مما سلم من الحريق، واستمر الحريق حتى صباح اليوم التالي، وقد أتى على كثير من أحياء المدينة. وأمر الناصر في اليوم التالي، بتتبع السفلة الناهبين، واسترداد ما يمكن استرداده منهم، فقبض على كثيرين من هؤلاء وأعدموا على الأثر. وهلك في تلك النكبة كثير من الأموال والدور، وافتقر كثير من ذوى اليسار، وفقدوا دورهم وثرواتهم. وأمر الناصر بأن يعاد تشييد الأحياء المحترقة بأحسن مما كانت عليه، خصوصاً وقد كانت تواجه القصر الخليفى يسبغ عليها أضواءه (¬1). هذا ويذكر لنا صاحب البيان ضمن حوادث هذا العام، أعني عام 607 هـ، حادثاً يستوقف النظر، وهو أن بعض أعيان جزيرة صقلية ووجوهها، وفدوا على الشيخ أبي محمد بن أبي حفص بتونس، ونبأوه بأن المسلمين في صقلية انتزعوا كثيراً من المعاقل من أيدي الروم، وأقاموا الخطبة في بلادهم بالدعوة المهدية الموحدية، وقطعوا ما سواها من الدعوات من عباسية وغيرها. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 234 و 235.

ويبدو من تتبع تاريخ صقلية، في تلك الفترة أن الأقلية الإسلامية التي كانت بالجزيرة حتى هذا العهد، كانت تعانى من الضغط والاضطهاد. وكان المسلمون مذ سقطت الجزيرة في أيدي الأمراء النورمان في سنة 479 هـ (1086 م)، يتمتعون بطائفة من الحقوق والامتيازات، ومنها السكنى في بعض الأحياء، والأراضي، في مسينى، وبلرم، وترابانى، وجرجنت، ومازرة، وغيرها من المدن، ومزاولة شعائرهم الدينية في مساجدهم القليلة الباقية، ومزاولة مهنهم وأعمالهم السلمية. واستمر الأمر على ذلك نحو قرن، في ظل عدة متعاقبة من الأمراء النورمان ذوى التسامح المستنير، وفي مقدمتهم ولد فاتح الجزيرة، الدوق روجر (رجّار) الثاني، وهو الذي أسبغ رعايته على الشريف الإدريسي، وعهد إليه بوضع موسوعته الجغرافية الشهيرة " نزهة المشتاق ". فلما توفي في سنة 1154 م، خلفه ولده وليم الأول (غليام)، فولده وليم الثاني. وفي عهد هذا الملك، اشتدت وطأة الحكم على المسلمين وأراد أن ينزع منهم بعض الأراضي التي يحتلونها ليعطيها لبعض الأديرة المجاورة، فقام المسلمون ببعض ثورات محلية، واستولوا على بعض الحصون النصرانية، والظاهر أن الملك وليم، عدل بعد ذلك عن سياسة الضغط والقمع التي حاول أن يتخذها إزاء المسلمين، وعاد الصفاء يخيم على علائق المسلمين والنصارى. وقد أورد لنا الرحالة الأندلسي ابن جبير وصفاً دقيقاً لأحوال مسلمى صقلية في عهد الملك وليم (ويسميه غليام) مما وقف عليه حين زيارته للجزيرة في شهر رمضان سنة 580 هـ (يناير سنة 1185 م)، وقد زار منها عدة مدن مثل مسينه، وبلارمه (بلرم)، واطرابنش، واجتمع فيها بالمسلمين، ووقف على أحوالهم. وهو يقول بصفة عامة، إن المسلمين يعيشون مع النصارى على أملاكهم وضياعهم، وأن النصارى قد أحسنوا السيرة في استقبالهم واصطناعهم، وضربوا عليهم إتاوة يؤدونها في فصلين من العام، وحالوا بينهم وبين سعة في الأرض كانوا يجدونها، ثم يقول لنا، إنه لم يكن في مسينه إلا نفر يسير من المسلمين من ذوى المهن. وأما بلرم، وهي عاصمة الجزيرة، ففيها كثير من المسلمين وفيها سكنى الحضريين منهم، ولهم فيها المساجد، والأسواق المختصة بهم في الأرباض كثير، وسائر المسلمين بضياعها وجميع قراها، وسائر مدنها كسرقوسة وغيرها. وللمسلمين في بلرم " رسم باق من الإيمان يعمرون به أكثر مساجدهم، ويقيمون الصلاة بآذان

مسموع، ولهم أرباض قد انفردوا فيها بسكناهم عن النصارى، والأسواق معمورة بهم، وهم التجار فيها، ولا جمعة لهم بسبب الخطبة المحظورة عليهم، ويصلون الأعياد بخطبة دعاؤهم فيها للعباسى. ولهم بها قاض، يرتفعون إليه في أحكامهم، وجامع يجتمعون للصلاة فيه. وأما المساجد فكثيرة لا تحصى، وأكثرها محاضر لمعلمى القرآن، وبالجملة فهم غرباء عن إخوانهم المسلمين، تحت ذمة الكفار، ولا أمن لهم في أموالهم ولا في حريمهم، ولا في أبنائهم، تلافاهم الله بصنع جميل " (¬1). وهذه العبارة الأخيرة من أقوال ابن جبير، تلخص لنا حقيقة أحوال المسلمين في صقلية في أواخو القرن السادس الهجرى (الثاني عشر الميلادى). ذلك أنه بالرغم من تلك الامتيازات الشكلية في السكنى والتجارة ومزاولة الشعائر، فإنه لم يكن ثمة شك في أن الأقلية المسلمة كانت تعيش داخل الجزيرة ذليلة مضطهدة. وهذا ما يفصله لنا ابن جبير بعد ذلك، إذ يقول إنه خلال إقامته ببلدة إطرابنش، " تعرف ما يؤلم تعرفه من سوء حال أهل هذه الجزيرة مع عباد الصليب بها، وما هم عليه من الذل والمسكنة، والمقام تحت عهد الذمة، وغلظة الملك، إلى طوارىء دواعى الفتنة في الدين ". ثم يقول لنا، إنه التقى في هذه البلدة بزعيم مسلمي صقلية، وهو القاسم بن حمود المعروف بابن الحجر وهو من ورثة أهل السيادة، وكان من خيرة مسلمي الجزيرة كرماً ومآثر، وكان قد اتهم بمخاطبة الموحدين، واضطهد من أجل ذلك، وغرم أموالا طائلة. ويزيد ابن جبير على ذلك، أنه وقف من هذا الزعيم، على بواطن أحوال مسلمي الجزيرة مع أعدائهم " مما يبكى العيون دماً، ويذيب القلوب ألماً " (¬2). ويحدثنا ابن جبير عن الملك وليم (غليام)، فيقول إنه عجيب في حسن السيرة، واستعمال المسلمين، وإنه كثير الثقة بهم، وساكن إليهم في أحواله، والمهم من أشغاله، وله جملة من العبيد المسلمين وعليهم قائد منهم. ثم يصف لنا فخامة قصوره، وتناهيه في الترف ورفاهة العيش، وشغفه باتخاذ الفتيان والجوارى، وأنه يقرأ العربية ويكتبها، وأهل عمالته في ملكه منهم مسلمون. ولما توفي الملك وليم الثاني في سنة 1189 م، وخلفه في حكم صقلية الإمبراطور فردريك الثاني، أول حكامها من آل هوهنشتاوفن، عاد فانتزع من المسلمين ¬_______ (¬1) رحلة ابن جبير (القاهرة 1955) ص 314 و 323. (¬2) رحلة ابن جبير ص 332 و 333.

كثيراً من أراضيهم وأعطاها للكنيسة، وكان ذلك في سنة 1208 م (605 هـ) (¬1) والظاهر أن المسلمين عادوا يومئذ إلى الثورة، وانتزعوا بعض الحصون النصرانية مرة أخرى. ويبدو من مقارنة التواريخ، أن هذه هي الحوادث التي يشير إليها وفد المسلمين الصقليين إلى الشيخ محمد الحفصى. على أنه يبدو كذلك أنه لم يترتب على مسعى هذا الوفد أي أثر، وأن الموحدين لم يفكروا في التدخل في حوادث صقلية بأية صورة. وسنرى فيما بعد أن هذا الصراع يتجدد في صقلية بين المسلمين وحكامهم النصارى، ثم ينتهي بإخماد كل نزعة تحريرية للمسلمين، وإخراجهم من ديارهم. ¬_______ (¬1) راجع: M. Amari: Storia dei Musulmani di Sicilia (Fierenze 1872) p. 586 & 591.

الفصل السادس موقعة العقاب

الفصل السادس موقعة العقاب انشغال الموحدين بحوادث إفريقية عن شئون الأندلس. سكون الممالك النصرانية منذ الأرك. شعورها بسنوح الفرصة لاستئناف الغزو. انتهاء الهدنة بين قشتالة والموحدين. إغارة ألفونسو الثامن وفرسان قلعة رباح على أراضي الأندلس. إغارة ملك أراجون على أراضي بلنسية. اهتمام الناصر لتلك الحوادث. اعتزامه العبور للجهاد واستنفاره للقبائل. خروج الناصر في قواته إلى رباط الفتح. مسيره إلى قصر كتامة. صعوبة تموين الجيش. مؤاخذة العمال المقصرين. عبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة. عبور الناصر ومسيره إلى إشبيلية. الاستعداد وحشد الجند في سائر الكور. خروج الناصر في الجيوش من إشبيلية إلى قرطبة. مسيره إلى قلعة شلبطرة. أحوال الممالك النصرانية عندئذ. الصلح والتهادن بينها. عدوان ملك قشتالة على الأندلس. اتخاذ قلعة شلبطرة قاعدة لهذا العدوان. غارات أراجون في الشرق. البابوية والصفة الصليبية لحروب النصارى ضد الأندلس. سعى البابا إنوصان لمعاونة ملك قشتالة. صدى مقدم الجيوش الموحدية. حصار الناصر لقلعة شلبطرة. عجز ألفونسو عن إنجادها وتسليمها بالأمان. رواية صاحب روض القرطاس عن الحصار. ما ينقض هذه الرواية. عود الناصر إلى إشبيلية. أهبة ملك قشتالة. معاونة البابا والأحبار النصارى. احتشاد جماعات الفرسان. مقدم المتطوعة الصليبيين من سائر الأنحاء. اجتماع جيوش قشتالة وأراجون ونافارا. الصوم والابتهال في رومة. أقوال الرواية الإسلامية عن هذه الأهبة. ما ورد في كتاب الخليفة. أهبة الناصر. مقدم الحشود الجديدة. خروج الجيوش النصرانية من طليطلة. خروج الناصر في جيوشه من إشبيلية. مسير النصارى إلى قلعة رباح ومهاجمتهم إياها. يأس حاكمها ابن قادس من النجدة وتسليمه بالأمان. ما أثاره هذا من خلاف بين القشتاليين وحلفائهم الأجانب. مغادرة معظم المتطوعة الأجانب للمعسكر النصراني. إشارة الرواية الإسلامية إلى ذلك. وصول الناصر إلى جيان. مقدم ابن قادس إليه. اتهامه وصهره بالخيانة وإعدامهما. سخط الأندلسيين لذلك. إصلاح ما حدث بالمعسكر النصراني. مسير سائر الجيوش النصرانية إلى الجنوب. صعودها إلى جبل الشارات ونزولها في ممر مورادال. مسير الجيوش الموحدية لملاقاة العدو. أقسام الجيش الموحدي وعدده. مبالغة الرواية الإسلامية في تقديره. عبور الموحدين لنهر الوادي الكبير. احتلالهم لممرات جبل الشارات. نزولهم في السهل المواجه لممر تولوسا. توقف الناصر للقاء النصارى. وصف عيان لميدان الموقعة. حصن العقاب. الطريق الرومانى والنهر. بويرتودل مورادال. مائدة الملك. استيلاء النصارى على قلعة فيرال أو حصن العقاب. تعذر عبورهم لجبل الشارات من تلك الناحية. قصة الراعى والممر السهل. تحول الجيش النصراني واحتلاله لمرتفع " مائدة الملك ". وقوف الموحدين على تلك الحركة. تعبئة الجيوش الموحدية للقتال. المناوشات الأولى. ترتيب الجيش الموحدي لخوض المعركة. موقع قبة الخليفة وحرسه. تنظيم الجيش النصراني وقيادته. استعداد الفريقين للمعركة. بدء النصارى بالهجوم. هجوم طلائعهم على مقدمة الجيش الموحدي. هجوم جناحى النصارى على جناحى الموحدين. المعركة الهائلة. ارتداد المتطوعة المسلمين. ثبات الموحدين ورد جناحى النصارى

نزول ملك قشتالة بالقوات الاحتياطية. اشتداد هجوم النصارى. ارتداد ميمنة وميسرة الجيش الموحدي. فرار الأندلسيين والعرب. هجوم النصارى على القلب. مقاومة الحرس الخليفى العنيفة. ثبات الخليفة الناصر وحثه جنده على الثبات. اختراق النصارى للقلب. اختراقهم للدائرة الخليفية المدرعة. تمزق الجيش الموحدي وكثرة ضحاياه. صمود الناصر. مصرع الآلاف من حرسه الأسود. اضطراره في النهاية إلى الفرار. مسيره صوب بياسة ثم جيان. فرار الموحدين في كل ناحية. المطاردة المروعة والقتل الذريع لهم. الاستيلاء على المحلة الموحدية وانتهاب سائر ما فيها. مختلف أسماء الموقعة. خسائر المسلمين في الموقعة. مبالغة الرواية الإسلامية في تقديرها. اعتدال الرواية النصرانية في ذلك. مبالغتها في التقليل من خسائر النصارى. ما يمكن أن يقال في ذلك. وفرة السلاح والغنائم التي استولى عليها النصارى. خيمة الناصر والعلم الموحدي. الأسباب المادية والمعنوية لتلك النكبة. آثار النكبة بالنسبة للأندلس والمغرب. توكيد التفوق السياسي والعسكرى لإسبانيا النصرانية. الفزع في أرجاء الأندلس. شبح السقوط والفناء. فناء الجيوش الموحدية والفروسية المغربية. تضعضع الدولة الموحدية وتفككها. مقارنة بين الأرك والعقاب. كتاب الناصر عن الموقعة. ألفونسو الثامن يتبع نصره بالاستيلاء على الحصون الإسلامية. مهاجمته لبياسة وحصاره لأبدة. اقتحام أبدة وقتل وسبى أهلها. ظهور الوباء وارتداد النصارى إلى أراضيهم. وصول الناصر إلى إشبيلية، ثم عبوره إلى مراكش. أخذه البيعة لولده أبي يعقوب يوسف. احتجابه بقصره. مرضه ووفاته. ما قيل في وفاته. الناصر وعهده. بدايته الحسنة. استبداده بالأمر. خلو عهده من الأعمال الإنشائية. عطله عن أنواع العلوم والمعرفة. صفات الناصر وفقاً لقول المراكشي وروض القرطاس. وزراء الناصر. قضاته وكتابه. أبناؤه. شغل الخليفة محمد الناصر لدين الله، منذ ارتقائه العرش في أوائل سنة 595 هـ، بحوادث إفريقية واستيلاء بني غانية على قواعدها وثغورها، والعمل على تحريرها واسترداد سيادة الموحدين بها، عن سير الحوادث في الأندلس، ولم يستطع خلال هذه الفترة التي استطالت زهاء اثنتى عشرة عاماً، أن يعنى بشىء من شئون الأندلس الجوهرية، أو يعبر إليها بنفسه، وحتى اهتمامه بافتتاح الجزائر الشرقية، لم يكن سوى نتيجة مباشرة لصراعه مع بني غانية في إفريقية. بيد أن شئون الأندلس، كانت خلال ذلك تثير قلق الموحدين، وتوجسهم من العواقب. وكانت الممالك الإسبانية النصرانية، وفي مقدمتها قشتالة، قد لزمت السكينة حيناً منذ موقعة الأرك، ولبثت بضعة أعوام تتهيب الاشتباك مع القوات الموحدية في شبه الجزيرة، وفضلا عن ذلك فقد كانت قشتالة وليون، ترتبط كل منهما بعقد الهدنة مع الموحدين. فلما شغل الموحدون بصراعهم مع بني غانية في إفريقية، ولما استطال أمر هذا الصراع أعواماً، واتسع نطاقه وانقطع عبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، أدركت الممالك النصرانية أن الفرصة ْقد سنحت مرة أخرى، لاستئناف غزواتها للأراضي الإسلامية، ولم يعقها

عن انتهاز هذه الفرصة على الفور سوى منازعاتها الداخلية. فلما اقترب أجل انتهاء الهدنة بين قشتالة وبين الموحدين، أخذ ملك قشتالة ألفونسو الثامن، يتأهب لغزو الأندلس. وكان منذ هزيمة الأرك الساحقة، يتوق إلى الانتقام لهزيمته، ورفع الوصمة التي لحقت من جرائها الجيوش النصرانية، وفي أوائل سنة 1209 م، خرج ألفونسو الثامن من قشتالة في قواته، واحتشد فرسان قلعة رباح، في قلعة شلبَطَرّة، على مقربة من قلعة رباح، وكانوا قد لجأوا إليها منذ انتزع الخليفة يعقوب المنصور قلعة رباح من أيديهم عقب معركة الأرك وسار ألفونسو صوب جيّان وبيّاسة، فانتسف الحقول وخرب الضياع، وقتل وسبي، وعاث الفرسان في أحواز أندوجر، واستولوا على عدة حصون، وأصاب المسلمين من جراء تلك الغارات، محن وخسائر فادحة. وفي العام التالي خرج ألفونسو إلى الأندلس مرة أخرى، وعاث في أراضي جيان وبياسة، ووصل في عيثه إلى أراضي ولاية مرسية، ثم عاد إلى طليطلة مثقلا بالغنائم. وفي نفس الوقت، وقعت في شرقي الأندلس حوادث مماثلة، وكان السيد أبو العلاء إدريس بن يوسف قائد الأسطول الموحدي وفاتح الجزائر الشرقية، قد سار في جميع وحدات الأسطول الموحدي، إلى مياه برشلونة، وعاثت سفنه في شواطىء قطلونية، وأنزل بها خسائر فادحة، واستولى على كثير من الأموال والغنائم، وكان ذلك في صيف سنة 1210 م (607 هـ). فاستشاط بيدرو الثاني ملك أراجون لذلك غضباً، وجمع قواته وخرج من منتشون ومعه فرقة من فرسان المعبد (الداوية)، وسار جنوباً نحو أراضي ولاية بلنسية الشمالية وعاث فيها، واستولى على عدة من الحصون الإسلامية في تلك المنطقة (¬1). وكان لاستئناف النصارى لغزواتهم المخربة، في أراضي الأندلس، على هذا النحو، أعمق صدى، وكان من الواضح أن الحاميات الموحدية الصغيرة التي ترابط في مختلف القواعد، لم يكن في مقدورها أن تقوم برد الجيوش النصرانية الغازية، ولم يك ثمة مندوحة من أن يعبر أمير المؤمنين بنفسه، في جيوشه الجرارة، إلى شبه الجزيرة ليضطلع بنفسه بجهاد النصارى، على نحو ما فعل أبوه وجده. وقد عبر بالفعل وجوه شرقي الأندلس، على أثر غارات ملك أراجون، إلى العدوة، وقصدوا إلى الناصر، مستغيثين به، متضرعين إليه أن يسعفهم بعبوره، فاهتز ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 234

الناصر لهذه الأنباء المزعجة، وخصوصاً لما أبداه ملك قشتالة من الإصرار على خطته العدوانية، بالرغم من احتجاج رسل الناصر إليه، على خرق الهدنة، ومما هو جدير بالذكر أن الناصر كتب إلى الشيخ محمد بن أبي حفص والي إفريقية يستشيره في ذلك الأمر، وفيما يلتويه من استئناف الجهاد والغزو، وأبدى له الشيخ رأيه وجوب التريث ونصح بعدم العبور واستئناف الغزو في تلك الآونة. ولكن الناصر لم يستمع إلى رأيه (¬1)، وقرر الاستجابة لداعى الجهاد، وأخذ بالفعل في الاستعداد، ونفذت كتبه إلى سائر أنحاء المغرب وإفريقية وبلاد القبلة باستنفار الناس إلى الجهاد، فاستجابت سائر الجهات والقبائل إلى الدعوة، وكتب الناصر في نفس الوقت، إلى ولاة إشبيلية وقرطبة، بوجوب تجديد حشد الجند، وإعداد المؤن، وتمهيد السبل في جميع المناطق (¬2). ولما كملت الأهبة، وأقبلت الحشود من سائر الأنحاء، وجهزت بما يلزم من العتاد والسلاح والكسى والمؤن، خرج الناصر في قواته الجرارة من حضرة مراكش في يوم السبت عشرين من شعبان سنة 607 هـ (5 فبراير سنة 1211 م) وسار إلى رباط الفتح، وعسكر في الضاحية المجاورة المسماة ببرج الحمّام، وقضى هنالك نحو شهرين وهو يعمل على استيفاء الأهبة، وتنظيم الشئون، ونفذت كتبه مرة أخرى إلى الأندلس، يطلب إلى ولاتها حث الناس على الجهاد، واتخاذ ما يجب من ضروب الاستعداد، فعكف الولاة على تنفيذ تلك الأوامر، بكل ما وسعوا من غيرة وجهد. وخرج الناصر في جيوشه من رباط الفتح، في يوم الاثنين الثامن عشر من شوال (4 أبريل سنة 1211 م)، قاصداً إلى قصر كتامة (القصر الصغير)، ونحن نعرف أن هذه المنطقة الممتدة من رباط الفتح شمالا حتى البحر، وهي طريق الجيوش الموحدية إلى الأندلس، كانت مزودة بمراكز هامة لتموين الجيوش المسافرة، سواء في الذهاب والإياب، وأن هذه المراكز كانت تزخر دائماً بالمؤن والعلوفات اللازمة. ولكن الجيوش الموحدية لقيت هذه المرة خلال مسيرها، صعاباً مرهقة في التموين، ونضبت الأقوات، وغلت الأسعار بصورة لم تعهد ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 249. (¬2) البيان المغرب، القسم الثالث ص 235 و 236، وابن خلدون ج 6 ص 249، وروض القرطاس ص 154.

من قبل، ولحق الجند والناس من جراء ذلك ضيق وشدة. ووقف الناصر على ذلك، فاستشاط غضباً، وأدرك ما هنالك مما يرتكب من ضروب الإهمال والاختلاس، فأمر بمؤاخذة سائر العمال المقصرين ومعاقبتهم، وطلب إلى الشيخ أبي محمد بن أبي علي بن مثنى صاحب الأعمال المخزية والأشغال العملية، بالقبض على عامل فاس، وهو عبد الحق بن أبي داود، فقبض عليه وعلى سائر نوابه من العمال المحليين، واستصفيت أموالهم. وكذلك أمر الناصر، حينما وصل إلى قصر كتامة بالقبض على عامل سبتة محمد بن يحيى المسّوفى، لما بدا من إهماله وفساده، والقبض كذلك على سائر نوابه، وتوجيههم جميعاً مصفدين إلى صاحب الأعمال بفاس (¬1). وحشدت السفن من سائر الأنحاء، لعبور الجيوش الموحدية إلى شبه الجزيرة، واستمر عبورها بضعة أسابيع، واستمر الناصر مقيماً بالقصر، حتى تم عبور ساقته وأثقاله وحاشيته وحرسه. وركب البحر في يوم الاثنين أول شهر ذي الحجة (15 مايو) ونزل بساحل طريف، وهنالك استقبله قواد الأندلس وفقهاؤهم، وأقام بطريف ثلاثة أيام، ثم سار في جيوشه الجرارة إلى إشبيلية، فوصلها يوم الاثنين منتصف ذي الحجة (آخر مايو) ونزل بقصور البحيرة الواقعة إزاء باب جهور، وتم استقرار الجيوش الموحدية بالحاضرة الأندلسية، وذلك في نهاية سنة 607 هـ (منتصف يونيه سنة 1211 م). وما كاد الناصر يستقر بإشبيلية حتى أمر باستنفار الحشود الأندلسية، وصنع الآلات الحربية، واستدعاء الجند والغزاة، من سائر الكور، ووصولهم مع العمال والولاة، فلما تم تنفيذ هذه الأوامر، وتم حشد الجند، واستكمال الأمداد من سائر الجهات، وأصبحت الجيوش الموحدية في حالة تعبئة كاملة، شرع الناصر في الحركة، وخرج من إشبيلية في جيوشه من الموحدين والعرب وأهل الأندلس والمطوعة والأغزاز وغيرهم من طوائف الجند، وسار جنوبي الوادي متجهاً نحو قرطبة، ثم سار منها إلى جيّان وبيّاسة، وكان النصارى هم الذين حددوا بتصرفهم، الهدف الذي يقصد إليه الناصر بجيوشه، وهو قلعة شلْبَطَرّة (¬2) ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 237، وروض القرطاس ص 155. (¬2) شلبطرة حسبما يرسمها صاحب الروض المعطار (ص 109) هي بالإسبانية Salvatierra ويرسمها صاحب روض القرطاس (ص 156) وابن خلدون (ج 6 ص 249) سربطرة أو شربطرة. ويرسمها المراكشي (المعجب ص 182) شلب ترة، ويقول إن معناها " الأرض البيضاء " ويتابعه في هذا الرسم النويرى (طبعة ريميرو ج 8 ص 279)

التي تقع على مقربة من جنوبي غربي قلعة رباح، بينها وبين جبال الشارات (سييرا مورينا). وكان الخليفة يعقوب المنصور، قد انتزع قاعدة قلعة رباح المنيعة، حسبما تقدم، من أيدي فرسان جمعية قلعة رباح الدينية في سنة 1195 م، عقب هزيمة القشتاليين في معركة الأرك، ونزل أولئك الفرسان في قلعة شلبطرة القريبة منها. وكانت هذه القلعة المنيعة، فضلا هن مضايقتها لقلعة رباح باستمرار، يتخذها النصارى قاعدة لغزواتهم المخربة داخل الأراضي الإسلامية، ومنها سار القشتاليون والفرسان بالفعل للقيام بغاراتهم المخربة في أحواز جيان وبيّاسة وأندوجر قبل ذلك بقليل، في سنة 1209 م. ومن ثم فقد آلى الناصر على نفسه أن يفتتح غزاته بالاستيلاء على تلك القلعة المنيعة. - 1 - ويجدر بنا بادىء ذي بدء أن نلم بطرف من أحوال اسبانيا النصرانية في تلك الآونة، التي أخذت فيها طوالع الصراع الحاسم، بين الموحدين والنصارى، تبدو في الأفق مرة أخرى. وذلك أنه حينما وقعت معركة الأرك العظيمة في سنة 591 هـ (1194 م)، لم يكن الوئام سائداً بين الممالك الإسبانية النصرانية، وخاضت قشتالة المعركة وحدها ضد الموحدين. ولم تجد قشتالة بعد هذه الهزيمة الساحقة ضماناً لسلامتها، سوى عقد الهدنة مع الموحدين، وارتضى الخليفة المنصور يومئذ، أن يعقد السلم مع النصارى، بعد أن بلغ غايته من سحق قواهم، وقمع عدوانهم. وقضت اسبانيا النصرانية منذ معركة الأرك فترة قصيرة من الهدوء والسلام، وعُقد الصلح أخيراً بين قشتالة وليون، وذلك بزواج ألفونسو التاسع ملك ليون بالأميرة برنجيلا إبنة ألفونسو الثامن ملك قشتالة. بيد أن هذا الصلح لم يطل أمده، إذ اضطر ملك ليون أن يطلق هذه الأميرة، بعد ذلك بخمسة أعوام، بناء على تدخل البابا وضغطه المستمر. ومن جهة أخرى فإن شريفاً قشتالياً كبيراً، هو دون ديجو لوبث دي هارو، سيد بسكاية، وهو أخ لزوجة ملك ليون الأولى، دونيا أورّاكا، قد ثار لما لحق بأخته من غبن وإهانة، وارتد في أصحابه إلى أراضي نافارا، وأخذ يغير منها على أراضي قشتالة، نسار ألفونسو الثامن في قواته صوب نافارا، فخشى ملكها سانشو الثامن العاقبة، وقام بإخراج دون ديجو من مملكته، فلجأ دون ديجو إلى بيدرو الثاني ملك أراجون، فنكل عن غوثه، فاضطر أن يلتجىء عندئذ إلى

المسلمين في ولاية بلنسية، وأخذ يغير من هنالك في صحبه على أراضي أراجون. وكانت أول نتيجة لهذه الحوادث أن عقدت بين نافارا وقشتالة في سنة 1207 م الهدنة لمدة خمسة أعوام. ثم تدخل ملك قشتالة بعد ذلك، بين زميليه ملك نافارا وملك أراجون، فعقدت بينهما الهدنة، وذلك في سنة 1209 م، وانعقد بذلك نوع من الوئام والتفاهم، بين الممالك الإسبانية النصرانية خلا مملكة ليون. وكان أجل الهدنة المعقودة بين ألفونسو الثامن وبين الموحدين، وهو سنة 1215 م، يدنو عندئذ من نهايته، وكان ملك قشتالة، بعد أن شعر بنوع من من الطمأنينة والأمل في عون زملائه، يضطرم رغبة في استئناف الحرب ضد الموحدين، فبدأ بالقيام بغاراته المخربة التي أشرنا إليها في منطقة جيّان وبياسة وأندوجر، وذلك خلال سنتى 1209، 1210 م، ولم يحفل باحتجاج رسل الخليفة الموحدي، على هذا الخرق لنصوص الهدنة المعقودة، وكانت قلعة شلبطَرّة، التي يحتلها فرسان قلعة رباح، قاعدة لهذه الغارات الدموية التي ضج لها المسلمون يومئذ. وحذا بيدرو الثاني ملك أراجون حذو زميله ملك قشتالة، فعاث في منطقة بلنسية، انتقاماً لغزو السفن الموحدية لشواطئه، واستولى على عدة من حصون هذه المنطقة، وكان من الواضح أن ملك قشتالة يستطيع أن يعتمد على مؤازرة حليفه ملك أراجون، إذا ما اضطرمت الحرب بينه وبين الموحدين. وكان على رأس البابوية يومئذ حبر يضطرم بروح صليبية عميقة، هو البابا إنوصان الثالث، الذي اعتلى الكرسى الرسولى في سنة 1198 م، وقد سبق أن أشرنا في غير فرصة إلى ما كان يتمتع به الكرسى الرسولى لدى الممالك الإسبانية النصرانية، من مكانة راسخة ونفوذ قوي، وإلى ما كان يعلقه الملوك الإسبان، من أهمية بالغة، على الصفة الصليبية لحروبهم ضد المسلمين، ولاسيما عند اضطرام الحرب الشاملة بين الفريقين، وذلك استدراراً لعطف الأمم النصرانية المجاورة، واستجلابا للمتطوعة والمرتزقة النصارى من سائر الأنحاء. وكان ملك قشتالة حينما اعتزم أن يشهر الحرب على الموحدين، قد بعث جرهارد أسقف شقوبية إلى البابا إنوصان، ليرجوه أن يدعو أمم أوربا النصرانية لمؤازرته، وذلك بتنظيم حملة صليبية ضد المسلمين في اسبانيا، وأرسل كذلك ردريك مطران طليطلة (¬1) وعدة أخر ¬_______ (¬1) هو ردريك الطليطلي صاحب التاريخ المشهور المنسوب إليه المكتوب باللاتينية Anales Toledanes، والمتضمن لتاريخ اسبانيا النصرانية حتى أوائل القرن الثالث عشر. وقد طبع بفرانكفورت =

من أكابر الأحبار إلى فرنسا، وإلى الأمم المجاورة، للدعوة إلى قضيته واستثارة حماسة النصارى للعبور إلى اسبانيا، ومؤازرة الجيوش النصرانية في قتالها ضد المسلمين. ونزل البابا عند رغبة ملك قشتالة، وبعث إلى أساقفة جنوب فرنسا في يناير سنة 1212، بأن يعظوا رعاياهم بأن يسيروا بأنفسهم وأموالهم لمؤازرة ملك قشتالة، وأنه أي البابات يمنح من لبى هذه الدعوة الغفران التام. وكان الإنفانت الفتى دون فرناندو ولى عهد قشتالة، وولد ألفونسو الثامن قد توفي عندئذ، فبعث إليه البابا يعزيه عن فقد ولده، وكذلك عن فقد حصن شلبطرّة الذي استولى عليه الموحدون حسبما نفصل بعد، ويعرب عن خوفه بأن الحرب ضد " الألبيين " (¬1) في جنوب فرنسا قد تحول دون كثرة المتطوعين، وأنه يتمنى له الفوز في جميع الأحوال. بيد أنه يعرب عن نصحه له بأنه إذا استطاع أن يعقد الهدنة مع " أمير المؤمنين " فليفعل، حتى تسنح فرصة أفضل لضمان النصر المنشود. كانت هذه هي أحوال قشتالة والممالك الإسبانية النصرانية، حينما عبر الناصر في جيوشه الجرارة إلى شبه الجزيرة الأندلسية، في شهر ذي الحجة سنة 607 هـ (مايو 1211 م). ويعلق صاحب روض القرطاس على عبور الخليفة الموحدي بقوله: " واهتزت جميع بلاد الروم بجوازه، ووقع خوفه في قلوب ملوكهم، وأخذوا في تحصين بلادهم، وإخلاء ما قرب من المسلمين من قراهم وحصونهم. وكتب إليه أكثر أمرائهم يسئلون سلامته ويطلبون منه عفوه "، ثم يقدم إلينا قصة غامضة عن مقدم ملك " بيونة " على الخليفة بإشبيلية " مستسلماً خاضعاً مستصغراً، يطلب صلحه، ويسأل منه عفوه وصفحه " وكيف أن الناصر وافق على مهادنته إلى الأبد، وأعطاه تحفاً جليلة (¬2). ويرجع غموض هذا النص، إلى أن مدنية بيونة، وهي تقع في الطرف الآخر من البرنيه على خليج بسكونية، قرب مملكة نافارا، لم تكن يومئذ داخلة في حظيرة اسبانيا النصرانية، بل كانت من أملاك جون ملك ¬_______ = سنة 1606 م ضمن سلسلة Hispana Ilustrata ونشر أيضاً مع الطبعة العربية لتاريخ المكين بن العميد المطبوع بلندن سنة 1625 م. (¬1) الألبيون Albigences هم فرقة من الملاحدة ظهرت في جنوبي فرنسا في أوائل القرن الحادي عشر، واتخذوا مدينة " ألبي " مركزاً لهم ومنها اشتق اسمهم. وشهروا على الكثلكة ومبادئها ورسومها حرباً شديدة، واستمروا يبثون عقائدهم الإلحادية حتى نظم سيمون دي مونفور في أوائل القرن الثاني عشر عليهم حرباً صليبية انتهت بتمزيقهم. (¬2) روض القرطاس ص 155 و 156

انجلترا (ولد هنري الثاني)، وذلك بالوراثة عن أمه دوقة أكوتين. وقد ترتب على ذلك أن بعض الباحثين، رأو، بالاستناد في نفس الوقت إلى مؤرخ إنجليزي عاش في القرن الثالث عشر، أن صاحب روض القرطاس، يشير بذلك إلى سفارة وردت إلى محمد الناصر من قبل ملك انجلترا يومئذ، وهو الملك جون. ولكنا نلاحظ أولا أن صاحب روض القرطاس يتحدث عن مقدم " ملك بيونة " بنفسه، وليس عن مقدم سفيره، ومن جهة أخرى فإن كلمة " بيونة " هذه التي وردت في طبعة تورنبرج التي نعتمد عليها قد وردت مكانها كلمة " بنبلونة " في النص الذي نقله السلاوي (عن روض القرطاس) (¬1). ومعنى ذلك أن الذي ورد على الناصر، أثناء مقامه بإشبيلية هو ملك نافارا (نبرّة)، وهو حدث مفهوم معقول، يتفق مع ما سبق عقده من علائق المودة والتحالف بين سانشو السابع ملك نافارا الملقب " بالقوى " وبين البلاط الموحدي. وتسجل لنا التواريخ النصرانية نفسها أن سانشو السابع، كان قبل ذلك ببضعة أعوام، حينما شعر بالخطر يتهدد مملكته من جراء تحالف جاريه ملكى قشتالة وأراجون ضده، قد عبر البحر إلى المغرب ملتجئاً إلى عون الخليفة الموحدي، وذلك في سنة 1199 م، وأنه قد أقام بمراكش في ضيافة الخليفة الناصر، زهاء عامين، توطدت فيهما الصداقة والتحالف بين الملكين (¬2). يضاف إلى ما تقدم أن الألفاظ التي صيغ بها نص روض القرطاس، والقصة كلها التي يوردها عن كيفية استقبال الناصر للملك المذكور، لا يمكن أن تنصرف إلى أية سفارة واردة من خارج شبه الجزيرة الإسبانية. وإذاً فمن المرجح المعقول أن يكون ملك نافارا حليف الموحدين القديم هو الذي ورد على الناصر، وهو ملك " بنبلونة ". وهناك دليل آخر يؤيد هذا الرأي، وهو ما ورد في كتاب الناصر عن موقعة العقاب من إشارته إلى صاحب نبرّة ونكثه بحلفه وكونه " كان متعلقاً من الموحدين بزمام، وسخط عليه صاحب رومة إن لم يكن لقومه معسكراً، ولسواد أهل ملته مكثراً، فلحق بتلك الجموع مرهجاً " (¬3)، ويقول لنا ابن خلدون إن الذي ورد على الناصر في تلك المناسبة، هو ملك ليون المعروف " بالبيبوج "، قدم عليه عام العقاب " فداخله، وأظهر له ¬_______ (¬1) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ج 1 ص 192. (¬2) M. Lafuente: Historia General de Espana, T. III, p. 345 - 346. (¬3) البيان المغرب القسم الثالث ص 241

التنصيح، فبذل له أموالا ثم غدر به " (¬1). ونستطيع أن نلاحظ أخيراً أنه لم تكن ثمة أية علاقات سياسية ومصلحية، بين الموحدين وبين ملك انجلترا، تستدعى أن يأتى ملك انجلترا بنفسه إلى الخليفة الموحدي: " مستسلماً خاضعاً مستصغراً " وليس من الممكن أن ينسب مثل هذا التصرف إلا إلى ملك من ملوك اسبانيا النصرانية (¬2). وخرج الناصر في جيوشه من إشبيلية، حسبما تقدم في الأيام الأولى من سنة 608 هـ (أواخر يوليه 1211 م) متجهاً إلى جيان، فأبدّة وبيّاسة، ثم سار شمالا نحو قلعة شلبَطَرّة. وكانت هذه القلعة تقح على ربوة عالية على مقربة من جبل الشارات، وكانت من أكبر وأمنع قلاع تلك الناحية. ويبدو من أقوال صاحب روض القرطاس، أن الناصر كان يقصد السير توًّا إلى غزو قشتالة، ولكن وزيره أبا سعيد بن جامع، أقنعه بوجوب الاستيلاء أولا على قلعة شلبطرة، نظراً لمناعتها الفائقة، وأهمية موقعها (¬3). بيد أنه يبدو من الروايات الأخرى أن غزو أراضي قشتالة، لم يكن قد تقرر لدى الخليفة بعد، وأنه كان يقصد الاستيلاء على شلبطرّة بأدىء ذي بدء. ويؤيد ذلك ما ورد في كتاب الفتح الخاص بشلبطرة على لسان الخليفة، بأنه وإن كان صاحب قشتالة أقرب من تعينت حربه داراً، فإن فصل الغزو، كان قد ذهب جُله، واستحالت الأرض من جراء الأمطار الغزيرة إلى غدور وأوحال، تحول دون مسير الخيل، وذهبت معظم الجسور، وأنه قصد إلى معقل شلبطرة لقيامه في قلب الإسلام، وكون النصرانية قد جعلته جناحاً لكل غاية، تخدمه ملوكها ورهبانها، وتتخذ منه عاصماً يعصمها (¬4). وعلى أي حال فقد طوق الموحدون قلعة شلبطرة، بعد أن استولوا على أرباضها، وقتلوا بها من النصارى أربعمائة، وأضرموا النيران فيها، واستولوا على حصن آخر قريب منها تسميه الرواية " بحصن الّلج " ثم نصبوا حولها أربعين قطعة من المجانيق الهائلة، وضربوها بالحجارة الضخمة، ورموها ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 183. (¬2) روض القرطاس ص 155 و 156. (¬3) روض القرطاس ص 156 و 157. (¬4) البيان المغرب - القسم الثالث ص 239، وراجع أيضاً المعجب ص 182، وتضع بعض الروايات النصرانية سقوط القلعة في أيدي الموحدين في شهر سبتمبر سنة 1210 راجع: La Orden de Calatrava (Ciudad Real 1959) (p. 18)

بالنبال والسهام الممطرة، حتى اضطر النصارى إلى تسليم القلعة ومغادرتها. وقد استمر الحصار وفقاً لرواية صاحب الروض المعطار واحداً وخمسين يوماً. وكانت حامية القلعة، وفقاً للرواية المذكورة، حينما اشتد بها البلاء من جراء الضرب المروع المتواصل، وتساقط الحجارة الهائلة، قد طالبوا من الموحدين أجلا يتصلون فيه بملكهم ألفونسو الثامن ليستأذنوه في تسليم القلعة، إذا لم يستطع إنجادهم، وكان ألفونسو الثامن عندئذ بجوار طلبيرة يجد في أهباته، فاتصل به رسلهم، واضطر أن يوافق على تسليم القلعة لعجزه عن إمدادهم، ولأنه لم يكن قد استكمل أهباته بعد. فعادوا وسلمت شلبطرة للموحدين، فدخلوها وحولوا كنيستها في الحال مسجداً، ووفى الخليفة بوعده في ترك الحامية النصرانية تعود إلى بلادها، وكان ذلك في أوائل ربيع الأول سنة 608 هـ (أواخر أغسطس سنة 1211 م) (¬1). ويقول صاحب روض القرطاس إن الحصار قد طال بالعكس ثمانية أشهر، واستمر بذلك حتى دخل الشتاء واشتد البرد، وقلت المؤن وكلت عزائم الجند، وفسدت نياتهم التي قصدوا بها للجهاد، ونضبت المواد من الحملة، وأن ملك قشتالة لما وقف على ذلك وعلم أن شوكة المسلمين قد انكسرت، والحدة التي قاموا بها قد خمدت، تأهب لأخذ الثأر، وجاءته ملوك الروم وهم في غاية الاستعداد، ثم جاء ألفرنسو بقواته وهاجم قلعة رباح واستولى عليها. ويضع تاريخ تسليم شلبطرة في أواخر ذي الحجة سنة 608 هـ، ثم يقول لنا إن ملك قشتالة، لما وقف على سقوط القلعة، سار وسائر من كان معه من ملوك الروم، وحشودهم والتقى بالموحدين في موضع يسمى " حصن العقبان " (¬2). بيد أن هذه الرواية التي يستخلص منها أن سقوط شلبطرة في أيدي الموحدين، وسقوط قلعة رباح في أيدي القشتاليين، ثم نشوب معركة العقاب بين الفريقين، قد حدثت كلها متتابعة في حلقة واحدة، ينقضها أولا كتاب الفتح الصادر عن الخليفة ذاته بفتح شلبطرة، وهو مؤرخ في الثاني من شهر ربيع الآخر سنة 608 هـ، ولابد أنه كتب بعد سقوط القلعة بأيام قلائل (¬3)، ثم تنقضها أكثر من رواية وثيقة. فصاحب الروض المعطار يقول لنا، إن الناصر بعد افتتاح شلبطرة " رجع إلى إشبيلية ظافراً غانماً، ثم استغاث الأذفونش ¬_______ (¬1) الروض المعطار ص 110. (¬2) روض القرطاس ص 158، والبيان المغرب القسم الثالث ص 238. (¬3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 238

بأهل ملته وحثهم على حماية دينهم، فاستجابوا، وانثالوا عليه من كل مكان ". ويقول لنا المراكشي وهو مؤرخ معاصر، إنه بعد رجوع أمير المؤمنين أبي عبد الله من هذا الفتح المتقدم الذكر (أعني فتح شلبطرة) إلى إشبيلية، استنفر الناس من أقاصى البلاد، فاجتمعت له جموع كثيفة (¬1). وإذن فمن الواضح أن غزوة شلبطرة كانت غزوة مستقلة، اقتصرت على فتح هذه القلعة المنيعة، وأن القوات الموحدية التي قامت بفتحها، لم تكن هي تلك الجيوش الجرارة التي عادت بعد ذلك بأشهر، لتلتقى مع الجيوش النصرانية في " مرتفعات " العقاب، وأن الموحدين والنصارى، قد انتفع كلاهما، بتلك الفترة لمضاعفة الأهبة والاستعداد. ففي الوقت الذي حل فيه الناصر بإشبيلية، بعد عوده من غزوة شلبطرة، كان ملك قشتالة، يبذل أقصى جهوده في استكمال أهباته لمقاتلة الموحدين. ولم تكن هذه الأهبة تقتصر على قشتالة وحلفائها من ملوك اسبانيا النصرانية، ولكنها كانت تمتد بعيداً إلى ما وراء ذلك. وقد سبق أن أشرنا إلى مسعى ملك قشتالة لدى البابا، ليسبغ الصفة الصليبية على محاربته للمسلمين، وأن البابا قد استجاب إلى رغبته، وكتب إلى الأساقفة بدعوة النصارى في جنوبي فرنسا وغيرها إلى التطوع لمقاتلة المسلمين، وكان سقوط شلبطرة وهي مركز فرسان قلعة رباح في أيدي الموحدين على النحو المتقدم، نذيراً جديداً بتفاقم الخطر على مصاير اسبانيا النصرانية، وبتأكيد هذه الصفة الصليبية (¬2). وكان المطران المؤرخ ردريك الطليطلى، وعدة من أكابر الأحبار عندئذ يجوبون جنوبي فرنسا لجمع المتطوعين. واستمرت هذه الجهود الصليبية تبذل خلال عام 1211 م، وكانت الوفود المتطوعة تأتى تباعاً إلى طليطلة، التي تقرر أن تكون مكاناً لاجتماع الجيوش، والوفود المختلفة. وفي أوائل سنة 1212 م، عاد المطران ردريك ومعه جمهرة كبيرة من المتطوعة الفرنسيين، ثم اجتمعت بعد ذلك وفود المدن الإسبانية، وفرسان الولايات القشتالية المختلفة، وفرسان الجمعيات الدينية، وهم فرسان قلعة رباح، وشنت ياقب، والأسبتارية، والداوية (فرسان المعبد)، واجتمع كذلك سائر القوامس والفرسان القشتاليين، وفي مقدمتهم رؤساء أسرة لارا وفرسانها، والكونت ديجو لوبيث، ولوبى دياث دي هارو، ومن معهم من الفرسان. وكان ¬_______ (¬1) الروض المعطار ص 137، والمعجب ص 182. (¬2) La Orden de Calatrava ; p. 18

يرأس فرسان قلعة رباح جوميث راميريس، وفرسان شنت ياقب بيدرو آرياس، ويرأس فرسان الأسبتارية ولد جوتيرو هرمنجلد، وكان الأساقفة يرأسون صفوف المحاربين من مختلف المدن، ويتولون الإنفاق على حشودهم. وقدم فوق ذلك عدة من أحبار فرنسا يقود كل منهم جماعة من المحاربين، وفي مقدمتهم مطران أربونة وأسقفا بوردو ونانت وغيرهم من أكابر رجال الدين. ولم يأت شهر مايو سنة 1212 م، حتى اجتمع في قشتالة من المحاربين الصليبيين الذين هرعوا من جميع أنحاء أوربا لمعاونة اسبانيا النصرانية، زهاء ألفين من البارونات مع حاشياتهم، وعشرة آلاف من الفرسان والمقاتلة، وخمسين ألفاً من الرّجالة، أو بعبارة أخرى اجتمع من هذه الوفود الصليبية المختلفة جيش ضخم يبلغ زهاء سبعين ألف مقاتل، لمؤازرة الجيوش الإسبانية النصرانية، وكانت تتألف من جيوش قشتالة وأراجون ونافارا، ومن أمداد من جليقية والبرتغال. وتلقى ملك قشتالة، فوق ذلك، مقادير عظيمة من الأموال والسلاح، والمؤن، أرسلت إليه من أنحاء فرنسا وإيطاليا. ولم يأت شهر يونيه سنة 1212 م، حتى بلغ عدد الجيوش الوافدة على قشتالة أكثر من عشرة آلاف فارس، ومائة ألف من الرجالة. وأمر البابا إنوصان الثالث في رومه بالصوم ثلاثة أيام، التماساً لانتصار الجيوش النصرانية في اسبانيا على المسلمين، وأقيمت الصلوات العامة. وعمد رجال الدين والرهبان والراهبات إلى ارتداء السواد والسير حفاة، وسارت المواكب الدينية في الطرقات خاضعة متمهلة، من كنيسة إلى أخرى، وألقى البابا بنفسه موعظة صليبية، طلب فيها إلى النصارى أن يضرعوا إلى الله التماساً لنصر الإسبانيين (¬1). وتشير الرواية الإسلامية إلى هذه الاستعدادات الضخمة كلها، وإلى ما سعى إليه ملك قشتالة من صبغ محاربته للموحدين بالصبغة الصليبية. وكان المراكشي أكثرهم إلماماً بذلك، إذ يقول: " وخرج الأدفنش لعنه الله إلى قاصية بلاد الروم، مستنفراً من أجابه من عظماء الروم وفرسانهم وذوى النجدة منهم، فاجتمعت له جموع عظيمة من الجزيرة نفسها ومن ألمان، حتى بلغ نفيره إلى القسطنطينية، وجاء معه صاحب بلاد أرغن المعروف بالبرشنونى لعنه الله " (¬2). ويقول صاحب ¬_______ (¬1) تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الترجمة العربية ص 358 - 360). (¬2) المعجب ص 182

البيان المغرب " فاستعد له (أي للقاء الناصر) وجمع أهل قشتالة أجمعين وغيرهم من سائر جموع ملوك النصرانية الذين هم للجزيرة مكتنفين " (¬1). ويقول أيضاً صاحب الروض المعطار " ثم استغاث الأذفونش بأهل ملته وحثهم على حماية دينهم، فاستجابوا له وانثالوا عليه من كل مكان " (¬2). وأبلغ من ذلك ما ورد في كتاب الخليفة الناصر ذاته عن موقعة العقاب إذ يقول " إن صاحب قشتالة رأى أن يضرع لملوك أهل ملته، ويصانعهم على معونته بالتالد والطريف. . فبث القسيسين والرهبان من برتقال إلى القسطنطينية العظمى. . فجاءه عباد الصليب من كل فج عميق ومكان سحيق. . وكان أولهم سبقاً الإفرنج المتوغلون في الشرق والشمال " (¬3) فهذه الفقرات الموجزة تدل دلالة واضحة، على أن الموحدين كانوا يعلمون بحقيقة الوسائل والاستعدادات البعيدة المدى، التي لجأ إليها ألفونسو الثامن ليقود إلى ميدان الحرب أكبر قوة نصرانية يمكن حشدها، وليسبغ صبغة الحرب المقدسة على المعركة التي يضطلع بها، مثلما كان المسلمون يسبغون صفة الجهاد في سبيل الله، على المعارك التي يخوضونها ضد النصارى. وكان الموحدون من جانبهم يقومون بمثل هذه الاستعدادات، وقد استنفر الناصر عقب عوده من غزوة شلبطرة إلى إشبيلية، الناس من سائر الجهات، ليضاعف حشوده، وليدعم جيوشه، فاجتمعت له قوات جديدة كثيفة، وكان من الواضح أن الفريقين يرى كل منهما أن أجل اللقاء الحاسم يدنو بسرعة، ففي يوم 20 يونيه سنة 1212 م، خرجت الجيوش النصرانية، من طليطلة قاصدة إلى الجنوب. وكانت مقسمة إلى ثلاثة جيوش رئيسية، جيش الطليعة ويتألف من قوات الوافدين، وقد قدرته بعض الروايات بستين ألف مقاتل، وقدره البعض الآخر بمائة ألف، وكان يقوده القائد القشتالي ديجو لوبيث دي هارو يعاونه عدد من أكابر الأحبار والقوامس. ويتألف الجيش الثاني من قوات أراجون وقطلونية وفرسان الداوية، ويقوده بيدور الثاني ملك أراجون. ويتألف الجيش الثالث، وهو جيش المؤخرة من قوات قشتالة وليون والبرتغال، وفرسان قلعة رباح وشنت ياقب والأسبتارية، ويقوده ألفونسو الثامن ملث قشتالة، يعاونه ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 240. (¬2) الروض المعطار ص 137. (¬3) البيان المغرب ص 241

عدة قواد من الأحبار والسادة، وفي مقدمتهم ردريك مطران طليطلة، وتقدر الرواية عدد الفرسان في هذه الجيوش بثلاثين ألفاً، وذلك غير المشاة. وخرج الناصر في جيوشه من إشبيلية في العشرين من محرم سنة 609 هـ (23 يونيه سنة 1212 م) متجهاً صوب جيان، وقاصداً لقاء النصارى. وكانت الجيوش النصرانية تسير في نفس الوقت نحو الأراضي الإسلامية، فوصلت طلائعها في اليوم الرابع والعشرين من يونيه، إلى حصن مَلَجون، وهو من حصون الحدود الإسلامية، فاستولت عليه، وقتلت حاميته الإسلامية الصغيرة، ثم استمرت الجيوش النصرانية في سيرها صوب قلعة رباح أكبر وأمنع القواعد الإسلامية في تلك المنطقة. وكان الخليفة المنصور قد انتزعها عقب موقعة الأرك من فرسان قلعة رباح حسبما تقدم وحول كنيسها إلى مسجد، وعين لقيادتها أبا الحجاج يوسف بن قادس، وهو من أنجاد الفرسان والقادة الأندلسيين، وكان يسهر على حمايتها، والدفاع عنها، من ذلك التاريخ، وكان لديه وقت مقدم النصارى حامية من سبعين فارساً (¬1). ولقى النصارى في عبور نهر وادي يانه الذي تقع قلعة رباح على مقربة من ضفته الجنوبية صعاباً، إذ كان المسلمون قد نثروا على جانبيه الصنانير والخوازيق الحديدية، فلما عبروا النهر، طوقوا القلعة في الحال، ولكن القلعة كانت فضلا عن مناعتها الطبيعية بوقوعها جنوبي النهر، تتمتع بأسوار وأبراج في منتهى المناعة، ومن ثم فقد تردد النصارى في مهاجمتها بادىء ذي بدء، ولبثوا تحت أسوارها ثلاثة أيام يبحثون فيما إذا كان من الأفضل الاكتفاء بتطويق القلعة، وترك افتتاحها لما بعد وقوع النصر، ولكن غلب الرأي في النهاية بوجوب مهاجمتها، فهوجمت بشدة في يوم 30 يونيه، واستطاع النصارى أن يحتلوا قسمها الخارجي الذي يحاذى النهر، وهو أضعف قسميها من حيث المناعة. وهنا تتفق الروايتان النصرانية والإسلامية، فيما تلا من تفاهم المسلمين والنصارى على تسليم القلعة، ومنح الأمان لحاميتها، وتركهم أحراراً في مغادرتها إلى بلادهم، وذلك على نحو ما حدث في شلبطرّة بالنسبة لحاميتها النصرانية. وكان ابن قادس قد انتهى إلى هذا الرأي، بعد أن حاول الاستنجاد عبثاً بالناصر، وهو بمحلته القريبة، وبعد أن أيقن بعبث الدفاع، وتعريض رجاله لموت محقق، إذا هو أصر على القتال. وكان ألفونسو ملك قشتالة، يؤيد هذا الحل السلمى الذي يمكنه ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 157

من الاستيلاء على قلعة رباح دون تأخير ودون سفك دماء. ولكن حلفاءه من الأرجونيين والأجانب الوافدين، عارضوا في أية تسوية تحقن بها دماء الحامية الإسلامية. ولكن غلب الرأي بقبول هذا الحل في النهاية، خصوصاً، وقد صمم ابن قادس على الدفاع، إذا لم يجب إلى ما طلب من منح الأمان والحرية لرجاله. واتُّفق على أن يغادر الفرسان المسلمون القلعة دون سلاح، ومعهم خمسة وثلاثون من الخيل. وهكذا استولى ألفونسو الثامن على قلعة رباح، وسلمها في الحال إلى فرسان قلعة رباح، أصحابها السابقين، قبل أن يفتحها الخليفة المنصور (¬1). وكان افتتاح قلعة رباح مثار التنابذ والخلاف بين القشتاليين وحلفائهم الوافدين. ذلك لأن الوافدين الصليبيين، رأوا في إفلات المسلمين من القلعة أحراراً أحياء، عملا لا مبرر له، ولا يتفق مع أغراض الحرب الصليبية، وثانياً لأن ألفونسو وجد في قلعة رباح مقادير وافرة من المؤن قسمها بالتساوى بين الجند الوافدين وزملائهم المحاربين الأصليين، ولكن سرت الإشاعة بين الجند الوافدين، أن ملك قشتالة، قد عثر بالقلعة على تحف وذخائر كثيرة استأثر بها لنفسه. ومن ثم فقد أبدت طوائف كثيرة من الجند الوافدين تبرمها وسخطها، واحتج كثير منهم بأنهم لا يحتملون جو اسبانيا الحار، وأنهم وفوا بعهودهم في مقاتلة المسلمين في ملجون وقلعة رباح، وأبدوا عزمهم على الرجوع إلى بلادهم، وأيدهم في ذلك مطران بوردو أعظم أحبارهم، ولم تنجح جهود ملك قشتالة وزملائه الإسبان، في إقناعهم بالعدول عن قرارهم، وغادرت معظم الطوائف الوافدة المعسكر القشتالي، ولم يبق منهم سوى أرنولد أسقف أربونة في رجاله، والكونت تيوبالد بلاسكون وهو قشتالى المنبت، وكانت عدة رجالهم مائة وثلاثون فارساً، وبلغ من غادر المعسكر القشتالي على هذا النحو زهاء خمسين ألف مقاتل، اخترقوا قشتالة، صوب جبال البرنيه عائدين إلى بلادهم، وقد أغلقت سائر المدن الإسبانية أبوابها في وجوههم خوفاً من اعتدائهم وعيثهم (¬2). ¬_______ (¬1) المعجب ص 183، وروض القرطاس ص 157. وراجع أيضاً رواية أسقف أربونة، وكان مشتركاً في الموقعة، وقد أوردها Huici Miranda: Las Grandes Batallas de la Reconquista (Madrid 1956) p. 242, 244 & 245، وكذلك أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين " الترجمة العربية " ص 361 و 362. (¬2) أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين الترجمة العربية ص 362 و 363. وراجع أيضاً رواية أسقف أربونة H. Miranda: ibid ; p. 245

وإنه لما يلفت النظر أن الرواية الإسلامية، لم يفتها أن تشير إلى هذا الشقاق الذي وقع في المعسكر النصراني، على أثر افتتاح قلعة رباح، فنرى المراكشي يقول مشيراً إلى افتتاح القلعة " فسلمها إليه المسلمون الذين بها بعد أن أمنهم على أنفسهم، فرجع عن الأدفنش لعنه الله بهذا السبب من الروم جموع كثيرة، حين منعهم من قتل المسلمين الذين كانوا بالقلعة المذكورة، وقالوا إنما جئت لتفتتح بنا البلاد، وتمنعنا من الغزو وقتل المسلمين، ما لنا في صحبتك من حاجة على هذا الوجه " (¬1). - 2 - وفي ذلك الحين كان الناصر قد وصل في جيوشه الجرارة إلى جيان، وهنالك استقر بظاهرها أياماً، منتظراً عبور النهر، ووقف على ما وقع من أحداث على الحدود، من سقوط قلعة رباح في يد العدو، وما حدث على أثر ذلك في المعسكر النصراني من الشقاق، وما عمدت إليه طوائف الجند الوافدين من العود إلى بلادها. وقدم ابن قادس قائد قلعة رباح عندئذ، إلى المحلة الموحدية، مع صهره ونفر من أصحابه، ليقص أمره على الخليفة، فمنعه الوزير أبو سعيد بن جامع من ذلك، وصوّر موقفه للخليفة أسوأ تصوير، واتهمه بالخيانة وتسليم القلعة للنصارى، فأمر الناصر بإعدامه هو وصهره، دون أن يستمع إليه، أو يستوضح أمره، فأعدما طعناً بالرماح، وكان لمصرع هذا القائد الأندلسي الباسل على هذا النحو، وقع عميق بين مواطنيه الجند الأندلسيين، ولما شعر الوزير ابن جامع بما حدث من تغير نفوس الأندلسيين، استدعى قادتهم، وطلب إليهم أن يعتزلوا جيش الموحدين، وأنه لا حاجة للموحدين بهم. وكانت هذه إحدى البوادر المقلقة في المعسكر الموحدي (¬2). وكان لسقوط قلعة رباح في أيدي النصارى أسوأ وقع في نفس الخليفة الناصر، وكان ألفونسو الثامن عقب استيلائه على القلعة، قد استطاع أن يتغلب بسرعة على ما حدث في المعسكر النصراني، من جراء ذلك من خلل، بسبب رحيل بعض طوائف المحاربين الوافدين، وأن ينظم ما تبقى من قواته المكونة من قوات قشتالة وأراجون وجليقية والبرتغال. وكان ملك نافارا، قد ارتضى ¬_______ (¬1) المعجب 183. (¬2) روض القرطاس ص 158، والروض المعطار ص 137

خريطة: مواقع موقعة العقاب سنة 609 هـ - 1212 م

أخيراً بالرغم من خصومته القديمة لقشتالة، ومهادنته للموحدين، أن يشترك في تلك الحملة الصليبية بقوة صغيرة من الفرسان، وذلك نزولا على نصح البابا وإلحاحه (¬1)، وهكذا استأنفت القوات النصرانية المتحدة سيرها إلى الجنوب نحو الأراضي الإسلامية، ومرت بشلبطرة دون أن تتعرض لها، حتى أشرفت طلائعها على مرتفعات جبال الشارات (سييرا مورينا)، ثم لحقت بها سائر القوات الأخرى، واحتلت البسيط العلوى المقفر المسمى ممر مورادال، وذلك في يوم 13 يوليه (العاشر من صفر سنة 609 هـ). وفي خلال ذلك كان الخليفة الناصر، قد تحرك في جيوشه الجرارة نحو الشمال لملاقاة العدو، وكانت الجيوش الموحدية، قد قسمت كالعادة إلى وحداتها العنصرية والقبلية، فكانت خمسة أقسام، يتكون القسم الأول من طوائف العرب، ويتكون القسم الثاني من القبائل المغربية مثل صنهاجة وزناتة والمصامدة وغمارة وغيرها، والقسم الثالث من الجنود المتطوعة، والقسم الرابع من جند الموحدين النظامية، والقسم الخامس من جنود الأندلس. أما عن عدد الجيوش الموحدية التي كان يقودها الناصر، فقد بولغ في شأنه مبالغة كبيرة. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن الناصر قد خرج في جيوش لا تحصى وأمم كالجراد المنتشر، قد ملأت السهل والوعر، وضاق بهم المتسع والنجد والغور. ثم يقدم إلينا في موضع آخر أرقام الجيوش الموحدية مفصلة، فيقول إن عدد المتطوعة بلغ مائة وستين ألفاً بين فارس وراجل، وبلغ عدد الرجال المحشودين ثلاثمائة ألف راجل، وبلغ عدد العبيد الذين يمشون بين يدي الخليفة بالحراب ويدورون حوله ثلاثون ألف عبد، ومن الرماة والأغزاز (الغز) عشرة آلاف. وذلك كله دون المرتزقة من الموحدين وزناتة والعرب وغيرهم. ومعنى ذلك أن الجيوش الموحدية بلغت مجتمعة نصف مليون مقاتل غير المرتزقة (¬2). وفي رواية أخرى لا تقل مبالغة وإغراقاً أن الجيوش الموحدية كانت تضم ستمائة ألف مقاتل (¬3)، وهذا تقدير لا يمكن أن يسيغه العقل، إذ كان من المستحيل مادياً أن يكفل تموين مثل هذا الجيش، وخصوصاً في مثل هذه المنطقة الوعرة التي كان يخترقها الجيش الموحدي للقاء ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 241. (¬2) روض القرطاس ص 155 و 159 و 160. (¬3) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 538، ونقله السلاوي في الإستقصاء ج 1 ص 191

أعدائه. ونحن نعرف أن مسألة التموين بالذات كانت من أعقد مشاكل الجيش الموحدي، وكانت تسبب له دائماً أزمات ومتاعب عديدة. ونحن نعتقد أننا لو قدرنا الجيش الموحدي بمختلف وحداته بمائتي ألف مقاتل، لكنا أقرب كثيراً إلى الحقيقة والمعقول. واخترقت الجيوش الموحدية نهر الوادي الكبير، واتجهت صوب بياسة، وكانت قد تخلفت أياماً عن عبوره لارتفاع مائه، ثم عبرته حين نضب الماء، واحتلت سريات من خيرة أنجادها ممرات جبل الشارات المؤدية إلى بياسة وأبدة، ومنها ممر " لوسا " الوعر، الذي تستطيع قوة صغيرة باحتلاله أن تمنع جيشاً كبيراً من جوازه، ثم نزلت الجيوش الموحدية في البسيط الواقع تجاه هذا الممر وهو يقع اليوم أمام الطرف الغربي لقرية سانتا إيلينا Sta. Elena وتسميه رسالة الغزو الرسمية " بالمرشة ". واعتزم الخليفة الناصر أن يصمد في هذا المكان للقاء النصارى. وكان الناصر يعتمد على ما بلغه من حوادث الانشقاق في الجيوش النصرانية، وما تلقاه من متاعب التموين، لانتهاز الفرصة في لقائها، وهي متعبة، فاترة الهمم. ويبدو من أقوال سائر الروايات الإسلامية، أن الناصركان واثقاً من النصر، معتزا غاية الاعتزاز بضخامة حشوده، وتفوقه العددي. ولابد لنا قبل أن نعرض إلى تحركات الجيشين المتحاربين، أن نحاول أن نرسم للقارئ صورة واضحة من أوضاع هذه المعركة الشهيرة، والأمكنة التي وقعت فيها. ذلك أن دراسة ميدان معركة العقاب، وخواصه الطبوغرافية، مما يساعد على إيضاح كثير من الروايات التي وردت بشأن المعركة، وقد كان من حسن الطالع أن أتيح لنا أن نقوم بهذه الدراسة الشاقة، وأن نتجول في هضاب جبال سييرا مورينا (جبال الشارات) وأن نصعد إلى قممها الشاهقة، وأن نشهد الأمكنة التي اجتازتها وعسكرت فيها الجيوش النصرانية، وأن ندرس طبيعة المكان الذي كان يحتله الجيش الموحدي في أسفل الجبال. ويجب أن نذكر أولا أن المعركة تعرف في التواريخ النصرانية، بمعركة نافاس دي تولوسا Navas de Tolosa ، وهذا الاسم ما زال يطلق حتى اليوم على محلة أو ضيعة صغيرة، تقع في سفح جبال الشارات على مقربة من شمال شرقي بلدة " لاكارولينا " الواقعة على الطريق الكبير الممتد من مدريد جنوبا إلى الأندلس

بيد أن هذا الاسم القديم الذي يعنى " هضاب تولوسا " أو" عقاب تولوسا " قد فقد مدلوله القديم، وتدل سائر المعلومات والوثائق التاريخية، وكذلك البحوث الحديثة، على أن المعركة لم تقع في هذا المكان الذي أطلق اسمه عليها، بل وقعت شمالي هذا المكان بنحو عشرة كيلومترات، في الهضاب والبسائط، الواقعة غربي قرية " سانتا إيلينا " فيما بينها وبين قرية " ميرانده دل رى " وفي أسفل الأكمة المسماة " مائدة الملك " Mesa del Rey التي سوف نذكرها فيما بعد، وذلك حسبما يوضح لنا الرسم التخطيطى، الذي نقدمه نتيجة لدراستنا لمعالم الموقعة. ونستطيع من جهة أخرى أن نقدم دليلا على صحة هذا التحديد الطبوغرافى لميدان الموقعة، ما يعثر عليه الباحثون في هذا المكان، من آن لآخر، من السهام الموحدية الأرضية التي كانت تنصب للخيل، وقد عثرنا نحن على خمسة منها بالحفر بأنفسنا في هذه الساحة، وهي التي نقدم صورتها بعد. حصن العقاب وجبال الشّارات، التي لبثت عصوراً تفصل بين الأندلس، وإسبانيا النصرانية، في هذه البقعة، عبارة عن عدة متعاقبة من الجبال السوداء العالية، تفصلها هضاب وعرة أو بعض السهول المتدرجة. وقد بدأنا بعد رحلة شاقة في أعماق الجبال، استغرقت بضع ساعات، بالصعود إلى موقع الحصن، الذي يسمى بالإسبانية حصن كسترو فرال Castro Ferral ويسميه صاحب روض القرطاس، حسبما يأتي بعد، بحصن العقاب أو حصن العقبان. وهو يقع فوق قمة أحد الجبال في الصف الثالث أو الرابع تجاه بلدة سانتا إيلينا. وهو يحتل أعلى قمة في الجبل، ويقع شمال غربي سانتا إيلينا، إلى يسار المنحدر الجبلي الشهير المسمى دسبنيابروس Despenaperros ( أو منحدر الكلاب). ولم تبق اليوم من هذا الحصن سوى أطلال دارسة هي عبارة عن بقايا جدارين عاليين متواليين. ويبلغ ارتفاع الجدار الأول نحو ثمانية أمتار، وبه ثغرة كبيرة في وسطه. ويبلغ ارتفاع الجدار الثاني نحو عشرة أمتار، وهو يليه ويبعد عنه نحو خمسة أمتار. وتوجد كذلك بقية جدار جانبى إلى يمين الداخل، طولها نحو عشرة أمتار وارتفاعها نحو ستة، وفيه ثغرتان من أسفل، ومساحة هذا الطلل كلها تبلغ نحو عشرين متراً في خمسة عشر. ومازالت أسس الجدران ظاهرة في أرض المكان

صورة: أطلال حصن العقاب كما تبدو عن بعد فوق الجبال. صورة: الجدار الأوسط لأطلال حصن العقاب. صورة: الواجهة الخلفية لأطلال حصن العقاب.

الطريق الرومانى والنهر وإنه لمما يسترعى النظر في أعماق هذه الجبال الوعرة، هو طريق عبورها، سواء من الشمال إلى الجنوب أو من الجنوب أعني من الأندلس إلى الشمال (أراضي قشتالة). وقد تتبعنا هذا الطريق المسمى "كارثادا " Carzada ، وهو الطريق الرومانى القديم، وهو يوجد وراء الجبال في المنحدرات النازلة نحو النهر الصغير الذي يقع في سهل خفيض في أسفل الجبل ويسمى نهر مجانيا Magana وهو عبارة عن فرع صغير من نهر وادي لين المتفرع من نهر الوادي الكبير، وكان الطريق الهابط يستمر حتى النهر، ثم بعد عبوره، يعود فيصعد الصف الثاني من الجبال نحو الشمال. أما النهر ذاته فهو يقع خلف الصف الأول، وأسفل الصف الثاني من الجبال، وهو نهر صغير لا يزيد عرضه عن خمسة عشر متراً، وقد رأينا به قليلا من الماء. وكان المسلمون يعبرون هذا الطريق الذي كان يعبره الرومانيون من قبل، إلى أراضي قشتالة. بويرتو دل مورادال وهذا الطريق المسمى " كرثادا " يسير من ناحية أخرى صاعداً نحو القمة الكبيرة الواسعة من السفح المسماه Puerto del Moradal ( بويرتو دل مورادال) أو ثغر مورادال، وكان هذا هو أهم ممرات جبل الشارات. والطريق الصاعد إليه فيما يبدو من آثاره الحجرية، كان طريقاً عريضاً، يبلغ عرضه نحو العشرة أمتار. وكذلك يبدو من بعض أجزائه القليلة الباقية، المعبدة بالحجر الأسود، ْأنه كان طريقاً معبداً كله، وهذا الممر يحتل فوق قمة جبل الشارات مساحة كبيرة منبسطة، ثم ينزل من الناحيتين صاعداً وهابطاً، ويسمى منزل هذا الممر وما حوله باسم " الإمبدرادليو " Empedradillo . وقد شاهدنا فوق قمة مورادال، وأمام الممر، أنقاض أحجار كثيرة، قيل لنا إنها كانت أنقاض محلة رومانية Venta خلال الطريق القديم، ومنها ينزل نحو نهر مجانيا. ويوجد على مقربة من ممر مورادال جبل مطل على النهر يسمى " جبل المسلم " Cerro del Moro . مائدة الملك وإلى يسار ممر مورادال، على مسافة نحو ساعة منه، توجد قمة أخرى تشغل يسيطاً كبيراً، بيضاوياً، يمتد نحو اليمين ونحو اليسار إلى مسافة عدة كيلومترات،

صورة: نهر مجانيا كما يبدو في أسفل الجبال. صورة: منحدر دسبينيابروس.

وهو البسيط الذي يسمى " مائدة الملك " Mesa del Rey ، وقد شهدناه من بعد أولا، ولاح لنا أنه بالفعل، مستدير أو بيضاوى كالمائدة، ومن ثم كان الاسم الذي أطلق عليه. وتنحرف جوانب هذه القمة إلى أسفل الوادي، مغطاة بالخضرة، وإلى جانبها الأيمن مرتفعات متعددة صاعدة ونازلة. وهذا المرتفع المستدير، يمتد كما قلنا من الجانبين إلى مسافات شاسعة يطلق عليها جميعا نفس الاسم " مائدة الملك "، ويبدو من انبساطها وضخامة مساحتها، أنها كانت بالفعل تصلح محلة للجيوش الغازية. ... ونحن نستطيع بعد تتبع هذا الوصف لأوضاع المعركة وأماكنها المختلفة، أن نتتبع تحركات الجيش القشتالي والموحدى، وأن نكوّن فكرة واضحة عن مسرح معركة العقاب الحقيقى. وكان النصارى بعد احتلالهم بسيط مورادال الواقع فوق الجبل، قد استطاعوا أن ينتزعوا قلعة كسترو فيرال الإسلامية الواقعة في قمة الجبل والتي وصفناها من قبل، وهي التي تسمى أحيانا بحصن العقاب، وكانت بها حامية موحدية صغيرة، ولكنهم شعروا مع ذلك بحرج موقفهم في ذلك المكان نظراً لوعورته، ونقص وسائل التموين والمياه فيه، وكان لابد لهم بأي حال أن يعبروا جبل الشارات إلى الناحية الأخرى، وكان ذلك متعذراً عليهم نظراً لاحتلال الموحدين سائر ممراته بقوات كافية، ولاسيما ممر لوسا الواقع جنوب غربي الحصن، وهو الذي يفضى إلى سهول تولوسا، والذى لا يمكن لجيش عظيم بأسره اقتحامه. عندئذ اجتمع الملوك النصارى مع قوادهم للبحث عن مخرج لهذا المأزق، وكان الرأي الغالب، هو أن يعود الجيش النصراني أدراجه إلى السهل، ثم يحاول دخول أراضي الأندلس من طريق آخر، ولكن ملك قشتالة عارض في هذا الرأي، لأن أية حركة ارتداد كانت في نظره خطراً على روح الجيش المعنوية، فضلا عن اعتبارها من جانب الأعداء فراراً ونكولا عن خوض المعركة. وهنا تعرض لنا الرواية النصرانية قصة يطبعها لون من الأسطورة، وهي أن راعياً من رعاة هذه الأنحاء، تقدم إلى القادة النصارى، وأخبرهم أنه يستطيع إرشادهم إلى طريق آخر لعبور الجبل، يقع في مرتفع آخر، ويفضى إلى سهل أبدّة، ويمكن أن يسلكه الجيش دون أن يفطن العدو إلى ذلك. فسار معه القائدان لوبث دي هارو،

صورة: ممر بورتو دل مورادال كما يبدو من أسفل الجبل. صورة: بسيط مائدة الملك Mesa del Rey كما يبدو من أسفل الجبل.

وغرسية روميرو لمعاينة هذا الطريق، ولما تحققا من صحة كل ما قاله الراعى، بادر الجيش النصراني في نفس اليوم - وهو يوم السبت 14 يوليه - بالسير إلى ذلك المرتفع الجديد، واحتلوا بسيطه - وهو البسيط الذي يطلق عليه اليوم اسم " مائدة الملك " Mesa del Rey وهو الذي وصفناه، وبينا موقعه فيما تقدم. وحصنوا ما حوله، وبقيت بقية الجيش النصراني مرابطة من ورائه، واعتبر هذا الراعى المرشد منقذاً أرسله الله (¬1). ولم يخف أمر هذه الحركة التي قام بها الجيش النصراني على الموحدين، وقد وقفوا في الحال على مكان عدوهم الجديد، وحاولت فرقة من الفرسان الموحدين عبثاً أن تنتزع هذا المرتفع الجديد من أيدي النصارى. وصدرت أوامر الخليفة الناصر بتعبئة الجيوش الموحدية لخوض المعركة في الحال، ولكن الملوك النصارى آثروا الاعتصام مؤقتاً بمركزهم المنيع، ولم يريدوا بالأخص أن يخوضوا المعركة في يوم أحد، واقتصر الأمر على بعض المناوشات البسيطة بين سريات الفرسان من الفريقين. بيد أنه لم يكن من الميسور على النصارى أن يؤخروا خوض المعركة لأكثر من يوم، أولا لقلة مؤنهم، وخوفهم أن تنضب بسرعة، وثانيا لكون الجيش الموحدي، لبث منذ يوم السبت في حالة تعبئة مستمرة للقتال، وقد يفاجئ الجيش النصراني بالهجوم. وكان الناصر على علم مستمر بأحوال الجيش النصراني، وكانت كل تقديراته تؤكد له تحقيق الظفر المنشود. وليس لدينا في الرواية الإسلامية تفاصيل شافية، عن التنظيمات التي وضعت للجيوش الموحدية لخوض المعركة، بيد أنه يبدو مما ذكره لنا صاحب روض القرطاس، وكذلك ما يذكره لنا ردريك الطليطلى، وهو من شهود المعركة، أن الجيش الموحدي، قُسم وفق الأوضاع الموحدية من خمس فرق، تتألف الفرقة الأمامية من القوات المتطوعة من مختلف الطوائف، وتتألف قوات القلب والقوات الاحتياطية من الجند الموحدين، وهم أغلبية الجند النظامية، وتتألف الميمنة من القوات الأندلسية، والميسرة من قوات البربر من مختلف القبائل. ¬_______ (¬1) وردت هذه التفاصيل وهذه القصة في معظم التواريخ النصرانية الإسبانية. ويراجع في ذلك Primera Cronica General (Ed. Pidal) Vol. II. p. 698 ونقلها الأستاذ هويثى في كتابه: ْ Las Grandes Batallas de la Reconquista ; p. 250 -. ونقلها أيضا أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين (الترجمة العربية) ص 365.

رسم تخطيطي: لمواقع موقعة العقاب خلال جبال سيرّا مورينا والسهل الواقع في جنوبها.

وضربت قبة الخليفة الحمراء، فوق ربوة عالية تتوسط البسيط الذي تحتله الجيوش الموحدية، والذى يواجه مواقع الجيش النصراني. ودارت العبيد، وهم أغلبية الحرس الخليفى حول القبة من كل ناحية، وكلها مزودة بالسلاح والعدة، وضرب في نفس الوقت حول القبة الخليفية سياج من الأعمدة وعدة من السلاسل الحديدية الضخمة، وشهر جند الحرس حرابهم في اتجاه العدو، فكانت سداً منيعاً دون اختراقه الموت، وجلس الناصر في قبته مستنداً إلى درقته، ومعه أشياخ الموحدين، وربطت فرسه مسرجة أمامه، ووضعت الساقات والبنود والطبول أمام العبيد، تحت إمرة الوزير أبي سعيد بن جامع وكان بوسع النصارى أن يروا من مواقعهم العالية، جموع المسلمين التي لا تحصى، وفي قليها قبة أمير المؤمنين الحمراء (¬1). أما عن تنظيم الجيش النصراني فلدينا تفاصيل كثيرة، يقدمها إلينا ردريك الطليطلى وغيره من شهود المعركة، وخلاصتها أن الجيش النصراني قسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يتزعم كل قسم منها، ملك من ملوك النصارى الثلاثة، الأول يتكون من القلب ويقوده ملك قشتالة ألفونسو الثامن، هذا إلى جانب احتفاظه بالقيادة العليا. ويتكون الثاني من الجناح الأيمن، ويقوده سانشو ملك نافارا، ويضم فضلا عن القوات النافارية، جند سرية وآبلة وشقوبية ومدينة سالم، وفرسان فرنسا الذين يرأسهم مطران أربونة، وجند جليقية والبرتغال. ويتكون القسم الثالث من الجناح الأيسر، ويقوده بيدرو الثالث ملك أراجون، ويشتمل على قوات الطليعة والقوات التي يقودها أشراف أراجون. وقد وزع كل قسم من هذه الأقسام إلى وحدات عديدة، فوضع في القلب فرسان الداوية والأسبتارية وفرسان قلعة رباح كل منها تحت إمرة قائده الخاص، وكذلك الصفوف التي يقودها مطران طليطلة وخمسة من الأساقفة القشتاليين (¬2). وفي ليلة يوم الاثنين الخامس عشر من صفر سنة 609 هـ (ليلة 16 يوليه سنة 1212 م)، استعد الفريقان لخوض المعركة، وقضى النصارى شطراً من ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 158، وراجع أيضاً أشباخ في تاريخ المرابطين والموحدين، الترجمة العربية ص 367، وكذلك: Huici: cit. Anales Toledanes, Las G. Batallas de la Reconquista p. 257 (¬2) أشباخ الترجمة العربية، ص 366، وكذلك: Huici: ibid ; p. 253 & 254.

الليل في الصلاة والدعاء، وتلقى البركة والغفران البابوى على يد الأساقفة ورجال الدين. ولم نجد في الرواية الإسلامية ما يشير إلى أنه وقع في الجيش الموحدي في تلك الليلة، شىء من تلك المناظر المؤثرة، التي وقعت به قبيل اضطرام معركة الأرك، من تبادل الاستغفار بين الخليفة والناس، ومن وعظ وبكاء وحث على الجهاد، فقد كان الخليفة الناصر حسبما تشير سائر الروايات، واثقاً من النصر، واثقاً من تفوقه العددي الهائل، ولم يكن ينتظر سوى بدء المعركة لإحراز النصر المنشود. وبدأت المعركة في الصباح الباكر من يوم الاثنين الخامس من صفر، وكان كل من الجيشين على أهبة لخوضها، وقد رتبت صفوفه وفقاً للأوضاع التي سبق وصفها. وبدأ النصارى بالهجوم، فهبطت طلائعهم مسرعة من المرتفع الذي تحتله الجيوش النصرانية في بسيط " مائدة الملك " Mesa del Rey إلى السهل الأسفل الذي يحتله الجيش الموحدي، والذى يشغل بسيطاً شاسعاً، يقع عند الطرف الغربي من بلدة " سانتا إيلينا "، ويستند من الخلف إلى سلسلة من المرتفعات المنخفضة، وانقضت على مقدمة الجيش الموحدي، فلقيتهم صفوف المتطوعة بقوة وثبات، واقتتل الفريقان بشدة حتى بدأ النصارى في التراجع، فأدركتهم الأمداد، وعادوا إلى الثبات تعززهم فرق الفرسان، التي صعب على المتطوعة الموحدين اختراقها، وهجم في نفس الوقت جناحا الجيش النصراني على جناحى الجيش الموحدي، واحتدمت بين الجيشين معركة هائلة عامة، وكانت طبول الساقة الموحدية، تهز الآفاق بدويها الرائع. ويستفاد من أقوال الروايتين الإسلامية والنصرانية، أن المتطوعة المسلمين بعد ثباتهم الأول، قد ارتدوا تحت ضغط النصارى الهائل، وكثر القتل فيهم، بل يقول لنا صاحب روض القرطاس، إنهم لبثوا يقاتلون حتى إستشهدوا عن آخرهم " وعساكر الموحدين والعرب وقواد الأندلس ينظرون إليهم لم يتحرك منهم أحد " (¬1). ولكن النصارى حين تقدموا بعد التغلب على فرق المتطوعة إلى قلب الجيش الموحدي، لقوا من الجند الموحدين أشد مقاومة، وردوا على أعقابهم. ومن جهة أخرى، فإن قوات الميمنة والميسرة الموحدية استطاعت بعد قتال عنيف أن ترد جناحى الجيش النصراني، وأخذ النصارى حسبما تقول لنا الرواية النصرانية ذاتها، في الارتداد ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 158.

والفرار (¬1)، ولاح للفريقين أن لواء النصر سوف يعقد للموحدين. ولكن هذه البارقة لم يطل أمدها. ذلك أن ألفونسو الثامن ملك قشتالة، حينما شهد من فوق المرتفع ما آلت إليه المعركة، من تراجع القوات النصرانية في القلب والجناحين، وما ينذر به ذلك من هزيمة محققة، اعتزم في الحال أن ينزل إلى الميدان بقواته الاحتياطية المختارة، من قوات قشتالة وليون، ليقاتل قتال اليائس، واندفع بالرغم من اعتراض المطران والأساقفة والقوامس على مسلكه الخطر، في قواته إلى الصف الأمامى. وتبعه في نفس الوقت ملكا أراجون ونافارا كل في قواته، نحو جناحى الجيش الموحدي، وهجمت القوات النصرانية كلها في وقت واحد، بمنتهى العنف والشدة، حتى بدأت ميمنة الجيش الموحدي وميسرته في الارتداد أمام ضغط الفرسان النصارى، وفرّ الأندلسيون والعرب، وأحدث فرارهم اضطرابا في الصفوف. وهنا تمركز هجوم النصارى على قلب الجيش الموحدي، المكون من الجنود النظامية والاحتياطية، والذى تتوسطه قبة الخليفة الحمراء، ومن حولها الحرس الخليفى الأسود، وكان النصارى قد انتعشوا، بما شهدوا من تطور المعركة في صالحهم، فشددوا الهجوم على الموحدين. وصمد الموحدون، ودافعوا بمنتهى الشدة، ومن ورائهم الحرس الأسود شاهراً رماحه، من وراء السلاسل الحديدية الضخمة، وكان الخليفة الناصر قد أدرك حقيقة الموقف، فنهض من مجلسه وجلس أمام خبائه على درقته، وهو يحث جنوده على الاستبسال، واستطاع النصارى أخيراً أن يخترقوا قلب الجيش الموحدي إلى دائرة الحرس الأسود، فردتهم السلاسل الحديدية ورماح العبيد المشهرة حيناً، وهم كالبنيان المرصوص حول القبة الخليفية. ولكن النصارى " ردوا أكفال الخيل المدرعة إلى رماح العبيد " (¬2) فاخترقوا الدائرة المدرعة، وكان أول من دخلها منهم الكونت ألبارو نونيز دي لارا على رأس كتيبة من الفرسان القشتاليين، وفي يده علم قشتالة الأبيض، ودخلها في نفس الوقت ملكا أراجون ونافارا كل من ناحيته، وبذلك مزق الجيش الموحدي من كل ناحية، وكثر القتل فيه كثرة مروعة، ولبث الخليفة الناصر حتى آخر لحظة في مجلسه الحرج، وهو يحاول ¬_______ (¬1) وهذا ما تقوله لنا رواية ألفونسو العالم. وتراجع في: Primera Cronica General (Ed. Pidal) Vol. II, p. 701 (¬2) روض القرطاس ص 158.

حث جنده على الصمود. وتنوه الرواية الإسلامية بثبات الناصر وصموده اليائس في تلك اللحظة الرهيبة، التي تناثر فيها الجيش الموحدي، والحرس الخليفى من حوله أشلاء دامية، وشراذم فارة في كل ناحية، وتقول لنا إنه لبث في مكانه لا يتزحزح، حتى كادت الروم أن تصل إليه، بل كاد أن يهلك، وقتل حوله من العبيد أكثر من عشرة آلاف عبد، وأنه لولا ثباته على هذا النحو لاستؤصلت جموع الجيش الموحدي كلها قتلا وأسرا (¬1). واضطر الناصر في آخر لحظة أن يمتطى صهوة فرس قدمها إليه أعرابى كان إلى جانبه، وأن يفر مع نفر من خاصته على جناح السرعة جنوبا نحو بيّاسة، ثم اتخذ طريقه منها إلى جيان، وكانت فلول الجيش الموحدي عندئذ تفر في كل ناحية، ومن ورائها الفرسان النصارى يمعنون فيها قتلا وإفناء. واستمرت هذه المطاردة المروعة على مدى ثلاث مراحل حتى دخل الليل، وكانت أشنع ما وقع من ضروب السفك والتقتيل، إذ هلك فيها عشرات الألوف من الجند الفارين، وانقض الجند النصارى على المحلة الموحدية ينتزعون منها ما استطاعوا من المتاع والأسلاب، بالرغم من تحذير مطران طليطلة. وقبيل مغيب الشمس، كان الملوك النصارى، والمطران، والأساقفة، وجزء كبير من الجيش النصراني، قد دخلوا محلة الجيش الموحدي، واستقروا بها، وأضحى الجيش الموحدي العظيم الذي كان بها منذ ساعات قلائل فقط، أثراً بعد عين. وكان وقوع هذه النكبة المروعة بالجيش الموحدي في يوم الاثنين الخامس عشر من شهر صفر سنة 609 هـ الموافق يوم 16 يوليه سنة 1212 (¬2)، وهي تعرف في التواريخ النصرانية حسبما قدمنا بموقعة هضاب أو عقاب تولوسا Las Navas de Tolosa لوقوعها فوق مجموعة من الوديان الصغيرة، التي تحيط بها الربى، تقع في سفح جبل الشارات الجنوبى، وتعرف أيضاً بموقعة أُبّدة لوقوعها على مقربة من شمال غربي هذه المدينة. وأما في التواريخ الإسلامية فإنها تعرف ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 159، والمراكشي في المعجب ص 183، والبيان المغرب القسم الثالث ص 241. (¬2) هذا هو التاريخ الذي تأخذ به معظم الروايات الإسلامية، وهو الذي يتفق بالفعل مع الروايات النصرانية (راجع المعجب ص 183، وروض القرطاس ص 159، والروض المعطار ص 138). ولكن ابن خلدون يضع تاريخها في أواخر صفر سنة 609 هـ (كتاب العبر ج 6 ص 249). ويضع صاحب البيان المغرب تاريخها في يوم الاثنين 8 صفر سنة 609 - القسم الثالث ص 241.

بموقعة العِقاب، من مفردها عقبة، وذلك فيما يرجح لوقوعها بين الربى والتلال المانعة (¬1)، وليس بمعنى المعاقبة على الذنب، وإن كان بعض الكتاب والشعراء قد نسبوا إليها مثل هذا المعنى، في معرض التلويح بغضب الله وعقابه للموحدين، لأنهم حادوا عن جادته، وبغوا وتجبروا، واعتمدوا على كثرتهم ولم يعتمدوا على عونه. وينفرد صاحب روض القرطاس إلى جانب تسميتها بموقعة العقاب بتسميتها بموقعة " حصن العقاب " أو "حصن العقبان " (¬2) وهو باسمه الإسبانى حصن فرّال أوكاستروفرال Castro Ferral الواقع في قمة جبل الشارات، والذى استولى عليه القشتاليون قبيل المعركة ثم تركوه ليعبروا الجبل من الناحية الأخرى التي أرشد عنها الراعي. ومن المسلم أن خسائر المسلمين في معركة العقاب كانت فادحة جداً. والروايات الإسلامية تجمع كلها على أن الجيش الموحدي، قد هلك معظمه. بيد أنها تذهب أحيانا إلى تقديرات لا يستسيغها العقل، ومن ذلك ما يقوله صاحب روض القرطاس أنه لم ينج من الجيش الموحدي إلا الواحد من الألف، فإذا ذكرنا أنه يقدر جموع الجيش الموحدي بأكثر من نصف مليون، فمعنى ذلك أنه لم ينج من الموحدين في المعركة سوى خمسمائة جندى، وهذا منتهى الإغراق. ثم هو من جهة أخرى يقول لنا بأن سبب هذه الكثرة الفادحة من القتلى، يرجع إلى أن ملك قشتالة أمر أن ينادى في جيشه بأن لا أسر إلا القتل، ومن أتى بأسير قتل هو وأسيره (¬3). ويصف صاحب الحلل الموشية الموقعة " بالهزيمة العظمى " التي فنى فيها أهل المغرب والأندلس. ويقول صاحب " الذخيرة السنية " مشيراً إلى الموقعة أنه قتل من المسلمين خلق كثير لا يحصر، وفيها فنى جيوش المغرب والأندلس (¬4)، ولكن المراكشي وهو مؤرخ معاصر يقول لنا في نوع من الاعتدال، إنه قتل من الموحدين خلق كثير، ويتابعه في هذا الوصف صاحب الروض المعطار، ويقول لنا إنه قد هلك في الموقعة جملة من الأعيان والطلبة، منهم أبو بكر بن عبد الله بن أبي حفص، وعلي بن الغانى الميورقي. وسقط كذلك في المعركة عدة من أكابر ¬_______ (¬1) جاء في القاموس المحيط أن عقبه بالتحريك هي مرقى صعب من الجبال والجمع عقاب (بكسر العين). (¬2) روض القرطاس ص 159 و 158. (¬3) روض القرطاس ص 159. (¬4) الحلل الموشية ص 122، والذخيرة السنية ص 48.

العلماء والحفاظ، منهم أحمد بن هارون بن عات النفزى، وإسحاق بن إبراهيم المجابرى، ومحمد بن حسن الأنصارى المعروف بابن صاحب الصلاة، ومحمد ابن إبراهيم الحضرمى، وأيوب بن عبد الله بن عمر الفهرى، والشاعر الزاهد تاشفين بن محمد المكتب وغيرهم (¬1). بيد أنه مما يلفت النظر حقاً أن الرواية النصرانية مع ما يؤثر عنها من المبالغة في مثل هذه المواطن، تقدم إلينا عن خسائر الموحدين في الموقعة، أرقاما يطبعها نوع من الاعتدال، بكونها تقل كثيراً عما تقدمه إلينا الرواية الإسلامية، بيد أنها من جهة أخرى تبالغ في التقليل من خسائر النصارى ذلك أن ردريك الطليطلى قدر من قتل من المسلمين في الموقعة بمائتي ألف، وذلك من مجموع الجيوش الموحدية التي يقدرها بمائة وخمسة وثمانين ألف فارس، وعدد لا يحصى من المشاة، ويقدر الملك ألفونسو الثامن قتلى المسلمين في خطابه إلى البابا بمائة ألف، ويقدرهم أرنولد مطران أربونة بستين ألفاً، ثم يقول إنه من الممكن أن يكون قد هلك منهم أكثر من هذا العدد أثناء الفرار، وتقدر الأميرة برنجاريا القشتالية في خطابها إلى أختها الملكة بلانكا ملكة فرنسا، قتلى المسلمين بخمسة وثمانين ألفاً. بيد أن الروايات النصرانية تقدم إلينا في نفس الوقت عن خسائر النصارى في المعركة أرقاما لا يمكن أن يصدقها العقل، ومن الغريب أن شهود العيان الذين تقدم ذكرهم هم الذين يقدمون هذه الأرقام. فالمطران ردريك يقول لنا إنه لم يقتل في الموقعة من النصارى سوى خمسة وعشرين، والملك ألفونسو يذكر في خطابه إلى البابا أنهم لم يتجاوزوا الثلاثين، وأرنولد مطران أربونة يقول إنهم لم يتجاوزوا الخمسين، ولا ريب أن مثل هذه الأرقام الضئيلة لم تملها سوي أثرة الرواية النصرانية، ومحاولتها أن تسبغ ثوب المعجزة، على النصر الذي أحرزه النصارى. ومن المحقق أن خسائر النصارى كانت شديدة أيضاً، في مثل هذه المعركة التي التحم فيها الجيشان بأسرهما، وردت فيها هجمات النصارى الأولى بخسائر كبيرة لا ريب، ولم ينجحوا في اختراق قلب الجيش الموحدي إلا بعد جهود فادحة، وبعد أن ألقوا في المعركة بقواتهم الاحتياطية، ولا يمكن أن تقل هذه الخسائر عن الألوف العديدة، في جيش لم يكن يقل تعداده عن ثمانين ألف أو مائة ألف من الفرسان والمشاة. ويقدم إلينا الراهب ألبريكوس الذي عاش ¬_______ (¬1) المعجب ص 183، والروض المعطار ص 138، وابن الأبار في التكملة (القاهرة) في التراجم رقم 262 و 517 و 1508 و 1559.

صورة: سهام خيل أرضية عثر بها المؤلف بالحفر في بعض نواحي السهل الذي كانت به المحلة الموحدية. قريباً من هذا العصر تفسيراً لهذا الرقم الضئيل، الذي تقدمه الرواية النصرانية عن خسائر النصارى، فيقول إنه قد هلك في الموقعة من المسلمين مائة ألأف، ولكن هلك في نفس الوقت من النصارى خلال التحام المعركة عدد كبير، بيد أنه لم يهلك منهم خلال مطاردة المسلمين سوى نحو ثلاثين (¬1). واستولى النصارى في محلة الجيوش الموحدية على مقادير وافرة من الغنائم من العتاد والسلاح والخيام والذهب والفضة، والنقود الذهبية والبسط والآنية الثمينة والثياب والأقمشة الفخمة، وكذلك على مقادير عظيمة من المؤن، وعلى ألوف مؤلفة من دواب الحمل، فكانت من أعظم الغنائم التي ظفر بها النصارى (¬2). ¬_______ (¬1) تراجع الروايات النصرانية عن خسائر المسلمين والنصارى في أشباخ (الترجمة العربية) ص 370 و 371. وكذلك في: Huici: Las Grandes Batallas de la Reconquista p. 266 & 267 (¬2) راجع في تفاصيل موقعة العقاب، المعجب ص 183 - 185، والبيان المغرب القسم الثالث ص 240 - 242، وروض القرطاس ص 156 - 160، والروض المعطار ص 137 و 138 والنويري (طبعة ريميرو السابق الإشارة إليها ج 8 ص 379) والحلل الموشية ص 122، =

وكان من أهم الغِنائم الغنائم التي أحرزها النصارى خيمة الناصر الحريرية الموشاة بالذهب، وعَلَمٌ موحدى ضخم مازال يحفظ حتى اليوم بين ذخائر اسبانيا النصرانية. وقد أرسلت الخيمة مع طائفة أخرى من نفيس الهدايا إلى البابا برسم كنيسة القديس بطرس، لتعرض بها تذكاراً للنصر، واستولى ملك نافارا على السلاسل الحديدية التي كانت تحيط بقبة الخليفة. وأما العَلَم الموحدي فما زال يحفظ حتى اليوم بالدير الملكى بمدينة برغش (¬1)، وقد شهدناه وقت زيارتنا لهذه المدينة التاريخية، وهو عبارة عن سجادة كبيرة طولها 3,30 مترا وعرضها 2,20 متراً. وبها في الوسط دائرة كبيرة صفراء يحيط بها مربع ذو مقاطع أربعة، وقد ملئت الدائرة والمربع بنقوش عربية جميلة، ويحيط بهذا المربع من الجوانب الأربعة أحزمة بنية، نقشت عليها آيات قرآنية بخط أزرق، وفي ذيلها دوائر نقشت فيها أدعية مختلفة. والظاهر أن هذا العلم لم يكن من الأعلام التي كانت تحمل خلال المواقع، وإنما كان من الأعلام التي تعلق بخيمة الخليفة. ومن ثم كان الاسم الذي يعرف به وهو " مُعلق معركة العقاب " Pendon de las Navas، وكذلك الوصف الذي سطر تحته بالإسبانية وهو " غنيمة انتزعت من العدو في موقعة العقاب " (¬2). - 3 - ولابد لنا أن نحاول بعد ذلك أن نتلمس الأسباب المادية والمعنوية، التي أدت بالجيش الموحدي إلى تلك الكارثة المروعة. فالحقيقة أنه إلى جانب الأسباب التقليدية المعروفة، من اختلال نظام الجيوش الموحدية الكبيرة العدد، وعدم اتساق تنظيماتها، وتنافر العناصر المكونة منها، وعدم توحيد قيادتها بأيدى قادة يتسمون بالبراعة العسكرية، واختلال نظام التموين بها، نظراً لابتعادها عن قواعدها مسافات شاسعة، إلى جانب ذلك توجد عدة أسباب أدبية عاونت ¬_______ = وابن خلدون ج 6 ص 249، ونفح الطيب ج 2 ص 528 وراجع الروايات النصرانية P. Cronica General (Ed. Pidal) P. 690 - 704. Huici: Las Grandes Batallas de la Reconquista ; p. 231 - 308 والمراجع، وكذلك أشباخ (الترجمة العربية) ص 365 - 378. (¬1) واسمه بالإسبانية Real Monasterio de las Huelagas. (¬2) راجع وصف هذا العلم وما نقش عليه من آيات في كتابنا الآثار الأندلسية الباقية في اسبانيا والبرتغال (الطبعة الثانية) ص 213 و 214. وراجع أيضاً: A. de los Rios: Trofeos Militares de la Reconquista, Ensenas Musulmanes del Real Monasterio de las Huelgas (Burgos) . (Madrid 1893) p. 27 - 48.

على وقوع الكارثة. وتشير الرواية الإسلامية إلى طرف من هذه الأسباب، وتلخصها في تغير قلوب الموحدين، وسخطهم على الوزراء والقادة، وذلك بسبب حبس أعطيتهم وتأخرها، وقد كان المتبع منذ أيام المنصور، أن يُمنح العطاء للجند مرة في كل أربعة أشهر دون تأخير، ولكن العطاء كان يؤخر في عهد الناصر ولاسيما في هذه الحملة الكبيرة، فنسب الجند أسباب التأخير للوزارة، وخرجوا إلى الغزو وهم كارهون، وقد خبت قواهم المعنوية، وهكذا خرج الناصر إلى الغزو " بحشود لا غرض لهم في الغزو، وقد أمسكت أرزاقهم، وقتر عليهم ". ويقول لنا المراكشي فضلا عن ذلك، أنه بلغه من جماعة منهم " أنهم لم يسلوا سيفاً ولا شرعوا رمحا، ولا أخذوا في شىء من أهبة القتال، بل انهزموا لأول حملة الإفرنج عليهم، قاصدين لذلك " (¬1). أضف إلى ذلك ما حدث قبل نشوب المعركة في المعسكر الموحدي، من حوادث كان لها نذير. منها قتل الخليفة الناصر للقائد الأندلسي الباسل ابن قادس قائد قلعة رباح هو وصهره، دون أن يستقبله أو يستمع إلى عذره، ومنها إهانة الوزير أبي سعيد بن جامع للقواد الأندلسيين وإنذارهم بمغادرة الجيش، وقد كان لهذه الحوادث أسوأ وقع في نفوس الأندلسيين، وفي تثبيط همتهم في القتال، وكان الأندلسيون بالرغم من قلتهم العددية، عنصراً هاما في جيوش الغزو الموحدية المقاتلة بالأندلس، لأنهم كانوا أكثر خبرة بقتال النصارى الإسبان، وأكثر دراية بطريقتهم في الحرب (¬2). وقد رأينا كيف كان اعتماد الخليفة المنصور على نصح ابن صناديد قائد الأندلس ومشورته، من أسباب نصره في معركة الأرك. وأخيراً فإن ما أبداه الناصر من العُجب والاعتداد بكثرة جموعه، واعتماده على تفوقه العددي البالغ، والتقليل من شأن العدو، كان له أكبر الأثر فيما بدا من الرعونة، وعدم الحرص والتحوط في لقاء العدو، ومن ثم فقد كان ظفر القشتاليين باختراق قلب الجيش الموحدي بتلك السرعة، مفاجأة هائلة لم تخطر للناصر ولا للقادة الموحدين. وترى بعض الروايات الإسلامية أن نكبة الناصر في العقاب كانت عقوبة من الله على ما أبداه من العجب والاعتزاز بكثرة جموعه، واعتقاده أنه لا غالب له من الناس، فأراه ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 183، والروض المعطار ص 138. (¬2) روض القرطاس ص 146 و 147، والروض المعطار ص 138، وراجع أيضاً نفح الطيب ج 2 ص 538.

صورة: العلم الموحدي الذي غنمه الإسبان في معركة العقاب ويحفظ الآن بدير برغش الملكى (لاس هويلجاس).

الله تلك الآية ليعلم أن النصر من عند الله، وأن القدرة والحول والقوة بيد الله (¬1). وقد أسفرت هزيمة العقاب الساحقة، عن أفدح وأروع الآثار التي يمكن تصورها، سواء بالنسبة للأندلس أو المغرب أو الدولة الموحدية. فأما بالنسبة للأندلس، فقد قضت هذه الهزيمة نهائياً، على سمعة الموحدين العسكرية في شبه الجزيرة، وتحطم ذلك الدرع الذي كانت تسبغه الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، على الأندلس وعلى دولة الإسلام بها، وتضعضع سلطان الحكم الموحدي بالأندلس، وأخذت الأندلس من ذلك الحين تنحدر إلى براثن الفوضى الطاحنة، وانتثرت غير بعيد إلى أحزاب وشيع جديدة، قامت لتضرب بعضها ْبعضاً، ولتبدأ عهداً جديداً من المعارك الانتحارية الصغيرة التي لا نهاية لها، والتي تذكرنا، بعهد الطوائف. وضمن ذلك النصر الباهر الذي أحرزته الجيوش النصرانية المتحالفة في هضاب تولوسا، لإسبانيا النصرانية، تفوقها السياسي والعسكرى في شبه الجزيرة، وفتح الباب واسعاً لغزو الاسترداد La Reconquista النصراني المنظم، الذي سوف يستمر من ذلك الحين في اجتناء ثماره، بانتزاع القواعد الأندلسية، واقتطاع أشلاء الأندلس الكبرى بصورة متتابعة، وفي فترات قصيرة مذهلة. وقد تردد هذا الفزع الذي سرى إلى الأندلس يومئذ، وما كان يلوح لها من شبح الفناء، من جراء كارثة العقاب، واضحاً في الأدب والشعر. فمن ذلك ما قاله أبو إسحق إبراهيم بن الدباغ الإشبيلي: وقائلة أراك تطل تفكرا ... كأنك قد وقفت لدى الحساب فقلت لها أفكر في عقاب ... غدا سبباً لمعركة العقاب فما في أرض أندلس مقام ... وقد دخل البلا من كل باب (¬2) وأما بالنسبة للمغرب، والدولة الموحدية، فقد كانت كارثة العقاب ضربة شديدة للمغرب، ولأهل المغرب، بما هلك فيها من حشود القبائل البربرية، وزهرة جنودهم، ومن الجيوش الموحدية النظامية، ولم يعد في مقدور هذه القبائل أن تقدم للغزو الكثير من حشودها، ولم يعد في مقدور الدولة الموحدية أن تجدد مثل ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 160. (¬2) نفح الطيب ج 2 ص 582.

هذه الحملات العسكرية العظيمة، التي كان يقودها خلفاء مثل عبد المؤمن وأبي يعقوب يوسف والمنصور والناصر. وكما أن الرواية الإسلامية تنوه بخطورة آثار الهزيمة في مصير الأندلس، وتصفها بأنها كانت سبباً في " هلاك الأندلس " (¬1)، فإنها تنوه كذلك، وبنوع خاص، بالخسارة الآدمية الهائلة، التي وقعت من جرائها بالمغرب والأندلس، وتصف الموقعة بالهزيمة العظمى " التي فنى فيها أهل المغرب والأندلس (¬2)، أو التي خلا بسببها أكثر المغرب (¬3)، أو حسبما تقول لنا في عبارة أوضح وأشمل " إن المغرب قد باد أهله ورجاله وفنى خيله وحماته وأبطاله، وقتلت قبائله وأقياله، قد استشهد الجميع في غزوة العقاب " (¬4). ويلخص لنا ابن الأبار، نتائج الموقعة المدمرة بالنسبة للأندلس في قوله إنها " أفضت إلى خراب الأندلس بالدائرة على المسلمين فيها، وكانت السبب الأقوى في تحيف الروم بلادها، حتى استولت عليها " (¬5). وأما بالنسبة للدولة الموحدية، فقد هزت كارثة العقاب أركانها إلى الأعماق، وقضت على كل عوامل التوطد، التي أسبغها عليها المنصور بانتصاره في معركة الأرك، والتي تأيدت بإخماد ثورة بني غانية في إفريقية. ومما لا ريب فيه أن تضعضع الدولة الموحدية على هذا النحو، كان أكبر مشجع لبني حفص على اقتطاع إفريقية وإقامتهم غير بعيد لدولتهم المستقلة بها. ويلخص لنا صاحب الروض المعطار أثر الهزيمة في الدولة الموحدية بقوله " وكانت هذه الوقيعة أول وهن دخل على الموحدين، فلم تقم بعد ذلك لأهل المغرب قائمة " (¬6). ونستطيع بعد أن استعرضنا آثار هزيمة العقاب أن نقول في معرض المقارنة بينها وبين معركة الأرك، إن انتصار الموحدين في الأرك، بالرغم من عظمته ولمعانه، لم يسفر بالنسبة لإسبانيا النصرانية عن آثار عميقة، ولم يصب قشتالة بأكثر من ضعف عسكري مؤقت، استطاعت أن تنهض منه في فترة قصيرة، ولم يستطع الموحدون أن يقوموا في أعقابه إلا بغزوات عابرة لمنطقة إسترامادورة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 240. (¬2) الحلل الموشية ص 122. (¬3) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 538. (¬4) الذخيرة السنية ص 34. (¬5) ابن الأبار في " التكملة " (القاهرة) ج 1 ص 102. (¬6) الروض المعطار ص 138.

ثم لمنطقتى طلبيرة وطليطلة، وقد حاصروا طليطلة بالفعل، ولكنهم لم يحاولوا أو لم يستطيعوا الاستيلاء عليها. أما هزيمة العقاب، فقد رأينا بالعكس مما تقدم، ما كان لها من الآثار الهدامة العميقة. ومن الغريب المدهش حقاً، أن الناصر لم يرد أن يلوذ بالصمت إزاء هذه الكارثة الفادحة، بل أراد أن يقدم عنها اعتذاره في رسالة رسمية، وجهت من إشبيلية إلى حضرة مراكش وإلى غيرها من قواعد المغرب والأندلس، وذلك في أواخر صفر سنة 609 هـ. وقد نقل إلينا صاحب البيان المغرب بعض فصول هذه الرسالة، وهي من إنشاء الوزير الكاتب أبي عبد الله بن عياش، وفيها يقص علينا الناصر قصة استعدادات ألفونسو الثامن لمحاربة المسلمين، واهتمام البابا، والأحبار النصارى بمعاونته وشد أزره، وما كان من انضمام ملكى أراجون ونافارا إليه. ثم يصف لنا سيره للقاء النصارى، ويقول لنا إنه نشبت بين الفريقين في الموضع المعروف " بالمرشة " معركة " اشتد فيها الكفاح، وأرخصت الأرواح ". ثم يقول " ولكن الله أراد أن يمحص المؤمنين، ويبلى الكافرين، فكانت عاقبة اليوم على الخصوص لأهل الصلبان، والعاقبة المطلقة هي لأهل الإسلام والإيمان، وتحاجز الفريقان، والمسلمون عزيزة جوانبهم، محروسة بقدرة الله كتائبهم، لم تصب الحرب منهم أحدا، ولا نقصت لهم عدداً. وهي الحروب قضى الله أن تكون سجالا، وأن يجعل الله فيها لكل قوم مجالا ". ثم يقول في ختام رسالته: " وإذا كانت وفقكم الله الجيوش موفورة، والرايات منشورة، والعزائم باقية، وكفايات الله وافية، فلا تهنوا فإنا لا نهن، وانتظروا الكرة على الكفار، والإمداد عليهم، بجند الله الذين هم خير الأنصار، فما كان الله ليترك المؤمنين، حتى يأخذ أعداءهم أخذاً وبيلا، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا. وعرفناكم لتكون عندكم هذه الوقيعة على وجهها، والنازلة على كنهها، ولتعلموا أنه لم يدر للموحدين قتيل، ولا أصيب منهم كثير ولا قليل والسلام " (¬1). وإذا كان من الصعب أن يعلق المؤرخ على مثل تلك الرسالة، التي يصفها صاحب الروض المعطار بأنها من قبيل " الزخرف الكاذب "، فإنه يمكن القول بأنها محاولة جريئة من الخليفة المهزوم، للاعتذار عن نكبته وتهوين شأنها في نفوس أمته، واستدرار عطفهم، والتخفيف من سخطهم. ¬_______ (¬1) راجع البيان المغرب - القسم الثالث ص 241، 242.

- 4 - حاول ألفونسو الثامن ملك قشتالة، على أثر ظفره العظيم في موقعة العقاب أن يجتنى ثمار نصره باقتطاع ما يستطاع من الأراضي الإسلامية، فاستولى في أيام قلائل على معظم الحصون الإسلامية في تلك الناحية، وكان من بينها حصن فرّال (حصن العقاب)، الذي كان قد أخلاه قبل الموقعة، وبلج، وبانيوس، وتولوسا. ثم سار إلى مدينتي بيّاسة، وأبّدة، اللتين لا تبعدان عن مسرح المعركة سوى بضع مراحل. وكانت بياسة قد غادرها معظم أهلها، ولكن كان بها كثير من الجرحى والضعاف والفارين، فأحرق دورها، وخرب مسجدها الجامع، وقتل معظم من وجده بها، وأخذ بعضهم أسرى. ثم سار إلى مدينة أبدة، القريبة منها، وكانت تموج بأهلها، وبمن وفد عليهم من أهل بياسة، ومن الفارين، ولكنها كانت في حالة دفاع وأهبة، وقد امتنعت وراء أسوارها الحصينة، فحاصرها ألفونسو ثلاثة عشر يوما، وصمد المسلمون، ولحقت بالنصارى بعض الخسائر، ثم عرض المسلمون في النهاية أن يدفعوا فدية قدرها ألف ألف دينار على أن تترك المديئة حرة، وأن يتمتعوا بدينهم وشعائرهم، فقبل ألفونسو وزميلاه ملكا أراجون ونافارا هذا العرض، ولكن الأحبار عارضوا في تنفيذه، وأصروا على تسليم المدينة بلا قيد ولا شرط، فنزل الملوك عند هذا الضغط، ونقضوا العهد المقطوع، واقتحم الجنود النصارى المدينة، وقتلوا من أهلها زهاء ستين ألفاً، وسبوا منهم مثل هذا القدر. وتعترف الرواية النصرانية نفسها بهذه الشناعات، وتقدر من قتل وسبي من أهل أُبّدة، بمائة ألف، ويقدر بعضها السبايا وحدهم بمائة ألف (¬1)، ويقول لنا المراكشي، وهو المؤرخ المعاصر، إن ألفونسو دخل أبدة عنوة، فقتل وسبي وفصل هو أصحابه من السبي من النساء والصبيان، بما ملئوا به بلاد الروم قاطبة، فكانت هذه أشد على المسلمين من الهزيمة (¬2). ثم هدم النصارى دور المدينة، بعد أن خلت من سكانها حتى أصبحت خرابا يبابا. ولم يكن بين النصارى الظافرين وبين مدينة جيان سوى بضع مراحل، وكان من الطبيعي أن يقصد ملك قشتالة إلى انتزاع هذه القاعدة الأندلسية الهامة، ¬_______ (¬1) راجع أشباخ - الترجمة العربية ص 372، وكذلك: Huici: Imperio Almohade, Vol. II p. 427. (¬2) المعجب ص 184.

ولو حاول ذلك لكان من المحقق أن يفوز ببغيته، في تلك الظروف التي انهار فيها خط الدفاع الأمامى بالأندلس. ولكن مصاعب التموين كانت تتفاقم، وقد سادت الفوضى بين جنود الجيش الظافر، الذين امتلأت أيديهم بالغنائم، ثم كانت الطامة بانتشار الوباء بينهم من جراء اشتداد الحرارة، وتعفن الجثث التي غصت بها تلك الوديان، فارتد الملوك النصارى في قواتهم نحو الشمال، ودخلوا طليطلة عاصمة قشتالة في موكب ملوكى ضخم، وأقيمت صلوات الشكر ابتهاجاً بالنصر، وتقرر أن يغدو يوم 16 يوليه، وهو اليوم الذي تحقق فيه النصر، عيداً قومياً يحتفل به في طليطلة وسائر أنحاء قشتالة، ويسمى عيد " ظفر الصليب ". هذا وأما الخليفة الناصر لدين الله، فإنه بعد أن فر من ميدان المعركة في آخر لحظة، حسبما أشرنا من قبل، سار إلى جيّان ثم غادرها مسرعاً إلى إشبيلية فوصلها في أيام قلائل، في أواخر شهر صفر سنة 609 هـ، ووجه منها كتابه بالاعتذار عن الكارثة، إلى قواعد المغرب والأندلس. ولبث مقيما بإشبيلية حتى شهر رمضان من هذا العام، وهو لا يحرك ساكنا ولا يبالى بأمر، ثم عبر البحر إلى العدوة، قافلا إلى حضرة مراكش، وما كاد يستقر بها حتى أخذ البيعة بولاية العهد لولده السيد أبي يعقوب يوسف الملقب بالمستنصر، فبايعه كافة الموحدين، وخطب له على جميع المنابر بالمغرب والأندلس، وذلك في أواخر شهر ذي الحجة سنة تسع وستمائة. ثم لزم الناصر بعد ذلك قصره، واحتجب عن الناس. يقول صاحب روض القرطاس: " وانغمس في لذاته، فأقام فيه مصطبحاً ومغتبقاً " أي صباح مساء. وفي أوائل شهر شعبان سنة 610 هـ، مرض الناصر، وتوفي في مساء يوم الأربعاء العاشر من شعبان (22 ديسمبر سنة 1213 م) (¬1). وقد اختلف في أسباب وفاته، فقيل إنه توفي غما وألماً من آثار نكبته في العقاب (¬2). وقيل إنه توفي من عضة كلب (¬3)، وقيل إنه مات مسموماً، بتدبير بعض وزرائه، ممن خشوا من نقمته وانتقامه، لما بلغه عنهم من سوء فعلهم ودسائسهم، فأغروا ¬_______ (¬1) اختلف في يوم وفاته، فذكر إنه اليوم الخامس من شعبان أو اليوم العاشر (النويري - طبعة ريميرو ج 8 ص 280)، وذكر أنه اليوم الحادي عشر (روض القرطاس ص 160). ولكن المراكشي وهو أقرب من عاصره يضع تاريخ وفاته في يوم الأربعاء العاشر من شعبان (المعجب ص 184). (¬2) الروض المعطار ص 138. (¬3) الحلل الموشية ص 122.

بعض جواريه بوضع السم له في قدح من الخمر فمات من حينه (¬1). ولكن المراكشي وهو في ذلك أكثر اطلاعاً وأقرب إلى الثقة، لمعاصرته لتلك الحوادث، يقول لنا إن أصح ما بلغه عن وفاة الناصر " أنه أصابته سكتة من ورم في دماغه، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من شعبان، فأقام ساكتا لا يتكلم يوم السبت والأحد والاثنين والثلاثاء، وأشار عليه الأطباء بالفصد فأبى ذلك، وتوفي يوم الأربعاء لعشر خلون من شعبان سنة 610، ودفن يوم الخميس، وصلى عليه خاصة الحشم " (¬2). وكان الخليفة محمد الناصر لدين الله، آخر ذلك الثبت من الخلفاء الموحدين الذين اقترنت بعصرهم بعض الأحداث الضخمة الحاسمة، وكان أهم تلك الأحداث أولا تحطيم ثورة بني غانية في إفريقية، وهو ألمع حادث في عهده، ويقترن بذلك فتح الموحدين لميورقة، وثانيا نكبة العقاب المشئومة التي هزت أركان الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس. ولم يكن ثمة في بداية عهده ما يؤذن بأنه صائر إلى ذلك الانهيار، الذي انتهى إليه في فترته القصيرة، بل كانت صولة أبيه العظيمة، وذكريات نصر الأرك الباهر، مازالت تظلل الخلافة الموحدية. وقد بدأ الناصر عهده بداية حسنة، وأبدى همة ظاهرة في إدارة الشئون وتنظيم الإدارة، ومطاردة الفساد، وإقصاء العمال الظلمة والمرتشين، ولكنه لم يتذرع في ذلك بالروية وبعد النظر، بل كان يغلب في ذلك النزق والاستبداد. وكان الناصر في البداية، وهو مايزال في شرخ فتوته يسترشد بآراء أشياخ الموحدين، في تسيير الشئون الكبرى، ولاسيما بآراء الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، وفقاً لوصية أبيه المنصور، ولكنه لما اشتد ساعده، استبد بالأمر، ولم يعد يقبل نصحاً أو مشورة من أحد، حتى أنه رفض نصح الشيخ أبي محمد عبد الواحد، حينما استشاره في شئون الأندلس، بألا يسير إلى غزوته الكبرى، التي انتهت بنكبته في موقعة العقاب. ولم يقع في عهد الناصر شىء يذكر من الأعمال الإنشائية، التي امتاز بها عهد أبيه وجده، ولم يكن الناصر على شىء خاص من أنواع العلوم أو المعرفة، ولم يجتمع في بلاطه أحد من أولئك العلماء المبرزين، الذين اجتمعوا حول أبيه، وإنما كان يلوذ ببلاطه فقط بعض الشعراء الملقين، الذين عرفناهم فيما تقدم، مثل أبي العباس الجراوى، ووزيره خالد اللخمى وغيرهما. ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 243، وروض القرطاس ص 160. (¬2) المعجب ص 184، ونقله النويرى (طبعة ريميرو ج 8 ص 280).

وقد وصف لنا المراكشي وهو مؤرخ معاصر، وربما شاهد عيان، صفات الناصر في قوله: " كان كثير الإطراق، شديد الصمت، بعيد الغور، كان أكبر أسباب صمته لثغاً كان بلسانه، حليما، شجاعاً، عفيفاً عن الدماء، قليل الخوض فيما لا يعنيه، إلا أنه كان بخيلا " (¬1). ونحن نعتقد أن وصف الناصر بالعفة عن الدماء، وصف في غير موضعه، لما رأيناه فيما تقدم، من تسرعه في سفك دماء بعض العمال، ودماء القادة الأندلسيين. ويقول صاحب روض القرطاس " إنه كان كبير الهمة، غليظ الحجاب، لا تكاد تصله الأمور إلا بعد الجهد، مصيب برأيه، مستبد في أموره وتدبير مملكته بنفسه " (¬2) وأما عن شخصه، فيوصف الناصر، بأنه كان أبيض، أشقر اللحية، أشهل العينين، نحيل الجسم، حسن القامة. ووزر للناصر في البداية وزير أبيه عبد الرحمن بن يوجان، ثم استوزر من بعده أخاه إبراهيم بن الخليفة المنصور، ثم ولى الوزارة من بعده أبو عبد الله محمد ابن علي بن أبي عمران، فسار فيها سيرة حسنة، وكان يحض الخليفة على فعل الخير، ونشر العدل، والإحسان إلى الرعية والجند، ثم عزله الناصر، ووُلّى الوزارة من بعده، أبو سعيد عثمان بن عبد الله بن إبراهيم بن جامع. وإبراهيم هو جد هذه الأسرة من الوزراء ومن صحب المهدي ابن تومرت حسبما سبقت الإشارة إليه. وتولى القضاء للناصر، أبو القاسم أحمد بن بقى قاضي أبيه، ثم أبو عبد الله محمد بن مروان، فلبث في منصبه حتى توفي في سنة 601 هـ، فخلفه في القضاء أبو عمران موسى بن عيسى بن عمران، واستمر بقية عهد الناصر وشطراً من عهد ابنه المستنصر. وكان من كتاب الناصر اثنان من أسرة بني عياش اللامعة، هما الكاتب الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش كاتب أبيه من قبل، وأبو الحسن علي بن عياش بن عبد الملك بن عياش، وكان أبوه من كتاب عبد المؤمن، وأبو عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازي. وكان من كتاب جيشه أبو الحجاج يوسف المرانى وهو أندلسي من أهل شريش، وأبو جعفر أحمد بن منيع. ولم ينجب الناصر لدين الله من الولد سوى ثلاثة من البنين، هم يوسف المستنصر ولى عهده، والخليفة من بعده، ويحيى وقد توفي في حياة أبيه في سنة 608 هـ، وإسحاق، وعدد من البنات. ¬_______ (¬1) المعجب ص 176. (¬2) روض القرطاس ص 153.

الكتاب الثامن الدولة الموحدية فى طريق الانحلال والتفكك

الكِتاب الثامِنْ الدولة الموحديّة في طريق الانحلال والتفكك

الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله

الفصل الأول عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله وأوائل ظهور بني مرين يوسف المستنصر يخلف أباه الناصر. بيعته الخاصة ثم بيعته العامة. وزراؤه وكتابه. ميله إلى حياة الدعة. عماله على الولايات. السيد أبو إسحق والي غرناطة. السيد أبو العلاء أمير تونس. ثورة الفاطمى العبيدى. تفاصيل حركته. إخماد ثورته وإعدامه. مقدم سفير قشتالة في طلب السلم. عقد السلم مع قشتالة. بواعث إيثار قشتالة للسلم. طلائع بني مرين عند أحواز فاس. أصول بني مرين ومنازلهم. انتسابهم إلى العرب. أمراؤهم الأوائل. صراعهم مع القبائل الخصيمة. اللقاء الأول بينهم وبين الموحدين. هزيمتهم ومقتل أميرهم. اشتراكهم في الجهاد مع الموحدين. انحلال قوي الموحدين عقب موقعة العقاب. نهوض بني مرين لانتهاز الفرصة. إغارتهم على أطراف المغرب. تأهب الموحدين لردهم. اللقاء بين الفريقين. موقعة المشعلة. هزيمة موحدية أخرى في رباط تازة. الخلاف بين بني مرين. خروج بني حمامة منهم. أميرهم عبد الحق. تحالف المنشقين مع الموحدين والعرب. القتال بين الفريقين. مقتل عبد الحق وولده إدريس. تجدد الحرب وهزيمة بني حمامة. أبو سعيد عثمان يتولى رياسة بني مرين. حوادث الأندلس. مهاجمة البرتغاليين والصليبيين لثغر القصر. محاصرة النصارى للثغر. مبادرة الموحدين إلى إنجاده. اللقاء بين المسلمين والنصارى. هزيمة المسلمين. صمود حصن القصر ثم تسليمه. استيلاء النصارى على حصن القصر. محاصرة ملك ليون لقاصرش وصمودها. تكرار الهجرم عليها ومعاودة حصارها. سقوطها في أيدي النصارى. أحوال المغرب في هذا الوقت. ركود بلاط مراكش وتواكله. اضطراب الأمن. الأحوال الاقتصادية وانتشار المجاعة. كتاب الخليفة المستنصر إلى الولاة والأعيان والكافة. تجدد التهادن بين الموحدين وقشتالة. كتاب البلاط الموحدي إلى ملكة قشتالة. مصرع المستنصر الفجائى. ركود عهده واضطراب الأحوال فيه. أقوال المؤرخين في ذلك. أحوال المغرب حسبما يصورها ابن عبد الملك. صورة أخرى للمستنصر وخلاله. حكومة المستنصر. وزراؤه وكتابه وقضاته. تدخل الدولة الموحدية، بعد وفاة الخليفة محمد الناصر لدين الله، في العاشر من شعبان سنة 610 هـ، في مرحلة جديدة من مراحل حياتها، مرحلة انحلال مضطرد، وصراع داخلى مستمر على انتزاع العرش، وتنتثر أسرة بني عبد المؤمن الشامخة، إلى شيع وأحزاب ضعيفة متخاصمة، وينتثر شمل القبائل الموحدية حول تأييد هذا الفريق أو ذاك، وتنهار قوي الدولة الموحدية ومواردها الضخمة تباعاً، سواء بالمغرب أو الأندلس، في معارك انتحارية مستمرة، وتتخذ هذه

المرحلة في الأندلس بالأخص، طابعاً مشئوماً، لم يسبق للأندلس أن نكبت بمثله، فتغدو من جديد مسرحاً مضطرما للحرب الأهلية، أولا فيما بين الموحدين المتنافسين على العرش، وثانيا فيما بين أبناء الأندلس أنفسهم، وفي خلال هذه الموجة الغامرة من المحنة القومية، تتحفز اسبانيا النصرانية، لانتهاز الفرصة السانحة، وتنظم متعاونة متفاهمة، أخطر برنامج لفتوح " الاسترداد "، وتهتز مصاير القواعد الأندلسية الكبرى، ومصاير الأمة الأندلسية كلها. خلف المستنصر بالله، أبو يعقوب يوسف، أباه محمد الناصر، في اليوم التالي لوفاته، في الحادي عشر من شعبان سنة 610 هـ (23 ديسمبر سنة 1213 م) وأمه حرة، هي فاطمة بنت السيد أبي علي بن يوسف بن عبد المؤمن، وقيل إنها أم ولد نصرانية تدعى قمر (¬1). وكان المستنصر حين ولايته فتى في السادسة عشرة من عمره، إذ كان مولده في أول شوال سنة 594 هـ (¬2)، وهناك أقوال أخرى بأنه كان في العاشرة من عمره (¬3)، ولكننا نفضل الأخذ بالرواية الأولى، إذ هي رواية المؤرخ الموحدي المعاصر، وهو الذي يقدم لنا تاريخ مولده، ويأخذ بهذه الرواية مؤرخان كبيران هما ابن خلكان وابن خلدون (¬4). وكان يوسف المستنصر فتى وسيما، حسن القد، جميل المحيا، صافى السمرة، شديد الكحل، ولم يكن على قول المؤرخ في بني عبد المؤمن أحسن وجها منه، ولا أبلغ في المخاطبة (¬5). وكان أبوه الناصر لدين الله قد أخذ له البيعة بولاية عهده عقب عوده من الأندلس، على أثر موقعة العقاب، في أواخر ذي الحجة سنة 609 هـ، قبيل وفاته بأشهر قلائل، وكان أول من أخذ له البيعة الخاصة، عم جده أبو موسى عيسى بن عبد المؤمن، وأبو زكريا يحيى بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومن أشياخ الموحدين أبو محمد عبد العزيز بن عمر ابن أبي زيد الهنتاني، وأبو علي عمر بن موسى عبد الواحد الشرقي، وأبو مروان ¬_______ (¬1) يقول بالرواية الأولى، صاحب روض القرطاس (ص 160)، وبالثانية المراكشي (المعجب ص 184). (¬2) المراكشي في المعجب ص 184. (¬3) هذه هي رواية ابن عذارى في البيان المغرب - القسم الثالث ص 243، وصاحب الحلل الموشية ص 133. (¬4) ابن خلكان في وفيات الأعيان ج 2 ص 434، وابن خلدون في العبر ج 6 ص 250. (¬5) وفيات الأعيان ج 2 ص 434.

عبد الملك بن يوسف من أهل تينملل، وكان هؤلاء النفر من القرابة والأشياخ هم الذين نصبوا أنفسهم للوصاية على الخليفة الصبي وتوجيهه، وذلك بتوصية من والده الخليفة المتوفى، واستغرقت البيعة الخاصة يومى الخميس والجمعة، الحادي عشر والثاني عشر من شعبان، وفي يوم السبت أذن بأداء البيعة العامة. ويقول لنا المراكشي، وقد كان من شهود ذلك اليوم، أن أبا عبد الله بن عيّاش الكاتب كان قائماً يقول للناس: " تُبايعون أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين على ما بايع عليه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رسول الله، من السمع والطاعة في المنشط والمكره، والعسر واليسر، والنصح له ولولاته ولعامة المسلمين. هذا ما له عليكم. ولكم عليه ألا يجمر بعوثكم، وأن لا يدخر عنكم شيئاً مما تعمكم مصلحته، وأن يعجل لكم عطاءكم، وأن لا يحتجب دونكم، أعانكم الله على الوفاء، وأعانه على ما قلد من أموركم ". وكان يعيد هذا القول لكل طائفة إلى أن انقضت البيعة (¬1). وأخذت بعد ذلك بيعات الأعيان والوفود القادمين من مختلف الأنحاء، ثم وردت بيعات مختلف البلاد بالمغرب والأندلس. واتخذ الخليفة الجديد لقب المستنصر بالله، وفي بعض الروايات أنه لُقب أيضاً بالمنتصر بالله (¬2). ولم يتأخر في تقديم البيعة سوى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص والي إفريقية، وذلك لصغر سن المستنصر. ولكن الوزير أبا سعيد بن جامع بذل سعيه لدى الشيخ لتسوية هذا الأمر، فوصلت بيعته فيما بعد (2). وتولى الوزارة للمستنصر وزير أبيه من قبل، أبو سعيد عثمان ين عبد الله ابن إبراهيم بن جامع، فاستمر في الوزارة حتى سنة 615 هـ، ثم عُزل وخلفه زكريا ابن يحيى بن إسماعيل الهزرجى. وهو ابن بنت الخليفة يعقوب المنصور، أعني ابن عمة المستنصر، فاستمر في الوزارة حتى نهاية عهده. وتولى الكتابة للمستنصر كاتب أبيه وجده من قبل أبو عبد الله بن عياش، وأبو الحسن بن عياش. وكان الخليفة الجديد ميالا إلى حياة الدعة والبطالة مشتغلا عن تدبير الأمور بما تقتضيه نوازع الشباب (¬3) لا يعنيه شىء من مهام الملك، أو بعبارة أخرى لا يمكن من العناية بشىء منها. وكانت الأمور تجرى وفقاً لما يراه ويبرمه الأشياخ ¬_______ (¬1) المعجب ص 185 و 186. (¬2) روض القرطاس ص 160، وتاريخ الدولتين للزركشى (تونس 1289 هـ) ص 14. (¬3) ابن خلكان ج 2 ص 234، وابن خلدون ج 6 ص 250.

الأوصياء. وكان عهده على العموم، يمتاز بالهدوء والركود، لم تقع خلاله حوادث ذات شأن، ولم تنظم غزوات ما، ولم تُحشد الجيوش الموحدية، ولم تعبر البحر إلى شبه الجزيرة، وفقاً لما جرى عليه الأمر، منذ عهد أول الخلفاء الموحدين عبد المؤمن بن علي. وعقد المستنصر لأول ولايته للسادة، على عمالات الولايات بالمغرب، والأندلس. فولّى على مدينة فاس السيد أبا إبراهيم إسحق الملقب بالأمير الظاهر ابن يوسف بن عبد المؤمن وكان والياً على غرناطة، وهو أبو الخليفة المرتضى. وقد اشتهر السيد أبو إبراهيم إسحق هذا أيام ولايته لغرناطة في آخر عهد الناصر، بمنشآته العمرانية بها، وكان من أهمها وأجملها القصر الذي أنشأه خارج غرناطة على مقربة من ضفة نهر شنيل، وهو القصر الذي عرف فيما بعد أيام ملوك غرناطة " بقصر السيد ". والظاهر أن السيد إسحق ولى حكم غرناطة في عهد المستنصر مرة أخرى، إذ يقول لنا صاحب " الحلل الموشية " إنه أنشأ أمام هذا القصر، رابطة في سنة 615 هـ. وقد استعمل " قصر السيد " أيام ملوك غرناطة منزلا للضيافة الملوكية، وما زالت تقوم حتى اليوم بعض أطلاله، في ضاحية غرناطة المسماة " أرملة " (¬1). وولي على إشبيلية عمه السيد أبا إسحاق بن يعقوب المنصور، وهو المعروف بالأحول، وبعث عم أبيه أبا العلاء الكبير إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن إلى تونس ليستقر في قصبتها، وأن يكون أميراً عليها، يعنى بتدبير شئونها، والدفاع عنها ضد الميورقي، إلى جانب الشيخ أبي محمد بن أبي حفص والي إفريقية. والسيد أبو العلاء هذا هو الذي أنشأ البرجين على باب المهدية، وأنشأ باب سبتة الجديد، ثم أنشأ بإشبيلية برج الذهب الشهير أيام ولايته لها (¬2). وكان أول حادث ذو شأن وقع في ولاية المستنصر، هو إخماد ثورة الفاطمي العبيدى. وقد روى لنا المراكشي قصة هذا الدعى كاملة، وقد عرفه ¬_______ (¬1) راجع في ذكر " قصر السيد " ووصفه، الحلل الموشية ص 126، والإحاطة في أخبار غرناطة (1956) ج 1 ص 125، 324 و 561. وراجع كتابى " الآثار الأندلسية الباقية " (الطبعة الثانية) ص 176. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 243 و 173، وابن خلدون ج 6 ص 25، وروض القرطاس ص 161.

واجتمع به. وكان اسمه عبد الرحمن، ويدعى أنه من بني عُبيد، وأنه ولد الخليفة العاضد بالله آخر الخلفاء الفاطميين. وكان قد ورد على المغرب، أيام الخليفة المنصور، وسعى إلى الاجتماع به فلم يأذن له، واستمر يطوف بالبلاد، إلى أن قُبض عليه بأمر الخليفة الناصر، واعتقل في سنة 596 هـ، فلم يزل في سجنه إلى أن تحرك الناصر إلى إفريقية في سنة 608 هـ، فشفع له فيه أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الهزرجى، فوافق على إطلاق سراحه، على أن يلتزم السكينة، وألا يشتغل بأي أمر غير مرغوب فيه. ولكن الدعى ما كاد يسترد حريته، حتى غادر مراكش إلى بلاد صَنهاجة، وهنالك التف حوله كثيرون ممن جذبتهم دعوته، وكانوا يعظمونه ويبجلونه. يقول المراكشي " وكان هذا الرجل كثير الإطراق والصمت، حسن الهيئة، لقيته مرتين، فلم أر في أكثر من شهدته من المشبهين بالصالحين، مثله في الآداب الظاهرة، من هدوء النفس، وسكون الأطراف، ووزن الكلام وترتيب الألفاظ، ووضع الأشياء مواضعها، مع الرياضة المفرطة ". ثم خرج هذا الرجل في جموعه متجهاً صوب مدينة سجلماسة، فخرج إليه واليها السيد أبو الربيع سليمان بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، فهزمه العُبيدى، واضطر أن يرتد في فلوله إلى سجلماسة، ومازال العبيدي يتنقل بين قبائل البربر، من موضع إلى موضع، دون أن يستقر في مكان، أو تثبت حوله جماعة، إذ كان وفقاً لقول المراكشي " غريب البلد واللسان، لا عشيرة له ولا أصل بالبلاد يُرجع إليه " حتى رمت به المقادير إلى أحواز فاس. وكانت السلطات الموحدية تطارده أينما حل، فقُبض عليه بظاهر المدينة، وأودعه حاكم فاس، وهو السيد إسحاق، المطبق، وكتب إلى الخليفة المستنصر بأمره، فكتب إليه المستنصر يأمر بقتله وصلبه، قضُرب عنقه، وصلب جسده، وأرسلت رأسه إلى مراكش، حيث علقت هنالك إلى جانب عدة أخرى من رؤوس الثوار والمتغلبين (¬1). ويضع ابن عذارى تاريخ ثورة العبيدي في سنة 612 هـ (1215 م)، ويقول إنه قام بثورته في بلاد جزولة، من إقليم السّوس، وكان يزعم أنه فاطمى من ذرية عبد الله الشيعي، ولم يزل يبث دعوته حتى ظفر به الموحدون فقتل وعلق رأسه على باب فاس (¬2). بيد أننا نؤثر الأخذ برواية المراكشي، ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 186. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 243.

وهو معاصر وشاهد عيان، وهو ينفرد بما يقدمه إلينا من التفاصيل. وفي نفس هذا العام، سنة 612 هـ (1215 م) وصل إلى مراكش إبراهيم ابن الفخار اليهودى وزير ملك قشتالة، سفيراً إلى الخليفة الموحدي في شأن التهادن وعقد السلم، فرحب المستنصر وأوصياؤه، بهذه الرغبة، ووجه كتابين إلى الأندلس، أحدهما إلى السيد أبي الربيع والي جيان، والثاني إلى الشيخ أبي العباس بن أبي حفص والي قرطبة، يطلب إليهما عقد التهادن والسلم مع ملك قشتالة، على جميع بلاد الموحدين بالأندلس، وفقاً للشروط التي اتُّفق عليها بين الخليفة وبين ابن الفخار، والتزم بها السفير القشتالي نيابة عن مليكه، وكان عقد السلم مع قشتالة على هذا النحو، خطوة طيبة، حققت للأندلس فترة من الهدوء والسلام (¬1). ويجب لكي نفهم البواعث التي حملت قشتالة، على أن تسعى إلى عقد السلم مع الموحدين، ولما يمض سوى ثلاثة أعوام على انتصارها الساحق في معركة العقاب، أن نذكر أنه لما توفي ألفونسو الثامن ملك قشتالة، وهو الظافر في معركة العقاب، في أكتوبر سنة 1214 م، خلفه على العرش ولده الطفل هنري (إنريكى)، ولم يكن قد جاوز الحادية عشرة من عمره، فتولت أمه الملكة إليونور، الوصاية عليه، ولكنها توفيت بعد أشهر قلائل، فخلفتها في الوصاية أخته دونيا برنجيلا، زوجة ألفونسو التاسع ملك ليون المُطلَّقة، وكان آل لارا الأقوياء يطمحون إلى انتزاع الوصاية لأنفسهم، فتنازلت عنها إليهم دونيا برنجيلا بشروط تعهدوا باحترامها، أهمها ألا يعلنوا الحرب على أي ملك، أو يتنازلوا عن الأراضي للأتباع، أو يفرضوا أية ضرائب، دون موافقة الملكة (برنجيلا). وسارت الأمور في قشتالة على هذا النحو حيناً، حتى توفي الملك الصبي هنري بعد ذلك بقليل من جرح أصابه خلال اللعب مع بعض الصبية الآخرين، وذلك في يونيه سنة 1217. فعندئذ بادرت الملكة برنجيلا باستقدام ولدها فرناندو وهو الذي رزقت به من ألفونسو ملك ليون، وكان صبياً في الثانية عشرة من عمره، واستدعاء صحبها المخلصين، وسارت إلى بلد الوليد، وهنالك أعلنت نفسها ملكة لقشتالة، بيد أنها تنازلت في الحال عن العرش لولدها ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 244.

فرناندو فأصبح ملكاً على قشتالة (أول يوليه سنة 1217 م) وهذا الملك الصبي، هو الذي غدا فيما بعد فرناندو الثالث، أو فرناندو المقدس (¬1). وفضلا عما كان يحيق بعرش قشتالة من عوامل التقلقل والضعف، فإن أحوال قشتالة العامة لم تكن يومئذ تدعو إلى الرضى، فإن آثار الوباء كانت ما تزال متفشية في معظم الأنحاء، وكان الإنتاج الزراعى قد انخفض من جراء ذلك، وهلكت المحاصيل، وانتشرت المجاعة بين السكان. نستطيع على ضوء هذه الظروف التي كانت تجوزها قشتالة عندئذ، أن نفهم كيف جنحت قشتالة إلى المسالمة، وآثرت أن تجوز فترة هدوء وسلام، تستطيع خلالها أن تنظم شئونها، وأن توطد عرشها، وأن تعمل على إنعاش مواردها وأحوالها الزراعية والاقتصادية. وفي العام التالي أعني في سنة 613 هـ (1216 م)، وقع حادث ضئيل في ظاهره، كبير في مغزاه، ونتائجه المحتملة، هو ظهور طلائع بني مَرِين في أحواز مدينة فاس. وقد شرح لنا ابن خلدون أصل أولئك القوم، الذين كتب لهم، أن ينتزعوا ملك الموحدين فيما بعد، فهم من شعوب بني واسين من بطون قبيلة زناتة الشهيرة، التي ينتمى إليها عدة من القبائل البربرية التي لعبت أدواراً بارزة في تاريخ المغرب، مثل مغراوة، ومغيلة، ومديونه، وبنى يفرن، وبنى دمر، وزواغة، وجراوة، وبنى عبد الواد، وغيرهم. ومع ذلك فإن بني مرين، كمعظم الأسر البربرية التي شادت بالمغرب دولا شامخة، يُرجعون نسبتهم إلى العرب وقد رأيت أن هذا كان شأن المرابطين حيث تُرجع صَنهاجة التي تنتمى إليها لمتونة نسبتها إلى العرب اليمانية، وشأن الموحدين، حيث ينتسب صاحب دعوتهم المهدي ابن تومرت، إلى آل البيت، ويُرجع مؤسس دولتهم عبد المؤمن نسبته إلى قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان. وإلى هذا الفرع أيضاً ينتسب بنو مرين، فيقولون إنهم من ولد بر بن قيس عيلان بن مضر بن نزار، وجدهم الأعلى جرماط بن مرين بن ورتاجى بن ماخوخ بن وجديج بن فاتن بن يدّر ابن يجفت بن يصليتن بن عبد الله بن ورتيب بن المعز بن إبراهيم بن سجيك ابن واسين (¬2). وكانت منازل بني مرين، وإخوانهم من بني مديونة وبني يلومي ¬_______ (¬1) M.Lafuente: Historia General de Espana. T. III. p. 880 & 881 (¬2) الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية (طبع الجزائر 1920) ص 10، 11، 16،=

وبنى يادين بن محمد في المغرب الأوسط، ما بين وادي ملوية شمالا وسجلماسة جنوباً. وكانت المعارك كثيراً ما تنشب بين بني مرين وجيرانهم من بني يادين، وهم الذين ينتمى إليهم بنو عبد الواد، أصحاب مملكة تلمسان فيما بعد، وكانت الغلبة في معظم الأحيان علي بني مرين، لكثرة خصومهم من بني يادين، وكان بنو مرين كمعظم البطون البربرية في تلك المنطقة، من البدو الرحل، يتجولون في هاتيك القفار شرقاً وغرباً، وربما وصلوا في ظعنهم شرقاً إلى بلاد الزاب. وقد كانت الرياسة فيهم، حسبما تذكر الرواية قبل ذلك بعصور، لمحمد بن وزير ابن فكوس بن كرماط بن مرين. ولما توفي محمد قام بأمر بني مرين من بعده أكبر أولاده حمامة، ثم خلفه أخوه عسكر، فلما توفي قام مكانه في الرياسة ولده أبو يكى الملقب بالمخضب، فلم يزل أميراً عليهم حتى ظهر أمر الموحدين، وزحف عبد المؤمن إلى تلمسان في أثر تاشفين بن علي، ليخوض معه المعركة الحاسمة (539 هـ)، وبعث قوة من الموحدين بقيادة الشيخ أبي حفص عمر الهنتاني، لمحاربة الخوارج من بطون زناتة، فاجتمع لقتاله بنو يادين وبنو يلومى وبنو مرين ومغراوة، فمزق الموحدون جموعهم، وأذعن بنو يلومى وبنو يادين وبنو عبد الواد إلى الطاعة. ولكن بني مَرِين لحقوا بالصحراء في اتجاه الزاب. ولما دخل عبد المؤمن وهران، على أثر مصرع تاشفين تبدد قواته، واستولى على أموال لمتونة وذخائرها، عهد بهذه الأموال والذخائر إلى قوة من الموحدين لتحملها إلى تينملل، فعلم بنو مرين بذلك، واعترضوا تلك القوة، وانتزعوا الغنائم من أيدي الموحدين. فحشد عبد المؤمن أولياءه من بطون زناتة، وبعثهم مع الموحدين لاستنقاذ الغنائم. والتقى الموحدون وبنو مرين في مكان يعرف بفحص مسون، فهزم بنو مرين، وقتل شيخهم المخضب بن عسكر، وذلك في سنة 540 هـ (1145 م). ولجأ بنو مرين على أثر ذلك إلى الصحراء، وعادوا إلى القفر يرقبون الفرص. (¬1) وقام بأمر بني مرين بعد المُخضب بن عسكر، ابن عمه أبو بكر بن حمامة ابن محمد. ولما توفي في سنة 561 هـ، قام بأمرهم ولده محيو، فلم يزل في ¬_______ = و 17، وابن خلدون في كتاب العبر ج 7 ص 161. ويقدم لنا صاحب الذخيرة السنية شرحاً طويلا لكيفية تحول نسل بر بن قيس عيلان بالمغرب من العروبة إلى البربرية. (¬1) الذخيرة السنية ص 18 و 19.

رياستهم، حتى استنفرهم الخليفة يعقوب المنصور للجهاد معه بالأندلس، فاشتركت معه منهم جماعة كبيرة في موقعة الأرك، وأبلوا فيها البلاء الحسن (591 هـ - 1195 م)، وأصيب عميدهم محيو في المعركة بجرح توفي منه بعد بضعة أشهر، فخلفه في الرياسة أكبر أولاده أبو محمد عبد الحق، وكان من خيرة أمرائهم، وعلى يديه أخذ نجم بني مرين يبزغ في الأفق (¬1). ولما وقعت كارثة العقاب، وفنى معظم الجيوش الموحدية، في شبه الجزيرة الأندلسية، أخذت بوادر التفكك والضعف تبدو على سلطان الموحدين، في معظم العمالات والأطراف. ولم يكن ذلك بخاف على القبائل المتوثبة مثل بني مرين. ولما توفي الخليفة الناصر، وخلفه ولده الصبي يوسف المستنصر، وشغلته نزوات الحداثة والشباب، عن تدبير شئون الدولة، وغلب التواكل والتراخى، على السادة والأشياخ، في مختلف النواحي، لاح لبني مرين أن فرصتهم قد سنحت. وكانوا لا يأوون إلا إلى القفار، ولا يخضعون لأى حكم، ولا يؤدون الجزية لأحد، ولا يعرفون الحرث والزرع، ولا شاغل لهم غير الصيد والغارات، وجل أموالهم من الإبل والخيل (¬2). وكانت منازلهم ما تزال في جنوبي وادي ملوية، وكانوا يترددون في تلك الأنحاء، ولاسيما في المنطقة الممتدة ما بين وادي ملوية ومكناسة، ويأنسون بمن بها من عسائر زناتة، وينتجعون المرعى أيام الربيع والصيف، ويجمعون الحبوب لأقواتهم طيلة الشتاء، ثم يرتدون إلى منازلهم في القفر فوق التلال والربى. فلما شهدوا من تضعضع الدولة الموحدية، وتخاذل أطرافها ما شهدوا، أعتزموا أن يهجروا القفر، وأن ينتجوا العمران، فنفذوا إلى نواحي المغرب المجاورة، واكتسحوا بخيلهم البسائط، وملأوا أيديهم بالغارة والنهب، وكان ذلك بداية عهد الخليفة المستنصر. فثار لذلك بلاط مركش، وأمر المستنصر بتجهيز الحشود، وندب أبا علي بن وانودين للقيادة، وبعثه إلى السيد إبراهيم إسماعيل والي فاس، وأمر بأن يخرج السيد لغزو بني مرين، وأن يثخن فيهم وأن يستأصل شأفتهم، وكان بنو مرين حينما علموا بأمر هذه الأهبة قد اجتمعوا وتشاوروا، واتفق رأيهم على التأهب للحرب والنزال، فتركوا أموالهم وحريمهم في حصن تاروطا بأرض غمارة، وساروا جنوبا صوب فاس، ¬_______ (¬1) ابن خلدون في العبر ج 7 ص 167. (¬2) الذخيرة السنية ص 23.

وكانوا في نحو أربعمائة فارس غير الرجّالة، وخرج الموحدون إليهم بقيادة السيد أبي إبراهيم، وكانوا في عشرين ألف مقاتل أو في عشرة آلاف وفقاً لرواية أخرى. والتقى الفريقان بوادي نكور، فكانت الهزيمة على الموحدين، واستولى بنو مرين على أسلابهم ودوابهم ومتاعهم بل وثيابهم، وأسروا السيد أبا إبراهيم ثم أطلقوا سراحه بعد ذلك، وارتدت فلول الموحدين إلى فاس، وبعضهم نحو رباط تازة، وكثير منهم يسترون أنفسهم بورق النبات المعروف " بالمشعلة " حتى لقد سميت هذه الموقعة بموقعة المشعلة، بل سمى هذا العام (سنة 613 هـ) بعام المشعلة (¬1)، وسار بنو مرين بعد ذلك شرقاً نحو بلدة رباط تازة، وبعث أميرهم أبو محمد عبد الحق إلى عاملها الموحدي، يطلب إليه أن يقيم في خارجها سوقاً لبني مرين، يتزودون منها بما يحتاجون إليه، فأنف العامل الموحدي، وثار لذلك الطلب، وخرج في جمع غفير من الموحدين والعرب وأبناء القبائل المجاورة، ونشبت بينه وبين المرينيين معركة شديدة هزم فيها وقتل، ونهبت محلته. فكان ثانى نصر لبني مرين على الموحدين في ظرف بضعة أشهر (¬2). ثم وقع الخلاف بين بني مرين أنفسهم، وانقسموا إلى فرقتين، الأولى يتزعمها بنو عسكر بن محمد، والثانية يتزعمها بنو حمامة بن محمد، وقد كانت الرياسة في البداية في بني عسكر، ثم انتقلت إلى بني حمامة، فغص بذلك فريق بني عسكر، وخرجوا على أميرهم أبي محمد عبد الحق، وتحالفوا مع أولياء الموحدين من عرب رياح، وكان الخليفة المنصور قد أنزلهم بتلك المنطقة. وفي سنة 614 هـ، نشبت بين بني عسكر وحلفائهم من أولياء الموحدين، وبين بني حمامة في وادي سبو، موقعة هزم فيها بنو حمامة في البداية، وقتل أميرهم عبد الحق وولده الأكبر إدريس، فاضطرم بنو حمامة سخطاً، واستجمعوا قواهم، وحملوا على خصومهم من الموحدين والعرب حملة عنيفة، كثر فيها القتل من الجانبين، وانتهت بهزيمة الموحدين والعرب وتمزيق جموعهم، وانتهاب سائر أسلابهم. (جمادى الآخرة سنة 614 هـ). وقام برياسة بني مرين بعد مقتل أميرهم عبد الحق، ولده أبو سعيد ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 169، والبيان المغرب القسم الثالث ص 244 و 247، وروض القرطاس ص 188، والذخيرة السنية ص 26 - 28. (¬2) الذخيرة السنية ص 31 و 32.

عثمان، وهو الذي بزغ على يديه نجم بني مرين، وأصبحوا قوة لها خطرها (¬1). ... ولقد أشرنا فيما تقدم إلى عقد التهادن والسلم بين الموحدين ومملكة قشتالة، ولكن هذا التهادن لم يتحقق بالنسبة لباقى الممالك الإسبانية النصرانية، ومن ثم فقد وقعت بالأندلس، في قطاع الغرب، حوادث هامة، كان من نتائجها، أن نكبت الأندلس بفقد طائفة جديدة من الأراضي والحصون. وكان أول ضربة أصابت الأندلس من جراء العدوان النصراني، فقد ثغر القصر أو قصر أبي دانس (¬2)، وهو أمنع قاعدة دفاعية إسلامية في منطقة الغرب. وكانت القصر قد سقطت في أيدي البرتغاليين في سنة 555 هـ (1160 م)، على أثر اضطراب الحوادث في منطقة الغرب، ولما عبر الخليفة المنصور إلى شبه الجزيرة لأول مرة، لاسترداد شلب التي استولى عليها البرتغاليون بمعاونة النصارى الصليبيين، في سنة 585 هـ، غزا منطقة الغرب واستطاع أن يسترد حصن القصر من النصارى في جمادى الأولى سنة 587 هـ (يونيه 1191 م)، وولي عليه أبا بكر محمد بن وزير. ويقع ثغر القصر جنوب شرقي أشبونة على مصب نهر شطوبر Sadoa، على مقربة من المحيط الأطلنطى، ويتسع مصب هذا النهر لدخول السفن الكبيرة، تشقه حتى أسوار المدينة، ويتصل قبل مصبه في المحيط بخليج واسع يصلح لتجمع السفن الغازية. وكانت مناعة القصر تقف سداً منيعاً ضد تقدم البرتغاليين نحو الجنوب. ففي أوائل سنة 614 هـ (1217 م) وصل إلى شواطىء البرتغال أسطول من الصليبيين الألمان في طريقه إلى المشرق، ورسا في مياه أشبونة (لشبونة)، فانتهز البرتغاليون تلك الفرصة، ودعوا إلى إشهار الحرب الصليبية، ضد مسلمي الأندلس، وسار البرتغاليون وحلفاؤهم الصليبيون الألمان إلى ثغر القصر، وضربوا حوله الحصار من البحر ومن البر، وذلك في 30 يوليه سنة 1217 م، فامتنع المسلمون داخل ثغرهم، وبادر واليها عبد الله ابن وزير، وهو ولد واليها السابق أبي بكر بن وزير، يطلب الإنجاد من الموحدين، ووصل صريخه إلى بلاط مراكش، فبعث المستنصر إلى ولاة قرطبة وإشبيلية، وجيّان وولاة الغرب، بحشد جيوشهم، والمبادرة إلى إنجاد الثغر المحصور، ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 32 - 34، وابن خلدون ج 7 ص 170. (¬2) وهي بالبرتغالية Alcacer do Sal

وسارت الجيوش الموحدية المجتمعة صوب القصر، فوصلت إليه في أوائل شهر سبتمبر، وكان المسلمون مازالوا صامدين في ثغرهم، وقد استطاعوا أن يردوا عدة هجمات للمحاصرين. وسارت في نفس الوقت طائفة من السفن الموحدية إلى مياه القصر، لتسد الطريق على السفن المحاصرة. ونشب القتال بين الجيوش الموحدية المتحدة وبين النصارى. والظاهر أن البرتغاليين كانوا يتفوقون في الكثرة على المسلمين، إذ كان جيشهم يضم وفقاً للرواية النصرانية ذاتها، عشرين ألفاً من الرجّالة وعدداً من الفرسان. فهزم المسلمون ومزقت صفوفهم. ويقول لنا صاحب روض القرطاس، إن المسلمين ما كادوا يرون النصارى حتى أدركهم الرعب، وولوا الأدبار، وذلك لسابق رعبهم منذ هزيمة العقاب، فطاردهم النصارى وقتلوهم عن آخرهم (¬1)، ويقول صاحب الروض المعطار، إنه قد اجتمع من الأمداد جيش عظيم، لكنهم تخاذلوا على عادتهم، فكانت الهزيمة عليهم وولوا مدبرين، ووقع القتل والأسر، ولم يبرز للمسلمين من الروم إلا نحو سبعين فارساً، ورأى أهل الحصن ذلك فأيقنوا بالتغلب عليهم (¬2). ويضع ابن الأبار تاريخ الموقعة في شهر جمادى الأولى سنة 614 هـ (أغسطس 1217 م)، وفي موطن آخر في أحد شهرى ربيع سنة 614 هـ متقدماً قليلا عن الرواية النصرانية، ويقول إنه فقد فيها آلاف من المسلمين بتخاذل رؤسائهم، يوم التقى الجمعان، وأن الموقعة كانت " إحدى الكوائن المنذرة حينئذ بما آلى إليه أمر الأندلس " (¬3). ومع ذلك فقد بقيت حصن القصر صامدة، فلما رأى النصارى أنهم لم يستطيعوا ثلم الأسوار، صنعوا برجين عاليين من الخشب، يضارعان في ارتفاعهما أبراج المدينة، وشحنوهما بالرماة، وركبوا في جوانبهما آلات الرمى، وضربوا الأسوار من هذين البرجين ضرباً شديداً، حتى أيقن المدافعون أنه لا أمل في الصمود، فعرضوا التسليم. على أن يسمح لهم بالخروج بأموالهم، فرفض النصارى، ووافقوا فقط أن يسمح لهم بالخروج أحياء، دون أن يحملوا شيئاً معهم. ففتحوا الأبواب، وانطلقوا إلى حال سبيلهم، وسلمت المدينة بعد أن لم تبق أية وسيلة ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 161. (¬2) الروض المعطار ص 162. (¬3) الرواية الأولى في الحلة السيراء ص 242. والثانية في التكملة (القاهرة) ج 2 في الترجمة رقم 1577.

للدفاع، وذلك في 18 أكتوبر سنة 1217 م (14 رجب 614 هـ)، بعد شهرين ونصف من بدء الحصار. وسلم قائد الثغر، وهو عبد الله بن وزير، نفسه للنصارى، وتظاهر باعتناق النصرانية طلباً للسلامة، ولكن لم تمض أيام قلائل حتى استطاع الفرار، والوصول إلى الأراضي الإسلامية. ولجأ فيما بعد إلى مدينة إشبيلية. ودخل النصارى على مدينة القصر أو قصر أبي دانس، وقتلوا كل من كان بها، وبالضياع المجاورة، من المسلمين. وفتح سقوط هذا الثغر المنيع، الطريق إلى زحف البرتغاليين وحلفائهم الصليبيين نحو الجنوب، نحو باجة وميرتلة وشلب. ولكن ملك البرتغال ألفونسو الثاني (ألفنش)، وهو لم يشترك في حصار القصر، آثر أن يتمهل بعض الوقت لتعمير الأراضي المفتوحة. ومن جهة أخرى فإن الصليببيين لم يستطيعوا الزحف إلى الجنوب، بعد أن وصلتهم أوامر البابا قاطعة بأن يستأنفوا سيرهم إلى المشرق (¬1). ومن الغريب أن ابن عذارى، وهو في معظم ما يكتبه، يقظ متنبه للأحداث، يقول لنا إنه لم يتحقق خبراً يذكره في سنة أربع عشرة أو خمس عشرة، هذا في حين أن صاحب روض القرطاس، يذكر واقعة سقوط القصر، وتاريخ وقوعها في سنة 614 هـ، ويصفها بأنها كانت من الهزائم الكبار التي تقرب من هزيمة العقاب. ولم تمض بضعة أعوام على نكبة مدينة القصر، حتى منيت الأندلس بفقد قاعدة أخرى من حصونها الأمامية المنيعة هي قاصرش (¬2). وكان ألفونسو التاسع ملك ليون غير مرتبط مع الموحدين برباط التهادن والسلم، وكان يطمح إلى الاستيلاء على قاصرش، الواقعة شمالي ماردة وغربي تَرجالُه، وذلك لكي يضمن سلامة حصن القنطرة الواقع على نهر التّاجُه في شمالها الغربي، والذى كان مركز جمعية فرسان القنطرة، فسار إليها في شهر نوفمبر سنة 1218 م (616 هـ) وضرب حولها الحصار، ولكن حاميتها الإسلامية صمدت، واضطر أن يرفع الحصار عند حلول الميلاد، وفي سنة 1221 م (619 هـ) استولى فرسان القنطرة على قاعدة " بلنسية " (¬3) الإسلامية. وفي العام التالي، اشترك فرسان شنت ياقب ¬_______ (¬1) راجع في سقوط حصن القصر، روض القرطاس ص 161، والروض المعطار ص 161 و 162 وكذلك: A. Huici: Historia Politica del Imperio Almohade, p. 442 & 443 (¬2) وهي بالإسبانية Caceres (¬3) هي المعروفة ببلنسية القنطرة الواقعة غربي قاصرش، وهي طبعاً غير ثغر بلنسية الكبير، في الشرق.

وملك ليون في حصار قاصرش، ولكن ألفونسو التاسع عاد فرفع الحصار للمرة الثانية، عن القاعدة الإسلامية. وفي الأعوام التالية، تكرر هجوم الليونيين على قاصرش بمعاونة جماعة من القشتاليين، وانتهى الأمر بسقوطها في أيديهم، وذلك في صيف سنة 1223 م (622 هـ)، بعد وفاة الخليفة المستنصر بنحو عامين. ومن جهة أخرى فإنه بالرغم من عقد المهادنة بين قشتالة، والخليفة الموحدي، كانت العناصر النصرانية المتعصبة التي لا يروقها الكف عن محاربة المسلمين تتربص الفرص، لتجديد غزو الأندلس، وكان في مقدمة هؤلاء الحبر المتعصب، ردريجو خمينث دي رادا مطران طليطلة، فإنه قام بتجهيز حملة صليبية، وعبر إلى الأراضي الإسلامية من ناحية الشرق، واستولى على عدة من حصون المسلمين، ووصل في زحفه إلى بلدة ركّانة الواقعة غرب بلنسية، وحاول النصارى الاستيلاء على ركّانة فضربوها بالمجانيق، وهاجموها مراراً، وهدموا بعض أبراجها، ولكنهم لم يستطيعوا تحقيق بغيتهم، وارتدوا عنها خائبين. وكان ذلك في أواخر سنة 1219 م (617 هـ). ... وكانت الأمور خلال ذلك كله، تسير في العاصمة الموحدية رتيبة راكدة، وبلاط مراكش على ما هو عليه من التواكل والسكون، والخليفة الفتى يوسف المستنصر، مكب على حياة اللهو والمرح، وأشياخ الموحدين المضطلعين بتدبير الأمور، غير حافلين بشىء، ولم توقظهم نهضة بني مرين وفورتهم الخطيرة، التي لم يحدها سوى خلافهم فيما بين أنفسهم، ولم تهزهم حوادث الأندلس وسقوط ثغر القصر، وما اقترن به من الحوادث المؤلمة، ولم يفكروا في العمل على تعزيز معاقل الأندلس، وخطوطها الدفاعية، تحوطاً للحوادث. ثم جاءت سنة 616 هـ (1218 م)، وقد هلكت الزروع ونضبت الحبوب، وانتشرت المجاعة، وارتفعت الأسعار ارتفاعاً هائلا. وكانت الأحوال الاقتصادية قبل ذلك، تسير من سيىء إلى أسوأ، وقد سجلت لنا الرواية عن أحوال المغرب في هذا الوقت صورة قاتمة، حيث كثرت الفتن بين قبائل المغرب، ونبذ أكثرها الطاعة، وقطعت السابلة، واشتد الخوف في الطرقات، وكثر اعتداء الأقوياء على الضعفاء، وكسدت التجارة، وانكمش الأخذ والعطاء لاختلال الأمن، وإغارة القبائل

البربرية وجموع العرب على مختلف الأنحاء (¬1). كل ذلك والحكومة الموحدية جامدة لا تفكر في اتخاذ أي إجراء لإصلاح الأحوال. فلما اشتدت المجاعة وعلم المستنصر بما يقاسيه الناس من أهوالها، أمر بفتح المخازن السلطانية، المعدة لاختزان الحبوب والمؤن، ففتحت وفرقت منها مقادير عظيمة على العامة والضعفاء دون ثمن، وفرق منها على الأقوياء والميسورين بالثمن، وفرق الخليفة كذلك مبالغ كبيرة من المال على الناس، فكان لذلك أثر طيب في تخفيف الضيق. ومن الغريب أنه طافت بالأندلس في العام التالي سنة 617 هـ، مثل هذه الشدة، فقلت الأقوات، وارتفعت الأسعار، ولكن الأزمة لم تطل، وعادت الأمور إلى مجراها الطبيعي (¬2). وفي هذا العام، سنة 617 هـ (1219 م)، وجه الخليفة المستنصر بالله كتابا إلى قواعد المغرب والأندلس، على نمط الكتب التي كان يوجهها الخلفاء الموحدون، منذ عبد المؤمن، إلى الولاة والأعيان والكافة، في مختلف المناسبات، بوجوب التمسك بالدين، واتباع أحكام الشرع، والتزام الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وما إلى ذلك من النصائح والوصايا، وربما كان لذلك أيضاً علاقة باختلال الأحوال، ومحاولة تطمين الرعايا، وإلقاء السكينة في روعهم. وقد نقل إلينا ابن عذارى فصلا من ذلك الكتاب، ونحن ننقل بعض فقراته فيما يلي: " وإلى هذا، وصل الله توفيقكم، فقد علمتم أن الدين هو الأساس الوثيق، والبناء العتيق، والفسطاط المضروب، والعلم المنصوب، والتجر الذي لا يبور، والطريق الذي لا يجور، من استمسك به فقد استمسك بالعروة الوثقى، ومن تحصن به، فقد تحصن بالمعقل الأحصن الأرقى، فإذا وقفتم على كتابنا هذا، فجددوا للناس به الذكرى، وعرفوهم أن الدنيا مطية على الدار الأخرى، وحضوهم على العمل الصالح، والتجر الرابح، عسى أن يجعلهم الله تعالى في الدارين، من الذين لهم البشرى، وبثوا في جهاتكم كلها، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .. واستحفظوا الكافة صلواتهم، فإنها الكتاب الموقوف على المؤمنين، وخذوهم باعتياد المساجد، فإنها الشاهد الأزكى بشهادة خاتم النبيين، وسيد المرسلين، واطلبوهم بقراءة الحزب والتوحيد بالمساجد والأسواق، ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 35. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 245.

فإنه الخير المآلوف، والشعار المعروف، والرسم الذي عليه العمل، والعهد الذي لا يجب فيه التغيير والخلل. " ونحن قد قلدنا الله قلادة نعلم لوازمها، ونحفظ مراسمها، ومن جملتها التذكير بالدين، فهو الشافع الذي لا يغفل، والوسيلة التي لا تضاع ولا تهمل، فاعلموا أعزكم الله هذا المقصود علما، وكونوا في القيام به لا تخالفون يقظة، ولا نوماً، وللناس عليكم ما نأمركم به من العدل التام، والإنصاف العام، وكف الأيدى، وقبضها عن التعدى. وهذا خطاب قد أرشدنا فيه إلى مناهج سوية، وحضضنا فيه على أمور ضرورية، وأتينا فيه بما يجب البدار إليه، وخير العمل ما دووم عليه، والله معينكم والسلام عليكم، وكتب في عاشر ربيع الأول سنة سبع عشر وستمائة " (¬1). والظاهر أن توجيه هذا الكتاب، لم يكن إلا محاولة من الخليفة الفتى، للعمل على إحياء تقليد من تقاليد آبائه الخلفاء الموحدين، في تذكير الناس من وقت إلى آخر بدستورهم الدينى، والتنبيه إلى توقيره، والمحافظة عليه. وفي العام التالي، سنة 618 هـ (1220 م)، قدم سفير قشتالة إلى مراكش مرة أخرى ليسعى في تجديد المهادنة والسلم. وكانت المفاوضات الأولى قد تمت بين القشتاليين، وولاة الأندلس من السادة الموحدين، وتم تجديد المهادنة بين الفريقين، وفقاً لتوجيه الخليفة المستنصر. ثم كتب وزير المستنصر، أبو يحيى بن أبي زكريا، إلى " ملكة قشتالة بنت ملك قشتالة وطليطلة " كتاباً من إنشاء الكاتب ابن عيّاش بما أبرم بينه وبين رسولها من عقد السلم. ومن الواضح أن ملكة قشتالة المشار إليها هنا، لم تكن سوى الملكة برنجيلا بنت ألفونسو الثامن ملك قشتالة، ومطلقة ألفونسو التاسع ملك ليون، وكانت يومئذ تتولى الوصاية على ابنها الصبي فرناندو، الذي أعلن ملكاً على قشتالة في سنة 1217 م، وكانت بذلك تعتبر هي الملكة الأصيلة في نظر الموحدين. وقد أورد لنا ابن عذارى نبذة من الكتاب المشار إليه ننقلها فيما يلي: " وقد انقلب إليكم رسول منكم، بما تعرفونه في السلم المنعقد، النير شهابه، المتقد بين الموحدين وبينكم، بالمخاطبة الكريمة، التي حملها إليكم، وحمل نحوكم ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 245 و 246.

من الإتحاف ما يبغلكم على يديه، الذي هو عنوان المخالصة، وثمرة المواصلة، وكل ما يكون من هذا بيننا وبينكم، ينبغى أن يكون متقبلا، وعلى أحسن المتأولات متأولا، إن شاء الله، وأنتم بحول الله تقفون عند حدود السلم، وتحافظون عليها، وتعاقبون كل من هم بإذاية المسلمين، فإن الوفاء شعار الملوك، وعليهم فيه يجب السلوك. وكتب في سادس رمضان سنة ثمان عشرة وستمائة " (¬1). وكان من تصرفات المستنصر الأخيرة، أن عين عمه أبا محمد عبد الله ابن يعقوب المنصور والي غرناطة، وهو الذي تسمى بالعادل فيما بعد، والياً على مرسية، وذلك في سنة 619 هـ (1221 م). ولم يك ثمة ما يؤذن بوفاة الخليفة المستنصر في سن مبكرة، وقد كان فتى في عنفوانه، لم يجاوز الرابعة والعشرين من عمره، وكان متين البنية، حسن التكوين. ولكن حياة اللهو الصاخب المستمر، التي انهمك فيها، حطمت بنيته، ومهدت الألعاب والرياضات العنيفة، التي كان يشغف بها لوفاته الفجائية. ويقص علينا صاحب روض القرطاس قصة هذه الوفاة الفجائية، فيقول لنا إن يوسف المستنصر، كان مولعاً بالبقر والخيل، وكان يستجلب الأبقار من الأندلس، ويربيها في رياضه الكبيرة بمدينة مراكش، ففي عشية ذات يوم، ركب المستنصر فنشيا (مهرا)، وذهب إلى الروض ليتأمل خيله وأبقاره في ضوء القمر، فبينما هو يسير بين البقر، إذ قصدت إليه بقرة شرود منهن، فضربته بقرنيها بعنف، ضربة أصابته في القلب، وأودت بحياته على الأثر. وكان ذلك في مساء يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي الحجة سنة 620 هـ (4 يناير 1224 م) (¬2). ولكن هذه الرواية، التي ينقلها بعض المؤرخين المتأخرين، ليست هي الوحيدة في شرح ظروف وفاة الخليفة المستنصر الفجائية، فإن هناك رواية أخرى، مفادها أن المستنصر توفي مسموماً، بتدبير وزيره أبي سعيد بن جامع والفتى مسرور، وهذا، نقله إلينا الزركشي عن " ترجمان العبر " (¬3). والآن فلنلق نظرة عابرة على هذه الأعوام العشرة، التي شغلتها خلافة المستنصر، وعلى شخصية هذا الخليفة الفتي، وهي شخصية لم تتميز بشيء من الخلال العظيمة، والأعمال البارزة. ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 246. (¬2) روض القرطاس ص 161. (¬3) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 14.

إن سائر التواريخ المعاصرة والقريبة من العصر، تحدثنا عما كان عليه محمد الخليفة المستنصر، من التعطل والركود، وعما كان عليه المغرب يومئذ، من اختلال الأحوال، واضطراب السكينة والأمن، وذيوع التوجس والقلق، وضعف الموارد العامة والخاصة، وانتشار الضيق والفقر، وفتور همم أولى الأمر، ونكولهم عن القيام بأية إجراءات ناجعة، لتنظيم شئون الدولة، أو معالجة الأحوال العامة، أو معاونة الشعب على اجتياز أزماته الاقتصادية والاجتماعية. ولم يكن ثمة شك في أن هذه كلها، كانت علامات مزعجة، تؤذن بدبيب الوهن والانحلال إلى الدولة الموحدية العظيمة، وبانحدارها إلى المصير، الذي لابد أن تنحدر إليه دولة يصيبها مثلما أصاب الدولة، في عهد المستنصر بالله. وإنا لنقرأ في وصف المؤرخين لشخصية المستنصر، وفي تعيلقاتهم على عصره، تلك الصور المروعة، لدولة تنحدر بسرعة إلى هاوية السقوط. فمثلا يقول لنا ابن عذارى: " ولم تكن للمستنصر بالله حركة ولا غزوة، ولا خرج من حضرته إلى مدينة تينملل، على العادة في التبرك بالمهدي. فما وقفت له على خبر أذكره إلا ما رأيت في بعض الرسائل، والله يؤتى ملكه من يشاء " (¬1). ويقول صاحب روض القرطاس: " ولم يخرج من حضرة مراكش طول خلافته إلى أن توفي، وكانت أوامره لا تتمثل، أكثرها لضعفه وليانه، وإذامته على الخلافة، وركونه إلى اللذات. وتفويضه أمور مملكته، ومهمات أموره، إلى السفلة " (¬2). ويقول ابن خلدون: " وقام بأمر الموحدين من بعده (أي بعد الناصر) ابنه يوسف المستنصر، فنصبه الموحدون غلاماً لم يبلغ الحلم، وشغلته أحوال الصبا وجنونه، عن القيام بالسياسة وتدبير الملك، فأضاع الحزم، وأغفل الأمور، وتواكل الموحدون بما أرخى لهم من طيل الدالة عليه، ونفس عن مخنقهم، من قبضة الاستبداد والقهر، فضاعت الثغور، وضعفت الحامية، وتهاونوا بأمرهم وفشلت ريحهم " (¬3). على أن أبلغ ما وقفنا عليه من هذه التعليقات يتمثل في تلك الفقرة التي يوردها ابن عبد الملك المراكشي، في ترجمة أبي الحسن بن القطان، تعليقاً على اختلال ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 247. (¬2) روض القرطاس ص 161. (¬3) ابن خلدون ج 7 ص 169.

الأحوال في المغرب وقطع السبل، ووقوع النهب على التجار وغير ذلك: " واستمرت الأمور على هذه الحال، وهذه السبيل زمانا، والمستنصر في غفلة عن كل ما يجرى، غير سايل عن رعيته التي يسئل عنها، وإن بدر منه سؤال عن أحوال الناس والبلاد، أجاب الوزير أبو سعيد، أن الجميع في سبوغ نعمة، وشمول عافية، واتساع أحوال، وبسط أموال، فيقنعه ذلك، ويعود إلى انهماكه في لذاته. وأهمل مع ذلك جانب الأجناد الذين هم آلة الملك وأعوانه، فأرجل فرسانهم، وصرفت رجّالتهم، فتفاقم الأمر، واستشرى شرى المفسدين وكثر أضرارهم، وعم عدوانهم. ولما تمادى ظهور الفساد، واشتدت شوكة أهله، آجرى أبو الحسن (المترجم) ذكر ذلك بمجلس الوزير أبي سعيد، وأشار عليه بإنفاذ جيش إلى بعض نواحي مراكش لردع من نجم من أهل البغي، فأجابه بأن ذلك لا يحتاج إليه، وأنه سيكتب إلى أهل تلك الناحية، بالنفوذ إلى من تعرض إلى أرضهم ومرافقهم، والقبض عليهم وقتلهم، ونحو هذا " (¬1). في تلك الفقرة، التي يقدمها إلينا مؤرخ عاش فيها قريباً من العصر، تبدو أصدق صورة للمستنصر وأحوال عصره، وهي صورة تنطق بنفسها، عما يمكن أن يترتب على مثلها بالنسبة للدولة التي تجوزها من النتائج الخطيرة. على أنه توجد لدينا في نفس الوقت بعض نصوص تقدم إلينا المستنصر، هذا الفتى المتعطل المستهتر، في صورة أخرى، هي صورة الطاغية القوي المستبد، الذي يستأثر بالأمور، وإليك ما يقوله لنا في ذلك مؤرخ موحدى معاصر وشاهد عيان، هو عبد الواحد المراكشي، وقد عرف المستنصر شخصياً واتصل به. يقول عبد الواحد خلال حديثه عن المستنصر: " ولم يغير أبو يعقوب هذا على الناس شيئاً من سير آبائه، ولا أحدث أمراً يتميز به عمن كان قبله، خلا أني رأيت كلّ من يعرفه من خواص الدولة، قد مُلىء قلبه رعباً لما يعلمون من شهامته وشدة تيقظه. لقيته وجلست بين يديه خالياً به، وذلك في غرة سنة 611، فرأيت من حدة نفسه، وتيقظ قلبه، وسؤاله عن جزئيات لا يعرفها أكثر السوق، فكيف الملوك، ما قضيت منه العجب، وإلى وقتنا هذا لم يظهر منه شىء مما يتوقع " (¬2). ¬_______ (¬1) كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي (السفر الخامس من مخطوط المتحف البريطاني لوحة 19) في ترجمة علي بن محمد بن عبد الملك بن سماحة الحميرى الكتامى، أبي الحسن بن القطان. (¬2) المعجب ص 187.

ويؤيد هذه الصورة في بعض نواحيها صاحب روض القرطاس حين يقول في حديثه عن المستنصر: " فضعفت دولة الموحدين في أيامه، واعتراها النقص، وأخذت في الإدبار، إلا أن أيامه كانت أيام هدنة ودعة وعافية. فلما كبر، واشتغل بأمره ونهيه، واستبد بملكه، جعل يفرق أعمامه، وحواليه الذين أقاموها، وأشياخ الموحدين الذين أسسوها، وقرب أناسا وتمسك بهم، لم يكن لهم أصل فيها " (¬1). هذا وقد كانت حكومة الخليفة المستنصر، تتألف من معظم الأشخاص الذين عملوا مع أبيه الناصر، فكان وزيره وزير أبيه أبو سعيد عثمان بن عبد الله بن إدريس بن إبراهيم بن جامع، وهو سليل تلك الأسرة التي استأثرت بوزارة الخلافة الموحدية زهاء نصف قرن، وكان عميدها إبراهيم بن جامع من أصحاب المهدي، واستمرت وزارته إلى آخر سنة 615 هـ، ثم صرفه المستنصر، واستوزر من بعده أحد القرابة، وهو زكريا بن يحيى بن اسماعيل الهزرجى، فاستمر في الوزارة حتى نهاية عهده، بيد أن هناك ما يدل على أن المستنصر، عاد فاستدعى الوزير أبا سعيد للعمل مرة أخرى، وذلك في أواخر عهده. وتولى الكتابة للمستنصر كاتبا أبيه وجده من قبل، وهما أبو عبد الله بن عياش، وأبو الحسن بن عياش، ولما توفيا متعاقبين في شهور سنة 619 هـ، استدعى للكتابة أبو عبد الله محمد ابن يخلفتن الفازازى، كاتب الناصر من قبل، وكان عندئذ يشغل منصب القضاء بمرسية، وعين معه للكتابة أبو جعفر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن عياش، وبقى كاتب الجيش أحمد بن منيع، وهو كاتب الناصر من قبل، في منصبه دون تغيير. وتولى الحجابة للمستنصر، مبشر الخصى حاجب أبيه، ولما توفي خلفه في الحجابة فارح الخصى المعروف بأبي السرور، واستمر في الحجابة حتى وفاة المستنصر. وتولى القضاء للمستنصر، أبو عمران موسى بن عيسى بن عمران قاضي أبيه، فلم يزل في منصبه حتى نهاية عهده، وهذا القاضي هو أيضاً، حفيد أسرة استأثرت بمناصب القضاء منذ أيام عبد المؤمن، وكان عميدها أبو عمران موسى الضرير صهر عبد المؤمن. ولم ينجب المستنصر ولدا، ولم يعقب إلا حملا من جارية، لم تذكر لنا الرواية مصيره (¬2). ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 161. (¬2) روض القرطاس ص 161.

الفصل الثانى أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس.

الفصل الثاني أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس. ولاية الخليفة أبي محمد عبد الواحد. نشأته وصفاته. تصرفاته الأولى. اعتراض السيد أبي محمد عبد الله والي مرسية على خلافته. قيامه بالدعوة لنفسه وتلقبه بالعادل. انضمام إخوته ولاة قرطبة وغرناطة ومالقة إليه. تأييد أبي محمد عبد الله البياسى والي جيان له. مخالفة السيد أبي زيد والي بلنسية. استوزاره لابن يوجان ونزوحه إلى إشبيلية. القيام بدعوته في مراكش. مصرع الخليفة أبي محمد عبد الواحد. تطور الحوادث بالأندلس. خروج البياسى على العادل ودعوته لنفسه. مسير أبي العلى إدريس لقتاله. استنصار البياسى بملك قشتالة. تخاذل أبي العلى عن قتاله وارتداده. العادل يرسل جيشاً آخر لقتال البياسى. هزيمة هذا الجيش وفراره. استيلاء البياسى على قرطبة. إغارة النصارى على أحواز إشبيلية. خروج أهلها لرد الغزاة. هزيمتهم وتمزيق صفوفهم. إغارة النصارى على أحواز مرسية. هزيمة المسلمين. مغادرة العادل للأندلس ومسيره إلى مراكش. العادل ونشأته وصفاته. اهتمامه بشئون الأندلس وكتابه في ذلك. تفاقم الحوادث في الأندلس. أعمال البياسى والقشتاليين في أواسط الأندلس. تحالف البياسى وملك قشتالة. محاصرة ملك قشتالة لجيان. فشل الحصار وارتداد النصارى. افتتاح القشتاليين للقبذاق وباغة. غزوهم للوشة والحامة. محاصرتهم لغرناطة ثم جلاؤهم عنها. زحف البياسى على إشبيلية. خروج أبو العلى إدريس في الموحدين لمدافعته. هزيمة الموحدين وأهل إشبيلية. خضوع قرطبة وبلاد شرقي إشبيلية للبياسى. ما سلمه البياسى لملك قشتالة من المواقع والحصون. عود البياسى إلى مهاجمة إشبيلية. خروج أبي العلى للقائه. هزيمته وتمزيق جموعه. عود بلاد شرقي إشبيلية إلى طاعة العادل. كتاب أبي العلى إلى أخيه الخليفة. ثورة أهل قرطبة ضد البياسى. مطاردته ومصرعه وانهيار ثورته. صفاته الذميمة. افتتاح ملك قشتالة لحصن قبالة. استنجاد أهل بياسة بصاحب جيان. خروج أهلها منها واستيلاء النصارى عليها. استيلاء فرناندو الثالث على شوذر ومواضع أخرى. مسير السيد أبي العلى إلى مرتش وعجزه عن مهاجمتها. يعقد الهدنة مع القشتاليين. اضطراب الأحوال في المغرب. عيث الخلط وهسكورة في أحواز مراكش. خروج أبي العلى إدريس بالأندلس على أخيه. دعوته لنفسه بالخلافة. كيف مهد لنفسه طريق الدعوة. مبايعته واتخاذه لقب المأمون. سعى الوزير ابن يوجان لتأييده. اتفاق الموحدين على خلع العادل. رفض العادل التنازل ومصرعه. بيعة الأشياخ للعادل ثم عدولهم عنه إلى ابن أخيه يحيى الناصر. تلقب يحيى بالمعتصم. غضب المأمون واعتزامه العبور إلى العدوة. لما توفي الخليفة يوسف المستنصر بالله دون عقب في يوم السبت الثاني عشر من ذي الحجة سنة 620 هـ، اجتمع رأى أشياخ الموحدين، وفي مقدمتهم الوزير أبو سعيد بن جامع، على أن يقدموا مكانه للخلافة السيد أبا محمد عبد الواحد

ابن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن (¬1)، وكان شيخاً قد جاوز الستين، يعيش مغموراً في هدوء ودعة. ويقول لنا المراكشي، فيما بلغه، أنه لما توفي المستنصر، اضطرب الأمر، وتطلع الناس لنشوب الخلاف، ولكن معظمهم اجتمعوا على تقديم السيد الأجل أبي محمد عبد العزيز (عبد الواحد) (¬2). على أنه يبدو أن اختيار عبد الواحد، كان أمراً تقرر بمنتهى السرعة، إذ بويع في اليوم التالي لوفاة المستنصر، أعني في يوم الأحد الثالث عشر لذى الحجة، ويبدو في نفس الوقت أن هذا الاختيار لشيخ جاوز الستين، يرجع إلى حكمة مزدوجة، أولا لكي يكون أداة مطواعة للزعماء الذين يقبضون على ناصية الحكم، وثانياً لكي تكون خلافته، ومفروض أنها سوف تكون قصيرة الأمد، فترة انتقال، يتمكن الأشياخ فيها من حسم خلافاتهم، والاتفاق على الخليفة الحقيقي. ويقدم إلينا المراكشي، وقد عرف السيد عبد الواحد شخصياً، تفاصيل عديدة عنه، وعن حميد صفاته. فهو من أصغر أولاد الخليفة يوسف بن عبد المؤمن وأمه حرة اسمها مريم وهي صنهاجية من أهل قلعة بني حماد، كانت قد سبيت هي وأمها فيمن سبوا عند افتتاح عبد المؤمن للقلعة، فأعتقهما عبد المؤمن، وزوج مريم لابنه أبي يعقوب يوسف، فرزق منها بثمانية من الولد، أربعة ذكور، وأربع إناث، وكان الذكور هم ابراهيم وموسى وإدريس وعبد الواحد وهو أصغرهم. ولبث عبد الواحد طيلة شبابه مغموراً، لم تسند إليه ولاية ما، حتى تولى الخلافة ابن عمه الناصر لدين الله، فأسند إليه ولاية مالقة، وذلك في سنة 598 هـ، ثم صرفه عنها في سنة 603 هـ، وولاه أمر قبيلة هسكورة، وهي ولاية ضخمة، فاستمر في ولايته هذه طوال عهد الناصر، وشطراً من عهد ولده المستنصر. ثم اختاره المستنصر والياً لسجلماسة، ثم والياً لإشبيلية، وذلك حينما عزل عنها أخوه أبو العلاء إدريس، ونقل إلى ولاية تونس، ثم صرف عنها وعاد إلى مراكش. وقد بويع السيد أبو محمد عبد الواحد بالخلافة على كره منه، فم يك راغباً فيها، ولم يك يصلح لها (¬3). وكان حسبما يصفه لنا المراكشي عن علم ومشاهدة، ¬_______ (¬1) وفي الحلل الموشية أن كنيته " أبو مالك " ص 123. (¬2) المعجب ص 187. (¬3) روض القرطاس ص 162.

رجلا ورعا صالحاً، بعيد النظر، قوي العزم، شديد الشكيمة، حريصاً على اتباع الحق، لا تأخذه فيه لومة لائم، كثير التلاوة لكتاب الله، دؤوباً على تلاوة الأوراد، لا يمنعه عن ذلك مانع، ولا يترك وظيفة من الوظائف التي رتبها لنفسه، من أخذ العلم وقراءة القرآن والأذكار، رتبها على أوقات الليل والنهار. يقول المراكشي: " شهدت هذا كله بنفسى، لا أنقله عن أحد، ولا أستند فيه إلى رواية. هذا مع دماثة خلق، ولين جانب، وخفض جناح لأصحابه، ولمن علم فيه خيراً للمسلمين ". وأما عن شخصه فيصفه المراكشي بأنه كان " أبيض تعلوه صفرة، جميل الوجه جداً، معتدل القامة، متناسب الأعضاء " (¬1). وتمت بيعة السيد أبي محمد عبد الواحد في جو من التفاهم والوفاق، ولم يختلف أحد في المغرب على بيعته، ولم يبد عليها اعتراض من أحد، ولم يتخذ الخليفة الجديد لقباً خلافياً كأسلافه، ولكنه عرف فيما بعد " بالمخلوع " لأنه كان أول من خلع بني عبد المؤمن عن كرسى الخلافة. وكان في مقدمة تصرفاته أن أمر بمحاسبة ابن أشرفى صاحب المخزن، ومطالبته بالمال. وكتب لأخيه أبي العلاء الكبير بتجديد الولاية على إفريقية، وكان المستنصر قد أوعز بعزله، بيد أنه توفي قبل استئناف ولايته، وأمر بإطلاق سراح الوزير السابق أبي زيد عبد الرحمن بن موسى ابن يوجان، ولكن الوزير ابن جامع اعترض على تنفيذ هذا الأمر، وبعث بابن يوجان مع الأسطول بقصد تغريبه إلى ميورقة (¬2). ولكنه لما وصل إلى الأندلس، أخذ وسجن في حصن جنجالة، فبقى فيه حتى توفي ابن جامع، وعندئذ أطلق سراحه (¬3). ثم كان ظهور الخلاف والمعارضة للخليفة الجديد، لا في المغرب ولكن في جهة أخرى، فيما وراء البحر، أعني في شبه الجزيرة الأندلسية. وذلك أنه لم يمض شهران على بيعته بالمغرب ومعظم أنحاء الأندلس، حتى ارتفع أول صوت ضد بيعته في شرقي الأندلس، وكان هو صوت ابن أخيه السيد أبي محمد عبد الله ابن يعقوب المنصور. وكان أبو محمد عبد الله عندئذ، واليا لمرسية. وكان إخوته أبو العُلى (أبو العلاء) والياً على قرطبة، وأبو الحسن والياً على غرناطة، وأبو موسى والياً على مالقة. وكان قد استوزر أبا زيد بن يوجان بعد إطلاق سراحه. ¬_______ (¬1) المعجب ص 188. (¬2) ابن خلدون في العبر ج 6 ص 251. (¬3) الروض المعطار ص 67 في مقال جنجالة.

وكان ابن يوجان هذا داهية زمانه، فلما وردت الأنباء بأخذ البيعة لأبي محمد عبد الواحد، تقدم ابن يوجان إلى السيد أبي محمد عبد الله، وحذره من المبايعة للخليفة الجديد، وقال له إنهم بتنصيب عبد الواحد، قد أخرجوا الإمامة عن عقب سيدنا المنصور، وأنه يشهد بأن المنصور قال إن لم يصلح محمد (أعني الناصر) فعبد الله، وأنه أي عبد الله أحق بالخلافة، فهو ولد المنصور، وأخو الناصر، وعم المستنصر، وأنه صاحب عقل وحزم وسياسة وبعد نظر، ولن يختلف اثنان على استحقاقه للخلافة، خصوصاً وأن الناس يكرهون بني جامع الذين توارثوا الوزارة، وجعلوا يقصون عن الحضرة كل ذي رأى ومقدرة، وأخيراً فإن له من وجود أخوته الثلاثة في رياسة قرطبة وغرناطة ومالقة أكبر عضد (¬1). وكان لتوجيه ابن يوجان وتحريضه أكبر الأثر، فنهض السيد أبو محمد واستدعى أشياخ الموحدين والفقهاء والأعيان بمرسية وأحوازها، ودعاهم إلى مبايعته، فلبوا دعوته، وتسمى بالعادل، وكان ذلك في يوم 13 صفر سنة 621 هـ وذلك لشهرين من بيعة أبي محمد عبد الواحد، وبايعه إخوته ولاة قرطبة، وغرناطة ومالقة. وكذلك بايعه السيد أبو محمد عبد الله بن أبي عبد الله محمد ابن يوسف بن عبد المؤمن صاحب جيان، وهو الذي عرف فيما بعد بالبيّاسى، لقيامه فيما بعد ضد العادل ببياسة. وكان سبب انضمامه للعادل ما قرره الخليفة عبد الواحد من عزله، بعمه أبي الربيع بن أبي حفص، فانتقض عليه وبايع للعادل (¬2). وفي رواية أخرى أن عبد الله البياسى كان عند قيام العادل والياً على إشبيلية (¬3). وعلى أي حال، فقد استطاع العادل أن يحصل على تأييد سائر قواعد الأندلس، خلا بلنسية ودانية وشاطبة، حيث امتنع واليها السيد أبو زيد بن أبي عبد الله محمد أخو البياسى عن مبايعته، وبقيت هذه القواعد على طاعته. ثم خرج العادل من مرسية وبصحبته وزيره أبو زيد بن يوجان، وسار إلى إشبيلية، وأخذ في تدبير الأمور، ولم يلبث أن برم بطغيان ابن يوجان واسئثاره بكل أمر، فبعثه إلى سبتة، ليكون هناك نائبه، ولينظر في شئون العودة. وهنا يحيق الغموض بسير الحوادث سواء بالمغرب أو الأندلس. ¬_______ (¬1) الروض المعطار ص 68، وروض القرطاس ص 162. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 251. (¬3) هذه رواية ابن عذارى في البيان المغرب - القسم الثالث ص 248.

ففي رواية أن العادل حينما وصل إلى إشبيلية، وصلته هنالك بيعة أهل مراكش وبلاد المغرب. وفي رواية أخرى أنه كتب إلى الأشياخ الموحدين بحضرة مراكش يدعوهم إلى بيعته، وخلع عبد الواحد ووعدهم بجزيل الصلات، ورفيع المناصب والولايات، فصدعوا برغبته ودخلوا على الخليفة عبد الواحد، وهددوه، وأرغموه على أن يعلن خلع نفسه، وأن يشهد بذلك على نفسه أمام القاضي والفقهاء والأشياخ، وكان ذلك في اليوم الثاني والعشرين من شهر شعبان سنة 621 هـ. ولم تمض أيام قلائل على ذلك، حتى دخلت عليه جماعة من الموحدين، وخنقوه، ونهبوا قصره، وسبوا حريمه، فكان بذلك أول من خلع وقتل من بني عبد المؤمن (¬1) ومن جهة أخرى فإنه يبدو أن أشياخ الموحدين بمراكش، لما بلغتهم بيعة العادل بالأندلس، اختلفوا فيما بينهم أولا، وبادروا بعزل الوزير ابن جامع، واقتسموا السلطات فيما بينهم، وأنفذوا أوامرهم إلى الأسطول بمنع جواز العادل إلى المغرب. ولكن الظاهر أنهم قرروا أمرهم فيما بعد، وبعثوا ببيعتهم إلى العادل (¬2). - 1 - وفي أثناء ذلك اضطربت الحوادث بالأندلس، واتخذت وجهة جديدة لم تكن في الحسبان. وكانا لبيعة العادل أكبر أثر في تطورها على هذا النحو. وذلك أن السيد أبا محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن صاحب جيان، لما رأى من رفض أخيه السيد أبي زيد والي بلنسية ودانية وشاطبة، بيعة العادل، واعتصامه بهذه القواعد الشرقية، عاد بدوره، فأعلن خلعه لطاعة ابن عمه العادل ودعا لنفسه وتلقب بالظافر، وأطاعته جيان وأبدة وقيجاطه وبياسة، وسائر أراضي تلك المنطقة. فبادر العادل، وبعث من إشبيلية أخاه أبا العلاء إدريس ابن المنصور، في قوة كبيرة من الموحدين، لقتال السيد أبي عبد عبد الله وإخماد ثورته، فخرج السيد عندئذ من جيان ولجأ إلى بياسة وامتنع بها، وسمى من ذلك التاريخ بالبياسى، وبعث إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، يستنصر به، ونحن نعرف منذ أيام الطوائف، ماذا كان الثمن الذي يتقاضاه الملوك النصارى نظير هذه المعونة، فقد كان دائماً قطعة من أشلاء الأندلس، تبذل دون تحفظ، إلى ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 47، وروض القرطاس ص 162 و 163. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 251 و 252.

جانب الخضوع والطاعة. ولم يشذ البياسى عن هذه القاعدة المؤلمة، بل سنرى أنه ذهب فيها إلى أبعد حد. وأشرف الجند الموحدون بقيادة أبي العلاء على بيّاسة في أواخر سنة 621 هـ (أواخر سنة 1223 م)، ونزلوا في ظاهرها، وكان الوقت شتاء، وقد بلغ البرد ذروته، واشتد هطل الأمطار، وغمرت السيول كل صقع، فحاصر أبو العلاء بياسة أياما قلائل، ثم خشى أن يفيض النهر (الوادي الكبير) فيتعذر عليه العبور عند العودة، وخشى كذلك أن يداهمه القشتاليون حلفاء البياسى، وبعث إليه البياسى من جهة أخرى بعوده إلى طاعة العادل، وأرسل إليه ولده الأصغر رهينة لديه، فاكتفى أبو العلاء بذلك وارتد عائدا بقواته إلى إشبيلية، دون أن يحقق شيئاً من مهمته، فقوبل في إشبيلية بمنتهى الاستهجان والسخط، ورمى بالخور والجبن (¬1). وعندئذ بادر العادل بتجهيز جيش موحدى آخر، أسندت قيادته إلى أبي سعيد عثمان بن أبي حفص. فسار هذا الجيش إلى بياسة ونزل على بعد خمسة أميال من جنوبي المدينة، على مقربة من شمال الوادي الكبير، فخرج إلى قتاله نحو مائة فارس من أصحاب البياسى، وقوة من حلفائه القشتاليين، فسرى الرعب إلى الموحدين عند رؤيتهم، وبادروا إلى الفرار دون قتال وارتدوا إلى إشبيلية، وبقى البيّاسى في بياسة دون منازع، وقد احتل حلفاؤه القشتاليون قصبتها (¬2). وهنا يحيق الغموض بموقف البياسى وتحركاته، ويبدو من مختلف الروايات أنه استطاع في تلك الآونة أن يبسط سلطانه، فضلا عن منطقة بياسة، على مدينة قرطبة، وذلك على خلاف في طريق تملكها، فابن عذارى يقول لنا إن العادل هو الذي أسند إليه ولايتها، وقت أن كان مُقراً بطاعته، وصاحب روض القرطاس يقول إن أهل قرطبة هم الذين انضموا إليه. وأما صاحب الروض المعطار، فيقول إن البياسي هو الذي تملك قرطبة، بل يزيد على ذلك أنه تملك أيضا مالقة، " وكاد يستولي على الأمر لو ساعده القدر " (¬3). وعلى أي حال ¬_______ (¬1) الروض المعطار في مقاله عن بياسة ص 57، وروض القرطاس ص 163. (¬2) الروض المعطار ص 58. (¬3) البيان المغرب - القسم الثالث 249، وروض القرطاس ص 164، والروض المعطار ص 58.

فقد كان من الواضح أن البياسى، كان يحتل في الأندلس الوسطى مركزاً له خطره، وكان منافساً قوياً للعادل، يكاد ينتزع الأمر منه. وكان العادل قد غدا بإشبيلية على أثر فشل قواته في إخضاع البياسى، في مأزق حرج. وزاد من حرج مركزه عندئذ، غزوة قام بها النصارى في أراضي الشّرف غربي إشبيلية. وذلك أن قوة من الجند الليونيين يقودها مارتن سانشيز، وهو ابن غير شرعى لملك البرتغال سانشو الثاني، دخل في خدمة ملك ليون، عبرت جبال الشارات، وسارت جنوبا حتى وصلت إلى أراضي الشّرف، وعاثت في تلك المنطقة، واستولت على كثير من الغنائم والسبي، وألفى العادل، وأخوه أبو العلاء، ووزيره ابن يوجان، ومن معهم من أشياخ الموحدين، أنفسهم عاجزين عن دفع النصارى، وحماية المدينة مما قد يصيبها. ووقع الهرج بين أهل المدينة، واجتمع الناس خاصتهم وعامتهم بالمسجد الجامع، وطالبوا العادل وأشياخ الموحدين بجمع الصفوف، والخروج إلى لقاء العدو، فاستنفر العادل الناس، واحتشدت مهم جموع غفيرة، ومعظمهم من غير سلاح، واجتمع من الفرسان نحو مائة، وسارت هذه الجموع إلى حيث نزل النصارى على مقربة من طلياطة (¬1) وهي تقع غربي إشبيلية على مقربة من لبلة، وكان النصارى في قوة كبيرة حسنة الأهبة والسلاح، فأراد العامة أن يدفعوا قوة الفرسان الصغيرة إلى لقاء العدو، فامتنع قائدها عبد الله بن أبي بكر بن يزيد، وحاول أن يقنع العامة بعبث هذه المحاولة، وبأن التزام الدفاع أفضل وأولى، فتطاولوا عليه وسبوه، فانسحب مع فرسانه. وعندئذ أنقض النصارى على هذه الجموع الهزيلة المفككة من المسلمين، ففتكوا بها وأفنوا الكثير منها قتلا وأسراً، وفر الكثير منهم في مختلف الأنحاء. ويقدر من هلك من المسلمين في الموقعة بعدة آلاف، ويبالغ بعضهم فيقدرها بنحو عشرين ألفاً، ووقعت موقعة طلياطة هذه في شهر جمادى الأولى سنة 622 هـ (مايو 1224 م) (¬2). ولم يمض شهران على ذلك، حتى وقعت في شرقي الأندلس غزوة نصرانية مماثلة، وهزيمة مماثلة للمسلمين. وذلك أن حكام قونقة ووبذة والأركون ومويا، ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Tejada (¬2) ينفرد صاحب الروض المعطار بما يقدمه إلينا عن هذه الموقعة من تفاصيل وافية (ص 128 و 129).

جمعوا قواتهم، وسارت منها حملة غازية بقيادة ألبرو تليس اخترقت وادي شُقر جنوباً حتى أراضي مرسية، فخرج لردهم جند مرسية وأهلها بقيادة أبي على ابن أشرقى، وكانوا على مثل أهل إشبيلية من التفكك والفوضى، فنشبت بينهم وبين النصارى، في مكان يعرف بعفص Aspe يقع شرقي مرسية، معركة شديدة هزم فيها المسلمون هزيمة فادحة، وأسر وقتل منهم فيها الكثير. وكان ذلك في شهر رجب سنة 622 هـ (يوليه 1224 م)، وفي ذلك يقول شاعر مرسى، مقارنا بين موقعتى عفص وطلياطة: موقعة عفص وطلياطة ... تكامل إقبال أيامنا فبالغرب تلك وبالشرق ذي ... أناخا على شم أعلامنا (¬1) - 2 - في ذلك الحين، كانت بيعات الموحدين بمراكش والمغرب، قد وصلت إلى العادل بإشبيلية، وكان الخليفة عبد الواحد، قد خُلع ولقى مصرعه، وأصبح عرش الخلافة الموحدية خاليا، فرأى العادل أن الوقت قد حان لكي يعبر إلى المغرب، خصوصاً وقد أخذت الحوادث تتجهم في الأندلس، على أثر فشله في التغلب على البياسى، وفي رد النصارى عن أراضي إشبيلية، فندب أخاه أبا العلاء إدريس للنظر على شئون الأندلس، وغادر إشبيلية، وعبر البحر إلى المغرب، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 622 هـ (أكتوبر سنة 1224 م) (¬2). والظاهر أنه لقى في طريقه إلى مراكش صعابا من تعرض العربان وغيرهم إليه. ولما وصل العادل إلى مراكش، واستقر بقصر الخليفة، استوزر أبا زيد ¬_______ (¬1) راجع الروض المعطار ص 136. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 252، والروض المعطار ص 129. ونحن نرجح الأخذ بهذا التاريخ الذي يقدمه إلينا صاحب الروض المعطار لعودة العادل، ولكن يبدو من أقوال ابن عذارى أن العادل عاد إلى مراكش يوم السبت 20 شعبان سنة 622، وهو آخر يوم من حكم عبد الواحد، وأنه دخل عليه القصر في هذا اليوم. وفي اليوم التالي أشهده على نفسه بالخلع، وأن عبد الواحد خنق بعد ثلاثة أيام من خلعه (البيان المغرب ص 247 و 248) ومعنى ذلك أن العادل هو الذي قام بخلع عبد الواحد ثم أوعز بقتله، ونهب قصره وسبي حريمه. وهذه الرواية التي ينفرد بها ابن عذارى، تبدو في نظرنا ضعيفة بعيدة الاحتمال. وبالعكس فإن الظروف والقرائن الزمنية تحمل كلها على الاعتقاد بأن عودة العادل كانت بعد خلع عبد الواحد ومصرعه. ويستفاد ذلك فضلا عن قول صاحب الروض المعطار، من قول ابن خلكان (ج 2 ص 434)، وصاحب الحلل الموشية (ص 123) وصاحب روض القرطاس (ص 163) وكذلك ابن الخطيب في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال 1674 الغزيرى) لوحة 54 أ.

ابن أبي محمد بن أبي حفص، وأقر عماله سواء بالمغرب أو الأندلس على أعمالهم، وأقر خاصته وحشمه كل في وظائفهم وطبقاتهم. وقد تقدم نسب العادل، فهو أبو محمد عبد الله بن يعقوب المنصور بن يوسف ابن عبد المؤمن بن علي، وأمه أم ولد نصرانية برتغالية، من سبى شنترين اسمها سر الحسن أسرت فيما يبدو، حين غزوة المنصور الأولى للبرتغال في سنة 586 هـ (1190 م)، وبذلك يمكن أن نضع تاريخ مولد العادل في نحو سنة 587 هـ (1191 م) فيكون عمره وقت أن تولى الخلافة، نحواً من أربعة وثلاثين عاما. ولقبه الكامل هو " العادل في أحكام الله تعالى ". وأما عن صفته، فقد كان العادل نحيل القد، أشهل العينين، أقنى الأنف، خفيف العارضين (¬1). وكان العادل من خيرة بني عبد المؤمن، فاضلا وقوراً، كبير النفس، عالى الهمة، من أهل العلم والمعرفة (¬2). وتولى العادل حكم غرناطة في سنة 619 هـ، أيام ابن أخيه يوسف المستنصر، ثم نقل باختياره إلى ولاية مرسية. ولما تولى الخلافة عمه أبو محمد عبد الواحد، خرج عليه بمرسية، كما تقدم، ودعا لنفسه بالخلافة، وذلك في يوم 13 صفر سنة 621 هـ، ولم يتخلف عن بيعته بالأندلس سوى السيد أبي زيد والي بلنسية، وأخوه السيد أبو عبد الله صاحب جيّان، وهو العروف بالبياسى. وأما في المغرب فقد تلقى بيعة سائر الموحدين، ما عدا بيعة بني حفص ولاة افريقية، وكان هؤلاء عندئذ يدبرون الخطة لانفصالهم عن الدولة الموحدية، والاستقلال بحكم ما تحت أيديهم. وكان في مقدمة ما فعله العادل، أن وجه إلى قواعد الأندلس، كتابا يؤكد فيه عناية الموحدين بشئون الجزيرة، واجتماع كلمتهم على الجهاد. وقد أورد لنا ابن عذارى من الكتاب المذكور فقرة ننقل منها ما يلي: " وها هم بحمد الله (أي الموحدين) قد انتظم شملهم، واتصل حبلهم، واجتمعت أهواءهم، واتفقت على إعزاز الحق آراؤهم، وحلوا بدار الموحدين، ومطلع الخلفاء الراشدين المهتدين، حيث الجموع وافرة. والأعداد متكاثرة، وطائفة الحق متعاضدة متظاهرة، وذلك حلول استدعاء واستنفار، لا حلول إقامة واستقرار، عازمين على الجهاد، والله تعالى ممضى عزائمهم، ويجبرهم ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 163. (¬2) ابن الخطيب الإحاطة (مخطوط الإسكوريال المشار إليه) لوحة 54 أ.

على جميل معتقداتهم، على جهاد أعداء الله الكفار، فاعملوا وفقكم الله على ذلك، والله يبلغكم آمالكم والسلام عليكم " (¬1). والواقع أن شئون الأندلس، كانت أهم ما يشغل العادل، وقد تركها عند مغادرته لشبه الجزيرة، في حالة اضطراب مروع، تتجاذبها تيارات جارفة، من الفتن الداخلية، ومن عدوان النصارى. - 3 - غادر العادل الأندلس، وترك أخاه أبا العُلى إدريس في إشبيلية ليواجه العاصفة. وكانت الأندلس قد غدت كما قدمنا مرة أخرى، مذ أعلن العادل دعوته بالخلافة، مسرحاً لصراع المتغلبين. وكانت حركة البياسى أبي محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، في أواسط الأندلس، قد اتسع نطاقها، وكادت أن تمتد بعد الأندلس الوسطى، إلى إشبيلية، والأندلس الغربية. وكان البياسى، قد لجأ حسبما تقدم، إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، يستنصر به، ويطلب عونه ضد خصومه، وكان فرناندو، وهو الذي قدر له أن يفتتح فيما بعد معظم قواعد الأندلس الكبرى، يقدر كأسلافه، مزايا هذا التدخل في حوادث الأندلس، وفي حروبها الأهلية، وما يترتب عليه من مغانم سياسية، وإقليمية جليلة، فلبى نداء البياسى، وبعث إليه بالأمداد، وامتنع البياسي بمدينة بياسة، وصمد أمام الجيوش الموحدية، التي بعثها العادل لإخضاعه. ولما اطمأن إلى حصانة مركزه، خرج مع حليفه ملك قشتالة، ليعاونه على افتتاح أول قاعدة أندلسية من قواعد هذه المنطقة، وهي مدينة قيجاطة (¬2). الواقعة جنوب شرقي بياسة. وكان فرناندو الثالث قد خرج بجيشه في خريف سنة 1224 م (أواخر سنة 622 هـ)، واخترق أراضي أبّدة قاصداً إلى قيجاطة، وكانت تزخر بالأموال والثروات، فاقتحمها القشتاليون، وهدموا معظم أسوارها، وقتلوا من أهلها الألوف، وقتلوا وأسروا كذلك معظم حاميتها الموحدية (سبتمبر 1224 م). واستولى القشتاليون في نفس الوقت على عدة أخرى من حصون هذه المنطقة. ثم ساروا بعد ذلك، ومعهم حليفهم البياسي، فعاثوا في أراضي جيان، وقتلوا من أهلها نحو ألف وخمسمائة (أكتوبر 1224 م). ثم ارتد ملك قشتالة ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 249. (¬2) وهي بالإسبانية Quesada

في قواته مثقلا بالغنائم والأسرى، عند اقتراب الشتاء، وعبر نهر الوادي الكبير عائداً إلى بلاده (¬1). وفي صيف العام التالي، أعني في سنة 623 هـ (1225 م)، خرج فرناندو الثالث من قشتالة بجيش ضخم، وعبر ممر مورادال بجبال سييرا مورينا (جبل الشارات) ونزل في سهل العقاب، على مقربة من شمالي بياسة، وبعث إلى البياسى يستدعيه، فهرع البياسى إلى لقاء ملك قشتالة، وقدم إليه خضوعه بصفة رسمية، وعقد معه عهداً يعترف فيه بطاعته، ويتعهد بأن يسلم إليه حصون مرتُش، وأندوجر، وجيان، متى حصلت في يده، وكذلك سائر الحصون، التي يطلب ملك قشتالة الاستيلاء عليها، في أراضي المسلمين، وسلم البياسى ولده الأصغر إلى ملك قشتالة كفالة بولائه وإخلاصه. وتعهد ملك قشتالة من جانبه بأن يقدم إلى البياسى المعونة العسكرية الكافية، لاسترداد أملاكه وتأمينها (¬2). وعلى أثر ذلك قصد ملك قشتالة ومعه حليفه أو تابعه البياسى إلى مدينة جيان وهو يخرب سائر الأراضي التي يمر بها، خلا تلك التي يسيطر عليها البياسى. ولما وصل إلى جيان، ضرب حولها الحصار، وأخذ القشتاليون مدى أيام يهاجمونها دون جدوى. وكانت جيان أمنع قاعدة في تلك المنطقة، ولها أسوار عالية، وقصبة في منتهى المناعة، مازالت أطلالها قائمة حتى اليوم، تشهد بسابق حصانتها. وكانت تدافع عنها حامية موحدية قوية بقيادة عمر بن عيسى بن أبي حفص بن يحيى، ومعهم فرقة من الفرسان النصارى بقيادة ألبار بيريث دي كاسترو، وكان مثل أبيه يعمل في خدمة الموحدين بغيرة وإخلاص، ولما اشتدت هجمات النصارى، خرج المسلمون لهم، واشتبكوا معهم في معركة قتل فيها من المسلمين مائة وثمانون، وأسر نحو ألفين. ثم امتنع المسلمون بالمدينة، ولبثوا صامدين، وكرر القشتاليون هجماتهم على المدينة، وهم في كل مرة يرتدون عنها خائبين. وأخيراً اضطر ملك قشتالة أن يرفع الحصار عن المدينة، وأن يرحل عنها (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 249، والروض المعطار ص 61 وكذلك: J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia (Madrid 1946) ; cit. Anales Toledanes ; p. 36 & 37 (¬2) J. Gonzalez: ibid ; p. 38 (¬3) J. Gonzalez: ibid, cit. Cronica Latinas ; p. 40

وسار ملك قشتالة بعد ذلك ومعه البياسى إلى القبذاق (¬1)، فاستولى عليها وسلمها لحليفه، إذ كانت من أملاكه، ثم سار جنوبا نحو باغة (¬2)، فقاومته حاميتها بشدة، واضطر إلى محاصرتها مدة، ثم سلمت حاميتها بالأمان نظير فدية كبيرة، وقصد بعد ذلك إلى لوشة، وهي جنوب باغه على ضفة نهر شنيل. فاقتحمها وفتك بأهلها. ولما وصل إلى مدينة الحامة في جنوبها، ألفاها خالية، إذ هجرها أهلها خوفاً أن يصيبهم ما أصاب أهل لوشة. ثم سار القشتاليون بعد ذلك شمالا صوب غرناطة، وكان أهلها قد استدعوا ألبار بيريث لمعاونتهم على الدفاع. فلما اقترب القشتاليون من المدينة، وضربوا حولها الحصار، وسّط أهلها ألبار بيريث ليفاوض ملك قشتالة في أن يرحل عنهم، نظر تسليمهم إياه ألفا وثلاثمائة أسير من النصارى كانوا لديهم، فتم الاتفاق على ذلك، وعفا ملك قشتالة عن ألبار بيريث، فترك خدمة الموحدين، وعاد إلى خدمة مليكه، وارتد ملك قشتالة في قواته شمالا، حتى اقترب من بياسة، وهنالك قام البياسى بتسليمه حصنى مرتش وأندوجر، وفقاً لعهده الذي أخذه على نفسه (¬3). وكان البياسى قد شعر عندئذ بتوطد مركزه، وضخامة العون الذي يلقاه من حلفائه النصارى، فما كاد فرناندو الثالث يختتم غزوته في أراضي المسلمين، حتى سار البياسى في قواته، ومعه جيش من النصارى، تقدره الرواية بعشرين ألفاً (¬4) صوب إشبيلية، وعبر نهر الوادي الكبير إلى الشّرف، وخرجت القوات الموحدية وأهل المدينة بقيادة السيد أبي العلاء لرد الغزاة، وهنالك أيضاً، على مقربة من طلياطة، في فحص القصر، اشتبك الفريقان فهزم الموحدون وأهل إشبيلية، هزيمة شديدة، وقتل منهم نحو ألفين (¬5) وكان من نتيجة هذا النصر، أن خضعت معظم البلاد والحصون الواقعة شرقا بين اشبيلية وقرطبة لسلطان البياسى، بل إن أهل مدينة قرطبة ذاتها، حينما رأوا تفوق البياسى على هذا النحو، خلعوا طاعة حاكمهم الموحدي السيد أبي موسى أخي العادل، وأعلنوا طاعتهم للبياسي. وكان فرناندو الثالث قد عاد في تلك الأثناء، فعبر بقواته إلى أراضي ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Alcaudete. (¬2) وهي بالإسبانية Priego. (¬3) راجع الروض المعطار ص 61 و 165 و 174. وكذلك: J. Gonzalez, ibid: cit. Cronica Latina p. 42 (¬4) روض القرطاس ص 164. (¬5) الروض المعطار ص 58.

الأندلس مرة أخرى، واستدعى البياسى إلى حصن أندوجر، وطلب إليه أن يسلم إليه طائفة من الحصون التي يرغب الاستيلاء عليها في منطقة قرطبة، فوعد البياسى بأن يسلمه حصون شلبطَرّة، وقبالة، وبرج الحمة (¬1)، وارتضى أن يسلمه قصبة بياسة كفالة بتنفيذ وعده، واحتل استاذ فرسان قلعة رباح ورجاله بالفعل قصر بياسة، وبقى المسلمون على حالهم بالمدينة. ثم بذل البياسى جهده في تسليم حصن شلبطرة، وندب لذلك رسولا من قبله استطاع بعد مشقة أن يقنع حاميته بتسليمه للنصارى، وكذلك سلم النصارى حصن برج الحمة، ولم يبق عليه إلا أن يسلمهم حصن قبالة، الذي امتنع عليه (¬2). ولم يقنع البياسى بما تم من توطد مركزه، واستقراره بعاصمة الخلافة القديمة، وسيطرته على معظم نواحي الأندلس الوسطى، ولكنه أراد أن يستولي على إشبيلية ذاتها، وأن يقضى نهائياً على سلطان منافسه العادل وأخيه أبي العلاء، فسار في قواته مرة أخرى صوب إشبيلية، وحاول أن يضرب حولها الحصار. وكان أبو العلاء قد استعد للقائه فخرج إليه في حشود الموحدين وأهل المدينة، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة هزم فيها البياسى، ومزقت جموعه، وارتد في فلوله صوب قرطبة. ويضع ابن عذارى تاريخ هذه الموقعة، في الخامس والعشرين من شهر صفر سنة 623 هـ، وهو يوافق التاريخ الذي تضعه الرواية النصرانية للموقعة، وهو 25 فبراير سنة 1226 م (¬3). وكان لهذا النصر الحاسم الذي أحرزته القوات الموحدية على البياسى، نتائج هامة، فقد ارتدت طلياطة وحصن القصر، وبقية الحصون والبلاد الممتدة شرقي إشبيلية عن طاعة البياسى، وعادت إلى طاعة الخليفة العادل (¬4) وكتب السيد أبو العلاء إلى أخيه العادل بمراكش، كتاباً ينبئه فيه بهذا النصر، ومما جاء في الكتاب المذكور: " إن المحنة بهذا البائس قد بلغت مداها، وانقبضت بعد البسط يداها، ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية على التوالى Salvatierra و Banos de la Encina, Capilla، وتقع الأخيرة شمالي اندوجر. (¬2) الروض المعطار ص 58، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 46 & 47 (¬3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 250، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 48 (¬4) البيان المغرب ص 251.

وانتهى إلى غاية لا يتعداها، والحمد لله الذي أذل للخلافة العادلية، أحد عداتها وأنصفها من منازعها بأداتها، فكافر النعم تستحيل عليه نقماً، وحاجب الشمس ضوءها، حافظاً بين ظلام وعماء، والموحدون عازمون على اتباع هذا العدو، إلى أن يدعوه عقيراً، أو يستثبتوه أسيراً إن شاء الله تعالى، وكتب في ربيع الأول من عام ثلاثة وعشرين وستمائة ". وهنا خرج فرناندو الثالث في قواته مرة أخرى، وكان هدفه في هذه المرة الاستيلاء على حصن قبالة (¬1)، وهو من حصون الحدود الواقعة في شمالي قرطبة، وشمالى جبل الشارات، وكان قد تعذر على البياسى، أن يقوم بتسليمه وفقاً لتعهداته، وكان البياسى قد وصل في تلك الأثناء إلى قرطبة منهزما مدحوراً، وكان أهل قرطبة لما رأوا إفراطه في محالفة النصارى، وإسرافه في تسليم الحصون الإسلامية إليهم، قد خشوا أن ينتهي الأمر بأن يغدر بهم، ويسلم قرطبة ذاتها للنصارى، فاعتزموا الفتك به والتخلص منه، فثاروا به، وشعر البياسى بخطورة الأمر، ففر من المدينة، والتجأ إلى حصن المدوّر الواقع جنوبي النهر على مقربة من جنوب غربي قرطبة، ولكن الثوار طاردوه بشدة، وحاصروه في الحصن، ثم اقتحموه، وقتلوا البياسي، واحتزوا رأسه، وبعثوا بها إلى السيد أبي العلى بإشبيلية، فأرسلها بدوره مع كتاب إلى أخيه العادل بمراكش، فرد العادل بكتاب يتضمن تعيين أخيه أبي العلى واليا لقرطبة بالإضافة إلى إشبيلية (¬2)، وكان البياسي عند مصرعه شيخاً قد جاوز الستين. وهكذا تحطمت ثورة أبي محمد عبد الله بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، المسمى بالبياسى، بعد أن لبثت ثلاثة أعوام تبث الاضطراب والدمار إلى أواسط الأندلس، وتمهد للنصارى اقتطاع القواعد والحصون الواقعة في شرقي قرطبة وفي شمالها، وقد اقتطعوا منها بالفعل طائفة كبيرة، كان ضياعها سبباً في إضعاف خطوط الدفاع عن قرطبة، والتمهيد لسقوطها. وتقدم إلينا الرواية الإسلامية، البياسى، في صور بغيضة قاتمة (¬3). ونستطيع أن نعتبر البياسى بالفعل على ضوء ما تقدم، من أعماله وخياناته المتوالية لقضية ¬_______ (¬1) وبالإسبانية Capilla. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 252، والروض المعطار ص 59. (¬3) راجع الروض المعطار ص 58 و 61، والبيان المغرب ص 249 و 250.

الإسلام، وقضية الأندلس، تحقيقاً لأطماعه الوضيعة، شخصية بغيضة مثيرة، تستحق أن يدمغها التاريخ بأقسى الأحكام، ويرميه ابن عذارى بالارتداد عن الإسلام، واعتناق النصرانية، بيد أننا لم نجد في الروايات النصرانية ما يؤيد هذا الاتهام، ولو وقع لكانت الرواية النصرانية أول من يسجله ويشيد به. - 4 - وكان فرناندو الثالث حينما وصلته أنباء هذه الحوادث أمام حصن قبالة المنيع، وقد ضرب حوله الحصار (أوائل يونيه سنة 1226) وأخذ يهاجمه باستمرار، وحاميته الإسلامية صامدة، بيد أنه لما طال الحصار، واشتدت هجمات النصارى، اضطر المسلمون إلى مفاوضة ملك قشتالة، وعرضوا أن يقدموا رهائنهم بالتسليم، وأن يبعثوا رسلهم إلى السيد أبي العلاء، وكان عندئذ بقرطبة، يطلبون إليه الإنجاد، فإذا لم تصل إليهم النجدة خلال ثمانية أيام، سلموا الحصن بالأمان، فقبل فرناندو هذا العرض. ولم تمض أيام قلائل حتى عاد الرسل من قرطبة خائبين، فسلم المسلمون الحصن، وسمح لهم وفقاً للاتفاق، أن يخرجوا بنسائهم وأولادهم وأموالهم، وأن يسيروا محروسين حتى حصن " غافق " الواقع جنوب قبالة، وهو أقرب الحصون الإسلامية إليهم، ودخل فرناندو الحصن وفي الحال حول مسجده إلى كنيسة، ووضع به حامية نصرانية، وكان تسليم حصن قبالة في أوائل أغسطس سنة 1226 م (أواخر سنة 623 هـ). وجاء بعدئذ دور بيّاسة، وكان من الواضح، بعد مصرع البياسى، أن مصير بياسة غدا في كفة القدر، وأن ملك قشتالة كان يتطلع إلى أخذها باعتبارها من أملاك تابعه. وكان فرسان قلعة رباح قد احتلوا قصبة بياسة كما قدمنا كفالة بتنفيذ البياسى لتعهداته، فلما قتل البياسى، أراد أهل بياسة أن يخرجوا النصارى من قصبتهم، فبعثوا إلى صاحب جيّان عمر بن عيسى بن أبي حفص بن يحيى، يستنجدون به، فقدم عليهم في بعض قواته، ومعه القائد محمد بن يوسف المسكدالى، ودخل المدينة، وكان بها سوى من بالقصبة، طائفة كبيرة من النصارى، فقتلوا جميعاً مدافعين عن أنفسهم، ولكن صمد من كان منهم بالقصبة لحصانتها، فطلب أهل بياسة إلى الوالي الموحدي، أن يبقى يوماً أو يومين لحصار النصارى بالقصبة لإرغامهم على التسليم، لأنهم كانوا يتلقون مؤنهم من أهل المدينة يوماً بعد يوم، فأبى وأصر على الخروج من فوره، وذلك خوفاً من قدوم القشتاليين

وقال لأهل المدينة، إنى ذاهب، فمن أحب أن يخرج معى فليخرج، ومن أراد البقاء فليبقى، فاضطر أهل المدينة إلى مغادرتها خوفاً من الوقوع أسرى في أيدي النصارى، وتفرقوا في مختلف الأنحاء. وهكذا استولى النصارى الذين بالقصبة وهم فرسان قلعة رباح على سائر المدينة، وذلك في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة سنة 623 هـ (أول ديسمبر سنة 1226 م) ووهب فرناندو الثالث الفرسان من أجل ذلك كثيراً من دور المدينة ورياضها وضياعها (¬1). وفي العام التالي استولى فرناندو الثالث على شوذر (¬2) الواقعة جنوبي بياسة، وعلى عدة من الحصون المجاورة، وأخرج من بقى من المسلمين في بياسة ومرتُش وغيرهما من القواعد والحصون التي استولى عليها. وهكذا استطاع القشتاليون أن يخرجوا من ثورة البياسى، بأكبر غنم، وأن يضعوا أيديهم على طائفة كبيرة من القواعد والحصون الأندلسية الهامة في منطقة جيان وقرطبة، وأن يتحكموا بذلك في خطوط الدفاع عن الأندلس الوسطى، وأن يقتربوا من قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، التي كان الاستيلاء عليها من أعز أمانيهم. وكان السيد أبو العُلى (أبو العلاء) إدريس، مذ حلّ بقرطبة عقب مصرع البياسى، يحاول أن يضع حداً لعدوان النصارى في تلك المنطقة، فسار في بعض قواته إلى مرتش وحاصرها، وحاول أن يستولي عليها، ولكن الأمداد القشتالية ْجاءت أخيراً لتنقذها من السقوط، واضطر السيد أبو العلى أن يرفع الحصار وأن ينصرف بقواته، وذلك في أوائل سنة 624 هـ - 1227 م. فلما شعر أبو العلى باشتداد وطأة القشتاليين على الأراضي الإسلامية، سعى إلى عقد الهدنة معهم، وبعث رسوله أبا القاسم للمفاوضة، وتم الاتفاق على أن تعقد الهدنة بين الفريقين لمدة عام واحد، وأن يدفع الموحدون لقاء عقدها ثلاثمائة ألف قطعة Naravedi من الفضة، دفع بعضها عند توقيع التعاقد ودفع الباقى بعد ذلك (¬3). - 5 - لم نجد بعد أن سجلنا أحداث الأندلس الأليمة في عهد الخليفة العادل، ما نسجله ¬_______ (¬1) الروض المعطار ص 58 و 59، وكذلك: J. Gonzalez: ibid, p. 52 (¬2) وهي بالإسبانية Jodar (¬3) J. Gonzalez: ibid ; cit. Cronica Latina, p. 55،،،،،،

من الأحداث في عهده بالمغرب، وهو عهد لم يطل إلا نحو عامين، إلا ما كان من تفاقم الأحوال، واضطراب حبل الأمن، وازدياد الفوضى، وتوالى عيث العرب، وبعض القبائل البربرية، ولاسيما هسكورة، في الأنحاء القريبة من العاصمة وازدياد شأن بني مَرِين، وتغلبهم على كثير من النواحي والقبائل، وفرض المغارم عليها، بل وفرضهم الإتاوات على بعض المدن القريبة من منازلهم، مثل فاس وتازى ومكناسة، وذلك لكي يكفوا الغارة عنهم (¬1). وكان أهم ما حدث في تلك الفترة القصيرة، قيام عرب الخُلط، وشيخهم هلال بن مقدم، وهسكورة، وشيخها عمر بن وقاريط، بالعيث في نواحي مراكش، وتخريبهم بلاد دُكالة. وخرج إليهم في البداية ابن يوجان فلم يستطيع شيئاً، فوجه إليهم العادل عسكراً من الموحدين بقيادة إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حفص، فهزم وقتل، واستمرت أعمال العدوان والعيث على حالها (¬2). وبينما المغرب يجوز في ظل العادل، هذه الفترة المدلهمة، إذ وقع بالأندلس حدث جديد ضخم، هو خروج السيد أبي العلى والي إشبيلية وقرطبة على أخيه العادل، وخلع طاعته، وإعلانه الدعوة لنفسه، ومبايعته بالخلافة في إشبيلية، وذلك في الثاني من شهر شوال سنة 624 هـ (15 سبتمبر سنة 1227 م). ولم يتخذ السيد أبو العلى قراره ارتجالا، بل مهد إليه بالسعى والاتصالات، وكان معه بإشبيلية عدة من وجوه الموحدين وأشياخهم، الذين يعتد برأيهم، فأراد أن يسبر غورهم أولا، فاتفق مع قاضي المدينة، أبي الوليد بن أبي الأصبغ ابن الحجاج، وكان ذلك في أواخر شهر رمضان، أن ينشىء خطبة بليغة يلقيها في يوم الفطر، وأن يتعرض فيها لمسألة الخلافة، وأن يشير بلباقة إلى ما يجول بخاطره من القيام بالأمر، فألقى القاضي خطبته حسبما اتفق، وأطنب في ذكر السيد واستحقاقه للأمر، وفي اليوم التالي، اجتمع أشياخ الموحدين بمجلس السيد أبي العلى، وقام الجميع بمبايعته، واتخذ لقب المأمون، وبايعه على أثر ذلك بعض ولاة الأندلس، وفي مقدمتهم السيد أبو زيد والي بلنسية، وبعثوا ببيعاتهم إليه. وكذلك بايعته من أنحاء العدوة سبتة وطنجة (¬3). ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 166، وابن خلدون ج 7 ص 170. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 252. (¬3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 255، وروض القرطاس 166.،،،،،،

ويقول لنا ابن الخطيب، إن أبا العلى، قام على أخيه العادل بممالأة أخيه السيد أبا زيد أمير بلنسية وتحريكه إياه، وقد وهم ابن الخطيب فجعل من السيد أبي زيد وأخيه عبد الله البياسى، أخوين للعادل وأبي العلى، في حين أنهما من أبناء عمومتهما، إذ أن أبا زيد عبد الرحمن والي بلنسية، وأخاه عبد الله البياسى، هما ولدا محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، ومحمد هو أخ ليعقوب المنصور (¬1). وبعث أبو العلى المأمون إلى ابن يوجان، يدعوه إلى مبايعته والعمل على نصرته، وكان العادل قد تغير على ابن يوجان وأقصاه، وخاطب ابن يوجان هلال بن مقدم أمير الخُلْط، وعمر بن وقاريط شيخ هسكورة، وأوعز إليهما بالاستمرار في الإغارة على أحواز مراكش، حتى يذعن الموحدون إلى خلع العادل ومبايعة المأمون (¬2). ويقول لنا صاحب روض القرطاس من جهة أخرى إن المأمون أرسل إلى الموحدين بمراكش يدعوهم إلى بيعته، وإلى الفتك بأخيه العادل، وأنهم صدعوا بأمره، وقتلوا العادل، وكتبوا بيعتهم إليه (¬3). على أن الأمور اتخذت في بلاط مراكش وجهة أخرى. وكان يسيطر على الدولة رجلان هما أبو زكريا بن الشهيد زعيم هنتاتة، ويوسف بن علي شيخ تينملّل. فلما وردت الأنباء بقيام أبي العلى المأمون وبيعته، ولما تفاقم أمر الخُلط وهسكورة، اتفقا على خلع العادل وعقد البيعة لأبي زكريا يحيى بن محمد الناصر. فدخل الموحدون القصر على العادل، وطلبوا إليه أن يخلع نفسه، ولما أصر على الرفض قتلوه، وذلك في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال سنة 624 هـ. ويقول لنا صاحب روض القرطاس إن القتلة، وضعوا رأس العادل في خصة تفور بالماء، وشنقوه بعمامته حتى مات. ويزيد على ذلك بأن الموحدين عقدوا البيعة أولا للمأمون، وبعثوا بها إليه، وخُطب له بالفعل على منبر جامع المنصور، ثم خشوا بعد ذلك بطشه وانتقامه، فنكثوا البيعة، وبايعوا إلى ابن أخيه يحيى بن الناصر (¬4). ويؤيد ابن الخطيب هذه الرواية، فيقول لنا إن الموحدين عقدو البيعة للمأمون بمراكش والأندلس، ثم إن الموحدين بمراكش بدا لهم في أمره، وعدلوا ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في الإحاطة (القاهرة 1956) ج 419، ومخطوط الإسكوريال (1674 الغزيرى) لوحة 54. (¬2) الروض المعطار ص 69. (¬3) روض القرطاس ص 166 و 167. (¬4) البيان المغرب ص 253، وروض القرطاس ص 164 و 167.،،،،،،

عنه إلى ابن عمه (والصحيح ابن أخيه)، أبي زكريا يحيى بن الناصر (¬1) ثم يؤيدها بعد ذلك بصورة قاطعة، ما حدث عقب استيلاء المأمون على العرش، من قتله لأشياخ الموحدين، جزاء لهم على نكث بيعته بعد عقدها (¬2). وعلى أي حال فقد انتهى الموحدون بمراكش، إلى البيعة ليحيى بن الناصر. ويقول ابن عذارى إن هذه البيعة قد تمت في اليوم الثاني والعشرين من شهر شوال أعني في نفس اليوم الذي قتل فيه العادل (¬3)، وهذا ما لا يتفق مع سير الحوادث، وعقد البيعة للمأمون ثم النكث بها، ومن ثم فإنا نوثر الأخذ برواية صاحب روض القرطاس وهو أن بيعة يحيى قد تمت في اليوم الثامن والعشرين من شهر شوال سنة 624 هـ (¬4)، أعني بعد مصرع العادل بأسبوع، وهو أكثر اتفاقاً مع المنطق. وكان يحيى بن الناصر، هو الذي اجتنى ثمرة الجريمة، وليس أخو الخليفة المقتول، وقبض بعد ذلك بأشهر قلائل على الوزير السابق أبي زيد بن يوجان، وولده الأكبر بالرغم من اختفائهما وقتلا، وذلك لما نسب إليهما من تحريض عرب الخُلط وهسكورة على الاستمرار في عيثهما (¬5). وتلقب يحيى بن الناصر، بالمعتصم، وكان وقت تقلده الخلافة، فتى حدثاً في السادسة عشرة من عمره، وامتنع من بيعته عرب الخُلط، وقبيلة هسكورة، وبقيا على ولائهما في بيعة المأمون. ولما وصلت هذه الأنباء إلى المأمون بالأندلس، استشاط سخطاً وغضباً، وكان قد أخذ بالفعل في الأهبة للمسير، وقصد إلى الجزيرة الخضراء ليجوز منها إلى العدوة، فارتد إلى إشبيلية، وقد آلى على نفسه أن يعمل بكل ما وسع لانتزاع عرش الخلافة، والانتقام من أولئك الأشياخ المنافقين الذين غدروا به ونكثوا بيعته. بيد أنه يجب قبل أن نتتبع مصاير الخليفة المأمون، وما اقترن بعهده من أحداث المغرب، أن نقف لحظة لكي نستأنف الكلام على سير الحوادث بالأندلس. ¬_______ (¬1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 419. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 265. (¬3) البيان المغرب ص 253. (¬4) روض القرطاس ص 165. (¬5) الروض المعطار ص 69 و 70.،،،،،،

الفصل الثالث عصر الخليفة أبى العلى المأمون إلغاء رسوم المهدى ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية

الفصل الثالث عصر الخليفة أبي العلي المأمون إلغاء رسوم المهدي ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية المأمون يعقد حلفاً مع قشتالة. شروط هذا الحلف. معاونة فرناندو الثالث العسكرية للمأمون. عبور المأمون إلى المغرب. اللقاء بينه وبين يحيى المعتصم. هزيمة يحيى وفراره. دخول المأمون مراكش. فتكه بأشياخ الموحدين. القتال ثانية بين يحيى والمأمون. هزيمة يحيى وفراره للمرة الثانية. مرسوم المأمون بإزالة رسوم المهدي وإعلانه بطلان دعوته. كتابه في ذلك. رواية أخرى عن إزالته للدعوة للمهدية. ما كان يجيش به المنصور من ذلك. بناء النصارى لكنيستهم في مراكش. إفريقية تحت ولاية الشيخ أبي محمد عبد الواحد. وفاته وقيام ولده أبي محمد عبد الله مكانه. الخليفة الموحدي يعين أميراً لتونس. تحرك يحيى بن إسحاق بن غانية. نهوض السيد أبي العلاء من تونس لقتاله. أطوار القتال بين الفريقين. هزيمة ابن غانية وفراره. ولاية السيد أبي زيد لإمارة تونس ثم إقالته. العادل يعين أبا محمد عبد الله لولاية إفريقية. دخوله تونس وتعيينه لأخيه أبي زكريا لحكم قابس، وأخيه أبي ابراهيم لحكم توزر. تأثل هيبة الشيخ أبي محمد عبد الواحد وبنيه بإفريقية. عود ابن غانية للعيث في شمال إفريقية. اقتحامه لقسنطينة ومليانة والجزائر. خروج الشيخ أبي محمد لمطاردته. مسيره صوب أحواز سجلماسة. استعراض لمغامرات بني غانية. تدهور مثلهم الثورية. هزيمتهم وانهيار أحلامهم. الأعوام الأخيرة من حياة يحيى بن غانية. وفاته وتعليق ابن خلدون عليها. مصرع الخليفة العادل وقيام يحيى مكانه. اضطراب أمر الخلافة الموحدية. قيام الخليفة المأمون وما تلا ذلك. توقف أبي محمد عبد الله عن مبايعته. عزله وتعيين أخيه أبي زكريا لولاية إفريقية. محاولة أبي محمد مقاتلة أخيه ورده عن ذلك. استدعاء الأشياخ لأبي زكريا واعتقال أبي محمد. مسير أبي زكريا إلى تونس. تعيين المأمون لبعض العمال الجدد. غصب أبي زكريا لذلك. خلعه لطاعة المأمون. رواية أخرى عن نزاع الأخوين وقيام أبي زكريا في الحكم. خلع طاعة بني عبد المؤمن واستقلال إفريقية. استيلاء أبي زكريا على قسنطينة وبجاية من الولاة الموحدين. قيام إفريقية المستقلة تحت حكم الدولة الحفصية. بنو حفص والشيخ أبو محمد عبد الواحد. انشغال بلاط مراكش وعجزه. كتاب المأمون بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. السيد أبو موسى والي سبتة يدعو لنفسه بالخلافة. الثورة في منطقة فازاز. مسير المأمون لمعاقبة الثوار. تفرق الثوار ومسير المأمون إلى سبتة. فشل محاصرته لها. عبور أبي موسى إلى الأندلس. تنازله عن سبتة لابن هود. اقتحام يحيى لمراكش. احراقه لكنيستها وقتله للنصارى. عود المأمون ووفاته في الطريق. اتفاق الأشياخ على مبايعة ولده الرشيد. مسير جيش المأمون إلى مراكش. امتناعها واستعدادها للمقاومة خشية انتقام الجند النصارى. صدور ظهير الرشيد بتأمينها. دخوله المدينة. تعويض النصارى افتداء للمدينة. الخليفة أبي العلى المأمون ونشأته وصفاته. براعته البيانية. نموذج من بلاغته. بعض شعره. وزراؤه وكتابه. شخصه وأولاده.،،،،،

لما عاد المأمون إلى إشبيلية، بعد أن أخفق في التغلب على ابن هود، كانت تشغله فكرة واحدة، هي العبور إلى المغرب، وانتزاع العرش من يد ابن أخيه يحيى، ومعاقبة الناكثين لبيعته. وكان مما يشجعه على العبور، أن وردت إليه من المغرب بيعات والي فاس، ووالى تلمسان محمد بن أبي زيد بن يوجان، ووالى سبتة، وهو أخوه أبو موسى بن المنصور، ووالى بجاية، وهو ابن أخته، وكذلك وصلت إليه بيعة مقدم بن هلال أمير عرب الخلط ودعوته بالقدوم (¬1). على أن المأمون لم يرد العودة دون قوة عسكرية تكفل له النجاح، ومن ثم فقد اتجه نحو ملك قشتالة، وكان فرناندو الثالث، قد عبر الحدود إلى الأندلس في أواخر سنة 1228 م (أوائل سنة 626 هـ)، وهو يرقب حوادث الأندلس وما تجوزه من فتن ومعارك داخلية، تمهد سبل الوثوب. فبعث إليه المأمون يعرض تجديد الهدنة السابقة إلى عام آخر بنفس الشروط، أعني مقابل دفع ثلاثمائة ألف قطعة Maravedi من الفضة، ويطلب إليه في نفس الوقت عقد حلف يحصل بمقتضاه على قوات عسكرية تعبر معه إلى المغرب. ويقدم لنا صاحب روض القرطاس خلاصة الشروط التي اشترطها ملك قشتالة لعقد هذا الحلف وقبلها المأمون، وهي أن يسلمه المأمون عشرة من الحصون الإسلامية في منطقة الحدود يختارها بنفسه. وأن تُبنى بمراكش كنيسة للنصارى يقيمون فيها شعائرهم، وأنه إذا أسلم أحد من النصارى فلا يقبل إسلامه، ويرد إلى إخوانه يقضون في أمره، وفق ما يرون، وإن تنصر بالعكس أحد من المسلمين فليس لأحد عليه سبيل. بيد أنه يبالغ في قيمة العون الذي قدمه ملك قشتالة للمأمون، فيقول إنه بعث إليه بجيش كثيف من إثنى عشر ألف فارس من النصارى، برسم الخدمة معه، والجواز إلى العدوة، وأن هذا الجيش الضخم، وصل إلى المأمون في شهر رمضان سنة 626 هـ، فكان المأمون بذلك أول من قام بإجازة الروم إلى العدوة على هذا النحو (¬2)، وفي هذا القول مبالغة ظاهرة، وليس من المعقول أن يعير ملك قشتالة مثل هذا العدد الضخم من فرسانه للخليفة الموحدي، والجيش القشتالي كله لم يكن يضم في كثير من المواقع الضخمة أكثر من هذا العدد من الفرسان. والحقيقة التي تقدمها إلينا الرواية النصرانية، من أن ملك قشتالة لم يمد المأمون ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 253، والزركشى في تاريخ الدولتين ص 16. (¬2) روض القرطاس ص 167.،،،،،،

بأكثر من خمسمائة فارس (¬1). وهذا هو بالذات ما يقرره ابن عذارى، إذ يقول مشيراً إلى عزم المأمون على الجواز إلى العدوة: " فحشد الحشود، وزم الجنود، وجمع نحو خمسمائة فارس من الروم، لما كان يبغى من الحركة ويروم " (¬2). ويكتفى ابن الخطيب بأن يصف هذه القوة التي أمد بها ملك قشتالة حليفه المأمون بأنها " جمع من فرسان الروم " (¬3). وعبر المأمون البحر في حشوده من الموحدين والعرب والقشتاليين، ولم يترك بإشبيلية وباقي القواعد الأندلسية الباقية على طاعته، سوى بعض الحاميات الضئيلة. وكان جوازه من الجزيرة الخضراء إلى سبتة، وذلك في شهر ذي القعدة سنة 626 هـ (أكتوبر سنة 1228 م). فأقام في سبتة أياماً، ينظم قواته، ويستعد للسير إلى غزوته المنشودة. ثم سار في قواته صوب الحاضرة الموحدية، وكان ابن أخيه الخليفة الفتى يحيى بن الناصر وأشياخ الموحدين الموالين له، حينما بلغهم عبور المأمون إلى العدوة، قد استعدوا للقائه. وخرج يحيى في قواته من العرب، والموحدين، لرد المأمون، وكان اللقاء على جبل إيجليز على مقربة من مراكش، وذلك في اليوم الخامس والعشرين لربيع الأول سنة 627 هـ (يناير 1229 م)، فهجم الفرسان النصارى على قبة يحيى الحمراء واقتحموها، ومزقت حشوده وقتل معظمهم، وفر هو ناجياً بنفسه، والتجأ إلى جبل هنتاتة. ودخل المأمون حضرة مراكش، فبادر أشياخ الموحدين إلى بيعته، واستقر في كرسى الخلافة (¬4). وكان أول عمل قام به المأمون، هو تتبع خصومه والناكثين لبيعته، ولاسيما من أشياخ هنتاتة، وتينملل، ولجأ في ذلك إلى حيلة لاجتذابهم فأعلن الأمان، فهرع معظمهم للسلام عليه، ولما تم اجتماعهم، استحضر خطوطهم وبيعاتهم، ثم أخذ يحاسبهم على تصرفاتهم وعلى خديعتهم، ونكثهم المتكرر ببيعاتهم، وذلك بحضرة القاضي الفقيه المكيدى، وكان قد حضر معه من إشبيلية، ثم خاطب القاضي بقوله: " ما تقول يا فقيه في قوم بايعوا شخصاً، ثم نكثوا عليه وخلعوه، ثم قتلوه، ثم بايعوا شخصاً آخر فنكثوا عليه وقتلوه، ثم بعثوا ببيعتهم هذه إلىّ ثم نكثوا ¬_______ (¬1) J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia p. 59, Nota 14 (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 264. (¬3) الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 419. (¬4) البيان المغرب ص 265، وروض القرطاس ص 167، وابن خلدون ج 6 ص 253، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 419.،،،،،،

أيضاً على " فقال القاضي: " وجب عليهم القتل أجمعين " وتلا الآية: " ومن نكث فإنما ينكث على نفسه " فأمر المأمون بإعدامهم جميعاً، وكانوا نحو مائة من أعيان الموحدين، ودفنوا على الأثر في حفرة كبيرة حفرت لهم خارج باب السادة، ثم تتبع من بقى منهم بمراكش، حتى فنى معظمهم، وتضاءلت بذلك مشيخة الموحدين، وضعف نفوذها القوي، الذي لبث، منذ أيام المهدي، يأخذ بأكابر نصيب في توجيه مصاير الدولة الموحدية (¬1). وفي شهر رمضان من هذا العام (627 هـ) خرج المأمون من مراكش ليرد هجوماً جديداً كان يدبره يحيى بن الناصر وأنصاره من الموحدين. فالتقى الفريقان بفحص واونزرت، فوقعت الهزيمة للمرة الثانية على يحيى وأصحابه، وقتل منهم عدد ضخم، وفر يحيى في فلوله إلى بلاد درعة وسجلماسة، وعلق المأمون من رؤوسهم على أسوار مراكش نحو أربعة آلاف، وكان الوقت قيظاً، فانتشرت روائحها الكريهة في المدينة، وضج الناس من ذلك، ورفع الأمر إلى المأمون، فكان جوابه أنه يوجد ثمة مجانين، وتلك الرؤوس لهم أحراز لا يصلح حالهم إلا بها، وإنها لعطرة عند المحبين، كريهة عند المبغضين (¬2). وكان المأمون يجيش بأفكار ومشاريع عظيمة، نحو تجديد الدولة الموحدية، وتجديد رسومها وتعاليمها، بعد أن أضحت في نظره عتيقة بالية. وقد تذرع في تنفيذ خطته بمنتهى الشجاعة والجرأة، وقد كان المأمون في الواقع شجاعاً صارماً، مضطرم النفس، فأصدر مرسومه إلى سائر بلاده بإزالة اسم المهدي من الخطبة ومن السكة، ومحو اسمه من المخاطبات، وقطع النداء عند الصلاة بالنداءات البربرية مثل " تاصليت الإسلام " " وسودود " و " ناردي " " وأصبح ولله الحمد " وغير ذلك مما كان العمل جارياً عليه منذ بداية الدولة الموحدية. وأذاع في كتابه الرسمى، الذي أنشأه بنفسه، أن وصف ابن تومرت بالمهدي وبالإمام المعصوم " إنما هو نفاق وبدعة وأمر باطل، وأنه يجب نبذه والقضاء عليه ". وقد أورد لنا ابن عذارى نص هذا الكتاب الشهير، الذي يعتبر صدوره حدثاً حاسما في تاريخ العقيدة الموحدية، ونحن ننقله هنا لبالغ أهميته: " من عبد الله إدريس أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 265، وروض القرطاس ص 168، والإحاطة ج 1 ص 419. (¬2) البيان المغرب ص 271، وروض القرطاس ص 168.،،،،،،

إلى الطلبة والأعيان والكافة، ومن معهم من المؤمنين والمسلمين، أوزعهم الله شكر أنعمه الجسام، ولا أعدمهم طلاقة أوجه الأيام الوسام، وإنا كتبناه إليكم، كتب الله لكم عملا منقاداً، وسعداً وقاداً، وخاطراً سليما، لا يزال على الطاعة قائماً مقيما، من مراكش كلأها الله تعالى، وللحق لسان ساطع، وحسام قاطع، وقضاء لا يرد، وباب لا يسد، وظلال على الآفاق لمحو النفاق بعد، والذى نوصيكم به تقوى الله والاستعانة به، والتوكل عليه، ولتعلموا أنا نبذنا الباطل، وأظهرنا الحق، وأن لا مهدى إلا عيسى بن مريم، وما سمى مهدياً إلا أنه تكلم في المهد، وتلك بدعة قد أزلناها، والله يعيننا على القلادة التي تقلدناها. وقد أزلنا لفظة العصمة عمن لا تثبت له عصمة، فلذلك أزلنا عنه رسمه، فتسقط وتبيت، وتمحى ولا تثبت. وقد كان سيدنا المنصور، رضي الله عنه، هم أن يصدع بما به الآن صدعنا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يساعده لذلك أمله، ولا أجّله إليه أجله، فقدم على ربه بصدق نية، وخالص طوية، وإذا كانت العصمة لم تثبت عند العلماء للصحابة، فما الظن بمن لم يدر بأي يد يأخذ كتابه، أف لهم قد ضلوا وأضلوا، ولذلك ولوا وذلوا، ما تكون لهم الحجة على تلك المحجة، اللهم اشهد، اللهم اشهد أنا قد تبرأنا منهم تبرأ أهل الجنة من أهل النار، ونعوذ بك يا جبار من فعلهم الرثيث، وأمرهم الخبيث، إنهم في المعتقد من الكفار، وإنا فيهم كما قال نبيكم عليه السلام " رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا " والسلام على من اتبع الهدى واستقام " (¬1). وفي رواية أخرى هي رواية صاحب روض القرطاس، أن المأمون بعد أن دخل مراكش وبايعه الموحدون، صعد إلى المنبر بجامع المنصور، وخطب الناس، ولعن المهدي، وقال أيها الناس لا تدعوه بالمعصوم، وادعوه بالغوى المذموم، إنه لا مهدى إلا عيسى، وإنا قد نبذنا أمره النحيس به، ثم أصدر مرسومه المتقدم، بإزالة اسم المهدي من الخطبة والسكة، وأن كل ما فعله المهدي، وتابعه أسلافنا فهو بدعة، ولا سبيل لإبقاء البدع. ثم دخل قصره فاحتجب ثلاثة أيام، ثم خرج في اليوم الرابع، فاستدعى أشياخ الموحدين بين يديه، ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 267 و 268، وابن الخطيب في الإحاطة (1956) ص 419، و 420.،،،،،،

وعاتبهم على نقض عهودهم، ثم أمر بإعدامهم حسبما تقدم (¬1). بيد أنه يبدو من المرجح أن المأمون، قد عمد أولا إلى التخلص من خصومه من أشياخ الموحدين، ثم أقدم على تنفيذ خطته في إزالة رسوم المهدي وتعاليمه. ولا ريب أن عمل المأمون كان أعظم انقلاب ثورى حدث في أصول العقيدة الموحدية على يد بني عبد المؤمن، وقد أصاب الصميم من أسس هذه العقيدة وتعاليمها، وقضى بصورة رسمية قاطعة، ببطلان أحداث الأسطورة التي مثلت في جبل إيجليز قبل ذلك بمائة واثنتى عشرة عاما، وأعلن فيها محمد بن تومرت أنه المهدي المنتظر، والإمام المعصوم. ونحن نعرف أن الخليفة يعقوب المنصور، كانت تساوره نحو المهدي مثل هذه الأفكار، وأنه لم يكن من الغلاة في تصوير إمامته ومهديته، ولم يكن بالأخص من المؤمنين بعصمته، فكان عمل المأمون في الواقع، وحسبما يشير إليه كتابه، تنفيذاً لما كان يجيش به والده المنصور، ولم يكن يجرأ في وقته على المجاهرة به، أو الإقدام على تنفيذه. والظاهر أن عمل المأمون في إزالة رسوم المهدي وتعاليمه، لم يكن له كبير صدى، ولم يترتب عليه أية معارضة أو بوادر انتقاض، وبالعكس فقد أشاد الشعراء بتصرفه، وأزجوا إليه مدائحهم في قصائد عديدة، يورد لنا ابن عذارى بعضها (¬2). وأذن المأمون في نفس الوقت لحلفائه النصارى القادمين معه، في بناء الكنيسة بمراكش، وهي التي اشترط ملك قشتالة إنشاءها، وأخذت النواقيس منذ إتمامها، تدق لأول مرة في العاصمة الموحدية (¬3). - 1 - وكان من أعظم الحوادث الحاسمة في عصر المأمون، إلى جانب محو أصول العقيدة الموحدية، انفصال إفريقية عن الدولة الموحدية، وقيامها دولة مستقلة تحت سلطان بني حفص. ونحن نعرف أنه لما تفاقم أمر يحيى بن إسحاق بن غانية ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 167 و 168. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 268 و 269. (¬3) ابن خلدون ج 6 ص 253.،،،،،،

الميورقي في إفريقية، واشتد عيثه بها، واستولى على معظم قواعدها، ثم استولى على تونس ذاتها، وكاد سلطان الموحدين يمحى في ذلك الركن من إمبراطوريتهم الشاسعة، سار إليه الخليفة الناصر لدين الله في الجيوش الموحدية، ولبثت هذه الجيوش تطارده من مكان إلى مكان، حتى ضربته ضربتها الحاسمة في موقعة جبل رأس تاجرا في سنة 602 هـ، وانتزعت منه قواعد إفريقية واحدة بعد أخرى، ورأى الناصر تأميناً لإفريقية، وتوطيداً لسلطان الموحدين بها، أن يسند ولايتها إلى الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر الهنتاتى، وهو الظافر في معركة رأس تاجرا، وكان الشيخ أبو محمد يومئذ عميد أشياخ الموحدين وأشدهم نفوذاً لدى الخليفة، وكان فوق ذلك صهر الخليفة متزوجاً بأخته ابنة الخليفة المنصور، فقبل الشيخ الولاية، على كره منه، واشترط لتقلدها شروطاً تكفل له الاستقلال التام برأيه وتصرفاته، وأبدى الشيخ في ولايته منتهى الحصافة والحزم، ووقف بالمرصاد للميورقى، وقضى على كل محاولاته، ومحاولات حلفائه من طوائف العرب، وغيرهم من المغامرين المفسدين، وحقق لإفريقية عهداً من الاستقرار والطمأنينة والرخاء لم تعرفه منذ بعيد. ولما توفي الخليفة الناصر، بعد موقعة العقاب المشئومة بقليل، في اليوم العاشر من شعبان سنة 610 هـ، وخلفه ولده يوسف المستنصر، وبادر أشياخ الموحدين من سائر الأنحاء إلى بيعته، تمهل الشيخ أبو محمد في تقديم بيعته بعض الوقت، وأحيط تصرفه يومئذ بمختلف التعليقات، ولكنه انتهى بسعى الوزير ابن جامع إلى تقديم البيعة المنشودة. ولكن حدث حينما قام الخليفة المستنصر بتعيين عمال النواحي، أن ندب عمه السيد أبا العلاء الكبير إدريس بن يوسف بن عبد المؤمن ليكون أميراً على تونس، وليستقر بقصبتها، ليعنى بتدبير شئونها، والسهر منها على حركات الميورقي، إلى جانب الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وأن يبقى الشيخ على ما هو من تقلد أعمال ولايته، ولم يك ثمة شك في أن هذا التعيين لم يكن محلا لرضى الشيخ، وأنه رأى فيه مضايقة له، وافتئاتا على حقوقه وسلطانه (¬1). وهناك قول آخر بأن تعيين السيد أبي العلاء لإمارة تونس لولاية إفريقية، لم يقع إلا بعد وفاة الشيخ أبي محمد ببضعة أشهر، في أواخر سنة 618 هـ، وأنه عين خلفاً للشيخ. ومما يعزز هذا القول، هو أن السيد أبا العلاء ما كاد يتولى ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 273 و 274.،،،،،،

منصبه، حتى أمر بالقبض على كاتب الشيخ، محمد بن أحمد بن النجيل، وأخويه أبي بكر ويحيى، واستصفاء أموالهم، وذلك بتهمة تآمرهم على سلامة الدولة، ثم أمر بعد ذلك بإعدام ابن النجيل وأخيه يحيى (¬1). وتوفي الشيخ أبو محمد عبد الواحد بتونس في مستهل شهر محرم سنة 618 هـ (8 مارس سنة 1220 م)، بعد أن لبث نيفاً وأربعة عشر عاما يضطلع بأعباء منصبه الشاقة، وكان الشيخ بلا ريب أقدر الحكام الذين ولوا حكم إفريقية، وأمضاهم عزماً، وأوفرهم شجاعة وجرأة، وكان لعزمه وشجاعته أكبر الأثر في تحطيم ثورة بني غانية، وإنقاذ سلطان الموحدين بإفريقية، وحماية جناح الدولة الموحدية الشمالي الشرقي من الانهيار مدى حين. وهنا تختلف الرواية مرة أخرى في أمر من ولى حكم إفريقية عقب وفاة الشيخ، فيقول لنا ابن عذارى متفقاً مع روايته الأولى، إن ابنه أبا محمد عبد الله هو الذي خلفه في منصبه، وذلك تحت إشراف السيد أبي العلاء إدريس (¬2)، وهناك قول آخر، يتمشى مع الرواية الثانية، وهو أن الذي خلفه في منصبه هو السيد أبو العلاء إدريس، معيناً من قبل الخليفة يوسف المستنصر. وعلى أي حال فإن وفاة الشيخ أبي محمد عبد الواحد، قد تمخضت عن نتيجتين في منتهى الأهمية، الأولى تحرك ابن غانية من جديد، والثانية تحول مجرى الحكم في إفريقية. - 2 - وذلك أن يحيى بن إسحاق بن غانية، ما كاد يعلم بوفاة خصمه العتيد، الشيخ أبي محمد، حتى تنفس الصعداء، وأخذ في التحرك من منفاه السحيق في الصحراء، وكان قد لزم ودّان وأحوازها، منذ هزائمه الفادحة على يد الشيخ أبي محمد، ولبث هناك زهاء تسعة أعوام يرقب الفرص، فلما لاحت الفرصة بوفاة الشيخ، سار في الصحراء نحو الشمال، وعاث في بلاد الجريد، فنهض السيد أبو العلاء في جيش من الموحدين، وسار إلى قابس، ونزل بها بقصر العروسين، حتى لا تسقط في يد الثائر، وبعث ولده السيد أبا زيد في قوة إلى درج وغدامس، وبعث قوة أخرى، إلى ودان لرد ابن غانية، ومحاصرته. ولكن العرب من أنصار ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 196، وكذلك: A. Bel: Les Benou Ghania, p. 164 (¬2) البيان المغرب ص 274.،،،،،،

ابن غانية وحلفائه اعترضوا سبيل الموحدين، وفر ابن غانية في جمعه من الملثمين والأعراب إلى جهة الزّاب، فسار السيد أبو زيد في أثره، ونجح ابن غانية في الوصول إلى الشمال والاستيلاء على بلدة بسكرة جنوبي قسنطينة، وتخريبها ونهبها، فهاجمه السيد أبو زيد، وانتزعها منه، وفر ابن غانية في حشوده من العرب والبربر وسار شرقاً حتى اقترب من أحواز تونس، فأتبعه السيد أبو زيد في عسكر الموحدين والعرب الموالين، لاسيما عرب هوارة، ونشب بين الفريقين في مكان يسمى مجدول قتال مرير، وهزم فيه ابن غانية، وقتل كثير من جنده، وامتلأت أيدي الموحدين من غنائمهم. وكان ذلك في أوائل سنة 621 هـ (1223 م). وفر ابن غانية في فلوله نحو الجنوب مرة أخرى، وأخذ يتجول بين الواحات، وهو يحشد الأنصار، وينتهب الأموال أينما استطاع، ويرقب الفرص السانحة (¬1). وعلم السيد أبو زيد على أثر الموقعة بوفاة أخيه السيد أبي العلاء، فارتد إلى تونس ليشغل منصبه في الإمارة، ووفقاً لهذه الرواية يكون تعيين السيد أبي زيد لولاية إفريقية، قد جاء من قبل الخليفة أبي محمد عبد الواحد المخلوع، الذي تولى الخلافة، في أواخر ذي الحجة سنة 620 هـ. على أن ابن عذارى، يقول لنا متفقاً مع روايته أن ولاية السيد أبي زيد الإمارة، كانت على نمط ولاية أبيه السيد أبي العلاء، وأن الشيخ أبا محمد عبد الله بن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بقى على حاله مكان أبيه في ولاية افريقية، ينظر بالأخص في تدبير الشئون وجباية الأموال. ولكن السيد أبا زيد أساء السيرة، واشتد في معاملة الناس، خلافاً لما كان عليه الشيخ أبي محمد عبد الواحد وولده عبد الله. فسخط عليه الناس وتمنوا زوال حكمه، واستمر السيد في منصبه حتى توفي الخليفة أبو محمد عبد الواحد وتولى الخليفة العادل، فأقال السيد أبا زيد من منصبه، وذلك في شهر ربيع الثاني سنة 623 هـ، وأرسل إلى إفريقية عمه السيد أبا عمران موسى بن ابراهيم بن اسماعيل الحفصى ليتولى الحكم بها حتى يصل إليها حاكمها الأصلى الذي اختاره الخليفة، وهو أبو محمد عبد الله ابن الشيخ محمد عبد الواحد. وبعد ذلك ببضعة أشهر سار أبو محمد عبد الله وأخوه أبو زكريا يحيى إلى إفريقية، وتوقف أبو محمد قليلا في بجاية، ومعه أخوه أبو عبد الله اللحيانى (¬2)، وبعث أخاه أبا زكريا إلى تونس ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 196 و 197، والزركشي في تاريخ الدولتين ص 14 وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 167. (¬2) وقد عرف بهذا الاسم لطول لحيته (ابن خلدون ج 6 ص 281).،،،،،،

ليمهد لاستقباله. ثم سار إلى تونس، ودخلها في اليوم السابع عشر من ذي القعدة سنة 623 هـ (نوفمبر سنة 1225 م) في مواكب حافلة، واستقر في منصبه دون منازع، وندب الشيخ أبو محمد عبد الله، أخاه الأمير أبا زكريا يحيى لحكم قابس والحمة، وأخاه الأمير أبا ابراهيم لحكم توزر ونفطة، وسائر بلاد قسطيلة (¬1)، وتمكن بذلك سلطان بني حفص بإفريقية. وكانت سيرة الشيخ أبي محمد، وحكمة العادل، وسياسته اللينة الرفيقة، مما يسبغ على أسرته وبنيه من بعده، حسن الذكرى ويحبوها بالمحبة والولاء من سائر الناس. وفي تلك الأثناء، كان يحيى بن غانية، وهو في مثواه بالصحراء، يجد في تحصيل الأموال، وحشد الرجال، ويرقب الفرصة للقيام بضربة جديدة، وفي أواخر سنة 623 هـ، سار نحو الشمال في اتجاه منطقة قسنطينة، ثم اجتازها بسرعة، واقتحم بجاية، ثم غادرها لوقته صوب تدلس، وهو يعيث قتلا ونهباً أينما حل، ثم اتجه نحو الغرب، وغزا متيجة، وتوغل في منازل زناتة، واكتسح أحياءها، وانتهب ثرواتها، وحاول شيخ مغراوة، عبد الرحمن بن منديل، وهو من أولياء الموحدين، أن يقف في سبيله، فهزمه ابن غانية وأسره ثم قتله، ثم اتجه ابن غانية بعد ذلك شمالا واقتحم مليانة، ثم استولى على الجزائر وصلب جثة ابن منديل على سورها. وخرج الشيخ أبو محمد عبد الله من تونس على عجل لمطاردة ابن غانية، ووضع حد لعيثه، وذلك في أواسط سنة 624 هـ، فسار أولا إلى أبة، وهاجم منازل هوّارة، وكانت ضالعة مع ابن غانية، وقبض على زعمائها وأرسلهم مصفدين إلى المهدية. ثم سار في أثر ابن غانية، ودخل بجاية، وأصلح شئونها، وقصد بعد ذلك إلى مليانة، وكان ابن غانية في تلك الأثناء، قد غادر الجزائر بعد اقتحامها، وسار نحو الجنوب الغربي، واستمر في مسيره حتى وصل إلى أحواز سجلماسة، فترك الشيخ أبو محمد مطاردته، وعاد إلى تونس، وذلك في شهر رمضان سنة 624 هـ (¬2). ومن ذلك الحين، تغيض أخبار يحيى بن اسحاق بن غانية. وكان إلى ذلك الحين، قد قطع أربعين عاما في متابعة ذلك الصراع المرير، الذي بدأه أخوه علىّ ضد الموحدين، في إفريقية، والذى اتُخذت إفريقية، لموقعها من الجزائر ¬_______ (¬1) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 15، والبيان المغرب ص 274. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 197، وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 174،،،،،،

الشرقية مثوى بني غانية، ونأيها عن مركز الحكومة الموحدية، وثرواتها الطائلة، مسرحاً له، والذى كانت تحدوه في البداية مثلٌ سياسية وقومية، ثم انحدر بعد طول النضال، إلى غزوات خاطفة، ومعارك ناهبة. وقد وصل ابن غانية إلى ذروة سلطانه، بالاستيلاء على سائر قواعد إفريقية بما فيها العاصمة تونس، خلا بجاية، ثم قلب له الحظ ظهر المجن، فانتزع الموحدون الجزائر الشرقية، مثوى أسرته وموئل سلطانها، ومستودع مواردها، وذلك في سنة 600 هـ، ثم لقى هزيمته الحاسمة في موقعة جبل تاجرا في سنة 602 هـ. ومع ذلك، وبالرغم من تمزق حشوده، وتضاءل موارده، فإنه لم يخْبُ له عزم، ولم تضعف له إرادة، فاستمر في نضاله اليائس أعواماً طويلة أخرى، ولكنه كان نضال العصبة المغامرة، والانتقام المضطرم. وكان من الواضح أن الحلم الذي كان يجيش به بنو غانية، وهو العمل على إحياء الإمبراطورية المرابطية في إفريقية، وفوق أنقاض سلطان الإمبراطورية الموحدية، قد تحطم وتلاشى، بيد أنه لم يك شك أيضاً في أن هذه الضربات المتوالية، التي أنزلها علي بن إسحاق بن غانية، وأخوه يحيى، مدى نصف قرن بسلطان الموحدين وجيوشهم في إفريقية، قد هزت من أركان الدولة الموحدية وساعدت على تفككها، وتبديد مواردها وقواها، وكانت عاملا من أهم العوامل التي اجتمعت في تلك الفترة، لتمهد إلى انهيارها وسقوطها. وقد عاش يحيى بن غانية أعوامه الأخيرة بين قليل من الصحب والجند، حياة شريد لا يستقر له مقام، بيد أنه لم ينقطع عن الإغارة على تخوم إفريقية كلما استطاع، ولم ينقطع أمير افريقية، وكان عندئذ أبا زكريا يحيى عن مطاردته ورده عن أراضيه، وأقام فوق ذلك في مختلف الحدود مراكز ثابتة، مزودة بالجند للسهر على حركات الثائر، وإخمادها في بدايتها، ومع ذلك فإن ابن غانية كان دائم النشاط والحركة، دائم الإغارة والعيث، حتى أنه كان من وقت لآخر يصل في غاراته شمالا حتى وادي شليف، واستمرت هذه الغارات حتى سنة 626 هـ. بيد أن هذه لم تكن سوى النفثات الأخيرة لثورة عاتية، ولم يكن يلتف حوله عندئذ سوى القلائل من صحبه المخلصين، ولم يكن له أهل ولا ولد، بعد أن مات أخوته وولداه في ساحة الحرب، سوى عدد من البنات، وكان في هذه الأعوام الأخيرة، يشهد انحلال الدولة الموحدية التي نذر نفسه لكفاحها، ولكنه كان يرى في نفس الوقت أنه لم يجن من صراعه وصراع أسرته،،،،،،

الذي استطال خمسين عاما، أية نتائج مادية، وأن علم الدولة المرابطية الذي حاول أن يرفعه سوف يخبو بوفاته إلى الأبد. ثم كانت الخاتمة النهائية، وتوفي يحيى بن اسحاق بن غانية، وهو في محلته على ضفاف نهر شليف على مقربة من مليانة، وذلك في سنة 631 هـ أو سنة 633 هـ (1234 م) ودفن هنالك، ثم عفى أثر مدفنه. قال ابن خلدون معلقا على موته: " وانفض أمر الملثمين من مسّوفة ولمتونة من جميع بلاد إفريقية، والمغرب والأندلس، بمهلكه، وذهب ملك صنهاجة، من الأرض، بذهاب ملكه وانقطاع أمره ". وقيل إن يحيى بعث قبيل وفاته ببناته إلى الأمير أبي زكريا ليعشن في كنفه، فأكبر الأمير الحفصى حسن ظنه، وأحسن كفالتهن، وابتنى لصونهن داراً خاصة بحضرة تونس، عرفت بقصر البنات، وأقمن بها في عيش رغد، محروسات مشمولات بأقصى رعاية، حتى توفين عانسات معمرات، ولم يقبلن الزواج من أحد (¬1). - 3 - وهنا نعطف على ذكر الحدث الثاني الذي ترتب على وفاة الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص والي افريقية، وذلك في مستهل شهر المحرم سنة 618 هـ. وقد رأينا فيما تقدم أن الذي خلف الشيخ أبا محمد في ولاية إفريقية، هو ولده أبو محمد عبد الله، وذلك على خلاف في تاريخ هذه الولاية وكيفية نوعها، مما سبق لنا تفصيله، وعلى أي فقد كان أبو محمد عبد الله قائماً في ولاية إفريقية، مذ حَلّ بتونس في شهر ذي الحجة سنة 623 هـ، وكان الذي قلده ولايتها وفقاً لذلك، هو الخليفة العادل. ولم تمض عدة أشهر على ذلك، حتى وقع مصرع الخليفة العادل، بعد مصرع سلفه الخليفة أبي محمد عبد الواحد، وجلوس الخليفة الفتى يحيى المعتصم على كرسى الخلافة مكانه في شوال سنة 624. ثم تفاقم اضطراب أمر الخلافة الموحدية، وقيام السيد أبي العلي بن المنصور بالأندلس، والدعوة لنفسه باسم المأمون، وجوازه إلى العدوة، واستيلائه على كرسى الخلافة من يد ابن أخيه يحيى المعتصم، وقتله لأشياخ الموحدين، وذلك في أوائل سنة 626 هـ. وقد كان لذلك كله أعمق وقع في إفريقية. ولما بعث المأمون إلى أبي محمد عبد الله والي إفريقية ليأخذ له البيعة، ¬_______ (¬1) نقلنا هذه التفاصيل الأخيرة عن وفاة يحيى وبناته عن ابن خلدون ج 6 ص 197، وكذلك: A. Bel: ibid ; p. 186.،،،،،،

توقف عن عقدها، فكتب المأمون عندئذ إلى أبي زكريا يحيى أخي السيد أبي محمد، وكان يومئذ حاكماً لقابس، بالولاية على إفريقية، وعزل أخيه السيد أبي محمد، فبادر أبو زكريا بعقد البيعة للمأمون، ووقعت الوحشة بذلك بين الأخوين. ذلك أنه لما علم أبو محمد عبد الله، بما كان من أخيه أبي زكريا، خرج في عسكره من تونس، فلما وصل إلى القيروان جمع أشياخ الموحدين ونبأهم بما اعتزم من قتال أخيه، فأنكر الأشياخ عليه ذلك، واعتذروا إليه عن تنفيذ فكرته، وذلك لمحبتهم للأمير أبي زكريا وتقدير صفاته، فأصر أبو محمد على رأيه ونهرهم، فأغلظوا له القول، وكادوا يعتدون عليه. وبعث الأشياخ إلى أبي زكريا ينبئونه بما حدث، ويستدعونه إليهم، فقدم أبو زكريا على الأثر، وتسلم قيادة العسكر، وأمر بالقبض على أخيه أبي محمد، وحمل محروساً إلى تونس، وهناك اعتقل حيناً بقصر ابن فاخر. ودخل الأمير أبو زكريا تونس في اليوم الرابع والعشرين من رجب سنة 625 هـ، وأمر في الحال بالقبض على أبي عمر كاتب أخيه، فقبض عليه وعذب وقتل، ثم بعث بأخيه أبي محمد إلى المغرب عن طريق البحر. وتولى أبو زكريا حكم إفريقية باسم الخليفة المأمون. ولكن لم يمض قليل على ذلك حتى بعث المأمون من قبله بعض عمال (حكام) إلى تونس، فثار لذلك أبو زكريا، وصرفهم، وخلع طاعة المأمون، وأمر بالخطبة ليحيى المعتصم. وكانت هذه أول خطوة في استقلال إفريقية (¬1). بيد أن ابن عذارى يقدم إلينا عن نزاع الأخوين، واستيلاء أبي زكريا على الحكم، رواية أخرى، خلاصتها أنه لما تفاقم اضطراب الأحوال في البلاط الموحدي، وتوالى فشل أشياخ الموحدين، جمع الأمير أبو زكريا أشياخ الموحدين بتونس، وشرح لهم الأحوال، وفاوض أخاه أبا محمد عبد الله في وجوب خلع طاعة الخلافة المؤمنية، والاستقلال بالحكم، فأبى عبد الله كل الإباء، واعتقل أخاه أبا زكريا بداره، ففر أبو زكريا من معتقله، وسار إلى قابس، وهنالك تفاوض مع شيخها ابن يكى، فوافقه على مشروعه، ثم خاطبه الموحدون من تونس، باجتماع كلمتهم على اختياره، واتفقوا معه على التنفيذ، متى خرج أخوه عبد الله برسم الحركة إلى القيروان. فلما خرج عبد الله بقواته، ونزل بظاهر تونس، طالبه الجند ببركاتهم، فتلكأ في الإجابة، وكان أبو زكريا قد قدم في صحبه، ونزل على مقربة من محلة أخيه، فبادر الجند إلى خباء أخيه، ورموه بالحجارة حتى ¬_______ (¬1) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 17.،،،،،،

كاد يهلك، ففر أمامهم، وعفّ الجند عن قتله إكراماً لأخيه، وقصد عبد الله إلى مراكش، وفي الحال جلس الأمير أبو زكريا مجلس الأمراء، وبايعه أشياخ الموحدين، ثم دخل تونس وبويع بها بيعة الخلفاء، واختار وزراءه وكتابه. وأبقى أبو زكريا في البداية ذكر الإمام المهدي في الخطبة وغيرها من المراسيم (¬1). وتمت هذه الخطوة الأولى في استقلال إفريقية في أول سنة 627 هـ (نوفمبر 1229 م) وأعلن أبو زكريا يحيى خلع طاعة بني عبد المؤمن، وتسمى أولا بالأمير وجعل ذلك اللقب في صدركتبه. ولما كانت قسنطينة وبجاية، مازالتا بيد الحكام الموحدين، وكان أبو زكريا، يرمى إلى تحقيق استقلال إفريقية بسائر جهاتها وأراضيها، فقد بادر في العام التالي (628 هـ) بالزحف على قسنطينة، وحاصرها أياما، وانتهى الأمر بأن مُكن من دخولها، فدخلها وقبض على واليها الموحدي، وولي عليها عاملا من قبله، ثم سار إلى بجاية فافتتحها، وقبض على واليها الموحدي أبي زكريا عمران، وبعث بالواليين المقبوض عليهما إلى المهدية، وبعث بأهلهما وأولادهما في البحر إلى الأندلس، وقبض كذلك على عدة من أشياخ الموحدين والعرب الموالين لهم، وأرسلهم أيضاً إلى المهدية، فزجوا إلى مطبقها، واستكملت بذلك سيادة بني حفص على سائر رقعة الوطن الإفريقى. وصحب الأمير أبا زكريا أخوه أبو عبد الله اللحيانى، وكان متولياً أشغال بجاية. أما أخوه أبو محمد عبد الله والي إفريقية السابق، فقد لقى مصرعه بمراكش، وكان قد لجأ إليها. وفي يوم الجمعة السابع من صفر سنة 633 هـ دعى في الخطبة للأمير أبي زكريا بعد ذكر الإمام، وبويع للمرة الثانية بيعة تامة شاملة، لم يتخلف فيها أحد، ولكنه استمر مقتصراً على لقب الأمير، ولم يتسم بأمير المؤمنين (¬2). وهكذا قامت بإفريقية، بأحد أقاليم الدولة الموحدية الكبرى، دولة جديدة، هي الدولة الحفصية، نسبة للأسرة التي أنشأتها وحكمتها، وهم بنو حفص، أبناء الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاتى، وقد كان أبو حفص عمر بن يحيى من أصحاب المهدي العشرة، وكان زعيم هنتاتة أقوى قبائل مصمودة، وهو الذي مهد لخلافة عبد المؤمن عقب وفاة المهدي، وكان له أعظم شأن وأقوى نفوذ لدى الخلافة الموحدية، وكانت وفاته بعد حياة حافلة بجلائل الأمور في سنة ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 274، 276، والإحاطة (1956) ج 1 ص 320 و 321. (¬2) الزركشي في تاريخ الدولتين ص 18، والبيان المغرب ص 276.

571 هـ (¬1)، وكان لولده الشيخ أبي محمد عبد الواحد، وهو أحد أبناء عدة تولوا جميعاً رفيع المناصب بالمغرب والأندلس، مثل مقامه ونفوذه لدى البلاط الموحدي، وكان يعتبركبير أشياخ الموحدين، وقد رأينا ما كان من إخماده لحركة ابن غانية، بعد أن كادت تقضى على سيادة الموحدين بإفريقية، ومما كان من اضطلاعه بولاية إفريقية، في أحرج الظروف وأدقها، وما وفق إليه بعزمه وحزمه وقوة نفسه، من إنقاذها من عيث ابن غانية وحلفائه العرب، ومن توطيد أمنها وسلامها. وقد كان انفصال إفريقية واستقلالها على هذا النحو، ضربة جديدة للدولة الموحدية. وكان عاملا جديداً في إضعاف قواها ومواردها. بيد أنه لم يحدث كبير صدى في مراكش. وكان البلاط الموحدي في هذا الوقت ذاته مشغولا، بما يدور حول كرسى الخلافة، من حروب ومنافسات، وما يقوم به بنو مرين من استطالة، وعيث مستمر، في أطراف المغرب، وما يضطرم من ثورات محلية في بعض القواعد الهامة مثل مكناسة وسبتة، ولم تكن لديه أية قوة أو وسيلة يستطيع أن يحاول بها الوقوف في سبيل هذا الحدث المحتوم. - 4 - تركنا أخبار الخليفة المأمون، وقد هزم منافسه وابن أخيه يحيى المعتصم مرة أخرى، بفحص واونزرت على مقربة من مراكش، في شهر رمضان سنة 627 هـ، ثم أصدر مرسومه بعد ذلك بمحو اسم المهدي ابن تومرت ورسومه. وفي العام التالي، سنة 628 هـ، وجّه المأمون كتبه إلى سائر بلاد الموحدين بالمغرب، والأندلس، يدعو فيها إلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحض على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة والصدقات، والنهى عن شرب الخمر والمسكرات، والتحريض على الدعاية. وقد أورد لنا ابن الخطيب فصولا من كتابه المشار إليه ننقل منها الفقرة الآتية: " وإذا كنا نوفى الأمة تمهيد دنياها، ونعنى بحماية أقصاها وأدناها، فالدين أهم وأولى، والتهمم بإقامة الشريعة وإحياء شعائرها، أحق أن يقدم وأحرى وعلينا أن نأخذ بحسب ما يأمر به الشرع وندع، ونتتبع السنن المشروعة، ونذر البدع. ولنا أن لا ندخر عنها نصيحة، ولا نغبنها أداة من الأدوات مريحة، ولنا عليها أن تطيع وتسمع " (¬2). ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 275، وابن الخطيب في الإحاطة ج 1 ص 321. (¬2) الإحاطة (1956) ج 1 ص 421، و 422.

وقد صدر مثل هذا الكتاب بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والحث على اتباع أحكام الشريعة، ونبذ البدع، عن معظم الخلفاء الموحدين، حسبما أشرنا إليه في مواضعه. هذا وبينما المأمون مشغول على هذا النحو، بإصلاحاته المذهبية والدينية، إذ وقع انفصام جديد في الخلافة الموحدية، وظهر مدَّع جديد للخلافة، هو السيد أبو موسى بن يعقوب المنصور أخو المأمون. وذلك أن المأمون كان قد ولى أخاه السيد أبا موسى حكم ثغر سبتة، ففي سنة 629 هـ، دعا السيد أبو موسى لنفسه بالخلافة، وتسمى بالمؤيد بالله، وفي نفس الوقت كانت قبائل فازاز ومكلاته، قد جاهرت بالعصيان، وعاثت في منطقة مكناسة، وحاصرت مكناسة ذاتها، فحشد المأمون قواته، وخرج من مراكش يريد تأديب القبائل الثائرة أولا، ثم يسير إلى سبتة ثانيا، وكان عندئذ قد اطمأن إلى عجز ابن أخيه يحيى المعتصم عن القيام بأية محاولة جديدة، بعد أن تركه الموحدون، وعادوا إلى جبالهم، وسار هو في صحبه القليل إلى منطقة درعة وسجلماسة. ولما أشرف المأمون بقواته الكثيفة على مكناسة، بادرت القبائل الثائرة بالتفرق والفرار، وعندئذ استمر في سيره إلى سبتة، فلما وصل إليها ضرب حولها الحصار من البر، ولكن المدينة المحصورة لم تشعر بشىء من الضيق، إذ كانت حرة مفتوحة من جهة البحر، فلم تنقطع عنها الموارد. وفضلا عن ذلك فإن السيد أبا موسى، بعث إلى ابن هود صاحب الأندلس يستنصر به، فأمده ابن هود ببعض سفنه. ومن ثم فقد لبث المأمون على حصارها ثلاثة أشهر، وهو يضربها بالمجانيق كل يوم، دون أن يلحقها شىء من الضيق أو تقع ثلمة في أسوارها، أو يهدم شىء من دورها، وربما كان في عزم المأمون أن يتابع هذا الحصار الفاشل حيناً آخر، لولا أن بلغه عندئذ خبر رُوع له، وأرغمه في الحال على رفع الحصار، هو وقوع مراكش في يد يحيى المعتصم. وما كاد المأمون يبتعد عن سبتة حتى عبر أخوه، السيد أبو موسى إلى الأندلس. وكان ابن هود قد بلغ عندئذ ذروة سلطانه، وبايعت له معظم قواعد الأندلس، فبايعه، ونزل له عن سبتة، فعوضه عنها بولاية ألمرية. وبعث ابن هود إلى سبتة بحليفه، وقائده السابق الغشتى والياً لها، فلبث بها بضعة أشهر إلى أن أخرجه أهلها وخلعوا طاعة ابن هود، وبايعوا أبا العباس أحمد بن محمد

اليانشتي، فاستبد بحكمها، وتسمى بالموفق بالله، وذلك في سنة 630 هـ (¬1). وكان يحيى المعتصم قد انتهز غيبة المأمون عن الحضرة، فجمع حشوده على عجل، وانضم إليه عرب سفيان بقيادة شيخهم جرمون بن عيسى، وأبو سعيد بن وانودين شيخ هنتاتة، وسار إلى مراكش، واقتحمها عنوة، وكانت بلا دفاع، ودخل القصر، وجمع سائر ما فيه من الأموال والذخائر، وبعث بها إلى الجبل، وقتل وسبي الكثيرين ولاسيما من اليهود، وأحرق الكنيسة، وقتل من بها من القسس والنصارى. وبلغت هذه الأنباء إلى المأمون وهو على حصار سبتة، فرفع الحصار من فوره، وارتد في قواته منصرفاً صوب مراكش، وذلك في أوائل شهر ذي القعدة سنة 629 هـ، وهو يعتزم أن ينكل بيحيى وصحبه، وأقسم لحلفائه النصارى الذين معه، وقد اضطرموا سخطاً لما حل بكنيستهم ومواطنيهم، أن يطلقهم على مراكش ثلاثة أيام ينتصفوا فيها لأنفسهم. ولما وصل المأمون إلى وادي العبيد، الفرع الشمالي لوادى أم الربيع، مرض وتوفي فجأة، وذلك في آخر شهر ذي الحجة سنة 629 هـ، فكتمت زوجه حبابة الرومية، وهي أم ولده الأكبر وولي عهده الرشيد، وفاته، ولم يقف عليها سوى القادة وأشياخ الخُلط وبعض القرابة، ولم يقف عليها أحد من عامة الجيش. وفي اليوم التالي وهو مستهل شهر المحرم سنة 630 هـ (18 أكتوبر سنة 1232 م)، اجتمع الأشياخ والقادة واتفقوا على بيعة ولد المأمون أبي محمد عبد الواحد الرشيد بالخلافة، مبايعة سرية خاصة، وكان فتى في الرابعة عشرة من عمره. وأذيع في المحلة أن أمير المؤمنين مريض، لا يستطيع الركوب ولا الظهور، وحمل المأمون في تابوت وضع في هودج، وسارت الجيوش أمامه وهي على أهبتها للقاء يحيى المعتصم (¬2)، ولما وصلت حشود المأمون إلى مقربة من مراكش، خرج إليها يحيى المعتصم في قواته من الموحدين وعرب سفيان وغيرهم، فنشبت بين الفريقين معركة هزم فيها يحيى، وقتل معظم جنده، وتفرق الباقون في مختلف الأنحاء. ولكن قوات المأمون، حينما أشرفت على مراكش، وعلى رأسها ولده الرشيد، ألفت الحاضرة وقد استعدت للدفاع. وكان واليها من قبل يحيى، أبو سعيد بن وانودين قد تخلى عن ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 276، وروض القرطاس ص 169. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 280 - 282، وابن خلدون ج 6 ص 253 و 254، وروض القرطاس ص 169، وابن الخطيب في الإحاطة (1956) ج 1 ص 425.

منصبه، واختار الناس مكانه السيد أبا الفضل جعفر بن السيد أبي سعيد، وكان أهل مراكش قد ترامى إليهم ما أعلنه المأمون قبل وفاته، من أنه سوف يبيح المدينة للنصارى، انتقاماً من أهلها، لما أبدوه من استسلامهم ليحيى، وتمكينه من دخولها، ومن ثم فإنهم لما رأوا مقدم جيش المأمون، ازدحموا فوق الأسوار، واستعدوا للدفاع، فعندئذ أصدر الرشيد لأهل المدينة ظهيراً بتأمينهم والعفو عنهم جميعاً، وعمن كان معهم من الموحدين، ورفع المغارم عنهم، وضمن ظهيره كثيراً من الوعود الطيبة، وحمل هذا الظهير القاضي أبو محمد عبد الحق، ومعه جملة من الناس، واقتربوا من السور من جهة باب السادة. وأعلن للناس وفاة المأمون وولاية ابنه الرشيد، وهزيمة يحيى، وعرفهم بما يتضمنه الظهير من تأمينهم والإنعام عليهم، فاطمأن الناس وسكنت نفوسهم، وأذنوا له ولرفاقه بالدخول إلى المدينة، ثم سار معه واليها السيد أبو الفضل والوجوه إلى القصر الخليفى، وقرئ الظهير على الكافة، فعم البشر والاطمئنان، وكتب الأشياخ والوجوه إلى الخليفة بالسمع والطاعة، وعاد القاضي وأصحابه ومعهم وفد من الكبراء للسلام على الخليفة واستقباله. وكانت حبابة أم الخليفة قد تفاهمت مع القواد النصارى، ودفعت لهم مقابل فيىء المدينة التي وُعدوا باستباحتها، وافتدائها من الاعتداء والنهب، مبالغ طائلة، ويقال إن الرشيد دفع لهم مقابل ذلك خمسمائة ألف دينار (¬1)، وهكذا أنقذ الموقف، ومهد كل شىء لدخول الخليفة الفتى إلى حاضرته. - 5 - بيد أنه يجدر بنا قبل أن نبدأ الكلام عن خلافة الرشيد، أن نذكر كلمة عن عن الخليفة المأمون، وعن صفاته وخلاله. كان أبو العُلى (أو أبو العلاء) من أنبه الخلفاء الموحدين وأقدرهم، وكان يتسم بكثير من صفات أبيه العظيم الخليفة يعقوب المنصور، ولو أتاح له القدر فسحة من الوقت، فربما كان من المرجح أن يعمل الكثير لإنقاذ الدولة الموحدية من محنتها، ولتأخير انحلالها وسقوطها، ولكنه أنفق أعوام خلافته الخمسة في منازعات وحروب متوالية، لم يفق منها حتى أدركه الموت. وكانت سقطته الجوهرية، هي التجاؤه إلى النصارى لتحقيق مشروعه في انتزاع الخلافة. ولكنها ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 284 و 285، وروض القرطاس ص 170.

كانت سقطة العصر وظروفه المؤلمة، وقد تردى فيها من قبله ومن بعده كثير من زعماء الأندلس. وكان مولد المأمون بمدينة مالقة سنة 581 هـ (1185 م)، وأمه حرة هي صفية ابنة أمير الشرق محمد بن سعد بن مردنيش، وكان المأمون صنو أبيه المنصور في صفاته العلمية. فقد كان فقيهاً حافظاً، ضابطاً للرواية، متمكناً من علوم الدين، إماماً في اللغة، أديباً واسع المعرفة بالأدب والسير، كاتباً بليغاً، متين البيان، وشاعراً محسناً، وكان يعنى عناية خاصة بتدريس كتاب البخاري، وكتاب الموطأ، وسنن أبي داود. وكان فوق ذلك حاكماً مقتدراً، بارعاً في الإدارة ومعالجة الشئون، ذكياً وافر الهمة والعزم. ويجمل ابن الخطيب صفاته في قوله: " كان رحمه الله شهماً، شجاعاً جريئاً، بعيد الهمة، نافذ العزيمة، قوي الشكيمة، لبيباً، كاتباً أديباً، فصيحاً، بليغاً، أبياً، جواداً، حازماً " (¬1). بيد أنه كان في نفس الوقت صارماً، سفاكاً للدماء. وقد رأينا كيف أسرف في استباحة دماء خصومه وقضى عليهم جميعاً. وكان المأمون كاتباً جزلا، يشغف بتسطير كتبه بنفسه، بالرغم من وجود عدة من أئمة البلاغة بين كتابه. وقد نقل إلينا ابن عذارى وابن الخطيب كتابه، الذي كتبه بخطه إلى أهل أندوجر بالأندلس، وفيه ينحى باللائمة عليهم، ويتوعدهم يالنكال لجنوحهم إلى الاستسلام للنصارى، وهو ينطق بروعة أسلوبه، وإليك بعض ما جاء فيه: " إلى الجماعة والكافة من أهل .. ، وقاهم الله عثرات الألسنة، وأرشدهم إلى محو السيئة بالحسنة. أما بعد فقد وصل من قبلكم كتابكم الذي جرد لكم أسهم الانتقاد، ورماكم من السهاد، بالداهية الساد، أتعتذرون من المحال، بضعف الحال، وقلة الرجال، إذاً نلحقكم بربات الحجال، كأنا لا نعرف مناحى أقوالكم، وسوء منقلبكم وأحوالكم، لا جرم أنكم سمعتم بالعدو قصمه الله، وقصده إلى ذلك الموضع عصمه الله، فطاشت قلوبكم خوراً، وعاد صفوكم كدراً، وشممتم ريح الموت ورداً وصدراً، وظننتم أنكم أحيط بكم من كل جانب، وأن الفضاء قد غص بالتفاف القنا، واصطفاف المناكب، ورأيتم غير شىء، فتخيلتموه طلائع الكتائب، تباً لهمتكم المنحطة، وشيمتكم الراضية بأدون خطة. أحين ¬_______ (¬1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 418.

ندبتم إلى حماية إخوانكم، والذب عن كلمة إيمانكم، نسقتم الأقوال وهي مكذوبة، ولفقتم الأعذار وهي بالباطل مشوبة، لقد آن لكم أن تبدلوا جل الخرصان، إلى مغازل النسوان، وما لكم ولصهوات الخيول، وإنما على الغانيات جر الذيول، أتظهرون العناد تخريصاً، بل تصريحاً وتلويحاً، ونظن أن لا يجمع لكم شتاً ولا يدنى منكم نزوحاً. أين المفر وأمر الله يدرككم، وطلبنا الحثيث لا يترككم، فأزيلوا هذه النزعة النفاقية من خواطركم، قبل أن نمحوا بالسيف أقوالكم، وأفعالكم، ونستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم " (¬1). ومن نظمه قوله عند ظفره بخصومه الناكثين بيعته، وقتلهم وتعليق رؤوسهم: أهل الحرابة والفساد من الورى ... يعزون في التشبيه بالذكار ففساده فيه الصلاح لغيره ... بالقطع والتعليق في الأشجار ذكارهم ذكرى إذا ما أبصرو ... فوق الجذوع وفي ذرى الأسوار لو عم عفو الله سائر خلقه ... ما كان أكثرهم من أهل النار ووزر للمأمون الشيخ أبو زكريا بن أبي الغمر، وكتب له عدة من أعلام البلاغة في ذلك العصر، منهم أبو زكريا الفازازى، وأبو المطرّف بن عميرة المخزومي، قطب البلاغة بالأندلس يومئذ، وأبو الحسن الرُّعينى، وأبو عبد الله بن عيّاش، وأبو العباس بن عمران، وغيرهم (¬2). وأما عن شخصه فقد كان المأمون أبيض اللون، معتدل القامة، جميل المحيا، أكحل العينين، فصيح اللسان، حسن الصوت والتلاوة (¬3). وترك المأمون عدة من البنين هم، أبو محمد عبد الواحد الرشيد ولي عهده والخليفة من بعده، وعبد الله، وعبد العزيز، وعثمان، وأبو الحسن على، الملقب بالسعيد، والوالى بعد أخيه الرشيد، وترك كذلك عدة من البنات، وأمهات الجميع روميات وسريات مغربيات (¬4). ¬_______ (¬1) وردت هذه الرسالة في البيان المغرب - القسم الثالث ص 266 و 267، وفي الإحاطة (1956) ج 1 ص 422، و 423. (¬2) البيان المغرب ص 283، والإحاطة ج 1 ص 424. (¬3) روض القرطاس ص 166. (¬4) البيان المغرب ص 282 و 283.

الكتاب التاسع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

الكِتاب التاسِع انهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى

الفصل الأول الثورة فى مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى

الفصل الأول الثورة في مرسية وبلنسية ونذر الانهيار الأولى صدى انحلال الخلافة الموحدية في الأندلس. اضطرامها من جديد بالفورات القومية. محمد بن هود أول زعماء هذه الحركة. ظهوره في أحواز مرسية. ما قيل عن طريقة ظهوره. زحفه على مرسية وهزيمته لواليها الموحدي. دخوله مرسية ومعه الراية السوداء. دعاؤه للخليفة العباسي وتلقبه بأمير المسلمين. فكرته في الانضواء تحت لواء الخلافة العباسية. دخول عدة من القواعد في طاعته. نهوض المأمون من إشبيلية لقتاله. ما يقال عن اللقاء بين الفريقين. اعتراف إشبيلية بطاعة ابن هود. صدى الثورة في بلنسية. السيد أبو زيد والي بلنسية. أبو جميل زيان سليل آل مردنيش. آل مردنيش ومركزهم في الشرق. وزارة أبي جميل زيان للسيد أبي زيد. قيام الثورة في بلنسية. اختيار أهلها لرياسة زيان. الوحشة بينه وبين السيد أبي زيد. مغادرة السيد أبي زيد لبلنسية. دخول زيان بلنسية وعقده البيعة لنفسه. دعاؤه للخليفة العباسي. النزاع بينه وبين ابن هود. امتناعه ببلنسية. الخوف من عواقب الفتنة. دعوة إلى الاتحاد. إلتجاء السيد أبي زيد إلى النصارى. مرافقة كاتبه ابن الأبار له. مسير السيد إلى ملك أراجون. المعاهدة التي عقدها معه. تعهده بتسليم عدد من الحصون. تنازله من سائر حقوقه الإقليمية. اعتناقه للنصرانية. تأييد الرواية الإسلامية لهذه الواقعة. عودة ابن الأبار إلى بلنسية. إلتحاقه بخدمة أميرها زيان. ضعف الأندلس. توثب الملوك النصارى لمهاجمتها. غزو ملك ليون لشمالى منطقة الغرب. محاصرته لماردة. مسير ابن هود لمدافعته. هزيمته وارتداده. استيلاء الليونيين على ماردة وبطليوس. توقف ابن هود بإشبيلية. مصرع ولدى ابن وزير. غزو فرناندو الثالث للأندلس الوسطى. محاصرته لمدينة جيان. فشل الحصار وانسحاب النصارى. غزوة ثانية للقشتاليين. فرناندو الثالث يستأنف الغزو. محاصرته لأبدة واستيلاؤه عليها. عقد الهدنة بين ابن هود وفرناندو. الجزائر الشرقية تحت حكم الموحدين. مقدمات غزو النصارى للجزائر. تطلع الدول النصرانية إلى افتتاحها. اهتمام ملك أراجون الخاص بذلك. خايمى الأول واستعداد أراجون لهذا المشروع. خروج أسطول الغزو النصراني. استعداد أبي يحيى حاكم الجزائر للمقاومة. التآمر والنزاع في ميورقة. نزول النصارى بأرض الجزيرة. القتال بينهم وبين المسلمين. محاصرة النصارى لمدينة ميورقة. مفاوضة ابن يحيى للنصارى. إصرار النصارى على التسليم. اقتحامهم للمدينة. دفاع المسلمين اليائس. هزيمتهم وتمزقهم. المذبحة الرائعة. دخول الملك خايمى المدينة. مقاومة المسلمين في الجبال. تحطيم المقاومة وسقوط سائر الحصون. تقسيم ميورقة بين الفاتحين. كتاب التقسيم الخاص بذلك. استيلاء الأرجونيين على يابسة. منورقة وبقاؤها عصراً تحت حكم المسلمين. الرئيس سعيد بن حكم الأموى. حكمه لمنورقة. حزمه وكفايته. أدبه وشعره. ولده أبو عمر. افتتاح الأرجونيين لمنورقة.

لقد كان انتثار الخلافة الموحدية، على هذا النحو، وقيام الخليفة العادل بالأندلس، خروجاً على الخليفة أبي محمد عبد الواحد، ثم قيام أبي العلى المأمون بالأندلس أيضاً، خروجاً على أخيه العادل، أعمق وقع وأبعد صدى في الأندلس. ولم يقتصر الأمر في ذلك، على تصدع أركان الحكم الموحدي، وما حدث من ثورة أبي محمد عبد الله البيّاسى، وما ترتب عليها من الآثار المؤلمة، بل كان أن اهتزت الأندلس من أقصاها إلى أقصاها لهذه الأحداث الخطيرة، ونهضت من من سباتها الطويل، الذي فرضه عليها الحكم الموحدي، زهاء ثمانين عاما، وأخذت تضطرم بسلسلة جديدة من الفورات القومية، على غرار ما حدث في أواخر العهد المرابطي. بيد أن هذه الفورات كانت مع الأسف، حركات متناثرة، متنافسة، متخاصمة، تفرق بينها الأطماع الخاصة، وإن كانت تجمع بينها رابطة الغرض المشترك، وهو تحرير الأندلس من نير الموحدين، وحمايتها من عدوان النصارى. قامت هذه الحركات التحريرية في شرقي الجزيرة وفي وسطها، في وقت واحد، وكانت بالرغم من طابعها الشخصى، وهو ما يتفق مع روح العصر، حركات قومية أندلسية محضة، وكان قيامها في غمار المحن التي نزلت بالأندلس من جراء تخاذل السادة والحكام الموحدين، عن تأدية واجبهم الأول في شبه الجزيرة، وهو الدفاع عن الأندلس وحمايتها من عدوان النصارى، وتحول نشاطهم إلى معارك داخلية شخصية، بل وإلى مصانعة وتسليم للنصارى. ولم تكن حال الموحدين، وتضعضع قواهم، وانهيار مواردهم بالمغرب، خافية على الأمة الأندلسية، وعلى زعمائها الذين نهضوا في تلك الآونة العصيبة، يحاولون إنقاذ الموقف، بكل ما يمكن أن تسمح به الظروف والأحوال. وكان أول من ظهر من أولئك الزعماء الأندلسيين، زعيم من بيت عريق في الزعامة والرياسة، هو محمد بن يوسف بن هود الجذامى، وهو سليل بني هود ملوك سرقسطة أيام الطوائف. وكان آخر من أتينا على ذكرهم من زعماء هذا البيت، هو أبو جعفر أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن يوسف بن هود، وهو الملقب بسيف الدولة وبالمستنصر بالله، وأحياناً بالمستعين، وقد تتبعنا أخباره فيما تقدم، مذ غادر قلعة روطة آخر مستقر لبني هود، بعد سقوط سرقسطة في أيدي الأرجونيين في سنة 512 هـ (1118 م) وانضوى تحت لواء ملك قشتالة

ألفونسو ريمونديس. ولما اضطرمت الأندلس بالثورة ضد المرابطين، عمد سيف الدولة إلى خوض غمارها، أولا في القواعد الوسطى في جيّان، وقرطبة وغرناطة، ثم في شرقي الأندلس، في بلنسية ومرسية، وانتهى الأمر إلى أن قتل في معركة البسيط، في شهر شعبان سنة 540 هـ (فبراير سنة 1146 م) (¬1). ولم يرد من ذلك التاريخ ذكر لبني هود في حوادث الأندلس، حتى قيام محمد بن يوسف ابن هود، هذا المتقدم الذكر. وأما نسبته فهى وفقاً لقوله، أنه محمد بن يوسف ابن محمد بن عبد العليم بن أحمد المستنصر، فهو بذلك ثانى حفيد لولد سيف الدولة المتقدم ذكره. وكان ظهور محمد بن يوسف بن هود، في نفس المنطقة التي كانت قبل ثمانين عاما مسرحاً لظهور جده سيف الدولة، أعني في شرقي الأندلس، وفي مدينة مرسية. ولا تحدثنا الرواية بشىء عن حياته الأولى، وكل ما تذكره من ذلك أنه كان رجلا من أصناف الجند بمرسية وغيرها (¬2)، ويبدو من أقوال الرواية أنه ظهر بطريقة متواضعة جداً، وذلك بمعاونة قائد أو مقدم من رؤساء العصابات يسمى الغشتى، وكان الغشتى هذا زعيما لعصبة من المجاورين أو " المغاورين " الذين يحاربون النصارى، وأحيانا يقطعون الطرق على المسلمين ونحن نضرب صفحاً عما تذكره لنا الرواية عن تنبؤات المنجمين بشأن ظهوره، ونكتفى بأن نقول بأن ابن هود تفاهم مع الغشتى على التعاون في العمل، وأفضى إليه بما يخالجه من أمل في الاستيلاء على الأمر، وبدأ الاثنان بالإغارة على بعض أراضي النصارى المجاورة لأحواز مرسية، فأصابا غنائم من الماشية والأسرى، وأخذ جمع ابن هود يكثر شيئاً فشيئاً، وتتوطد مكانته في تلك النواحي، وكانت أرومته الملوكية تسبغ عليه مهابة وتجذب إليه الأنصار. ولما كثر جمعه، نهض في رجاله إلى موضع يعرف " بالصخيرات " أو بالصخور، وهو حصن صغير يقع على نهر شقورة على مقربة من مرسية، وهنالك بايعه أنصاره بالإمارة (¬3)، فذاع أمره، وسارع كثيرون من الفرسان والجند بالانضمام إليه، وكانت أحوال ¬_______ (¬1) تراجع تفاصيل هذه الحوادث في ص 360 و 361 من القسم الأول من هذا الكتاب. (¬2) الروض المعطار ص 118. (¬3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 256 - 257، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 278 و 279، والروض المعطار ص 118.

الموحدين، وما نشب بينهم من خلاف، وما وقع من قتل خلفائهم بمراكش، وما ويبشر به ذلك كله من ذهاب أمرهم، وانهيار دولتهم، مما يذكى حماسة الجموع، ويبعث إليها روح الأمل والاستبشار. وكانت ولاية مرسية، مذ غادرها السيد أبو محمد عبد الله بن يعقوب المنصور أو العادل، على أثر مبايعته بالخلافة، قد أسندت إلى ابن عمه السيد أبي العباس ابن أبي عمران موسى بن يوسف بن عبد المؤمن. وكان من الواضح أن أولئك السادة الولاة، كانوا ينظرون إلى الموقف في خشية وتوجس، وأن الحاميات الضئيلة التي تركت لهم، كانت قد خبت قواها المعنوية، ومن ثم فإن ابن هود حينما شعر بقوة جمعه، لم يحجم عن الزحف على مرسية. فخرج إليه السيد أبو العباس بعساكر مرسية، فهزمه ابن هود واعتقله، وذلك في رجب سنة 625 هـ (يونيه سنة 1228 م). وعلى أثر ذلك خرج إليه السيد أبو زيد والي بلنسية في قواته، فهزمه ابن هود أيضاً، واستولى على محلته، ولكنه لم يحاول دخول بلنسية. ثم عاد إلى مرسية، ودخلها وهو يرفع راية سوداء عباسية، وذلك بتفاهم مع قاضيها أبي الحسن علي بن محمد القسطلى، وهو قتيله فيما بعد، وقبض على واليها السيد أبي العباس (¬1). وبويع ابن هود بمرسية غرة رمضان سنة 625 هـ (4 أغسطس 1228 م) (¬2) وتسمى بأمير المسلمين، ومعز الدين، ودعا للخليفة العباسي المستنصر بالله، وكتب إليه ببغداد، فبعث إليه بالخلع والمراسيم، وسماه مجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكل على الله، وهكذا كانت علامة ابن هود " توكلت على الله الواحد القهار ". وكانت فكرة ابن هود في الانضواء تحت راية الخلافة العباسية، هو أن يتشح بثوب من الشرعية في انتحال الولاية، وفي محاربة الموحدين، وهو قد أعلن أنه سوف يعمل على تحرير الأندلس من نير الموحدين، ومن عدوان النصارى معا، وسوف يعمل على إحياء الشريعة وسننها، بعدما درست في ظل الموحدين، ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 249. ويستفاد من رواية صاحب الروض المعطار أن ابن هود لم يشتبك في معركة مع والي مرسية، السيد أبي العباس، ولكنه دخلها بحيلة رتبها القاضي المذكور، وإيهامه للوالى، أن ابن هود سوف ينضوى تحت لوائه ويخدمه برجاله، فلما دخل عليه ابن هود غدر به وقبض عليه (الروض المعطار ص 119). (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 169، وروض القرطاس ص 182.

وسرعان ما قوي أمره، وذاع ذكره، وأطاعته من قواعد الشرق شاطبة، وجزيرة شقر وما والاهما، وأعلنت بطاعته عدة من قواعد الأندلس الوسطى والجنوبية، مثل جيان وقرطبة، حيث قتل أهلها واليها الموحدي السيد أبا الربيع، وأخرجوا منها الموحدين، وكذلك أطاعته غرناطة ومالقة وألمرية. ولما ذاع أمر ابن هود، ووقف السيد أبو العُلى بإشبيلية - وكان يومئذ قد غدا الخليفة المأمون - على ما حدث في الشرق. من هزيمة الموحدين، وضياع مرسية، ووصله صريخ السيد أبي زيد، أهمه ذلك، وكان على وشك العبور إلى العدوة، فآثر أن يبادر إلى الشرق لحسم الأمر قبل استفحاله، فغادر إشبيلية، وسار في بعض قواته صوب مرسية. وهنا تختلف الرواية حول ما حدث بينه وبين ابن هود، فهناك قول بأنه اشتبك مع ابن هود على مقربة من مرسية في معركة ْهزم فيها ابن هود، وارتد إلى مرسية فامتنع بها، وذلك في أواخر سنة 625 هـ، وعاد المأمون ظافراً إلى إشبيلية، فامتدحه الشعراء وأجزل لهم العطاء (¬1). ويزيد ابن الخطيب هذه الرواية تفصيلا فيقول، إن المأمون تحرك في جيش إشبيلية باستدعاء أخيه السيد أبي زيد والي بلنسية (¬2)، فتحرك المأمون إليه، واحتل غرناطة في رمضان من عام خمسة وعشرين وستمائة، وأنفذ منها كتابه إليه يشجعه، ويعلمه بنفوذه إليه، وانضم إليه جيش غرناطة وما والاها، ثم سار نحو الشرق، فبرز ابن هود إلى لقائه، فكان اللقاء بخارج لورَقة، فانهزم ابن هود، وفر إلى مرسية وعساكر الموحدين في عقبه (¬3). وفي رواية أخرى أنه لم يقع قتال، ولكن المأمون حاصر مرسية، حينا فامتنعت عليه فكرّ راجعاً إلى إشبيلية، وذلك في أوائل سنة 626 هـ (1229 م) (¬4). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 258، ويورد لنا ابن عذارى عدة من القصائد التي ألقيت بهذه المناسبة، وكذلك ابن خلدون ج 4 ص 168. (¬2) الإحاطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 420. وقد وهم ابن الخطيب هنا في وصف السيد أبي زيد والي بلنسية بأنه أخ للمأمون والحقيقة أن السيد أبا زيد وهو عبد الرحمن بن محمد بن يوسف ابن عبد المؤمن - إنما هو ابن عم المأمون (وهو إدريس بن يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن) لا أخوه. وابن الخطيب يصرح نفسه في ترجمته للسيد أبي زيد الواردة في الإحاطة أيضاً (مخطوط الإسكوريال 674 أالغزيرى لوحة 138 أ) فيذكر نسبته الحقيقية، وهي كما تقدم، عبد الرحمن بن محمد بن يوسف ابن عبد المؤمن. وذكر المقري من جهة أخرى أن السيد أبا زيد هو عبد الرحمن بن السيد أبي عبد الله محمد بن أبي حفص بن عبد المؤمن. (نفح الطيب ج 2 ص 577). (¬3) الإحاطة (1956) ج 1 ص 420. (¬4) الروض المعطار ص 120.

وما كاد أبو العُلى المأمون، يغادر إشبيلية ليعبر البحر إلى العدوة، حتى اجتمع أهل إشبيلية وذلك في اليوم الثاني من عيد الأضحى سنة 626 هـ، وأعلنوا خلع طاعة الدولة الموحدية، والاعتراف بطاعة ابن هود في ظل الخلافة العباسية، وكتب عنهم أبو بكر بن البناء إلى المتوكل ابن هود كتابا بهذا المعنى، فأوفد إليهم ابن هود في الحال أخاه أبا النجاء سالم الملقب عضد الدولة ليكون واليا عليهم. وحذت ماردة وبطليوس حذو إشبيلية، في الإعلان بطاعة ابن هود. وهكذا اتسع نطاق الدعوة الهودية وشملت أواسط الأندلس وغربيها، وأخذت الأندلس كلها، تتطلع إلى لواء هذا الزعيم الأندلسي الجديد، ترجو أن يكون حاميها وقائدها، وجامع كلمتها، وموحد صفوفها. - 2 - وفي نفس الوقت الذي قامت فيه ثورة ابن هود بمرسية، كانت ثمة ثورة أخرى تضطرم في بلنسية، وتجرى فيها أحداث مماثلة. وذلك أن بلنسية كان يحكمها منذ سنة 620 هـ، واليها السيد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن، وهو أخو السيد أبو محمد عبد الله البياسى، الذي أتينا على أخباره فيما تقدم. ولما قام ابن هود بمرسية، خرج السيد أبو زيد بقواته لمحاربته، ولكن ابن هود تغلب عليه فارتد منهزماً إلى بلنسية. وسرعان ما ظهر صدى هذه التطورات في بلنسية ذاتها. وذلك أن أهل بلنسية، حينما رأوا تطور الحوادث في مرسية، وهزيمة القوات الموحدية في منطقة الشرق، سرت إليهم روح الانتقاض والثورة، وقديماً كانت بلنسية حصن الثورة ضد الموحدين. وقد لبثت مملكة الشرق أيام الأمير محمد بن سعد بن مردنيش، زهاء ربع قرن تتحدى الدولة الموحدية، وهي في إبان قوتها. والآن فإنا نعود فنشهد صفحة جديدة من ثورة بلنسية، ضد الموحدين، وإن كانت هذه المرة تضطرم في ظروف عصيبة، تواجه فيها بلنسية وقواعد الشرق خطر العدوان الداهم، من جانب عدوها الخالد اسبانيا النصرانية. وكان زعيم الثورة في هذه المرة، أيضاً ينتمى إلى زعمائها السابقين من آل مردنيش. وهو أبو جميل زيّان بن أبي الحملات مدافع بن يوسف بن سعد ابن مردنيش الجذامى، وجده أبو الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش هو كما نذكر، أخو أمير الشرق محمد بن سعد بن مردنيش. وكان الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، حينما استسلم إليه آل مردنيش، عقب وفاة عميدهم

الأمير محمد بن سعد في سنة 567 هـ (1171 م)، واستولى على مرسية وبقية مملكة الشرق، قد شملهم برعايته، وأسند إليهم جليل المناصب، فقدّم الأمير أبا الحجاج يوسف بن سعد بن مردنيش، أخا الأمير محمد المتوفى، على بلنسية وجهاتها، كما كان أيام أخيه، واستمر أبو الحجاج يوسف، وكان يعرف بالرئيس، والياً لبلنسية حتى توفي في سنة 582 هـ، فخلفه في ولايتها السيد أبو عبد الله محمد حفيد الخليفة عبد المؤمن، ثم خلفه بعد وفاته ولده السيد أبو زيد. وترك الرثيس أبو الحجاج يوسف عدة من الأولاد، منهم أبو الحملات مدافع، وأبو الظفر غالب، وأبو الحارث سبع، وأبو سلطان عزيز، وأبو ساكن عامر، وأبو محمد طلحة، وقد تولوا جميعاً في ظل حكومة الموحدين، مناصب هامة في مختلف قواعد الشرق، من قيادة وولاية، واشتهروا في أواخر أيام الدولة الموحدية بالأندلس، وكانوا مثل أبيهم يعرفون بالرؤساء. فلما اضطربت الأحوال وسرت الفتنة إلى مختلف النواحي، عقب وفاة الخليفة يوسف المستنصر، خاضوا الفتنة مع الخائضين، وكان عميدهم يومئذ الرئيس أبو جميل زيان بن أبي الحملات مدافع بن الرئيس يوسف أبي الحجاج، وكان أبوه مدافع، قد استشهد شابا في حياة أخيه أبي سلطان عزيز والي جزيرة شقر، وكان إلى جانبه ببلنسية وأحوازها، عشرة من رؤساء بيته من الإخوة أو أبناء العمومة. وكان أبو جميل زيان وقتئذ وزير السيد أبي زيد والي بلنسية، وكبير بطانته ومدبر أمره (¬1)، وفي رواية أخرى أنه كان قائد الأعنة المتولى أمر الدفاع عن بلنسية (¬2). فلما ارتد السيد أبو زيد منهزماً أمام ابن هود كما تقدم، اضطرمت الثورة في بلنسية، والتف البلنسيون حول عميد بيت إماراتهم القديم، أبي جميل زيّان، ونادوا برياسته، فوقعت الوحشة بينه وبين السيد أبي زيد، فغادر بلنسية إلى حصن أُندة القريب وامتنع به، واشتد الهياج وتفاقم الأمر في المدينة، فخشى السيد سوء العاقبة، وغادر بلنسية بدوره في أهله وولده وأمواله، وذلك في أوائل شهر صفر سنة 626 هـ، واعتصم ببعض الحصون القريبة. وعندئذ بادر الرئيس أبو جميل زيان بالقدوم إلى بلنسية من مقره بحصن أندة، فدخلها في اليوم السادس والعشرين من شهر صفر سنة 626 هـ (يناير 1229 م) ونزل بالقصر، وعقد البيعة لنفسه، وذلك ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 167. (¬2) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 578.

في أول شهر ربيع الأول، ودعا للخليفة المستنصر العباسي، وفي الحال دخلت في طاعته دانية وجنجالة، وعدة من الحصون، وذاع أمره واشتد ساعده. ولكن خرج عليه أبو سلطان عزيز بن يوسف والي جزيرة شقر، ودعا لابن هود، وكذلك فعلت شاطبة وواليها أحد أبناء عمومة زيان، واضطرمت الفتنة بين زيان وابن هود وزحف ابن هود على بلنسية، فخرج زيان للقائه، فكانت عليه الهزيمة، وتبعه ابن هود إلى بلنسية فامتنعت عليه، وشغل ابن هود عندئد، بحوادث ومشاريع أخرى (¬1). وهكذا عمت الثورة أو الفتنة، شرقي الأندلس، وسرى الاضطراب إلى سائر أنحائه، وفي ذلك يقول شاعر معاصر من أبنائه، هو أبو عبد الله محمد ابن إدريس بن علي المعروف بمرج الكحل: ولاسيما في فتنة مدلهمة ... فلا أحد فيها أخاه يشمت وكان قضا صمتنا عنه واجب ... وسلم الأحداث من كان يصمت ولم يكن يخفى على ذوى النظر البعيد، ما يترتب على تلك الفتنة من عواقب خطيرة، وكان بعضهم يسعى إلى تداركها بجمع الكلمة. وقد وقفنا في ذلك على رسالة، وجهها العلامة الفقيه أبو بكر عزيز بن خطاب، عميد علماء مرسية والمنتزى فيها فيما بعد، إلى الخطيب أبي عبد الله بن قاسم ببلنسية، يشير عليه فيها، أن يحض الرئيس أبا جميل زيان على الدخول في طاعة " أمير المسلمين " ابن هود وذلك قبل أن يتحرك ابن هود لمحاربة زيان في بلنسية. وفيها ينوه بوجوب اتحاد المدن المختلفة التي تدين بدين واحد لمقاومة أعداء الدين، وأن القوة في الاتحاد وهو ما يحض عليه الله والرسول. وأنه يجب على علماء الدين أن يسعوا في ذلك يالنصح، وأن مآل الخلاف انقطاع الرياسة، واستيلاء عدو الدين على البلاد، ثم يطلب إليه أن يهيب بالأمير أبي جميل أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون، فذلك مما يكسبه محبة أهل الأندلس، ومحبة المسلمين (¬2). وأما السيد أبو زيد، فقد لبث مذ غادر بلنسية، وامتنع بأهله وأمواله، في ¬_______ (¬1) راجع تفاصيل هذه الحوادث في أعمال الأعلام لابن الخطيب ص 172، والبيان المغرب ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167، وكذلك: M. Gaspar Remiro: Historia de Murcia Musulmana (Zaragoza 1905) p. 275 & 276 (¬2) وردت هذه الرسالة في كتاب " زواهر الفكر وجواهر الفكر " لمحمد بن علي بن عبد الرحمن المكنى بابن المرابط، وهو مخطوط الإسكوريال، رقم 518 الغزيرى (ديرنبور رقم 520).

بعض الحصون القريبة، حيناً يرقب سير الحوادث، فلما رأى تطور الموقف على هذا النحو، ورأى سلطان الموحدين ينهار في سائر النواحي، وأن الظروف كلها تدعو إلى اليأس، لم يجد أمامه سبيلا إلا أن يلتجىء إلى النصارى. فغادر مقره في أهله وولده، وقصد إلى ملك أراجون خايمى الأول، مستجيراً به وملتجئاً إلى حمايته. وكان بصحبة السيد أبي زيد كاتبه، وكاتب أبيه من قبل، الفقيه الكاتب الشاعر والمؤرخ المبدع، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعى الشهير بابن الأبار، وقد وصف لنا ابن الأبار موقفه يومئذ، في بيتين من الشعر، بعث بهما إلى بعض أصحابه على أثر مغادرته لبلنسية وهما: الحمد لله لا أهل ولا ولد ... ولا قرار ولا صبر ولا جلد كان الزمان لنا سلما إلى أمد ... فعاد حربا لنا لما انقضى الأمد (¬1). ويضع ابن الخطيب تاريخ مغادرة السيد أبي زيد بلنسية، ولحاقه بالنصارى في السادس والعشرين من صفر سنة 626 هـ، أعني في نفس اليوم الذي دخل فيه الرئيس أبو جميل زيان بلنسية (¬2). ولكنا ذكرنا فيما تقدم اعتماداً على ابن الخطيب نفسه أن السيد أبا زيد غادر بلنسية قبل ذلك بمدة وجيزة، والتجأ إلى بعض حصونها القريبة. وتكتفى الرواية الإسلامية بأن تذكر لنا أن السيد أبا زيد لحق بالنصارى، ودخل في دينهم (¬3). ولكن لهذا السيد الموحدي، قصة مفصلة متعددة النواحي، تقدم إلينا تفاصيلها، الرواية والوثائق النصرانية المعاصرة، ويجدر بنا أن نلخصها هنا. سار السيد أبو زيد وصحبه إلى قلعة أيوب، حيث كان خايمى الأول، ملك أراجون (¬4) يعقد بلاطه يومئذ. وفي اليوم العشرين من شهر أبريل سنة 1229 م ¬_______ (¬1) وقفنا على هذين البيتين في مخطوط الإسكوريال " زواهر الفكر، وجواهر الفكر " السابق ذكره لوحة 87 أ. وراجع في مصاحبة ابن الأبار لمخدومه، أزهار الرياض (المطبوع) ج 3 ص 205. (¬2) الإحاطة في مخطوط الإسكوريال (674 أالغزيرى) لوحة 138 أ. (¬3) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167 و 168، وابن الخطيب في الإحاطة في مخطوط الإسكوريال المشار إليه. (¬4) تسمى الرواية الإسلامية Jaime خايمى: " جاقمة ملك أرغون " (الروض المعطار ص 48)، وأعمال الأعلام ص 273) وتسميه أحياناً دون جايمش (أعمال الأعلام ص 337). وخايمي هو الرسم الإسباني ليعقوب.

الموافق الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 626 هـ، اجتمع السيد أبو زيد وولده أبو محمد مع ملك أراجون وولده ألفونسو، وكان يومئذ يقوم بأهبته لافتتاح ميورقة، وعقدت بين الفريقين معاهدة، نص فيها على أن يعطى السيد أبو زيد من سائر الأراضي والأماكن والحصون التي يغنمها سواء بالقوة أو الرضى، مقدار الربع إلى الملك خايمى، وعلى أن يحتفظ الملك خايمى لنفسه بكل ما يقوم هو بافتتاحه، أو ما يقع تسليمه إليه، وأن يقدم السيد كفالة بتنفيذ هذا ْالاتفاق، حصون بنشكلة، ومرلّة، وقله، وألبونت، وشارقه، وشبرب (¬1) بصفة رهينة، وأن يقوم الملك خايمى تأكيداً لعهوده، بحماية السيد والدفاع عنه وعن ولده ضد أعدائه، بتسليم حصنى الديموس، وقشتيل الحبيب (¬2) اللذين افتتحهما أبوه الملك بيدرو. وكان من الواضح أن السيد أبا زيد، حينما عقد هذا الاتفاق مع ملك أراجون، كانت له أسوة بما فعله من قبل أخوه السيد عبد الله البياسى، حينما انضوى تحت لواء فرناندو الثالث ملك قشتالة، وتعهد بتسليم الحصون والأراضي الإسلامية، بل وبما فعله ابن عمه الخليفة المأمون نفسه، من تعهده لملك قشتالة بتسليمه الحصون التي يرغبها في الأراضي الإسلامية، وغير ذلك مما قطعه على نفسه من العهود، إزاء قيام هذا الملك النصراني بمعاونته على انتزاع العرش من خصمه. وتنفيذاً لهذا الاتفاق خرج السيد أبو زيد، ومعه الفارس بيدرو دي أساجرا صاحب شنتمرية الشرق، وبلاسكو دي ألاجون، وهو زعيم أرجونى كان قبل عامين قد لجأ إلى بلنسية وخدم الموحدين، ثم عاد إلى أراجون وعفا عنه الملك، في قوات طرويل وبعض الفرسان الأرجونيين، واخترقت الحملة الأراضي التي كان ما يزال السيد أبو زيد يتمتع فيها بشىء من التأييد. وبالرغم من أن السيد استطاع فيما بعد أن يبسط سلطانه على بعض النواحي والضياع القريبة من بلنسية، فإنه أدرك في النهاية أنه لن يستطيع تنفيذ العهود التي قطعها على نفسه لملك أراجون، ومن ثم فإنه عاد في يناير سنة 1232، وتنازل للملك خايمى عن سائر الحقوق الإقليمية التي احتفظ بها لنفسه بمقتضى المعاهدة، وذلك سواء في مدينة بلنسية ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية على التوالى Segorbe, Jerica, Alpuente, Culla, Morella, Penoscola (¬2) وهما بالإسبانية Castielfabit, Ademuz

ذاتها، أو في أراضيها، واستبقى لنفسه ولأهله ما سوى ذلك من الحقوق (¬1). وفي خلال ذلك سقط السيد أبو زيد سقطته المؤسية. ذلك أنه لم يكتف بهذا الانضواء المطلق تحت نير الملك النصراني، ولكنه هوى إلى الدرك الأسفل، فاعتنق دين النصرانية، وهو سليل بني عبد المؤمن أئمة التوحيد وأقطابه، ونبذ اسمه المسلم، واختار اسما نصرانياً هو بثنتى Vicente أو بالعربية " بجنت " وتزوج فيما بعد من سيدة نصرانية من أهل سرقسطة، وكان يسمى في الوثائق النصرانية " بثنتى "، ملك بلنسية وحفيد أمير المؤمنين "، ولم تقدم إلينا الرواية النصرانية تاريخ تنصر السيد أبي زيد، ولكنها تقدم إلينا ما يفيد أنه كان يضمر هذه النية منذ عهد بعيد، أعني منذ أيام أن كان في بلنسية والياً عليها، وتقول لنا إن السيد طرد من بلنسية، لما علم من أنه يبعث رسله السريين إلى البابا وإلى ملك أراجون، يعرض اعتناقه للنصرانية، ولما كان يبدو من إمارات استحسانه لهذا الدين (¬2). وتجمع الرواية الإسلامية على صحة ارتداد هذا السيد الموحدي عن دين الإسلام، وتعرب عن أسفها وسخطها لانحداره إلى هذا الدرك المؤسى (¬3). ومن جهة أخرى فإنه مما لا شك فيه أن كاتبه ابن الأبار، الذي صحبه في رحلته إلى بلاط ملك أراجون، قد تركه لمصيره غير بعيد، لما رأى من استسلامه للنصارى، ونيته في اعتناق دينهم، وعاد إلى بلنسية، والتحق بخدمة أميرها الجديد أبو جميل زيان (¬4). وسوف يكون ابن الأبار منذ الآن من أبرز شهود المأساة التي اقترنت بمصير بلنسية، وسوف يأخذ قلمه في تدوين محنتها بأوفى نصيب. - 3 - في تلك الآونة التي أخذت فيها نيران الفتنة، تندلع إلى ربوع الأندلس، ويسرى دبيب التفكك إلى هيكلها المتداعى، كانت اسبانيا النصرانية تتطلع في ثقة وأمل إلى اجتناء التراث المنهار، وانتزاع الأشلاء المتساقطة، وكان كل شىء يمهد إلى تحقيق هذا الأمل، فإن حركة الاسترداد Reconquista، لم تحظ ¬_______ (¬1) Andres Piles Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) . p. 622, 625 626 & 629 (¬2) A. P. Ibars: ibid ; p. 617, 618 & 622, cit. Zurita, Nota (¬3) يراجع بالأخص ابن عذارى في البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 167، و 168. (¬4) أزهار الرياض ج 3 ص 205.

من قبل قط، بما كانت تحظى به يومئذ من سهولة الانقضاض، وانهيار الجبهة الدفاعية الخصيمة، بانهيار القوي العسكرية الموحدية في شبه الجزيرة، وانشغال البلاط الموحدي بالمغرب، بخلافاته وحروبه الأهلية. وكانت قوي الأندلس ومواردها الخاصة، قد تضاءلت تحت ضغط الحكم الموحدي المرهق، واستئثار الموحدين بشئون الدفاع، ثم أخذت على ضعفها وضآلتها، تنتثر هنا وهنالك، وبين أولئك المتغلبين، أولئك " الطوائف " الجدد، وكان ملوك اسبانيا الثلاثة، خايمى الأول ملك أراجون، وفرناندو الثالث ملك قشتالة، وألفونسو التاسع ملك ليون، يسيطر كل منهم، على مصاير منطقة من شبه الجزيرة، فملك أراجون يسيطر على مصايرها من ناحية الشرق، وملك قشتالة يسيطر على مصايرها من ناحية الوسط، وملك ليون يسيطر على مصايرها من ناحية الغرب، وكل منهم يرقب الفرص المواتية للانقضاض على الفريسة، على تلك الأندلس، التي مزقتها الفتنة، وفقدت وسائل الدفاع الحقيقية، وأضحت معظم قواعدها تحت رحمة العدو القوي المتحفز. ووقعت الضربات الأولى في الغرب، من جانب ملك ليون، وهو أقل الملوك الثلاثة شأناً، ثم تلتها في الحال ضربات قشتالة وأراجون القوية، ووجهت قشتالة اهتمامها إلى القواعد الأندلسية الوسطى، واتجهت أراجون أولا إلى افتتاح الجزائر الشرقية، لكي تتفرغ بعد ذلك إلى انتزاع القواعد الشرقية، وفي مقدمتها ثغر بلنسية العظيم. وكان ملك ليون، ألفونسو التاسع (وهو والد فرناندو الثالث)، منذ استولى على مدينة قاصرش المنيعة في سنة 622 هـ (1227 م) حسبما تقدم ذكره، يرقب الفرصة لإنزال ضربته التالية، في منطقة الغرب الأندلسية. وكانت ماردة، وبطليوس، وهما جنوبي قاصرش هما أقرب القواعد الأندلسية العظيمة إلى حدود ليون. فلما عمت الفتنة أرجاء الأندلس، ولاح لملك ليون، أن منطقة الغرب أضحت دون مدافع، وأن قيام ابن هود في شرقي الأندلس، لا يمكن أن يحول دون مشاريعه، خرج من ليون في قواته، وذلك في أواخر سنة 1229 م (أوائل سنة 627 هـ)، وسار جنوبا في اتجاه نهر وادي يانه، واستولى أولا على حصن منتانجش (¬1). الواقع على مقربة من شمال ماردة، ثم سار إلى ماردة، ¬_______ (¬1) وهو بالإسبانية Montanchez.

وهي تقع شرقي بطليوس، على ضفة نهر وادي يانه، وضرب حولها الحصار. ووقف ابن هود على حركة ملك ليون، فحشد ما استطاع من قواته، وسار نحو الغرب لإنقاذ المدينة المحصورة، وكانت من القواعد التي دخلت في طاعته، فلما وصل على مقربة من ماردة، ترك ألفونسو التاسع الحصار، وتقدم للقاء جيش ابن هود، ونشبت بين الفريقين عند حصن الحنش (¬1) معركة عنيفة، هزم فيها ابن هود، وارتد في قواته دون نظام، وفي الحال، احتل الليونيون مدينة ماردة، ثم احتلوا بعد ذلك بقليل، مدينة بطليوس العظيمة، وذلك في مايو سنة 1230 م (أواسط سنة 627 هـ). وينحى ابن عذارى بهذه المناسبة باللائمة على ابن هود، لأنه انهزم بساقته في بداية الموقعة، فولى الناس منهزمين من أجل ذلك. ويقول لنا إنه كان بطبعه ملولا عجولا، وكانت هذه الغزوة أول غزواته وأضخمها (¬2). وعرج ابن هود في مسيره بعد هزيمته على إشبيلية. وكان مما حدث عند حلوله بها، أن ثارت العامة بعبد الله بن وزير حاكم ثغر القصر السابق، وكان قد لجأ إليها، وقبضت عليه، فأمر ابن هود بإعدامه هو وأخوه عبد الرحمن ابن وزير، ويقول لنا ابن الأبار إن ما حدث من العامة نحو الأخوين قد وقع بتحريض ابن هود نفسه (¬3). وفي هذا الوقت نفسه، كان فرناندو الثالث، ملك قشتالة يحاول أن يقوم بضرباته في الأندلس الوسطى. وكان فرناندو يرقب الدعوة الهودية، واتساع نطاق سلطان ابن هود، وتوالى طاعة القواعد الأندلسية له، بمنتهى الاهتمام والتوجس. وكان يخشى أن تجتمع كلمة الأندلس كلها حول هذا الزعيم الجديد، وأن تغدو مرة أخرى، كتلة قوية متماسكة يصعب تحطيمها. وكان يرى وجوب المبادرة إلى العمل، قبل أن يصبح ابن هود وهو في نظره زعيم الأندلس الحقيقي، قوة لا تقهر، ومن ثم فإنا نراه في أوائل سنة 1230 م (أوائل سنة 627 هـ) يخرج في قواته من قشتالة متجهاً نحو أندوجر، ثم يعبر نهر الوادي الكبير، وهو أينما ¬_______ (¬1) وهو بالإسبانية Alanje (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وابن خلدون ج 4 ص 169، والمقري في نفح الطيب ج 2 ص 582. (¬3) الحلة السيراء ص 242.

حل ينسف الزروع، ويخرب القرى، ويسبى الذرية، واستمر في سيره نحو الجنوب حتى فحص غرناطة، ثم عاد إلى الشمال ثانية. والظاهر أن هذه الغارة الأولى كانت عملا استكشافياً، لمعرفة ما قد يلقى الغزاة من مقاومة. ولما اخترق ابن هود عندئذ بقواته تلك المنطقة في طريقه إلى الغرب، ظن القشتاليون أنه قدم لمحاربتهم، ولكن ابن هود كان يقصد إلى إنجاد ماردة، وألفى ملك قشتالة نفسه حراًّ في خططه وتحركاته، وعندئذ اتجه فرناندو الثالث بقواته صوب مدينة جيّان الحصينة، وهي أكبر قواعد تلك المنطقة، وضرب حولها الحصار، وذلك في أواخر يونيه سنة 1230 م، وقذفها بالمجانيق بشدة، وحاول القشتاليون، اقتحامها بكل الوسائل، ولكن المدينة لبثت صامدة كالصخرة، أولا لمنعتها الفائقة، وثانياً لوفرة المدافعين عنها، وبعد حصار دام ثلاثة أشهر اضطر فرناندو أن يترك جيّان، وأن يعود أدراجه. وما كاد يصل إلى قشتالة حتى علم بوفاة أبيه ألفونسو التاسع ملك ليون، عقب عودته من افتتاح ماردة وبطليوس، فاتجه مسرعاً إلى ليون ليجلس على عرشها مكان أبيه، وبذا اتحدت قشتالة، وليون مرة أخرى (¬1). وهكذا نجت القاعدة الإسلامية - جيان - من السقوط إلى حين. ولكن ملك قشتالة، عاد فبعث في العام التالي حملة غازية إلى الأندلس، بقيادة أخيه الإنفانت ألفونسو، فسارت من أندوجر، وعاثت في أنحاء قرطبة، واستمرت في سيرها غرباً حتى أحواز إشبيلية، ثم ارتدت بعد ذلك إلى شريش، وهي تعيث أينما حلت قتلا وتخريباً. وهنا تحرك ابن هود مرة أخرى ليرد الغزاة، فسار في قوات كثيفة، والتقى بالقشتاليين في فحص شريش، ولكنه هزم مرة أخرى، بالرغم من تفوقه في العدد، وذلك في أواخر سنة 630 هـ (1233 م). والظاهر أن القشتاليين كانوا يقصدون بهذه الغزوة، أن يقطعوا صلة ابن هود بالثغور الجنوبية. وكان ابن هود قد افتتح الجزيرة الخضراء في سنة 629 هـ، ثم افتتح جبل طارق، وفي نفس هذا العام دخلت سبتة في طاعته حسبما قدمنا، ولكن ابن هود لبث بالرغم من هزيمته، محتفظاً بسلطانه في القواعد والثغور الجنوبية. وما كاد فرناندو الثالث ينتهي من تنظيم الشئون الداخلية التي ترتبت على وفاة أبيه حتى تأهب لاستئناف الغزو. وكان بعد أن أخفق في الاستيلاء على جيان، ¬_______ (¬1) J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia p. 62 & 68

يعتزم افتتاح مدينة أبّدة، وكانت أيضاً من أمنع مدن هذه المنطقة وأوفرها سكانا وأقواها حامية، ولكن فرناندو صمم على أن يمضى في حصارها حتى ترغم على التسليم. واستمر حصار أبدة من يناير حتى يوليه سنة 1233 م (أواخر سنة 630 هـ) فلما عدمت الأقوات ولم ترد أية نجدة من أي جهة، اضطرت أبّدة إلى التسليم بالأمان، على أن يؤمن سكانها في أنفسهم، وأن يسمح لهم بأن ينقلوا من أموالهم ما يستطيعون حمله معهم، وأن تضمن سلامتهم حتى يصلوا إلى الأراضي الإسلامية (¬1). وفي نفس هذا العام 630 هـ، عقدت الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة، نظير ألف دينار يؤديها إليه ابن هود في كل يوم (¬2). وكان ابن هود، قد تكاثر عليه الخصوم، بقيام منافسه ابن الأحمر في قطاع جيان، وخروج بعض المدن، ولاسيما إشبيلية عن طاعته وذلك حسبما نفصل في موضعه، فرأى أن يتفرغ لمحاربتهم بعقد الهدنة مع النصارى. - 4 - بينما كان ملك قشتالة ينزل ضرباته المتوالية بالأندلس الوسطى، كان ملك أراجون خايمى الأول، يقوم بأول غزواته الكبرى في الناحية الشرقية لشبه الجزيرة، ونعنى غزو الجزائر الشرقية. كانت الجزائر الشرقية أو جزر البليار، وهي ميورقة ومنورقة ويابسة، وعدة جزائر صغيرة أخرى، منذ افتتحها الموحدون من أيدي بني غانية في سنة 600 هـ، يتعاقب في حكمها الولاة الموحدون، وكانت تتبع ولاية بلنسية من الناحية الإدارية. ولما اضطرمت الأندلس بالثورة على الموحدين، كان على الجزائر واليها أبو يحيى ابن يحيى بن أبي عمران التينمللى. وكان رابع الولاة الموحدين، مذ قام الموحدون بافتتاحها من أيدي بني غانية في سنة 600 هـ (1203 م)، ووليها منذ سنة 606 هـ. وفي رواية أخرى هي رواية ابن عميرة المخزومي، في كتابه " تاريخ ميورقة "، أن أمير الجزائر كان عندئذ هو محمد بن علي بن موسى، وأنه هو الذي وليها في سنة 606 هـ (¬3) ولكننا نرجح الرواية الأولى، لأن الرواية النصرانية المعاصرة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 288، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 29 y nota (64) (¬2) البيان المغرب ص 288، وروض القرطاس ص 183. (¬3) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 584 نقلا عن تاريخ ميورقة للمخزومي، وهو كتاب لم يصل إلينا. ويقول لنا ابن الخطيب في ترجمته للمخزومى إنه ألف كتابا في "كائنة ميورقة " وتغلب الروم عليها. (الإحاطة 1956 - ج 1 ص 184).

ومنها تاريخ الملك خايمى نفسه، تردد اسم أبي يحيى كأمير للجزيرة (¬1). ويقص علينا المخزومي سبب غزو النصارى لميورقة، أو مقدمات هذا الغزو في قوله، إن والي ميورقة بعث طريدة بحرية ومعها سفينة حربية إلى جزيرة يابسة، لتأتى إليه، بالأخشاب التي يحتاج إليها، فعلم بأمرها والي طرطوشة النصراني، فبعث إليها قوة بحرية استولت عليها، فاستشاط الوالي لذلك غضباً، واعتزم أن يغزو مياه بلاد الروم. وفي أواخر سنة 623 هـ (أوائل يناير سنة 1225 م) ظهرت في مياه يابسة سفينة من برشلونة، وأخرى من طرطوشة، فبعث الوالي ولده في عدة قطع بحرية، فرسى في مياه يابسة، وألفى بها مركباً جنوية كبيرة فاستولى عليها، ثم استولى على المركب البرشلونية. فلما وقف الروم على ذلك، اضطرموا سخطاً، وأهابوا بملكهم أن يقوم بغزو الجزيرة، وعرضوا عليه أن يتطوعوا بأنفسهم، وأموالهم، فأخذ عليهم العهد بذلك، وحشد من أهل البلاد عشرين ألفاً، وجهز في البحر ستة عشر ألفاً آخرين، وكان ذلك في أوائل سنة 626 هـ (¬2). هذا ما يقوله المخزومي عن مقدمات غزو ميورقة. ولكن هذه المقدمات ترجع في الواقع إلى أسباب أقدم وأبعد مدى. وقد كان أمراء قطلونية ومعهم جمهوريتا بيزة وجنوة يتوقون دائماً إلى افتتاح هذه الجزائر، ووضع حد لغزوات ولاتها المسلمين، في مياه الشواطىء النصرانية، وكان الكرسى الرسولى يشجع ويبارك كل مشروع لافتتاحها. وقد افتتحها النصارى بالفعل قبل ذلك بنحو قرن في سنة 508 هـ (1116 م) في أوائل العهد المرابطي، واستعادها المرابطون على أثر ذلك. ولما استقل بنو غانية بالجزائر وقوى أمرهم، كانت غزواتهم المتكررة، لشواطىء الدول النصرانية القريبة، تزعج هذه الدول، وتحملها على مهادنة أصحاب الجزائر، وعقد معاهدات السلم معهم. فلما افتتح الموحدون الجزائر من أيدي بني غانية، تجددت رغبة الدول النصرانية، في انتزاع هذه الجزائر من أيدي المسلمين، وكان أشدهم رغبة في ذلك مملكة أراجون، التي كانت ترى من حقها الطبيعي، أن تستولى على تلك الجزائر التي تواجه شواطئها، وذلك تأميناً لمواصلاتها وتجارتها، وكان بيدرو الثاني ملك أراجون قد فكر في افتتاح الجزائر بصفة جدية، ولكن لم يتح له تحقيق أمنيته. فكان على ولده الملك الفتى ¬_______ (¬1) M. Lafuente: Historia General de Espana, T. IV. p. 77, Nota 2 (¬2) نفح الطيب ج 2 ص 584.

خايمى الأول أن يحقق تلك الأمنية. وكان انهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة واضطرام أنحاء الأندلس بالفتنة، وانتثار وحدتها وتفرق كلمتها مما يمهد لاسبانيا النصرانية السبيل إلى تحقيق غايات الاسترداد La Reconquista بأيسر أمر، وانتزاع أشلاء الأندلس المهيضة الممزقة، وكان على أراجون وهي تسيطر على شرقي شبه الجزيرة، أن تجتنى تراث شرقي الأندلس، وكان الملك خايمي حينما وفد عليه السيد أبو زيد الموحدي مطروداً من بلنسية في أوائل سنة 626 هـ، يستعد بالفعل لافتتاح الجزائر، وكان قد استدعى الكورتيس القطلونية في برشلونة في شهر ديسمبر سنة 1228 م، واقترح عليه أن يقوم بحملة عسكرية ضد ميورقة بغية افتتاحها، وذلك لتأمين تجارة قطلونية في البحر المتوسط، فوافق الكورتيس على هذا الاقتراح، ووافق على أن يقوم الملك بتحصيل ضريبة الماشية القرنية للمعاونة في نفقات الحملة. وعرض أكابر الأحبار والرهبان، أن يشتركوا في الحملة بأنفسهم وبمن يحشدونه من الفرسان والجند، كل وفق طاقته. وعرض أكابر الأشراف القطلان، وفي مقدمتهم نونيو سانشيز كونت روسيون، وهوجو دي أمبرياس، والأخان رامون وجلين دي مونكادا وغيرهم من الأكابر، أن يشتركوا في الحملة، بحشود كبيرة من الفرسان والرماة والجند، فقبل الملك هذه العروض، وتعهد من جانبه بأن يقدم مائتي فارس من أهل أراجون بخيلهم وسلاحهم، كما تعهد بتقسيم الأراضي المفتوحة، والغنائم المكتسبة بالعدل، والقسطاس، بين المشتركين في الحملة، كل وفق ما تكبده من النفقات، محتفظاً لنفسه بالقصور والسيادة العليا على الحصون والقلاع. وأقسم الجميع على ذلك، واتفقوا على الاجتماع في طرطوشة بعد اتمام العدة، في شهر أغسطس من العام التالي (¬1). وتم كل شىء وفق ما اتفق عليه. وفي اليوم الخامس من سبتمبر سنة 1229 م (14 شوال سنة 626 هـ) خرج الأسطول الأرجونى يحمل قوات ضخمة من ثغور سالو وطركونة وكامبريلس، وكان مؤلفاً من مائة وخمس وخمسين سفينة حربية وعدد من القطع الخفيفة، التي يقودها بحارة مغامرون من الجنويين وغيرهم. وبلغ عدد المقاتلين ألفاً وخمسمائة من الفرسان وخمسة عشر ألفاً من المشاة، هذا عدا حشود من المتطوعين من أهل جنوة وبروفانس وغيرهم. ودفعت الرياح العنيفة ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 75

السفن إلى وجهة غير التي كانت تقصدها، ولكنها وصلت بعد جهد إلى خليج بالما، وهو الخليج الذي تقع عليه مدينة ميورقة عاصمة الجزيرة، وكان والي الجزيرة أبو يحيى بن أبي عمران، قد علم بأمر هذه الأهبة الضخمة التي اتخذها النصارى لفتح الجزيرة، فاستعد من جانبه للدفاع، واستطاع أته يحشد قوة مختارة من نحو ألف فارس، ومن فرسان الرعية والحضر ألفا أخرى، ومن الرجالة ثمانية عشر ألفاً، بيد أنه اكتشف فيما يبدو، مؤامرة لخلعه، فقبض على أربعة من أكابر الأعيان، وأمر بإعدامهم، وكان منهم اثنان هما ابنا أخت أبي حفص بن سيرى وهو من ذوى المكانة والوجاهة، فاجتمع الناس حوله، وأبدوا سخطهم وتوجسهم مما حدث به، وأمر الوالي بعد ذلك بالقبض على خمسين آخرين من الأشخاص البارزين، وكان ذلك في منتصف شهر شوال، وقد اضطرب الناس، وكثر الإرجاف، ولم يمض على ذلك يومان أو ثلاثة حتى أقبلت سفن النصارى وظهرت، فبادر أبو يحيى بالصفح عن خصومه، وتأهبت الحشود لدفع النصارى (¬1). ولكن السفن النصرانية استطاعت أن تدخل مياه الخليج ليلا، وبمنتهى السرعة، حتى أن القوات المسلمة التي أرسلت لردها، وهي مكونة من مائتي فارس وخمسة آلاف راجل لم تستطع شيئاً لمنعها. وكان أول من نزل إلى البر قوة من سبعمائة من النصارى بقيادة برناردو دي ارخنتونا، تحصنت بإحدى التلال، وتبعتها فرقة من فرسان رامون دي مونكادا هاجمت المحلة الإسلامية المقابلة، ففرقتها، ثم نزل الفرسان القطلان وبعض طوائف الأرجونيين. وهنا وقعت أول معركة بين المسلمين والنصارى، وكان المسلمون قد استجمعوا سائر قواتهم المرابطة على الشاطىء وانقضوا على الأرجونيين، وحلفائهم بشدة، فهزموهم هزيمة شديدة، وقتل منهم عدد من الأشراف، والفرسان القطلان، وفي مقدمتهم جلين دي مونكادا، وأخوه رامون، وهرعت أمداد من النصارى لإنجاد المهزومين. وعندئذ ضرب النصارى الحصار حول مدينة ميورقة، وأخذوا يضربونها بمختلف اللآلات بشدة، ورد المسلمون على ذلك، بأن دفعوا قوة منهم حاولت أن تقطع مورد المياه الذي يمد المحلة النصرانية من الجبل. فهاجمها النصارى وقتلوا عدداً منها، وألقوا ببعض رؤوسهم إلى داخل المدينة، على أن الدفاع عن المدينة، ¬_______ (¬1) المقري في نفح الطيب نقلا عن المخزومي ج 2 ص 584.

لم يكن لسوء الطالع محكماً، وكان الخلاف يسود بين المدافعين. وكان كثير من الجند الساخطين يتسربون إلى المعسكر النصراني. وأخيراً استطاع النصارى أن يقتربوا من الأسوار، وأن يحطموا أربعة من الأبراج. ورأى الوالي أبو يحيى أن الوقت قد حان للمفاوضة في تسليم المدينة، فبعث إلى الملك خايمى على يد دون نونيو سانشيز، أحد أقطاب الحملة، يعاونه يهودى من سرقسطة يسمى باشول كان يعرف العربية، يعرض أن يدفع ثمناً لانسحاب ملك أراجون، وذلك بأن يؤدي إليه سائر نفقات الحملة، مذ خرجت من ثغر طركونة إلى يوم انسحابها، على أن لا تترك في الجزيرة حامية نصرانية، ولكنه لما علم أن ملك أراجون يصر كل الإصرار على أخذ المدينة، بعث إليه يعرض تسليم المدينة على أن يسمح له بالخروج إلى المغرب مع أهله وحشمه وأمواله، وأن يترك له السفن التي تحمله إلى شاطىء افريقية، وأن يبقى في الجزيرة من شاء من أهلها المسلمين. ولكن الملك خايمى رفض هذا العرض أيضاً، تحت ضغط الزعماء القطلان. لأنهم كانوا يريدون الانتقام لآل مونكادا، والاستيلاء على غنائم المدينة وثرواتها. وعندئذ عول أبو يحيى على أن يدافع دفاع اليأس، وعول النصارى من جانبهم على مهاجمة المدينة واقتحامها. وفي يوم 30 ديسمبر سنة 1229 م، استعد الجيش النصراني للهجوم، واستمع الجند للقداس، وعند الفجر بدأوا الهجوم وأحدثوا ثلمة في السور، وانثالوا إلى المدينة في طوائف متعاقبة من ناحية باب الكحل، فلقيهم المسلمون في داخلها، واضطرم بين الفريقين في الميادين والشوارع قتال عنيف، وكان الوالي أبو يحيى على رأس جنده ممتطياً صهوة جواده الأبيض، وهو يحثهم على الثبات، ودخل الملك خايمى أمام جنده المدينة، وهو شاهر سيفه. ولم يمض سوى قليل حتى ظهر التفكك في صفوف المسلمين، وأخذوا يفرون من باب بورتبين، وباب برتوليت، وفي سائر النواحي، والنصارى في أثرهم يمعنون فيهم قتلا، وتقدر الرواية الإسلامية من قتل من المسلمين خلال هذه المعركة الدموية بأربعة وعشرين ألفاً (¬1). وفر منهم إلى الجبال نحو ثلاثين ألفاً، وأسر الوالي أبو يحيى وولده، واستولى النصارى على ميورقة في مناظر مروعة من السفك. وكان استيلاؤهم عليها في يوم الاثنين 31 ديسمبر سنة 1229، ¬_______ (¬1) المقري في نفح الطيب ج 2 ص 585.

وهو يوافق بالهجرية الثالث عشر من شهر صفر سنة 627 هـ (¬1). وتتفق التواريخ النصرانية على روعة المذبحة التي وقعت عند دخول النصارى ميورقة، ويقدر بعضهم من هلك فيها من المسلمين بثلاثين ألفاً، والبعض الآخر بخمسين ألفاً. بيد أنه يبدو أن ذلك مبالغ فيه (¬2). ودخل الملك خايمى الأول، قصر المُدَينة، وهو قصر الولاة المسلمين، وأتى بالوالى أبي يحيى، وأمر بتعذيبه، واستمر تحت العذاب خمسة وأربعين يوما حتى توفي. وأما ابنه وكان صبياً في الثالثة عشرة، فتقول لنا الرواية النصرانية إنه نُصر وسمى بدون خايمي (¬3). على أن المعركة لم تكن قد انتهت بعد، فإن أبا حفص بن سيرى، وهو الزعيم الذي أشير إليه فيما تقدم، لما رأى هزيمة المسلمين، وسقوط المدينة في أيدي النصارى، خرج إلى الجبل، وتبعته طوائف كبيرة من الفارين، واجتمع له منهم عدة آلاف مقاتل، واعتزم المقاومة إلى النهاية، فم تمض سوى أيام قلائل حتى خرج إليه الملك خايمى في بعض قواته، ومعه فرسان من القطلان، واستمرت هذه القوة في مطاردة المسلمين، والاشتباك معهم في معارك متوالية، حتى قضت في النهاية على حشودهم، وقتل قائدهم ابن سيرى وذلك في اليوم العاشر من ربيع الآخر سنة 628 هـ (13 فبراير 1231 م) أي لأكثر من عام من سقوط المدينة، وتم كذلك استيلاء النصارى على ما تخلف من المعاقل والحصون وذلك في شهر رجب من نفس العام (¬4). وهكذا فقد المسلمون جزيرة ميورقة الغنية الزاهرة كبرى الجزائر الشرقية، بعد أن حكموها أكثر من خمسة قرون، وكانا لافتتاحها وقع عميق في الأمم البحرية النصرانية، في غربي البحر المتوسط، واستقبل فيها بمنتهى الغبطة والرضى. بيد أنه لم يحدث كبير صدى في الأندلس، حيث كانت المعارك الأهلية الصغيرة ¬_______ (¬1) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) الترجمة 400 و 631، وهو يجعل يوم الاثنين يوافق 14 صفر، وابن خلدون ج 4 ص 171، والروض المعطار ص 191، وكذلك؛ Campaner y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamita en las Islas Baleares (Palma 1888) . p. 179-186 (¬2) Campaner y Fuertes: ibid ; p. 188 (¬3) M. Lafuente:ibid ; T. IV. p. 79, Nota I (¬4) نفح الطيب ج 2 ص 585.

تستغرق كل اهتمام. وعاد الملك خايمى إلى أراجون مكللا بغار الظفر، بعد أن قضى في غزوته زهاء خمسة عشر شهرا، ولقب من ذلك التاريخ " بالفاتح ". وعاد خايمى بعد ذلك إلى ميورقة أولا في أواخر سنة 1231 م، حينما نمى إليه أن أمير إفريقية الحفصى ينوى أن يبعث بحملة لاسترداد الجزيرة، وقام عندئذ بإخضاع عدد من المعاقل الجبلية، التي كانت ما زالت قائمة بالمقاومة، وعقد مع بعض الزعماء المسلمين الأقوياء في الأنحاء الجبلية بعض عهود واتفاقات، ثم عاد إلى الجزيرة مرة أخرى في صيف سنة 1232 م، واستطاع عندئذ أن يقوم بالقضاء على أعمال العصيان والمقاومة الأخيرة. على أن أهم ما قام به خايمى يومئذ، هو تقسيم أراضي الجزيرة وأحياء ميورقة ودورها بين الزعماء الفاتحين، وفقاً للعهد الذي قطعه على نفسه بذلك، وتم ذلك على يد هيئة من الأحبار والأكابر. وكتب بهذا التقسيم كتاب باللغات اللاتينية، والقطلانية، والعربية، اشتهر " بكتاب التقسيم " El Libro del Repartimiento وقام بتحريره في أول يوليه سنة 1232 الكاتب الموثق بيدرو روملينو. وما زال هذا الكتاب يحفظ حتى اليوم في دار المحفوظات ببلدية ميورقة، وقد اطلعنا عليه خلال زيارتنا لميورقة (¬1). وكان من الواضح أن مصير باقي الجزائر بعد سقوط ميورقة، قد بت فيه وأضحى رهن مشيئة الفاتحين. فأما جزيرة يابسة Ibiza وهي صغرى الجزائر الثلاثة الكبيرة، وهي تقع جنوب غربي ميورقة، فقد نزل بها الأرجونيون في سنة 632 هـ (1235 م)، فقاومهم أهلها المسلمون، واستمر الصراع بين الفريقين نحو خمسة أشهر، وانتهى بتسليم المسلمين واستيلاء الأرجونيين على الجزيرة (¬2). واستولى النصارى في نفس الوقت على جزيرة فرمنتيرا الصغيرة الواقعة على مقربة من جنوبي يابسة وكانت خالية ليس بها أحد من المسلمين. هذا فيما يختص بميورقة كبرى الجزائر الشرقية وزميلتها يابسة. وأما جزيرة منورقة أو منرقة الواقعة في شرقي ميورقة، وهي ثانى الجزائر من حيث الحجم، فقد استمرت حقبة أخرى تحت الحكم الإسلامي. ذلك أن واليها الرئيس أبا عثمان ¬_______ (¬1) حصلنا على نسخة مصورة من هذا المخطوط الذي يتكون من كراسة كبيرة مستطيلة، تضم تسع ورقات حجمها نحو 30 في 15 سنتى. وأمام كل صفحة من صفحاته العربية مقابلها باللاتينية، والقطلانية. راجع وصف الكتاب وبعض نصوصه في كتابنا " الآثار الأندلسية الباقية " (الطبعة الثانية ص 133 - 136). (¬2) روض القرطاس ص 183.

سعيد بن حكم الأموى، وهو من أهل طبيرة من غربي الأندلس، كان رجلا طموحاً وتجول في شبابه في أنحاء الأندلس وإفريقية، ثم دخل منرقة في سنة 624 هـ، واشتغل بها مشرفاً على شئون الجباية والأجناد، ثم ظفر برياستها لما اضطربت الأحوال، وتقلص سلطان الموحدين، فوليها من قبل أبي يحيى، وضبط شئونها بهمة وبراعة وذلك منذ سنة 631 هـ، وكان عالماً محدثاً، ونحوياً أديبا يجيد النثر وينظم الشعر مع مشاركة طيبة في علم الطب، يجتذب إليه العلماء من كل صوب، ويفتدى منهم من يقع في أسر العدو، وكان ورعاً حريصاً على تنفيذ أحكام الشريعة، وكان يلقب بالرئيس، فصلحت أحوال الجزيرة في عهده، وعمها الرخاء والأمن. ولما استولى الملك خايمى على جزيرة ميورقة، رأى أبو عثمان أن يبادر بالتفاهم مع النصارى، فاعترف بطاعة الملك خايمى، على أن يؤدي له جزية سنوية، وأن يسلم إليه حصن تيوداديلا وذلك على أن لا يدخل الجزيرة أحد من النصارى. وهكذا ترك أبو عثمان وشأنه، فلبث على رياسته للجزيرة زهاء نصف قرن آخر، وضبط شئونها بحزم، وسار في الناس أعدل سيرة، واستقام أمر الجزيرة على يديه، وهابه جيرانه من النصارى، وكان يقصده الناس والعلماء والطلاب من سائر أنحاء الأندلس والمغرب، ويتردد عليه التجار، فيشمل الجميع ببره، ورفقه وأنسه. وكان شغوفاً بجمع الكتب، حتى اجتمع له منها ما لا نظير له كثرة وجودة وندرة، ومن شعره قوله في الحض على الجود: لا تمنع المعروف يوما معرضا ومعرضا ... كلاهما من حقه فيه له أن يعرضا هذا تنزه فاستحق على نزاهته الرضا ... والآخر استحيا من التصريح فيه فعرضا وتوفي سعيد بن حكم في رمضان سنة 680 هـ (1281 م)، فخلفه في حكم الجزيرة ولده أبو عمر حكم بن سعيد، وكان مثل أبيه أديباً وعالما، ولكن أمد حكمه لم يطل، لأن النصارى رأوا أخيراً أن ينتزعوا منورقة من أيدي المسلمين، فقام الأرجونيين بافتتاحها في سنة 686 هـ (1287 م) وأجلى عنها المسلمون، وانتهى بذلك أمر الإسلام بالجزائر الشرقية، وغادر أبو عمر الجزيرة ومعه أهله ورفات أبيه، وسار أولا إلى سبتة، ثم قصد إلى تونس، فغرق في البحر هو وآله (¬1). ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 255، والروض المعطار ص 185، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 275 - 277. وقد أورد ابن عبد الملك في الذيل والتكملة ترجمة ضافية لسعيد بن حكم (مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيرى لوحة 9 أ - 10 ب).

الفصل الثانى ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة

الفصل الثاني ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة تقدم دعوة ابن هود. صراعه ضد القشتاليين. رفعه لشعار الأسود ومطالبته بمرسوم الخليفة العباسي. وصول المرسوم وقراءته وهو بغرناطة. محتويات هذا المرسوم. ابن هود أمير الأندلس الشرعى. مدى امتداد سلطانه. اختياره لولده أبي بكر لولاية العهد. رسالته إلى أهل شاطبة بذلك. توجس ابن هود من حركة ابن الأحمر. قيام محمد بن يوسف بن الأحمر في أواسط الأندلس. نشأته وقومه بنو نصر. قيام دعوته في أرجونة وجيان وبسطة ووداى آش. دعوته لأبي زكريا الحفصى ثم للخليفة العباسي. تأهب ابن هود لمقاومته. تحالف ابن الأحمر مع الباجى زعيم إشبيلية. القتال بين ابن هود وابن الأحمر. انتصار ابن الأحمر ودخوله إشبيلية. مصرع الباجى وثورة أهل إشبيلية بابن الأحمر. عودهم لطاعة ابن هود. عقد السلم بين الزعيمين. اعتراف ابن الأحمر بطاعة ابن هود. قيام ابن شعيب بلبلة. فشل ابن هود في محاصرته. غزو ملك قشتالة لمنطقة جيان. تجديد الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة. شروط هذه الهدنة. افتتاح القشتاليين لحصن الأطراف وعدة حصون أخرى. طموح ملك قشتالة إلى افتتاح قرطبة. قرطبة واضطراب أحوالها عندئذ. غزو الفرسان القشتاليين لشرقى قرطبة. اقتحامهم للمنطقة الشرقية. اختلاف الرواية في ظروف هذا الحادث. احتلال النصارى لبعض الأبراج. ما تقوله الرواية الإسلامية في ذلك. إسراع قوات الحدود لإنجاد النصارى. اهتمام فرناندو الثالث بالحادث. مسيره في الحال إلى قرطبة. تضخم الحشود النصرانية تحت أسوار قرطبة. موقف القرطبيين الحرج. إسراع ابن هود بقواته نحو قرطبة. إحجامه عن إنجاد المدينة. اختلاف الرواية في أسباب هذا الإحجام. رواية نصرانية عن ذلك. رواية إسلامية عن تجدد الهدنة بين ابن هود وملك قشتالة. اشتداد فرناندو الثالث في محاصرة المدينة. اضطرار أهل المدينة إلى المفاوضة في التسليم. شروط هذا التسليم وظروفه. قبول فرناندو الثالث. إيجاز الرواية الإسلامية في ذلك. ما تقوله الرواية النصرانية عن مغادرة المسلمين لمدينتهم. دخول القشتاليين قرطبة. رفع الصليب على صومعة جامعها. دخول فرناندو الثالث المدينة ومثوله في الجامع. إقامة قداس الشكر. نزع رؤوس الثريات القديمة وردها إلى شنت ياقب. تأملات عن سقوط قرطبة. كتاب ابن هود إلى عماله. مسيره إلى ثغر ألمرية. واليها أبو يحيى الرميمى ودعوته لابن هود. بواعث مقدم ابن هود إلى ألمرية. رواية إسلامية عن ذلك. غدر الرميمى بابن هود ومصرعه. تأملات عن ثورة ابن هود وحركته. سياسته وخلاله. مبايعة ولده أبي بكر بمرسية. صدى وفاته في إشبيلية. عودها إلى طاعة الموحدين. سبتة تحذو حذوها. استيلاء ابن الأحمر على غرناطة. مسيره إلى ألمرية ومحاصرتها. فرار الرميمى والتجاؤه إلى إفريقية. دخول ألمرية في طاعة ابن الأحمر. دخول مالقة في طاعته. اجتماع بقايا الأندلس في مملكة غرناطة. تغدو مستودعا لتراث الأندلس. دعاء ابن الأحمر للخلافة الموحدية، ثم لأمير إفريقية الحفصى. غزو القشتاليين لمنطقة جيان. استيلاؤهم

على أرجونة وغيرها. فشلهم في محاصرة جيان. ابن الأحمر يعقد الصلح مع ملك قشتالة. شروط هذا الصلح. ما خسرت الأندلس من جرائه. اعتراف ابن الأحمر بطاعة قشتالة. استيلاء ملك قشتالة على إشبيلية. ابن الأحمر يختار ولى عهده. النزاع بين ابن الأحمر وبين صاحب سبتة. مسير ابن الأحمر إلى إشبيلية لتجديد الصلح مع ملك قشتالة. شعوره بنية الغدر والخيانة ومغادرته للمدينة. عود ملك قشتالة لغزو الأندلس. صدى محنة الأندلس في الغرب. النجدة الأولى من عسكر بني مرين. إغارة القشتاليين على غرناطة. اضطرار ابن الأحمر إلى تجديد الهدنة مع ألفونسو العاشر. خسائر جديدة للأندلس. رثاء أبي الطيب الرندي للقواعد الذاهبة. وفاة ابن الأحمر. بعض صفاته وخلاله. تركنا محمد بن يوسف بن هود، المتوكل على الله، وقد اعترفت بطاعته، عدا مرسية، مطلع ثورته، ومهد حركته، شاطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقه، وألمرية، ثم إشبيلية قاعدة الحكم الموحدي. وشعر ابن هود بحق أنه بانهيار الحكم الموحدي، واجتماع معظم قواعد الأندلس تحت طاعته، قد غدا زعيم الأندلس الحقيقي، وقائد حركتها التحريرية، والمسئول عن حمايتها والذود عنها ضد النصارى. وفي ظل هذا الشعار سار ابن هود لإنجاد ماردة، حينما دهمها الليونيون، ولكنه هزم في المعركة التي نشبت بينه وبينهم، وسقطت ماردة وبطليوس، في أيدي النصارى (627 هـ). واستولى ابن هود على الجزيرة الخضراء، وجبل الفتح، من أيدي الموحدين في سنة 629 هـ، وكان استيلاؤه عليهما بمعاونة السيد أبي عمران موسى والي سبتة، وأخى الخليفة المأمون عندما ثار على أخيه، ودعا بالخلافة لنفسه، ونزل السيد أبو عمران في نفس الوقت لابن هود عن سبتة، وحكمها نائبه الغشتى حينا حسبما تقدم ذكره، ثم خاض ابن هود وهو عائد إلى الشمال، في أواخر هذا العام، مع القشتاليين وعلى مقربة من وادي آش، معركة هزم فيها القشتاليون وقتل معظمهم (¬1)، ولكنه عاد فاشتبك مع القشتاليين في العام التالي، على مقربة من شريش، في معركة هزم فيها، ورأى على أثر ذلك أن يعقد الهدنة مع القشتاليين، وذلك في أواخر سنة 630 هـ (1233 م) وذلك حسبما فصلناه من قبل في موضعه. وكان ابن هود قد رأى منذ البداية، أن يستظل بلواء الدولة العباسية، فرفع الشعار الأسود، ودعا للخليفة المستنصر بالله العباسي، وبعث إليه ببغداد يطلب المرسوم والخلع الخلافية، فبعث إليه المستنصر بالمرسوم والخلع والرايات، ¬_______ (¬1) ابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 280.

وحملها من بغداد إلى الأندلس، مبعوث الخليفة أبو علي حسن بن علي بن حسن الكردى اللقب بالكمال، وتلقاها ابن هود في سنة 630 هـ، وهو يومئذ بغرناطة، فقرئ المرسوم على الناس بمصلى العيد، وقد اجتمعوا لطلب الغيث والاستسقاء وابن هود يرتدى السواد، والراية السوداء بين يديه (¬1)، ومن حسن التوفيق أن نزل المطر على أثر ذلك، فاستبشر الناس، وكان يوماً مشهوداً. وقد نقل إلينا ابن الخطيب نص هذا المرسوم الخلافي، وفيه يسبغ الخليفة على ابن هود، لقب المتوكل على الله، الذي اختاره لنفسه، ومما جاء فيه بعد الديباجة، وبعد الإشادة بالخليفة المستنصر وعهده: " ولما انتهى إلى علومه الشريفه (أي المستنصر) زادها الله شرفاً وقدساً، ما عليه مجاهد الدين، محمد بن يوسف بن هود، من سلوك سنن الطاعة المؤسس بنيانها على تقوى من الله ورضوان، والتزام شروط الولاء، الذي هو علامة متانة الدين وكمال الإيمان، والتصدى لمقارعة الناكثين عن محجة الحق والهدى، والتجرد لمرابطة من حاد عن السنة والإجماع، اللذين بهما يسترشد ويهتدى، اقتضت آراؤه الشريفة، المقدسة النبوية الإمامية الظاهرة، الزكية الممجدة، المعظمة المكرمة، المستنصرية، زادها الله جلالا متألق الأنوار، وشرفاً رفيع المنار، واقتدارا تجوب جياده جنوب الآفاق والأقطار، أن يقلده أمر جزيرة الأندلس وما يجرى معها من الولايات والبلاد، ويسوغه ما يفتتحه من ممالك أهل الشرك والعناد، تقليداً صحيحاً شرعياً، وتسويغاً صريحاً إمامياً، وإنعاماً يضفو عليه لباس فخاره الفضفاض، وتصفو لديه موارد مواهبه النميرة الحياض. وقد أمره - صلوات الله عليه - بأوامر تهديه إلى سبيل الرشاد، وتحظيه برضي الله الذي هو أنفع الذخائر في الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل وإليه ينيب ". ويلى ذلك ما يسديه الخليفة إلى ابن هود من نصائح، تتلخص في وجوب تمسكه بتقوى الله، وبأن يجعل كتاب الله مناراً يرجع إليه في حل المشكلات، وأن يعمل بسنة نبيه، وأن يكثر من مجالسة الفقهاء والعلماء، ومشاورة العقلاء ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 169، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ص 280. ويقول ابن عذارى إن وصول مرسوم الخليفة كان في سنة 629 هـ (البيان المغرب ص 276)، ولكنا نرجح الرواية الأولى.

الألباء، وأن يحسن السيرة في رعيته، وأن يعنى بمجاهدة الكفار، وفقاً لما أمر الله في كتابه. ثم يختتم الكتاب بتلقيب ابن هود بالألقاب الآتية: " الأمير، الأصفهصلار الكبير، الأجل، المرابط، المثاغر، الغازى، مجاهد الدين، مجد الإسلام، جمال الأنام، نجم الدولة، عز الملة، معين الأمة، فخر الملوك، قامع المشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، زعيم الجيوش، شرف الأمراء، تاج الخواص، أطال الله بقاءه، وأدام علوه ونعمته " (¬1). وهكذا غدا ابن هود أمير الأندلس الشرعي، وتوجت زعامته بشعار الخلافة العباسية، حسبما كان عليه المرابطون أيام دولتهم وحكمهم للأندلس. وكان سلطان ابن هود يمتد يومئذ في شرقي الاندلس من الجزيرة وشاطبة حتى ألمرية جنوباً، وفيما بين ألمرية، والجزيرة الخضراء، وفي وسط الأندلس، فيما بين قرطبة وغرناطة، ولم يخرج عن سلطانه من القواعد الكبرى، سوى بلنسية في شرقي الأندلس، وجيّان في وسطها، وإشبيلية في غربها. وكانت إشبيلية قد دانت بطاعته، وولي عليها أخاه عماد الدولة حسبما تقدم، ولكن لم يمض طويل على ذلك، حتى نكث أهل إشبيلية ببيعتهم، وأخرجوا منها عماد الدولة، والتفوا حول زعيم جديد هو القاضي أبو مروان أحمد بن محمد الباجى، فاعتذر عن قبول الولاية أولا، ولبث حيناً على قاعدة الشورى، ثم تقلد الولاية، وبسط سلطانه على إشبيلية وقرمونة. وكان ذلك في سنة 629 هـ (¬2). وعمد ابن هود على أثر تلقيه المرسوم الخلافى بالولاية. إلى اختيار ولده أبي بكر محمد لولاية عهده، ولقبه بالواثق بالله، المعتصم به. وقد وقفنا على رسالة في ذلك مدبجة بقلم أبي عبد الله بن الجنان، عن لسان ابن هود وموجهة منه إلى أهل شاطبة يبلغهم فيها ذلك الاختيار، وفيها ينعت نفسه " بمجاهد الدين، سيف أمير المؤمنين، عبد الله المتوكل عليه، أمير المسلمين محمد بن يوسف بن هود " ويخاطب الفقهاء والوزراء والقواد والأعيان والوجوه والنبهاء والكافة " بشاطبة وجهاتها، وما انضاف إليها من جهة بيران ودانية، وذلك من حضرتنا بمرسية ". ثم يعرب فيها، بعد الدعاء للنبى وللخليفة المستنصر بالله، عن محبته لهم، ويعلن ¬_______ (¬1) يراجع نص المرسوم في أعمال الأعلام ص 280 - 286، ونشر البيان المغرب بعض فقراته ص 277 و 278. (¬2) البيان المغرب - القسم الثالث ص 278 و 279، وابن خلدون ج 4 ص 169.

إليهم أنه اختار: " ولى عهدنا، المتولى لأمور المسلمين من بعدنا، ابننا الأمير الموفق المبارك الميمون السعيد الرشيد، الواثق بالله، المعتصم به، أبا بكر محمداً، أدام الله توفيقه، ومنحه إنجاده وعضده وإسعاده، وتملكه جميع أمورها، وكافة حواضرها وثغورها، وتقدمه فيها في بلاد هي منشأه ومشيئته ومبدأه "، وأنه يوليه " جميع أقطار المشرق، وبلاده، وأغواره وأنجاده، تولية عامة في حياتنا، مع أنه المتولى بحكم العهد الذي ارتضينا له لكل ممالكنا وطاعاتنا، وخصصنا هذه البلاد الشرقية، حاطها الله تعالى بتقديمه فيها " (¬1). وكان مما يوطد مركز ابن هود، ويدعم زعامته وهيبته، هو تجرده لمحاربة النصارى، وما يخوضه معهم من معارك متوالية، وإذا كان ابن هود قد انتهى بأن عقد الهدنة، مع ملك قشتالة، نظير إتاوة يؤديها إليه، فإن ذلك لم يكن إلا نزولا منه على حكم الظروف، لكي يتفرغ لمقارعة خصومه ومنافسيه. - 1 - على أن ابن هود لم يكن منفرداً برياسة الأندلس، ولو أتيح له هذا الانفراد بالرياسة، لكان من المرجح أن يكون له في قيادة الأندلس شأن آخر، وقد رأينا فيما تقدم، أنه في الوقت الذي قام فيه بمرسية، كان له في شرقي الأندلس، منافس آخر، هو أبو جميل زيان بن مردنيش القائم في بلنسية. بيد أن هذه المنافسة المحلية في الشرق، لم تكن مما يضايق ابن هود أو يهدد زعامته، وإنما كان يتوجس ويخشى من قيام زعيم آخر، أخذ نجمه يبزغ في أواسط الأندلس، وجنوبها بسرعة، ويظفر بطاعة قاعدة بعد أخرى، ولم يكن هذا الزعيم الأندلسي الجديد، سوى محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس النصري المعروف بابن الأحمر. وكان بنو نصر هؤلاء، وهم يرجعون نسبتهم إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، في الأصل سادة حصن أرجونة، الواقع على مقربة من نهر الوادي الكبير، ومن أعمال ولاية جيان. وكان لبني نصر في تلك المنطقة عصبية ووجاهة مؤثلة، فلما اضطربت الأمور، وانهار سلطان الموحدين بالأندلس، وظهر ابن هود في الشرق، وأخذ سلطانه يمتد نحو الجنوب، لاحت لمحمد بن يوسف فرصة للظهور والعمل، وكان هذا الزعيم المتواضع الموهوب معاً، ¬_______ (¬1) وردت هذه الرسالة في كتاب " زواهر الفكر " الذي سبقت الإشارة إليه (مخطوط الإسكوريال رقم 520 الغزيرى، و 518 ديرنبور).

يضطرم بكثير من الشجاعة والإقدام والعزم، فدعا لنفسه وبويع أولا في أرجونة موطن أسرته ومثوى عصبيته وأنصاره، وفي الجهات المجاورة لها، وذلك في سنة 629 هـ. وفي العام التالي، دخل مدينة جيان وبويع بها، ثم أطاعته بسطة، ووادي آش، وهكذا قوي أمره وامتد سلطانه بسرعة إلى أنحاء الأندلس الوسطى وأخذ يتطلع إلى الاستيلاء على القواعد الجنوبية. وكان ابن الأحمر، يرى منذ البداية، أن يستظل بلواء سلطة إسلامية مرموقة. فدعا أولا للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية وتلقى منه بعض العون، ولكنه عاد، فدعا على نمط ابن هود للخليفة العباسي، المستنصر بالله (¬1). ولم يلبث ابن هود أن شعر بخطورة هذه الحركة، التي يضطلع بها منافسه الجديد، في المناطق الوسطى والجنوبية، ومن ثم فقد اعتزم أن يتأهب لمقارعته والقضاء على حركته، ولم يكن بخاف أيضاً على ابن الأحمر خطورة المعركة التي يجب عليه أن يخوضها مع ابن هود، لكي تخلص له رياسة الأندلس، ومن ثم فقد أخذ من جانبه يتأهب لخوضها، وكان عقد ابن هود للهدنة، مع القشتاليين، يرجع قبل كل شىء إلى رغبته في التفرغ لهذه المعركة الداخلية. ومن جهة أخرى فقد اتجه ابن الأحمر إلى العمل على تقوية جانبه، بالتفاهم مع أبي مروان أحمد ابن محمد الباجى المتغلب على إشبيلية، وذلك بأن عقد معه حلفاً، وصاهره على ابنته، واتفق الاثنان على مقاومة ابن هود ومحاربته. وتأهب الفريقان للحرب، وحشد كل منهما ما استطاع من قواته، والتقيا على مقربة من إشبيلية، ووقعت بينهما معركة، كانت الهزيمة فيها على ابن هود، وكان النصر لابن الأحمر وحليفه الباجى، وكان وقوعها في أوائل سنة 631 هـ (1233 م) (¬2). ودخل ابن الأحمر إشبيلية بعد ذلك بقليل، وهو يضمر الغدر بحليفه وصهره الباجى، ولم يلبث أن دس عليه أحد أصهاره من بني أشقيلولة فقتله وذلك في جمادى الأولى من نفس العام، وبادر ابن الأحمر فاحتل القصبة، وحاول أن يبسط سلطانه على المدينة، ولكنه لم يلبث فيها سوى شهر، وثار به أهل إشبيلية، وأخرجوه من القصبة ومن المدينة، عنوة، ثم عادوا فدعوا ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 279، وابن خلدون ج 4 ص 170. وراجع كتابى " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين " الطبعة الثانية ص 31 و 32. (¬2) روض القرطاس ص 183.

لابن هود، وبعث إليهم ابن هود أخاه سالما عماد الدولة ليضطلع بولاية إشبيلية مرة أخرى، والظاهر مما يقوله ابن عذارى أنه قد وقع لابن الأحمر بقرطبة، مثلما وقع بإشبيلية، وأن أهل قرطبة، كانوا قد بايعوه في بداية أمره، فلما رأوا فعلته بالباجى، وما ترتب عليها من إخراجه من إشبيلية، نكثوا ببيعته وخلعوا طاعته وعادوا إلى طاعة ابن هود (¬1). وحدث عندئذ حادث لم يكن متوقعاً، هو عقد الهدنة والصلح بين ابن هود وابن الأحمر. وذلك أن كلا الزعيمين، أدرك فيما يبدو، خطر الحرب الأهلية الانتحارية، التي يخوضها كل منهما ضد صاحبه، وأنه لن يستفيد من هذا الصراع الأخوى المؤلم، سوى ملك قشتالة، المتربص بهما معا، فتفاهما، وعقد الصلح بينهما، وذلك في شوال سنة 631 هـ (يونيه 1234 م)، وذلك على أن يعترف ابن الأحمر بطاعة ابن هود، وعلى أن يقره ابن هود في ولاية جيان وأرجونة، وبركونة وأحوازها. ويقول لنا ابن خلدون من جهة أخرى، ان اعتراف ابن الأحمر بطاعة ابن هود، وقع على أثر وصول العهد الخلافى من بغداد لابن هود وذلك في سنة 631 هـ (¬2). ولم يمض قليل على ذلك حتى ثار بمدينة لبلة في سنة 632 هـ، وهي من أعمال إشبيلية، قاضيها شعيب بن محمد بن محفوظ ودعا لنفسه، وتسمى بالمعتصم، فسار ابن هود لقتاله، فامتنع بمدينته، وهي ذات موقع طبيعى حصين وأسوار عالية، فحاصرها ابن هود واستمر على محاصرتها حينا، وهي صامدة ممتنعة عليه (¬3). وقد كان سير الحوادث في الواقع يدعو إلى عقد مثل هذا التهادن بين الزعيمين المتنافسين. ذلك أن ابن هود، علم وهو على حصار لبلة، بأن ملك قشتالة قد خرج في قواته صوب الأندلس، يريد محاربته، ولكن فرناندو الثالث، انحرف بقواته نحو منطقة جيان التي يسيطر عليها ابن الأحمر، وأخذ يعيث في أحواز أرجونة، وجيان، وترك ابن هود حصار لبلة، دون أن ينال منها مأرباً، ليعود إلى أراضيه، وهنالك فيما بين إشبيلية وقرطبة وفد إليه سفير فرناندو، ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 279 و 322، وابن خلدون ج 4 ص 170. (¬2) روض القرطاس ص 183، وابن خلدون ج 4 ص 170. (¬3) روض القرطاس ص 183، والبيان المغرب ص 322.

ألبار بيرث، وجرت بينهما مفاوضات، انتهت بالاتفاق على تجديد الهدنة، بين ابن هود وملك قشتالة لمدة ثلاثة أعوام، وذلك على أن يدفع ابن هود لملك قشتالة إتاوة قدرها مائة ألف وثلاثون ألف دينار، دفع منها في الحال خمسين ألفا، وقسط الباقى على الأعوام الثلاثة، وعلى أن ينزل ابن هود عن بعض الحصون الواقعة في منطقة جبل الشارات (سيرّا مورينا)، وهي حصون نائية، منقطعة لم يكن من السهل أن يدافع عنها أو ينجدها المسلمون (¬1). ويقول لنا ابن خلدون إن هذه الحصون كانت ثلاثين، وأن ملك قشتالة تعهد بأن يتخلى عن معاونة ابن الأحمر، وأن يعاون ابن هود على تملك قرطبة (¬2). على أن هذا القول بالنسبة لابن الأحمر لم يكن يتفق مع ما تم من عقده للسلم مع ابن هود ومبايعته له، وهو ما يقرره لنا ابن خلدون نفسه حسبما سبقت الإشارة إليه. وكان عقد هذه الهدنة، بين ملك قشتالة وابن هود في أواخر سنة 632 هـ (صيف سنة 1235 م). وعلى أثر ذلك ارتد ملك قشتالة في قواته عائداً إلى بلاده، وفي خلال هذا العود، قام بمحاصرة " حصن الأطراف " Iznataraf، فاستسلم إليه في الحال على أن يمنح الأمان لمن كان به من المسلمين، وأن يغادروه حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم. ثم حاصر من بعده حصن شنت إشتيبن، وهو من الحصون الواقعة في طريق بياسة وأبدة، فسلمه المسلمون إليه بنفس الشروط، واستولى فرناندو في طريقه أيضاً على عدة حصون أخرى في منطقة جيان، وكانت هذه الحصون كلها من الحصون التي نص على تسليمها في الهدنة التي عقدت مع ابن هود. - 2 - والواقع أن هذه الحوادث كلها: غزوات فرناندو الثالث المتوالية لأراضي الأندلس، وتهدئته لابن هود بعقد السلم معه، واستيلاؤه، واستيلاء الجماعات الدينية العاملة باسمه، تباعا على حصون منطقة جيان، لم تكن سوى مقدمات لغاية أخطر وأبعد مدى، كان يضمرها ويعمل لها ملك قشتالة، أو بعبارة أخرى لم يكن سوى تمهيد لضربة مؤلمة جديدة، يزمع إنزالها بالأندلس، تلك هي استيلاؤه على مدينة قرطبة العظيمة. كانت عاصمة الخلافة القديمة، منذ انهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 322، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 71 y notas (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 171.

ومذ ثار شعبها المتوثب، بواليها الموحدي السيد أبي الربيع وقتله، حيرى في أمرها، لا زعيم لها ولا قائد، وتتردد في الطاعة بين مبايعة ابن الأحمر ومبايعة ابن هود، ولكنها أميل إلى الانضواء تحت لواء ابن هود. ومن الأسف أن الرواية الإسلامية التي تعنى دائماً أشد عناية بأحوال قرطبة وأخبارها، لا تمدنا عن هذه الفترة الأخيرة من حياة المدينة الأندلسية العظيمة، أو عن مأساة سقوطها، بأية تفاصيل شافية. ومن ثم فإنه لابد لنا أن نعتمد في ذلك بالأخص على أقوال الرواية النصرانية المعاصرة، إذ هي أكثر عناية وتفصيلا. ولقد عرفنا من قبل في مواطن وظروف كثيرة، ما كان عليه أهل قرطبة من خلق متمرد مضطرم، لا يلين ولا تصقله عبر الحوادث، ومن ثم فإنا نراهم في تلك الآونة العصيبة، التي كان مصيرهم فيها يهتز في كفة القدر، على خلاف في الرأي، لا يجمعهم شعار الخطر المشترك، ونرى الأحقاد والخصومات، تدفع فريقاً منهم إلى المغامرة بسلامة مدينتهم، فيما يمكن أن يوصم بعمل من أعمال الخيانة، التي لا يمكن أن يغتفرها التاريخ. ففي أوائل سنة 1236 م (أواخر ربيع الثاني سنة 633 هـ) خرجت جماعة من الفرسان القشتاليين، وهم من أهل الحدود المغاورين المحترفين، ومعظمهم من منطقة أندوجر الواقعة شرقي قرطبة، وساروا صوب قرطبة، فأشرفوا عليها حينما دخل الليل. وكانت مدينة قرطبة في ذلك الوقت تنقسم إلى خمس مناطق أو أحياء متعاقبة، وبين كل منطقة وأخرى، سور فاصل (¬1)، وكانت المنطقة الأولى الواقعة شرقي قرطبة، تعرف بالربض الشرقي أو " الشرقية " وتجتمع باقي المناطق فيما يسمى " بالمدينة "، وهي تقع غربي " الشرقية " وكلتاهما الشرقية والمدينة، تقع على الضفة الشمالية لنهر الوادي الكبير. فلما وصل الفرسان القشتاليون وهم فئة قليلة، لا تحدد لنا الرواية عددها، وربما كانت تضم بضع عشرات - إلى مشارف " الشرقية " وضعوا في الحال خطة اقتحامها. وهنا تختلف الرواية في شأن الخطة التي تم بها هذا الاقتحام. ففي رواية ألفونسو الحكيم أن الفرسان القشتاليين أسروا بعض المسلمين من الساخطين على زعمائهم، وعلموا منهم أن المدينة محروسة بشدة، وتفاهموا معهم على إحداث ثلمة في سور الشرقية، واستطاعوا بهذه الطريقة أن يقتحموا السور، وأن يستولوا على الأبراج في ليلة حالكة عاتية ¬_______ (¬1) الروض المعطار ص 153.

خريطة: خطط قرطبة الإسلاميّة عن خريطة العلامة الأثرى القرطبي رافائيل كستيخون

الريح (¬1). وفي رواية أخرى أن بعض المسلمين، ومنهم بالأخص واحد كان قد تنصر، ساعدوا القشتاليين على تحقيق خطتهم، وبينوا لهم أن الشرقية، ليس بها سوى قليل من السكان، وأن أسوارها الخارجية ضعيفة الحراسة، ومن ثم فقد استطاع القشتاليون، بإرشاد هذا المسلم المتنصر، أن يتسلقوا السور، وأن يستولوا على الشرقية بطريق المباغتة، وكان هذا السور، هو أول الأسوار الخارجية، وليس هو السور الذي يفصل الشرقية عن باقي أحياء المدينة، وقتل من أهل الشرقية عدد كبير، وهرب الباقون إلى داخل المدينة. واحتل النصارى بعض الأبراج المنيعة في السور. وفي الحال وقع الهرج بالمدينة، وتقدم المدافعون لمهاجمة النصارى، وقتل عدد من الجانبين، ولكن النصارى لبثوا صامدين في الأبراج، وأرسلوا في الحال يطلبون الإمداد (¬2). وتجمل الرواية الإسلامية، ذلك العدوان المفاجىء في قولها: " وفيها (أي في سنة 633 هـ) غدر النصارى شرقية قرطبة، وذلك في ثالث شوال، غبشاً في غفلة السحار، وسلم الله عز وجل النساء والذرارى حتى لحقوا بالغربية، وبقى الناس معهم في قتال شديد " (¬3). ووصل نداء القشتاليين إلى إخوانهم على الحدود بسرعة، وفي الحال هرع اثنان من قادة الحدود، هما أردونيو ألباريث، وألبار بيرث، الذي عرفناه من قبل، كل في قواته، وتبعهما أسقف بياسة مع رجاله، ثم أسقف قونقة في قواته، وسار في أثرهم آخرون. وما كادت هذه الأنباء تصل إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، وهو في بنفنتى على مقربة من ليون، حتى اهتم لها أيما اهتمام، وكان ثمة من وزرائه ومستشاريه من يرى في الأمر كثيراً من الخطورة والتعقيد، فهو يرتبط أولا مع ابن هود باتفاق الهدنة، وقرطبة تدين بطاعة ابن هود، وقرطبة مدينة عظيمة، تزخر بالسكان والمدافعين، ولا يتأتى افتتاحها إلا بقوات ضخمة، ومن جهة أخرى فإن ابن هود قد يضطر إلى إنجادها بقواته، خصوصاً وأن قرطبة تعتبر في نظر المسلمين كبرى قواعد الأندلس، ولها في نفوسهم مكانة خاصة. ¬_______ (¬1) Cronica General (Ed. M. Pidal) No. 1044. (¬2) J. Gonzalez: ibid ; cit. Cronica Latina y Jimenez de Rada ; p. 74-76 y notas. (¬3) هذه رواية روض القرطاس (ص 183).

ْوهذا كله إلى ظروف الجو وقسوة الشتاء وفيضان الأنهار. ولكن ملك قشتالة لم يلق بالا إلى شىء من هذه الاعتراضات، ولم يكن يرى بالأخص في مهاجمة قرطبة نقضا لعهوده مع ابن هود، إذ كان فريق من أهل المدينة هم الذين استدعوا النصارى. ومن ثم فقد بادر فرناندو الثالث من فوره بالمسير إلى الجنوب، ومعه قوة من مائة فارس فقط، وقصد من فوره إلى قرطبة، فوصل إليها في اليوم السابع من فبراير، واضطرمت الحشود النصرانية المرابطة تحت أسوار المدينة حماسة لمقدمه، وكانت تتضخم كل يوم بمن يفد إليها من حشود قشتالة وليون، ومن فرسان الجماعات الدينية المختلفة. ونصب ملك قشتالة محلته قبالة قنطرة قرطبة التي تؤدى إلى طريق إستجة. وأخذ في الحال في وضع خطة للاستيلاء على المدينة (¬1). وهنا يحق لنا أن نتساءل، ماذا كان موقف القرطبيين إزاء هذا الخطر الداهم، وماذا كان بالأخص موقف ابن هود. أما عن القرطبيين، فليس ثمة شك في أنهم اعتزموا منذ اللحظة الأولى الدفاع عن مدينتهم وحاضرتهم، ولكن كان من الواضح أنه كانت تنقصهم القيادة الحازمة، وكان ينقصهم بالأخص اجتماع الكلمة. وعلى أي حال فإن الرواية الإسلامية تذكر لنا أن أهل قرطبة لبثوا مع النصارى في قتال شديد (¬2)، وهي لا تذكر لنا اسم الزعيم أو القائد الذي اجتمع حوله أهل قرطبة في تلك الآونة العصيبة، وإن كانت الرواية النصرانية تذكر لنا أنه كان يسمى أبا الحسن. وأما عن ابن هود، وهو صاحب الولاية الشرعية على قرطبة، فقد كان من الطبيعي أن يتجه إليه القرطبيون لإنجادهم والدفاع عن مدينتهم. وكان ابن هود في الواقع قد هرع في قواته من قطاع مرسية، حينما علم بالخطر الذي يحدق بعاصمة الخلافة القديمة. وكان في جيش قوي يبلغ نحو خمسة وثلاثين ألف مقاتل، ومعه نحو مائتي فارس من المرتزقة النصارى، فسار في قواته مسرعاً صوب قرطبة، وانحرف عن العاصمة قليلا نحو الجنوب الشرقي، وعسكر على مقربة من إستجة. وكان أهل قرطبة ينتظرون بفارغ الصبر مقدم ابن هود، واشتباكه مع النصارى في معركة فاصلة، ولم يكن ثمة ريب أن ابن هود لو اشتبك بجيشه مع القشتاليين، لحقت عليهم الهزيمة، ولتركوا ¬_______ (¬1) J. Gonzalez: ibid ; p. 76-78 ; M. Lafuente: Historia General de Espana ; T. IV. p. 43 (¬2) روض القرطاس ص 183.

المدينة المحصورة وشأنها. ذلك أن القشتاليين كانوا في قلة من العدد، ولم يكن مع ملك قشتالة سوى نحو مائتي فارس من الأشراف، ولم تكن الحشود الواردة من مختلف أنحاء قشتالة، تؤلف قوة ذات شأن. ولكن الذي حدث هو أن ابن هود لبث جامداً في قواته. وهنا تختلف الرواية في إيضاح سبب هذا الجمود. فيقال لنا إن قسوة الطقس، وهطل الأمطار بشدة، ونقص المؤن، حملت ابن هود على التريث والإحجام. ووردت في تاريخ ألفونسو الحكيم قصة أخرى، خلاصتها أنه كان يوجد في جيش ابن هود فارس قشتالى منفى بأمر مليكه يدعى لورنسو خواريز، ومعه مائتان من المرتزقة النصارى، وكان ابن هود يقربه ويثق به ويعمل بنصحه. فلما نزل ابن هود وجيشه في إستجة، وهو يعتزم مقاتلة القشتاليين، فكر هذا الفارس في أن يسترد رضى مليكه بخدمة عظيمة يؤديها إليه، وهو أن يعمل على خدعة ابن هود ورده عن مقاتلة القشتاليين، وإنجاد أهل قرطبة، فتظاهر بأنه سوف يتسلل إلى المعسكر النصراني تحت جنح الليل، ويقف على مبلغ عدده وعدته. وسار لورنسو بالفعل ليلا مع أصحابه إلى المعسكر النصراني، وترك أصحابه على مقربة من المعسكر، وتقدم بنفسه إلى خيمة الملك، وطلب مقابلته لأمر خطير، فاقتيد إليه، وكان الملك غاضباً عليه، فلما شرح إليه مهمته، وأنه يريد أن يعمل على خدعة ابن هود، وتخويفه من قوة الجيش القشتالي وعدده، ورده عن مقاتلته، عفا عنه الملك، ووعده برعايته، وتفاهم الإثنان على ما يجب عمله. وعاد لورنسو إلى ابن هود، وحذره بشدة من الاشتباك مع القشتاليين، لأنهم في جيش قوي، حسن الأهبة والعدد، ولا يؤمن الدخول معه في معركة، فاستمع ابن هود إلى نصحه، وقرر أن يتخلى عن مشروعه في إنجاد أهل قرطبة والاشتباك مع القشتاليين (¬1). هذا ما تقرره الرواية النصرانية عن السبب في إحجام ابن هود عن إنجاد أهل قرطبة. وتزيد الرواية النصرانية على ذلك، أن ابن هود تلقى في اليوم التالي رسالة من صاحب بلنسية أبي جميل زيان، ينبئه فيها، بأن خايمى ملك أراجون يشتد في مضايقته وإرهاقه، ويطلب إليه الإنجاد والغوث، وأن ابن هود عملا بنصح مستشاره لورنسو خواريز، قرر أن يسير إلى بلنسية، وقد كان يطمح إلى ¬_______ (¬1) Cronica General (Ed. Pidal) T. II. p. 782، وكذلك J. Gonzalez: ibid ; cit. Cronica Latina ; p. 78 y notas

امتلاكها، وأنه ترك قرطبة إلى مصيرها، مؤملا أن يصمد أهلها للدفاع عنها، إلى أن يستطيع هو انقاذها فيما بعد (¬1). على أن هذه الروايات النصرانية لا تلقى في نظرنا أي ضوء مقنع على تصرف ابن هود. ومن جهة أخرى فإن الرواية الإسلامية تكاد تلزم الصمت المطبق في هذا الموطن. وكل ما هنالك أن صاحب روض القرطاس، يقدم إلينا خلال حديثه عن حوادث سنة 633 هـ وبعد ذكره لسقوط قرطبة، نصاً موجزاً يقول فيه: " وفيها (أي في سنة 633 هـ) انعقد الصلح بين ملك قشتالة، وابن هود لأربعة أعوام بأربع مائة آلاف دينار في السنة " (¬2). ويبدو من هذا النص أن الهدنة، بين ابن هود وبين فرناندو الثالث، كانت قد انتهت أو انقطع سريانها، لتخلف ابن هود عن أداء الإتاوة المشروطة أو غير ذلك من الأسباب، وأن التخلى عن إنجاد قرطبة ربما كان ضمن شروط الهدنة الجديدة، التي يشير إليها صاحب روض القرطاس، وهذا ما يمكن أن يستدل كذلك من سير الحوادث تحت أسوار المدينة المحصورة. ذلك أن فرناندو الثالث شدد في حصار قرطبة، وقطع كل علائقها من جهة البر، ومن جهة الوادي الكبير، حتى لا تستطيع أن تتلقى أية مؤن أو أمداد من الخارج، وحتى لا يستطيع أن يدخلها أو يخرج منها أحد. واستمر هذا الحصار المرهق دون هوادة، حتى نضبت موارد المدينة وأقواتها أو كادت، وعندئذ اضطر أهل المدينة إلى مفاوضة ملك قشتالة في التسليم على أن يؤمنوا في أنفسهم، وفيما يستطيعون حمله من أموالهم، ووافق ملك قشتالة على هذا الشرط، ولكن أهل قرطبة علموا عندئذ أن الجيش القشتالي تنقصه المؤن، وأنه يعانى أيضاً من قلة الأقوات، فنكلوا عن توقيع عهد التسليم أملا في أن يضطر القشتاليون إلى رفع الحصار، وتنجو المدينة من السقوط. وعندئذ شعر ملك قشتالة أن لابن هود يداً في هذا التحول، فبعث في الحال إلى محمد بن الأحمر أمير جيان، وعقد معه عهداً جديداً بالتحالف، وقد كان ابن الأحمر بالرغم من عقد الهدنة مع ابن هود ما يزال هو خصمه، ومنافسه في رياسة الأندلس، وكان فوق ذلك خصيما لأهل قرطبة لأنهم طردوه من مدينتهم. وعندئذ شعر أهل قرطبة بخسران قضيتهم، وانهيار آمالهم، وعادوا إلى المفاوضة في التسليم، على شروطهم السابقة. وكان قد مضى على الحصار ¬_______ (¬1) Cronica General ; T. II. p. 783 (¬2) روض القرطاس ص 183.

بضعة أشهر، وأضحى الموقف مستحيلا، خصوصاً بعد أن نكل ابن هود عن إنجاد المدينة المحصورة، وأحجم عن كل اشتباك مع القشتاليين. وكان بعض الغلاة من صحب ملك قشتالة من الأحبار والأشراف، يرون رفض التسليم واقتحام المدينة، وقتل كل أهلها المسلمين، ولكن ملك قشتالة ومعه فريق آخر من مستشاريه، كان يرى أن هذا الإجراء قد يدفع أهل المدينة إلى اليأس، وتخريب المدينة، ومسجدها الجامع، وتحطيم سائر ذخائرها وثرواتها. والظاهر أيضاً أن ابن الأحمر، حليف ملك قشتالة أو تابعه، كان له يد في إقناعه بقبول التسليم، وتأمين أهل المدينة. وفي نفس الوقت عقدت بين ملك قشتالة، وابن هود هدنة جديدة، لمدة ستة أعوام يلتزم فيها ابن هود بأن يدفع إتاوة قدرها اثنين وخمسين ألف مرافيدى على ثلاثة أقساط سنوية (¬1). وهنا أيضاً، لا تقدم إلينا الرواية الإسلامية، أية تفاصيل شافية عن تسليم قرطبة ودخول النصارى إياها، وذلك حسبما فعلت بالنسبة لسقوط بلنسية، وكل ما تذكره في هذا الشأن كلمات موجزة، مثل " وتغلب عليها النصارى " أو " كان دخول النصارى مدينة قرطبة " أو " ملكها النصارى " أو ما شابه هذه العبارات من كلمات مقتضبة (¬2). وهنا أيضاً يجب أن نعتمد في ذكر هذه التفاصيل على الرواية النصرانية. فإنه ما كاد عهد التسليم يعقد بين أهل المدينة، وبين ملك قشتالة حتى ترك أهل قرطبة دورهم، وأوطانهم، وغادروا مدينتهم العزيزة التالدة، حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم، وقد برح بهم الجوع والحزن، وتفرقوا في أنحاء الأندلس الأخرى. وفي يوم الأحد الثالث والعشرين من شهر شوال سنة 633 هـ، الموافق 29 يونيه سنة 1236 م (¬3)، دخل الجند القشتاليون مدينة قرطبة، وفي الحال رفع الصليب على قمة صومعة جامعها الأعظم، ودخل أسقف أوسمة إلى الجامع، وحُول في الحال إلى كنيسة. وفي اليوم التالي، يوم الاثنين 30 يونيه دخل فرناندو الثالث ومن معه من الأشراف والكافة، قرطبة، ثم دخل الجامع، وهنالك استقبله أساقفة أوسمة، وبياسة، وقونقة، وسائر رجال الدين، وأقيم ¬_______ (¬1) J. Gonzalez: ibid ; p. 79 & 80 y notas (¬2) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة 302، والبيان المغرب ص 322، وابن خلدون ج 4 ص 171، وروض القرطاس ص 183، والروض المعطار ص 158، ونفح الطيب ج 2 ص 585. (¬3) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) ص 202.

في الحال قداس شكر بورك فيه الملك. ومما تذكره الرواية النصرانية في هذا الموطن، أن الملك فرناندو أمر بأن تنزع النواقيس التي كان الحاجب المنصور قد أخذها من كنيسة شنت ياقب (سنتياجو) حين غزوه لمدينة شنت ياقب في سنة 387 هـ (997 م) وحملها الأسرى النصارى على كواهلهم حتى قرطبة، وهنالك جعلت رؤوسا للثريات الكبرى بالجامع - أمر بأن تنزع هذه النواقيس، وأن يحملها الأسرى المسلمون على كواهلهم، إلى شنت ياقب، لترد هنالك إلى أمكنتها بالكنيسة الكبرى (¬1). ثم سار الملك بعد ذلك إلى قصر قرطبة، القريب، وهو قصر الأمراء والخلفاء الأمويين القدماء، ونزل فيه، وندب لحكم المدينة المفتوحة الدون تليو ألفونسو، وحشدت لحراسة المدينة حامية كافية من الفرسان، وأخذ النصارى يفدون إليها من سائر الأنحاء لسكناها وتعميرها، وفق الخطة التي وضعها الملك لذلك، وانصرف ملك قشتالة، عائداً إلى بلاده (¬2). وهكذا سقطت قرطبة، عاصمة الخلافة القديمة، وكبرى قواعد الأندلس، ومثوى العلوم والآداب الأندلسية، وذلك بعد أن حكمها المسلمون، منذ افتتاحها في سنة 92 هـ (711 م) خمسمائة وخمسة وعشرين عاماً، وبعد أن لبثت قرونا منارة ساطعة، تبث أضواء علومها وفنونها، في سائر أنحاء شبه الجزيرة، وفيما وراء جبال البرنيه. ومن الغريب المحزن، أن الرواية الإسلامية لا تكاد ترثى قرطبة إلا بمقتضب الكلم، وأن الشعر الأندلسي وكذلك النثر، لا يخصانها بشىء من تلك القصائد الرنانة المؤسية، وتلك الرسائل البليغة المبكية، التي يخصان بها قواعد مثل طليطلة، وبلنسية، وإشبيلية. وربما كان سبب ذلك أنه لم يكن ثمة بقرطبة، عند سقوطها، كتاب وشعراء مثل ابن الأبار، وأبي المطرِّف بن عميرة المخزومي، وإبراهيم بن سهل الإشبيلي. ومن الواضح أن سقوط قرطبة، كان نذيراً بخضوع معظم البلاد والحصون القريبة، لسلطان النصارى. ومع أن ملك قشتالة لم يضع يده نهائياً على تلك البلاد والحصون، إلا أنها خضعت جميعاً لطاعته، وتعهدت بأداء الجزية، والسماح بإقامة حاميات نصرانية بها. وكان من هذه البلاد والحصون، إستجة، والمدور، وإشتبة، وبيانة، وأجيلار (بلاى) ومرشانة وقبرة وأشونة، واللسانة، ومورور وغيرها. ¬_______ (¬1) Cronica General (Ed. Pidal) ; p. 734 (¬2) J. Gonzalez: ibid ; p. 80 & 81 y notas

- 3 - لما جددت الهدنة بين ملك قشتالة، وابن هود، وانتهت المأساة بتخلى ابن هود عن إنجاد قرطبة، لتسقط بعد ذلك بقليل في أيدي النصارى، غادر ابن هود في قواته مدينة إستجة. وليس في الرواية ما يبين لنا اتجاهه، وخط سيره في تلك الآونة. بيد أنه وجّه بعد ذلك بقليل، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 634 هـ، إلى نوابه وعماله في مختلف القواعد التي تدين بطاعته، كتابا يحثهم فيه على تقوى الله، ومراعاة أحكامه وحدوده، والاقتداء بالسلف الصالح، والحرص على صون الدماء، وحقنها، وعدم إراقتها إلا بمسوغ شرعى، واختيار المشرفين على الأموال من ذوى العفة والنزاهة والدين، لأن حرمة الأموال مشبهة بحرمة الدماء، وأن تكون معاملة الناس في الحق سواء، دون محاباة ولا مفاضلة، ولا مجاوزة في تغليب قوي على ضعيف، ولا يؤخذ أحد بجريمة غيره، وأن يجرى العمل باتباع أحكام كتاب الله، وأن يتلى كتابه هذا على الناس جملة وتفصيلا (¬1). ولسنا نعرف شيئاً عن حركات ابن هود وأعماله في الأشهر التالية، ولكنا ْنراه يتجه في قواته نحو ثغر ألمرية في أوائل سنة 635 هـ. وكانت ألمرية في مقدمة البلاد التي نادت بطاعته، ودعا له بها أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي يحيى الرميمى، وهو حفيد واليها السابق أبي يحيى الذي افتتحها النصارى من يده، في سنة 542 هـ، واستردها الموحدون بعد ذلك أيام الخليفة عبد المؤمن بن علي في سنة 552 هـ. ولما دعا أبو عبد الله لابن هود بألمرية، قصد إليه بمرسية، فولاه ابن هود وزارته، وصرف إليه أموره، فأبدى غيرة في خدمته، وأقنعه بأن يحصن ألمرية، وأن يجعل منها مثوى له، يلجأ إليه عند الحاجة، ثم تولى الرميمى شئون ألمرية، واستبد بها، ولبث أثيراً عند ابن هود وموضع ثقته، وكان يدعى بذى الوزارتين. وتختلف الرواية في أمر البواعث التي حدت بابن هود إلى أن يقصد إلى ألمرية بعد أن ترك قرطبة لمصيرها، فهناك قول بأنه كان يقصد السير بقواته إلى بلنسية لإنجاد صاحبها أبي جميل زيان، وأنه كان يزمع أن ينقل جنده بالسفن من ألمرية إلى بلنسية، وهذا قول الرواية النصرانية، متمشياً مع ما سبق ذكره من قولها، إن أبا جميل زيان بعث إلى ابن هود يستغيث به وهو في ¬_______ (¬1) أورد لنا صاحب البيان المغرب نبذة طويلة من هذا الكتاب (ص 332 - 335).

إستجة، وأن ابن هود قرّر أن يستجيب إلى هذا الصريخ، لأنه كان يطمح إلى امتلاك بلنسية. بيد أنه يبدو من الأرجح أن ابن هود كان يقصد إلى العمل، على توطيد سلطانه في المنطقة الجنوبية، خصوصاً وقد كانت غرناطة تضطرم يومئذ بالثورة عليه وتنادى بخلع طاعته، حسبما نبين بعد، وأنه سار إلى ألمرية أولا لينظم خطة العمل. ثم إن الرواية الإسلامية تقدم إلينا تعليلا آخر، هو أن ابن هود كانت له جارية إسبانية رائعة الحسن. من بنات الأشراف، وكان قد أودعها لدى الرميمى بألمرية خشية أن يتسرب خبرها إلى زوجته، فشغف بها الرميمى، واستأثر بها، فنمى ذلك إلى ابن هود، فسار إلى ألمرية، وهو يضمر معاقبة الرميمى، فلما وصل إلى ظاهر ألمرية، استقبله الرميمى بمنتهى الحفاوة ودعاه إلى قصره، ليقوم بحقه، وليجتمع هنالك بجاريته الحسناء، فقبل ابن هود دعوته، ولما حل بالقصر على مأدبة حافلة، كان ابن الرميمى قد دبر أمره للقضاء عليه متى جن الليل، فقيل إنه دس عليه بالحمام أربعة من رجاله قضوا عليه، وقيل إنه قتله خنقاً بمخدتين أقعدهما على نفسه وفيه. وهكذا لجأ الرميمى إلى الجريمة احتفاظا بسلامته وسلطانه. وفي صباح اليوم التالي أعلن وفاة ابن هود، وأنه توفي فجأة من صرع أصابه، ووضعت جثته في تابوت أرسل بحراً إلى مرسية، وكان مصرع ابن هود على هذا النحو في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 635 هـ (21 يناير 1238 م) (¬1). واستمر الرميمي على رياسته لألمرية فترة أخرى حتى انتزعها منه ابن الأحمر. وهكذا توفي محمد بن يوسف بن هود المتوكل، وهو في ذروة سلطانه، ومشاريعه، وانهارت بوفاته دولته التي لم يطل أمدها سوى تسع سنين وبضعة أشهر، والتي كانت تبشر حين قيامها، بعهد جديد من الإحياء والاستقرار يالنسبة للأندلس. وكانت ثورة ابن هود وحركته، رمزاً لتلك الأمنية القديمة، التي اتخذت من قبل شعاراً لمختلف الثورات التي قامت ضد المرابطين في نهاية عهدهم، والتي اضطلع بها محمد بن سعد بن مردنيش، في أوائل عهد الموحدين وهي العمل على تحرير الأندلس من نير حكامها الأجانب، وكان ابن هود في الوقت الذي يعمل فيه لتدعيم سلطانه، وزعامته، مخلصاً لدعوته، وغايته في ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 335 و 336، والمقرى في نفح الطيب ج 2 ص 581 و 582. ويقول ابن الأبار إن مصرع ابن هود وقع في السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 635 هـ (الحلة السيراء ص 249).

جمع كلمة الأندلس تحت لواء قومي جديد، والذود عما بقى من أراضيها وقواعدها ضد تيار الفتح النصراني، وكان الانحلال المؤلم الذي انتهت إليه الأندلس في أواخر عهد الموحدين، وتراخى الموحدين في الدفاع عنها، واهتمامهم بشئونهم الخاصة، واتخاذهم من الأندلس أداة للتطاحن والمساومة مع النصارى، تحقيقاً لمطامعهم الخاصة - كان ذلك كله مما يسبغ على حركة ابن هود ودعوته قوة، ورجحانا، ولكن ابن هود لم يكن بصفاته وموارده كفؤا للمهمة العظيمة، التي اضطلع بها، وكانت تعتور جهوده نفس المثالب القديمة، التي كانت تصدع دائماً من جهاد الزعماء الأندلسيين، والتي كانت تجتمع في مصانعة النصارى، ومساومتهم على حساب المصالح القومية. ولم يكن ابن هود أيضاً بالرغم من إخلاصه لقضية الأندلس، يتمتع بمثل تلك المواهب اللامعة التي كان يتمتع بها زميله ومنافسه محمد بن الأحمر، من الروية والدهاء وحسن السياسة، بل كان بالعكس حسبما يخبرنا ابن عذارى، بطبعه ملولا عجولا. وكان شجاعاً كريماً وفياً، متوكلا على الله، ولكنه كان قليل المبالاة بالأمور محدود الأفق، غير موفق في آرائه وخططه لتسرعه وغلبة الخفة عليه، ولقائه أعداءه دون روية واستعداد، فكان ذلك مما يعوق نجاحه في أحيان كثيرة (¬1). وإذا كانت الرسائل السلطانية، تلقى من جهة أخرى ضوءاً خاصاً على أخلاق ابن هود وسياسته، فإنا نستطيع أن نقول إنه كان يتجه في حكمه إلى توطيد العدل وقمع الظلم، والرفق بالرعية، وذلك بالاستناد إلى رسالته التي وجهها في سنة 634 هـ، إلى الولاة، يوصيهم فيها بالمحافظة على أحكام الشريعة، وتوخى الحق، والعمل على صون الدماء، والتحوط ضد قتل المسلم، وعزل العمال الظلمة غير الأمناء، وأن تطبق المساواة في الحق على الجميع (¬2)، وكذلك بالاستناد إلى رسالة أخرى كتبها عنه أبو عبد الله بن الجنان، إلى أحد ولاة المدن، يقول فيها إنه وقف على كتابه في طلب تحصين هذه المدينة وتأمينها، وأنه مع موافقته على ذلك، يهيب به أن برفع ما يقع بالناس من الحيف وضرر الخدمة، وأنه لابد من اتباع الرفق مع الناس، وإيثار العدل في معاملتهم (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 270، وأعمال الأعلام لابن الخطيب ص 278. (¬2) تراجع هذه الرسالة في البيان المغرب ص 332 - 335. (¬3) تراجع هذه الرسالة في صبح الأعشى ج 7 ص 34 و 35.

وكان لوفاة ابن هود وقع عميق في الأندلس، ولاسيما في الشرق مركز دعوته ومثوى رياسته. ولما وصل نبأ وفاته إلى مرسية، اجتمع أهلها على مبايعة ولده وولي عهده أبي بكر بن محمد بن يوسف بن هود، وكان أبوه قد اختاره حسبما تقدم لولاية عهده منذ سنة 629 هـ، ولقبه بالواثق، وأطاعته بلاد الشرق التي كانت تحت طاعة أبيه (¬1). ويقول لنا ابن الأبار من جهة أخرى، إنه لما توفي ابن هود، كان على رياسة مرسية أخوه علي بن يوسف الملقب بعضد الدولة (¬2). وعلى أي حال فإن رياسة بني هود لمرسية، لم يطل أمدها، حسبما نفصل بعد في موضعه. وأما في غربي الأندلس فقد كان لاختفاء ابن هود من الميدان صدى كبير في إشبيلية وكان من أثره أن وقع بالمدينة تحول جديد خطير، بعودها إلى طاعة الموحدين. ففي شوال سنة 635 هـ، أعلن أهل إشبيلية، بزعامة أبي عمرو بن الجد طاعتهم للخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد، وقدموا للولاية عليهم أبا عبد الله بن السيد أبي عمران، وكان قد لجأ مع أخويه أبي زيد وأبي موسى إلى إشبيلية، بعد أن قتل والدهم السيد أبو عمران في إفريقية، وأقاموا بها في ظل ابن هود. وسار إلى مراكش وفد من أهل إشبيلية ليقدم بيعتها إلى الخليفة، وأقر الخليفة السيد أبا عبد الله على ولايتها. وحدث مثل هذا التحول في ثغر سبتة، وكانت قد خلعت طاعة الموحدين منذ سنة 630 هـ، فلما مر وفد أهل إشبيلية في سفنه بها في طريقه إلى مراكش، قام أهلها أيضاً بإعلان طاعتهم للخليفة الرشيد، وبعثوا إلى مراكش وفداً لتقديم بيعتهم. وكان لهذا التحول الذي وقع بعود إشبيلية وسبتة، إلى طاعة الدولة الموحدية، رنة فرح واستبشار في مراكش، وأحيط مقدم الوفدين الإشبيلي والسبتى إلى الحاضرة بأعظم مظاهر الترحاب والتكريم، ومما زاد في ارتياح البلاط الموحدي، ما قام به أهل إشبيلية من القبض على عمر بن وقاريط زعيم هسكورة السابق، الثائر على الدولة الموحدية، وإرساله إلى المغرب، وكان بعد هزيمته، قد لجأ إلى إشبيلية، في ظل ابن هود (¬3). وسوف نعود إلى تفصيل ذلك في موضعه المناسب. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 377. (¬2) الحلة السيراء ص 250. (¬3) البيان المغرب - ص 337 و 339.

- 4 - وكان محمد بن يوسف بن الأحمر، خلال ذلك، يرقب الحوادث، فلما توفي ابن هود، أدرك أن الفرصة قد سنحت للعمل على اجتناء تراثه في الأندلس الوسطى، وهي التي كان ابن الأحمر يسيطر منها على المنطقة الشمالية، وكان مقصده الأول، مدينة غرناطة قاعدة المنطقة الجنوبية. وكان ابن هود قد ولّى عليها عتبة بن يحيى المغيلى، وكان عتبة رجلا فظا ظلوما جائراً، يبغض ابن الأحمر ويأمر بسبه على المنابر، فلما اشتدت وطأته على أهل المدينة، ثار عليه جماعة من أشرافها، بزعامة ابن خالد، واقتحموا القصبة والقصر في عصبتهم، وقتلوا عتبة، وأعلنوا طاعتهم لابن الأحمر، وبعثوا إليه يستدعونه، لتولى الرياسة عليهم، فكانت فرصة مواتية لابن الأحمر. فبادر بالسير إلى غرناطة في جمع من صحبه، ونزل بخارجها في البداية مبالغة في التحوط والطمأنينة. ثم دخلها من الغد عند مغيب الشمس، في يوم من أواخر رمضان سنة 635 هـ (أبريل سنة 1238 م) وهو يرتدى ثيابا خشنة وحلة مرقعة، وقصد إلى مسجد القصبة، وأم الناس لصلاة المغرب. ثم غادر المسجد إلى قصر باديس، والشموع بين يديه، ونزل فيه مع خاصته. وغدت غرناطة من ذلك اليوم حاضرته، ومقر حكمه، بدلا من جيّان، التي كان يهددها النصارى باستمرار (¬1). وما كاد ابن الأحمر يستقر في غرناطة، حتى اعتزم أن يسير إلى ألمرية لافتتاحها، وسحق ابن الرميمى وزير ابن هود وقاتله، فسار إليها في بعض قواته، وحاصرها من ناحية البر بشدة، ولبث على حصارها حينا، فلما رأى ابن الرميمى أنه لا أمل له في النجاة من مصيره، غادر ألمرية من جهة البحر، في مركب شحنه بأهله وأمواله، وسار إلى تونس، حيث لجأ إلى أميرها أبي زكريا الحفصى، واستقر بها تحت كنفه ورعايته (¬2). وكان استيلاء ابن الأحمر على ألمرية في أواخر سنة 635 هـ، وكانت قد أطاعته من قبل من القواعد الجنوبية شريش ووادي آش، ثم نادت بطاعته مالقة، في العام التالي (636 هـ)، وقدم إلى غرناطة وفد من أعيانها يقدم إليه بيعتها، وكانت من إنشاء أديبها الكبير ابن عسكر، فولاه ابن الأحمر قضاءها (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 336 و 337، واللمحة البدرية لابن الخطيب ص 35، وابن خلدون ج 4 ص 170، والذخيرة السنية ص 60. (¬2) البيان المغرب ص 337. (¬3) البيان المغرب ص 345.

وهكذا كانت ترتسم باستيلاء ابن الأحمر على غرناطة وألمرية ومالقة، حدود المملكة الإسلامية الجديدة، التي شاء القدر أن يكون هو منشؤها في شبه الجزيرة الأندلسية، والتي غدت غرناطة، مذ نزل بها، قاعدتها وحاضرتها. وكانت هذه الدولة الإسلامية الجديدة، وهي التي اجتمعت في ظلالها، أشلاء الأندلس المنهارة، والتي انكمشت أطرافها فيما وراء نهر الوادي الكبير جنوبا وشرقا، تحتل رقعة متواضعة، تمتد من جيّان وبياسة، وإستجة، جنوبا حتى البحر، وشرقا حتى ألمرية وبيرة، وغربا حتى مصب الوادي الكبير، ويخترقها من الوسط نهر شَنيل، ثم جبال سييرّا نفادا وهضبات البشرّات. على أن هذه المملكة الصغيرة وهي الدولة النصرية أو مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، كانت بالرغم من صغر رقعتها، وبالرغم من مواردها المحدودة، جديرة بأن ترث تراث الأندلس الكبرى، وقد شاء القدر أن تبقى في شبه الجزيرة الإسبانية، زهاء مائتين وخمسين عاما أخرى، مستودعا لعبقرية الأمة الأندلسية، وعلومها وفنونها، تحمل مشعل حضارتها وضّاء، في تلك الأوطان الأندلسية القديمة، وتضطلع في نفس الوقت، بذلك الكفاح القديم الخالد، ضد إسبانيا النصرانية، إلى أن تلقى مصرعها في النهاية أبية كريمة شهيدة. وبالرغم من توطد أمر ابن الأحمر، وتمكن سلطانه في الأقاليم الوسطى والجنوبية، فإنه لبث مدى حين يشعر بأنه مازالت تنقصه صفة الرياسة الشرعية. وقد رأينا فيما تقدم كيف عقد الصلح مع المتوكل ابن هود، واعترف بطاعته (631 هـ). فلما توفي ابن هود، اتجهت أنظاره إلى الانضواء تحت لواء الدولة الموحدية، وذلك بالرغم من انهيار سلطانها بالأندلس، وأعلن بيعته للخليفة الرشيد، وأخذ له البيعة على أهل غرناطة ومالقة وجيان وسائر البلاد التي كانت تحت طاعته، وبعت إلى الرشيد ببيعته، وذلك في سنة 637 هـ (1239 م). فتقبلها الرشيد بالشكر والرضى (¬1). واستمر على طاعته للخلافة الموحدية طوال خلافة الرشيد، وقنع الرشيد منه بالدعاء في الخطبة. ولكنه لما توفي الرشيد سنة 640 هـ، قطع دعوة الخلافة الموحدية، واتجه إلى الدولة الحفصية بإفريقية، وأعلن طاعته للأمير أبي زكريا الحفصى، وبعث ببيعته إلى تونس مع أبي بكر بن عياش شيخ مالقة، وأبي جعفر التنزولى، فبعث ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 355.

إليه الأمير أبو زكريا قدراً كبيراً من المال برسم المعاونة على الجهاد (¬1). واستمر ابن الأحمر على طاعته للدولة الحفصية ردحا طويلا من الزمن، وجدد بيعته بعد ذلك للأمير المستنصر ولد الأمير أبي زكريا، وذلك في سنة 664 هـ، وبعث إليه المستنصر بطريق البحر هدية وأموالاً (¬2). ولبث محمد بن الأحمر يعمل بهمة وإقدام، على توسيع مملكته وتوطيد سلطانه، ولكنه كان يشعر دائما بخطر النصارى، ويرقب حركات فرناندو الثالث ملك قشتالة في توجس وحذر. والواقع أن سائر القواعد الوسطى، ولاسيما جيان وأحوازها، قد أضحت منذ سقوط قرطبة، تحت رحمة القشتاليين. وكان فرناندو الثالث قد بعث بالفعل جيشاً بقيادة ولده ألفونسو، فعاث في منطقة جيان، واستولى على حصن أرجونة، موطن ابن الأحمر وقومه (بني نصر)، وعدة حصون ومواضع أخرى من أملاك ابن الأحمر، ثم زحف القشتاليون جنوبا صوب غرناطة ذاتها، وضربوا حولها الحصار، ولكنهم ردوا عن أسوارها بخسارة فادحة، وذلك في سنة 642 هـ (1244 م). وفي العام التالي عاد القشتاليون فزحفوا على مدينة جيان وحاصروها، ولكنها صمدت ضدهم مرة أخرى. فلما رأى ابن الأحمر تفاقم عدوان القشتاليين، وخطورة اندفاعهم نحو أراضيه، وأيقن أنه من العبث أن يبدد موارده وقواه في صراع لا تؤمن عواقبه، عول على أن يسلك سبيل المصانعة والتقرب من ملك قشتالة، وأن يشترى سلامه وسلام مملكته، بمهادنته والخضوع له. وقد لخصت لنا الرواية الإسلامية مجمل هذا الصلح، الذي عقد بين ابن الأحمر وبين ملك قشتالة، وذلك في أواخر سنة 643 هـ (فبراير 1246 م)، وخلاصته أن يعقد الصلح بينهما لمدة عشرين سنة، وأن يسلم ابن الأحمر لملك قشتالة مدينة جيان، وما يلحق بها من الحصون والمعاقل، وأن ينزل له عن أرجونة وبيغ والحجار وقلعة جابر وأرض الفرنتيرة، ولم تدخل في هذا الصلح مدينة إشبيلية، ولا مدينة شريش (¬3). وتزيد الرواية النصرانية على ذلك إن ابن الأحمر اعترف بمقتضى هذه المعاهدة بالطاعة لملك قشتالة على سائر ما يحكمه من الأراضي، وتعهد بأن يؤدي إليه جزية سنوية قدرها مائة وخمسون ألف ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 356. (¬2) الذخيرة السنية ص 125. (¬3) البيان المغرب ص 367، والذخيرة السنية ص 72 و 73، وابن خلدون ج 7 ص 190.

مرافيدي، وأن يعاونه في حروبه ضد أعدائه، وأن يشهد اجتماع الكورتيس (مجلس قشتالة النيابى) كل عام باعتباره من الأمراء التابعين للعرش (¬1). وهكذا استطاع ابن الأحمر أن يعقد السم مع ملك قشتالة القوي بهذا الثمن الفادح. بيد أنه استطاع في ظل هذا السلم، المشوب بكدر الخضوع والمهانة، أن ينصرف إلى العمل على توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتنمية مواردها. واستطاع ملك قشتالة من جانبه، أن ينصرف إلى فتوحاته في أراضي الأندلس التي لم يشملها هذا الصلح، وهي الواقعة في غربي مملكة غرناطة، وكانت أعظمها حاضرة إشبيلية قاعدة غربي الأندلس كله، وقد استولى عليها فرناندو الثالث في 27 رمضان سنة 646 هـ (23 نوفمبر 1248 م) بعد حصار طويل وذلك حسبما نفصل بعد في موضعه، وكان أشد ما في حوادث هذا الحصار إيلاما للنفس، هو أن ابن الأحمر اضطر أن يشترك فيه مع القشتاليين بقوة من فرسانه، تنفيذاً للعهد الذي قطعه على نفسه في معاهدة الصلح مع ملك قشتالة. وفي الرواية الإسلامية ما يدل على أنه كان في كل عام يسعى إلى الاجتماع بملك قشتالة، وفقاً لنصوص هذه المعاهدة، باعتباره من الأمراء الخاضعين لطاعته (¬2). وكان ابن الأحمر حينما شعر بتوطد سلطانه، واستقرار الأمور في مملكته، قد اختار لولاية عهده ولده الأمير أبا سعيد فرج بن محمداً بن يوسف بن نصر. ولكن هذا الأمير توفي في سنة 652 هـ (1254 م) (¬3) فلبثت ولاية العهد شاغرة نحو ثلاثة أعوام. ثم اختار ابن الاحمر لولاية عهده ولده محمداً الملقب بالفقيه، وذلك في سنة 655 هـ (1257 م)، وهو الذي خلفه بعد وفاته على عرش غرناطة (¬4). وفي سنة 659 هـ ساءت العلاقات بين ابن الأحمر وبين الفقيه أبي القاسم العزفى صاحب سبتة، لأسباب لم تذكرها الرواية، فسير ابن الأحمر سفنه لغزو سبتة. فخرجت من الجزيرة الخضراء بقيادة أمير البحر ظافر، ونفذت إلى مياه سبتة، ¬_______ (¬1) Cronica General (Ed. Pidal) Vol. 1 p. 746. وكذلك J. Gonzalez: ibid ; p. 95 (¬2) البيان المغرب ص 410. (¬3) الذخيرة السنية ص 88. (¬4) البيان المغرب ص 415.

وأخذت في مهاجمتها والتضييق عليها، فأمر العزفى قائد أسطوله أبا العباس الرنداحي أن يخرج في سفنه لردها. ووقعت بين الفريقين معركة بحرية، هزمت فيها السفن الأندلسية وقتل قائدها ظافر، وحملت رأسه إلى سبتة، وطيف بها، وسمى هذا العام في سبتة بعام ظافر (¬1). ثم هدأت الأحوال بعد ذلك، ولم يفكر ابن الأحمر في استئناف محاولته ضد سبتة. ولما اقترب أجل انتهاء معاهدة التهادن والسلم المعقودة بين ابن الأحمر ومملكة قشتالة، وقد عقدت حسبما تقدم في سنة 643 لمدة عشرين عاما، سار ابن الأحمر في أوائل سنة 662 هـ (1264 م) لمقابلة ملك قشتالة في إشبيلية، وهو يومئذ ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم، وكان قد خلف أباه فرناندو الثالث في الملك عقب وفاته في مايو سنة 1252 م، ليسعى لديه في تجديد المعاهدة. وكان معه صهراه الزعيمان أبو محمد وأبو اسحق ابنا أشقيلولة، وقوة من خمسمائة فارس. فخرج إليه ألفونسو ودعاه لزيارته داخل المدينة، فاستجاب ابن الأحمر، ودخل إشبيلية مع صهريه وثلة من فرسانه، ونزل بالعبادية من أحيائها. ولكنه سرعان ما نمى إليه أن النصارى، قد سدوا الدروب الموصلة إلى مكانه ليلا بالخشب المسمرة، وذلك لكي تعيق سير الخيل، فخشى البادرة على نفسه، وخرج في الحال مع صحبه، واقتحموا تلك الدروب، وغادر ابن الأحمر إشبيلية مغضباً، وقد شعر بنية الغدر والخيانة، ولم يقنع بما أبداه له ألفونسو من أعذار وإيضاحات. ومر في طريقه إلى غرناطة بشذونة (مدينة ابن السليم) (¬2)، وغيرها، وهو يوصى أهلها بالأهبة والتحرز من غدر النصارى، وكان هذا الحادث سبباً في فساد العلائق بين غرناطة وقشتالة (¬3). والواقع أن ابن الأحمر كان يعتزم في قرارة نفسه، أن ينتهز أول فرصة للتحرر من ذلك الغل المهين، الذي صفدته به معاهدته مع قشتالة، بيد أنه كان يرى من جهة أخرى أنه لا يستطيع بمفرده أن يناهض قوة قشتالة الضخمة المتزايدة. وقد كشف ألفونسو العاشر نفسه عن نيات قشتالة العدائية، بزحفه في نفس العام (662 هـ) على غرناطة ومضايقتها أياما (¬4). وبالرغم من أنه لم ينل منها مأربا، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 431. (¬2) شذونة أو مدينة ابن السليم هي بالإسبانية Medina Sedonia (¬3) البيان المغرب ص 437 و 438. (¬4) الذخيرة السنية ص 111.

فإن ابن الأحمر قد أخذ على ضوء هذه الحركة، يدرس وسائل المقاومة والصمود في وجه العدوان القشتالي. وكان تطور الحوادث في الأندلس شرقيها وغربيها، وتفاقم محنتها، وتوالى سقوط قواعدها في أيدي العدو، قد أخذ يحدث صداه قويا في الضفة الأخرى من البحر، في المغرب، حيث أخذ نجم الدولة المرينية يتألق، وتبدو ضخامة حشودها وقواتها ومواردها، مشجعة على الالتجاء إليها، وطلب إنجادها وغوثها. وكانت النجدات الأولى من متطوعي بني مرين قد أخذت تعبر إلى شبه الجزيرة، وفي مقدمتها جملة يقودها عامر بن إدريس بن عبد الحق، نزلت مدينة شريش وأخرجت النصارى من قصبتها (أواخر 662 هـ). وقامت في داخل المغرب حركة قوية للحث على إنجاد الأندلس وتداركها، قبل أن يفوت الوقت ويتم العدو القوي الإجهاز عليها، واشترك في هذه الحركة شعراء نظموا القصائد المبكية مثل أبي الحكم مالك بن المرحل، وعلماء أدباء توجهوا برسائلهم البليغة، مثل أبي القاسم العزفي صاحب سبتة (¬1). بيد أنه كان لابد أن تمضي بضع سنوات أخرى حتى تؤتى هذه الحركة ثمارها العملية، ويعبر بنو مرين بقواتهم الجرارة إلى شبه الجزيرة. وفي تلك الأثناء كان ابن الأحمر يعانى من عدوان القشتاليين وغاراتهم المتوالية. فلما تفاقم أمر هذه الغزوات، وزحف القشتاليون على غرناطة للمرة الثانية (664 هـ) ورأى ابن الأحمر أنه عاجز عن رد هذا البلاء، اضطر أن يتقدم خطوة أخرى، في سبيل طلب المهادنة والسلم، وأن يبذل لتحقيق هذه الغاية مزيداً من التضحية، فعقد مع ألفونسو العاشر ملك قشتالة في أواخر سنة 665 هـ (1267 م) معاهدة صداقة وسلم جديدة، نزل له بمقتضاها عن عدد كبير من البلاد والحصون، منها شريش والمدينة (مدينة شذونة) والقلعة وغيرها، وقيل إن ما أعطاه ابن الأحمر بمقتضى هذا الصلح لملك قشتالة من البلاد والحصون الإسلامية المسورة، بلغ مائة وخمس من بلاد غرب الأندلس (¬2). وقد أذكى هذا الانهيار الفادح لصرح الوطن الأندلسي، وما أصابه من فقد معظم قواعده التالدة، في نحو ثلاثين عاما فقط، لوعة الشعر والأدب، ونظم شاعر العصر، أبو الطيب صالح بن شريف الرندي، مرثيتة الشهيرة في رثاء الأندلس، وبكاء قواعدها الذاهبة، وهي قصيدة ماتزال إلى يومنا تهز أوتار القلوب أسى، وهذا مطلعها: ¬_______ (¬1) راجع كتابى " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، الطبعة الثانية ص 40 و 41. (¬2) الذخيرة السنية ص 125 و 127.

لكل شىء إذا ما تم نقصان ... فلا يُغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول ... من سره زمن ساءته أزمان (¬1) وقضى محمد بن الأحمر الأعوام الستة الباقية من حكمه، في توطيد مملكته وتنظيم شئونها، وتوفي في التاسع والعشرين من جمادى الثانية سنة 671 هـ (ديسمبر 1272 م) عقب جرح أصابه في معركة خاضها ضد جماعة من الخوارج عليه، وقد قارب الثمانين من عمره. وكان هذا الرجل العبقري، مؤسس مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، يتمتع بخلال باهرة، من الشجاعة والإقدام، والمقدرة، وشغف الجهاد، هذا إلى جم البساطة والتواضع. ويقدم إلينا ابن الخطيب مؤرخ الدولة النصرية عنه وعن خلاله هذه الصورة المؤثرة: " كان هذا الرجل آية من آيات الله في السذاجة، والسلامة والجمهورية، جنديا، شهماً، ثغريا أيداً، عظيم التجلد، رافضاً للدعة والراحة، مؤثراً للتقشف، والاجتزاء باليسير، متبلغاً بالقليل، بعيداً عن التصنع، جافى السلاح، شديد العزم، موهوب الإقدام، عظيم التشمير، محتقراً للعظمة، مصطنعاً لأهل بيته، فضاً في طلب حظه، حاميا لقرابته وأقرانه وجيرانه، مباشراً للحروب بنفسه، تتغالى الحكايات في سلاحه وزينة ديابوزه، يخصف النعل، ويلبس الخشن، ويؤثر البداوة، ويستشعر الجد في أموره " (¬2). وقد رأينا أن نكتفى هنا بما تقدم من الشذور الموجزة عن قيام مملكة غرناطة، وعن حياة منشئها العبقري محمد بن الأحمر. ذلك أننا قد سبق أن تناولنا قصة مملكة غرناطة، وقصة بنائها كاملة، في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، وكان جل غايتنا في كتابنا الحالى أن نصل بتاريخ الأندلس إلى حيث بدأنا بتاريخ مملكة غرناطة. ¬_______ (¬1) راجع هذه القصيدة بأكملها في الذخيرة السنية ص 127 - 129، وفي نفح الطيب ج 2 ص 594 و 595، وفي أزهار الرياض ج 1 ص 47 - 50. وراجع كتابى " نهاية الأندلس " ص 53 هامش. وفي ترجمة الرندي ص 438 و 439. (¬2) كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة (المطبوع) ج 2 ص 61.

الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق

الفصل الثالث سقوط بلنسية وقواعد الشرق أبو جميل زيان يوطد سلطانه في بلنسية. استيلاؤه على دانية. خروجه لغزو أراضي أراجون. مشروع ملك أراجون لافتتاح بلنسية. إعلانه الصفة الصليبية لهذا الفتح. بداية حرب بلنسية. استيلاء الأرجونيين على آرش. انضمام السيد أبي زيد لجيش الغزو الأرجونى. حصار ملك أراجون لبريانة وأخذها. استيلاؤه علي بنشكلة وعدة حصون أخرى. سقوط قسطلونة. سقوط مونكادة ومشروس. حصن أنيشة وأهميته. هدمه واحتلال الملك خايمى لموقعه. تأهب زيان لمدافعته. موقعة أنيشة. هزيمة المسلمين ومصرع كثير من علمائهم. مصرع أبي الربيع سليمان كبير علماء الأندلس. رثاء ابن الأبار له. تعجيل خايمى بالاستعداد لفتح بلنسية. اجتماع الكورتيس وحشد الجنود. مسيره في قواته صوب بلنسية. تسليم حصون بلنسية الأمامية. تضخم جيش الفتح. حشود الأحبار والمتطوعة. محاصرة خايمى لبلنسية. سوء الأحوال داخل المدينة. اعتزام المقاومة. استنجاد زيان بالقواعد القريبة. اتجاهه إلى الاستنصار بأمير إفريقية. إرساله كاتبه ابن الأبار سفيراً إليه. قصيدة ابن الأبار في صريخ الأندلس. اهتمام الأمير أبي زكريا. إرساله أسطولا لإنجاد بلنسية. عجز هذا الأسطول عن الاتصال بالمدينة المحصورة. تفريغه لشحنته في دانية. اشتداد محن الحصار على بلنسية. اضطرار زيان إلى المفاوضة في التسليم. لقاؤه للملك خايمى. ما كتبه ابن الأبار عن وصف اللقاء وشروط التسليم. ما تقوله الرواية النصرانية في ذلك. جلاء المسلمين عن بلنسية. خايمى الفاتح وأكابر الأحبار يدخلونها. خواطر عن سقوط بلنسية. سقوطها يذكى فجيعة الشعر والنثر. شىء من رثاء ابن الأبار. بعض ما قاله أبو المطرف بن عميرة. شىء من نظمه في ذلك. قصيدة أخرى موجهة إلى أمير إفريقية. مرسوم الخليفة الرشيد بالتصريح لأهل بلنسية وقواعد الشرق بالنزول في رباط الفتح. مسير الأمير زيان إلى جزيرة شقر ثم إلى دانية. نزوح ابن الأبار إلى تونس. اتجاه زيان إلى مرسية. أحوال مرسية بعد وفاة ابن هود. أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن خطاب ينتزع رياستها. استدعاء بعض أهلها لزيان. قدومه إلى مرسية. قبضه على ابن خطاب وإعدامه. دعوته لأمير إفريقية. رسالته إلى الأمير في ذلك. استخدامه لابن عميرة في منصب الكتابة. محاولة عقد السلم مع ملك قشتالة. خروج محمد ابن هود عليه. مغادرة زيان لمرسية والتجاؤه إلى لقنت. سقوطها في أيدي الأرجونيين ونزوحه إلى إفريقية. استيلاء الأرجونيين على دانية وشاطبة. نقضهم للهدنة مع أهل شاطبة وإجلاؤهم عنها. اتفاق محمد بن هود وأهل مرسية على التفاهم مع النصارى. إرسالهم سفيرا إلى ملك قشتالة يعرض الاعتراف بطاعته. قبول ملك قشتالة والتفاهم على التسليم. مسير ولى عهد قشتالة وتسلمه مرسية صلحاً. احتلال النصارى لمرسية وبعض حصونها. احتفاظ لورقة ومولة وقرطاجنة باستقلالها. استمرار محمد ابن هود في حكم مرسية ومن بعده ولده أحمد. تعليل هذه الظاهرة. ثورات المدجنين في بلنسية واشتداد ساعد مملكة غرناطة. ثورة أبي بكر بن هود الواثق. انتزاعه لحكم مرسية. محاولته أن يخلع نير النصارى.

يعلن طاعته لابن الأحمر. رواية ابن عذارى. تفاهم ملكى قشتالة وأراجون على قمع ثورة مرسية. مسير خايمى إلى مرسية ومحاصرتها. اضطرار الواثق إلى التسليم. سقوط سائر قواعد الشرق في أيدي النصارى. قيام مجتمع المدجنين. - 1 - نعود الآن إلى شرقي الأندلس لنتابع ما وقع فيه من الأحداث، وذلك منذ اضطرمت الثورة في بلنسية، وقام بها أبو جميل زيان بن مدافع بن مردنيش الجذامى، عقب انسحاب واليها الموحدي السيد أبي زيد بن أبي عبد الله محمد، وانهيار سلطان الموحدين بالشرق. وقد ذكرنا فيما تقدم، كيف لجأ السيد أبو زيد إلى ملك أراجون خايمى الأول، وانضوى تحت حمايته، وعقد معه معاهدة، يتعهد فيها بأن يسلمه جزءاً من البلاد والحصون التي يستردها بمعاونته، وكيف انتهى به الأمر بأن اعتنق دين النصرانية، واندمج في القوم الذين لجأ إلى حمايتهم، وأخذ من ذلك الحين يصحبهم في غزواتهم للأراضي الإسلامية. وكان ذلك في سنة 626 هـ (1230 م)، قبل أن يسير الملك خايمى إلى غزو الجزائر الشرقية بقليل. ثم كان غزو الجزائر، وافتتاح ميورقة في العام التالي سنة 627 هـ (1231 م)، ثم افتتاح يابسة، وسيطرة الأرجونيين على الجزائر، وذلك في سنة 632 هـ (1234) م. في تلك الأثناء كان أبو جميل زيّان أمير بلنسية يعمل على توطيد سلطانه في في بلنسية وأحوازها. وكانت دانية من أملاك ابن هود، وعليها وال من قبله هو الأديب الشاعر أبو الحسن يحيى بن أحمد بن عيسى الخزرجى، وهو والي شاطبة في نفس الوقت (¬1)، فانتزع زيان منه دانية، وولّى عليها ابن عمه محمدا ابن سبيع بن يوسف بن سعد الجذامى (¬2). ولم يكتف زيّان بالعمل على توسيع أملاكه على هذا النحو، ولكنه اعتزم في نفس الوقت أن ينتقم لما قام به النصارى من غزوات مخربة، في أراضي بلنسية، ولاسيما بتحريض السيد أبي زيد واليها المخلوع، وكانت الظروف تتيح له يومئذ أن يحقق بغيته، إذ كان ملك أراجون مشغولا بافتتاح ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 249. (¬2) الحلة السيراء ص 255.

الجزائر، وتوطيد سلطانه بها، ولم يترك في قواعد الحدود سوى حاميات ضئيلة، ومن ثم فقد خرج زيان بقواته شمالا، وقام بالعيث في أراضي أراجون على طول الشاطىء حتى ثغر طرطوشة، واستاق غنائم وأسرى (¬1). وكان هذا الاعتداء يحز في نفس ملك أراجون، وهو يزمع أن يرده مضاعفاً في أول فرصة. وما كاد ملك أراجون ينتهي من افتتاح الجزائر، حتى أخذ يضع خطته لافتتاح الثغر الإسلامي العظيم بلنسية، وكان يقتضى لنجاح ذلك المشروع أن يستولي ملك أراجون على سائر القواعد الأمامية لإقليم بلنسية، حتى يستطيع أن يعزل بلنسية، وأن يحرمها من كل وسائل الدفاع. وكان ملك أراجون يرى أن ظروف بلنسية، ومواردها المحدودة، وما يضطرم بين الزعماء المسلمين في شرقي الأندلس من خلاف، مما يعاون على تحقيق أمنيته، ولكنه كان يرى في نفس الوقت أن يستعد لهذا المشروع بكل ما يستطيع، وأن يسعى لتتويجه بالصفة الصليبية. وقد استجاب البابا جريجورى التاسع لمسعى ملك أراجون، وأصدر مرسومه بإسباغ الصفة الصليبية، على مشروع فتح بلنسية، وأعلن أمر هذه الحرب الصليبية الجديدة في مونتشون، وهرع إلى لوائها كثير من الفرسان والسادة، ولاسيما جماعة الأسبتارية، ووافق القطلان على سن ضريبة الماشية العينية، مساهمة في نفقات الحرب. وبدأت حرب بلنسية في أوائل سنة 1233 م (أواخر سنة 631 هـ) وخرجت جماعات من الجيش الأرجونى وتفرقت في أراضي إقليم بلنسية الشمالية، وبدأت بالاستيلاء على بلدة آرش، ثم استولت على بلدة مورلة وهي أقصى بلاد بلنسية الشمالية. وكان الملك خايمى يومئذ في طرويل. وكان يصحبه في هذه الغزاة السيد أبو زيد والي بلنسية المتنصر باسم بثنتى، وأستاذ الفرسان الأسبتارية هوجو دي فولكاركير، ودون بلاسكو دي ألاجون، وهو أرجونى عاش طويلا في بلنسية، وخدم واليها الموحدي، وكان يجيد العربية، ويعرف أحوال المسلمين. وكان السيد أبو زيد، قد استقر في منطقة طرويل، في طاعة ملك أراجون وتحت حمايته، على أن يعاونه بنفسه وصحبه ضد المسلمين. وكانت أول قاعدة هامة من إقليم بلنسية قصد إليها ملك أراجون هي بلدة برّيانة، الواقعة على البحر على مقربة من شمال بلنسية، فضرب الأرجونيون حولها الحصار، بعد أن خربوا ضياعها وزروعها القريبة، واشترك في الحصار ¬_______ (¬1) A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 628

عدد من الأشراف، وفرسان الداوية، والأسبتارية، وقلعة رباح. وكانت برّيانة تتمتع بحصانة فائقة، وقد استعد أهلها المسلمون للدفاع عنها بشدة. وضرب الأرجونيون البلدة بالآلات، وحاولوا اقتحامها غير مرة، وهي صامدة، واستمر الحصار زهاء شهرين، حتى نضبت مواردها وأقواتها، واضطر المسلمون في النهاية إلى التسليم وذلك في شهر يوليه سنة 1233 م. ثم استولى الأرجونيون بعد ذلك على قلعة بنشكلة Peniscola صلحاً، ووعد أهلها المسلمون بأن يبقوا على دينهم وشريعتهم، ثم تلتها في التسليم عدة حصون وأماكن منها شفيت، وبريول، وكويفاس، والمصورة، وغيرها من القرى والضياع، الواقعة على ضفة نهر شقر، واستولى الأرجونيون في نفس الوقت على ثغر قسطلونة الهام الواقع على مقربة من شمالي برّيانة، وكان سقوطه في أيدي النصارى أمراً محتوماً بعد استيلائهم على برّيانة، وكان لسقوط هذين الثغرين نتائج هامة، إذ كانا لقربهما من بلنسية يصلحان قواعد لتموين الجيوش الغازية. ونفذ ملك أراجون بعد ذلك في قواته الخفيفة إلى فحص بلنسية ذاته، واستولى على بعض قلاع هذه المنطقة ومنها قلعتا مونكادة ومشروس القريبتين من شمالي بلنسية ذاتها. ووقعت هذه الفتوح الأرجونية كلها في سنة 1234 م (632 - 633 هـ) (¬1). ووقف مشروع غزو بلنسية عند هذه المرحلة الأولى من الاستيلاء على معظم المواقع والثغور القريبة من بلنسية، وعاد ملك أراجون إلى بلاده ليعنى ببعض الشئون الداخلية والعائلية. ومضى نحو عامين، لم تقع خلالهما في إقليم بلنسية سوى بعض غارات أرجونية صغيرة. ولكن ملك أراجون لم ينس خلال مشاغله الداخلية، مشروع فتح بلنسية، ولم ينقطع عن أن يوليه اهتمامه المستمر، وكان يتوق بالأخص إلى أن يحتل حصن أنيشة أو أنيجة المنيع الواقع على مقربة من شمالي بلنسية، على سبعة أميال منها، وهو من أهم حصونها الأمامية، وكان يقع على ربوة عالية تزيد موقعه مناعة، ويشرف على مرج بلنسية وحدائقها (¬2)، وكان الأمير زيّان قد ¬_______ (¬1) M. Lafuente: Historia General de Espana T. IV. p. 82 & 83 (¬2) يسمى الإدريسي هذا الحصن بأنيشة (طبعة دوزى ص 191) وكذا يسميه ابن الأبار (التكملة رقم 1991)، وابن عبد الملك المراكشي في " الذيل والتكملة " (مخطوط الإسكوريال 1684 الغزيري) ويسميه أبو المطرف بن عميره " أنيجة " (الروض المعطار ص 49) وكذلك =

خريطة: قطاع بلنسية ومرسيه ومواقع الفتوحات الأرجونية 636 - 664 هـ = 1238 - 1266 م.

فطن إلى أهبة هذا الحصن، وخطورة سقوطه في أيدي النصارى، فأمر بهدمه، ولكن الملك خايمى أصر مع ذلك على احتلال موقعه، فسار في جيشه من قلعة أيوب، ومعه السيد أبو زيد أمير بلنسية المتنصر، وهاجم أنيشة وهزم المسلمين الذين تصدوا لمقاومته، واحتل المكان، وابتنى فوق نفس الربوة حصناً جديداً منيعاً، ووضع به حامية عهد بقيادتها إلى خاله دون برناردو دي انتنزا، واتخذ الأرجونيون من هذا الحصن قاعدة للعيث والإغارة في مختلف نواحي إقليم بلنسية. وشعر زيّان بخطر وجود الحامية الأرجونية في هذا المركز الدقيق المهدد لسلامة المدينة، فصمم على انتزاعه من أيديهم، وحشد جيشاً قوياً تقدره الرواية النصرانية بستمائة فارس وأربعين ألف راجل، وهو تقدير واضح المبالغة، وسار في قواته نحو تل أنيشة، ونشبت بين المسلمين والأرجونيين في ظاهر أنيشة معركة عنيفة، قاتل الفريقان فيها بشجاعة، وانتهت بأن أصيب المسلمون بهزيمة فادحة، وقتل منهم جملة كبيرة، وكان بين القتلى عدد كبير من علماء بلنسية ووجوهها وصلحائها، وفي مقدمتهم كبير علماء الأندلس ومحدثيها يومئذ، أبو الربيع سليمان بن موسى ابن سالم الكلاعى، وهو فوق علمه وأدبه الجم جندى وافر الشجاعة والجرأة، كان يشهد معظم الغزوات، ويشترك في القتال، وكان في موقعة أنيشة يتقدم الصفوف، وهو يقاتل بشجاعة، ويحث المنهزمين على الثبات، ويصيح بهم " أعن الجنة تفرون " حتى قتل. ورثاه ومن سقط معه، من علماء بلنسية، وهم نحو سبعين، تلميذه الكاتب المؤرخ، أبو عبد الله بن الأبار القضاعى، وكان إلى جانب مخدومه الأمير زيان في الموقعة، بقصيدته الشهيرة التي مطلعها: ألما بأشلاء العلا والمكارم ... تقد بأطراف القنا والصوارم وعوجا عليها مأربا وحفاوة ... مصارع غصت بالطلى والجماجم تحيي وجوها في الجنان وجيمة ... بما لقيت حُمراً وجوه الملاحم ووقعت نكبة أنيشة في يوم الخميس عشرين من ذي الحجة سنة 634 هـ (14 أغسطس سنة 1237 م). وكانت هزيمة المسلمين الفادحة فيها على هذا النحو ¬_______ = المقري (نفح الطيب ج 2 ص 584) ويسميه ابن خلدون " أنيسة " (ج 6 ص 283) والغزيري أنيشة (الفهرس ج 2 ص 115). وتسميه الرواية الإسبانية Puig de Cebolla ( تل البصل). أو Puig de Sta Maria ( تل شنتا مارية).

نذيراً بانهيار قوي بلنسية الدفاعية، نذيراً بأن مصير بلنسية ذاتها، قد بت فيه، وأن النهاية قد أضحت وشيكة الوقوع (¬1). - 2 - وكانت أسباب المرحلة الثانية والأخيرة من افتتاح بلنسية تتهيأ وتدنو بسرعة. وكان سقوط قرطبة، قبل ذلك بأكثر من عام، في يد فرناندو الثالث ملك قشتالة، وتغلبه على معظم المنطقة الشمالية من الأندلس الوسطى، مما يدفع خايمى إلى التعجيل بفتح بلنسية خشية أن يمتد زحف القشتاليين إلى تلك المنطقة، ويقع الخلاف بين المملكتين، وذلك بالرغم من أن أراجون، قد اختصت بمقتضى معاهدة كاسولا Cazola، المعقودة مع قشتالة منذ سنة 1179 م، بافتتاح قطاع بلنسية. وكان مما يشجع خايمى على هذا التعجيل، ثقته في أن همم المسلمين الدفاعية قد خبت من جراء موقعة أنيشة، وأن مواردهم قد تضاءلت. وكان هذا شعور البلنسيين أنفسهم، حسبما يعبر لنا عنه كاتب بلنسية المبدع أبو المطرف ابن عميرة في إحدى رسائله المبكية عن سقوط بلنسية (¬2). ثم جاءت وفاة ابن هود في جمادى الأولى سنة 635 هـ (يناير 1238)، عقب موقعة أنيشة بقليل، لتزيد من ثقة خايمي، بأنه لم يبق ثمة أمل لأهل بلنسية في أن يأتيهم الإنجاد من أية جهة أندلسية. ومن ثم فقد عكف خايمي على إعداد عدته لهذا الفتح. وكان قد عقد الكورتيس في مونتشون لكي يوافق على ضريبة المرافيدى Matavedi، وهي ضريبة تؤدى مرة كل سبعة أعوام، واستمر في أهبته حتى جهزت الحشود التي اعتزم أن يسيرها لافتتاح بلنسية، وهي حشود قليلة حسبما يتضح من أرقامها بعد. ووصله أثناء ذلك نبأ وفاة خاله دون برناردو قائد حامية أنيشة، وكان بعض مستشاريه يرى أن يترك هذا الموقع، ولكنه أصر على الاحتفاظ به، وعين ولد المتوفى مكانه لقيادة حاميته، وكانت تتألف من خمسين فارساً. ولما أتم خايمي أهباته، أقسم بين يدي الأشراف والقادة، أنه سوف يسير ¬_______ (¬1) راجع في موقعة أنيشة: ابن الأبار في التكملة (الأندلسية) رقم 1991 (ج 2 ص 709)، وابن عبد الملك في "الذيل والتكملة" (مخطوط الإسكوريال 1682 في ترجمة أبي الربيع بن سالم)، وابن خلدون ج 6 ص 283، ونفح الطيب ج 2 ص 586، وكذلك في: M. Lafuente ; ibid. T. IV. p. 84 (¬2) الروض المعطار ص 49.

إلى فتح بلنسية، وأنه لن يعود إلى المرور بطرويل أو عبور نهر طرطوشه (نهر إيبرو) قبل أن تسقط بلنسية في يده، وأنه تأكيدا لذلك سوف يصحب معه الملكة والأميرة ابنته (¬1). وفي شهر مارس سنة 1238 م، خرج خايمى في قواته متجهاً إلى الجنوب صوب بلنسية، ووصلته أثناء مسيره رسائل من معظم الحصون الإسلامية القريبة من بلنسية تعلن الدخول في طاعته، وفي مقدمتها المنارة، ونوليس، وبطرنة، وبوليا، وأوشو، وغيرها. ولم تكن قوات ملك أراجون، عند مسيره، تعدو بضع مئات من فرسان الداوية والأسبتارية وقلعة رباح، والفرسان الملكيين، وبضع آلاف من الرجّالة، ولكن هذا الجيش تضخم فيما بعد أمام بلنسية، بمن انضم إليه من أشراف وأحبار أراجون وقطلونية وأجنادهم العديدين، ومن حشود الحرس الوطنى ببرشلونة، وحشود المتطوعين الفرنسيين بقيادة مطران أربونة، وكانوا جماعة كبيرة من الفرسان، ونحو ألف من المشاة. وقد جاء معظم هذه القوات بطريق البحر، وانضمت كلها إلى الجيش الفاتح. وعول الملك خايمى على أخذ بلنسية بالحصار، فطوقها أولا بالقوات التي جاءت معه، وضرب محلته بين المدينة، وبين خليج جراو (الميناء). ولما انثالت الأمداد، وحشود المتطوعة على الجيش الأرجوني، شدد في إحكام الحصار حول المدينة، وقطع علائقها مع الخارج. وتقدر الرواية النصرانية عدد القوات التي اشتركت في حصار بلنسية بعشرة آلاف فارس، وستين ألف راجل. وكانت هذه القوات تمون بسهولة، عن طريق البحر من ثغور بنشكلة وبرّيانة وقسطلونة، وقد افتتحها الأرجونيون قبل ذلك بقليل. وبدأ حصار بلنسية في الخامس من شهر رمضان سنة 635 هـ (أبريل سنة 1238 م) (¬2) وشدد النصارى في التضييق على المدينة المحصورة، وبدأوا يضربونها بالآلات المخربة. وكانت بلنسية، مذ هزمت قواتها، وسقط أبناؤها في موقعة أنيشة، قبل ذلك بأشهر قلائل، قد ساءت أحوالها، وانهارت قوي شعبها المعنوية وأخذت تتوقع سوء المصير. بيد أنه لما ظهر النصارى تحت أسوارها، وبدت طلائع المعركة الأخيرة، اعتزم البلنسيون أن يدافعوا عن مدينتهم حتى آخر رمق. ولم يكن أميرهم أبو جميل زيان أقل عزماً منهم في مدافعة النصارى، فوجه بعض ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; cit. Hist. del Rey don Jaime, T. IV. p. 85 (¬2) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة رقم 303.

خريطة: مواقع حصار بلنسية 635 هـ - 1238 م.

رسله إلى القواعد الإسلامية القريبة في طلب النجدة والإمداد. وكان رسوله إلى مرسية الفقيه المتصوف محمد بن خلف بن قاسم الأنصارى (¬1). بيد أن زيان لم يقف عند هذا الاستمداد المحدود. ذلك أنه في تلك الآونة العصيبة، قد اتجه وجهة أخرى أوسع آفاقاً وأجدى أملا، اتجه إلى إخوانه المسلمين، في الضفة الأخرى من البحر، ولم يكن ذلك الاتجاه يومئذ إلى أولئك الموحدين، الذين عبروا البحر قبل غير مرة لإنجاد الأندلس، إذ كانت دولتهم بالمغرب تجوز مرحلة الانحلال الأخير، ولكن إلى تلك الدولة الفتية، التي قامت في وسط الضفة الأخرى من البحر، إلى دولة بني حفص بإفريقية، وإلى عميدها ومنشئها الأمير أبي زكريا يحيى ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص، وكانت قد أخذت تلفت الأنظار بقوتها وثرائها، واتساع مواردها. وبعث زيان إلى أمير إفريقية سفارة على رأسها وزيره وكاتبه العلامة الشاعر والمؤرخ الكبير أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن أبي بكر بن الأبار القضاعى، يحمل إليه بيعته وبيعة أهل بلنسية، وصريخه بسرعة الغوث والإنجاد قبل أن يفوت الوقت. ولما وصل ابن الأبار إلى تونس، مثل بين يدي سلطانها الأمير أبي زكريا الحفصى، في حفل مشهود، وألقى قصيدته السينية الرائعة التي اشتهرت في التاريخ، كما اشتهرت في الشعر، يستصرخه فيها لنصرة الأندلس ونصرة الدين، وهذا بعض ما جاء فيها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل منك عز النصر ملتمسا وحاش مما تعانيه حشاشتها ... فطال ما ذاقت البلوى صباح مسا يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا ... للنائبات وأمسى جدّها تعسا في كل شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا وكل غاربه إجحاف نائبة ... تثنى الأمان حذاراً والسرور أسى تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النفسا مدائن حلها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا وصيرتها العوادى العابثات بها ... يستوحش الطرف ضعف ما أنسا ¬_______ (¬1) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة رقم 167.

فمن دساكر كانت دونها حرسا ... ومن كنائس كانت قبلها كُنسا يا للمساجد عادت للعدا بيعاً ... وللنداء غدى أثناءها جرسا كانت حدائق للأحداق مونقة ... فصوح النصر من أدواحها دعسا وحال ما حولها من منظر عجب ... يستجلس الركب أو يستركب الجلسا فأين عيش جنيناه بها خضرا ... وأين عصر جليناه بها سلسا محا محاسنها طاغ أتيح لها ... ما نام عن هضمها حينا ولا نعسا ورج أرجاءها لما أحاط بها ... فغادر الشم من أعلامها خنسا خلا له الجو فامتدت يداه إلى ... إدراك ما لم تطأه رجلاه مختلسا وأكثر الزعم بالتثليث منفردا ... ولو رأى راية التوحيد ما نبسا صل حبلها أيها المولى الرحيم فما ... أبقى المراس لها حبلا ولا مرسا وأحى ما طمست منها العداة كما ... أحييت من دعوة المهدي ما طُمسا أيام صرت لنصرة الحق مستبقا ... وبثّ من نور ذاك الهدى مقتبسا وقمت فيها بأمر الله منتصرا ... كالصارم اهتز أوكالعارض انبجسا هذى رسائلها تدعوك من كثب ... وأنت أفضل مرجو لمن يئسا وافتكّ جاريةً بالنجع راجية ... منك الأمير الرضا والسيد الندسا ومنها: ملك تقلدت الأملاك طاعته ... دينا ودنيا فغشاها الرضا لبسا من كل غاد على يمناه مستلما ... وكل صاد إلى نعماه ملتمسا قد نور الله بالتقوى بصيرته ... فما يبالى طروق الخطب ملتبسا من ساطع النور صاغ الله جوهره ... وصان صيقله أن يقرب الدنسا إن السعيد أمرؤ ألقى بحضرته ... عصاه محتزماً بالعدل محترسا وفي ختامها: يا أيها الملك المنصور أنت لها ... علياء توسع أعداء الهدى تعسا وقد تواترت الأنباء أنك من ... يحيى بقتل ملوك الصفر أندلسا طهر بلادك منهم إنهم نجس ... ولا طهارة مالم تغسل النجسا وأوطىء الفيلق الجرار أرضهم ... حتى يطأطأ رأسا كل من رأسا وانصر عبيداً بأقصى شرقها شرقت ... عيونهم دمعا تهمى زكا وخسا

هم شيعة الأمر وهي الدار قد نهكت ... داء متى لم تباشر جسمها انتكسا فاملأ هنيئاً لك لتمكين ساحتها ... جردا سلاهب أو خطية دعسا واضرب لها موعدا بالفتح ترقبه ... لعل يوم الأعادى قد أتى وعسا (¬1) وكان لهذه القصيدة المبكية، التي مازالت تحتفظ حتى يومنا برنينها المحزن، والتي كانت كأنها نفثة الأندلس الجريح، أبلغ الأثر في نفس الأمير أبي زكريا الحفصى، فبادر بتجهيز أسطول شحنه بالسلاح والأطعمة والكسى والأموال، يتألف من اثنتى عشرة سفينة كبيرة، وست صغيرة، وعهد بقيادته إلى أبي يحيى ابن يحيى بن الشهيد ابن إسحق ابن أبي حفص الكبير، وتقدر الرواية الإسلامية قيمة ما شحن بهذا الأسطول بمائة ألف دينار من الذهب، وهي قيمة لها خطرها في ذلك العصر (¬2). وأقلعت هذه السفن المنجدة على جناح السرعة من ثغر تونس قاصدة إلى ثغر بلنسية ومعها ابن الأبار ورفاقه، وهي رحلة تستغرق عدة أيام. وكان الأرجونيون في تلك الأثناء قد شددوا الحصار على بلنسية، وحاولوا في البداية، أن يقتحموا الرُّصافة ضاحيتها الجنوبية الشرقية، ففشلت المحاولة، وردهم المسلمون بخسارة كبيرة. وكان المسلمون يخرجون من آن لآخر لمقاتلة النصارى في جماعات صغيرة، ووقعت أعنف معركة من هذا النوع بين الفريقين حول بلدة سليا ضاحية بلنسية الجنوبية، وانتهت باستيلاء النصارى عليها. ولم تمض أيام على ذلك حتى ظهر الأسطول التونسى في مياه بلنسية، واستطاع أن يصل إلى خليج جراو Grao الواقع جنوب شرقي المدينة بحذاء مصب نهر طورية أو نهر الوادي الأبيض Guadalaviar، الذي يخترق بلنسية بعد مصبه بقليل، ولكن المحلة النصرانية كانت تحتل اللسان الواقع بين الخليج وبين المدينة، ومن ثم فإن رجال الأسطول، لم يستطيعوا الوصول إلى المدينة، ولم يستطع أهل المدينة من جهة أخرى، أن يصلوا إليهم، وعندئذ حاولت السفن المسلمة أن تبعث الأمداد إلى أهل المدينة من ناحية الشمال، فسارت شمالا بحذاء الشاطىء ¬_______ (¬1) راجعنا ما نقلناه من قصيدة ابن الأبار على نصها المخطوط الوارد في مخطوط الإسكوريال رقم 518 الغزيري الموسوم بكتاب " زواهر الفكر " وهي طويلة تقع في سبعة وستين بيتاً. وقد نقلها المقري كاملة في نفح الطيب ج 2 ص 578 - 580، وكذلك ابن خلدون مع إغفال بعض أبياتها في ج 6 ص 283 - 285. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 285، والزركشى في تاريخ الدولتين ص 20.

حتى ثغر بُنُشكلة الصغير، الواقع شمالي قسطلونة، ولكن هذه المحاولة لم تنجح أيضاً لظهور السفن الأرجونية، واضطرار السفن التونسية إلى الإقلاع صوب الجنوب، وانتهى الأمر بأن أفرغت السفن التونسية شحنتها في ثغر دانية، بعيداً عن الثغر المحصور، ثم أقلعت عائدة إلى إفريقية ومعها المال إذ لم يحضر من قبل الأمير زيان من يتسلمه. وهكذا فشلت هذه المحاولة التي نظمت لإمداد المدينة المحصورة وإنجادها، وتركت بلنسية لمصيرها. وهنا ضاعف النصارى جهودهم في التضييق على المدينة، وإرهاقها. وبينما كان أهل بلنسية، يعانون الحرمان والجوع داخل مدينتهم، كان النصارى في سعة تأتيهم المؤن من البحر بانتظام. وكان النصارى يضربون المدينة، وأسوارها ْوأبراجها، بالآلات الثقيلة باستمرار، والبلنسيون مع كل هذا البلاء يخرجون لمقاتلة النصارى، وتنشب المعارك الكثيرة بين الفريقين. وفي إحدى هذه المعارك أصيب الملك خايمى بجرح في رأسه. واستمر الحصار المرهق على هذا النحو زهاء خمسة أشهر، من أبريل حتى أوائل سبتمبر، حتى فنيت الأقوات، وعدمت الموارد، واشتد البلاء بأهل المدينة، وثلمت الأسوار والأبراج في غير موضع، وعندئذ رأى وجوه المدينة وعلى رأسهم الأمير زيان، بأنه لا مفر من التسليم قبل أن يفوت الوقت، ويقتحم النصارى المدينة، فبعث بابن أخيه أبي الحملات ليفاوض ملك أراجون في شروط التسليم. واتفق الفريقان على أن تسلم المدينة صلحاً. وإليك كيف يصف لنا ابن الأبار، وقد كان شاهد عيان، ما تلا ذلك من لقاء بين الأمير زيان والملك خايمى، ومن إبرام شروط التسليم بينهما، وذلك في يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة 636 هـ. قال: " وفي هذا اليوم خرج أبو جميل زيان بن مدافع بن يوسف بن سعد الجذامى من المدينة، وهو يومئذ أميرها، في أهل بيته ووجوه الطلبة والجند، وأقبل الطاغية، وقد تزيا بأحسن زى في عظماء قومه، من حيث نزل بالرصافة أول هذه المنازلة، فتلاقيا بالولجة، واتفقا على أن يتسلم الطاغية البلد سلما لعشرين يوماً، ينتقل أهله أثناءها بأموالهم وأسبابهم. وحضرت ذلك كله، وتوليت العقد عن أبي جميل في ذلك. وابتدئ بضعفة الناس فسيروا في البحر إلى نواحي دانية، واتصل انتقال سائرهم براً وبحراً. وصبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر المذكور، كان خروج أبي جميل بأهله من القصر، في

طائفة يسيرة أقامت معه. وعند ذلك استولى عليها الروم أحانهم الله " (¬1). وتقدم إلينا الرواية النصرانية عن شروط تسليم بلنسية تفاصيل لا تخرج في جملتها عن مضمون الرواية المتقدمة، فتقول إن المفاوضة وقعت أولا بين أحد الرؤساء المسلمين، وأحد الأشراف الأرجونيين، وذلك بمحضر من الملكة، التي شاء الملك أن تشهد سائر التفاصيل، وانتهى الأمر بأن اقترح الأمير زيان على الملك خايمى، أن يسلم إليه المدينة، على أن يسمح لسائر المسلمين بها رجالا ونساء، بأن يحملوا سائر أمتعتهم دون أن يعترضهم أحد، وأن يسيروا آمنين ْحتى قلييرة (أو غلييرة) (¬2) أو دانية، فوافق الملك والملكة على اقتراحه، واتفق على أن تسلم المدينة، بعد خمسة أيام، يبدأ في نهايتها جلاء المسلمين عنها. وأبلغ الملك هذا الاتفاق إلى الأحبار والأشراف، فلم يرق لبعض القادة، والفرسان، الذين كانوا يؤملون الثراء بنهب المدينة. وفي اليوم الثالث بدأ المسلمون جلاءهم عن بلنسية، وخرج منهم منها خمسون ألفا، وساروا آمنين حتى قلييرة Cullera، وهي ثغر صغير يقع على مقربة من جنوبي بلنسية، ومنحوا عشرين يوما لإتمام الجلاء. وعقد الملك خايمى كذلك مع الأمير زيان هدنة مدتها سبع سنين، وأقسم باحترامها بالنسبة لدانية وقلييرة، طوال هذه المدة. وتم ذلك في اليوم الثامن والعشرين من شهر سبتمبر سنة 1238 م (¬3). وفي يوم الجمعة التاسع من أكتوبر سنة 1238 م، الموافق للسابع والعشرين من صفر سنة 636 هـ دخل خايمى الفاتح ملك أراجون، وزوجه الملكة فيولانتى وأكابر الأحبار والأشراف والفرسان الأرجونيين والقطلان، وممثلو الجماعات الدينية والمدن، مدينة بلنسية، ورفع علم أراجون على قمة أعلى برج في أسوار المدينة، وحولت المساجد في الحال إلى كنائس وطمست سائر قبور المسلمين (¬4). وقضى الملك خايمي بضعة أيام في تقسيم دور المدينة وأموالها بين الأحبار والأشراف والفرسان، كل وفق ما اشترك به في الفتح، وبلغ عدد من وزع عليهم من فرسان أراجون وقطلونية، ¬_______ (¬1) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 190، وفي التكملة (القاهرة) في الترجمة رقم 1745 و 2119، والبيان المغرب ص 345. (¬2) وبالإسبانية Cullera (¬3) M. Lafuente: ibid ; cit. Hist3 del Rey don Jaime ; T. IV. p. 87 (¬4) التكملة لابن الأبار (القاهرة) رقم 1306.

ثلاثمائة وثمانون، هذا عدا الأحبار والأشراف، وجعلت هذه الأملاك وراثية بالنسبة لأعقابهم، وسموا بفرسان الفتح، وترك لهم حراسة المدينة والدفاع عنها. وأقبل النصارى من كل فج على سكنى بلنسية وتعميرها. ومع ذلك فقد بقيت بها جماعة كبيرة من أهلها المسلمين، تدجّنوا واستسلموا لمصيرهم الجديد. وهكذا سقطت بلنسية في أيدي النصارى، بعد أن حكمها المسلمون، منذ الفتح خمسة قرون وربع قرن، سطعت خلالها في شرقي الأندلس، وتزعمت قواعده، ولعبت أعظم دور في أحداثه ومصايره، ولبثت فترات طويلة، مثوى الثورة الوطنية الأندلسية، وكانت أعظم مركز للعلوم والآداب في شرقي شبه الجزيرة. وكانت بلنسية منذ بعيد هدفاً لأطماع النصارى، القشتاليين منهم والقطلان، وكانت مسرحاً لمغامرات السيد الكنبيطور (السيد الكمبيادور)، وقد استولى عليها بالفعل في جمادى الأولى سنة 487 هـ (يونيه 1094 م) ولبثت تحت نير النصارى زهاء ثمانية أعوام، حتى استردها المرابطون في شعبان سنة 495 هـ (مايو 1102 م)، وذلك حسبما فصلناه في كتابنا " دول الطوائف ". على أن بلنسية وأحوازها، استمرت بعد سقوطها في أيدي النصارى، مدى عصور، مثوى لجماعات كبيرة من المدجّنين المسلمين، ثم بعد ذلك من العرب المتنصرين (الموريسكيين) وقد لعب هؤلاء في تاريخها السياسي والاجتماعى منذ القرن الرابع عشر حتى أواخر القرن السادس عشر، أدواراً ذات شأن. وهو ما فصلناه في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين ". - 3 - وقد أذكت محنة بلنسية وسقوطها في أيدي النصارى، فجيعة الشعر والنثر بالأندلس، على نحو ما فعلت محنة طليطلة، وسقوطها، وصدرت في رثائها طائفة كبيرة من القصائد والرسائل المبكية. ويرجع ذلك بالأخص إلى وجود عدد من أكابر الكتاب والشعراء المعاصرين، الذين شهدوا المحنة من أبناء بلنسية ذاتها، أو شرقي الأندلس، وفي مقدمتهم أبو عبد الله بن الأبار، وأبو المطرف بن عميرة المخزومي، وأبو عبد الله بن الجنان، وهم جميعاً من كتاب أمير بلنسية، أبي جميل زيان. وإذا كنا لا نعنى هنا إلا بتسطير الأحداث والمحن، فإنه يسوغ لنا مع ذلك أن نقف مدى لحظة، لنستعرض خلالها، بعض نماذج من النثر والنظم، في رثاء بلنسية من كلام أبنائها

ولا مراء في أن ما صدر عن ابن الأبار في ذلك وهو من أعظم أبناء بلنسية، وقد قضى فيها معظم شبابه وكهولته، وشهد أدوار المحنة من بدايتها إلى نهايتها، سواء من النثر أو النظم، إنما هو غرة هذه المراثى، وأبلغها استثارة للأسى، وقد أوردنا فيما تقدم شطراً من قصيدته الرائعة: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا ورأينا كيف يصور فيها محنة الأندلس العامة أروع تصوير وأبلغه. ولما سقطت بلنسية، بعد ذلك، صدرت عنه رسائل وقصائد أخرى، في رثاء بلنسية وبقية قواعد الأندلس الذاهبة، وبكاء أمجادها ومحاسنها، فمن ذلك قوله من رسالة إلى صديقه أبي المطرِّف ابن عميرة: " وأما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب، فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى على لبد، أسلمها الإسلام، وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة، فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن. كزعزع الريح صك الدوح عاصفها ... فلم يدع من جَنًى فيها ولا غصن واها وواها بموت الصبر بينهما ... موت المحامد بين البخل والجُبُن أين بلنسية ومغانيها، وأغاريد وُرْقها وأغانيها، أين حلى رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها، أين أفياؤها تندى غضارة، وركاؤها تبدو من خضارة. أين جداولها الطفاحة وخمائلها، أين جناتها النفاحة وشمائلها، شد ما عطل من قلائد أزهارها نحرُها، وخلعت شعشعانية ضحاها بحيرتها وبحرها، فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان. ثم لم يلبث داء عقرها، أن دب إلى جزيرة شُقرها، فأمرَّ عذبها النمير، وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها، وركدت نواسم أرواحها، ومع ذلك اقتحمت دانية، فنزحت قطوفها وهي دانية، ويالشاطبة وبطحائها، من حيف الأيام وأنحائها، ولهفاه ثم لهفاه على تُدمير وتلاعها، وجيّان وقلاعها، وقرطبة ونواديها، وحمص وودايها، كلها رُعى كَلأُها، ودهى بالتفريق والتمزيق ملأها، غض الحصار أكثرها، وطمس الكفر عينها وأثرها .. وما لأندلس أصيبت بأشرافها، ونقصت من أطرافها، قوض عن صوامعها الأذان، صُمَّت بالنواقيس فيها الآذان، أجنت ما لم تجن الأصقاع، أعَقّت

الحق فحاق بها الإيقاع، كلا بل دانت للسُّنة، وكانت من البدع في أحصن جُنّة، فليت شعرى بم استوثق تمحيصها، ولم تعلّق بعموم البلوى تخصيصها، اللهم غُفْراً، طالما ضر ضجر، ومن الأنباء ما فيه مزدجر، جرى بما لم تقدّره المقدور، فما عسى أن ينفث به المصدور، وربنا الحكيم العليم، فحسبنا التفويض له والتسليم " (¬1) ولأبى المطرِّف بن عميره، وهو أيضاً من أبناء بلنسية، ومن أبلغ كتابها، رسائل عديدة في رثاء المدينة العظيمة، فمن ذلك رسالة خاطب بها زميله وصديقه ابن الأبار جوابا عن رسالته المتقدمة يقول فيها: " طارحني حديث مورد جف، وقطين خفَّ، فيا لله لأتراب درجوا، وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة وقيل: طيروا، وإنما هو القتل والأسر أو تسيروا، فتفرقوا أيدي سبا، وانتشروا ملىء الوهاد والربا، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، ولكل عين عبرة لا ترقأ من أجلها عَبرة، داء خامر بلادنا حين أتاها، ومازال بها حتى سجى على موتاها، وشجا ليومها الأطول كهلها وفتاها، وأنذر بها في القوم بحران أنيجة، يوم أثاروا أسْدها المهيجه، فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب .. وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق. وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاه، وأودت الخفة والحصافة، وذهب الجسر والرُّصافة، ومزقت الحلة والسهلة، وأوحشت الجرف والرملة، ونزلت بالجارة وقعة الحرة، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظباها على طول الحسرة، فأين تلك الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها، والأصائل وشحوب معتلها، دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها، حتى أحاطت بجزيرة شقرها، فآها لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كَلْمه، وبالجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها، وروضة أجاد أبو اسحق نعتها،، إنما كانت داره التي فيها دب، وعلى ¬_______ (¬1) واضح من هذه الرسالة أنها أنشئت بعد سقوط قواعد الشرق، وبعد سقوط إشبيلية في سنة 646 هـ أعني بعد سقوط بلنسية بنحو عشرة أعوام

أوصاف محاسنها ألَبّ، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم تعدم بعد محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه ". ويقول في رسالة أخرى: " ثم ردف الخطاب الثاني بقاصمه المتون، وقاطبه المنون، ومضرمة نار الشجون، ومذرية ماء الشئون، وهو الحادث في بلنسية، دار النحر، وحاضرة البر والبحر، ومطمح أهل السيادة، ومطرح شعاع البهجة والنضادة، أودى الكفر بإيمانها، وأبطل الناقوس صوت أذانها، ودهاها الخطب الذي أنسى الخطوب، وأذاب القلوب، وعلّم سهام الأحزان أن تصيب، ودموع الأجفان أن تصوب، فيا ثكل الإسلام، ويا شجو الصلاة والصيام، يوم الثلاثاء، وما يوم الثلاثاء، يا ويح الداهية الدهياء، وتأخير الإقدام عن موقف العزاء، أين الصبر وفؤادى أنسيه، لم يبق لقومى على الرمى سيه، هيهات نجد ما مضى من أتنسيّه، من بعد مصاب حل في بلنسية. " يا طول الحسرة، ألا جابر لهذه الكسرة، أكل أوقاتنا ساعة العسرة، أخي أين أيامنا الخوالى، وليالينا على التوالى .. كل رزء في هذه الرزء يندرج، وقد اشتدت الأزمة فقل لي متى تنفرج، كيف انتفاعنا بالضحى والأصائل، إذ لك يعد ذلك النسيم الأرج، ليس لنا إلا التسليم والرضى، بما قضاه الخلاق العليم. ومن نظم أبي المطرِّف بن عميرة في رثاء بلنسية قوله: ما بال دمعك لا يني مدراره ... أم ما لقلبك لا يقر قراره اللوعة بين الضلوع لظاعن ... سارت ركائبه وشطّت داره أم للشباب تقاذفت أوطانه ... بعد الدنو وأخفقت أوطاره أم للزمان أتى بخطب فادح ... من مثل حادثة خلت أعصاره بحر من الأحزان عبّ عبابه ... وارتج ما بين الحشا زخّاره في كل قلب منه وجد عنده ... أسف طويل ليس تخبو ناره أما بلنسية فمثوى كافر ... حُفت به في عقرها كفّاره زرع من المكروه حلّ حصاده ... عند الغُدوِّ غداة لجَّ حصاره ما كان ذاك المصر إلا جنّة ... للحسن تجرى تحته أنهاره طابت بطيب بهاره آصاله ... وتعطرت بنسيمه أشجاره

قد كان يشرق بالهداية ليله ... والآن أظلم بالظلال نهاره ودجا به ليلُ الخطوب بصبحه ... أعيا على أبصارنا إسفاره (¬1) وجاء في قصيدة طويلة، وجهها بعضهم إلى أمير إفريقية أبي زكريا الحفصي يستنهض همته لنصرة الأندلس، وذلك على أثر سقوط بلنسية: نادتك أندلس فلب نداءها ... واجعل طواغيت الصليب فداءها صرخت بدعوتك العلية فأحبها ... من عاطفاتك ما يقى حوباءها هي دارك القصوى أوت لإيالة ... ضمنت لها مع نصرها إيواءها تلك الجزيرة لا بقاء لها إذا ... لم يضمن الفتح القريب بقاءها ومنها في رثاء بلنسية: ايه بلنسية وفي ذكراك ما ... يجرى الشؤون دماءها لا ماءها كيف السبيل إلى احتلال معاهد ... شب الأعاجم دونها هيجاءها والي رُباً وأباطح لم تعر من ... حلل الربيع مصيفها وشتاءها طاب المعرس والمقبل خلالها ... وتطلعت غرر المنى أثناءها بأبي مدارس كالطلول دوارس ... نسخت نواقيس الصليب نداءها ناحت بها الورقاء تسمع شدوها ... وغدت ترجع نوحها وبكاءها (¬2) ونكتفى بهذه المقتطفات النثرية والشعرية التي قيلت في رثاء بلنسية، وإنما أوردناها دليلا على شعور أبنائها بفداحة المحنة، وفداحة آثارها، التي انتهت في أعوام قليلة بسقوط سائر قواعد الشرق في أيدي النصارى. ولما سقطت بلنسية، وما يليها من القواعد القريبة في أيدي النصارى، نزح الكثير من أهلها إلى قواعد الأندلس الباقية، في الشرق والجنوب والوسط، وعبر في نفس الوقت كثير منهم البحر إلى العدوة، واستقروا في مختلف أنحائها. وقد وقفنا على نص ظهير، أصدره الخليفة الموحدي الرشيد، في الحادي والعشرين من شهر شعبان سنة 637 هـ، من إنشاء كاتبه القاضي أبي المطرف بن عميرة ¬_______ (¬1) وردت هذه القصيدة وما تقدمها من رسائل في كتاب "الروض المعطار" في مقال " بلنسية " (ص 48 - 52). وقد أورد لنا المقري نص الرسالتين كاملا، رسالة ابن الأبار، ورسالة ابن عميرة في الرد عليها، وذلك في نفح الطيب ج 2 ص 596 - 601. (¬2) وردت هذه القصيدة الطويلة في نفح الطيب ج 2 ص 589 - 592

المخزومي، إلى " المنتقلين من أهل بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة ومن جرى من ساير بلاد الشرق مجراهم، وعراه من عبر الأيام ما عراهم " يأذن لهم فيه بالنزول في رباط الفتح " وأن يتخذوا مساكنه وأرضه بدلا من مساكنهم وأرضهم، ويعمروا منه بلداً يقبل منهم أولى من قبل، ويحملهم إن شاء الله تعالى، وخير البلاد ما حمل "، وأن " لهم أفضل ما عهده رعايا هذا الأمر العزيز، أدامه الله تعالى من التوسعة على قويهم حى يزداد قوة، والرفق بضعيفهم، حتى ينال يساراً وثروة "، وأن يقومو بحرث أرضه، وغرس كرومه، وأن يتأثلوا الأملاك لأنفسهم وأولادهم وأولاد أولادهم، ولا يطالبوا بغير حقوق الشرع، وأن الأوامر قد صدرت إلى الولاة والعمال بحمايتهم والرفق بهم، وعدم إلحاق الأذى بهم، أو منعهم من تحقيق مآربهم. وقد صدر هذا الظهير، حسبما نوه في بدايته بمسعى ذي الوزارتين الشيخ أبي علي بن أبي جعفر بن خلاص البلنسى. وهو وثيقة ذات أهمية خاصة، تلقى ضوءاً كبيراً على مصاير من شردتهم محنة الانهيار من أهل الأندلس، وما كانوا يلقون في أنحاء العدوة من ضروب المواساة والعطف والترحيب (¬1) - 4 - لما غادر الأمير أبو جميل زيّان وطنه القديم ومقر رياسته، ورياسة آبائه وأجداده، مدينة بلنسية العظيمة، بعد أن سلمها إلى الملك خايمى الفاتح، سار في آله وصحبه إلى الجزيرة أو جزيرة شُقر، الواقعة جنوبها على ضفة نهر شقر، وسار وزيره ابن الأبار في أهله إلى تونس بعد أن أيقن أنه لا أمل في حياة مستقرة في ربوع الوطن القديم، وأخذ زيان بيعة أهل الجزيرة للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية، ولكنه ما كاد يستقر بها حتى زحف عليها الأرجونيون وطوقوها لأنها لم تكن داخلة في نطاق الهدنة، التي كانت تشمل فقط دانية وقلييرة، فاضطر زيان إلى التخلى عن الجزيرة للنصارى، وغادرها إلى دانية، ونزل بها وذلك في شهر رجب سنة 636 هـ، لبضعة أشهر من تسليم بلنسية، ودعا بها للأمير أبي زكريا الحفصي، وأغضى النصارى مدى حين عن مهاجمة هذا القطاع من إقليم بلنسية. وعرض زيان خلال ذلك على الملك خايمى أن يسلمه حصن لَقَنت على أن يمنحه جزيرة مِنُرقة كإقطاع يحكمها باسمه وتحت طاعته، فاعتذر ¬_______ (¬1) وقفنا على نص هذا الظهير في المخطوط المعنون " بزواهر الفكر " المحفوظ بمكتبة الإسكوريال رقم 518 الغزيري، ورقم 520 ديرنبور (لوحة 115 أ - 116 أ)

خايمى بأن لقنت لا تدخل في نطاق فتوحه، وإنما هي داخلة في نطاق فتوح قشتالة (¬1)، هذا إلى أن منرقه كان يحكمها عندئذ أبو عثمان سعيد بن حكم الأموى تحت حماية الملك خايمى، ويؤدى إليه الجزية حسبما تقدم في موضعه. وعندئذ اتجه نظر زيان إلى مرسية. وكانت مرسية أيام ابن هود مقر رياسته. ولما توفي بألمرية في جمادى الأولى سنة 635 هـ، بايع أهل مرسية ولده أبا بكر محمد بن يوسف بن هود، وتلقب بالواثق، ولكن الظاهر أن عمه علي بن يوسف تغلب عليه بعد قليل، ودعا لنفسه وتلقب بعضد الدولة، بيد أن رياسته لم يطل أمدها أيضاً، إذ ثار به عميد مرسية وكبير علمائها الفقيه أبو بكر عزيز بن عبد الملك ابن محمد بن خطاب، وأخرجه من المدينة، ودعا لنفسه، وبايعه أهل مرسية، وذلك في الرابع من محرم سنة 636 هـ، وتلقب بضياء الدولة. ثم سقطت بلنسية بعد ذلك بأسابيع قلائل في أيدي النصارى، وتجهمت الحوادث في شرقي الأندلس، وقلقت النفوس في مرسية وغيرها، ورأى جماعة من أهل مرسية استدعاء أمير بلنسية السابق أبا جميل زيان، ليتولى الرياسة عليهم، وهو يومئذ بدانية يرقب الحوادث. فسار زيان إلى مرسية ودخلها، فثار أهلها بأبي بكر عزيز ضياء الدولة وانتزع زيان منه الرياسة وقبض عليه، وذلك في الخامس عشر من شهر رمضان سنة 636 هـ، ثم أمر بقتله، فقتل في السادس والعشرين من الشهر، وكان ابن خطاب سليل أعرق بيوت مرسية، وجده الكبير أبو عمر أحمد بن خطاب، هو الذي استضاف المنصور بن أبي عامر وسائر جيشه، حين مروره بمرسية في طريق غزاته إلى برشلونة، وذلك في أوائل سنة 375 هـ (985 م) (¬2). ودعا زيان بمرسية للأمير أبي زكريا الحفصي صاحب إفريقية، ودخلت في طاعته معظم البلاد الباقية في شرقي الأندلس، وبعث زيان ببيعتها جميعاً مع وفد ندبه لذلك إلى الأمير أبي زكريا بتونس، فعاد الوفد يحمل إليه من الأمير تقليد ولايته على مرسية وبلاد شرقي الأندلس، وقدراً من المال لمعاونته، وذلك في سنة 637 هـ. وقد وقفنا على نص الرسالة التي بعث بها الرئيس زيان إلى الأمير أبي زكريا على أثر تلقيه مرسوم الولاية، وهي من إنشاء الكاتب البليغ أبي عبد الله بن الجنان، ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 88 (¬2) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 250 - 252، والذخيرة السنية ص 59، وكذلك: M.G. Remiro: Murcia Musulmana p. 295

وفيها يعرب زيان بعد الديباجة " والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، الطالع من أنوار الهدايات "، وبعد الدعوات الجمة، عن ولائه وإخلاصه، ويقول: " فلا جرم أن الخادم يطمئن بذلك قلبا ". ثم يبدى شكره على التفات " الحضرة الكريمة "، وأنه تلقى الكتب الكريمة بارتياح، وأنه في سائر أحواله، وجميع أفعاله وأقواله " يهتدى بهدى الحضرة العلية، والانقياد لما أمره به مولاه من النظر في هذه البلاد، عاكفاً على المراسم الكريمة في كل القصد والاعتماد، باذلا مستطاعه في الجد والاجتهاد " وخصوصاً في هذه الأوقات التي اشتدت فيها نكايات الأعداء، ولكنه يؤمل أن الأحوال سوف تصلح. ثم يختتم كلامه بالدعاء. والرسالة صادرة " من مرسية حرسها الله تعالى "؛ ولكن ليس لها تاريخ (¬1). على أن زيان لم يتح له أن يجمع سائر الشرق تحت طاعته، فقد خرجت على رياسته أوريولة، واستقل بها ابن عصام، وكذلك خرجت لورقة، واستقل برياستها الفقيه محمد بن علي بن أحلى. واستمر الأمير زيان في رياسته لمرسية زهاء عامين. وكان كاتبه في تلك الفترة، القاضي والكاتب اللامع أبو المطرِّف بن عميرة المخزومي. وهنالك ما يدل على أن الأمير زيان، قد بذل عندئذ محاولة للتفاهم مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، وذلك حسبما تدل عليه رسالة موجهة منه إلى فرناندو، ومحررة بقلم أبي المطرف، يذكر فيها ما تم له من فتح مرسية، ورضاء المسلمين بهذا الفتح، وأنه رأى مفاوضته في عقد السلم، وأن يكون ذلك على يد رسول أوفده إليه، وأنه على استعداد للتفاوض مع من يرسله إليه ملك قشتالة من رجاله لهذا الغرض (¬2). ومن الواضح أن هذه المحاولة من جانب زيان ترجع إلى ما كان معقوداً بين مملكتى قشتالة وأراجون من أن الاستيلاء على منطقة مرسية، كان من حق ملك قشتالة. على أن الأمر لم يطل برياسة زيان لمرسية، فقد خرج عليه زعيم من بني هود، من أبناء عمومة المتوكل، يدعى محمد بن هود، والتف حوله أهل مرسية، فانتزع الحكم من زيان وتلقب ببهاء الدولة، وخرج زيان من مرسية، في أهله وأمواله ولجأ في قومه وعشيرته إلى لقنت ذلك في سنة 638 هـ (1240 م). وعاش بها بضعة ¬_______ (¬1) وردت هذه الرسالة في كتاب " زواهر الفكر" الذي سبقت الإشارة إليه (مخطوط الإسكوريال رقم 518 الغزيري (رقم 520 ديرنبور). (¬2) أورد لنا القلقشندي نص هذه الرسالة في صبح الأعشى ج 7 ص 116 و 117

أعوام في خمول، وهو يشهد سقوط قواعد الشرق المتوالى في أيدي النصارى، إلى أن وصل الأرجونيون إلى بلده واستولوا عليها، وذلك في سنة 644 هـ (1246 م) فعندئذ عول على مغادرة الأندلس قاطبة، وركب البحر في أهله إلى تونس، ونزل بها في كنف أميرها، إلى أن توفي سنة 668 هـ (1269 م) (¬1). وكان الأرجونيون خلال ذلك قد استولوا على ثغر دانية، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 641 هـ (مايو 1244 م)، وبعد ذلك بنحو عامين استولوا على شاطبة، وذلك في آخر صفر سنة 644 هـ (يوليه 1246 م). وكانت شاطبة منذ أيام المتوكل ابن هود، قد تولى رياستها من قبله يحيى بن أحمد بن عيسى الخزرجى، فلما توفي في شعبان سنة 634 هـ، وليها من بعده، ولده أبو بكر محمد، وولي كذلك دانية حيناً، واستمر على ولايته لشاطبة أعواماً من بعد سقوط بلنسية، وهو يصانع الملك خايمى، ويؤدى إليه ما شاء من جزية، إلى أن قرر خايمي في النهاية الاستيلاء عليها، فدخلها الأرجونيون صلحاً في التاريخ المتقدم (صفر 644 هـ) وذلك بعد حصار قصير. ولم يمض سوى عام ونصف حتى نقضوا الهدنة مع أهلها المسلمين، وأرغموهم على الجلاء عنها وذلك في رمضان سنة 645 هـ (¬2) فتفرقوا في مختلف البلاد، وغادرها واليها السابق أبو بكر في أهله ولجأ إلى أحد الحصون القريبة منها. وكان أبو بكر بن يحيى هذا، أديبا متمكناً من النثر والنظم، وقد أورد لنا ابن الأبار شيئاً من نظمه (¬3). وهكذا استولى الأرجونيون من بعد بلنسية، خلال أعوام قلائل فقط على سائر القواعد القريبة منها، جزيرة شقر، ودانية، وشاطبة، والبيضاء، ولقنت (¬4) وغيرها، ولم يبق من قواعد الشرق بيد المسلمين سوى مرسية وأحوازها. على ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 168، وج 6 ص 285. ويقول صاحب الذخيرة السنية إن زيان لجأ إلى حصن اللش (ألش). وراجع: M.G. Remiro: ibid ; p. 295 & 296 (¬2) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) ج 1 ص 124 و 334. (¬3) ابن الأبار في الحلة السيراء ص 247 و 248. وفي التكملة " القاهرة " في الترجمة رقم 310 و 907. (¬4) يضع صاحب الذخيرة السنية تاريخ استيلاء النصارى على دانية ولقنت وألش وأوريولة وقرطاجنة في سنة 640 هـ (1242 م) (ص 65) ولكنا نرجح فيما يتعلق بدانية ولقنت، ما تقدم من الروايات. ثم هو يعود فيذكر لنا مرة أخرى أن سقوط أوريولة كان في سنة 649 هـ (1251 م) (ص 87). ولكن سنرى أن هذه القواعد الأخيرة قد تأخر سقوطها إلى ما بعد ذلك

أن القدر كان أيضاً بالمرصاد لمرسية، وإن كان قد طوح بها إلى مصير آخر. - 5 - وذلك أنه لما نجح بهاء الدولة محمد بن هود، وانتزاع حكم مرسية من الأمير أبي جميل زيان، وذلك في سنة 638 هـ، كان ابن عصام صاحب أوريولة من أنصاره والمعترفين بطاعته، ولكن لورقة لبثت مع ذلك محتفظة باستقلالها برياسة واليها ابن أحلى. على أنه لم يمض سوى قليل حتى شعر أهل مرسية أن الأمور لا يمكن أن تسير على هذا النحو، وأن توالى سقوط قواعد الشرق في يد الأرجونيين، سوف يحدد مصير مرسية، عاجلا أو آجلا، ومن جهة أخرى فإن انضواء مرسية تحت لواء أمير إفريقية الحفصى لن يغنى شيئاً، لبعد الشقة، وتعذر العون، ومن ثم فقد قرر أشياخ مرسية بالاتفاق مع بهاء الدولة أن يتفاهموا مع النصارى، رجاء صونها من الغزو والتخريب، واتجهوا في ذلك إلى ملك قشتالة، إما لأنهم آثروا القشتاليين على الأرجونيين، وإما لأنهم كانوا يعلمون أن مدينتهم تقع في منطقة الغزو القشتالي، وبعثوا إلى ملك قشتالة سفارة على رأسها أحمد بن محمد بن هود ولد واليها، يعرضون عليه الاعتراف بطاعته وتأدية الجزية إليه، وأن يسمح له بوضع حامية بالمدينة. وتضع الرواية الإسلامية تاريخ هذا العرض في سنة 639 هـ الموافقة لسنة 1241 م، وهو التاريخ الذي تقدمه لنا الرواية النصرانية (¬1). وكان ملك قشتالة فرناندو الثالث يومئذ مريضاً في برغش، وكان ولده وولي عهده الإنفانت ألفونسو بمدينة طليطلة، فوفدت عليه هنالك سفارة مرسية، فاستقبلهم باسم والده الملك، وأبلغ النبأ في الحال إلى فرناندو، فوافق على عرض أهل مرسية، وصرفهم الإنفانت بعد التفاهم معهم على تسلم المدينة، ثم سار بعد قليل في نفر من صحبه صوب مرسية، حيث التقى في الكَرَس بنواب مرسية، وعقد معهم معاهدة التسليم، ودخل ألفونسو ولى عهد قشتالة وصحبه، ومعهم أحمد بن محمد بن هود مرسية، وتسلموها صلحاً، وذلك على الاعتراف بالطاعة، وأداء الجزية، وبقاء حكمها بأيدى أهلها، وذلك في اليوم العاشر من شوال سنة 640 (2 أبريل 1243 م) (¬2). ووضع القشتاليون بعض ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 64، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 88 (¬2) هذه هي رواية ابن الأبار في التكملة (القاهرة) في الترجمة رقم 2671، ولكن المقري =

الجند في مرسية، وفي بعض الحصون التابعة لها، واحتفظ أمير مرسيه بسيادته التامة على لقنت، وأوريوله، وألش، وبعض الأماكن الأخرى الداخلة في أعمال مرسية. وكذلك فإن لورقة، ومولة، وقرطاجنة، وهي من أعمال مرسية، لم تدخل في هذا التسليم، واحتفظت باستقلالها حيناً، حتى استولى عليها القشتاليون في سنة 1245 م. أما مرسية فلبثت عدة أعوام أخرى تحت حكم واليها محمد بن هود، بهاء الدولة، ثم بعد وفاته تحت حكم ولده أبي جعفر أحمد، وذلك تحت حماية ملك قشتالة. وكان والي مرسية يعرف عندئذ عند النصارى بملك مرسية. وكان من الغريب أن " تبقى مملكة مرسية " الإسلامية قائمة على هذا النحو تتمتع بنوع من الاستقلال، بعد أن سقطت بلنسية، وكل أعمالها، وأضحى النصارى يشرفون عليها من لقنت وألش وغيرها من قواعد هذه المنطقة. ولكن ذلك يمكن تفسيره أولا، بما وقع من الاضطرابات المستمرة في بلنسية ضد الأرجونيين، وقيام المسلمين المدجّنين في بلنسية، وشاطبة، ومربيطر وقسطلونة وغيرها، ومحاولتهم استرداد استقلالهم بقوة السلاح، واستردادهم بالفعل لبعض الحصون الهامة (سنة 1254 م)، وثانيا باشتداد ساعد مملكة غرناطة، المملكة الإسلامية الجديدة التي أنشأها ابن الأحمر في جنوبي الأندلس، وتهديدها من آن لآخر بإنجاد أهل مرسية ومعاونتهم. وكان خايمى ملك أراجون حينما اشتدت الاضطرابات في بلنسية وأحوازها، قد عمل على تدعيم معظم الحصون بحاميات جديدة، وأخرج بالقوة آلافا مؤلفة من المسلمين المدجنين من أراضي بلنسية، فقصدوا إلى مرسية وأعمالها وتفرقوا فيها، وذهبت آلاف أخرى منهم إلى مملكة غرناطة. وفرض القشتاليون على المهاجرين منهم إلى مرسية وأعمالها ضريبة لدخولهم قدرها بيسانتى Besante عن كل فرد. واشتد ساعد " مملكة مرسية " بمن وفد إليها من هذه الجموع المهاجرة، واستطاعت أن تفرض احترام استقلالها الداخلى على النصارى فترة أخرى. واستمر أبو جعفر أحمد بن هود واليا لمرسية وأحوازها حتى سنة 662 هـ (1264 م)، وفي هذا العام خرج عليه، أبو بكر محمد بن محمد بن يوسف ابن هود، وكان قد حكم مرسية بضعة أشهر عقب وفاة أبيه المتوكل، وتسمى ¬_______ = يقول لنا إن ذلك وقع في العاشر من شوال سنة 639 هـ (11 أبريل 1242 م) (نفح الطيب ج 2 ص 585) وراجع أيضاً: M.G. Remiro ; ibid ; p. 296

بالواثق، ثم تغلب عليه عمه عضد الدولة بن هود، ثم جاء أبو جميل زيان فانتزع الحكم منه حسبما فصلناه فيما تقدم، إلى أن تغلب عليه بهاء الدولة ابن هود، وفي خلال ذلك كان الواثق يعيش مغموراً هادئاً، إلى أن سنحت له الفرصة لينتزع الحكم من أبي جعفر. وكان الواثق يعتقد أنه يستطيع بمعاونة المسلمين المدجّنين في منطقة الشرق، ومعاونة ابن الأحمر ملك غرناطة، أن يخلع طاعة النصارى، وأن يسترد لمرسية كامل استقلالها. وربما كان قد شعر أيضاً أن قشتالة لم تكن من القوة كما كانت أيام فرناندو الثالث. وكان فرناندو قد توفي منذ سنة 1252 م، وخلفه ولده ألفونسو العاشر، وشغلت قشتالة في ظله بصراعها مع مملكة غرناطة. ومن ثم فقد أعلن الواثق خلع طاعة ملك قشتالة، لأنه لم يلتزم الوفاء بما تعهد به في معاهدة التسليم، وخرق نصوصها بالاستطالة على حقوق مملكة مرسية، وبعث إلى رومة سفيراً يسعى لدى البابا، ليحمل ملك قشتالة على الوفاء بعهوده، من عدم التدخل في شئون مملكة مرسية، واستمر متمسكاً باستقلاله، ولكنه لما شعر بأن جند الملك خايمى ملك أراجون، بدأت تغير على أراضي مرسية وترهق أهلها، أعلن طاعته لابن الأحمر ملك غرناطة، وبعث إليه ابن الأحمر قوة من جنده بقيادة صهره الرئيس أبي محمد بن أشقيلولة، فقدم إلى مرسية وضبط أمورها، وخطب بها لابن الأحمر. ويقدم إلينا ابن عذارى شرحاً آخر لتطور الحوادث في مرسية فيقول، إن أهل شرق الأندلس كانوا قد صالحو الروم بمال معلوم، يدفعونه لهم في كل عام، وأعطى أهل مرسية قصبتهم للروم. فلما ذاع فيهم ضرر الروم وأذاهم، أخرجوهم بالقتال والحصر، وكتب أهل مرسية إلى الأمير ابن الأحمر ببيعتهم، فبعث إليهم الرئيس أبا محمد بن أشقيلولة والياً. فزحف النصارى إليها، ونزلوا عليها، وحصر الرئيس فيها، ثم غادرها مع صحبه. وهكذا اضطر ابن الأحمر أن يتخلى عن حماية مرسية، واضطر نائبه ابن أشقيلولة أن يغادرها مع جنده. ويضع ابن عذارى تاريخ هذا الحادث في سنة 662 هـ (1264 م) ويزيد على ذلك أن أهل مرسية لم يجدوا بعد ابن الأحمر حماة ولا أنصاراً، واشتد عليهم حصار العدو وتألبه، فأعطوا مرسية للنصارى وخرجوا منها بالأمان إلى " الرشاقة"، فسكنوا بها نحو عشرة أعوام، إلى أن أخرجهم النصارى منها بالأمان في سنة ثلاث وسبعين، ولكنهم غدروا بهم في الطريق بموضع يعرف ببوركال، فقتلوا الرجال، وسبوا النساء

والأطفال (¬1). ولكن الرواية النصرانية تقول لنا بالعكس، إنه على أثر مغادرة جند ابن الأحمر لمرسية، رد أهلها الأمر ثانية إلى الواثق ابن هود، فمضى في حكمها فترة قصيرة أخرى، إلى أن افتتحها الملك خايمى، وذلك على النحو الآتي: في تلك الأثناء، كان ملك قشتالة ألفونسو العاشر، يعانى صعابا في الاحتفاظ بفتوحه الجديدة في الأندلس، ولاسيما في منطقة شريش وشذونة، ويرقب نشاط ابن الأحمر ملك غرناطة وازدياد قوته بعين التوجس والخوف. وزاد قلقه من جراء ذلك بما حدث من عبور بعض قوات بني مرين من المغزب إلى الأندلس، لمناصرة ابن الأحمر. وكان من جهة أخرى يرى نفسه عاجزاً عن قمع ثورة مرسية، واسترداد سيادته عليها، ومن ثم فقد بعث إلى حميه خايمى ملك أراجون - وكان قد تزوج بابنته الأميرة فيولانتى، وارتبط معه برباط المصاهرة والصداقة الوثيقة - يطلب إليه المعاونة في منطقة مرسية، لأن الثورة في مرسية تهدد سيادته في بلنسية، ومن ثم فقد قرر الملك خايمى، بعد استشارة الأمراء والأحبار، أن يسير لافتتاح مرسية، بالرغم من كونها تقع في منطقة نفوذ قشتالة، وذلك نزولا على رغبة ملك قشتالة نفسه (¬2). فجهز حملة قوية، وسار جنوبا صوب مملكة مرسية، وزحف أولا على حصونها الأمامية ألش ولقنت وأوريوله، واستولى عليها، ثم بقى في أوريولة، وضربت جنده الحصار حول مرسية، وبذل الأرجونيون كل جهد للتضييق على المدينة المحصورة، ورد كل أمداد يصل إليها من غرناطة، واستمر الحصار بضعة أشهر. فلما رأى الواثق أنه لا مفر من التسليم، بعد أن نفدت سائر الموارد، وغاض كل أمل، فاوض الملك خايمى في التسليم، واتفق معه على أن يعوضه عن مرسية بحصن " يسر " ليقيم فيه هو وأهله وصحبه. وهكذا سلمت مرسية آخر قواعد الشرق الكبرى، ودخلها الملك خايمى الأرجونى وذلك في في شهر فبراير سنة 1266 م. وهو يوافق التاريخ الذي تضعه الرواية الإسلامية لسقوط مرسية، وهو سنة 664 هـ، وإن كانت ثمة روايات نصرانية أخرى تضع تسليم مرسية في سنة 1269 أو 1270 م (¬3). ولم يطلب الملك خايمي ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 438. (¬2) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 132 (¬3) ابن خلدون ج 4 ص 171. وهو يجمل سقوط مرسية في كلمة عابرة، وإنما استقينا التفاصيل المتقدمة من كتاب: G. Remiro: ibid ; p. 300 - 303. وفيها يلخص مختلف الروايات النصرانية

من اهل مرسية الجلاء عن أرضهم كما حدث في بلنسية وقواعدها، ولكنه طلب إليهم فقط أن يسمح لأهل أراجون وقطلونية بالهجرة إلى أراضي مملكة مرسية. وكان قد حمل على هذا الاعتدال، بما حدث في بلنسية وقواعد الشرق الشمالية من الاضطرابات العنيفة على إثر إخراج سكانها من أوطانهم. وهكذا استولى خايمى الفاتح على سائر ثغور شرقي الأندلس وقواعده، من بنشكلة وقسطلونة شمالا، حتى قرطاجنة ولورقة جنوبا، وذلك في فترة لا تتجاوز الثلاثين عاما، وانتهت بذلك سيادة الإسلام في تلك الرقعة الكبيرة من الوطن الأندلسي القديم، بعد أن لبثت بها أكثر من خمسة قرون، وأضحى أهلها المسلمون الذين آثروا البقاء بأوطانهم القديمة، واستسلموا إلى قدرهم في ظل حكم السادة النصارى الجدد، مدجنين Mudéjares تعصف بهم إرادة الفاتح، وتسلبهم حقوقهم الدينية والمدنية، ومميزاتهم القوية شيئاً فشيئاً، ولا تنفعهم ثورتهم المتكررة في سبيل الاحتفاظ بكيانهم، حتى غدوا بمضى الزمن مجتمعاً غريبا في بلاده، وفقدوا دينهم القديم، ولغتهم العربية، وغلبت عليهم الذلة والعبودية، وحتى هذه الحياة المسكينة الذليلة في ظل آثار دينهم ولغتهم لم تدم، وكان أن أرغموا بعد ذلك على التنصر، واعتناق دين الغالب ولغته، وأضحى تاريخهم في ظل الحكم الإسباني، وظل الكنيسة الإسبانية، ومحاكم التحقيق، مأساة من أروع مآسى التاريخ، وأبلغها إيلاما للنفس، وهي التي تعرف بمأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين (¬1) ¬_______ (¬1) تناولنا كل ما يتعلق بمصاير المدجنين وأحوالهم وتاريخ الموريسكيين بتفصيل واف في كتابنا " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين " (ص 47 - 58)

الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب

الفصل الرابع سقوط إشبيلية وقواعد الغرب ابن الأحمر واشتداد ساعده. يعتزم محاربة القشتاليين. محاصرته لمرقش. هزيمته للقشتاليين. غزو فرناندو الثالث للأندلس الوسطى. عيثه في أحواز جيان. افتتاحه لأرجونة وغزوه لفحص غرناطة. يعتزم افتتاح جيان. أهبة جيان وحصانتها. مسيره إلى جيان وحصارها. استنجاد واليها بابن الأحمر. طول الحصار ونفاد المؤن. موقف ابن الأحمر. يؤثر التفاهم مع ملك قشتالة. اعترافه بطاعة فرناندو. بقية شروط المعاهدة المعقودة. دخول القشتاليين جيان. جيان ومركزها التالد بين قواعد الأندلس. الأماكن الأخرى التي نزل عنها ابن الأحمر. انهيار الأندلس الشرقية والوسطى. تحول أنظار النصارى إلى إشبيلية. إشبيلية ومركزها أيام الفتنة. تطور مصايرها منذ قيام ابن هود. عودها إلى طاعة الموحدين. استقلالها المحلى. اعترافها بطاعة الدولة الحفصية. سبتة تحذو حذوها. الأمير أبو زكريا يعين والياً لإشبيلية ويوجه رسالة إلى أهلها. سوء تصرف الحكام الإفريقيين. أهل إشبيلية يخرجونهم ويقتلون زعيمهم ابن الجد. ماذا وراء ثورة أهل إشبيلية. زعماء إشبيلية الجدد. إعلانهم إلغاء المعاهدة التي عقدت بين ابن الجد وملك قشتالة. مضمون هذه المعاهدة. غضب ملك قشتالة لمصرع ابن الجد. محاولة الزعماء تجديد المعاهدة مع فرناندو. رفض فرناندو واعتزامه فتح إشبيلية. منعة إشبيلية وظروفها الجغرافية. فرناندو يعتزم أخذها بالحصار. مسيره إليها في قواته. معاونة ابن الأحمر للنصارى. استيلاء فرناندو على قلعة جابر. عيث القوات القشتالية في فحص الشرف وفحص شريش. تجهيز السفن للحصار. معاونة البابا في المشروع. فرناندو يجهز قوات الغزو النهائي في قرطبة. البدء بمهاجمة قرمونة. اشتراك جند ابن الأحمر في ذلك. تطويق النصارى لقرمونة. عرض أهلها للتسليم. استيلاء فرناندو على لورة وقنطلانة. تسليم غليانة وجرينة. مهاجمته للقلعة. دفاعها ثم تسليمها. دور ابن الأحمر في تسليم هذه المعاقل. مقدم أسطول الحصار. يرابط في الوادي الكبير. ظروف إشبيلية الدفاعية واستعدادها للدفاع. قصور الرواية الإسلامية في التعريف بزعماء إشبيلية ودروها الدفاعى. بداية الحصار. مهمة الأسطول النصراني. اشتراك ابن الأحمر وجنده في الحصار. إشبيلية تتلقى الأمداد من النهر ومن وادي الشرف. المعارك المستمرة بين الإشبيليين والنصارى. عيث النصارى في ضواحيها. السفن المغربية تصارع السفن النصرانية وتحمى خط إمداد المدينة. محاولتها حرق السفن النصرانية. مقدم قوات الفرسان والأحبار والمدن النصرانية لتعزيز الحصار. صريخ أهل إشبيلية إلى أمراء المغرب. قصيدة ابن سهل الإشبيلي. قصيدة أبي موسى هرون. تحطيم النصارى لقنطرة طريانة. مهاجمة النصارى لطريانة. دفاع الحامية الإسلامية. محاصرة طريانة وفصلها عن إشبيلية. اشتداد محن الحصار على المدينة. وصف ابن عذارى لذلك. اجتماع الزعماء وبحث الموقف. عرض الزعماء للتسليم الجزئي. رفض ملك قشتالة وإصراره على التسليم الشامل. المفاوضة في التسليم وشروطه. إخلاء المسلمين للمدينة. تأمين

النصارى للمهاجرين. مسيرهم إلى العدوة ومختلف أنحاء الأندلس الباقية. عبور القائد شقاف وزملائه إلى سبتة. مصيرهم المؤسى. دخول فرناندو الثالث إشبيلية. تحويل الجامع الأعظم إلى كنيسة. تقسيم دور المسلمين بين الفاتحين. إشبيلية تغدو عاصمة قشتالة. تأملات عن سقوط إشبيلية. افتتاح القشتاليين لقواعد هذه المنطقة. خضوع ابن محفوظ صاحب لبلة. خضوع صاحب شريش. أحوال شريش بعد ذلك. سقوط قادس. القاضي ابن محفوظ ومدى رياسته. تفاهمه مع ملك قشتالة. نزوله عن بعض الحصون والأماكن. استيلاء البرتغاليين على ميرتلة وشلب وطبيرة وشنتمرية الغرب. خروج ابن محفوظ على ملك قشتالة ألفونسو العاشر. مسير ألفونسو إلى لبلة ومحاصرتها. مناعة لبلة وصمودها. إطلاق المسلمين منها آلات تشبه المدافع. تسليم لبلة. مصير ابن محفوظ. الخلاف بين البرتغال وقشتالة على بعض قواعد الغرب. فرناندو الثالث. إشادة الرواية النصرانية بعبقريته. يعتبر قاهر الأندلس الحقيقي. البابا يسبغ عليه صفة القداسة. - 1 - في نفس الوقت الذي كانت فيه قواعد الشرق، تسقط تباعا في أيدي الأرجونيين، كان ملك قشتالة فرناندو الثالث، منذ استولى على قرطبة عاصمة الخلافة القديمة في شوال سنة 633 هـ، يتابع غزواته وفتوحه في منطقة الأندلس الوسطى. وكان محمد بن الأحمر أمير غرناطة، يعمل خلال هذه الفترة على توطيد مركزه في الأندلس الجنوبية، وقد قوي أمره، واشتد ساعده، ونمت موارده، باستيلائه على ألمرية ومالقة عقب وفاة ابن هود، وغدا يبسط سلطانه على سائر المنطقة الممتدة من جنوبي الوادي الكبير حتى البحر، ومن ألمرية غربا حتى رندة. ولم ينس ابن الأحمر أمر المنطقة الشمالية التي بدأ منها، والتي بها موطنه ومنشأ أسرته، وهي منطقة جيان وأرجونة. وكان القشتاليون، منذ استيلائهم على قرطبة، قد عاثوا مراراً في تلك المنطقة، وخربوا ربوعها، فلما شعر ابن الأحمر باشتداد ساعده وتكاثر جمعه، اعتزم أن يسير لقتال القشتاليين، وأن يعمل على تحرير تلك المنطقة من عيثهم، فخرج من غرناطة في قوة كبيرة، وقصد إلى مرتش وهي بلدة حصينة تقع جنوب غربي جيان، وكانت بيد القشتاليين، وضرب حولها الحصار، (سنة 636 هـ)، ولكن النصارى قدموا لإنجادها بسرعة، واضطر ابن الأحمر أن يرفع الحصار. وهنا وقعت بينه وبين القشتاليين بقيادة دون ردريجو ألونسو، وهو أخ غير شرعى لفرناندو الثالث، معركة عنيفة هزم فيها القشتاليون هزيمة شديدة، وقتل منهم وممن كان معهم من فرسان

شنت ياقب عدد جم. وكان لذلك الحادث أعمق وقع في قشتالة. ومضى على ذلك نحو عامين أو ثلاثة، ثم نهض فرناندو الثالث لتدارك الموقف، وخرج في قواته قاصداً إلى الأندلس من ناحية أرجونة، وهو يخرب تلك الأنحاء، وينتسف زروعها. ثم سار جنوبا نحو جيان والقبذاق، وكان يتوق للانتقام لهزيمة جنده في مرتش، فخرب أيضاً أراضي تلك المنطقة. ثم بعث جانبا من قواته لافتتاح أرجونة، وهي موطن ابن الأحمر ومثوى أسرته، فحاصرها القشتاليون مدى يومين، وفي اليوم الثالث أشرف عليها فرناندو في بقية جيشه، فلما أيقن أهلها المسلمون أنه لا أمل لهم في الصمود والإنجاد، سلموها بالأمان وغادروها حاملين أمتعتهم وذخائرهم، وبعث فرناندو قواته صوب الجنوب لتغزو فحص غرناطة، فعاثت في أنحائه وخربت كثيراً من ربوعه. ووقعت هذه الحوادث في أواخر سنة 1244 م (أواسط سنة 642 هـ) ثم قصد فرناندو بعد ذلك إلى قرطبة فاستراح بها حتى أوائل العام التالي. وكان أهم هدف لملك قشتالة في تلك المنطقة، هو الاستيلاء على مدينة جيان عاصمتها التالدة، وأمنع قواعدها، وكان قد حاصرها قبل ذلك في سنة 1230 م (627 هـ) ولكنه أخفق في الاستيلاء عليها، وكان ابن الأحمر قد اتخذها مقرا لرياسته في مبدأ أمره. وكانت جيان مدينة عظيمة، حسنة التخطيط والبناء، ذات صروح وآثار جميلة، وكانت تتمتع بمناعة فائقة، سواء بأسوارها العالية، أو بقلعتها الحصينة الشامخة، التي مازالت أطلالها القائمة تنبىء بحصانتها القديمة، كما أنها بموقعها الطبيعي في منطقة من البسائط الخضراء اليانعة، كانت من أغنى قواعد الأندلس الوسطى وأكثرها رخاء (¬1). وكان الاستيلاء عليها يحقق للقشتاليين بسط سلطانهم على سائر أنحاء تلك المنطقة الغنية الخصبة. ومن ثم فقد عول فرناندو على افتتاحها، ولم يك ثمة سبيل آخر لتحقيق هذه الغاية سوى محاصرة هذه المدينة الكبيرة الغنية، حتى يرغمها الجوع على التسليم. وفي أواخر سنة 642 هـ (أوائل سنة 1245 م)، أشرف فرناندو الثالث بقواته على مدينة جيان، وضرب حولها الحصار. ولم يكن هذا الحصار أمراً هيناً لوقوعه في قلب الشتاء، وكان اشتداد البرد وهطل الأمطار، يضاعف متاعب الجند المحاصرين، واستمر الحصار على هذا النحو شهراً، وجيان صامدة، وقد ¬_______ (¬1) الروض المعطار ص 70 و 71

خرج أهلها غير مرة لمقاتلة القشتاليين ففتكوا بهم وقتلوا وجرحوا الكثيرين منهم. بيد أن المدينة المحصورة كانت من جهة أخرى تعانى من الحرمان والجوع. وكان واليها أبو عمر علي بن موسى، حينما شعر بتحركات القشتاليين ومراميهم، قد أرسل قبل الحصار إلى ابن الأحمر يستغيث به، ويطلب إنجاده بالمؤن، لكي تستطيع المدينة مقاومة النصارى، فبعث إليه ابن الأحمر بقافلة كبيرة من المؤن استطاعت أن تجتنب القشتاليين، وأن تصل إلى المدينة، فلما طال الحصار نفدت الأقوات، وأخذ الموقف يتحرج، ومع ذلك فقد لبثت المدينة على صمودها. وكان ابن الأحمر خلال ذلك يرقب الحوادث بمنتهى الجزع، وكانت غزوات القشتاليين قد وصلت غير مرة، إلى فحص غرناطة، وإلى غرناطة ذاتها، وشعر ابن الأحمر أنه لابد أن يلتمس الوسيلة لتأمين سلطانه، واجتناب عادية القشتاليين، ولم يك ثمة وسيلة أنجع من التفاهم مع ملك قشتالة، والحصول على مهادنته. ومن جهة أخرى فقد أدرك ابن الأحمر، أنه لا سبيل إلى إنجاد جيان، أو اجتناب مصيرها المحتوم، وأنه يحسن تدارك الموقف، قبل أن تسقط المدينة في أيدي القشتاليين، أو يقومون باقتحامها وتخريبها. ومن ثم فقد بدأ ابن الأحمر بمفاوضة ملك قشتالة وكان فرناندو الثالث يصر على أن يكون أساس التفاهم مبدأً واحداً لا سبيل إلى تغييره، هو وجوب خضوع ابن الأحمر لسيادته، والاعتراف بطاعته. ولم ير ابن الأحمر محيصاً عن قبول هذا الشرط المؤلم، فسار بنفسه إلى المعسكر القشتالي تحت أسوار مدينة جيان، وقدم طاعته إلى ملك قشتالة. وعقدت بين الملكين معاهدة سلام وتحالف، خلاصتها أن تسلم مدينة جيان وأعمالها في الحال إلى ملك قشتالة، وأن يحكم ابن الأحمر مملكة غرناطة وسائر أراضيها، باعتباره تابعا لملك قشتالة، بكل ما يستتبعه هذا الاعتراف من فروض، ومنها أن يتعاون ابن الأحمر مع قشتالة في الحرب وفي السلم، وأن يشهد اجتماع الكورتيس (مجلس قشتالة النيابى)، وأخيراً أن يؤدي ابن الأحمر إلى ملك قشتالة جزية قدرها مائة وخمسون ألف مرافيدى تؤدى خلال عشرين عاما، وهي المدة التي اتفق أن يعقد خلالها السلم والتهادن بين الفريقين. وتم عقد هذه المعاهدة في أوائل سنة 1246 م (أواخر سنة 643 هـ) (¬1). وعلى أثر ذلك دخل القشتاليون مدينة جيان العظيمة، وحول مسجدها الجامع ¬_______ (¬1) J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia, p. 94 & 95

في الحال إلى كنيسة، وغادرها معظم أهلها المسلمين، وتفرقوا في قواعد الأندلس الجنوبية. ولما تم احتلال الجند النصارى للمدينة، دخلها ملك قشتالة، في موكب فخم، وشهد القداس الذي أقيم في جامعها ابتهاجاً بالنصر، ووزع دور المدينة على أكابر الفرسان، ومعظمهم من جماعة فرسان شنت ياقب، وجماعة فرسان قلعة رباح. وكانت جيان من مراكز العلوم والآداب بالأندلس، وإليها ينتسب عدد كبير من العلماء والأدباء، ومنهم الحافظ أبو علي الجيانى، والفقيه أبو ذر مصعب ابن محمد بن مسعود الخشنى. ومما أنشده بعض أهل جيان عند الخروج منها هذان البيتان: أودعكم أودعكم جيّاني ... وأنثر عبرتى نثر الجمان وانى لا أريد لكم فراقا ... ولكن هكذا حكم الزمان (¬1) ونزل ابن الأحمر للقشتاليين، عدا جيان، عن أرجونة بلده ومثوى أسرته، وعن بركونة وبيغ والحجار، وكذلك نزل إليهم عن أرض الفرنتيرة لعجزه عن الاحتفاظ بها (¬2). وهكذا اشترى ابن الأحمر سلامته، وسلامة مملكته وأراضيه بهذا الثمن الفادح، وارتضى بالأخص أن يضحى باستقلاله السياسي وهيبته الملوكية إلى حين، وذلك لكي يأمن شر عدوان خصمه القوي القاهر، ولكى يتفرغ إلى تنظيم مملكته وإلى توطيد سلطانه الداخلي (¬3). - 2 - كان من الواضح، في تلك الآونة، بعد أن توالى سقوط قواعد الأندلس الكبرى، الشرقية والوسطى: قرطبة وبلنسية وشاطبة، ودانية، وبياسة، وأبدة وجيان، وكثير غيرها، وذلك كله في فترة قصيرة لا تعدو عشرة أعوام، أن الأندلس الكبرى قد انهارت دعائمها، وتحطمت منعتها، وقواها الدفاعية، وأنه باستثناء القواعد الجنوبية التي اجتمعت في ظل مملكة غرناطة، والتي يسيطر عليها ¬_______ (¬1) الروض المعطار ص 72. (¬2) أرجونة بالإسبانية Arjona، وبركونة Porcuna، وبيغ أو بيغو Priego، والحجار هي Higuéra، وكلها تقع في منطقة جيان. (¬3) راجع ابن خلدون ج 7 ص 190، والذخيرة السنية ص 72، وابن الخطيب في اللمحة البدرية ص 36، وفي الإحاطة المطبوع ج 2 ص 65

ابن الأحمر، لم يبق من قواعدها الكبرى دون فتح، سوى مدينة إشبيلية العظيمة وأحوازها، والقواعد القريبة منها في الشرق والغرب والجنوب. كانت إشبيلية بعد قرطبة، هي التي تجذب عندئذ أنظار ملك قشتالة، وأنظار الأحبار وجماعات الفرسان النصارى، وهم الذين كانوا يفوزون من غنائم المدن المفتوحة، بأعظم قسط. ولكن إشبيلية لم تكن هدفاً سهل المنال، ولم تكن مثل قرطبة مجردة من وسائل الدفاع، وكانت خطوطها الدفاعية الأمامية، ماتزال تدعمها طائفة من القواعد والحصون القوية، التي كان لابد من إخضاعها قبل الإقدام على منازلة إشبيلية ذاتها. وكانت إشبيلية مذ عمت الفتنة أرجاء الأندلس، وتوالت الثورة ضد الموحدين في مختلف القواعد، تتولى مصايرها بنفسها، وترسم لنفسها خطة قيادتها وحكمها. وكانت باعتبارها أعظم حواضر الأندلس في ذلك العصر، وباعتبارها مركز الحكم الموحدي بالأندلس، تتخذ مركز القيادة في تصرفاتها واتجاهاتها، وقد لبثت تحتفظ بهذه الصفة، حتى قيام أبي العلى المأمون بها، واتخاذه لقب الخلافة، وذلك في سنة 624 هـ، ثم مغادرته لها ليعبر إلى العدوة، وذلك في أواخر سنة 626 هـ (أواخر سنة 1228 م). ولما قام ابن هود بثورته في شرقي الأندلس، وبزغ نجمه، وأطاعته معظم القواعد الشرقية والوسطى، خلعت إشبيلية طاعة الموحدين، ونادت بطاعته، وولي عليها أخاه عماد الدولة. ولكن أهل إشبيلية لم يلبثوا طويلا على طاعته، فنكثوا ببيعته، وأخرجوا أخاه من المدينة، والتفوا حول قاضيهم ابن مروان الباجى، وذلك في سنة 629 هـ. ولما قوي أمر ابن الأحمر أمير جيان يومئذ في المنطقة الوسطى، واشتدت المنافسة بينه وبين ابن هود، تفاهم ابن الأحمر مع الباجى، وتحالف الإثنان على قتال ابن هود، وهزماه على مقربة من إشبيلية (631 هـ)، ودخل ابن الأحمر إشبيلية، وغدر بحليفه الباجى، ودس عليه من قتله، فثار به أهل إشبيلية، وأخرجوه منها، ونادوا بطاعة ابن هود مرة أخرى. ولما توفي ابن هود في أوائل سنة 635 هـ، وانهارت بوفاته دعوته في معظم القواعد، رأى أهل إشبيلية أن يعودوا إلى طاعة الدولة الموحدية. وكان زعيمهم عندئذ الفقيه أبو عمرو بن الجد، وهو حفيد الحافظ الشهير أبي بكر بن الجد، وبعث أهل إشبيلية بدعوتهم وفداً إلى الخليفة الرشيد بمراكش، وقدموا للولاية عليهم

السيد أبا عبد الله بن السيد أبي عمران، وأقره الرشيد في منصبه، وهكذا عادت الحاضرة الأندلسية الكبرى إلى الانضواء تحت لواء الخلافة الموحدية. على أن هذا العود إلى طاعة الخليفة الموحدي لم يكن سوى مسألة شكلية فقط، وكان حكم المدينة الفعلي باقيا بيد زعيمها القوي ابن الجد. وكانت إشبيلية في الواقع منذ اضطرب أمر الموحدين، وعمت الفتنة أرجاء الأندلس، تتمتع في إدارة شئونها بنوع من الإستقلال المحلي، وذلك بالرغم من انضوائها تحت لواء هذا الأمير أو ذاك. ثم إن هذا العود لم يطل أمده، ذلك أن أحوال الخلافة الموحدية وما كان يضطرم حول عرش مراكش من الخلافات والحروب، كان نذيراً بانحلال الدولة الموحدية وتضعضع قواها، وعجزها عن أن تنجد الأندلس وقت الخطر الداهم. ومن جهة أخرى، فقد كانت الدولة الحفصية التي قامت بإفريقية على أنقاض سلطان الدولة الموحدية، وأخذ نجمها يبزغ في الأفق، تبدو بما تتمتع به من القوي والموارد والفتوة، ملاذاً أفضل وأقدر على تأدية رسالة المغرب القديمة في إنجاد شبه الجزيرة، وكانت مبادرة أميرها أبي زكريا الحفصى إلى إنجاد بلنسية، حينما دهمها النصارى استجابة لصريخ أميرها أبي جميل زيان سنة 636 هـ، ماتزال بالرغم من إخفاقها في تحقيق الغاية المنشودة، مثلا يضرب في الشهامة والوفاء، والجهاد في سبيل الله. ومن ثم فقد انتهى أهل إشبيلية بتوجيه زعيمهم أبي عمرو ابن الجد، إلى خلع طاعة الخلافة الموحدية، والاتجاه إلى الدولة الحفصية، وإعلان بيعتها. وكان لهم في ذلك أسوة، بما قام به ابن الأحمر نفسه في بداية أمره، وما قام به أبو جميل زيان أمير بلنسية، من مبايعة الدولة الحفصية والانضواء تحت لوائها. وعقد أهل إشبيلية بيعتهم للأمير أبي زكريا يحيى الحفصي في سنة 643 هـ (1245 م)، وبعثوا بها إلى تونس مع وفد من كبرائهم. وفي نفس هذا العام أعلن أبو علي بن خلاص صاحب سبتة بيعته أيضاً إلى الأمير أبي زكريا، وبعث بها مصحوبة بهدية إلى الأمير مع ولده في سفينة خاصة، فغرقت باليم بمن فيها. ولما وصل وفد إشبيلية إلى تونس، وعلم بأمر بيعة سبتة، استقبل الأمير أبو زكريا البيعتين بمنتهى الارتياح، وندب للولاية على سبتة ابن الشهيد الهنتاني، وعلى أشغالها ابن أبي خالد البلنسى، وندب لولاية إشبيلية ابن أخيه أبا فارس عبد العزيز ابن الشيخ أبي حفص لكي يستقر في قصبتها، ويشرف على شئونها إلى جانب

ابن الجد (¬1) ووجه الأمير إلى أهل إشبيلية بتاريخ العاشر من محرم سنة 646 هـ رسالة، يعرب فيها عن اغتباطه ببيعتهم، ويعدهم بأن يمهد لهم سبل إصلاح شئونهم، وتوفير أمنهم وسلامتهم، والبدار إلى إنجادهم عند النوائب والخطوب، وأن يثقوا بنصر الله وإمداده (¬2). وعاد وفد إشبيلية بعد إتمام مهمته، في تقديم البيعة للأمير الحفصي، وصحبهم الوالي وبعض رجاله والقائم بالأعمال، ووصلوا في جملة من السفن إلى إشبيلية، وهنالك قام أولئك النفر من أهل إفريقية بارتكاب ضروب من الفساد والأمور الشنيعة " التي لا يمكن ذكرها ". فأخرجهم أهل إشبيلية من مدينتهم، وقتلوا ابن الجد، إذ كان هو السبب فيما حدث، وأدى إلى مقدم هؤلاء القوم المفسدين. وتزيد الرواية على ذلك، أن مقتل ابن الجد كان سببا في زحف النصارى على إشبيلية وحصارهم لها، إذ كان ملك قشتالة مصادقا لابن الجد " ومصالحا له على المسلمين " فلما قتل فسد هذا الصلح، وقام النصارى بحصارهم (¬3). على أن ذلك لم يكن وحده سبباً في قيام الثورة التي أودت برياسة ابن الجد وحياته، ذلك أنه كان لابن الجد خصوم ومنافسون أقوياء، وكان من أخطاء ابن الجد، أنه طرد أولئك الخصوم من ديوان الحكم، وأخرج بعضهم من قيادة الجيش، فنظمت المؤامرة، وقامت الثورة. وكان أبرز زعمائها القائد شقاف وهو الذي تسميه الرواية الإسلامية " بقائد الفحص شقّاف " (¬4) وتسميه الرواية النصرانية Axataf. وفي الحال تولى الزعماء الجدد الرياسة، وأعلنوا بطلان المعاهدة التي عقدها ابن الجد مع النصارى، وجددوا الدعوة إلى طاعة أمير إفريقية الحفصى، وانضواء إشبيلية تحت لوائه (¬5). - 3 - وأما حقيقة هذه العلاقات التي كانت قائمة بين ابن الجد وبين فرناندو الثالث ملك قشتالة، والتي كانت كفيلة بقيام التهادن بينه وبين النصارى، وتأمين سلام ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 375، وابن خلدون ج 4 ص 171. (¬2) راجع نص هذه الرسالة في البيان المغرب ص 379 و 380. (¬3) البيان المغرب ص 381. (¬4) البيان المغرب ص 400. (¬5) ابن خلدون ج 4 ص 171، وكذلك: Is. de las Cagicas: Sevilla Almohade y ultimo Anos de su Vida Musulmana (Madrid 1951) p. 30

إشبيلية، فمردها إلى معاهدة كانت قد عقدت بين ابن الجد باعتباره صاحب إشبيلية أو أميرها، وبين ملك قشتالة، على نمط المعاهدة التي عقدت بين هذا الملك وبين ابن الأحمر، وخلاصتها أن يعترف بطاعة ملك قشتالة، وأن يؤدي إليه الجزية. وأن يشهد اجتمعات " الكورتيس " باعتباره من أتباعه، وأن يقدم إليه العون متى طلب إليه ذلك. وربما كانت تتضمن فوق ذلك، تعهده بتسليم بعض المواقع والحصون في منطقة إشبيلية. وقد رأينا فيما تقدم أنه لم يكن يكفل سكون ملك قشتالة المؤقت، ومسالمة الزعماء المسلمين سوى هذه العهود وأمثالها. فلما قتل ابن الجد، وانقلب أهل إشبيلية إلى مخاصمة النصارى، غضب ملك قشتالة لما حدث، وأبدى امتعاضه لمقتل صديقه ابن الجد (¬1). وكان زعماء إشبيلية الجدد، قد أدركوا غير بعيد، ما قد يؤدي إليه مخاصمة النصارى من سيىء العواقب، فحاولوا السعى في تجديد الهدنة مع ملك قشتالة، ولكن فرناندو الثالث لم يرد أن يعقد التفاهم مع زعماء إشبيلية الجدد، وبالعكس فقد كان يرى أن يتخذ مصرع ابن الجد ذريعة للتدخل والانتقام، وأن هذا هو الطريق المفضل عندئذ للتصرف والعمل، وأن الوقت حان لكي ينهض إلى افتتاح إشبيلية، خصوصاً وقد أصبحت الحاضرة الأندلسية العظيمة، معزولة، لا تستطيع أن تعتمد على أية معاونة عاجلة، لا من ملك غرناطة، وقد خضع لملك قشتالة، ولا من الموحدين، وقد نكثت إشبيلية ببيعتهم غير مرة، ولا من أمير إفريقية، بعد الذي حدث نحو عماله. وهكذا استقر الأمر على غزو إشبيلية وانتهى السلم الذي كان معقوداً بينها وبين القشتاليين (¬2). على أن افتتاح إشبيلية كبرى حواضر الأندلس، وهي أزخرها سكاناً، وأمنعها جانبا، وأكثرها حصوناً وقلاعاً، كان يقتضى أهبات خاصة. ومن جهة أخرى، فإن أخذها بالحصار، لم يكن أمراً ميسوراً، إذ كانت تقع في منطقة كثيرة الخصب والنماء، وكان اتصالها بالبحر عن طريق نهر الوادي الكبير، يمكنها من تلقى الأمداد والمؤن من عدوة المغرب. ومن ثم فإنه كان من الواجب إذا استقر الأمر على أخذها بالحصار، أن تخضع أولا سائر حصونها الأمامية من سائر النواحي، وثانيا أن تخرب سائر بسائطها الخضراء التي تمدها بالمحاصيل ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 171. (¬2) J. Gonzalez: ibid ; p. 100 & 101

والمؤن، وثالثا أن تحكم محاصرتها من ناحية البحر بالسفن حتى لا يتسرب إليها شىء من الأمداد من وراء البحر. وقد انتهى ملك قشتالة، بعد التشاور مع أكابر قادته وفرسانه، بأن قرر أن يلتجىء إلى وسيلة الحصار لإخضاع الحاضرة الأندلسية الكبرى، وأن يسير سفنه من الثغور الشمالية إلى مصب الوادي الكبير، ليحول دون تلقى المسلمين لأية أمداد أو مؤن تأتى من عدوة المغرب. وفي خريف سنة 1246 م (أوائل سنة 644 هـ) حشد ملك قشتالة بعض قواته، ولاسيما من فرسان شنت ياقب وفرسان قلعة رباح، وجيش قرطبة، وسار في قواته صوب إشبيلية، وعبر الوادي الكبير تجاه قرمونة، وأخذ ينتسف زروع هذه المنطقة ويخرب ضياعها، ويأسر من يلقى من المسلمين. وهنالك على مقربة من قرمونة، وافاه ابن الأحمر حليفه وتابعه في قوة قوامها خمسمائة فارس، مقدماً عونه وفقاً لعهوده. وسارت القوات المشتركة جنوبا نحو قلعة جابر (¬1) حصن إشبيلية من الجنوب الشرقي، وانتهى ابن الأحمر بإقناع حاميتها الإسلامية بتسليمها حقنا للدماء، وصونا للأموال والأرزاق، وتسلم فرناندو الثالث القلعة، ووضع بها حامية نصرانية، وأخذ النصارى في إصلاحها وتحصينها (¬2). وبعث فرناندو بعد ذلك بعض قواته بقيادة أخيه دون ألفونسو وبلاى كوريا أستاذ فرسان شنت ياقب، لكي تعبر الوادي الكبير غربا، وتقوم بتخريب فحص الشّرف الممتد أمام إشبيلية، وبعث حملة مشتركة من قوات غرناطة وقشتالة وفرسان قلعة رباح، لتسير جنوبا، ولتقوم بتخريب فحص شريش. وفي الوقت الذي كانت تقوم فيه هاتان الحملتان كل بمهمتها، ورد على ملك قشتالة نبأ وفاة والدته، فأمر باختتام الغزو، وصرف ملك غرناطة، في قواته، وسار إلى قرطبة ومنها إلى جيان، وهنالك قضى جانبا من الشتاء. وكانت هذه أول مرحلة في افتتاح إشبيلية. وفي أثناء ذلك كان أمير البحر رامون بونيفاس، قد حشد في ثغور كنتبريا أسطولا قويا، وشحنه بالبحارة والجند والمؤن. وحصل فرناندو من البابا على قرار بأن تخصص الكنيسة القشتالية والليونية ثلث إيراداتها للمساهمة في نفقات الحرب. ولما تمت هذه الأهبة سار ¬_______ (¬1) وهي بالإسبانية Alcala de Guadaira. (¬2) راجع الذخيرة السنية ص 72 و 73

خريطة: قطاع إشبيلية وأحوازها ومواقع الغزو القشتالي 644 هـ - 1246 م

فرناندو إلى قرطبة، وهي التي اتخذها مركزاً لتجهيز الحملة (صيف سنة 1247 م) وهنالك احتشدت قوات جماعات الفرسان الدينية، وقوات ليون وبطليوس وغيرها، وسير فرناندو بعض قواته إلى قرمونة، وهي أمنع حصون إشبيلية الأمامية من ناحية الشمال الشرقي، فخربت سائر البسائط المحيطة بها، ثم لحقت بها بعد ذلك قوات أخرى من مختلف ولايات قشتالة، وتزيد الرواية النصرانية على ذلك أن قوات غرناطة، كانت ضمن الحشود الوافدة على قرمونة، وهو ما يعنى اشتراك ابن الأحمر في جيش الغزو القشتالي لإشبيلية (¬1). والواقع أن الرواية الإسلامية حسبما نرى بعد، تؤيد وجود ابن الأحمر وجنده، تحت أسوار إشبيلية إلى جانب القوات القشتالية المحاصرة (¬2). وطوق النصارى قرمونة بحشود ضخمة، فلما رأى أهل قرمونة ضخامة هذه الحشود، وأيقنوا بعبث الدفاع، عرضوا تسليم المدينة بعد ستة أشهر، إذا لم تصلهم خلالها نجدة ما، فقبل ملك قشتالة هذا العرض، ثم سار في قواته صوب إشبيلية من طريق شمالية بحذاء الوادي الكبير، واستولى في طريقه على لورة بالأمان، واعترف أهلها بطاعته، ثم سار بعد ذلك إلى قنطلانة، الواقعة شمالي إشبيلية على الوادي الكبير، وهاجمها، واقتحمها عنوة، وأسر منها سبعمائة مسلم، وقصد بعد ذلك إلى غليانة، فسلم أهلها اعتباراً بما حدث لقنطلانة، وكذلك سلمت جرينة القريبة منها، وبعث فرناندو بعد ذلك قوة إلى بلدة القلعة الحصينة الواقعة على الوادي الكبير (¬3)، على مقربة من شمالي إشبيلية، فصمدت حاميتها وصممت على المقاومة. وكان أهل إشبيلية قد شحنوها بالجند والمؤن تقديراً لأهميتها في الدفاع عن المدينة. واضطر فرناندو أن يحاصرها، وضربها القشتاليون بالآلات، وخرجت حاميتها غير مرة لتشتبك مع النصارى في معارك عنيفة، وقام النصارى بتخريب سائر ما حولها من الكروم والزروع، وأخيرا رأى قائد الحصن أبو الحسن بن أبي على حاكم قرمونة السابق، أنه من العبث أن يستمر في الدفاع على هذا النحو، فاتفق مع ملك قشتالة على أن ينسحب في جنده، وهم ثلاثمائة فارس إلى إشبيلية، وأن ¬_______ (¬1) Cronica General (Ed. Pidal) V. II. p. 749 (¬2) ابن خلدون ج 7 ص 190. (¬3) قنطلانة هي بالإسبانية Cantillana، وغليانه Guillena، وجرينة هي Gerena، والقلعة أو قلعة النهر هي Alcala del Rio

تسلم المدينة بالأمان، وفقاً لأفضل الشروط الممكنة، وهكذا سقطت القلعة، وبسقوطها أصبحت سائر الحصون الأمامية لإشبيلية من جهة الشرق والشمال، والغرب كلها في أيدي القشتاليين (¬1). ونستطيع أن نتصور الدور الذي قام به ابن الأحمر ملك غرناطة في معاونة ملك قشتالة على إخضاع هذه المجموعة الكبيرة من البلاد والحصون الهامة، منذ قرمونة حتى القلعة، وذلك بإقناع أهلها والمدافعين عنها بالتسليم بالأمان، وإقناع ملك قشتالة من جهة أخرى بالتساهل في شروط التسليم، على أن دور الزعيم المسلم لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه كما سنرى إلى معاونة النصارى ومؤازرة جهودهم ضد المسلمين، بطريقة إيجابية فعالة. - 4 - وهنا وبعد أن جردت إشبيلية من سائر حصونها الأمامية وخطوطها الدفاعية الأولى، يأتى دور المرحلة الأخير في افتتاح الحاضرة الأندلسية الكبرى، ولم تكن هذه المرحلة سوى محاصرتها وإرهاقها، حتى ترغم على التسليم. وبدأ التمهيد للحصار بمقدم الأسطول النصراني بقيادة رامون بونيفاس، وكان يتألف من ثلاث عشرة سفينة كبيرة وعدة أخرى صغيرة، مشحونة بالرجال والمؤن، ودخوله إلى مياه مصب الوادي الكبير، وتخصيص قوة برية لمؤازرته على إحكام حصار المدينة من ناحية البحر، وثانيا على رد أية قوات تأتى لمناجزته، سواء من طنجة أو سبتة أو إشبيلية. وغادر فرناندو بلدة القلعة في قواته جنوبا إلى إشبيلية، وذلك في الخامس عشر من أغسطس سنة 1247، وأخذ يضع خطته لتنظيم الحصار. ولم يكن حصار إشبيلية أمراً سهلا، وكان لابد لتحقيقه من تعاون سائر القوات البرية والبحرية، ومن جهة أخرى فقد كان من الضروري أن يعمل حساب لهجمات المسلمين على مختلف القوات النصرانية، وقد كانت إشبيلية تموج بقوات مدافعة زاخرة حسنة الأهبة، وكانت مشحونة بكميات وافرة من الطعام توقعاً لحدوث هذا الحصار، وكان من حسن الحظ أن استطاع أهل المدينة أن يجمعوا محاصيل فحص الشرف قبل مقدم النصارى. وكانت مهمة القشتاليين في المرابطة على ضفة الوادي الكبير، ¬_______ (¬1) وردت سائر هذه التفاصيل في موسوعة Cronica General ; V. II. p. 749 & 750 وراجع أيضاً: J. Gonzalez: ibid ; p. 104 - 106

لحماية أسطولهم من الهجمات الفجائية من الأمور الشاقة، إذ كانت حامية حصن الفرج الإسلامية، وهو حصن إشبيلية الجنوبى الواقع على النهر، تهدد القوات القشتالية المرابطة على النهر باستمرار، وفضلا عن ذلك فقد كان طريق الشرف مفتوحا أمام ابن محفوظ صاحب لبلة، وكان بوسعه أن يفاجىء القشتاليين في أية لحظة. وفي الوقت الذي كان فيه ملك قشتالة يمهد لتنفيذ خطته في حصار إشبيلية، كان أهل إشبيلية من جانبهم يستعدون للذود عن مدينتهم بكل ما وسعوا. وقد سجل لنا التاريخ، ولاسيما عن طريق الرواية النصرانية، عن دفاع أهل إشبيلية، صحفاً رائعة من البسالة والتضحية. ولكن الرواية الإسلامية، لا تقدم إلينا مع الأسف تفاصيل شافية عن هذا الدفاع. بل هي لا تذكر لنا سوى القليل عن الزعماء الذين قادوا هذه المعركة الدفاعية المجيدة، التي استطالت خمسة عشر شهراً. فهى لا تعرفنا بشىء عن القائد شقّاف وزملائه، يحيى بن خلدون، وابن شعيب، ومسعود بن خيار، وهم زعماء إشبيلية، الذين ألقى القدر عليهم تبعة السهر على مصايرها، في تلك الفترة الدقيقة، وكل ما هنالك أنها تحدثنا عن شقاف في كلمة عابرة، وتصفه " بقائد الفحص شقاف المشهور، الذي كان السبب مع قضاء الله تعالى في دخول النصارى مدينة إشبيلية " (¬1). وتحدثنا الرواية النصرانية عن زعماء إشبيلية وقت حصارها، فتذكر منهم شقاف وهو لديها Axataf، وتسميه أحيانا أبو الحسن الشقاف، والرئيس ابن شعيب (¬2). وإذا فلابد لنا أن نعتمد في استقاء تفاصيل الأحداث التي اقترنت بمصير إشبيلية الأخير، وكذلك أعمال الزعماء الذين قادوها عندئذ، بالأخص على أقوال الرواية النصرانية. وبدأ حصار إشبيلية في النصف الثاني من أغسطس سنة 1247 م (جمادى الأولى سنة 645 هـ)، وتقاسمت الكتائب القشتالية والليونية والجليقية، وغيرها من القوات النصرانية، مناطق الحصار، وضرب فرناندو الثالث محلته جنوبا على ضفة نهر الوادي الكبير، قريباً من سفن الأسطول النصراني، ولكنه اضطر إزاء هجمات المسلمين العنيفة، أن ينقل محلته إلى مكان قريب يسمى " بتلاطة ". واحتل الأسطول النصراني مياه مصب الوادي الكبير، وكانت مهمته ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 400. (¬2) Cronica General ; No. 1077, 1122 & 1123 ; - M. Lafuente: Historia General de Espana ; T. IV.p. 59

خريطة: حصار إشبيلية 645 - 647 هـ = 1247 - 1248 م. محلات الجيوش النصرانية المحاصرة

الأولى هي أن يمنع ورود الأمداد والمؤن على المدينة من طريق البحر. ولم يأت يوم 20 أغسطس، حتى كانت إشبيلية قد طوقت من كل ناحية، سواء من البر أو البحر. وكان من الأحداث المؤلمة التي تنفطر لها النفس، وجود ابن الأحمر أمير غرناطة على رأس قوة من فرسانه، إلى جانب القوات النصرانية المحاصرة، وذلك وفاء بتعهداته لملك قشتالة، وكان يرابط بقواته إلى جانب فرسان شنت ياقب جنوبي حصن الفرج، وهكذا كان هذا الأمير المسلم يشترك مع أعداء أمته ودينه في تطويق الحاضرة الإسلامية، ومحاولة افتتاحها، وتشريد أهلها وسحق دعوة الإسلام بها. ويفسر لنا ابن خلدون هذا التصرف المشين من جانب الأمير المسلم، بأن ابن الأحمر كان يرمى بمعاونة النصارى على هذا النحو، إلى الانتقام من أهل إشبيلية، لأنهم خذلوه ونكلوا عن طاعته، وأخرجوه من المدينة (¬1). على أن ذلك لم يكن يعنى أن المدينة، قد قطعت سائر علائقها الخارجية أو أنها عدمت وسائل الاتصال، ولاسيما مع عدوة المغرب. فمن الحقائق التي تسجلها الرواية النصرانية أنه في الوقت الذي يرابط فيه الأسطول النصراني في مياه الوادي الكبير، كان يوجد في نفس المياه عدد من السفن الإسلامية، ومعظمها في الغالب سفن مغربية، قدمت من مياه سبتة وطنجة، وأن اتصال إشبيلية بوادي الشرف، كان مكفولا عن طريق حصنها الغربي طريانة الذي تربطها به عبر الوادي الكبير قنطرة من السفن المثبتة بسلاسل حديدية ضخمة. وكانت المؤن مازالت بالرغم من الحصار، ترد على المدينة المحصورة، من العدوة، ومن الشرف، وغربى الأندلس، وكان أهل إشبيلية، لاطمئنانهم إلى حالة التموين يحصرون اهتمامهم في مقاتلة النصارى، والاشتباك معهم كلما سنحت الفرص. وقد نظم المسلمون غير كمين للإيقاع بالنصارى، وأصيب النصارى بالهزيمة غير مرة، ومنى منهم فرسان القنطرة وقلعة رباح، بخسائر فادحة، وخرج المسلمون في قوة كبيرة، هاجمت المحلة الملكية، فردتها قوات ولى العهد ألفونسو والإنفانت إنريكى، فعادت إلى المدينة بعد أن تكبدت بعض الخسائر. وكان النصارى خلال الحصار يخرجون إلى القرى والضياع المجاورة، ويقومون بتخريبها وانتهابها، ومن ذلك أنهم اقتحموا منية البحيرة الغاصة بالحدائق، والرياض، الواقعة في جنوب شرقي المدينة، والتي كان قد أنشأها الموحدون، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 190

وعاثوا فيها، ونهبوا الماشية والمتاع والثياب، وقتلوا من كان بها من المسلمين، وأحرقوا دورها، وفعلوا مثل ذلك بربض مقرينه، الواقع في شمالها الشرقي. وأما، في مياه مصب الوادي الكبير، فقد كانت مهمة الأسطول النصراني، وهي قطع الإمداد والمؤن عن المدينة، من طريق البحر، مهمة شاقة، وكانت السفن الإسلامية التي وردت من مياه طنجة وسبتة، تثير في وجه السفن النصرانية، صعابا جمة، وكانت تفسح الطريق للأمداد والمؤن الواردة من العُدوة، وتعمل على حمايتها، حتى تجد سبيلها إلى المدينة، وقد حاول البحارة المسلمون فوق ذلك أن يحرقوا السفن النصرانية بالنار اليونانية، واقتربوا منها بالفعل، تحميهم من ضفة النهر بعض حشود من الجند، وأمامهم مواعين مملوءة بالزيت والمواد الملتهبة ولكن النصارى فطنوا إلى المحاولة، وهاجموا المسلمين من البر والبحر، فلجأ الجند الذين بالشاطىء إلى قلعة طريانة، ونشبت بين سفن الفريقين معركة شديدة، واستطاع المسلمون أن يقذفوا موادهم الملتهبة، ولكن النصارى استطاعوا أن يخمدوا النار قبل اندلاعها. وهكذا فشلت المحاولة، ولكن المعارك البحرية الجزئية كانت تضطرم بين الفريقين باستمرار. وفي ربيع سنة 1248 م، وفدت على المعسكر النصراني طوائف كثيرة من الجند، منها قوة من فرسان قشتالة، بقيادة ولى العهد ألفونسو، وقوة من فرسان قطلونية، بقيادة ألفونسو ولى عهد أراجون، وقوة من الفرسان البرتغاليين بقيادة بيدرو ولى عهد البرتغال، وقوة من جند بسكونية وقشتالة القديمة بقيادة لوبيث دي هارو، وكذلك قدم يوحنا مطران شنت ياقب في قوة من جند جلّيقية، قدمت حشود أخرى من مدينة سالم، ومدلين، وقورية، وغيرها، ووفد كثير من الأساقفة والرهبان، وفرسان الجماعات الدينية، وانضمت هذه الحشود الجديدة، إلى القوات المحاصرة، في مختلف مناطق الحصار، وهكذا عزز الحصار حول إشبيلية، وأحكمت حلقاته، وعول ملك قشتالة، أن يلجأ إلى الوسيلة، المأمونة المؤكدة، وهي إرهاق المدينة بأقصى ما يستطاع، وإرغامها على التسليم بالجوع والحرمان. وكان قد مضى على حصار النصارى لإشبيلية زهاء تسعة أشهر وهي صامدة، تزداد ثباتا وإصراراً على مدافعة النصارى، ولكنها مذ أحكمت حولها حلقات الحصار، أخذت تشعر بالضيق يدب إليها حثيثاً، وشبح الجوع يقترب منها شيئاً فشيئاً. ولم يبق لديها عندئذ سبيل للتنفس البطىء سوى طريانة، قلعتها

الجنوبية الغربية المشرفة على الشّرف. وهنا كرر أهل إشبيلية صريخهم إلى المغرب، وإلى سائر أمرائه وزعمائه، يصفون محنتهم الغامرة، ويلتمسون الغوث والإنجاد قبل فوات الوقت. وكان مما نظمه في هذه المناسبة شاعر إشبيلية يومئذ، إبراهيم ابن سهل الإشبيلي الإسرائيلى قصيدة مؤثرة، يستصرخ فيها أهل العدوة، ويستحثهم على المبادرة إلى نصرة إخوانهم في الدين وفيها يقول: ورداً فمضون نجاح المصدر ... هي عزة الدنيا وفوز المحشر نادى الجهاد بكم بنصر مضمر ... يبدو لكم بين القنا والضُّمر خلوا الديار لدار عز واركبوا ... عبر العجاج إلى النعيم الأخضر وتسوغوا كدر المناهل في السرى ... ترووا بماء الحوض غير مُكدّر يا معشر العرب الذين توارثوا ... شيم الحميّة كابرا عن أكبر إن الإله قد اشترى أرواحكم ... بيعوا ويهنئكم وفاء المشترى أنتم أحق بنصر دين نبيكم ... ولكم تمهد في قديم الأعصر أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا ... ذاك البناء بكل لون أسمر (¬1) ونظم أبو موسى هرون بن هرون قصيدة طويلة، يصف فيها محنة أهل إشبيلية حينما طوقها النصارى، وما نزل بأهلها من صنوف الآلام والخطوب، ويهيب فيها بأهل العُدوة أن يبادروا إلى إنجادها، وتدارك أهلها، وقد جاء في أولها: يا حمص أقصدك المقدور حين رما ... لم حق فيك الردى إلا ولا ذمما جرت عليك يد الدهر ظالمة ... لا يعدل الدهر في شىء إذا حكما ما كنت أحسب أن الحادثات إذا ... همت بك السوء لا تلقى لك السلما قد كان حسنك فتان الشباب فمذ ... أصبت عوضت منها القبح والهرما يا جنة زجرتنا عن زخارفها ... ذنوبنا فلزمنا البت والندما ومنها في وصف الحصار ومصائبه، واستنهاض همم أهل العدوة: ويمموا حمص في جمع يضيق به ... ذرع الفضا بالمرهفات الماع فاكتتما واستوطنوا القبر في الوادي وقام لهم ... جسر منه الفلك لا تشكو به السأما فكم أسارى غدت في القيد موثقة ... تشكوا من الذل أقداما لها حطما ¬_______ (¬1) أورد لنا هذه القصيدة صاحب الذخيرة السنية، ص 74 وما بعدها

وكم صريع رضيع ظل مختطفا ... عن أمه فهو بالأمواج قد فطما وكم بطريانة أبقى الأسبى ندبا ... في القلب يبعث وجدا كلما كلما يا حسنها عرف للحسن جامعة ... ما طار قط لها إلا النعيم جما يا عين فابك على حمص وقل لها ... منك البكاء إذا ما ترسليه دما وقد أصيبت بها الدنيا وساكنها ... حقاً وأصبح ركن الدين قد ثلما سطا بها الكفر إذ قل النصير بها ... فمن معز بها الإسلام ما سلما يا أهل وادي الحما بالعدوة انتعشوا ... هذا الذماء فقد أشفى به سقما فماذا يبطئكم عنا وحولكم ... أن تبصروا دار قوم أصبحت رمما وحقنا واجب فالدين يجمعنا ... مع الجوار الذي مازال منتظما وقد دعونا فأسمعنا على كثب ... بما قد استنفد القرطاس والقلما (¬1) وكان الاستيلاء على قلعة طريانة حصن إشبيلية من الجنوب الغربي، أهم ما يشغل بال النصارى، وكان لابد قبل محاولة الاستيلاء عليها أن تحطم القنطرة القوية الضخمة، التي تربطها بإشبيلية عبر الوادي الكبير، عند برج الذهب. وكانت هذه القنطرة، تتكون حسبما قدمنا، من مجموعة من السفن المثبتة بسلاسل ضخمة من الحديد. وهذا ما اعتزمه النصارى بالفعل. وجهز بونيفاس قائد الأسطول النصراني لهذا الغرض مركبين كبيرين، وركب في إحداهما. ودُفع المركبان نحو القنطرة، فنجحت إحداهما في قطع السلاسل الحديدية، وإحداث ثغرة في القنطرة، وأسرع الملك فرناندو في قوة كبيرة ليحمى بونيفاس ومركبه، وليحقق الفصل بين المسلمين في طريانة، وأهل المدينة، ووقع ذلك الحادث في اليوم الثالث من مايو سنة 1248 م. وكان تحطيم القنطرة على هذا النحو ضربة شديدة للمسلمين، إذ ترتب عليه الفصل بين قلعة طريانة، وبين المدينة، وقطع طريق الشّرف، وهو الملاذ الأخير الذي كان باقيا للمحصورين، لاستيراد الأقوات والمؤن، بعد أن أضحى طريق النهر محفوفاً بأعظم المخاطر. كما ترتب عليه عزل طُريانة وتعرضها لخطر هجوم النصارى. وهذا ما عول عليه النصارى بالفعل على أثر تحطيم القنطرة. ¬_______ (¬1) أورد لنا ابن عذارى نص هذه القصيدة بأكملها في البيان المغرب ص 382 - 384

على أن الاستيلاء على طريانة لم يكن مهمة سهلة. ذلك أن المسلمين كانوا على حذر، وكانوا يدركون أهمية طريانة الدفاعية، وكانوا لذلك قد شحنوها بالرجال والسلاح والمؤن، ورتبوا بها بالأخص جماعة من الرماة يستطيعون إصابة الفرسان بقذائفهم عن بعد. ومن ثم فإنه لما هاجمها النصارى بقوات كثيفة استطاعت حاميتها القوية أن تحطم هذا الهجوم الأول بسرعة، وعندئذ كرر النصارى هجومهم بشدة، والمسلمون يحبطون كل محاولة، وكان بالقلعة عندئذ زعيم إشبيلية الأول القائد شقاف. ولما تكرر فشل النصارى في اقتحام القلعة اقترب منها فرناندو بقواته، ودفع الحفارين إلى السور لإحداث ثلمة به، ولكن المسلمين نجحوا أيضاً في إحباط هذه المحاولة، وعندئذ عمد النصارى إلى محاصرة القلعة براً وبحراً، وضربها بمختلف الآلات، واعتزموا أخذها بالحصار، وقدمت سفنهم إلى النهر أسفل القلعة فنجحت بعد مجهود عنيف في قطع كل صلة بين طريانة وبين إشبيلية. واستمر الحصار حول إشبيلية وطريانة، وهو يشتد كل يوم، والحاضرة المحصورة تشعر بالضيق، يرهقها شيئاً فشيئاً، والنصارى يوالون ضربها بالآلات المخربة، حتى نفدت الأقوات، وأخذ الجوع يفتك بالمحصورين. ويصف ابن عذارى حالة المدينة المحصورة في قوله: " وعدموا المرافق كلها، قليلها وجليلها، إلا ما كان في بعض ديار الأغنياء مثل الفقيه القاضي ابن منظور، فإنه كان يطمع في إقلاع النصارى عن المدينة، فيأمر الناس بالقتال والرمى بالنبال، والناس مع ذلك حيارى، يمشون سكارى وما هم بسكارى. ومات بالجوع خلق كثير، وعدمت الأطعمة من القمح والشعير، وأكل الناس الجلود، وفنيت المقاتلة من العامة وأصناف الجنود " (¬1). وهكذا فتك الجوع والحرمان والمرض بأهل إشبيلية، وأضنتهم المعارك المستمرة بعد حصار صارم مرهق استمر خمسة عشر شهراً، وغاض كل أمل في الإنقاذ والإنجاد، فلم يتحرك الموحدون لانشغالهم بمكافحة بني مرين، وأمير إفريقية الذي اتخذ لقب الخلافة، ولم يتحرك أمير إفريقية لما سبق من موقف الإشبيليين نحو عماله، وربما أيضاً اعتباراً بما حدث من فشل محاولته لإنقاذ بلنسية، وقد كان إنجادها أقرب وأيسر. فلما بلغ الضيق أشده، طلب القائد شقاف وهو في طريانة، إلى النصارى هدنة ليتمكن ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 381 و 382

من الاتصال بأهل المدينة، والتفاهم معهم على التسليم. وبحث زعماء المدينة الموقف من سائر نواحيه، واتفقوا على أن يسلموا إلى ملك قشتالة القصر وجباية المدينة، على أن لا يدفعوا من المكوس أكثر مما كانوا يدفعونه لملوكهم، ولكن ملك قشتالة رفض هذا العرض الجزئي رفضاً باتا، فعاد الزعماء وعرضوا أن يسلموا القصر وثلث المدينة، فرفض هذا العرض أيضاً. واضطر الزعماء أن يتقدموا خطوة أخرى. فعرضوا أن يسلموا نصف المدينة، بعد أن يخليه المسلمون، وأن يترك النصف الآخر للمسلمين، وأن يقام بين النصفين سور فاصل. ونصح بعض مستشارى الملك إليه بقبول هذا العرض، ولكن ملك قشتالة أصر على أن يتسلم المدينة كلها حرة ودون شروط (¬1). وعندئذ لم ير زعماء إشبيلية وأهلها، بدّا من قبول مصيرهم المحتوم، وجرت المفاوضة بينهم وبين ملك قشتالة في تسليم المدينة، وذلك عن طريق ممثل ملك قشتالة، دون ردريجو ألباريس، وانتهت المفاوضات بين الفريقين على أن تسلم المدينة بالشروط الآتية: أن تسلم المدينة كاملة حرة سليمة، لا يهدم من صروحها شىء، وأن يغادرها سكانها مع السماح لهم بأن يحملوا معهم كل أمتعتهم المنقولة والمال والسلاح، وأن يسلم القصر في الحال بعد إخلائه عقب وضع شروط التسليم، وأن تسلم مع المدينة سائر الأراضي التابعة لها، وأن يعطى ملك قشتالة إلى القائد شقاف، والرئيس ابن شعيب، من بلاد الشرف، شلوقه وحصن الفرج، ثم لبلة متى تم افتتاحها، واتفق على أن تُمنح لأهل المدينة مهلة لا تقل عن الشهر لتسوية شئونهم وإخلاء دورهم، والتأهب للرحيل. ولما وُقع عهد التسليم بين الفريقين، سُلِّم القصر، وهو مقر الولاة، ويقع في جنوبي المدينة على مقربة من باب جَهْور، إلى ملك قشتالة، وبعث ملك قشتالة مندوبه ليرفع شعاره الملكى فوق برجه الأعلى، وكان ذلك في اليوم الثالث والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1248 م، وهو يوافق يوم الاثنين الخامس من شعبان سنة 646 هـ، وهو اليوم الذي تضعه الرواية الإسلامية لسقوط إشبيلية في أيدي النصارى (¬2). بيد أنه يوجد تاريخ آخر، هو ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 59 ; J. Gonzalez: ibid ; p. 118 ; Cronica General, No. 1122 (¬2) ابن الأبار في التكملة (القاهرة) ج 2 ص 903. ويقول صاحب الروض المعطار إنه اليوم الثالث من شعبان (ص 22)

تاريخ دخول النصارى المدينة، وهو يعتبر أحيانا تاريخ سقوطها. وقضى المسلمون زهاء شهر في إخلاء المدينة، وتصفية شئونهم، وبيع متاعهم، وكان ملك قشتالة، يسرح سريات من فرسانه لتأمين المهاجرين منهم بطريق البر حتى مدينة شريش، وحتى ثغر سبتة لتأمين المهاجرين منهم بطريق البحر، وخصص لذلك الغرض أسطولا يتكون من خمس سفن كبيرة، وثمانى صغيرة (¬1). وخرجت من إشبيلية جموع غفيرة من المسلمين يصعب تحديد عددها، وتشمل سائر الطبقات. ولم تحدد لنا الرواية الإسلامية عدد المهاجرين منها، ولكنها تقول لنا فقط إنه قد خرج الخاص منها والعام " وكل منهم في بحر المنايا غاص وعام، مماحل بهم من الأوجال والآلام " (¬2). وتقدر بعض الروايات من خرج من أهل إشبيلية من المسلمين بأربعمائة ألف، منهم مائة ألف هاجروا بطريق البحر إلى سبتة، وثلاثمائة ألف ساروا براً بطريق شريش (¬3). وتفرقوا في مختلف الأنحاء بالأندلس والمغرب. وقصد أكثرهم بالأندلس مملكة غرناطة، وذلك بتشجيع ابن الأحمر، وكورة لبلة وغربى الأندلس، وقصد من عبر البحر منهم إلى مختلف ثغور المغرب، ولاسيما سبتة وتونس، وكان في مقدمة من غادرها منهم زعيمها القائد شقاف، ولم يحفل بما عرضه النصارى عليه من منح وإقطاعات وعبر البحر إلى سبتة مع جماعة من القواد والأجناد، والظاهر أنه استطاع أن يتدخل في شئونها، وأن يشاطر واليها الحفصى ابن أبي خالد قسطا من السلطة، ولكن حدث بعد فترة قصيرة أن نهض زعيم سبتة الدينى الفقيه أبو القاسم العزفى، واستطاع بمعاونة حليفه القائد أبي العباس الرنداحى أن ينتزع الرياسة لنفسه، وقتل شقاف وعدة من أصحابه فيمن قتل من ضحايا الانقلاب، وذلك في شهر رمضان سنة 647 هـ (¬4). وبقيت إشبيلية، بعد أن غادرها أهلها، خالية ثلاثة أيام. وفي اليوم الثاني والعشرين من شهر ديسمبر سنة 1248 م " (أوائل رمضان سنة 646 هـ) دخل فرناندو الثالث ملك قشتالة، مدينة إشبيلية في موكب فخم، وكان مطران ¬_______ (¬1) الروض المعطار ص 22، وكذلك: J. Gonzalez: ibid ; p. 120 (¬2) البيان المغرب ص 385. (¬3) Cronica General: ibid ; No 1124 (¬4) الذخيرة السنية ص 85، والبيان المغرب ص 400 و 401

طليطلة قد قام بتحويل الجامع الأعظم إلى كنيسة، وصنع به هيكل مؤقت، فقصد إليه الملك النصراني، وحاشيته من أكابر الأحبار والقادة والفرسان، وأقيم قدّاس الشكر، ثم قصد فرناندو بعد ذلك إلى القصر وتسلمه، وعنى بوضع أسس الحكم للحاضرة المفتوحة، وجعل منها مركز مطرانية، كما كانت قبل الفتح الإسلامي، وقام بتقسيم دور المسلمين وأراضيهم، بين أولئك الذين بذلوا أكبر جهد في تحقيق الفتح. وبذلك اختتم الفتح، وأخذ النصارى في تقويض محلاتهم خارج المدينة ونزلوا بها (¬1). ومن ذلك التاريخ تغدو إشبيلية، عاصمة مملكة قشتالة، ومقر البلاط القشتالي، بدلا من طليطلة. وهكذا سقطت إشبيلية، حاضرة الأندلس العظمى، بعد أن حكمها المسلمون منذ افتتحها موسى بن نصير في سنة 712 م، خمسة قرون وثلث قرن، وحكمها الموحدون زهاء قرن، وكانت قاعدة حكومتهم بالأندلس، فجاء سقوطها، بعد سقوط قرطبة، وقواعد الشرق، تصفية نهائية لسلطانهم في شبه الجزيرة الإسبانية. وكانت إشبيلية إلى جانب قرطبة من أعظم مراكز العلوم والآداب في الغرب الإسلامي، وبها سطعت عبقريات فريدة في تاريخ الفكر الإنسانى، مثل بني زهر أعظم أساتذة الطب والكمياء في الغرب في العصور الوسطى، وأبي العباس بن الرومية أعظم النباتيين والعشابين، بعد ديسقوريدس. وسطعت إشبيلية أيام الطوائف في ظل بني عباد، ولبثت زهاء نصف قرن أعظم مجمع للآداب وللشعر والنثر في الأندلس. وجعل منها الموحدون قاعدة الحكم في الأندلس، وغدت في ظلهم أعظم حواضر شبه الجزيرة، وأزخرها عمرانا، وأجملها تخطيطاً وصروحاً، تتيه بمسجدها الجامع أعظم جوامع الأندلس، بعد جامع قرطبة، وبمنارته الشاهقة الرائعة، التي مازالت تقوم حتى اليوم أثراً من أعظم الآثار الأندلسية الباقية، وذلك بالرغم من تحويلها إلى برج لأجراس الكنيسة. ¬_______ (¬1) يراجع في فتح إشبيلية: البيان المغرب ص 381 و 382، وابن خلدون ج 4 ص 171 وج 7 ص 190، والذخيرة السنية ص 71 - 76 وص 80، والروض المعطار ص 22، ومن المراجع القشتالية: Cronica General (Ed. Pidal) No. 1080 - 1125 - J. Gonzalez ibid ; p. 98 - 121 - Is. de las Cagicas: Sevilla Almohade ; p. 31 - 33 -- M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 53 - 59

وكان لسقوط إشبيلية وقع عظيم في الأندلس، أو بعبارة أخرى فيما بقى من قواعدها وربوعها، وفي شبه الجزيرة الإسبانية كلها، وفي المغرب وسائر أنحاء العالم الإسلامي. وقد رثاها الشعر في قصائد عديدة مبكية، حتى قبل أن تسقط نهائيا في أيدي النصارى. وقد أوردنا فيما تقدم بعض ما نظمه الشعر في ذلك. - 5 - وكان سقوط إشبيلية نذيراً بسقوط سائر القواعد والبلاد القريبة منها، ولاسيما قواعد الغرب التي أصبحت معزولة عن بقية القواعد الأندلسية. وما كاد فرناندو الثالث ينتهي من تنظيم شئون " مملكة إشبيلية " ويستريح من عناء الغزوة الكبرى، حتى سيّر بعض قواته شرقاً وجنوبا، لتفتتح قواعد هذه المنطقة. وليست لدينا تفاصيل عن كيفية افتتاح هذه القواعد أو سقوطها في أيدي النصارى، ولكن الرواية النصرانية تجمل قصة هذه القواعد في قولها، إن فرناندو الثالث، استطاع عقب افتتاحه لإشبيلية أن يبسط سلطانه على شريش وشذونه والقلعة وقادس وشلوقة وأركش والبريجة وروطة أو روضة (¬1) بعضها بالفتح وبعضها بعقد المعاهدات، وأن إخضاع هذه القواعد قد تم في سنة 1249 م (647 هـ)، وتزيد على ذلك أن ابن محفوظ صاحب لبلة وما إليها من الأراضي والحصون، قد اعترف بطاعة فرناندو الثالث (¬2). ولكن الرواية الإسلامية تقدم إلينا عن إخضاع هذه القواعد بعض تفاصيل أخرى، فتقول لنا إن الوزير أبا خالد صاحب شريش أعطى في سنة 648 هـ للفنش (وتريد هنا فرناندو الثالث) مدينة أركش وحصن فريس، وحصن تنكر، والأفراس، وأن النصارى استولوا في نفس العام على قرمونة، والقلعة، والقليعة، وشلوقة، وغليانة، وروطة، وجميع حصن الوادي وحصن الفرج (¬3). ولنلاحظ أولا أن قرمونة، والقلعة، وغليانة، وهي من حصون إشبيلية الأمامية، قد سقطت كلها في أيدي النصارى، في سنة 645 هـ قبيل حصار إشبيلية. وأما عن شريش وهي أهم قواعد الفرنتيرة، فيلوح لنا أنها قد خضعت بمقتضى الاعتراف، وأن صاحبها أبا خالد، قد أعلن خضوعه ¬_______ (¬1) هي بالإسبانية على التوالى San Lucar, Cadiz, Alcala, Medina Sedonia, Jerez Rota, Lebrija, Arcos (¬2) J. Gonzalez: ibid ; p. 121 & 122 (¬3) الذخيرة السنية ص 87

لملك قشتالة، وتعهد بأداء الجزية، ومكّن النصارى من القصر دون أن يحتلوا المدينة، ونزل لملك قشتالة عن أركش والحصون التي سبق ذكرها، رهينة بحسن طاعته. والظاهر أن هذه الحالة قد استمرت عدة أعوام أخرى، لأن الرواية الإسلامية تقول لنا إن سرية من الفرسان النصارى قصدت إلى شريش في سنة 658 هـ (1260 م) برسم إخلاء موضع القناطر، وإخراج المسلمين منها، وأن ديارها قد أخليت بالفعل برسم الطاغية (ملك قشتالة)، وأن النصارى دخلوا قصبة شريش صلحاً في العام الثاني (659 هـ)، ثم أرادوا أن يغدروا بالمسلمين، فتغلب المسلمون عليهم، واستطاعوا إخراجهم منها بمعاونة قوة من عسكر بني مرين عبرت إلى شبه الجزيرة بقيادة عامر بن إدريس بن عبد الحق، وذلك في سنة 662 هـ (1263 م)، واحتل عامر بن إدريس، ومن معه من المجاهدين مدينة شريش، واستمروا بها زهاء عامين حتى أخرجهم القشتاليون منها، بقيادة ملكهم ألفونسو العاشر الملقب بالحكيم وذلك في سنة 1264 م (665 هـ) (¬1). وقد شاطرت مدينة قادس فيما يبدو نفس الظروف ونفس المصير، فخضعت أولا بإعلان الطاعة وأداء الجزية لملك قشتالة. ويبدو كذلك أن النصارى قد احتلوا قصبتها على غرار ما حدث في شريش. يدل على ذلك ما تذكره الرواية الإسلامية في حوادث سنة 647 هـ (1249 م) من أن القائد الرنداحى، وهو قائد الأسطول بها، قتل ثمانين من زعماء الروم بجزيرة (ثغر) قادس (¬2). وقد استمرت الأحوال على اضطرابها بقادس حتى افتتحها القشتاليون في سنة 1261 م، وافتتحوا في نفس الوقت شذونة، والبريجه، وغيرهما من قواعد الفرنتيرة. واستولى القشتاليون في العام التالي (662 هـ) على مدينة إستجة، الواقعة في جنوب غربي قرطبة. سلمها إليهم صاحبها ابن يونس بالأمان، ولكن قائدهم دون خيل ما كاد يدخلها في قواته، حتى أخرج المسلمين منها، وقتل معظمهم، واستولى على أموالهم، وسبي نساءهم، حتى أطلقهن من يده دون نونيو قائد قشتالة الأكبر، وعذل دون خيل على غدره بالمسلمين (¬3). وأما عن بقية قواعد ولاية الغرب، الواقعة غربي الوادي الكبير، وحتى ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 430 و 431، والذخيرة السنية ص 111 و 112. (¬2) الذخيرة السنية ص 85. (¬3) الذخيرة السنية ص 112

أراضي البرتغال، فقد كان معظمها تحت سلطان القاضي شعيب بن محفوظ، أقوى زعماء هذه المنطقة، وكانت مدينة لبلة الحصينة قاعدة حكمه، وبها ثار منذ سنة 632 هـ، ودعا لنفسه وتسمى بالمعتصم، واستطاع أن يبسط سيادته على معظم القواعد والأنحاء الواقعة غربي الوادي الكبير، وفيما وراء نهر وادي يانه. ولا تحدثنا الرواية عن شخصية ابن محفوظ، ولا عن أصله ونشأته. ويبدو لنا من مختلف القرائن، أنه كان من بقية زعماء الموحدين في تلك المنطقة، وتسبغ الرواية النصرانية عليه بالفعل هذه الصفة. ولما زحف القشتاليون على قطاع إشبيلية، وأخذت قواعدها وحصونها الأمامية تسقط في أيديهم، شعر ابن محفوظ بأن سلطانه في تلك المنطقة أضحى معرضاً للانهيار، فسعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة، وذلك بنفس الطريقة التي كان يجرى عليها سائر الزعماء المسلمين يومئذ، فنزل إليه وفقاً لقول الرواية الإسلامية عن مدينة طبيرة والعُلى وشلب والخزانة، ومرشوشة، وبطرنا، والحرة، وكلها من قواعد أقصى الغرب، وذلك في سنة 645 هـ (1247 م) (¬1). واعترف بطاعته على حكم لبلة كما تقدم. بيد أنه يبدو أن سلطان ابن محفوظ على قواعد الغرب، لم يكن يمتد إلى هذا المدى البعيد من قواعد الغرب البرتغالية، مثل طبيرة وشلب وشنتمرية الغرب. يدل على ذلك ما تذكره لنا الرواية الإسلامية بعد ذلك، من أنه لما تم لفرناندو الثالث افتتاح إشبيلية، تقدم ابن محفوظ في سبيل إرضائه خطوة أخرى، فنزل له عن حصن اللقوه، وجبل العيون، ووادي أنه، وشنتيل، والحصين، وشلطيش، وذلك صلحاً، على أن يبقى محتفظاً بلبلة وأحوازها مع الاعتراف بالطاعة وأداء الجزية (¬2). وهذه الأماكن كلها تقع في منطقة ولبة (أونبة القديمة)، شرقي نهر وادي يانه، وهو أقصى مدى كان يمتد إليه سلطان ابن محفوظ. أما قواعد الغرب البرتغالية، وهي شلب وطبيرة وشنتمرية الغرب، فقد كانت من نصيب الفتوح البرتغالية. وكان ألفونسو الثالث ملك البرتغال، قد أدرك مذ سقطت إشبيلية في أيدي القشتاليين، وساد الانحلال والفزع في سائر قواعد الغرب الإسلامية، وانهارت فيها الروح الدفاعية، أن الفرصة قد سنحت للاستيلاء على ما بقى بأيدى المسلمين من هذه القواعد، في أراضي البرتغال ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 76. (¬2) الذخيرة السنية ص 85

خريطة: خريطة تبين انهيار الأندلس وما كسبته الممالك الإسبانية النصرانية 633 - 660 هـ = 1236 - 1262 م. حدود الأندلس الشمالية قبل الانهيار

الجنوبية. وكان أخوه وسلفه الملك سانشو الثاني قد استولى على مدينة ميرتلة من المسلمين، وسلمها لفرسان شنت ياقب للقيام بالمحافظة عليها. وفي سنة 640 هـ (1242 م) استولى البرتغاليون على مدينة شلب، من يد واليها الموحدي واسمه المنصور، ولم يبق بعد الاستيلاء على شلب، وهي أهم قواعد الغرب الجنوبية، سوى طبيرة وشنتمرية الغرب. فأما طبيرة، فقد سقطت في أيدي الفرسان البرتغاليين في سنة 641 هـ (1243 م). وأما شنتمرية الغرب (¬1) فقد قام بافتتاحها ألفونسو الثالث، بعد أن حاصرها من البر والبحر، حتى اضطرت إلى التسليم، وذلك في سنة 647 هـ (1249 م)، واتفق على أن يحتفظ المسلمون الذين يريدون البقاء بها، بدينهم وشرائعهم وأموالهم، وأن يكونوا رعايا لملك البرتغال يؤدون إليه من المكوس ما كانوا يؤدونه إلى ملوكهم. وتابع ألفونسو الثالث بعد ذلك فتوحاته في هذه المنطقة الجنوبية، فاستولى على سائر الحصون والبلاد الإسلامية الباقية فيها، ولم تأت سنة 1250 م، حتى كانت ولاية الغرب البرتغالية كلها قد سقطت في أيدي البرتغاليين. وفي العام التالي عبر البرتغاليون نهر وادي يانه، ومضوا في فتوحهم في أراضي الغرب الأندلسية، وافتتحوا عدة من الحصون والقواعد على ضفته اليسرى، ومنها قلعتا أورشه وأورسينة الواقعتان على مقربة من لبلة. وكان ملك قشتالة، يعتبر عبور البرتغاليين إلى هذه المنطقة، اعتداء على أراضيه، ويرقب الفرصة لردهم إلى ما وراء نهر وادي يانه. ولما توفي فرناندو الثالث (1252 م)، وخلفه ولده ألفونسو العاشر، شعر ابن محفوظ صاحب لبلة أن ملك قشتالة الجديد، ليس له من الحزم والسطوة ما كان لأبيه، فأخذ يتحلل من عهوده، ثم أبي أن يدفع الجزية، وثار بمدينة لبلة الحصينة وامتنع بها، فسار ألفونسو العاشر إلى لبلة في جيش قوي، وضرب حولها الحصار، وكان ضمن حشوده فرقة من جند ابن الأحمر، بعث بها لتشترك في الحصار، وإخضاع ابن محفوظ، وفاء بعهوده القديمة، وبغضا منه لهذا الزعيم الموحدي، بقية الدولة البائدة في شبه الجزيرة. ولم يكن افتتاح لبلة أمراً سهلا، نظراً لمنعتها الطبيعية بوقوعها فوق ربوة عالية، ونظراً لأسوارها الصلدة العالية التي تحيط بها إحاطة تامة، ومن ثم فقد صمدت المدينة في وجه المحاصرين، واستمر صمودها عدة أشهر. وكان أبرز ما في حوادث هذا الحصار، ما قام به ¬_______ (¬1) وهي التي قامت فيما بعد على أنقاضها مدينة فارو Faro الحديثة

المسلمون من إطلاق النار والحجارة من فوق أسوار المدينة، من آلات قاذفة شديدة الفتك، يصحبها دوى كالرعد، لم يعرف كنهها ولم يسبق استعمالها في شبه الجزيرة، تشبه المدافع البدائية، وقد فتكت هذه الآلات بالجيش المحاصر، وأرغمته على إطالة الحصار أكثر من تسعة أشهر، ولكن المدينة المحصورة، اضطرت آخر الأمر، وبعد أن برحت بأهلها مصائب الحصار، ويئست من تلقى أية نجدة أو مدد، اضطرت إلى التسليم إلى القشتاليين بالأمان، وعوض ألفونسو صاحبها ابن محفوظ مقابل تسليمها، بأملاك وضياع واسعة في أحواز إشبيلية، وفي فحص الشرف. وكان تسليم لبلة في سنة 657 هـ (1257 م) (¬1). هذا ما تقوله الرواية النصرانية عن حصار لبلة وتسليمها. ولكن الرواية الإسلامية مع تأييدها لخضوع ابن محفوظ، وأدائه للجزية وفق صلح منفرد عقده مع النصارى، ومع تنويهها بهول حصار لبلة وروعته، تضع تاريخ تسليم لبلة في سنة 660 هـ، أو 661 هـ (1262 أو 1263 م)، أعني بعد التاريخ الذي تضعه الرواية النصرانية بنحو أربعة أعوام. ثم هي تذكر لنا عن مصير ابن محفوظ رواية أخرى، خلاصتها أن ابن محفوظ عبر البحر إلى المغرب مع أهله وصحبه، وقصد إلى الخليفة المرتضى بمراكش، وانضوى تحت لوائه، قائداً بالجيش الموحدي، وظل على تلك الحالة حتى توفي (¬2). وأما قواعد الغرب الواقعة شرقي نهر وادي يانه، والتي استولى عليها البرتغاليون، ومنها قلعتا أورشة، وأورسينة، فقد ثار بشأنها الخلاف بين البرتغال وقشتالة، وكاد يؤدي بهما إلى الحرب، لولا أن تدخل البابا، وانتهى الأمر بتسوية الخلاف بين ألفونسو العاشر ملك قشتالة وزميله ألفونسو الثالث ملك البرتغال، وذلك بأن يتزوج ملك البرتغال الأميرة بياتريس، وهي إبنة غير شرعية لملك قشتالة، وأن ينزل ملك قشتالة إليه، عن قواعد الغرب المذكورة، على أن يكون ذلك بطريق الإقطاع، وأن يقدم ملك البرتغال عربوناً بطاعته خمسين فارسا لمعاونة ملك قشتالة في حروبه كلما طلب ذلك إليه، وتم ذلك في سنة 1263 م (¬3). ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 119 (¬2) البيان المغرب ص 436. (¬3) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 120

هذا وقد توفي فرناندو الثالث ملك قشتالة، بعد مرض شديد، في الثلاثين من شهر مايو سنة 1252 م، في الرابعة والخمسين من عمره، وذلك بعد أن حكم ستة وثلاثين عاما، ودفن بمدينة إشبيلية آخر وأعظم فتوحه، وحاضرته الجديدة، فخلفه ولده، وولي عهده ألفونسو العاشر، وهو الذي لقب فيما بعد بالحكيم أو العالم. وتشيد التواريخ الإسبانية بخلال فرناندو الثالث وعبقريته، وعظيم مآثره، وتعتبره من أعظم ملوك إسبانيا، ومن أعظم ملوك العصور الوسطى، وترى أن فتوح " الاسترداد " La Reconquista ، قد وصلت على يديه إلى ذروتها، وذلك بافتتاح قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، وإشبيلية أعظم حواضر الأندلس. والواقع أننا نستطيع أن نعتبر فرناندو الثالث، هو قاهر الأندلس الحقيقي، وأنه هو الذي استطاع بضرباته وفتوحاته المتوالية لأراضيها وقواعدها، أن يحطم وحدتها وتماسكها، وأن يقوض صرحها الشامخ، الذي استطاع الموحدون أن يحتفظوا بسلامته زهاء قرن، وقد وضع افتتاحه لقواعدها الكبرى، حداً نهائياً لسيادة الإسلام في الأندلس الوسطى والغربية، وجاء استيلاؤه على قرطبة، وإشبيلية بالأخص، وهما أعظم مراكز الإشعاع الحضاري في الغرب الإسلامي، ضربة قاضية للنفوذ الحضاري والمؤثرات الأدبية الأندلسية، التي لبثت خمسة قرون متغلغلة في شبه الجزيرة الإسبانية. وقد لبثت ذكرى فرناندو الثالث عصوراً، تقترن بالأخص بحماسته الدينية وغيرته الكاثوليكية، والصفة الصليبية التي كانت شعار حروبه ضد الإسلام في الأندلس، حتى جاء البابا كليمنضوس العاشر، فأسبغ عليه صفة القداسة وتوّجه قديسا، وذلك في سنة 1671 م، وأضحى فرناندو الثالث من ذلك التاريخ يعرف بالقدِّيس فرناندو San Fernando أو فرناندو المقدس Fernando el Santo

الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحدية

الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحديّة

الفصل الأول عصر الخليفة أبى محمد عبد الواحد الرشيد

الفصل الأول عصر الخليفة أبي محمد عبد الواحد الرشيد بيعة الخليفة الرشيد. دخوله مراكش. بعض خواص عهده. قدوم ابن وقاريط زعيم هسكورة. موقفه من الرشيد. مغادرته للحضرة وإعلانه للعصيان. تحالفه مع يحيى. خروج الرشيد لقتال يحيى وحلفائه. هزيمة يحيى وفراره. قدوم الزعيم غنصلة إلى الحضرة. ما فعله قبل مقدمه بأهل قادس. أبو عثمان الجدميوى ورغبته في العودة إلى الطاعة. توسيطه لمبعوث الرومي جوان كيس في ذلك. ميل الزعماء الموحدين إلى العودة إلى الطاعة. القائد شانجه يعرض الأمر على الرشيد. موافقة الرشيد واغتباطه. مقدم أبي عثمان وصحبه إلى الحضرة. مساعيه ومفاوضاته في سبيل عود الموحدين إلى الطاعة. مساعى الرشيد ودعوته لهم. تأهبهم للقدوم ثم إحجامهم خوفا من عدوان الخلط. مسعود شيخ الخلط وأعماله العدوانية. اعتزام الرشيد القضاء عليه. يضع خطة لذلك. استدراج مسعود إلى الحضرة. تدبير المؤامرة لاغتياله. البطش به وبأصحابه ومصرعهم داخل القصر. القبض على عرب الخلط وإهلاكهم. دعوة الرشيد للموحدين للقدوم. رسل الموحدين إلى الرشيد. مطالبة الموحدين بإعادة رسوم المهدي. وعد الرشيد بتحقيقها. مقدم الموحدين إلى الحضرة. إعادة رسوم المهدي. إعادة حقوق الموحدين وأملاكهم. تضعضع الدولة الموحدية. تحالف الخلط وابن وقاريط ويحيى. زحف الحلفاء على مراكش. خروج الرشيد في قواته لقتالهم. هزيمة الرشيد وتمزيق قواته. عزمه على مغادرة الحضرة صونا لها. حيلته ليشق لنفسه طريق الخروج. نجاحه والخروج والفرار. التجاؤه إلى الجبل ثم إلى سجلماسة. الضيق والجوع في مراكش. عيث العرب في أحوازها. دخول يحيى وابن وقاريط والخلط المدينة. تغلب ابن وقاريط على الخليفة. فرار الموحدين من المدينة. استعداد الرشيد لاستئناف القتال. مسيره إلى مراكش. اللقاء بينه وبين يحيى وحلفائه. هزيمة يحيى والخلط. دخول الرشيد الحضرة وإنقاذها من العيث. غزو الجنويين لسبتة. ظروف هذه المحاولة وفشلها. التنكيل بالجنويين المحليين. مقدم أسطول جنوة ومحاصرته لسبتة. تعويض الجنويين وإقلاعهم. الخلط يدبرون خطة الانتقام. يبعثون ابن وقاريط سفيراً إلى ابن هود. استعداد الرشيد للقضاء على خصومه. مسيره إلى فاس. التجاء يحيى إلى عرب المعقل ومصرعه بأيديهم. يحيى وصفاته. عودة الرشيد إلى الحضرة. حوادث سجلماسة. مسير الرشيد إلى فاس. مهاجمة ابن وقاريط لسلا وفشل المحاولة. عوده إلى إشبيلية. وفاة ابن هود وعودة إشبيلية إلى طاعة الخلافة الموحدية. القبض على ابن وقاريط وإرساله إلى المغرب. إعدام جملة من زعماء الخلط. تعذيب ابن وقاريط وإعدامه. بيعة ابن الأحمر للرشيد. الثورة في السوس ومصرع زعيمها. المجاعة في سبتة وأسبابها. بنو مرين وسيطرتهم على الأقطار الغربية. وصولهم إلى فاس. تعيين ابن وانودين لولاية الأقطار الغربية. النزاع بينه وبين بني مرين. تقدم دعوة بني مرين. مصرع أبي سعيد عثمان أمير بني مرين. أخوه أبو معرف يخلفه في الإمارة. الشقاق بين بني مرين. تحالف ابن وانودين مع بني عسكر. محاربته لبني مرين. اجتماع بني مرين حول زعيمهم أبي معرف محمد بن عبد الحق. مسيرهم إلى مكناسة وفتكهم بالروم التابعين لابن وانودين. مسير

ابن وانودين لقتالهم. لقاء الفريقين قرب مكناسة. هزيمة ابن وانودين وحلفائه. التجاؤه إلى قصر عبد الكريم. تضاعف هيبة بني مرين وامتداد سلطانهم. ابن وانودين وقصته وعوده إلى مراكش. الرشيد يبطش بوزيره المومنانى. مصرع الرشيد في حادث البحيرة. مختلف الروايات حول ذلك. خلال الرشيد وصفاته. وزراؤه وكتابه. شخصه. بويع أبو محمد عبد الواحد الرشيد، حسبما تقدم عقب وفاة أبيه، وهو في طريق عودته على رأس جيشه من سلا إلى مراكش، وذلك في مستهل شهر المحرم سنة 630 هـ (18 أكتوبر سنة 1232 م)، وكانت بيعة خاصة انحصرت في أكابر الأشياخ والسادة، إذ كتمت وفاة الخليفة الراحل إلى حين. ولما وصل الرشيد في جيشه إلى الحضرة، بعد هزيمته لابن عمه يحيى بن الناصر، واستعدت الحضرة لاستقباله، بعد أن كانت على أهبة لرده، مما فصلناه من قبل، دخلها في منتصف شهر المحرم، ونزل بالقصر، وساد التفاؤل والبشر بين الناس، وكانت طوائف الموحدين والعرب التي قدمت مع يحيى، ولاسيما عرب سفيان وشيخهم يومئذ جرمون بن عيسى، قد عاثت في أرجاء العاصمة وخربتها، ونهبت من الأموال والذخائر مقادير طائلة. ووصل مع الرشيد كثير من عرب الخُلط المخلصين له ولأبيه من قبل، واستقروا في مختلف الأنحاء، ووصل معه كذلك عمه السيد أبو محمد عبد الله بن أبي سعد بن المنصور، فأنزله الرشيد أكرم منزل وولاه وزارته، وكانت له في الدولة مكانة رفيعة. ولما استقر الرشيد بمراكش، اجتمع الناس على طاعته، ووصلته البيعات من مختلف الجهات من الحواضر ومن القبائل. وكان عهد الرشيد الذي استطال زهاء عشرة أعوام، عهداً بعيداً عن الهدوء والاستقرار، مليئاً على قصره بالأحداث والانقلابات العنيفة. بيد أنه قد امتاز في نفس الوقت بوقوع بعض الظواهر الهامة، وفي مقدمتها عود الموحدين الخوارج، إلى تأييد الدولة الموحدية، وإحياء ما اندثر من رسوم المهدي، والقضاء على تمرد عرب الخلط، وقبيلة هسكورة، وتحرير البلاد من عيثهم، وطغيانهم، وامتاز أخيراً بتقدم دعوة بني مرين، وسيطرتها على معظم الأنحاء الشمالية. وفي أوائل سنة 630 هـ، قدم إلى مراكش عمر بن وقاريط زعيم هسكورة من جبله، ومعه أولاد الخليفة المأمون إخوة الرشيد الصغار، ومنهم السيد أبو الحسن، وكان أبوه قد تركه بإشبيلية في كفالة بعض الأشياخ، ثم أخرجه أهلها، فأخذ

إلى عمه أبي موسى بسبتة، ولجأ أولئك الصبية أثناء احتلال يحيى لمراكش إلى هسكورة، تحت كنف ابن وقاريط ورعايته. وكان ابن وقاريط منذ البداية من أنصار الخليفة المأمون، وخصوم ابن أخيه يحيى، ولكنه لما تولى الرشيد شعر نحوه بشىء من التوجس، بيد أنه توسل باستصحاب إخوته الصغار أبناء المأمون إلى الحضرة، إلى نيل عطفه وثقته، ولما وصل إلى مراكش واستقر بها، توثقت أواصر المودة بينه وبين السيد أبي محمد ابن أبي سعد عم الرشيد، وصديقه الحميم العلامة الفقيه أبي إسحاق بن الحجر، وكان من أقطاب عصره علما ومكانة، بيد أن ابن وقاريط لم يكن صادق الولاء، وكانت نفسه تجيش بنيات ونوازع مختلفة، لم تلبث أن كشفت عنها الحوادث. وكان ابن وقاريط، شعوراً منه بكثرة جمعه، وتوطد نفوذ قبيلته، يكثر من الرغبات والمطالب، وخصوصاً منذ توفي صديقه وناصحه السيد أبو محمد بن أبي سعد، وكان الرشيد يستجيب إلى معظم رغباته، ومن ذلك أنه منحه جباية هزرجة وأغمات وريكة، وغير ذلك. بيد أنه لم تهدأ ثائرة نفسه، وفي ذات يوم - آخر سنة 630 هـ - غادر مراكش بحجة الاتصال بإخوانه وإصلاح شئونه، ولكنه لم يعد، ولم يلبث أن كشف القناع، وأظهر العصيان للرشيد، والانضواء تحت طاعة منافسه يحيى المعتصم، وسار إليه بمقره ببلاد مزالة، وكان من الواضح أن عمله كان نذيراً ببدء فصل جديد، من الصراع بين الرشيد، وبين يحيى وحلفائه. - 1 - وذلك أن الرشيد لما علم بما وقع من عقد التحالف بين هسكورة ويحيى، حشد قواته، وخرج لقتال خصومه، واستخلف على مراكش صهره زوج أخته السيد أبا العلى إدريس، فقام على ضبطها وتسيير أمورها بحزم وكفاية. ولما وقف ابن وقاريط ويحيى، على أهبة الرشيد للقتال، أخذا في استنفار أنصارهما، واجتمعت حشود هسكورة ومزالة وجلاوة، وأخذت تتأهب للسير صوب مراكش، فبعثت أم الرشيد إلى ولدها تستحثه وتهيب به أن يستدرك الموقف قبل أن يهدد الأعداء العاصمة، فحول الرشيد خط سيره، وقصد إلى بلاد هزرجة، واخترق في طريقه بلاد هسكورة وخرب بسائطها، واستعد يحيى وحلفاؤه لمنازلته في حمى بعض الجبال، فسار الرشيد لقتالهم، ولما اضطرمت المعركة بين الفريقين، تخاذل أنصار يحيى وولوا الأدبار، واعتصموا بالجبال،

وتركوا محلاتهم، فاستولى عسكر الرشيد على ما فيها، وفر يحيى في فلوله إلى بلاد سجلماسة، وعاد الرشيد ظافر إلى مراكش (¬1). وقدم عندئذ إلى الحضرة الزعيم غنصلة (كونثالو) أخو شانجه (سانشو) قائد الروم (الجند النصارى) مع طائفة من الجند النصارى، وكان قبل مقدمه، قد جاز على مدينة قادس، وانقض عليها في عصبته، وفتك بأهلها، وحمل منهم عدداً من الأسرى. وكانت قادس يومئذ تدين بالطاعة لابن هود، ألد خصوم الخلافة الموحدية، واستاق غنصلة الأسرى المسلمين معه حتى ثغر آسفى، فقام أهله بافتدائهم، وتم تسريحهم، وبقيت قادس بعد ذلك خرابا حتى تملكها النصارى فيما بعد، في عهد ألفونسو العاشر (¬2). وكان أهم ما حدث في هذا العام - 631 هـ - هو التقرب بين زعماء الموحدين وبين الرشيد، وذلك على يد أبي عثمان سعيد بن زكريا الجدميوى. وكان يتردد على جدميوه، وهي من منازل الموحدين القديمة، بعض التجار النصارى، وكان من هؤلاء مبعوث " للرومى " جوان كيس وكيل شانجه قائد النصارى، وكان هذا المبعوث يتردد على أبي عثمان، ويقدم إليه مختلف الهدايا تسهيلا لمهامه، وأبو عثمان من جانبه يقوم بخدمته ومعاونته. ولما علم بذلك جوان كيس قرر أن يزور أبا عثمان وأن يوثق معه علائقه، فاستقبله الزعيم الجدميوى أجمل استقبال، وانتهز الفرصة فأبدى له رغبته في العودة إلى الطاعة، وأن يقوم بذلك المسعى القائد شانجُه، لمكانته من الرشيد، فأبدى جوان كيس اغتباطه بذلك، ووعد بتحقيقه. وكان الزعماء الموحدون الخوارج على الرشيد، قد برموا بحركات يحيى، وارتمائه في أحضان هسكورة وابن وقاريط، وهو خصمهم الأكبر، وسرت بينهم فكرة العودة إلى الطاعة، وعقد الصلح مع الرشيد. وكان أبو عثمان يسره أن يكون البادئ بهذا المسعى الحميد. ولما وقف القائد شانجه على ذلك أدرك ما لهذا المسعى من الأهمية والفائدة، وعرض الأمر على الرشيد وطلب موافقته، فأبدى الرشيد اغتباطه، وإصدر عهده لأبي عثمان بالأمان والقبول، فلما وصل العهد إلى أبي عثمان، بادر بالسير إلى الحضرة في أهله وإخوانه، ومن اتبعه من قبيلته، فاستقبله شانجه أجمل استقبال، وصحبه إلى الدار التي خصصت له، وشمله الخليفة هو وسائر ¬_______ (¬1) البيان المغرب - القسم الثالث ص 291 و 292، وابن خلدون ج 6 ص 254. (¬2) البيان المغرب ج 3 ص 292، والذخيرة السنية ص 70

صحبه بعنايته ورعايته وجزيل صلاته. وأخذ أبو عثمان يعمل على توثيق علائقه برجال الدولة من جهة، وعلى بث سعيه الحثيث، لدى زملائه الموحدين من جهة أخرى، ليجمع كلمتهم على الطاعة، والعود إلى الالتفاف حول كرسى الخلافة. واستمرت مساعيه ومفاوضاته في سبيل ذلك حينا، واستطاع في النهاية، أن يقنع زملاءه الموحدين بالعود إلى الطاعة، على أن يشملهم العفو التام، وعلى أن تعاد رسوم إمامهم وقوانينهم وتقاليدهم كما كانت، وهو ما وعد الخليفة بتنفيذه، وبذل الرشيد من جانبه، مساعيه لاستجلاب الموحدين، واستدعائهم إلى الحضرة، لما فيه خيرهم وصلاحهم، فبعث الموحدون إليه بالشكر والدخول في الطاعة، وأخذوا في الأهبة للسير إلى الحضرة، وندب الرشيد لمصاحبتهم والوصول معهم، عمه موسى بن الناصر، ولكن حدث أن وقف على ذلك شيخ الخلط مسعود بن حميدان، ورأى في انضمام الموحدين إلى الرشيد تقوية لشوكته، وإضعافا لمركز الخلط، فرتب قوة من رجاله، لتعترض الموحدين وتفتك بهم، وعلم الموحدون بتلك الخطة الغادرة، فارتدوا إلى جبلهم سالمين. ولما نمى ذلك إلى الرشيد، استشاط غيظاً، وتشاور في الأمر مع وزارائه وخاصته، واستقر الرأي على استدراج زعيم الخلط والقضاء عليه. وكان ابن وقاريط خلال ذلك، يجد في وضع خططه وإحكام وسائله، وكان يوحى إلى حليفه القديم، شيخ الخلط بمختلف المشاريع العدوانية، وشيخ الخلط مسعود من جانبه، يعيث فسادا في الأرض أينما حل، ويفرض سلطانه الغاشم على الناس، ويرهقهم بالمغارم والفروض، ويستبيح الأموال والحُرم، وكان وكيله، واسمه موسى الكافر، رجلا فاجراً يستطيل على رجال الخليفة وخدامه، دون حياء ولا وازع، وكان الرشيد يشهد ذلك كله، مظهراً الصبر والإغضاء، وهو يضطرم في قرارة نفسه رغبة في التخلص من هذا الزعيم المتجبر الباغى، ويرقب الفرص لتحقيق بغيته. ولم يكن القضاء على شيخ الخلط بالأمر الهين، فقد كان يعتمد على قوة محاربة تتألف من نيف وإثنى عشر ألف فارس، غير الأتباع والحشود التي لا تحصى، وكانت فرسانه وجنده، حسنة الأهبة كاملة السلاح، ولديه من الأموال والثياب والدواب والإبل مقادير وافرة، وبالجملة فقد كان مسعود ابن حميدان ملكاً غير متوج، قوي الشوكة، وافر البأس، وكان لابد للقضاء عليه

وعلى سلطانه، من التذرع بكثير من الحكمة والصبر والدهاء (¬1). ووضع الرشيد خطته لذلك بالاتفاق مع وزرائه ونصحائه، وخلاصتها، أن يرسل الجيش مع وزيره السيد أبي محمد الكبير في مهمة إلى بلاد حاحة. ذلك لأن شيخ الخلط كان يخشى المثول في الحضرة، مع وجود الجيش، ومن ثم فقد تحرك السيد أبو محمد بالجيش إلى حاحة برسم جبايتها. وعلى أثر ذلك بدأ الرشيد مسعاه في استدعاء مسعود بن حميدان إلى الحضرة، فقبل الدعوة بعد لأى وتسويف، واستقبل بمنتهى المودة والإكرام، وصار يتردد إلى باب الخليفة في جموعه، وكان يقيم بالحضرة معاوية بن وقاريط عم عمر بن وقاريط، وهو يظهر التبرؤ من عمر وفعله، والولاء للرشيد، بيد أنه كان من جهة أخرى، يبدى صداقته لمسعود، وقد أعد له هو وإخوانه ذات صباح مأدبة حافلة، ولكن الرشيد لم يصبر على تلك المظاهرة فأمر بالقبض على معاوية وإعدامه، وكان مسعود في ذلك الوقت نفسه في دار الخلافة لمصالح يقضيها، فلما نمى إليه الخبر لم يهتز له، وقال لقد أفسد علينا غذاء الخلط، فأقيمت له ولأصحابه في الحال مأدبة عظيمة، وبولغ في إكرامه والحفاوة به. وهنا وضع الرشيد خطته للإيقاع بمسعود، حينما يفد على القصر، وبث له الكمائن من الفتيان والعبيد والحشود، داخل القصر وحواليه. فلما حضر مسعود أذن له بالدخول، فطلب أن يدخل مع أصحابه، ولكنه أجيب إلى الدخول بمفرده، ومنع الصحب، فتردد أولا ثم ارتضى أن يدخل وحده، فلما وصل إلى مكان معين احتاط به يحيى بن عبد الرحيم، ونفر من العبيد والفتيان، فشعر بالخطر يحدق به، وشهر سيفه وصاح برفاقه الدين تخلفوا ورائه، وتمكن من اللحاق بهم، فشهروا سلاحهم وحاولوا الخروج، ولكن الأبواب كانت قد أغلقت، ففتحوا الباب الأول، بعد جهد، ولكن لقيهم من ورائه ابن ماكسن صاحب الشرطة وأعوانه، ولكنهم استطاعوا التغلب عليهم، ووثبوا إلى الباب الثاني، ولكنه كان أيضاً مغلقاً، وهجم عليهم في ذلك الفناء، كل من كان كامنا في الرياض من الفتيان والكتاب والخدم، وعرف الجميع أن العرب هم المطلوبون، ودافع مسعود ورفاقه عن أنفسهم أعنف دفاع، ولكن السيوف تلقفتهم من كل ناحية، وتساقطوا حول زعيمهم واحداً بعد الآخر، ثم كانت الخاتمة بمصرع ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 295 - 298

مسعود، فسقط مضرجا بدمه، واحتز رأسه في الحال، وحمل إلى الرشيد، فحمد الله على ما حقق من هلاك هذا الخصم الخطر، وفي الحال أمر الرشيد بالقبض على من كان بالحضرة من عرب الخلط، وقتلهم، والطواف بجثثهم، وكان مصرع مسعود بن حميدان، وانهيار سلطانه على هذا النحو، عمل انقاذ لموقف شديد الحرج، إذ كان عرب الخلط قد اشتد عيثهم في أنحاء البلاد، واغتصبوا جباياتها وعشورها، وأصاب البلاط الموحدي من جراء ذلك منتهى الضيق والإرهاق (¬1). ولم يمض على مصرع زعيم الخلط سوى أيام قلائل، حتى عاد الجيش الذي أوفد إلى بلاد حاحة، بقيادة السيد أبي محمد، بعد أن قام بمهمته. وعلى أثر ذلك قام الرشيد بتوجيه كتبه إلى الموحدين بالوفادة عليه، بعد أن مهد السبيل، وزالت العقبات، فبعث الموحدون إليه منهم رسولين، هما أبو بكر بن يعزى التينمللى، ومحمد بن بزريجن الهنتاتى، فاستقبلا في الحضرة بمنتهى الترحاب والبشر والتكريم، وغمرهما الرشيد بعطفه ورعايته. وأبديا للخليفة شروط الموحدين للعودة، وهي إعادة ما نسخه أبوه الخليفة المأمون، من رسوم الإمام المهدي، وذلك بإعادة اسمه في الخطبة، ونقشه في السكة، وإعادة الدعاء له بعد الصلاة، والنداء " بتاصليت الإسلام " " وسودوت " " وناردى " " وأصبح ولله الحمد" وغير ذلك مما جرى عليه التقليد، منذ قيام الدولة الموحدية، وقضى المأمون بإزالته، وتبعه في ذلك ولده الرشيد، فوعد الرشيد بتحقيق مطالبهم. وعلى أثر ذلك قدم الموحدون إلى الحضرة، ونزلوا فيما خصص لهم من الدور، وانتظموا كما كانوا في طاعة الخلافة، وتمهل الرشيد وقتاً في تنفيذ ما وعد به من إحياء رسوم المهدي، ولكنه لما شهد قلقهم وتوجسهم من ذلك، بادر بتنفيذ عهده، وأعيدت رسوم المهدي ابن تومرت كما كانت قبل إلغائها، واستقبل الموحدون ذلك بمنتهى العرفان والرضى (¬2)، وقرن الرشيد ذلك بأن رد على الموحدين دورهم وأملاكهم وأموالهم، وسائر حقوقهم وامتيازاتهم القديمة، فطابت نفوسهم، واتسعت أحوالهم، وأقبلوا على الانضمام إلى الجيش، والاضطلاع بنصيبهم من المسئوليات والشئون، ولاح أن الدولة الموحدية قد استردت سابق تماسكها ووحدتها وقوتها (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 301 - 303، وابن خلدون ج 6 ص 255. (¬2) البيان المغرب ص 304 و 305، وابن خلدون ج 6 ص 254. (¬3) البيان المغرب ص 306

- 2 - على أن الأمر لم يكن كذلك في الواقع. ذلك أن الدولة الموحدية لم تكن عندئذ سوى بقية هزيلة مما كانت عليه. ولم يكن سلطان الخليفة الموحدي يتعدى يومئذ أحواز العاصمة الموحدية - مراكش - وما إليها، وكانت أطرافها قد قصت من كل ناحية، ففضلا عن انسلاخ إفريقية، وقيام دولة بني حفص المستقلة بها، فقد غلب بنو مرين على معظم الأنحاء الشمالية الشرقية، ولبثت طوائف العرب، ولاسيما عرب الخلط، مسيطرة على الأنحاء القريبة من العاصمة، واستقر يحيى المعتصم مع فلوله في قطاع سجلماسة. ومن جهة أخرى، فقد كان لمقتل مسعود ابن حميدان زعيم الخلط، نتائج بعيدة المدى. ذلك أن طوائف الخلط هاجت وماجت، وأزمعت الانتقام، واختارت لزعامتها يحيى بن هلال بن حميدان، واضطرمت كلها بنار الفتنة، وانتهز ابن وقاريط تلك الفرصة، ليضع يده مع الخلط، وليذكى فيهم ظمأ الانتقام والعيث، وكان منذ هزيمته في هزرجة، قد لبث إلى جانب يحيى المعتصم. واستنفر الخلط سائر حشودهم، فاجتمعت منهم جموع غفيرة، وانضم إليهم يحيى وابن وقاريط بقواتهما، وزحفت الجموع المشتركة على مراكش، وعاثت في أحوازها، وانتسفت الزروع والرياض والبحائر القريبة، وضربت المدائن والقرى، وانقطعت المؤن والأمداد عن الحضرة، واشتد بها الضيق، وأخذ الجند في التسلل إلى الخلط، فعندئذ رأى الرشيد أن يدفع بقواته لمقاتلة المهاجمين، فخرج غنصالة، (كونثالو) قائد الروم في فرسانه، ومعه جند الرشيد، إلى وادي تانسيفت، حيث اجتمع الخلط وهسكورة، وكان معه أيضاً عبد الصمد بن يلولان الهسكورى، خصم ابن وقاريط الألد في جمع من أنصاره، ونشب بين الفريقين قتال عنيف، وقاتل الروم ومن معهم بمنتهى الشجاعة، ولكن تكاثرت عليهم الخلط وهسكورة وفتكت بهم، فهزموا هزيمة شديدة، وارتدت فلولهم عند دخول الليل إلى المدينة، فأغلقت أبوابها، وساد بها الاضطراب والفزع، وزاد الضيق وعدمت الأقوات، وانهارت هيبة الخلافة والخليفة، وأخذت الأمور تنذر بأخطر العواقب (632 هـ - 1234 م) (¬1). وعندئذ اقترح الموحدون على الرشيد، صونا للمدينة، وانقاذاً لها من الحصار والخراب، وانقاذاً لأهلها من الهلاك والأسر، أن يغادرها الرشيد، وأن يلجأ ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 307 و 308، وابن خلدون ج 6 ص 255

إلى جبال الموحدين في قاصية جبال الأطلس، فقبل الرشيد هذا الرأي، ولكن كان لابد لتنفيذه من أن يلتمس الرشيد له طريقاً للخروج والإفلات، من خصومه المتربصين به خارج الحضرة، ومن ثم لجأ الرشيد إلى الحيلة، فأمر بأن يكتب خطابان على لسان جرمون شيخ عرب سفيان، موجهان إليه، بانتصار عرب سفيان على الخلط، وأنهم مرابطون في وادي أم الربيع، وأنهم مازالوا على ولائه وطاعته. وقد كان عرب سفيان دائماً من أنصار المأمون وولده الرشيد، وكانوا من أعداء الخلط، ثم عهد بالخطابين المزورين إلى رسولين (رقاصين) أجزل لهما العطاء، وأمرا بأن يمرا قرب محلة الخلط، وأن يتظاهرا بأنهما قادمين من لدن عرب سفيان إلى الرشيد، فتمت الحيلة، وقبض الخلط على الرسولين، وضبط الكتابان، فقررا أنهما قدما من لدن جرمون، وأنه مقيم بحشوده في وادي أم الربيع، وخشى الخلط أن يكون قد وقع مكروه لباقى مواطنيهم، فقوضوا محلتهم خارج الحضرة، وساروا مع حلفائهم بني هسكورة صوب وادي أم الربيع (¬1). وما كاد الخلط وحلفاؤهم يبتعدون عن الحضرة، حتى بادر الرشيد فجمع أمواله وعتاده ومتاعه، وغادر مراكش في أهله وولده، ووجوه دولته، وأشياخ الموحدين، واستخلف على المدينة أبا محمد عبد الله بن زكريا، وخرج في أثره كثير من الناس بأهلهم، ولحسن الطالع لم يتعرض له أحد في ذلك اليوم، فسار في أمن حتى وصل ومن معه إلى أغمات. ولما علم الخلط بما حدث بعد يوم أو اثنين، هرعوا في أثر الخليفة الفار، وحاصروه بأغمات مدى يومين، شغلوا خلالها بالبحث عن الأقوات والمؤن، وتحيل الرشيد من جهة أخرى في الخروج صوب الجبل، فنجح، ووصل إلى أطراف الجبل، قبل أن يفطن إلى ذلك خصومه، ثم بعث بجنده إلى تينملل، ولما أدرك الخلط ما حدث، ولم يجدوا أحداً بالمحلة، ارتدوا على أعقابهم إلى حيث أتوا. وسار الرشيد، في قواته جنوبا، فاخترق بلاد هرغة، ثم اتجه شرقاً صوب سجلماسة، وكان واليها أرقم بن يحيى بن شجاع بن مردنيش، فامتنع، واستعد للمقاومة. ولكن طائفة من النصارى كانت بالمدينة، فتحت الأبواب وأعلنت الطاعة، فدخل الناس المدينة وأسعفوا بالأقوات، وهدأت الأحوال. وكانت مراكش، منذ غادرها الرشيد، قد ساد بها الاضطراب والضيق، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 310 و 311

وعزت الأقوات واشتد الكرب، وأكل الناس كل ما وصل إلى أيديهم من صنوف النبات والحشائش، ومات كثير من الجوع، وكان العرب خارج المدينة يحولون دون إغاثتها وتموينها، ويقيمون هم في خصب وسعة. ثم كان أن تسور المدينة السيد أبو ابراهيم بن أبي حفص الملقب بأبي حاقة، وفر الوالي أبو محمد بن أبي زكريا، وضبط السيد أبو ابراهيم البلد، وأمل الناس أن ينقذهم من عيث العرب وبطشهم، وبدأت تباشير الفرج بوصول الناس إلى الحقول والزرع الأخضر. وفي تلك الأثناء وصل يحيى المعتصم وابن وقاريط وطوائف الخلط إلى المدينة، فتوجس الناس شراً، ودخل يحيى في الحال مراكش واحتلها، واستولى أصحابه من العرب والهساكرة على الدور، ووزر ليحيى يومئذ أبو محمد بن وانودين، وأبو يحيى بن زكريا بن يجلد، ودخل ابن وقاريط في أشياعه، ونزل بدار الوزير السابق أبي سعيد بن جامع، واقتسم الزعماء القصور والرباع الفخمة، وغلب ابن وقاريط والعرب على الخليفة الضعيف يحيى. وكان المسيطر عليه يومئذ فتى أفاق يدعى بلال ويكنى أبا حمامة، وأوقع بلال هذا بعلى أخي يحيى ووشى به، فأمر يحيى بالقبض عليه ثم إعدامه، بالرغم من شفاعة ابن وقاريط والخلط، وكثر الإرجاف، وساءت الظنون، وخرج الموحدون الذين كانوا بالمدينة، وغادروها تباعا بمختلف الوسائل والحيل، وساروا إلى الجبل، وانتظروا يرقبون الحوادث. وكان دخول يحيى مراكش على هذا النحو في أواخر سنة 632 هـ (1235 م) فلبث بها حتى أوائل العام التالي، وكان الرشيد في تلك الأثناء بسجلماسة، ينظم شئونه، ويتخذ أهبته للمعركة المرتقبة. فلما شعر بعد بضعة أشهر بتحسن أحواله وازدياد قواته، واستجاب إلى نصرته عرب سفيان، وشيخهم جرمون بن عيسى، عول على التحرك والعمل. فخرج في قواته من سجلماسة، قاصداً إلى مراكش، وترامت هذه الأنباء إلى الحضرة، فسرى إليها الاضطراب، وخرج منها يحيى، وضرب محلته في ظاهرها استعداداً للقاء الرشيد، وقد تزايدت قواته بحشود حلفائه من الخلط وهسكورة. وسار الرشيد في قواته أولا صوب وادي أم الربيع، ثم هبط منه نحو العاصمة، وهنالك في مكان يسمى أوجدام التقى الفريقان، ونشب بينهما قتال هائل، استمر طول اليوم دون حسم، ثم استؤنفت المعركة بعد بضعة أيام، ونشبت بينهما معركة عنيفة أخرى، انقض خلالها الروم من عسكر الرشيد، على ناحية

الخلط، وهاجموهم بشدة، وفتكوا بهم، فولى الخلط الأدبار مع أميرهم، وتحطمت جبهة يحيى وحلفائه، وانتهبت محلاتهم، وسبي أولادهم ونساؤهم، وتحقق للرشيد نصر كامل، ودخل الرشيد حاضرته في حفل فخم، فأغدق صلاته على حلفائه من عرب سفيان، فاتسعت أحوالهم، وزادت جموعهم، وأعلن الصفح عن خصومه، وساد التهادن والسلم، وتم ذلك في أواسط أو أواخر سنة 633 هـ (1236 م) (¬1). وكانت هزيمة الخلط على هذا النحو الشامل، ضربة شديدة لتلك الطوائف الباغية المفسدة، أنقذت بها الخلافة الموحدية، وأنقذت مراكش من كابوس خانق، فانتظمت الأحوال وانتعشت النفوس، وعمرت الديار، وارتفعت المظالم المرهقة، التي كانت هذه الطوائف تنزلها بالناس، وأخذ الرشيد يستعد لمطاردة الخلط، والقضاء عليهم، وكانوا عندئذ قد انفضوا عن يحيى، وفر يحيى في نفر يسير من صحبه مفلولا كسيراً، والتجأ إلى جماعة من عرب المعقل. وحدث في هذا العام - سنة 633 هـ - الذي بلغت فيه الحرب الأهلية ذروتها من الاضطرام، حادث لم يلتفت البلاط الموحدي إلى خطورته، وإلى خطورة دلالته، وهو غزو الجنويين لثغر سبتة، ومحاولة الاستيلاء عليه. وكان الجنويون يفدون في سفنهم على سبتة للاتجار مع أهلها، ومع القبائل المجاورة، وترتب على ذلك أن نزل بها وبأرباضها كثير منهم، ففكر جماعة منهم في الاستيلاء عليها، لأهميتها البحرية والتجارية، فنمى ذلك إلى واليها عندئذ، وهو أبو العباس اليانشتى، فكتب إلى القبائل المجاورة يستنفرهم، وحدد لوفودهم يوما معينا. وفي ذلك اليوم، وفدت على سبتة، منهم جموع غفيرة، وخرج اليانشتى للقائهم، فأدرك الجنويون فشل مشروعهم، وأسرعو إلى باب المدينة، يحاولون امتلاكه فردتهم عساكر البربر، وقتلوا منهم عددا كبيرا، ورمى كثير منهم أنفسهم إلى البحر، ووصلوا إلى سفنهم الراسية فيه، ونهبت أموال الجنويين وفنادقهم، وهرع من بقى منهم إلى جنوة، وأبلغوا أهلها ما حدث، فحشد أهل جنوة في الحال نحو مائة مركب، وساروا لمحاصرة سبتة، ولما وصلوا إليها نصبوا عليها المجانيق، وضيقوا عليها، وعولوا على ضربها وأخذها بالحصار، فبادر صاحب المدينة اليانشتى إلى مفاوضتهم، واتفق معهم على تعويضهم عن كل ما حدث من الخسائر ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 318 - 324، وابن خلدون ج 6 ص 255

لمواطنيهم، وقدر هذا التعويض بمبلغ أربعمائة ألف دينار دفعها أهل سبتة، فتسلم الجنويون المال، وأقلعوا عن المدينة، ووقع ذلك في سنة 633 هـ (1236 م)، أو في سنة 632 هـ (1235 م) وفقاً لرواية صاحب روض القرطاس، وتضع بعض الروايات تاريخ هذا الحادث في سنة 636 هـ (1238 م) (¬1). وفي تلك الأثناء كان عرب الخلط يجمعون فلولهم ويدبرون خططهم. ذلك أنهم لم ييأسوا من المقاومة، واقترح عليهم ابن وقاريط أن يعترفوا بطاعة صاحب الأندلس، محمد بن يوسف بن هود، وأن يستنصروا به، لكي يرسل إليهم جنداً لمحاربة الرشيد، فوافق العرب على ذلك، وندبوا ابن وقاريط وجماعة من أعيانهم للسير إلى ابن هود. وكان ابن وقاريط في الواقع يتوق إلى مغادرة المغرب، بعد أن شعر بفداحة هزيمته وخسران قضيته، فعبر البحر مع رفاقه إلى الأندلس، ووفد على ابن هود، فرحب بمقدمهم، وشملهم بعطفه وجوده، ولبثوا بإشبيلية في ضيافته وتحت كنفه، حتى سنة 635 هـ، وانتظر عرب الخلط وأمرهم فوضى، نتيجة هذه السفارة، حتى تحرك الرشيد حركته الثانية.، فدب إليهم الذعر وتفرقوا في مختلف الأنحاء. وكان الرشيد عندئذ، قد استعد لحرب خصومه أعظم استعداد، وبذل الأعطية على نطاق واسع، وشمل الموحدين بسابغ عطفه وكرمه، وندب لولاية مراكش الشيخ أبا علي بن أبي محمد عبد العزيز، ولأشغالها أبا عبد الله بن أبي زيد التينمللى، ولقضائها أبا زيد المكادى، ولشرطتها يوسف بن عثمان الهنتاتي. وسار الرشيد في قواته أولا إلى فاس، والناس يرحبون به أينما حل. وفي فاس نظر في الشئون، وطلب تحصيل الجبايات، وأرسل الجيش إلى غُمارة بقيادة الوزير السيد أبي محمد سعيد بن المنصور. وخلفه في الوزارة الشيخ أبو موسى ابن عطوش. وبقى الموحدون في فاس. وحصلت الجبايات العظيمة من قبائل غمارة وفازاز، ومنح الجند أعطيتهم، ووسع عليهم، واستقامت الأمور، وتحسنت الأحوال. ووقع خلال إقامة الرشيد بفاس حادث حسم، هو مصرع يحيى المعتصم. وذلك أنه كان عقب هزيمته الأخيرة الساحقة، قد لجأ إلى عرب المعقل بقرب رباط تازا، واستجار بهم، فآووه ووعدوه بمؤازرتهم ونصرتهم، ولكنهم ¬_______ (¬1) راجع في غزو سبتة البيان المغرب ص 346 و 347، وروض القرطاس ص 183

أخذوا يرهقونه بمطالبهم، في إصدار الظهائر لهم بامتيازات وحقوق معينة، أملا منهم في عوده إلى الخلافة، فأبى يحيى ذلك عليهم، فقتلوه غيلة، ودفنوا شلوه، وذلك في يوم الاثنين 28 رمضان سنة 633 هـ (مايو سنة 1236 م)، وذلك بمكان يسمى فحص الزاد، يقع بين فاس ورباط تازا، ثم بعثوا برأسه إلى الرشيد وهو بفاس (¬1)، فبعث بها الرشيد " في زق عسل " إلى مراكش، ومعها كتاب إلى الوالي أبي علي بن أبي محمد، فاستدعى الوالي الناس، وقرأ عليهم كتاب الخليفة، وعلق الرأس على باب الشريعة (¬2). وقام الوالي أبو علي في نفس الوقت، بناء على أمر الخليفة، بإعدام بعض زعماء العرب من سفيان وجابر، وكانوا معتقلين بسجن الحضرة. وهكذا كانت خاتمة يحيى المعتصم بن الناصر بن المنصور، بعد حياة مضطربة شريدة، استطالت مذ بويع بالخلافة لأول مرة في شوال سنة 624 هـ، حتى مصرعه في رمضان سنة 633 هـ، تسعة أعوام، لم ينعم خلالها بالاستقرار، والاتشاح بثوب الخلافة، سوى فترات يسيرة، كانت تتخللها مغامرات ومعارك مستمرة، أولا مع عمه ومنافسه القوي، أبي العُلى المأمون، ثم بعد ذلك مع ابنه الرشيد. وكان يحيى شخصية ضعيفة، لا تتميز بشىء من الإرادة أو حسن التصرف، وكان طول الوقت آلة في يد أنصاره، يوجهونه كيفما شاءوا، وإذا كنا نضعه من حيث الشكل في ثبت الخلفاء الموحدين، فإن عهد خلافته المتقطع، لم يقترن من الناحية العملية، بأي تصرف أو أثر يذكر. - 3 - وفي أوائل سنة 634 هـ، غادر الرشيد فاس عائداً إلى مراكش، فدخلها في موكب فخم، واستقرت الأمور، وانتظمت الأحوال، وساد الهدوء والسلام، وقام الرشيد بتعيين عمال النواحي، واستقام أمر الموحدين، وأخذوا في تنظيم شئونهم، وحرث أراضيهم، وتذوق الحياة الوديعة الهادئة. وحدث في هذا العام أن استطاع أبو محمد بن وانودين والي درعة، الاستيلاء على سجلماسة، وكانت قد خرجت عن الطاعة. وذلك أن الرشيد لما غادر سجلماسة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 339، وابن خلدون ج 6 ص 255، وروض القرطاس ص 166. وهو يسمى الموضع الذي قتل به يحيى، " بفيح عبد الله من أحواز رباط تازا ". (¬2) البيان المغرب ص 330

عين يوسف بن علي التينمللى والياً لها، فاستعمل قريبا له وهو يحيى بن أرقم ابن مردنيش لإدارتها، وثار بيحيى ثائر من صنهاجة وقتله، فقام ولده أرقم، واستطاع أن يتغلب على المدينة، وأن يفوز بحكمها مكان أبيه، وخشى أرقم أن يعزله الرشيد، فاستقل بالمدينة، وامتنع بها، فمازال أبو محمد بن وانودين به، حتى أقنعه بالعودة إلى الطاعة، واستطاع أن يسترد منه المدينة، وعفا عنه الرشيد (¬1) وغادر الرشيد الحضرة إلى فاس مرة أخرى، واستخلف على مراكش الشيخ أبا محمد بن أبي ابراهيم. وفي أثناء إقامته بفاس، وفد عليه رسل بني مرين، فأكرم مقدمهم، وأجزل صلتهم. وكان الخليفة الموحدي يدرك ما انتهى إليه بنو مرين يومئذ من القوة والشأن، ويبذل وسعه في مصانعتهم واسترضائهم. ووقع عندئذ حادث مزعج، هو مفاجأة ابن وقاريط سلا بالهجوم عليها، ومحاولة أخذها. وكان ابن وقاريط مذ عبر إلى الأندلس لاستنصار ابن هود، قد لبث في إشبيلية يرقب الفرص، ثم اقترح على ابن هود مشروعاً لفتح سلا ورباط الفتح، وطلب منه بعض السفن، ليستعين بها في تنفيذ مشروعه، فوافق ابن هود، وقدم لابن وقاريط سفينتين. وكان على ولاية سلا يومئذ، السيد أبو العُلى صهر الرشيد زوج أخته فاطمة بنت المأمون، فسار ابن وقاريط في حملته البحرية الصغيرة، وفاجأ سلا بالهجوم عليها، ولكنه لقى مقاومة شديدة، واضطر أن يرتد أدراجه. واهتم الرشيد لذلك الحادث وبعث إلى سلا فاستقدم أخته وأمه إليه، وكانت معها، حرصا على سلامتهما (¬2). وكانت هذه خاتمة محاولات ابن وقاريط. ذلك أنه ما كاد يعود إلى إشبيلية حتى تطورت الحوادث، وتوفي المتوكل ابن هود في ألمرية في جمادى الأولى سنة 635 هـ، حسبما فصلنا ذلك في موضعه، وعندئذ قام أهل إشبيلية بزعامة أبي عمرو ابن الجَد وأعلنوا خلع طاعة بني هود، والعودة إلى طاعة الخلافة الموحدية، وعقدوا بيعتهم للرشيد، وبعثوا إلى مراكش وفداً لتقديم بيعتهم. وحدث مثل ذلك في سبتة، حيث قام أهلها بخلع صاحبها أبي العباس اليانشتي، وبايعوا للرشيد، وبعثوا ببيعتهم وفداً إلى الحضرة. وحدث في نفس الوقت أن قام أهل إشبيلية بالقبض على ابن وقاريط، وكان الفضل في ذلك راجعاً إلى فقيه من أهل فاس يدعى ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 256، والبيان المغرب ص 331. (¬2) البيان المغرب ص 341، وابن خلدون ج 6 ص 256

أبو عبد الله المومنانى كان مقيما بإشبيلية، وبه ولاء للدولة الموحدية، فحرض أهل المدينة على القبض على الزعيم الخارج، وإرساله إلى المغرب، لما في ذلك من إرضاء للخلافة، وتحقيقاً لسلامها، فقبض على ابن وقاريط، وأرسل إلى المغرب محروساً في سفينة، رست به على ثغر أزمُّور، وهنالك تسلمه الوزير الشيخ أبو زكريا بن عطوش، وكان في سجن أزمور عدة من زعماء الخلط، كان الرشيد قد تحيل في استدعائهم وقبض عليهم، وبعث جنده فاستباحت محلاتهم وسبت أولادهم ونساءهم، ثم اعتقلوا بأزمور، فأمر الرشيد بإعدامهم، فأعدموا وحزت رؤوسهم، وأودعت في سفط وضع فوق جمل، أركب عليه ابن وقاريط وأرسل إلى مراكش على تلك الحالة. فلما وصل إلى الحضرة، احتاط به الناس، وأخذوا في لعنه، ثم أودع السجن، وأعدم بعد أيام قلائل، وعلقت جثته على باب الشريعة (أواخر سنة 635 هـ) وبذلك انتهى أمره، واستراح الرشيد من خصم من أخطر خصومه، وأشدهم عناداً وجلداً (¬1). وفي العام التالي (636 هـ)، وصلت إلى الرشيد بيعة محمد بن الأحمر صاحب غرناطة ومالقة، وكان ابن الأحمر، يتردد في الطاعة بين الانضواء تحت طاعة ابن هود، والخلافة الموحدية والخلافة العباسية، وقد لبث يدعو للرشيد وللخلافة الموحدية، حتى وفاة الرشيد في سنة 640 هـ. وحدث في هذا العام أيضا - 636 هـ - أن خرج ببلاد السوس ثائر يدعى بابن ياوجى، وامتنع بحصن تيوينوين، والتف حوله كثير من الناس، وانضم إليه عرب المعقل، فدس إليه أبو محمد بن أبي زكريا والي السوس رجلا من جزولة، استطاع أن يدخل الحصن وأن يقتله، ثم قطع رأسه وحمل إلى مراكش، وبذلك أخمدت ثورته في مهدها، وقد عرف حصن تيوينوين هذا من قديم، بأنه كان دائماً مركزاً للشقاق والعصيان، وبه خرج من قبل أبو قصبة، ثم ثار به ابن الفرس وامتنع به حتى اغتيل وقتل (¬2). وفي سنة 637 هـ، وقعت بسبتة وأحوازها مجاعة عظيمة، واشتد القحط والغلاء، وسمى هذا العام " عام سبعة " وكان ذلك من جراء الفتن المتوالية، التي عصفت بالمناطق الغربية، ومن جراء الشرق وقلة الأمطار حتى عدمت الموارد، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 341 و 342، وابن خلدون ج 6 ص 256. (¬2) البيان المغرب ص 344

وهلكت الزروع، وتفاقم الضر بعيث طوائف العرب، ولاسيما عرب رياح، في أحواز مكناسة، وفاس، ونشوب المعارك المتوالية بينهم وبين زناتة، وأحيانا بينهم وبين بني مرين. وقد أوقع بهم بنو مرين ومزقوا جموعهم، واستولوا على أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وكان بنو مرين يجوبون عندئذ سائر الأقطار الغربية، ويفرضون سلطانهم، على معظم القبائل والطوائف النازلة في تلك الأنحاء، ويقمعون أهل الشر والفساد، من العرب وغيرهم، ممن يعيثون في تلك المناطق فساداً، حتى أمنت السبل، واستقامت الأمور، وعلت كلمة بني مرين وهيبتهم، ودخل الناس في طاعتهم، وأخذوا في جباية الضرائب والمكوس، فاتسعت أحوالهم، وقويت شوكتهم، وغلب لديهم الرخاء والنماء (¬1). وقد سبق أن تناولنا نشأة بني مرين، وخروجهم من منازلهم القفرة بوادي ملوية، إلى أنحاء المغرب، وما وقع بينهم وبين الموحدين، أيام يوسف المستنصر من المعارك، وكيف أنهم وصلوا في زحفهم داخل أنحاء المغرب حتى أحواز فاس، وكيف أنه لم ينقذ الدولة الموحدية يومئذ من خطر تقدمهم الداهم، سوى ما وقع بينهم من الشقاق الداخلى. وقد لبث بنو مرين في تلك الفترة التي اشتغلت فيها الخلافة الموحدية بحروبها الداخلية، يعملون على توطيد مركزهم، وتوسيع سلطانهم، والاندفاع غربا داخل أقطار المغرب، حتى أنهم فرضوا الإتاوة على مكناسة وغيرها من البلاد المجاورة، وكان أميرهم في الوقت الذي نتحدث عنه، هو أبو سعيد عثمان بن عبد الحق، ولم يكن الرشيد غافلا عن خطورة حلول بني مرين في تلك المنطقة الهامة من مناطق المغرب، ولكنه نظراً لازدياد قوتهم، كان يؤثر مصانعتهم وعقد السلم معهم. ولما دخلت طنجة وسبتة في طاعة الرشيد، واستقامت الأمور نوعا في أواخر سنة 635 هـ، عين الرشيد لولاية المناطق الغربية أبا محمد عبد الله بن وانودين. وكان ابن وانودين من خيرة زعماء الموحدين، وكان يمت إلى بيت الخلافة بصلة المصاهرة، إذ كان متزوجاً بالسيدة بنت يوسف المستنصر، وكانت له بذلك مكانة في الدولة. وكان قد وزر ليحيى المعتصم، ثم تركه ولحق بخدمة الرشيد، فولاه بلاد درعة في سنة 632 هـ، ونجح ابن وانودين أثناء ذلك في استخلاص سجلماسة، من يد أرقم ابن مردنيش حسبما تقدم، فولاه الرشيد عليها، ثم عاد إلى مراكش في سنة 634 هـ. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 348، 349

ولما عين الرشيد ابن وانودين لولاية الغرب، عين معه في نفس الوقت أبا علي بن خلاص البلنسى لولاية سبتة، وعين للنظر على دار الصناعة أبا زكريا ابن مزاحم الكومي. وخرج ابن وانودين من مراكش في عسكر كبير، من الموحدين والمطوعة والعرب، وفوض له الرشيد النظر في أحوال البلاد، فسار أولا إلى بلاد غمارة، لينظر في شئونها، فثارت عليه بعض قبائلها، وكان عدد من هذه القبائل قد دخل في طاعة بني مرين. وكان الرشيد يعتمد على فطنة ابن وانودين، ولباقته في معالجته الأمور مع بني مرين بالكياسة والحسنى، وقد بعث معه بعض أحمال من الكسى الفاخرة برسم بني عبد الحق وأشياخ بني مرين، ولكن ابن وانودين ما كاد يصل إلى مقربة من أحيائهم، حتى بادرهم بالخصومة والعداء، وطالبهم برد الفارين إليهم من بني غمارة، فرفضوا، ووقع النزاع بين الفريقين، وانتهى إلى القتال بينهما، فأغار بنو مرين على محلة ابن وانودين، وقتلوا جملة كبيرة من أجناده، وعلم الرشيد بما حدث، فأمره بالاستقرار في تلك المنطقة، تحوطا لحركات بني مرين (¬1). واستمر أمر بني مرين في تقدم، وأطاعتهم معظم القبائل في تلك المنطقة ومنها هوارة وتسولة ومكناسة، وصالحتهم بعض المدن على أموال معلومة، يؤدونها في كل عام، وكان منها فاس ومكناسة ورباط تازا وغيرها. وكان بنو مرين يرون، بعد أن ضعفت الدولة الموحدية، وعجز الخلفاء الموحدون عن ضبط البلاد، وخرجت معظم المدن والقبائل عن طاعتهم، وانتشرت الفوضى في معظم الأنحاء، أنهم غدوا أولى بالنظر في شئون الدين، وصون مصالح المسلمين وحمايتهم من العدوان والفوضى (¬2). وفي سنة 637 هـ، وقيل في محرم سنة 638 هـ (1240 م) قتل أمير بني مرين أبو سعيد عثمان بن عبد الحق، اغتاله فتى من علوجه رباه صغيراً، ثم هرب هذا العلج إلى ابن وانودين. وقيل عندئذ أن ابن وانودين هو الذي حرضه على ارتكاب جريمته (¬3). فخلفه في رياسة بني مرين أخوه الأمير أبو معرف محمد ابن عبد الحق. فأطاعه بنو مرين، ولكن خالف عليه أبناء عمومته بنو حمامة، وعاد ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 350 و 351. (¬2) روض القرطاس ص 192. (¬3) البيان المغرب ص 351، وروض القرطاس ص 192، والذخيرة السنية ص 62

الشقاق القديم بين بني حمامة وبنى عسكر يمزق صفوفهم. وبعث ابن وانودين، بقلم كاتبه أبي الحسن السرقسطى إلى الرشيد، يعرفه بما تقدم من شئون بني مرين، وقد اغتر ابن وانودين بما حدث بينهم من شقاق، وأظهر المودة لبني عسكر وتحالف معهم، ونهض معهم بالفعل إلى مقاتلة بني عبد الحق (بني حمامة)، والتقى الفريقان على مقربة من سلفات، وخسر كل من الفريقين قتلى، وارتد ابن وانودين مع الموحدين وبنى عسكر، ونزل بظاهر مكناسة، واشتد في معاملة أهلها، وفرض عليهم المغارم الفادحة، لأنهم كانوا يدينون بطاعة بني عبد الحق، ثم سار إلى فاس ففعل بها مثل ما تقدم، ثم عاد إلى مكناسة، ونزل على مقربة من جبل زرهون الواقع في شمالها، ففر منه الناس في مختلف الأنحاء (¬1). واجتمع بنو مرين حول أميرهم محمد بن عبد الحق، وانضمت إليهم حشود من زناتة، وغيرها، وساروا إلى مقربة من مكناسة واصطدموا هنالك بقوة من النصارى (الروم) كان ابن وانودين قد بعثها لحراسة تلك المنطقة ففتكوا بها، وعندئذ وضع ابن وانودين خطة لمهاجمة بني مرين، وسار في قواته من الموحدين والعرب وبنى عسكر، وتأهب بنو مرين للقائه. ونشبت المعركة بين الفريقين على قيد نحو ثمانية أميال من مكناسة، فقاتل بنو مرين بعنف وشجاعة، وفتكوا بالموحدين وحلفائهم، وحقت الهزيمة الفادحة على ابن وانودين، ومزق عسكره، من العرب وبنى عسكر، فلجأ ابن وانودين إلى مكناسة، وامتنع بها. واستولى بنو مرين على محلته، وسائر ما فيها من المتاع والدواب، ثم غادر ابن وانودين مكناسة في جملة من الخيل، ومعه ابنه أبو زكريا، وقصد إلى قصر عبد الكريم (القصر الكبير) حيث لحق هنالك بأسرته وامتنع به. ووقعت هذه الحوادث في أواخر سنة 637 هـ (¬2). وكانت هزيمة ابن وانودين على هذا النحو، ضربة شديدة للخلافة الموحدية وكسبا جديداً لبني مرين زاد في قوتهم وفي هيبتهم، وامتد سلطانهم بذلك إلى جهة القصر الكبير، ومن فيها من عرب رياح، ودخل في طاعة الأمير محمد بن عبد الحق، من تخلف من قبائل بني مرين، وسائر قبائل غُمارة وغيرها، وأصبح ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 352. (¬2) البيان المغرب ص 353

بنو مرين يتجولون في تلك الأنحاء سادة أحراراً، وجنح الرشيد إلى مهادنتهم، ومصانعتهم، وكانت بينه وبينهم مراسلات ودية. وعلم ابن وانودين وهو في ملجئه بقصر عبد الكريم، أن كثيراً من أهل البلاد التي كانت تحت حكمه، قد كتبوا في حقه إلى الرشيد، وشكوا مما كان ينزله بهم من المظالم، واتهموه بأنه كان يقصد أن يحذو في منطقته حذو بني حفص، وأن يستقل بحكمها، وأن الرشيد قد صدق هذه الاتهامات، فغادر قصر عبد الكريم، وقصد إلى جبال الموحدين، وسار ليلا ونهاراً حتى وصل إليها، بالرغم من مطاردة بني مرين، وبقى لاجئاً إليها، حتى نمى إليه أن الرشيد، تحقق في النهاية من براءته مما نسب إليه، فعاد إلى مراكش، وأكرم الرشيد وفادته. وفي سنة 639 هـ (1241 م)، بطش الرشيد بوزيره وكاتبه أبي حفص ابن المومنانى، وكان من أكابر الدولة وأعلام الكتاب، وله عند الرشيد حظوة ومكانة رفيعة. ولكنه ارتكب زلة خطيرة حينما وجه خطابا خاصاً إلى صديقه السيد أبي حفص عمر بن عبد العزيز بن المنصور، يهنئه فيه بإسناد إحدى الولايات إليه، ويقول له في خطابه إنها " إن شاء الله ابتداء الخلافة "، وأخطأ الرسول، ودفع الخطاب إلى أهل القصر، فوقع في يد القائد أبي المسك، ودفعه أبو المسك إلى الرشيد، فلما وقف عليه الرشيد، أمر من فوره بقتل المومنانى والسيد أبي حفص، فنفذ أمره في الحال وهلك الرجلان ضحية عبارة طائشة (¬1). بيد أنه لم تمض بضعة أشهر على ذلك الحادث الدموى، حتى هلك الرشيد نفسه. ذلك أنه خرج ذات يوم للتنزه في إحدى الرياض التي كان قد أنشأها بجوار القصر، وكانت توجد في تلك الروضة بحيرة صغيرة، أو صهريج وفقا لوصف المؤرخ، فنزل في هذه البحيرة مع بعض جواريه في زورق برسم التنزه، فانقلب الزورق بمن فيه، وغرق الرشيد ومات لوقته، وقيل إنه انتشل محموما من الماء، وحمل إلى القصر، وهنالك توفي بعد ثلاثة أيام. وكان غرق الرشيد في يوم الثلاثاء السابع من جمادى الآخرة سنة 640 هـ (2 ديسمبر سنة 1242 م) فإذا أخذنا بالرواية الثانية، فتكون وفاته في اليوم العاشر من جمادى الآخرة الموافق ليوم 5 ديسمبر. وفي رواية ثالثة ينقلها إلينا ابن عذارى عن مصادر مسندة عن حاجب الرشيد، أن الرشيد نزل بزورقه في الصهريج في ليلة باردة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 357.، وابن خلدون ج 6 ص 256

ثم خلع عمامته، فلما أزالها أصابته نزلة شديدة، فأخرج من الزورق، وحمل إلى قصره حيث توفي، في يوم الجمعة العاشر من جمادى الثانية سنة 640 هـ (¬1). وكان الرشيد حينما توفي في الرابعة والعشرين من عمره، وقد استطالت خلافته أكثر من عشرة أعوام. ... وكان الرشيد، كأبيه الخليفة المأمون، يتمتع بطائفة من الخلال القوية اللامعة، من الذكاء والجرأة، وحدة النفس، وقوة العزم، وبعد النظر، ولو لم ترغمه الحوادث على أن ينفق أعوامه العشرة في مقارعة خصومه، والدفاع عن عرشه، لكان لنا أن نتوقع منه خططا وأعمالا إنشائية أخرى، ربما كان لها أثرها في إنقاذ الدولة الموحدية، وإطالة حياتها. بيد أنه تولى العرش وحكم في ظروف سيئة، وكانت التيارات الخصيمة، قد سارت قدما في تقويض هيكل الدولة الموحدية، وتحطيم أسسها، ولم يكن باقيا منها سوى شبح باهت، يرتكز من الناحية المادية، على رقعتها الجنوبية. وكان من أهم ما عمله الرشيد لتقوية الدولة من الناحية المعنوية، هو استدعاء بقية الزعماء الموحدين إلى مؤازرته، بعد أن بطش بهم أبوه، ومزق شملهم، ولو أنه اضطر في سبيل ذلك إلى إعادة العمل برسوم المهدي الدارسة. وقد وزر للرشيد، السيد أبو محمد عبد الله بن أبي سعد بن المنصور، وأبو زكريا بن أبي الغمر، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الجنفيسى، وأبو علي بن أبي محمد عبد العزيز، وذلك بالتعاقب، ثم تولى الجنفيسى مرة أخرى، وبالرغم من أن الرشيد لم يكن كأبيه المأمون أديبا ولا كاتبا، فقد استخدم لكتابته، عدة من أعلام كتاب العصر المغاربة والأندلسيين، مثل أبي زكريا الفازازى، وأبي عبد الله القباجى، وأبي عبد الله ابن أبي عشرة، وأبي عبد الله الفازازى، وأبي المطرِّف ابن عميرة المخزومي، وأبي الحسن الرُّعينى، وأبي عبد الله التلمسانى. وكان من هؤلاء من كتب لأبيه من قبل مثل أبي زكريا الفازازى، وأبي المطرف بن عميرة، وأبي الحسن الرعينى. وتصف الرواية الرشيد، بأنه كان فتى أزهر اللون، أشقر، كث اللحية، حسن القد، في وجهه نمش يسير (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 358. وفي روض القرطاس (ص 171) والذخيرة السنية (ص 64) أن وفاة الرشيد كانت في يوم الخميس التاسع من جمادى الآخرة. (¬2) البيان المغرب ص 283

الفصل الثانى عصر الخليفة أبى الحسن على السعيد

الفصل الثاني عصر الخليفة أبي الحسن على السعيد مبايعة الخليفة، أبي الحسن على السعيد. شخصيته القوية. وزراؤه وكتابه. مطاردته لخصومه. مصانعته لعرب الخلط وغيرهم. عنايته بأمر الروم. خروج الهزرجى بسجلماسة. تلمسان والمغرب الأوسط. بطون زناتة الخارجة على الموحدين. استيلاء يغمراسن زعيم بني عبد الواد على تلمسان. يقيم بها إمارة مستقلة. خصومته لبني مرين وبنى حفص. علائقه الودية ببلاط مراكش. توجس الأمير أبي زكريا من ذلك. تأهبه لغزو تلمسان. محاصرته لها. فرار يغمراسن واستيلاء أبي زكريا على تلمسان. استدعاؤه ليغمراسن وتأمينه وتعيينه لولايتها. اهتمام الخليفة السعيد بأمر سجلماسة. فرار بعض أشياخ الموحدين والتجاؤهم إليها. مسير السعيد إلى درعة. مخاطبته لأشياخ سجلماسة ووعوده لهم. سعى أبي زيد بن زكريا الجدميوى لرد المدينة إلى الطاعة. نجاحه في ذلك بمداخلة الجند النصارى. القبض على الهزرجى وإعدامه. خلع سبتة وإشبيلية لطاعة الخلافة الموحدية ومبايعتهما لأمير إفريقية. خروج السعيد لمقاتلة بني مرين. هزيمة بني مرين ومصرع أميرهم. رواية أخرى عن حركة السعيد وعلاقته الودية ببنى مرين. قبض السعيد على ابن وانودين والوزير ابن عطوش وغيرهم. إعتقالهم بأزمور. فرار ابن وانودين والتجاؤه إلى جبل هنتاتة. ما تدلى به محنته من اضطراب البلاط الموحدي. خروج كانون زعيم عرب سفيان وتحالفه مع بني مرين. تأهب السعيد للحرب. مسيره في قواته صوب تامسنا. القتال بينه وبين بني مرين وحلفائهم. هزيمة بني مرين ومسيرهم نحو الغرب. مسير عرب سفيان لمهاجمة أزمور. مسير السعيد إلى مطاردتهم. مهاجمة السعيد لهم وتمزيقهم. فرار كانون في فلوله. تولى الأمير أبي يحيى لزعامة بني مرين. خروج بني عسكر عليه. تحالفهم مع الموحدين ثم نكثهم. محاولة السعيد لاستمالة يغمراسن وفشل محاولته. محاصرة بني مرين لمكناسة. ثورة أهلها على الموحدين. إقناع بني مرين لزعيمها أبي العافية بمبايعته أمير إفريقية. صدى هذه الحوادث في البلاط الموحدي. ما أصاب الدولة الموحدية من التمزق. أهبة السعيد لتدارك الموقف. عود عرب سفيان وغيرهم من العرب إلى الطاعة. مسير السعيد في حشوده صوب وادي ملوية. نزوله قبالة بني مرين. توجس بني مرين وإيثارهم للسلم. نزولهم عن البلاد التي احتلوها. عقد الصلح بين الفريقين. مسير السعيد إلى مكناسة. خروج أهلها إليه والتماسهم العفو. العفو عنهم وتأمينهم. بيعتهم الجديدة. مسير السعيد إلى فاس ثم تلمسان. مشروع السعيد في استردادها ثم محاربة أمير إفريقية. التقرب بين صقلية وبين الموحدين. استدعاء السعيد ليغمراسن ورفض يغمراسن الحضور. فراره والتجاؤه إلى تامزجدرت. مسير السعيد لمطاردته. سلوكه شعب الجبال. خروج كمائن بني عبد الواد عليه. مصرعه ووزيره. تمزق قوي الموحدين وارتداد فلولهم إلى مراكش. السعيد وعزمه وخلاله. صفته. في نفس اليوم الذي توفي فيه الرشيد، وهو يوم الجمعة العاشر من جمادى الآخرة سنة 640 هـ (5 ديسمبر سنة 1242 م)، تم اختيار الخليفة الجديد،

وهو أبو الحسن علي بن أبي العُلا إدريس بن يعقوب المنصور، وهو أخو الخليفة الراحل. وكان أكابر الدولة، وأشياخ الموحدين، قد اتجهوا أولا إلى اختيار ولد الخليفة المتوفى الصبي، فاعترض بعضهم على ذلك، وقالوا سئمنا خلافة الصغار، ولم يلتفت الجماعة في البداية إلى أبي الحسن على، أخي الخليفة، لأنه كان أسود، شديد السواد، ولد جارية نوبية، ولكن أبا محمد بن وانودين كبير أشياخ الموحدين، نهض فبايع السيد أبا الحسن، وكان موجوداً ضمن السادة من القرابة، وأقعده في مجلس الخلافة، فتتابع في أثره القرابة والأشياخ، وبايعوه، وبذا تم اختياره لكرسي الخلافة (¬1). وتلقب الخليفة الجديد بالسعيد، وبالمعتضد بالله، ولكن غلب عليه اللقب الأول، وكان اختيار أبا الحسن للخلافة أمراً موفقاً، فقد كان بشخصيته القوية، وعزمه، وسطوته، أقوى رجل في الدولة، وكان وجوده في كرسى الخلافة في تلك الظروف العصيبة، التي تجوزها الدولة الموحدية، من العوامل المطمئنة المشجعة، الباعثة على الاستبشار والأمل. واستوزر السعيد، السيد أبا اسحق بن أبي ابراهيم، وأبا زكريا بن عطوش، وأبقى في منصب الكتابة، الكاتبين البليغين، أبا الحسن الرعينى، وأبا عبد الله التلمساني. وكان أول عمل قام به السعيد، هو أن قبض على جملة من أشياخ الموحدين، المعارضين لبيعته، وسجنهم، وأغرمهم أموالا، وسجن كذلك أم أخيه الرشيد، حبابة الرومية وأغرمها أموالا، وذلك اتقاء لشرها ودسائسها، ثم أخذ في مصانعة عرب الخُلط، واستدعى طوائفهم من بلاد السوس وغيرها، وقربهم، وأغدق عليهم صلاته، وكذلك استدعى زعماء العرب، من جشم وغيرهم، ليستظهر بهم، وكان شيخ سفيان كانون بن جرمون من أوثق حلفائه، ولم ينس كذلك أمر المرتزقة، وهم فرقة الجند " الروم " التي جلبها معه أبوه المأمون، فعنى بأمرهم أشد عناية، وكانوا يقيمون بكنيستهم التي بنوها في العاصمة الموحدية، ويشتركون في سائر حملات الخليفة الحربية (¬2). وفي بداية عهده خرج عليه عبد الله بن زكريا الهزرجى بسجلماسة، وكان ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 358 و 359. (¬2) البيان المغرب ص 359، وابن خلدون ج 6 ص 256

من المعارضين لبيعته، ودعا للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية، ومن جهة أخرى فقد حدثت بالمغرب الأوسط حوادث مقلقة حول تلمسان. وكانت تلمسان، كإفريقية، قد خرجت عن سيادة الموحدين، وقام على رياستها زعيم بني عبد الواد القوي يَغمُراسن بن زيان. ويجدر بنا أن نشرح ظروف هذا التحول في مصاير تلمسان. وذلك أنه على أثر غزوات ابن غانية للمغرب الأوسط وأحواز تلمسان، وتخريبه لهذه النواحي، نهضت قبائل زناتة الخارجة على الموحدين، وفي مقدمتهم بنو عبد الواد، وبنو راشد، وبنو توجين، ونفذوا إلى أحواز تلمسان والمغرب الأوسط، وكانت أمصار المغرب الشرقية، قد خربت من جراء غزوات ابن غانية، فلم تجد قبائل زناتة، الضاربة في المغرب الأوسط أمامها من الحواضر الغنية سوى تلمسان، تعيث في أحوازها، وتقوم بأعمال النهب والسلب المستمرة. وكان الموحدون قد عنوا بتحصين تلمسان، وتشييد أسوارها، حتى غدت من أمنع أمصار المغرب، ولكن ذلك لم ينجها من قدرها المحتوم. وكان آل زيان من بني عبد الواد من أقوى وأبرز بطون زناتة المغامرة، وكانت منازلهم تقع فيما بين البطحاء ووادي ملوية غربي تلمسان، وكان زعيمهم يَغمُراسن بن زيّان بن ثابت من أشد زعماء هذا الحى بأسا، وأعظمهم مكانة، وقد تولى رياسة قومه منذ سنة 633 هـ، وانضم إليه بنو مظهر وبنو راشد الخارجان من قبل على قومه، ولم يجد يغمراسن صعوبة في الاستيلاء على تلمسان، وانتزاعها من حاميتها الموحدية الضعيفة، فجعل منها قاعدته، وجند الجند وتزيا بزى الإمارة، ومحا آثار الدولة المؤمنية، ولم يترك من رسومها سوى الدعاء للخليفة بمراكش، ووفد عليه من الأندلس لفيف كبير من شرقها، وعلى رأسهم ابن وضّاح، فأكرم وفادتهم، وقرب ابن وضاح وقدمه للشورى، ووفد عليه أيضاً أبو بكر بن خطاب وكان كاتبا بليغا، وشاعراً جزلا، فعينه لكتابته، ولاسيما في مخاطبته للخلفاء الموحدين، وأمراء تونس. وكان يغمراسن يتحرز من نيات بني عبد المؤمن وبنى حفص، وكذلك من أطماع بني مرين، وكان بينه وبينهم وقائع متعددة (¬1). ولكنه كان يرتبط مع البلاط الموحدي برباط المودة، وكان الرشيد يحبوه بصداقته، ويهاديه حتى لا ينحرف إلى محالفة بني مرين، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 77 و 78 و 79

وكان عند جلوس الخليفة السعيد، قد بعث إليه بهدية من الخيل العتاق، وكتب إليه يعاهده على قتال بني مرين، فلما وقف الأمير أبو زكريا، أمير إفريقية على ذلك، خشى أن يعقد السلم كذلك بين يغمراسن وبنى مرين، ثم يقع التحالف بين الثلاثة على محاربة إفريقية، ورأى أن يبادر بالعمل لإحباط مثل هذه الخطة، ووفد عليه عندئذ بعض زعماء زناتة، وشجعوه في مشروعه، لغزو تلمسان وأخذها، وجمع كلمة زناتة بذلك، والتمهيد لخطته في الاستيلاء على ملك الموحدين. وقام الأمير أبو زكريا بأهبات عظيمة، وسار إلى تلمسان في جيش ضخم، ومعه عدد وافر من الرماة، وضرب حولها الحصار (أواخر سنة 639 هـ) وضربها الرماة بشدة، فأدرك يغمراسن أنه لا أمل في المدافعة، وخرج من تلمسان في أهله وخاصته، فلما اعترضه الجند المحاصرون فتك بهم، وشق لنفسه طريقا، ولحق بالصحراء، ولجأ إلى جبل قريب، ودخل أبو زكريا تلمسان، وعفا عن أهلها، ولما بحث مع خاصته من الموحدين، في أمر من يوليه عليها، أشاروا عليه بتقديم يَغمُراسن، باعتباره أصلح من يقوم بأمرها، فاستدعاه، وأمنه، وولاه عليها وعلى أعمالها، وفق عهود وشروط معينة، وذلك لكي تغدو حاجراً بين مملكة إفريقية، وبين شمال المغرب، حيث أخذ سلطان بني مرين ينمو بصورة مزعجة، وكان ذلك في شهر ربيع الأول سنة 640 هـ (أوائل 1243 م) (¬1). وعنى الخليفة السعيد أولا بأمر سجلماسة، وكان واليها الثائر يدعو بها للأمير أبي زكريا الحفصى، ويستجلب إليه العرب من كل صوب، وقد فوض إليه الأمير أبو زكريا الأمور، ووعده بالعون والإمداد، وكان جماعة من أشياخ الموحدين، ممن خشوا بطش السعيد وغدره، يعتزمون الفرار والالتجاء إلى سجلماسة، وكان السعيد قد خرج عندئذ في قواته من مراكش، ونزل في وادي تانسيفت على مقربة منها، واستطاع الفرار من أولئك الأشياخ، أبو زيد عبد الرحمن ابن زكريا الجدميوى، وابن واجاج، وأبو سعيد العود الرطب الهنتاتى، ولكن قبض على أبي عثمان سعيد أخي أبي زيد، وهو زعيم حركة التقرب الموحدي من الخلافة، وأمر السعيد بقتله، بعد أن استصفى سائر أمواله بمراكش. ولحق الزعماء الفارون بسجلماسة بعد جهد ومشقة، ونزلوا في كنف واليها الثائر، وسار ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 257 وج 7 ص 81، والبيان المغرب ص 361 و 362، والذخيرة السنية ص 64 و 65، وتاريخ الدولتين للزركشى ص 21

أبو سعيد الهنتاتى إلى تونس، فتلقاه أميرها بترحاب وإكرام (¬1). وكان والي سجلماسة عبد الله بن زكريا الهزرجي يجد عندئذ في الحركة والأهبة للمدافعة، والامتناع بمدينته الحصينة، وكان السعيد من جانبه ينوى أن ينكل بالثائر، وأن يسحق حركته، لتكون عبرة لأمثاله، فسار في قواته إلى درعة، فبعث إلى أشياخ سجلماسة بظهير يعدهم فيه بالاعتناء والتكريم، وعندئذ رأى أبو زيد بن زكريا الجدميوى فرصة سانحة للعمل والعود إلى الطاعة، فداخل قواد النصارى بالمدينة، وقام النصارى بالضغط على العرب، من حراس باب القصبة، واستطاع أبو زيد أن يدخل القصبة مع أشياخ سجلماسة، وأن يشحنها بالرماة والحماة، وفي الحال بعث إلى السعيد ينبئه بما حدث، فشكره السعيد أجزل الشكر، وعفا عنه، وحظى لديه، وقبض في تلك الأثناء على عبد الله بن زكريا، وساقه بعض العرب مصفدا إلى السعيد، فأمر بإعدامه، وأعدم بالرغم مما بُذل لإنقاذه من شفاعة وضراعة، وحمل رأسه وعلق على باب الكحول بمراكش. وعاد السعيد إلى الحضرة، دون أن يدخل سجلماسة، وذلك في سنة 642 هـ (1244 م) (¬2). ووقعت عندئذ حوادث أخرى تدلى بتفكك الدولة الموحدية، وتصدع هيبتها، ومن ذلك ما عمد إليه أبو علي بن خلاص البلنسى والي سبتة، من خلع طاعة الدولة الموحدية، وما عمد إليه أيضاً أهل إشبيلية بالأندلس، حيث خلعوا كذلك طاعة الدولة الموحدية، وذلك بتوجيه زعيمهم أبي عمرو بن الجد، واتجهت المدينتان سبتة وإشبيلية إلى مبايعة صاحب إفريقية، الأمير أبي زكريا الحفصى، وبعثت إشبيلية بيعتها إلى تونس مع وفد من كبرائها، وكذلك بعث ابن خلاص ولده ببيعته في سفينة خاصة ومعه هدية للأمير الحفصى، فغرقت السفينة بمن فيها، وذلك كله حسبما فصلناه في موضعه من قبل، أضف إلى ذلك ما كان من تقدم الدعوة المرينية في شمال المغرب، وزحف بني مرين باضطراد داخل الأقاليم المغربية. ومن ثم فقد خرج السعيد في نفس العام - 642 هـ - من مراكش مرة أخرى قاصدا إلى الأقاليم الغربية، ومعه حشود المصامدة والعرب والروم، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 363 و 364، وابن خلدون ج 6 ص 257. (¬2) البيان المغرب ص 366، وابن خلدون ج 6 ص 257

في جيش ضخم، تقدره بعض الروايات بعشرة آلاف فارس، والبعض الآخر بأكثر من عشرين ألفا. وهنا تختلف الرواية ويحيق الغموض بما تلا من تحركات السعيد، ذلك أنه يقال تمشياً مع هذه الرواية، أن السعيد زحف نحو بني مرين، واستعد بنو مرين بقيادة أميرهم أبي معرِّف محمد بن عبد الحق للقاء الموحدين، ووقع اللقاء بين الفريقين بموضع من أحواز فاس يسمى " أغلان " فنشبت بينهما معركة عنيفة، واستمر القتال حتى دخل الليل، وكان أمير بني مرين يتقدم جنده، فقصد إليه فارس من فرسان الروم يدعى خوان جايتان، وطعنه بحربته فسقط صريعاً، وانكشف بنو مرين، وطاردهم الموحدون فلحقوا بجبال غياثة على مقربة من أحيائهم، فامتنعوا بها، واختاروا للولاية عليهم مكان أميرهم القتيل، أخاه أبا يحيى أو أبا بكر بن عبد الحق، وكان ذلك في جمادى الآخرة سنة 642 هـ (أواخر 1244 م) (¬1). هذا ما يقوله لنا صاحب الذخيرة السنية وابن خلدون، ولكن توجد ثمة رواية أخرى هي رواية ابن عذارى، وهي أن السعيد حينما خرج في سنة 642 هـ، إلى الأقاليم الغربية، قصد أولا إلى مدينة فاس، وأقام بها أياما، نظر في شئونها وعزل بعض عمالها وعين آخرين غيرهم، ثم غادر فاس إلى المقرمدة، ضاحيتها الشرقية مستطلعاً لأحوال بني مرين وأخبارهم. ثم يقول ابن عذارى أن جو المهادنة كان يسود بين الفريقين، وأنه وقعت بين السعيد وبين زعيم بني مرين الأمير أبي يحيى، مراسلات ودية، فارتد السعيد أدراجه إلى مراكش، دون أن يعكر صفو السلم بين الفريقين (¬2). فهل يمكن أن يكون الصلح قد عقد بين السعيد وبني مرين، عقب هزيمتهم ومقتل أميرهم، وبذلك يمكن التوفيق بين الروايتين؟ على أن ما حدث بعد ذلك، من تصرفات بني مرين العدائية، ضد الدولة الموحدية، مما سوف نذكره بعد، لا يمكن أن يؤيد هذا الفرض. وتتمة لأحداث سنة 642 هـ، نقول إنه حدث في هذا العام أيضاً أن أمر السعيد بالقبض على أبي محمد بن وانودين، وهو كما تقدم قطب أشياخ الموحدين، وإليه يرجع الفضل في اختيار السعيد لكرسى الخلافة، وذلك دون أسباب واضحة، وقبض معه في نفس الوقت على أبي زكريا بن مزاحم، وأبي زكريا بن عطوش، ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 66 و 67 وابن خلدون ج 7 ص 171 وكذلك روض القرطاس ص 193. (¬2) ابن عذارى في البيان المغرب ص 366

وأرسلوا جميعاً إلى أزمور، فسجنوا بها تحت حراسة قوية، ولكن ابن وانودين لم يستكن إلى محنته، وأخذ يدبر الحيلة في فراره، حتى أتيح له أن يشترى أحد حراسه، وأن يفر من السجن بمعاونته وتدبيره، وخرج من سجنه تحت جنح الظلام، فقصد إلى منازل عرب سفيان، فوصلها عند الصبح، وبعث معه زعيمهم كانون بن جرمون، لفيفاً من الفرسان، سار في صحبتهم، حتى وصل إلى جبال الموحدين، ولحق بقومه هنتاتة. ولما علم السعيد بما حدث أمر بضرب رقاب الحراس، وعلقت رؤوسهم على السور، كما أمر بالإفراج عن ابن عطوش وابن مزاحم، وبعث إلى ابن وانودين عشرة من وجوه الموحدين مع خاصته، فقصدوا إليه بتامزاورت وأبلغوه أسف السعيد لما حدث، وبزوال ما كان في نفسه، فأعرب ابن وانودين عن شكره للخليفة، ولكنه تمسك ببقائه في جباله، ليعيش بها مع أهله وولده، فوافق السعيد على مطلبه، وعاش ابن وانودين بتيفنوت حتى توفي (¬1)، وكانت محنة ابن وانودين هذه، مثلا بارزا، لما كان عليه البلاط الموحدي في ذلك الوقت، الذي غرب فيه نجم الخلافة الموحدية، من اضطرام بمختلف الأهواء العنيفة، والخيانات المزرية، التي لا يبررها أي باعث معقول أو أية مصلحة عامة. ثم خرج على السعيد كانون بن جرمون وقومه عرب سفيان، وعاد إلى طاعته بالعكس عرب الخُلط وبنو جابر. وتحالف كانون مع الأمير أبي يحيى ابن عبد الحق، أمير بني مرين، وحشد بنو مرين حشوداً كبيرة، في منطقة الغرب، واجتمعت حولهم بنو راشد الزناتيين، وبنو وراو، وبنو سفيان. وأدرك السعيد خطورة هذه الحركة، فتأهب للحرب، ومنح الموحدين والجند بركاتهم وأعطياتهم التقليدية، واستدعى حشود العرب من بني جابر والخلط وغيرهم، وخرج من مراكش في قوات غفيرة، وسار موكبه وفقاً للترتيب القديم المأثور لدى بني عبد المؤمن، من تعاقب السادات والوزراء والأشياخ، وكان وزيراه يومئذ أبو زكريا بن عطوش الكومي والسيد أبو اسحق بن أبي ابراهيم. واستخلف على مراكش أخاه أبا زيد، وندب أخاه أبا حفص عمر واليا لسلا، واستمر سير الخليفة وجيشه، على هذا النحو شمالا، حتى منطقة تامسنا، وقد اجتمعت هنالك حشود بني مرين، تحت إمرة الأمير أبي يحيى، ومعهم حلفاؤهم الذين ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 368 - 370، وابن خلدون ج 6 ص 257

سبق ذكرهم، وذلك على مقربة من واسنات، وقد استعدوا للقتال. ووقعت المناوشة الأولى بين الطلائع على شرب الماء، ففتك جند بني مرين بالمرتزقة النصارى، فلما علم السعيد بذلك، أمر بخوض المعركة، فاضطرم القتال بين الفريقين حتى جن الليل فافترقا. وفي اليوم التالي وقع بين أيدي الموحدين، عبد من عبيد بني مرين العارفين بأمورهم، وأخذ إلى السعيد، فذكر أن الأمير أبي يحيى قد اتفق مع حلفائه، على القتال في يوم معين، فاستعد السعيد للقتال، في اليوم المذكور، ووقع القتال فيه فعلا، وضاعف الموحدون جهودهم، حتى اضطر بنو مرين وحلفاؤهم، إلى الارتداد، وقصدوا إلى جهة الغرب. وهمَّ السعيد أن يطاردهم في اليوم التالي، لولا أن ترامى إليه أن كانون بن جرمون وعرب سفيان، قد غادروا الميدان، فخشى السعيد أن تكون هذه الحركة، موجهة إلى مراكش، على نحو ما حدث من قبل، من عرب الخلط، فترك مطاردة المرينيين، وسار في قواته جنوبا صوب مراكش. ولكن كانون وقومه كانوا قد سلكوا طريقاً آخر، أقرب وأيسر منالا من الحضرة، هو طريق أزمُّور، فسار إليها كانون واستولى عليها، بمعاونة زعيمها علي بن يزيمر التامردى، ونهبها عرب سفيان وأغرموا أهلها أموالا، ولاسيما اليهود الساكنين بها، وكان واليها ابن معنصر الكومي، قد غادرها، وسار إلى تحية السعيد بتامسنا، ولما علم كانون برجوع السعيد من قتال بني مرين، غادر أزمور في حشوده، وسار إلى أحياء دُكالة. ووقف السعيد على وجهته فسار إليه، ودهمه هنالك، وفتك بقومه، وأفنى معظمهم، وفر كانون في فله القليل إلى الغرب، وبعث السعيد برؤوس قتلى سفيان إلى مراكش، فعلقت على سورها، ودخل السعيد أزمور، وعفا عن أهلها وقبض على ابن يزيمر، وأرسله مصفداً إلى مراكش، حيث قتل هنالك، ولم تحدد لنا الرواية تاريخ هذه الوقائع ولكن يبدو من المرجح أنها وقعت في أوائل سنة 643 هـ (1245 م) (¬1). - 2 - لما تولى الأمير أبو يحيى بن عبد الحق، زعامة قومه بني مرين، كان أول ما فعله هو أن قسم مناطق المغرب، الواقعة تحت سيادة بني مرين، بين القبائل المرينية، وخص كل قبيلة بناحية منها لا تتعداها، ثم سار في أهله وحشمه وجنده ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 370 - 373، وابن خلدون ج 6 ص 357

فنزل فيما بين سلفات وجبل زرهون، شمالي مكناسة، فاضطرمت المنافسة القديمة بين أحيائهم، وخالف بنو عسكر مرة أخرى على أميرهم، وانحازوا إلى الموحدين، فحرضوهم علي بني عبد الحق. واهتم الخليفة السعيد، بنزول بني مرين، على مقربة من مكناسة، وضغطهم عليها، فسار في قواته مرة أخرى إلى فاس ونزل بها، وهنالك بايعته قبائل بني عسكر، وفاوض من جهة أخرى يَغمُراسن بن زيّان صاحب تلمسان، للانضمام إليه، فقدم عليه في قوة من الفرسان، ولكن هذه المحاولة في جمع خصوم بني مرين، انتهت بالفشل، لأن بني عسكر عادوا فنكثوا لرفض السعيد أن يطلق سراح رهائنهم، واضطروا إلى مهاجمة سرية من الحشم والروم، كان قد أرسلها إليهم مع مولاه عنبر لملاطفتهم، فقبضوا على أفرادها، حتى اضطر السعيد، إلى تسريح رهائنهم. ومن جهة أخرى فقد كان يغمراسن، زعيما لا تؤمن نياته، وخططه، فلم يلبث أن عاد في جنده إلى تلمسان (¬1). ولما اشتد ضغط بني مرين على مكناسة، وقطعوا عنها المرافق والموارد، ولاح أنها أصبحت رهن مشيئتهم، ثار بها العامة، وقتلوا واليها الموحدي، وداخل الأمير يعقوب بن عبد الحق، أخو الأمير أبو يحيى، زعيم مكناسة أبا الحسن بن أبي العافية، على أن تقوم المدينة بمبايعة الأمير أبي زكريا الحفصى، وكان بنو مرين يومئذ يدينون إسما بطاعته، فتم الاتفاق على ذلك، وكتب كتاب البيعة كاتب الأندلس البليغ القاضي أبو المطرِّف بن عميرة، وكان يشغل يومئذ منصب القضاء بمكناسة. وقد أورد لنا ابن عذارى نص هذه البيعة بأكمله، وهي طويلة ومؤرخة في يوم الجمعة 20 ربيع الأول سنة 643 هـ (¬2)، فسر أمير إفريقية الحفصي لذلك، وأقطع ثلث جباية المدينة للأمير يعقوب بن عبد الحق. وكان لذلك أبلغ وقع في البلاط الموحدي، وقد بدا له عندئذ روعته، لما أصاب الإمبراطورية الموحدية الكبرى من التمزق. فقد خرجت جزيرة الأندلس من حوزة الموحدين، واستقل بها ابن هود وابن الأحمر، ثم أخذ يلتهمها العدو المتربص بها. قاعدة فأخرى، وقد انفصلت إفريقية، واستقل بها بنو حفص، وخرجت سبتة عن الطاعة، وغلب بنو عبد الواد على تلمسان وأحوازها، وتوغل بنو مرين في أعماق المغرب، وغلبوا على معظم أنحائه الغربية، ثم استولوا ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 68 - 70، وابن خلدون ج 7 ص 171 و 172. (¬2) يراجع نص هذه البيعة في البيان المغرب ص 373 - 378

على مكناسة، وهي لا تبعد عن فاس عاصمة الإمبراطورية الثانية، سوى مسافة يسيرة، ومن ثم فإنه كان لزاما على الخليفة الموحدي أن ينهض بقوة وعزم، لتدارك هذا الصدع الذي ينذر بانهيار الدولة كلها. وهذا ما فعله السعيد، فإنه مذ ولى الخلافة، لم يكن غافلا عن خطورة الموقف، وكان منذ البداية يرقب الفرصة للعمل، لإنقاذ الدولة، من عدوان الخارجين عليها، وكان الزحف على إفريقية ذاتها، مما يدخل في برنامجه، فاستنفر الموحدين والمصامدة، وسائر القبائل والروم والأغزاز، ووافاه كانون بن جرمون في قومه سفيان، وكان قد عاد إلى الطاعة، ووافته جشم وغيرها من طوائف العرب، واجتمعت له حشود عظيمة، يضيق لها الفضاء، وخرج من مراكش في شهر ذي الحجة سنة 645 هـ (أبريل سنة 1248 م) وسار حتى نزل بوادي تانسيفت وقد اهتزت بلاد المغرب لحركته، وكانت خطته تقضى، أولا بمحاربة بني مرين، وإجلائهم عن أقطار المغرب الوسطى، ثم السير إلى تلمسان وافتتاحها، من أيدي بني عبد الواد، ثم السير بعد ذلك إلى مقاتلة بني حفص، وانتزاع إفريقية منهم. وسار السعيد في قواته بعد ذلك صوب الشمال الشرقي، حتى وصل إلى وادي ملوية ورباط تازة، ونزل قبالة منازل بني مرين. ولما وقف الأمير أبو يحيى زعيم بني مرين، على حركة السعيد، وشهد بنفسه ضخامة الجيوش الموحدية، وأدرك أنه لا قبل له بها، آثر السلم والتهادن، ونزل له عن البلاد والجهات التي احتلها بنو مرين، وارتد بحشوده نحو بلاد الريف، وذلك بعد أن عقد مع السعيد صلحاً، يتعهد فيه بأن يمده بفرقة من عساكر بني مرين، في حربه ضد أميرى تلمسان وإفريقية (¬1). واقترب السعيد بحشوده، بعد ذلك، من مدينة مكناسة، فخرج إليه أهلها، وقد قدموا أمامهم أولادهم يحملون المصاحف، والتمسوا إليه العفو والغفران، مما حدث، فعفا عنهم وأمنهم. ومما هو جدير بالذكر ما يقصه علينا ابن عذارى، من أن أهل مكناسة، لما سمعوا عقب عقدهم البيعة لأمير إفريقية، من تأهب السعيد للحركة نحو بلادهم، بعثوا إليهم صلحاءهم وعلماءهم، يعتذرون ويستغفرون، وبعثوا معهم بيعة جديدة للخليفة السعيد، مدبجة بقلم الكاتب ابن عبدون، وهو يورد لنا نص هذه البيعة، مؤرخة في تاسع عشر ذي الحجة ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 76 و 77، والبيان المغرب ص 386 و 387، وابن خلدون ج 7 ص 172

عام 643 هـ (¬1)، ولا تناقض بين الروايتين. وتحرك السعيد بعد ذلك إلى فاس، ونزل في ظاهرها، وخرج إليه أشياخها وفقهاؤها يؤدون له التحية، فأكرم وفادتهم، ولكنه لم يدخل المدينة. ثم غادر فاس في التاسع عشر من المحرم سنة 646 هـ، وسار متجهاً إلى تلمسان، حتى إذا ما فرغ من أمرها، زحف على إفريقية. وكان مما يلقى ضوءاً على مشروع الموحدين نحو إفريقية، تقربهم من بلاط صقلِّية، وسعيهم إلى التحالف معه. وكان فردريك الأول ملك صقلية، قد أرسل إلى الرشيد سفارة وهدية، ولكنه توفي قبل وصولها، فاستقبلها أخوه السعيد، وبعث السعيد إلى ملك صقلية بدوره هدية، وعهد إلى رسله، بأن يبلغوه رغبته في معاونته له بأساطيله في البحر ضد إفريقية (¬2). هذا ولما وصل السعيد بحشوده، إلى مقربة من تلمسان، وكان من جملة عسكره فرقة من خمسمائة فارس من بني مرين، أمده بها الأمير أبو يحيى وفقاً لعهوده، بعث إلى يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان، يطلب إليه لقاءه والدخول في طاعته، فبعث إليه يغمراسن وزيره الفقيه عبدون، مؤكداً الطاعة، ومعتذراً عن قدومه، وأنه مستعد لأن يرسل إليه جملة وافرة من بني عبد الواد ليحاربوا تحت رايته. وكان يغمراسن قد غادر عندئذ تلمسان في أهله وولده وخاصته، ولجأ إلى قلعة تامزجدرت أوتامجردرت، الواقعة جنوبي مدينة وجدة، وامتنع بها، فألح السعيد في وجوب مقدم يغمراسن إليه بنفسه. ولما أصر يغمراسن على موقفه، عول السيد على مطاردته وقتاله، فسار إلى قلعة تامزجدرت حيث امتنع، وكان الوصول إليها خلال شعب وأوعار ضيقة، قد كمن بها بنو عبد الواد. فأشار على السعيد وزيره ابن عطوش وغيره أن يحذر من سلوك تلك المضايق، فأبى وأصر على اقتحام القلعة، وسار في جانب من قواته، وأمامه وزيره راجلا، شاهراً سيفه، فلما توسط الموحدون تلك الأوعار، انقضت عليهم، من الجبل، كمائن بني عبد الواد، بمنتهى العنف، فقتل الوزير ابن عطوش في الحال، وتلاه سيده السعيد فسقط صريعاً من فوق فرسه، ومُزق الموحدون شر ممزق، وارتدت فلولهم صوب المحلة الموحدية، فساد بها الرعب والفزع، وكان الذي قتل السعيد فارس يدعى يوسف بن عبد المؤمن الشيطان، وكان يكمن أسفل الجبل، ومن ¬_______ (¬1) ابن عذارى في البيان المغرب ص 378 و 379. (¬2) البيان المغرب ص 386

ورائه يغمراسن نفسه، وابن عمه يعقوب بن جابر. ولما سقط الخليفة الموحدي صريعاً، وقبل أن يلفظ أنفاسه، انحنى عليه يغمراسن وحياه، وأقسم له على براءته من مصرعه، ثم فاضت روح السعيد، وأمر يغمراسن بتكفينه وغسله، ثم حمل فدفن بمكان يعرف بالعباد خارج مدينة تلمسان، وانتهبت محلة السعيد، واستولى بنو عبد الواد على سائر ما فيها، وتفرق عسكره أيدي سبا، وارتدت فلولهم مسرعة إلى مراكش. ووقعت تلك النكبة المروعة. في يوم الثلاثاء آخر صفر سنة 646 هـ (23 يونيه 1248 م) (¬1). وهكذا هلك الخليفة أبو الحسن على السعيد فجأة، وبصورة لم يكن يتوقعها أحد، وهو في إبان ظفره وطموحه، وقد كان حريا أن يسير في قواته الجرارة صوب إفريقية، وأن يفتتحها، وقد لاح مدى لحظة أن الخلافة الموحدية، قد نهضت من سباتها، وتداركت عثرتها، وأنها أضحت على وشك الظفر بخصومها، واسترداد كامل سلطانها، وكان يبدو أن ما يتصف به السعيد، من العزم والصرامة وقوة النفس، كانت كفيلة بتحقيق هذه الغاية الضخمة، بل لقد بدا أنها بدأت تتحقق بالفعل. حينما زحف السعيد في قواته الجرارة للقاء بني مرين، وحينما رأى بنو مرين، وهم أقوى وأخطر خصوم الخلافة الموحدية، أن ينحنوا أمام عزم السعيد وقوته، وأن ينسحبوا من معظم الأراضي، التي كانوا يحتلونها من أنحاء المغرب. ولو أتاح القدر للسعيد فرصته، ولو لم يسقط صريعا على هذا النحو المفاجىء، لكانت أمامه ثمة فرصة، بل فرص سانحة، لتحقيق برنامجه الضخم، في إقالة الدولة الموحدية من عثرتها، واستردادها لسابق تماسكها ومنعتها. وتنوه الرواية بعزم السعيد، وهمته، وشجاعته، وتقول لنا إنه كان مهابا ذا إقدام ونجدة في الحروب، فاق بها من تقدم من آبائه، وهذا ما تدلى به في الواقع أعمال السعيد وحملاته الحربية المتوالية. وتصفه الرواية بأنه كان أسمر شديد السمرة، تام القد، معتدل القوام، سبط الشعر، مليح العينين (¬2). ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 78، والبيان المغرب ص 387 و 388، وابن خلدون ج 6 ص 58 وج 7 ص 82، وروض القرطاس ص 102، وهو يقدم إلينا مصرع السعيد في صورة حادث استكشاف خاص قام به السعيد في شعب الجبل، ففاجأته جماعة من بني عبد الواد، ومعهم يغمراسن، فقتلوه. (¬2) روض القرطاس ص 171

الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله

الفصل الثالث عصر الخليفة المرتضى لأمر الله اختيار الخليفة الجديد. مبايعة السيد أبي حفص عمر المرتضى لأمر الله. تصرفاته الأولى. عصره نذير انهيار الدولة الموحدية. أثر مصرع السعيد في تحرك بني مرين. استيلاء الأمير أبي يحيى على رباط تازا. زحف أبي يحيى على فاس ومحاصرتها. تسليمها إليه صلحا. مبايعة أشياخها له. دخول أبي يحيى فاس. استتباب الأمن والسكينة. مغادرة أبي يحيى لفاس وخروجه إلى بلاد فازاز. مؤامرة الموحدين لخلع أبي يحيى. مؤازرة الجند الروم لهم. وثوبهم بالوالى المرينى وقتله. إعلانهم بالعودة لطاعة الخليفة الموحدي. عودة أبي يحيى إلى الزحف على فاس. تحرك يغمراسن لأخذ رباط تازا. مسير أبي يحيى لقتاله. هزيمة يغمراسن. عودة أبي يحيى إلى فاس وتشديد الحصار عليها. طلب أهل المدينة العفو والتسليم. موافقة أبي يحيى ودخوله المدينة. القبض على زعماء المؤامرة وإعدمهم. إلزام أهل المدينة برد المال المنهوب. وفاة أبي زكريا الحفصى خلال مسيره للغزو. صفاته وخلاله. صدى وفاته في موقف الأقلية المسلمة بصقلية. أحوال هذه الطائفة وتلاشيها. الثورة في سبتة والبطش بالولاة الحفصيين. خلع طاعة بني حفص وقيام القاضي العزفى في الرياسة. علاقة الخلافة الموحدية بالكرسى الرسولى. بدء نفوذ النصارى منذ أيام المأمون. قيام الكنيسة بمراكش. تضخم الجالية النصرانية بها. البابا يرسل أسقفاً إلى مراكش وخطابا إلى الخليفة السعيد. حثه الخليفة على اعتناق النصرانية وتخصيص حصون لحماية النصارى. عدم اكتراث السعيد برسالة البابا. الخليفة المرتضى يرسل رده إلى البابا مع الأسقف لوبى. إشارة الخليفة بوحدانية الله وحملته على التثليث. إشارته إلى كتب البابا، وما يوجبه الخليفة لمنصبه من الإجلال. تنويهه بتكريم البشب رسول البابا. رجاؤه أن يكون خلفه من ذوى العقل والخلق الراجح. مغزى كتاب الخليفة الموحدي ودلالاته. وفود بعض زعماء بني مرين المنشقين على المرتضى. تأهبه بتحريضهم لقتال بني مرين. خروجه في قوات الموحدين والعرب إلى سلا. الأمير أبو يحيى يكتب إلى المرتضى في طلب السلم. ضغط الوزراء على المرتضى وجنوحه إلى الحرب. مسيره إلى محلات بني مرين ونزوله بأميلولين. نشوب المعركة بين الفريقين. خدعة شيخ سفيان بإذاعة الصلح. أمر المرتضى بالعودة. هجوم المرينيين على مؤخرة الجيش الموحدي وانتهاب عتاده وأمواله. عود المرتضى إلى الحضرة. ثورة والي السوس علي بن يدر. عجز القوات الموحدية عن إخضاعه. محاولته الاستيلاء على تارودانت. ارتياب المرتضى في ابن يونس وأمره بإعدامه. توطيد بني مرين لحكومتهم في فاس. ما خسرته الدولة الموحدية من أراضيها. إخضاع أبي يحيى لبلاد فازاز. مسيره صوب سلا. المرتضى يدبر مصرع زعماء الخلط. ثورة زعيم بني جابر والقبض عليه. خروج المرتضى لمحاربة بني مرين. اللقاء بين الفريقين عند جبل بهلولة. هزيمة الموحدين وفرار المرتضى. الهدوء المؤقت. نية بني مرين في القضاء على الدولة الموحدية. افتتاحهم لسجلماسة ودرعة. اشتداد ثورة السوس. فشل الموحدين في إخمادها. وفاة الأمير أبي يحيى. الانقلاب في سجلماسة. عود زعيمها القطرانى إلى طاعة الموحدين. موافقة المرتضى ثم تدبيره لمصرعه. الخلاف على وراثة عرش بني مرين

خلوص الأمر للأمير أبي يعقوب. افتتاح بني مرين لثغر سلا ورباط الفتح. مختلف الروايات في ذلك. خلع يعقوب بن عبد الله للطاعة واستقلاله بسلا. مخاطبته لألفونسو العاشر. ألفونسو يدبر مشروعا لغزو سلا. مقدم السفن القشتالية واعتداؤها الغادر على سلا. اهتمام السلطان أبي يوسف ومسيره إلى سلا. مقاتلته للنصارى وإجلاؤهم. استيلاؤه على سلا ورباط الفتح. انهيار مشروع ألفونسو العاشر. افتداء أسرى سلا. ما كان ينذر به هذا العدوان. سعى المرتضى إلى الصلح مع بني مرين. خروج أبناء إدريس المرينى بغمارة. استنزالهم واسترضاؤهم. أبو يوسف يرسل حملة لإنجاد الأندلس بقيادة عامر ابن إدريس. احتلالها لمدينة شريش. بداية عون بني مرين للأندلس. الخلاف بين ابن الأحمر والعزفى. أحوال عرب سفيان والخلط. ترددهم بين طاعة الموحدين وبنى مرين. موقف المرتضى. تدبيره لمصرع الزعماء الناكثين. عود المرتضى إلى التأهب لمحاربة بني مرين. مسير الموحدين لقتالهم. موقعة أم الرجلين. هزيمة الموحدين وتمزيق صفوفهم. محاولة جديدة لإخماد ثورة السوس وفشلها. حوادث طنجة وسبتة. مسير السلطان أبي يوسف لمحاصرة سبتة ثم عوده. مسير السلطان أبي يوسف إلى مراكش. القتال بينه وبين الموحدين. مصرع ولد السلطان. توقف القتال وتعهد المرتضى بدفع إتاوة سنوية. السيد أبو العلاء إدريس الملقب بأبي دبوس. الوحشة بينه وبين المرتضى. اختلاف الرواية في تعليل ذلك. فرار أبي دبوس والتجاؤه إلى السلطان أبي يوسف. موافقة أبي يوسف على مشروعه لفتح مراكش. إمداده بعسكر من بني مرين. مسير أبي دبوس ونزوله بهسكورة. التفاف القبائل حوله. توجس المرتضى ومطاردته لزعيم سفيان وقائد الروم. إنضمام العرب والروم إلى أبي دبوس. مسير أبي دبوس إلى أغمات ثم إلى مراكش. الاضطراب في المدينة وخلوها من القوات المدافعة. اقتحام رجال هسكورة للسور وفتحهم لباب الصالحة. دخول أبي دبوس المدينة وفرار المرتضى. مسيره إلى أزمور وغدر واليها صهره. مبايعة أبي دبوس بالخلافة وتلقبه بالواثق بالله. خلاله وصفته. وزراؤه. إجراءاته الأولى. نضوب الأموال. كتابه في ذلك ورد المرتضى. تأثره لمحنة المرتضى. نصح وزيره بالقضاء على المرتضى. إعدام المرتضى. المرتضى وتمام تفكك الدولة في عهده. صفاته. وزراؤه وكتابه. أدبه وشعره. ابن القطان يؤلف له تاريخه. شخصه. إعتقال أولاده. إطلاقهم والتجاؤهم إلى حماية ملك قشتالة. انتقالهم إلى غرناطة. ولده أبو حمارة. السيد أبو زيد أخو أبي دبوس. التجاؤه إلى ملك قشتالة وتنصره. تأملات عن هذه الظاهرة. - 1 - لما لقى الخليفة أبو الحسن السعيد مصرعه في شعب جبل تلمسان، في نهاية شهر صفر سنة 646 هـ، ووصل نبأ مصرعه ونكبة جيشه، إلى مراكش، كان لذلك أعمق وقع في البلاط الموحدي، وبادر السيد أبو زيد، أخو الخليفة القتيل ووالى مراكش، فاستدعى أشياخ الموحدين الموجودين بالحضرة، لبحث الموقف، واختيار الخليفة الجديد، فاتجه الرأي أولا إلى اختيار السيد أبي زيد نفسه، ولكنه امتنع واعتذر، فاقترح البعض أن يولى السيد أبو حفص عمر والي سلا، وذلك لعقله وورعه وصيانته، فوافق الموحدون على ذلك، وبايعوا السيد أبا حفص في غيبته، وتلقى الدعوة نيابة عنه، أخوه السيد أبو زيد. والسيد أبو حفص عمر هذا، هو ولد السيد أبي ابراهيم بن الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن

أو بعبارة أخرى هو ابن أخ للخليفة يعقوب المنصور، وعم للمأمون والد السعيد. وكان من قبل والياً لأغمات، ثم عينه السعيد لولاية سلا ورباط الفتح. وعقدت له البيعة بجامع المنصور، في أوائل شهر ربيع الأول، وحمل كتابها إليه الحاكم ابن أصلماط، وكان مقبلا من سلا إلى تامسنا، في طريقه إلى الحضرة، مع بعض أشياخ الموحدين والعرب، فتلقى البيعة، وضربت له في الطريق قبة، قرئت فيها البيعة، وبايعه فيها من حضر، وذاع الأمر بين الناس. ثم نظم لركوبه موكب خلافى، سار فيه بعض السادة والوزراء والقرابة، وبعض حشود العرب والخدم، واستمر الموكب في سيره حتى قرب من العاصمة، فخرج إليه عندئذ أشياخ الموحدين، ومعهم الخيل والأجهزة والكسى، والطبل والبنود، فنزل الخليفة أولا بالبحيرة، ثم دخل الحضرة في موكبه الفخم، واجتمعت الناس على طاعته (¬1). وتلقب الخليفة الجديد بالمرتضى لأمر الله. وكان كهلا في نحو الخمسين من عمره، هادئ الطبع، شديد الورع، قليل الأطماع. وكان أول ما قام به أن قدم أبا محمد ابن يونس للوزارة، ثم قدم لها أخاه السيد أبا اسحق، عندما وفد إليه من سجلماسة، وعين يعقوب بن كانون شيخاً لعرب بني جابر، وعمه يعقوب بن جرمون شيخاً لعرب سفيان، وأقر كلا منهما على بلاده. وكان في مقدمة أعماله أيضاً أن قبض على حاشية السعيد وخدمه، ولاسيما صاحبه ابن المسك، وسجن الحرّة عزونة أخت السعيد، واقتضى منها أموالا فادحة (¬2). وكانت خلافة المرتضى، التي استطالت نحو تسعة عشر عاما، هي الفترة القاتمة التي تم فيها تفكك الإمبراطورية الموحدية، الذي مهدت إليه حوادث الحقبة السابقة، منذ انسلاخ إفريقية، وانهيار الأندلس، واستقلال تلمسان. ثم عجل بوقوعه، استمرار الحروب الأهلية بين الموحدين من جهة، واشتداد ساعد بني مرين من جهة أخرى. وسوف نشهد منذ الآن فصاعداً، كيف تتساقط أشلاء الإمبراطورية الموحدية الباقية، واحداً بعد الآخر، والخلافة الموحدية عاجزة عن أن تتدارك أية ضربة، من الضربات القاصمة الموجهة إليها. وقد ترتب على مصرع الخليفة السعيد، في الناحية الأخرى، أعني ناحية بني مرين، نتائج هامة. ذلك أن الأمير أبا يحيى بن عبد الحق أمير بني مرين، ¬_______ (¬1) البيان المغرب 389 و 390، وروض القرطاس ص 173. (¬2) البيان المغرب 391، وابن خلدون ج 6 ص 258

ما كاد يقف على مصرع السعيد وتبدد جيشه، حتى نهض للعمل. وكان قد عقد الصلح مع السعيد وأمده بشطر من فرسانه، ضد بني عبد الواد أصحاب تلمسان، وأعطاه رهائن من قومه، أودعها السعيد برباط تازا. فلما انتهى السعيد وجيشه الجرار، سار أبو يحيى في قواته فوراً صوب تازا، وكان واليها هو السيد أبو علي، أخو السيد أبي العلا إدريس المسمى بأبي دبوس وهو الخليفة المستقبل، فبعث إلى أبي يحيى يطلب الاجتماع به، ولما اجتمعا تعهد أبو يحيى بأن يعمل على صون أهل تازا، وحمايتهم من كل أذى. وعندئذ غادر السيد أبو علي تازا بأهله وولده ومتاعه، ودخلها أبو يحيى وبنو مرين، وبايع أهل تازا وسائر أحوازها للأمير المرينى، وكانت تازا أول مدينة مغربية استولى عليها بنو مرين من أيدي الموحدين وذلك في أوائل شهر ربيع الأول سنة 646 هـ (يوليه 1248 م) (¬1). ولم تمض على ذلك أسابيع قلائل، حتى وقعت الخطوة الثانية، في تقدم بني مرين داخل الإمبراطورية الموحدية، وكانت أخطر وأبعد مدى. ذلك أن الأمير أبا يحيى، ما كاد يرتب شئونه برباط تازا، ويرتب بها رسوم الإمارة، حتى سلمها لأخيه الأمير أبي يوسف، ثم غادرها وسار في قواته غربا صوب مدينة فاس، وهي العاصمة الثانية للإمبراطورية الموحدية، وافتتح في طريقه مدينة أجرسيف، وسائر حصون وادي ملوية (¬2). ثم نزل قبالة فاس معتزماً فتحها، وضرب حولها الحصار وقطع علائقها مع الخارج، فاشتد بأهلها الضيق، وطلبوا إلى أشياخهم مفاوضة الأمير أبي يحيى، وكان واليها الموحدي يومئذ هو السيد أبو العباس بن أبي حفص، وكان عاجزاً عن أي دفاع ولم يتلق أية نجدة، ولم يكن لديه سوى مائتي جندى من الروم، وفدوا إلى المدينة عقب مصرع السعيد، مع قائدهم شديد. ويقول لنا ابن عذارى إن هذه الفرقة من الروم دافعت وقت الحصار ضد بني مرين دفاعا شديداً، واضطر أشياخ المدينة نزولا على ضغط أهلها، أن يتقدموا إلى أبي يحيى بطلب الصلح، فتلطف أبو يحيى بهم، وتعهد لهم بحسن النظر، وإقامة العدل وحمايتهم، وكف الأذى عنهم، فتقبلوا عهده، وبايعوه على الطاعة، بالرابطة الواقعة خارج باب الشريعة، وكان في مقدمة من بايعه كبير فقهاء مراكش، الشيخ الورع أبو محمد الفشتالي، وسائر ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 392، وابن خلدون ج 6 ص 252، وروض القرطاس ص 195. (¬2) الذخيرة السنية ص 79، وروض القرطاس ص 195

الفقهاء والأشياخ، وأخلى القصبة، والي الخليفة الموحدي، السيد أبو العباس، وغادرها في أهله وولده، وأمنه أبو يحيى، وأعطاه خمسين فارساً يحرسونه حتى وادي أم الربيع، ثم دخل أبو يحيى مدينة فاس في اليوم السادس والعشرين من ربيع الآخر سنة 646 هـ، وذلك بعد وفاة الخليفة السعيد بنحو شهرين (¬1). ولبث الأمير أبو يحيى بفاس أكثر من عام، وهو ينظم الشئون، ويضع القواعد والرسوم، لحكم مملكة بني مرين، التي أخذ طالعها يتألق في الأفق. وكانت الوفود تترى عليه من كل صوب، متقدمة لبيعته، والانضواء تحت رايته، وقد عم في سائر المنطقة جو من الهدوء، والاستبشار بالدعة والخير، بعد أن طال عهد الاضطراب والفوضى، فأمنت السبل، ونشط التعامل، وأخذ الناس في الحرث والعمارة والاستقرار. وكان استيلاء بني مرين على تلك المدينة العظيمة - حاضرة المغرب العلمية التالدة - وهي التي غدت فيما بعد، عاصمة لمملكتهم الزاهرة، بداية النهاية في خاتمة الدولة الموحدية. وفي شهر رجب سنة 647 هـ، غادر الأمير أبو يحيى فاس، بعد أن استخلف عليها مولاه المسعود ابن خرباش الحشمى، وخرج إلى بلاد فازاز وما يليها، يعمل على إخضاع قبائلها وتحصيل الجباية منهم، ولكنه ما كاد يبتعد عن فاس حتى أخذ بعض زعماء المدينة من الموحدين، وغيرهم من المعارضين، يحاول قلب الأوضاع الجديدة، والعود إلى طاعة الخلافة الموحدية، وخاطب أولئك المعارضون قاضي المدينة أبا عبد الرحمن المغيلى، في خلع أبي يحيى وقتل نائبه المسعود، وطرد أنصاره من المدينة، وعبثا حاول القاضي أن يردهم عن مشروعهم، فنظموا مؤامرتهم على ما رتبوه، من خلع أبي يحيى وقتل نائبه، وإعادة البيعة للخليفة المرتضى، وتفاهموا مع قائدى جند الروم الذين بالقصبة، وهما شديد وزنار، وكان أبو يحيى قد تركهم على ما كانوا عليه (¬2). وفي رواية أخرى أنه كان قد حبسهم عند دخول فاس (¬3). وعلى أي حال فقد كان قواد الجند الروم مع المتآمرين، وكانوا بطبيعتهم من أولياء ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 79، وروض القرطاس ص 195، وابن خلدون ج 7 ص 174. ويضع ابن عذارى دخول أبي يحيى فاس في 18 ربيع الآخر سنة 646 هـ (البيان المغرب ص 393). (¬2) الذخيرة السنية ص 82. (¬3) البيان المغرب ص 399

الدولة الموحدية، المخلصين لها. وقصد أشياخ المدينة، وعلى رأسهم المشرف ابن جشّار وأخوه ابن أبي طاهر إلى القصبة، ومع قواد الروم، وبعد مشادة قصيرة مع المسعود بن خرباش، انقض عليه الروم وقتلوه مع عدة من أصحابه، واستولى الأشياخ على القصبة، وعلى ما فيها من المال والذخيرة، ورُفع رأس المسعود على رمح وطيف به، وأغلقت المدينة أبوابها، وتولى قائد الروم ضبطها، ونادى الأشياخ بطاعة الخليفة الموحدي، وبعثوا بها إليه، وطلبوا عونه ونصرته، فبعث المرتضى إليهم، يعدهم بالعون والقدوم. ووقع هذا الانقلاب بمدينة فاس في شهر شوال وقيل في العشرين من شعبان سنة 647 هـ (¬1). ولكن المرتضى لم يسر إلى فاس، ولم يبعث إليها بمدد من جنده، وبقيت المدينة الثائرة مغلقة، تترقب مصيرها. ولما علم الأمير أبو يحيى بما حدث، وكان يغزو بلاد فازاز، تركها وارتد لمعاقبة أهل فاس على نكثهم، وضرب الحصار حول المدينة. وكان المرتضى حينما شعر بعجزه، عن تدارك فاس بعونه، قد بعث إلى يغمراسن بن زيان، يغريه على انتهاز الفرصة في بني مرين. فلما سار أبو يحيى إلى فاس، نهض يغمراسن في قواته إلى رباط تازا، يحاول الاستيلاء عليها، فاضطر أبو يحيى عندئذ، أن يترك بعض قواته لمتابعة حصار فاس، وأن يسير بنفسه لمحاربة يغمراسن. ولما وصل أبو يحيى إلى تازا، ارتد عنها يغمراسن، فسار أبو يحيى في أثره، ونشبت بين الفريقين في وادي إبسلى، على مقربة من وجدة، عدة معارك شديدة، انتهت بهزيمة يغمراسن، وسقوط محلته وأسلابه في أيدي العدو، فارتد في فلوله صوب تلمسان، وذلك في شهر ذي الحجة سنة 647 هـ (¬2). ثم سار أبو يحيى في قواته إلى فاس، وشدد في محاصرتها ومنازلتها، فلما رأى أهل المدينة أنه لا مناص من التسليم، بعثوا إلى أبي يحيى بطلب العفو والأمان، فأجاب ملتمسهم، ودخل فاس وذلك للمرة الثانية، في العشرين من جمادى الآخرة سنة 648 هـ (أكتوبر سنة 1250 م)، ونزل بالقصر، وألزم أشياخ المدينة، أن يردوا إليه ما سلب من الأموال والذخائر، وقدر ذلك بمائة ألف دينار، أو ثلاثمائة ألف وفقاً لابن عذارى، فماطل الأشياخ أو عجزوا، فقبض على زعمائهم ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 174 و 175، والذخيرة السنية ص 81 و 82، والبيان المغرب ص 399، وروض القرطاس ص 196. (¬2) ابن خلدون ج 7 ص 175، والذخيرة السنية ص 83

وفي مقدمتهم القاضي أبو عبد الرحمن المغيلى، وابن جشار وأخوه ابن أبي طاهر وغيرهم، وأمر بقتلهم، وعلقت رؤوسهم على أبواب المدينة (رجب 648 هـ)، وألزم أهل المدينة، ومن بقى من شيوخهم، برد المال المنهوب، وساد على المدينة حكم إرهاب، خشعت له القلوب، وأخمدت كل نزعة إلى الفتنة والخروج (¬1). - 2 - وفي تلك الأثناء توفي عاهل إفريقية، الأمير أبو زكريا يحيى ابن الشيخ أبي محمد عبد الواحد الحفصى، وكان حينما وقع مصرع الخليفة السعيد، قد أخذ في الأهبة، لتحقيق ما كان يجيش به من أطماع، نحو الأقاليم المغربية، وخرج في جيشه من تونس، في أوائل سنة 647 هـ. فلما وصل إلى بلدة العناب على مقربة من بونة أصابه مرض مفاجىء، واشتد به حتى توفي، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 647 هـ (1249 م)، وكان في التاسعة والأربعين من عمره. وكان أميراً عظيماً وافر الشجاعة والمقدرة والعزم، وهو الذي أنشأ الدولة الحفصية المستقلة بإفريقية، حسبما ذكرنا من قبل في موضعه، وكان فوق ذلك عالما أديبا، مجيداً للنثر والنظم، محباً للعلماء، مؤثراً لهم، وقد وفد عليه كثير من علماء الأندلس وأدبائها النازحين منها، حينما تغلب النصارى على قواعد الأندلس، وكان في مقدمة هؤلاء الفقيه الكاتب المؤرخ والشاعر الكبير ابن الأبار القضاعي. ولما توفي أبو زكريا بويع ولده أبو عبد الله محمد بتونس، وتلقب بالمستنصر بالله، وهو الذي لقى ابن الأبار مصرعه على يديه، حسبما نفصل ذلك في ترجمته. وكان لوفاة عاهل إفريقية، صدى فيما أصاب البقية الباقية من مسلمي صقلية، من اضطهاد وتشريد. وكانت الأقلية المسلمة، قد لبثت عصراً، بعد افتتاح النورمانيين للجزيرة، عنصراً من أهم عناصر سكانها، وأوفرهم تقدما وحضارة، يتمتعون في ظل الملك رجّار فاتح الجزيرة، وخلفائه الأوائل، بقسط كبير من الرعاية والحرية، ولكنهم غدوا بعد ذلك موضع الاضطهاد والمطاردة. وقد سبق أن أشرنا فيما تقدم، إلى ما كانت عليه أحوالهم، وأوردنا طرفا مما ذكره عنها الرحالة ابن جبير، وأشرنا إلى ما كان من وفود بعض أعيانهم على الشيخ أبي محمد الحفصى والي إفريقية، في نحو سنة 605 هـ، سعياً إلى الاستنصار بعون ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 175، والذخيرة السنية ص 84، والبيان المغرب ص 395، وروض القرطاس ص 197

الخليفة الموحدي محمد الناصر. بيد أن مسعاهم لم يسفر يومئذ عن أية نتيجة عملية، ْفلما استقلت إفريقية، وغدت في عهد أول أمرائها من بني حفص أبي زكريا يحيى، دولة قوية زاهرة، اتجه نظر مسلمي صقلية إلى غوث هذه الجارة المسلمة القوية، والظاهر مما تذكره لنا الرواية الإسلامية، أنه وقعت بين الأمير أبي زكريا، وبين ملك الجزيرة، وكان يومئذ الإمبراطور فردريك الثاني، مفاوضات بشأن مسلمي صقلية، أسفرت عن استردادهم لامتيازاتهم القديمة، من سكنى بلرم وضواحيها وبعض أماكن أخرى. بيد أنه لما توفي الأمير أبو زكريا عاد ملك صقلية إلى إضطهاد المسلمين ومطاردتهم. فاضطروا إلى مغادرة السهول، ولجأوا حسبما كانوا يفعلون من قبل، إلى الجبال والأوعار، ونصبوا عليهم أميراً من بني عباس. بيد أن هذه الثورة الأخيرة لمسلمى صقلية، لم تغنهم شيئاً، لأن ملك صقلية حاصرهم، واشتد في إرهاقهم حتى استنزلهم من الجبال، ثم أرغمهم على السكنى في منطقة لوجارا، ثم سار إلى جزيرة مالطة، وأخرج منها المسلمين، وألحقهم بإخوانهم، وكانت هذه الضربة الأخيرة لمسلمى صقلية، هي بداية انحلالهم وتلاشيهم النهائي، وغاضت آثار الإسلام من صقلية شيئاً فشيئاً، حتى انتهى أمره، من تلك الربوع، التي ازدهرت فيها حضارته زهاء أربعة قرون (¬1). وكان من أصداء وفاة الأمير أبي زكريا أيضاً، ما وقع بثغر سبتة، من انقلاب جديد، وقيام دولة جديدة. وذلك أن سبتة، كانت قد قامت بالدعوة للأمير أبي زكريا، حسبما ذكر في موضعه، وأوفد إليها الأمير أبو زكريا، رجلين من قبله، للإشراف على شئونها، هما ابن أبي خالد وابن الشهيد، فلم يحسنا السيرة، وبرم بهما أهل المدينة. فلما توفي أبو زكريا تهيأت الفرصة لانقلاب جديد، في رياسة هذا الثغر، الذي لبث عصوراً من أهم الثغور الموحدية الشمالية، كما لبث عصوراً قاعدة رئيسية، لعبور الجيوش الموحدية إلى الأندلس. وذلك أن أهل سبتة، اضطرموا بالثورة، واتفق قاضي المدينة وكبير علمائها، أبو القاسم العزفى مع أمير البحر أبي العباس الرنداحى، وكان راسيا بسفنه في مياه سبتة، على تدبير الانقلاب المنشود. وكان ممن يخشى بأسهم بسبتة، غير رجال الأمير الحفصى، جماعة من فرسان الأندلس النازحين، وعلى رأسهم القائد شقّاف بطل إشبيلية السابق. فتم التفاهم على التخلص من الجميع. ودبر الرنداحي الأمر بإقامة وليمة ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 280

كبيرة بمنزله، دعا إليها معظم القادة والجند، وبعث رجاله بالليل، فقاموا بقتل القائد شقاف وزملائه، ثم نفذوا إلى القصبة، فقتلوا ابن أبي خالد، وأخرجوا ابن الشهيد في زورق سيروه إلى الأندلس. وهكذا تم تدبير الانقلاب المنشود، وخلعت طاعة بني حفص، وتولى القاضي أبو القاسم العزفى زمام السلطة (647 هـ)، وكان أبو القاسم، وهو ولد العلامة الكبير الورع الزاهد أبي العباس العزفى، عالما جليلا، ورئيساً حازما، ورعا كأبيه، فضبط أمر سبتة بقوة وكفاية، وكان ذلك بداية رياسة هذه الأسرة العريقة، للثغر الموحدي القديم، واستمر العزفى في حكم سبتة، زهاء ثلاثين عاما، حتى توفي في سنة 677 هـ (¬1). - 3 - ولابد لنا أن نشير هنا، إلى حادث ذي مغزى عميق، من الناحيتين الدينية والأدبية، وإن لم يكن له نتائج مادية أو سياسية هامة، ذلك هو ما وقع من مكاتبة بين الخليفة الموحدي المرتضى لأمر الله، وبين البابا إنوسان الرابع، وقد انتهى إلينا لحسن الطالع، كتاب الخليفة الموحدي، إلى عميد النصرانية، وهو مايزال محفوظاً بأصله في مكتبة الفاتيكان الرسولية. بيد أنه يجدر بنا قبل أن نعرض إلى محتويات الكتاب المذكور، أن نشير إلى ما تقدم، من علاقات، بين الخلافة الموحدية، والكرسي الرسولي. وقد بدأت هذه العلاقات منذ عصر الخليفة المأمون، وهو المسئول عن تشجيع الكرسى الرسولى، على محاولة بث نفوذه، داخل الإمبراطورية الموحدية. وذلك أن المأمون حينما دعا لنفسه بالخلافة، وهو بالأندلس، واعتزم العبور إلى المغرب، رأى أن يستنصر بفرناندو الثالث ملك قشتالة، لكي يمده بقوة من المرتزقة النصارى، يستعين بها على قتال خصومه. وقد رأينا فيما تقدم كيف أن فرناندو الثالث، اشترط على المأمون لمحالفته وإمداده، غير ما رغب في امتلاكه من الحصون الأندلسية، شروطاً أخرى منها أن يبنى للنصارى في مراكش كنيسة يقيمون فيها شعائرهم، وأنه إذا أسلم أحد من النصارى فلا يقبل إسلامه، بل يرد إلى إخوانه يقضون في أمره وفق ما يرون، وإن تنصر بالعكس أحد من المسلمين فليس لأحد عليه سبيل (¬2). ولما استطاع المأمون أن ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 402، وابن خلدون ج 7 ص 186. (¬2) روض القرطاس ص 167. وراجع ص 368 من هذا الكتاب

يتغلب على خصومه، بمعاونة أولئك الجند النصارى، أو الروم حسبما تنعتهم الرواية الإسلامية، كان في مقدمة ما عمله، أن ابتنى للنصارى في داخل مراكش كنيسة كبرى. وقد كانت أول كنيسة أقيمت بالعاصمة الموحدية، وكانت فيما يبدو أكثر من محل للعبادة، إذ كانت في أحيان كثيرة ملاذا للقادة والجند الروم، حسبما يستدل على ذلك من إشارات عديدة، وتكاثر أولئك الجند النصارى بما كان يفد إليهم من إخوانهم المرتزقة، من وراء البحر، ولبثوا أعمدة الخليفة الموحدي في مقارعة خصومه، وكانوا قوة يحسب حسابها، في سائر المنازعات والانقلابات السياسية والعسكرية. وقد لفت قيام هذه الجالية النصرانية القوية، في العاصمة الموحدية، منذ البداية، نظر الكرسى الرسولى، ورأى فيها سنداً لتدخله، ومحاولة بث نفوذه. وكان أول ما وقع من ذلك أن بعث البابا إنوسان الرابع، بالقس لوبى فرنانديث إلى مراكش في سنة 1246 م، في عهد الخليفة السعيد، ليكون أسقفا بها، وكان السعيد كأبيه المأمون، يغمر الجند النصارى بعطفه وصلاته، ويعتبرهم ملاذ العرش الموحدي، وسنده القوي. وبعث البابا إلى الخليفة مع الأسقف كتابا يهنئه فيه، بانتصاراته على خصومه، في سجلماسة، وبلاد الغرب، ويشيد بالدور الذي قام به الجند النصارى في هذه الانتصارات، بل وينصح الخليفة، لما كان يعلمه من استعداده، لاستقبال طوائف جديدة من أولئك الجند، ولما كان يحبوهم به من عطف - ينصحه بأن يعتنق النصرانية لكي يغنم حماية الله والكرسى الرسولى، ثم يرجوه لضمان حماية النصارى، ولكى لا يتعرضوا إلى مثل ما حدث لهم أيام يحيى المنتصر، من القتل ومن حرق كنيستهم، أن يخصص لهم بعض الحصون المنيعة، الواقعة تحت سلطانه، لكي يلجأوا إليها عند الضرورة، وكتب البابا في نفس الوقت إلى أمراء تونس وبجاية وسبتة، يرجوهم أن يسهلوا لنصارى مراكش الاتصال بإخوانهم في تلك الثغور. على أن رسانة البابا المتقدمة إلى الخليفة السعيد، لم يكن لها أي صدى. ذلك أن السعيد، بالرغم من حرصه على إرضاء جنده، لم يكن على استعداد، لكي يمنح للكرسى الرسولى ذاته، أية امتيازات أو حقوق من أي نوع. ومن المحقق أنه لم يلق أي التفاتة، لما دعاه إليه البابا، من اعتناق النصرانية، بل سوف نرى بالعكس، ما ورد في شأن ذلك من الاستنكار، في خطاب خلفه، الخليفة المرتضى إلى البابا

وقد بعث الخليفة المرتضى كتابه، إلى البابا، مع الأسقف لوبى المتقدم ذكره وهو كتاب طويل، ومؤرخ في ختامه، في الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة 648 هـ، وفيه يوصف البابا بعد الديباجة " بمطاع ملوك النصرانية، ومعظم عظماء الأمة الرومية، وقيم الملة المسيحية، ووارث رياستها الدينية، البابا إينه سانس، أنار الله بصيرته، بتوفيقه وإرشاده، وجعل التقوى التي أمر عز وجل بها، عدته لمحياه ومعاده ". ويفتتح الكتاب بالإشارة إلى المسألة الدينية الجوهرية، التي تفرق بين الإسلام والنصرانية، ويعرضها الكتاب بقوة وحسم، ردا على ما أشار به البابا إلى الخليفة الموحدي، من اعتناق النصرانية، فيقول ما يأتي: " أما بعد فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، حمد من علم أنه الرب الواحد، الذي دلت على وحدانيته البراهين القاطعة والشواهد، ونزهته العقول الراجحة، عن أن يكون له ولد، أو يدعى أنه الوالد، تعالى الملك الرحمن عما يقول المثلث والمشبه والجاحد ". ويلي ذلك الصلاة على النبي، ثم طلب الرضى عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، وعن الخلفاء الراشدين، ثم عن الخليفة المرتضى ذاته، موجه هذا الكتاب. ويعرض الكتاب بعد الدعاء، والشكر لله تعالى، إلى موضوع المراسلة، ويشير إلى أنه كانت قد تبودلت كتب بين البابا والخليفة الموحدي، وذلك حينما يقول " فإنه سبقت منا إليكم مراجعات، عن كتبكم المؤثرة الواصلة إلينا " ثم يؤكد الخليفة للبابا، أنه يوجب لمنصبه " الذي أبر في ملتكم على المناصب حقه "، وأنه لذلك عند الخليفة " بالتكرمة الحفيلة ملحوظون، وبالعناية الجميلة محظوظون " على " ما توالى علينا من حسن إيثاركم لجانبنا وتردد ". ثم يشير الكتاب بعد ذلك إلى أنه " قد انصرف عن حضرة الموحدين البِشُب، الذي كان قد وصل بكتابكم إلينا، انصرافا لم يعزه منّا فيه بر وإكرام، ولم يغبه فيه اعتناء به واهتمام " وأنه لبث طوال إقامته بالحضرة معززاً مكرماً، في حله وترحاله، وأنه رحل مختاراً، وهو يحمل كتاب الخليفة، تعريفاً بذلك. ويرجو الخليفة إلى البابا، أن يراعى في اختيار خلفه للإشراف على النصارى " المستخدمين ببلاد الموحدين " أن يكون من أهل العقل الراجح،

صورة: صورة فتوغرافية لخطاب الخليفة المرتضى إلى البابا إنوسان الرابع المحفوظ بمكتبة الفاتيكان الرسولية

والسمت الحسن والنزاهة، وذوى الخلال المشكورة. ويختتم الكتاب بتوجيه الشكر إلى البابا " لما تذهبون إليه من تمشية الأغراض والمذاهب، والمساعدة الصادرة منكم عن كرم الضرائب " (¬1). هذا هو ملخص كتاب الخليفة الموحدي إلى البابا، وهو كما تقدم مؤرخ في الثامن عشر من شهر ربيع الأول سنة 648 هـ الموافق العاشر من يونيه سنة 1250 م. ومن الأسف أننا لم نعثر في التواريخ العربية بأية إشارة، إلى هذه المكاتبات الهامة، بين الخلافة الموحدية، وبين الكرسي الرسولي (1). وإذا كان لنا أن نعلق بشىء على هذا الكتاب، فهو أن ما يكشفه لنا من نقاش حول العقيدة الدينية، بين البابوية والخليفة الموحدي، وما جنح إليه الخليفة الموحدي في كتابه، من دحض نظريات ألوهية المسيح والتثليث، بقوة وعنف، يدل على ما حدث من أصداء عميقة، لدى الخلافة الموحدية، في أواخر عهدها من جراء ازدياد نفوذ الجالية النصرانية، ومحاولة استغلال البابوية لهذا النفوذ، بصورة انتهت إلى الاجتراء، على دعوة الخليفة الموحدي إلى نبذ دينه وعقيدته الإسلامية. - 4 - وفي نفس هذا العام أعني في سنة 648 هـ، وفد على الخليفة المرتضى، زعيمان من زعماء بني مرين، المنشقين على الأمير أبي يحيى، هما أبو عمران موسى ابن زيان المونكاسى، وأخوه علي بن زيان، فأكرم وفادتهما، ورتب لهما أموالا سخية، وشجعاه على النهوض لقتال بني مرين. فأخذ المرتضى في الأهبة، وبعث بعض رسله إلى الأندلس، ليحشدوا له فرقة جديدة من المرتزقة النصارى، فجمعوا له عدداً منهم. وفي سنة 649 هـ (1251 م) غادر المرتضى مراكش، في قوات الموحدين والعرب، ومعه علي بن زيان وأخوه، قاصداً محاربة بني مرين، ومنعهم من عبور وادي أبي رقراق، إلى أرض تامسنا. وكان خروجه في رمضان ¬_______ (¬1) نقلنا نص الكتاب الموحدي المشار إليه من محفوظات مكتبة الفاتيكان الرسولية وهو محفوظ بها تحت رقم A.A.L.XVIII. وقد قامت بنشر هذا الكتاب مجلة Bulletin de l'Institut de Hautes Etudes Marocaines - Hespéris في عددها الصادر سنة 1926 ونشرت صورة فوتوغرافية للكتاب المذكور وترجمة فرنسية، وعلق عليه الكردينال تسيران والأستاذ فييت في بحث طويل (ص 27 - 53) وقد نشرنا نصه الكامل في باب الوثائق كما نشرنا هنا صورته الفتوغرافية. ولم نجد بمحفوظات الفاتيكان أية وثيقة مغربية أو أندلسية أخرى من وثائق ذلك العصر

من هذه السنة. فسار أولا إلى تينملّل حيث قام بزيارة قبر المهدي، وقبور أجداده، ثم عاد إلى طريق مراكش، واتجه صوب سلا. وكان واليها ابن أبي يعلى، قد استعد في حشوده للانضمام إليه. وأقام المرتضى أياما في سلا، يتعرف أخبار بني مرين، ثم خرج من سلا في حشود وافرة، قاصداً إلى مكان بني مرين. وكان الأمير أبو يحيى، حينما علم بخروج المرتضى إلى قتاله، قد جمع أشياخ بني مرين وحلفاءهم، وبحث الأمر معهم، فرأوا أن يجنحوا إلى المسالمة، فكتب أبو يحيى إلى المرتضى، يطلب إليه السلم والمهادنة، وكان المرتضى يميل إلى عقد السلم، ولكن وزراءه عارضوا في ذلك، وبينوا له خطورة مهادنة بني مرين، وإغفال أمرهم، فجنح المرتضى إلى الحرب، وسار في حشوده الزاخرة، إلى لقاء خصومه، ومعه أحمال كثيرة من المال برسم النفقة، حتى صار على مقربة من محلات بني مرين، ونزل بمكان يسمى أمن ملولنين (أو أميلولين) من أحواز مكناسة. وكان الأمير أبو يحيى وبنو مرين، قد استعدوا للقتال، وبدأ الموحدون المعركة، وهجم الموحدون وعلي بن زيان وجنوده، كل من ناحية، فتظاهر بنو مرين بالانسحاب، وكانوا قد رتبوا كمائنهم، في أماكن قريبة مستورة، ولكن الموحدين فطنوا إلى الخدعة، فلم يتبعوهم، وعندئذ أشاع حليف المرتضى، يعقوب بن جرمون، شيخ سفيان، بناء على خطاب تلقاه من أبي يحيى، في المحلة الموحدية، أن الصلح قد عقد بين الفريقين، فاقتنع المرتضى بورود هذا الخطاب على يعقوب، وإن لم يعقد صلح في الواقع، وأمر بالرحيل، وتحركت الجيوش الموحدية، عائدة صوب مراكش، فعندئذ تبع بنو مرين الجيوش المرتدة، وانتزعوا كثيراً من عتادها وأحمالها، واستولوا بالأخص على أحمال الخليفة وأمواله، واستمر انسحاب القوات الموحدية، في غير نظام، حتى ثغر أزمور، فاستراح بها المرتضى أياما، ثم غادرها إلى الحضرة. وكانت هزيمة دون قتال، وكانت دليلا جديداً على ما أصاب قوي الموحدين المعنوية من التخاذل والانهيار (¬1). ولما عاد المرتضى إلى الحضرة عزل وزيره ابن يونس، وكان حاقداً عليه، لمعارضته في بيعته، وما يزال يسرها له (650 هـ). وفي العام التالي - 651 هـ - ثار والي السوس علي بن يدِّر، وجاهر بالعصيان فبعث المرتضى حمله موحدية إلى السوس لإخضاعه، ولكنها عجزت عن ذلك، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 258 وج 7 ص 176، والبيان المغرب ص 402 - 405

فارتدت خائبة إلى مراكش، واستمر الأمر على ذلك حتى العام التالي، حيث تفاقم أمر الثورة في السوس، واشتد ساعد علي بن يدر، بمن انضم إليه من طوائف العرب، من عرب الشبانات وبنى حسان وغيرهم، ثم سار إلى حصار تارودانت عاصمة السوس، يبغى الاستيلاء عليها، فسارت من مراكش، حملة موحدية جديدة لقتاله، فترك تارودانت، وامتنع بالداخل، ولم يستطع الموحدون إليه سبيلا، فارتدوا عائدين إلى الحضرة، وعاد ابن يدر إلى مضايقة تارودانت والعيث في أحوازها (652 هـ). وحدث بعد ذلك أن وقف المرتضى، على بعض كتب صادرة من ابن يدر، إلى قريبه الوزير ابن يونس، تدل على أنه كان يمده بالمال والسلاح، فقبض على ابن يونس وأولاده، ثم أمر به المرتضى فقتل، وأفرج عن أولاده فيما بعد (653 هـ) (¬1). وفي خلال ذلك، كان الأمير أبو يحيى وبنو مرين، يعملون على توطيد سلطانهم، وتنظيم حكومتهم بمدينة فاس، وهي التي سوف تغدو منذ الآن فصاعدا، حاضرة ملكهم الفتى، والواقع أن الإمبراطورية الموحدية، كانت قد فقدت بانسلاخ إفريقية عنها، ثم استقلال بني عبد الواد بمملكة تلمسان، سائر أقاليم المغرب الأوسط، ثم جاء بنو مرين فانتزعوا النصف الشمالي، من المغرب الأقصى، واستولوا من قواعده على تازة ووجدة وفاس ومكناسة، وأخضعوا سائر أقاليم تلك المنطقة، من جبال غمارة حتى وادي أبي رقراق، ولم يبق بيد الدولة الموحدية، سوى ما وراء ذلك جنوبا من الأقاليم القليلة الباقية، حتى بلاد السوس، تتوسطها مراكش. ولم يكن خافيا على ذوى النظر البعيد، من أشياخ الموحدين وغيرهم، أن مصير الدولة الموحدية أضحى يهتز في كفة القدر، وأنها وصلت، بما انتهت إليه من الضعف والتفكك، إلى مرحلة الاحتضار. ولما انتهى أبو يحيى، من تنظيم الشئون بفاس، ارتد في بعض قواته إلى بلاد فازاز، ليتم إخضاعها، فافتتحها، وأخضع بطون زناتة النازلة في تلك المنطقة، وفرض الجباية عليهم جميعاً، وأخمد كل نزعة إلى الخروج والعصيان (¬2). ثم سار في قواته غرباً، في المنطقة الممتدة ما بين وادي أبي رقراق، ووادي أم الربيع، وكان من الواضح أنه يقصد الزحف إلى سلا ورباط الفتح، وقد ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 259، والبيان المغرب ص 408. (¬2) الذخيرة السنية ص 87، وابن خلدون ج 7 ص 175

أثارت هذه الحركة جزع البلاط الموحدي، فأخذ يستعد لمقاومتها بكل ما وسع. وكان المرتضى، وهو الشيخ الورع الهادئ يعكف خلال ذلك، على تدبير ضرباته، والانتقام من خصومه، وكان الدور بعد مصرع ابن يونس، على أشياخ الخلط، وكانت الريبة قد اتجهت عقب مصرع الخليفة السعيد، في شعب جبل تلمسان في سنة 646 هـ، إلى عرب الخلط، وقوى الظن بأنهم اشتركوا في مؤامرة قتله، وذلك لأنهم تخاذلوا في القتال أولا، ثم لما قتل السعيد، كانوا أول من بادر إلى نهب محلته، واستلاب ما فيها، وسلبوا فوق ذلك أموال أهله وأقاربه، وذلك قبل أن يصل بنو عبد الواد، إلى محلة الخليفة القتيل، وكان المرتضى يتوق إلى معاقبة زعمائهم، على ما ارتكبوه من الخيانة والغدر، فدبر كمينا لإهلاكهم، واحتال في دعوتهم إلى مراكش، بمختلف المعاذير، فلما وصل معظمهم، أذن لهم بالدخول إلى القصر، وكان قد كمن لإهلاكهم، عدد كبير من عبيد المخزن والجند، فلما تقدموا إلى داخل الدار، وأحيط بهم، قتلوا أشنع قتل، وقيل بل قتلوا بالسم، في الطعام الذي قدم لهم، وكان عدد من قتل من زعماء الخلط سبعون شيخاً، ووقع ذلك الحادث الدموى في سنة 652 هـ (¬1). وفي نفس هذا العام، ثار يعقوب بن محمد بن قيطون، زعيم بني جابر، وخلع الطاعة، وكان المرتضى قد أكرمه، ومنحه إقطاعات واسعة، فبعث المرتضى إلى تامسنا، عسكراً بقيادة أبي الحسن بن يعلى، ليتفقد أحوالها، وليدبر مع يعقوب بن جرمون شيخ سفيان، طريقة القبض على ابن قيطون. ودعا أبو الحسن ومعه ابن جرمون، ابن قيطون للتفاهم معه، فلما حضر، أبرز ظهيرا بتقديم يعقوب بن جرمون، على سائر عرب المنطقة، فثار لذلك ابن قيطون، وحاول الانسحاب، ولكن قبض عليه وعلى وزيره ابن مسلم، وعاد أبو الحسن بهما مكبولين إلى مراكش (¬2). وكان المرتضى، قد استطاع في تلك الأثناء، أن يتم أهباته لمحاربة بني مرين. وكان بنو مرين، وعلى رأسهم الأمير أبو يحيى من جهة أخرى، قد توطد أمرهم بفاس وأحوازها، وأطاعتهم سائر القبائل المجاورة، وعمد أبو يحيى إلى حشد الحشود، والاستكثار من العدة والسلاح، وكان من الواضح أن وقف تقدم ¬_______ (¬1) ابن خلدرن ج 6 ص 259، والبيان المغرب ص 409. (¬2) البيان المغرب ص 410

بني مرين، في قلب المغرب، أضحى بالنسبة للموحدين مسألة حياة أو موت. ومن ثم فإن المرتضى، عول على أن يسير بنفسه لقتال بني مرين، فقام بأداء الزيارة المأثورة إلى تينملل، ثم خرج من مراكش في حشود ضخمة، من الموحدين والمصامدة والعرب، وسار أولا إلى سلا، ثم غادرها في حشوده شرقاً صوب فاس، وكان أبو يحيى قد استعد كذلك في قواته للقاء الموحدين، وكان المرتضى يزمع من وراء ذلك الصراع، أن يسترد فاس وأحوازها، إذ كان بقاؤها في أيدي بني مرين، يمثل أعظم خطر على كيان الدولة الموحدية. ولما اقتربت القوات الموحدية من فاس، وقعت بين المرتضى وأبي يحيى، بعض مراسلات ومراجعات في سبيل الصلح، ولكنها لم تفض إلى أية نتيجة. ثم وقع اللقاء بين الفريقين، عند جبل بهلولة أو بني بهلول، على مقربة من فاس، وكانت معركة عنيفة، انتهت بهزيمة الموحدين، وتمزيق صفوفهم، فقتلت منهم جموع عظيمة، واستولى بنو مرين على محلتهم وعتادهم، ومؤنهم ودوابهم، واستولوا بالأخص على أحمال الأموال، وكانت مقادير طائلة، وكان أكبر عامل في تلك الهزيمة الشنيعة، خيانة العرب، وتراجعهم عند بدء المعركة. وفر المرتضى في بعض فلوله، إلى أزمّور، وهو في حالة سيئة، ولبث بها، حتى بعث إليه والي مراكش، أبي سعيد ابن تيجا، بما يلزم من ضروب الإسعاف، وكان وقوع تلك النكبة بالموحدين في سنة 653 هـ (1255 م) (¬1). وكانت هذه ضربة قاصمة، لقوى الموحدين المادية والمعنوية، وجنح المرتضى بعد ذلك إلى الدعة والراحة، وعكف على تشييد القصور لأبنائه، وأنفق في ذلك أموالا طائلة، وقام بإصلاح جامع علي بن يوسف، وكان إصلاحه من قبل يعتبر عملا مكروها، في نظر الموحدين. ويقول لنا ابن عذارى فوق ذلك، إنه عقد الهدنة والسلم، مع الأمير أبي يحيى، وكانت تربطه بالفقيه أبي القاسم العزفى، صاحب سبتة، صلات ودية، بالرغم من خروجه على الموحدين، ودعوته لأمير إفريقية الحفصى، وكذلك بأبي الحجاج يوسف بن الأمين صاحب طنجة، وكان قد انضوى تحت لواء العزفى أولا، ثم استبد بحكم طنجة (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 411، و 412 ص، وروض القرطاس ص 197، وابن خلدون ج 6 ص 259 وج 7 ص 176. (¬2) البيان المغرب ص 414، و 415، وابن خلدون ج 7 ص 186

على أن هذا الهدوء النسبى، الذي بسط ظلاله، على ما بقى من أقطار الدولة الموحدية، لم يستمر طويلا، لأن بني مرين، لم يكن في نيتهم، أن يقفوا عند حدود الرقعة الواسعة، التي انتزعوها من الموحدين، والتي أضحت تكون وحدها مملكة ضخمة، داخل المغرب الأقصى، وإنما كانت تحدوهم رغبة قوية في انتزاع ما بقى من أراضي المغرب، والقضاء على الدولة الموحدية بصورة نهائية، وإقامة مملكتهم الفتية على أنقاضها، مستقلة دون منازع. ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، على موقعة جبل بهلولة، حتى نهض بنو مرين لافتتاح قطر جديد، من أقطار الدولة الموحدية، ووجهت الضربة في هذه المرة، إلى سجلماسة ودرعة. وهنا تختلف الرواية في تاريخ هذا الفتح المرينى، ففي رواية أنه وقع في أواخر سنة 653 هـ (¬1)، وفي أخرى أنه كان في سنة 655 هـ (¬2). وتفصيل ذلك أن والي سجلماسة الموحدي أبا محمد عبد الحق الجنفيسي، كان يرابط مع جنده في قصبة سجلماسة، فدبر رجل من زعماء المدينة يسمى أبو يحيى محمد القطراني، مؤامرة للغدر بهم، وتسليم المدينة إلى بني مرين، واتصل القطرانى بأبي يحيى وأغراه بفتح سجلماسة، فبعث إليه أبو يحيى جملة من جنده، فتحيل القطرانى إدخالهم إلى المدينة، وهاجم القصبة وقبض على واليها الموحدي، وبعث به معتقلا إلى الأمير أبي يحيى، ثم وفد أبو يحيى بنفسه إلى سجلماسة، ودخلها، واستولى على ما كان بالقصبة من المال، وعين إلى جانب القطراني، واليا مرينيا للمدينة، ثم استولى على درعة في جنوب سجلماسة، وعاد إلى فاس. وثار الخليفة المرتضى لما وقع، وأبي أن يفتدى واليه أبا محمد عبد الحق من الأسر، لاتهامه إياه بالتقصير والتفريط (¬3). وفي نفس الوقت تفاقم الأمر في بلاد السوس، واشتد أمر علي بن يدر، المتغلب عليها حسبما تقدم، فرأى المرتضى أن يبذل محاولة جديدة، لإخماد هذه الحركة، فبعث إلى السوس حملة موحدية جديدة، بقيادة أبي محمد بن أصناج، فسار إلى تارودانت ونزل بها، وكان علي بن يدر قد غادرها عندئذ، إلى حصن تيونوين، واعتصم به، فسار ابن أصناج لقتاله، فخرج إليه ابن يدر ¬_______ (¬1) هذه رواية صاحب الذخيرة السنية ص 89، وابن خلدون ج 7 ص 176. (¬2) هذه رواية ابن عذارى في البيان المغرب ص 416، وروض القرطاس ص 197. (¬3) البيان المغرب ص 417، وابن خلدون ج 7 ص 176، وروض القرطاس ص 197

ْوهزمه، وقتل معظم عسكره، فارتد ابن أصناج في فلوله، منهزماً إلى مراكش، وبقى ابن يدر على سلطانه وطغيانه (¬1). وأما في سجلماسة، فإن الأمر لم يقف في شأنها عند ما تقدم. ذلك أن الأمير أبا يحيى مرض، وتوفي بفاس في رجب من العام التالي (656 هـ)، ووقع الخلاف على ارتقاء العرش، بين ولده عمر وأخيه أبي يوسف يعقوب، فانتهز القطرانى هذه الفرصة، واستولى على حكم سجلماسة، واستطاع الوالي المرينى أن يغادر القصبة، في أهله وأصحابه، وبعث القطرانى إلى المرتضى، يعتذر عما حدث، وأنه سوف يقوم بالدعوة الموحدية، ولكن بشرط أن يبقى عاملا بسجلماسة، مستقلا بأمرها، فوافق المرتضى على ذلك، وبعث إليه بالفقيه أبي عمرو بن حجاج، ليكون قاضياً للمدينة، وبسرية من الجند الروم مع قائدهم، وزود القاضي والقائد بأوامر سرية معينة. واستمر القطرانى في رياسة المدينة حيناً، وفي ذات يوم وثب قائد الروم بالقطرانى فقتله، وكان هذا تنفيذا لأوامر المرتضى، فوقع الهرج بالمدينة، وبادر القاضي فأعلن للناس أن ما وقع إنما كان تنفيذا لأمر الخليفة، وعهد المرتضى إلى القاضي أبي عمرو بشئون المدينة، وكان هذا الحادث دليلا جديداً على ما كانت تتسم به وسائل المرتضى من شيم النكث والغدر (¬2). ولما توفي عاهل بني مرين الأمير أبو يحيى، تولى ولده عمر بن أبي يحيى العرش مكانه، ولكن معظم أشياخ بني مرين، لم يكونوا راضين عن ولايته، وكانوا يؤيدون بالعكس ولاية عمه الأمير أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، أخي أبي يحيى، وكان عند وفاة أخيه غائباً برباط تازا، فأسرع إلى حضرة فاس، والتف حوله أكابر المشيخة، ووقع الخلاف بين عمر وعمه، واعتصم عمر بالقصبة، وكان أبو يوسف يميل إلى حسم الأمر، بالبقاء في رباط تازا، ولكن ألح عليه أشياخ بني مرين، والتف حوله جمع كبير من الأنصار، وخرج عمر للقائه في أنصاره، في ظاهر فاس، فخذل عمر وهزمه أنصاره، وارتد إلى فاس مفلولا، وانتهى الأمر بالصلح بين عمر وعمه، على أن يرقى أبو يوسف العرش، وأن يتولى عمر أمر مكناسة وما إليها، ودخل أبو يوسف يعقوب ظافراً، وتولى الملك، وذلك في شهر شوال سنة 656 هـ (أواخر 1258 م) (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 415. (¬2) البيان المغرب ص 419. (¬3) الذخيرة السنية ص 92 و 97، وابن خلدون ج 7 ص 177، والبيان المغرب ص 420 و 421

لم يبق عندئذ، تحت سلطان الخلافة الموحدية، من إمبراطوريتها الشاسعة القديمة، بعد العاصمة وأحوازها، سوى المنطقة الواقعة بين وادي أبي رقراق ووادي أم الربيع، وفيها سهل تامسنا وثغرا سلا ورباط الفتح، فإلى هذه المنطقة، وإلى هذين الثغرين، اتجهت أنظار بني مرين. ففي سنة 657 هـ، سار كبير بني مرين يعقوب بن عبد الله بن عبد الحق، وهو ابن أخي السلطان أبي يوسف، متجهاً صوب تامسنا، مع قوة من الجنود المرينية، وذلك بحجة ممارسة الصيد والكلأ ونزل بعين عبولة، على مقربة من سلا. ويقول لنا صاحب الذخيرة السنية، إنه قام بهذه الرحلة، بإيعاز عمه السلطان أبي يوسف (¬1)، ولكن ابن خلدون بالعكس، يقدم إلينا رواية أخرى، خلاصتها أن الأمير أبا يحيى، كان قد افتتح سلا، من أيدي الموحدين، في سنة 649 هـ، واستعمل عليها ابن أخيه، يعقوبا المتقدم ذكره، ولكن الموحدين عادوا فاستردوا سلا، فأقام يعقوب مع صحبه، في بعض أحوازها، يترقب الفرص، ولما تولى عمه أبو يوسف الملك، غضب منه لبعض الأمور، وأخذ يدبر الحيلة في الاستيلاء على سلا (¬2). وعلى أي حال فقد دبر يعقوب خطة لافتتاح هذا الثغر الموحدي الهام. وكان والي سلا من قبل المرتضى يومئذ هو أبو عبد الله محمد بن أبي يعلى الكومي، وكان حينما اقترب يعقوب برجاله من سلا، قد اتخذ كل أهبة، ورتب الحراس على أبواب المدينة، ليلا ونهاراً، بيد أن الدفاع عن المدينة كان بالرغم من ذلك ضعيفاً، ولم يكن الاستيلاء عليها أمراً صعباً. وكان يعقوب بن عبد الله يعرف هذه الحقيقية، ويقول صاحب الذخيرة السنية، ويتابعه ابن خلدون، إن يعقوبا استطاع أن يدخل إلى قصبة رباط الفتح بالحيلة، وأن يخرج منها ابن أبي يعلى، فسار فارا بنفسه إلى أزمّور، واستولى يعقوب بذلك على سلا دون قتال (¬3). ولكن ابن عذارى يقول لنا بالعكس، إن يعقوبا طرق سلا مع رجاله بالليل، وركبوا السلالم على السور، أمام الباب، وقتل الحراس أو أسقطوا من عل، ثم كُسر الباب، ودخل يعقوب وصحبه إلى المدينة، ونهبوا دورها، ووقع الاضطراب، وفر الناس هنا وهنالك، وفر ابن أبي يعلى من القصبة في سفينة، إلى ثغر أزمور، وملك يعقوب سلا ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 102. (¬2) ابن خلدون ج 7 ص 174 و 178. (¬3) الذخيرة السنية ص 102، وابن خلدون ج 7 ص 178

ورباط الفتح، وكان ذلك في أوائل سنة 658 (¬1). وما كاد يعقوب بن عبد الله يستقر بسلا، حتى جاهر بخلع طاعة عمه السلطان أبي يوسف، والاستقلال بأمره، وأخذ في الأهبة والاستعداد، واقتناء السلاح والعدد، واستدرج شيوخ سلا إلى القصبة، ونزع سلاحهم، اتقاء لشرهم، وكتب إلى ألفونسو العاشر ملك قشتالة، يرجوه أن يمده بمائتين من المرتزقة النصارى، ليستعين بهم على مقاتلة أعدائه. وعلى أن هذه المخاطبة لملك قشتالة، قد أسفرت عن مفاجأة مروعة، لم يكن يتوقعها أحد. وذلك أن ألفونسو العاشر، كان منذ بداية حكمه، يفكر في نقل الحرب الصليبية، التي اضطرمت عصوراً، في شبه الجزيرة الإسبانية، إلى إفريقية، وكان يشجعه في مشروعه، البابا إنوسان الرابع، ومن بعده خلفه البابا اسكندر الرابع، وكان ألفونسو قد أنشأ في إشبيلية أحواضاً كبيرة لبناء السفن، لتكون نواة لأسطول الغزو المنشود. فلما وردت عليه مكاتبة الأمير المرينى صاحب سلا، رأى أن ينتهز هذه الفرصة، وأن يرسل حملة بحرية صغيرة لافتتاح سلا، وجهزت سفن هذه الحملة في مياه إشبيلية، ووقف الفقيه العزفى صاحب سبتة، من عيونه، على هذه الأهبة، فبعث النذير إلى سائر ثغور المغرب، على المحيط، ينصحهم بالحذر والاستعداد. وسارت السفن القشتالية مشحونة بالمقاتلة، حتى رست في مياه سلا، فاعتقد أهل المدينة أنهم قدموا للمتاجرة، واعتقد يعقوب بن عبد الله، أنهم الجند الذين طلب إلى ملك قشتالة إرسالهم لإنجاده، ولم يخالج أحد شك، في حقيقة المشروع الغادر، الذي قدمت من أجله هذه السفن النصرانية. وجمع القشتاليون سفنهم تدريجيا، في خليج المدينة، ثم فاجأوها بالهجوم، ودخلوها بعنف، وقتلوا كثيراً من أهلها، وهم دون دفاع، وسبوا النساء والأطفال، في مناظر مروعة، واحتشد جماعة من أهل المدينة لمدافعة النصارى، وقاتلوا بكل ما وصل إلى أيديهم، من صنوف السلاح، فلم يغن ذلك شيئاً، وهلك معظمهم، وهرع الناس إلى مغادرة المدينة، في جموع متراصة، وهلك في الزحام كثير منهم. كل ذلك ويعقوب بن عبد الله ممتنع بالقصبة، لا يستطيع شيئاً، وهو يرى عاقبة تصرفه الشنيع، وجمع النصارى السبايا من النساء والأطفال بالجامع، واغتصبوا النساء والأبكار، وقتلوا الشيوخ، وخربوا المساجد، ولم تقف فظائعهم عند ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 422

حد. وكان وقوع هذا الاعتداء المروع على ثغر سلا، في اليوم الثاني من شهر شوال سنة 658 هـ (10 سبتمبر 1260 م) (¬1). وترامت هذه الأنباء المؤلمة، إلى السلطان أبي يوسف، وهو بفاس، فأهمته وأزعجته، فهرع في بعض قواته إلى سلا، وحاصر النصارى بها، واجتمعت من الأنحاء القريبة، طوائف كبيرة من المتطوعة، وقاتل النصارى من فوق الأسوار، وتبادل الفريقان الرمى بالنبال والأحجار، واستمر القتال على هذا النحو بضعة أيام، حتى اليوم الثالث عشر من شوال، وقتل عدد من النصارى، وأيقنوا أنهم لا يستطيعون الصمود، واضطروا أخيراً إلى مغادرة المدينة، ومعهم جملة كبيرة من أسرى المسلمين، وما نهبوه من المال والمتاع، واستقلوا سفنهم المرتبطة إلى الشاطىء، وأقلعوا بها على عجل، وذلك في اليوم الرابع عشر من شوال. وفي الحال استولى أبو يوسف على سلا ورباط الفتح، وأمر بإصلاح ما تهدم من سورها الغربي، وإصلاح جامعها ومساجدها، وكان يشترك مع كبراء قومه، في رفع الأحجار، ابتغاء الأجر. وأما يعقوب بن عبد الله، فقد فر من القصبة، ولحق بحصن علودان من جبال غمارة، وامتنع به، فبعث أبو يوسف في أثره ولده الأمير أبا مالك، في قوة من الجند لمنازلته. وسار النصارى بسفنهم حذاء الشاطىء، دون أن يتزودوا، وهم يحاولون الحصول على الماء والطعام، والمسلمون يردونهم أينما حلوا، واستنقذ أهل العرائش منهم ثلاثة وخمسين أسيراً، نظير الماء، وانفصل بعض النصارى عن جماعتهم، وحصلوا على الأمان، والتحقوا بخدمة أبي يوسف، ودلت أنباء الطلائع المسلمة، على أن ملك قشتالة، كان قد جهز حشوداً أخرى، لإنجاد رجاله، ومعاونتهم على الاحتفاظ بسلا، فلما علم بانسحابهم، قرر معاقبة قائدهم خوان غرسية، ولكن خوان استطاع الفرار مع نفر من صحبه، إلى مياه أشبونة، ولم يعد إلى قاعدته في قادس (¬2). وأما أسرى سلا، الذين حملهم النصارى معهم، في سفنهم، فقد بالغت الرواية في تقدير عددهم. وقيل إن ما أنزل منهم في إشبيلية، بلغ نحو ثلاثة آلاف من الجنسين كباراً وصغاراً، فافتدى أهل شريش المدجنون، منهم ثلاثمائة وثمانين، ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 103، والبيان المغرب ص 424. (¬2) البيان المغرب ص 426 - 428، وابن خلدون ج 7 ص 178

وبعث السلطان أبو يوسف، في أواسط شهر ذي الحجة من نفس العام، رسولا خاصا إلى الأندلس، هو أبو بكر بن يعلى، ليعمل على افتداء الأسرى، فافتدى معظمهم، ومنهم قاضي سلا. بيد أنه بقى منهم عدد لم يعرف مصيرهم (¬1). وبعث الخليفة المرتضى بهذه المناسبة، إلى الفقيه العزفى صاحب سبتة، رسالة مؤرخة في الثالث من ذي القعدة سنة 658 هـ، يزجى إليه الشكر فيها، على ما قام به من تحذير أهل السواحل، ويشيد بخلاله وإخلاصه، ويرجوه أن يستمر، على التعريف بكل ما يقف عليه، من خطط العدو تجاه المغرب، وقد أورد لنا ابن عذارى نص على هذه الرسالة (¬2). وقد كشف عدوان النصارى على سلا، عن وجود خطر جديد، يهدد سلامة المغرب، لم يكن متوقعا، ولم يحسب حسابه. ونستطيع القول بأن هذه المحاولة، من جانب إسبانيا النصرانية، كانت هي البداية الأولى، لتلك السلسلة المتوالية من حملات العدوان المنظم، التي اضطلعت بها إسبانيا النصرانية، والبرتغال فيما بعد، ضد شواطىء المغرب الشمالية والغربية، والتي بدأها البرتغاليون بالاستيلاء على ثغر سبتة في سنة 818 هـ (1415 م) ثم طنجة في سنة 869 هـ (1464 م). ولبث السلطان أبو يوسف حينا بثغر سلا، ينظم أمورها ويصلح ما خرب منها، وكان النصارى قد أحرقوا وخربوا وأتلفوا معظمها، وقدّم على ولايتها أبا عبد الله بن أحمد الفنزارى، ثم غادرها، واستولى على بلاد تامسنا، وخضعت له سائر القبائل المجاورة (¬3). ولما رأى الخليفة الموحدي - المرتضى بالله -، أنه لم يبق ثمة أمل في المقاومة، والكفاح ضد بني مرين، بعث إلى السلطان أبي يوسف هدية سنية، ومعها رسالة من أشياخ الموحدين، وسائر الفقهاء والصلحاء، يلتمسون إليه الصلح والموادعة، فاستجاب السلطان لرغبتهم في عقد السلم، وجعل وادي أم الربيع، حدا بينه وبين ما تبقى من مملكة الموحدين (¬4). وكان من ذيول ثورة يعقوب بن عبد الله بسلا، أن حذا حذوه أبناء عمه أولاد إدريس، وهم أبناء أخي السلطان، فثاروا بقصر كتامة، تضامنا مع يعقوب، واجتمعوا تحت راية كبيرهم محمد بن إدريس، والتف حولهم جمع ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 428. (¬2) البيان المغرب ص 425. (¬3) الذخيرة السنية ص 104. (¬4) الذخيرة السنية ص 104

كبير من القرابة والصحب، واعتصموا بجبال غمارة، فبعث السلطان حملة، لقتالهم، ثم استنزلهم واسترضاهم، وعقد لأخيهم عامر بن إدريس، على جيش من نحو ثلاثة آلاف مقاتل، من بني مرين ومن المطوعة. وكانت رسائل ابن الأحمر صاحب غرناطة، تترى منذ حين على أبي يوسف، طلبا للعون والنصرة، والمشاركة في الجهاد في سبيل الله، فبعث أبو يوسف ذلك الجيش الصغير، إلى الجهاد بالأندلس، فعبروا إلى شبه الجزيرة، واستقبلهم ابن الأحمر بالضيافات والكرامات، وساروا أولا إلى مالقة، فاستقروا بها بقية سنة ستين. وفي العام التالي سنة 661 هـ، سار أولئك المجاهدون إلى أرض الفرنتيرة، وقصدوا إلى مدينة شَريش، وكانت قد دعت بطاعة ابن الأحمر، ولكن النصارى احتلوها، فانتزعها المرينيون من أيدي النصارى واحتلوها، ولكن لمدى قصير فقط. بيد أن عبور هذه الكتائب المرينية القليلة، إلى شبه الجزيرة، كان فاتحة لهذا التعاون القوي المثمر، الذي انعقد بين بني الأحمر ملوك غرناطة، وبين بني مرين، ضد إسبانيا النصرانية، واستمر عصراً يشد من أزر مملكة غرناطة، ويمكنها من الصمود ضد أعدائها (¬1). أما يعقوب بن عبد الله، فقد استمر على ثورته وعصيانه، معتصما بمختلف النواحي، إلى أن قتله قائد المرينيين طلحة بن علي، بناحية أرض عبولة، على مقربة من ثغر سلا، في سنة 668 هـ، فلقى بذلك جزاءه وانتهى أمره (¬2). وكان من حوادث هذا العام أيضاً - 659 هـ - أن بعث ابن الأحمر صاحب غرناطة سفنه لغزو سبتة، لسوء تفاهم وقع بينه وبين صاحبها العزفى، فلقيتها سفن سبتة، بقيادة الرنداحى، وهزم أسطول الأندلس وقتل قائده ظافر، وسمى هذا العام بعام ظافر (¬3). - 6 - في خلال هذه الفترة المليئة بالحوادث، من تاريخ بني مرين، والتي انتزعوا فيها رقاعاً وثغوراً جديدة هامة، من أشلاء الدولة الموحدية، وأخذ نجمهم يتألق في قلب المغرب الأقصى، كان الخليفة الموحدي المرتضى لأمر الله، عاكفاً في ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 112، والبيان المغرب ص 439، وابن خلدون ج 7 ص 179. (¬2) ابن خلدون ج 7 ص 179. (¬3) البيان المغرب ص 431

حاضرته، التي قصت أطرافها، على معالجة الصغائر من الأمور، ومساجلة طوائف العرب ومصانعتها، وكان قد قدّم يعقوب بن جرمون على عرب سفيان حسبما ذكرنا من قبل، فأمر يعقوب لأمرٍ ما بقتل ابن أخيه كانون. فثار عليه إخوة القتيل، وتربصوا به وقتلوه، ورحلوا إلى بلاد بني مرين، ودخلوا في طاعتهم، فلما وقف المرتضى على ذلك، قدم على سفيان عبد الرحمن بن يعقوب، ولكنه لم يكن عاقلاً حريصاً كأبيه، ففي ذات يوم قام بنهب قوافل التجار المارة في وادي تانسيفت، على مقربة من مراكش، ولما خشى عواقب فعلته، جاهر بخلع طاعة الموحدين، وفر إلى أرض بني مرين، والتجأ إلى حمايتهم، فقدم المرتضى عندئذ على سفيان، مسعود بن كانون، وكان حازماً عاقلاً فاستقامت على يده الأمور. ووفد عندئذ على مراكش عواج بن هلال، من زعماء الخلط، ناكثا لطاعة بني مرين، وكان معه عسكر كبير من قومه، فأكرم المرتضى وفادتهم، وأجزل صلاتهم، ولما علم بذلك عبد الرحمن بن يعقوب، بعث إلى الخليفة في طلب الصفح والأمان، فأجيب إلى طلبه، ووفد هو أيضاً إلى مراكش، في جمع كبير من قومه، فاستقبله الخليفة بالترحاب، ثم دبر الحيلة في التخلص منه، جريا على طريقته المأثورة، في إزهاق من يخرج على طاعته، فاستُدرج ذات يوم مع وزرائه، وقتلوا جميعا، وعلقت رؤوسهم على باب دُكاله، وبقى مسعود بن كانون أميراً على سفيان. وقدم اسماعيل بن يعقوب بن قيطون، أميراً علي بني جابر، وعلي بن أبي على، أميراً على عرب الخلط. أما عواج بن هلال فقد وشى به وأعدم (¬1). على أن اشتغال المرتضى، بأمر أولئك الأعراب، لم ينسه المسألة الرئيسية، وهي الكفاح ضد بني مرين. ولم يكن ذلك الصلح الذي عقد بينه وبين أبي يوسف، عقب سقوط سلا ورباط الفتح، سوى هدنة مؤقتة، وسلام زائف، ولم يكن أبو يوسف من جانبه، ينوى التوقف عن مطاردة الموحدين، حتى يظفر بالقضاء على دولتهم بصورة نهائية. ومن ثم فإنه لم يمض سوى قليل، حتى خرج أبو يوسف من حضرته فاس، إلى أرض تامسنا، بقصد الرعى والكلأ، وتوطيد نفوذه بين القبائل الضاربة في تلك الأنحاء، مثل برغواطة وغيرها. وكان المرتضى من جانبه يتأهب لمحاولة جديدة لقتال بني مرين وصد تقدمهم. فحشد جيشاً مختاراً ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 432 و 433

من الموحدين والعرب والأغزاز والروم (النصارى المرتزقة)، وعهد بقيادته إلى أبي زكريا يحيى بن وانودين. فسار هذا الجيش إلى وادي أم الربيع شمالي مراكش، وكان السلطان أبو يوسف قد استعد هنالك للقاء الموحدين أتم استعداد. ووقع اللقاء بين الجيشين، عند مكان من الوادي (النهر) تبدو فيه كدى، أو جزائر صغيرة، ينحسر عنها الماء وكأنها أرجل، ومن ثم فقد سميت الواقعة، التي نشبت هنالك بين الجيشين، موقعة " أم الرجلين ". وكانت موقعة عنيفة انتهت بوقوع الهزيمة على الموحدين، وتمزيق صفوفهم، ومقتل العدد الجم منهم. فولوا الأدبار واستولى بنو مرين على محلتهم وسائر عتادهم ومتاعهم. وكان ذلك في سنة 660 هـ (1262 م). وارتد ابن وانودين في فلوله إلى مراكش، واعتذر للخليفة بأن الهزيمة، ترجع إلى تخاذل عرب بني جابر وغدرهم. وكان للهزيمة أعمق وقع في العاصمة الموحدية وخشى الناس أن يزحف المرينيون إليها، فأغلقت بعض أبوابها، ثم ساد الهدوء بعد ذلك، بعد أن جاءت الأخبار بانصراف بني مرين إلى بلادهم (¬1). وفي نفس هذا العام، خرجت عقب موقعة " أم الرجلين "، حملة موحدية جديدة، إلى بلاد السوس، بقيادة محمد بن علي بن آصلماط، وذلك لإخماد ثورة علي بن يدر، ولكنها ما كادت تشتبك مع قوات الثائر، حتى هزم الموحدون، وقتل قائدهم ابن آصلماط، فكان لتلك الكسرة الجديدة، أسوأ صدى. وعندئذ قدّم المرتضى على بلاد السوس أبا زيد بن يخيت أحد وزرائه، وبعث معه قائد الروم (النصارى المرتزقة) المسمى ذا اللب (دون لوبى) في قوة من جنده، واضطرمت الحرب بين الموحدين وبين علي بن يدر مرة أخرى، فصمد على ابن يدر، وافترق الجيشان دون حسم، وأبدى دون لوبى تهاونا وتخاذلا، وكان على غير تفاهم مع ابن يخيت، فكتب ابن يخيت بذلك إلى الخليفة، فاستدعاه وأمر سراً بقتله وزملائه، فقتلوا في طريق العودة على يد أبي زيد بن زكريا الجدميوى (¬2). وكان السلطان أبو يوسف يعتزم بعد موقعة (أم الرجلين)، أن يسير أخيراً إلى مراكش، لافتتاحها والقضاء على الدولة الموحدية المحتضرة، ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 105، وهو يضع تاريخ الموقعة في سنة 659 هـ، والبيان المغرب ص 431، وابن خلدون ج 6 ص 259 وج 7 ص 179، وكلاهما يضع تاريخها في سنة 660 هـ. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 260، والبيان المغرب ص 436

ولكن أخّره عن ذلك حادث لم يكن في الحسبان. وذلك أن أبناء أخيه الأمير أبي يحيى وهم أبو مظهر وأبو سالم وأبو حديد، ساروا إلى طنجة في ثلاثمائة فارس من بني مرين وغيرهم، ونزلوا بها، فأكرم صاحبها ابن الأمين وفادتهم، ولكنهم غدروا به وقتلوه، فثار لذلك رجال ابن الأمين، وقتلوا من بالقصر من بني مرين واستدرجوا من كان منهم بالمدينة إلى القصبة، وقتلوهم تباعا، ووقع الهرج بالمدينة، وخشى أهلها من انتقام بني مرين، فخاطبوا الفقيه العزفى صاحب سبتة، فبعث إليهم بسفنه وعلى رأسها القائد الرنداحى، فاستولى على طنجة، وقبض على أولاد ابن الأمين وصحبه، واستاقهم إلى سبتة، وولي العزفى على طنجة واليا من قبله هو ابن حمدان. ولما وقف الأمير أبو يوسف على ما حدث من مقتل قرابته وفرسانه، وحماية العزفى لأهل طنجة، سار في بعض قواته إلى سبتة، فحاصرها وقتا، وقاتله أهلها من فوق السور، ولم يستطع أن ينال منها مأربا (662 هـ) (¬1). - 7 - وهنا أزفت الخطوة الحاسمة، واعتزم أبو يوسف أن يقوم بضربته الأخيرة، بالسير إلى مراكش، فسار في قواته وعبر وادي أم الربيع، واستمر في تقدمه، حتى نزل بجبل إيجليز، على مقربة من العاصمة الموحدية، وتقدمت عساكر الموحدين لصده، ونشبت عدة معارك محلية، كانت سجالا بين الفريقين، وقتل ولد أبي يوسف الأمير عبد الله، في إحدى هذه المعارك، وكانوا يسمونه برطانهتم " العجوب " أو" العجب "، وذلك لفائق جماله، وفروسته وشجاعته، وعلو همته. فوقف القتال، وساد الحزن والوجوم في المحلة المرينية، وبعث المرتضى رسولا خاصاً إلى أبي يوسف، يعزيه في فقد ولده، فتأثر أبو يوسف لذلك أيما تأثر، ووافق رسل المرتضى على الارتحال، على مال معلوم، يدفع إليه كل عام. وتضع الرواية تاريخ هذه الحملة في سنة إحدى وستين أو اثنتين وستين وهو الأرجح (¬2). بيد أنه وقع حادث جديد، أذكى من عزم أبي يوسف، ومهد له السبيل لتنفيذ مشروعه. وذلك أن السيد أبا العلاء إدريس بن السيد عبد الله بن السيد ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 439 و 440. (¬2) البيان المغرب ص 440، والذخيرة السنية ص 108، وابن خلدون ج 7 ص 179

أبي حفص بن الخليفة عبد المؤمن، وهو كما يبدو من نسبه، من أبناء عمومة المرتضى، ويعرف بالأخص بأبي دبوس لأنه كان وقت وجوده بالأندلس، يحمل الدبوس باستمرار فشهر به (¬1)، كان السيد أبو العلاء هذا أو أبو دبوس، ناقما على المرتضى، لأمور تختلف في شأنها الرواية، فمن ذلك ما يقوله روض القرطاس من أنه كان يخشى أن يقتله المرتضى، لوشاية رفعت إليه في حقه (¬2)، وما يقوله لنا ابن خلدون من أن أبا دبوس، كان من قادة الجيش الموحدي، في موقعة " أم الرجلين "، فلما وقعت الهزيمة على الموحدين، سعى بعض خصومه، في حقه لدى الخليفة، فشعر بهذه السعاية، وخشى سطوة المرتضى. ويزيد الأمر إيضاحا ما يقوله صاحب الذخيرة السنية، من أن السعاية في حق أبي دبوس للمرتضى، كانت تتلخص في أنه يكاتب بني مرين ويصانعهم، وأنه يفكر في القيام ضد المرتضى، ويعتمد في ذلك على محبة الناس له لشجاعته (¬3). وأخيراً يقول لنا ابن عذارى، إن نقمة أبي دبوس على المرتضى، كانت ترجع إلى " اهتضام جانبه في أحواله ". وهكذا اضطرب الجو بين الخليفة، وبين ابن عمه، وشعر أبو دبوس، أن حياته أصبحت في خطر، ففر من القصبة، مع ابن عمه السيد أبي موسى، وذلك في المحرم سنة 663 هـ، وقصد توا إلى فاس، ملتجئاً إلى السلطان أبي يوسف. فلما وقف المرتضى على ما حدث أمر بالقبض على أولاد السيدين الفارين، والتحوط على دورهما، ومطاردة كل من يشتبه في اتصاله بهما. وسأل أبو دبوس أبا يوسف العون والنصرة، وعرض عليه مشروعه، في أن يعينه بقوة من بني مرين، وما يلزم من النفقة، لافتتاح مراكش وأحوازها، وأنه يتمتع في ذلك بتأييد معظم الموحدين والكافة، وأن يكون هذا الفتح مشتركا، ومناصفة بينهما، فوافق أبو يوسف على مشروعه، وأمده بجيش من بني مرين، قوامه ألف فارس أو ثلاثة أو خمسة آلاف وفقاً لأقوال أخرى، وزوده بالخيل والعتاد والسلاح والمال، وبالكتب اللازمة، لحث زعماء العرب والقبائل، الذين في طريقه، للنهوض إلى معاونته. وخرج أبو دبوس في حشوده من فاس، في شهر ذي القعدة سنة 663 هـ (أغسطس 1265 م)، وسار أولا إلى مكناسة، ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 127، والبيان المغرب ص 454. (¬2) روض القرطاس ص 174. (¬3) ابن خلدون ج 7 ص 179، والذخيرة السنية ص 123

ثم إلى المعدن ثم إلى تادلا، ثم سار إلى هسكورة، في جنوب شرقي مراكش، فنزل بها، على زعيمها مسعود بن جلداسن، ولبث هنالك مدى حين (¬1). وتوافد على أبي دبوس، خلال إقامته بجبال هسكورة، كثير من الأنصار من كل صوب، وأطاعته قبائل هزرجة، وسائر بطون هسكورة، ووفد عليه كثير من الموحدين، والجند الراغبين في خدمته، فقوى أمره بالجبل، وتوجس المرتضى لما بلغه من ذلك، وقبض على مسعود بن كانون شيخ سفيان، وزجه إلى السجن، وقبض كذلك على شيخ بني جابر، وقائد الروم غرسية، وذلك لشبهة تواطئهم مع أبي العلاء. على أنه لم يفعل شيئاً، للتحوط ضد الهجوم المنتظر، بل لقد بعث بعسكره في تلك الآونة الدقيقة، لقتال حاحة ورجراجة، والظاهر أن ذلك كان بتحريض الوزراء، الضالعين مع أبي دبوس، وذلك لكي تخلو العاصمة، من أسباب الدفاع. وكان من جراء مطاردة المرتضى للزعماء، والقبض عليهم، أن هرع كثير من جند سفيان وبنى جابر، وكذلك فر كثير من الجند الروم، مع قائدهم زنار، وانضموا إلى قوات أبي دبوس. ولما وقف أبو دبوس، من أنصاره في مراكش على مجرى الحوادث، وعلم أن العاصمة أضحت بلا دفاع، وأنه من جهة أخرى قد استكمل أهباته، وكثرت حشوده وعساكره، عول على تحقيق مشروعه، في انتزاع العاصمة الموحدية، والاتشاح بثوب الخلافة. فسار في قواته صوب أغمات، فخرج إليه واليها أبو زيد ابن يخيت، في جند الموحدين، لصده عن أغمات، فهاجمتهم فرسان أبي دبوس، فهزموا شر هزيمة، وقتل ابن يخيت وجنده، وسار أبو دبوس بعد ذلك إلى مراكش، بعد أن تحقق من أخبار أنصاره وعيونه في العاصمة، أن الفرصة قد أضحت مؤاتية، وتقدمه عرب سفيان الموالين له، حتى وصلوا إلى باب الشريعة، فسرى الاضطراب إلى المدينة، كل ذلك والمرتضى صامت جامد، إلى أن قرر أخيراً مواجهة الموقف، وبعث رجاله فتفقدوا الأسوار فلم يجدوا بها حراسة ولا حراسا، وكان الوقت قد فات لاتخاذ أي إجراء مجدى، وصعد بعض رجال هسكورة إلى السور، وهبطوا إلى الداخل، وفتحوا باب الصالحة، الواقع في جنوبي المدينة، وكان أبو دبوس قد وصل إليها في حشوده، ووقف المرتضى ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 123 و 124، وروض القرطاس ص 174، ابن خلدون ج 7 ص 179، والبيان المغرب ص 441

على ما تقدم، وشهد بنفسه اجتماع الجند القادمين بين الأبواب، وسمع قرع الطبول، وأدرك أنه لم يبق أمل في المقاومة، فقرر الفرار، وأخذ في الأهبة له. وقرر أبو دبوس من جانبه دخول المدينة، فدخلها من باب الصالحة أو باب الكحل، وذلك في ضحى يوم السبت الثاني والعشرين من المحرم سنة 665 هـ (أكتوبر سنة 1266 م)، ولكنه لم يستطع دخول القصبة حتى العصر، حينما أيقن بفرار المرتضى، وخلو القصر من عاهله، ودخل رجال هسكورة إلى المدينة، وانقضوا على القيسارية، ونهبوها وأحرقوها، ونهبوا الدور وعاثوا فيها (¬1). أما المرتضى فإنه فر من القصر في عصر ذلك اليوم، وخرج من باب النحل، ومعه اثنان من وزرائه وبعض أولاده، وقصد إلى الجبل، صوب منازل كيك. ولكنه لم يجد بينهم نصيراً يلتجىء إليه، وألفى معظمهم بالعكس، قد انضم إلى جانب خصمه، فسار مع أولاده إلى مدينة أزمور، وكان واليها عبد العزيز ابن عطوش صهره، وكان قد افتداه من أسر بني مرين بمال كثير، ولكنه لم يستطع دخول المدينة، لأن واليها الغادر، كان قد بعث ببيعته إلى أبي دبوس، ولجأ المرتضى وأولاده، إلى غار على شاطىء البحر، حتى يظفر بمثوى أمين. وكان أبو دبوس مذ دخل القصر، قد أرسل في أثره جماعة من الخيل والرجال، فطاردوه حتى أزمور، وظفروا به، وكبله الوالي هو وأولاده، في انتظار إرسالهم إلى أبي دبوس (¬2). وهكذا استولى أبو العلاء إدريس، أبو دبوس، على العاصمة الموحدية، وبويع بالخلافة بجامع المنصور، وبايعه كافة الموحدين، والأشياخ والوزراء والقضاة، وذلك في اليوم التالي لدخوله المدينة، يوم الأحد الثالث والعشرين من المحرم سنة 665 هـ، وتلقب بالواثق بالله. وكان هذا الأمير الموحدي، الذي شاء القدر، أن تنتهي على يديه الدولة الموحدية، حسبما تصفه الرواية، داهية شجاعا، وافر الفروسة، حازما مقداما في الأمور، وكانت أمه أم ولد رومية اسمها شمس الضحى. وكان أبيض اللون أشقر الشعر واللحية، أزرق العينين، طويل القامة، كبير اللحية، مهيب الطلعة (¬3). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 444 - 446، والذخيرة السنية ص 125، وروض القرطاس ص 175، وابن خلدون ج 7 ص 180. (¬2) البيان المغرب ص 448 و 449. (¬3) روض القرطاس ص 174 والبيان المغرب ص 454

ووزر للخليفة الجديد، السيد أبو زيد عبد الرحمن بن السيد أبي عمران، وأخوه السيد أبو موسى عمران بن أبي عمران، وكتب له أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله التلمسانى، وهما من كتاب سلفه. وما كاد الواثق بالله يستقر بالحضرة، حتى أجمع الناس على طاعته، وتوافدوا على الحضرة، من كل مكان، ورأى اجتذابا لعطف الشعب وتأييده، أن يرفع المغارم والكلف عن الناس، سواء في الحواضر أو البوادى، وأن يقتصر على الفروض الشرعية، التي جرى عليها العمل في بداية الدولة، وأمر بالعفو عن المجرمين. ولكن كانت تنقصه الموارد والأموال، ولم يجد شيئاً منها بالقصر أو بيت المال، فكتب وزيره السيد أبو موسى عمران عن لسانه، إلى الخليفة المعتقل - المرتضى - كتابا، يسأله عن مصير الأموال التي كانت بيده، وأن يعرفه بمكان إيداعها، إذ هي أموال المسلمين، وأنه إن فعل " شمله عفو أمير المؤمنين " فكتب إليه المرتضى بخطه، يؤكد أنه لا يعرف أي مستودع للمال، وأنه لم يودع ولم يدفن شيئاً، وأن المال كان كثيراً، وقت وصول المرينى، ولكنه نفد بعد ذلك، ثم يقسم له على صحة كلامه ويناشده أن يحقن دمه، ويبقى على حياته، ويسترحمه ويدعو له، في عبارات مؤثرة (¬1). فلما وقف الواثق بالله على كتابه، تأثر لمحنته، وبعث السيد أبا موسى عمران، مع أبي سرحان بن كانون، وجماعة من سفيان، للقيام باستقدام المرتضى، واستحضاره إليه. ولكن حدث بعد مسيرهم، أن نصح السيد أبو زيد إلى الواثق، بعدم الإبقاء على المرتضى، وحذره مما قد يترتب على مقدمه، من التأثير في موقف الجند والرعية، فبعث الواثق براءة بخطه، إلى السيد أبي موسى، وحملها إليه عمر بن آصلماط، تتضمن وجوب قتل المرتضى، في أول مكان يلتقى به فيه. فالتقى به في موضع يسمى " فرزغون " من أرض دكاله، وكان السيد أبو موسى، قد وصل إلى هذا المكان، ومعه المرتضى وأولاده، وهم في الأصفاد على الدواب، فلما وقف على أمر الخليفة الواثق، أخذ المرتضى جانبا، وأنزله عن دابته، وأعدم قتلا بالسيف، ودفن حيث قتل، وكان مصرعه في يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من صفر سنة 665 هـ (22 نوفمبر سنة 1266 م) (¬2) ¬_______ (¬1) نقل إلينا صاحب البيان المغرب نص كتاب أبي موسى إلى المرتضى، ونص رد المرتضى عليه ص 449 و 450. (¬2) البيان المغرب ص 450 و 451

وهكذا هلك الخليفة المرتضى بالله، بعد أن تولى الخلافة، زهاء تسعة عشر عاما، وهي فترة طويلة، لم تتح لخليفة موحدى آخر، من بعد عبد المؤمن وولده أبي يعقوب يوسف، وكانت فترة حاسمة في تاريخ الدولة الموحدية. ففي خلالها تم تفكك الإمبراطورية الموحدية الشاسعة، وأخذت أشلاؤها المقتطعة، تسقط تباعا في أيدي خصومها، فانفصلت سبتة وطنجة، وقامت في كل منهما حكومة مستقلة، ثم توالى استيلاء بني مرين، بعد انتزاعهم لرباط تازا، على حضرة فاس، ثم سجلماسة ودرعة، ثم على سلا ورباط الفتح، وقامت ببلاد السوس ثورة وحكومة مستقلة. وهكذا فقدت الإمبراطورية الموحدية، في عصر المرتضى سائر أقطارها وحواضرها الهامة، ولم يبق منها بيد الخلافة الموحدية، سوى حضرة مراكش، ورقعة تمتد بين وادي أم الربيع ووادي تانسيفت، حتى ثغر أزمور، ولقد حاول المرتضى غير مرة، أن يكافح وأن يصد بني مرين، وقد خاض أكثر من موقعة، ولكنه لم يبد في أية مرة، من صدق العزم والجلد، ما كان يبديه أسلافه، في الدفاع عن تراثهم وعن أراضيهم، وكان أكثر اهتماما بالدعة والاستقرار، وحياكة الدسائس، والبطش بخصومه بأساليبه الغادرة، التي جرى عليها طوال حكمه، ولم يكن للمرتضى خلال أو مناقب بارزة، يمكن أن يشيد بها المؤرخ، ولم يكن ما تذكره الرواية عن علمه وورعه وزهده، سوى ستار، يحجب ما يضطرم داخل نفسه، من مشاعر الحقد والضغن، وشهوة البطش والغدر. ووزر المرتضى رجال غير لامعين، مثل أبي محمد بن يونس، وأبي عبد الله محمد الجنفيسى، وأبي زيد بن عزوز، وأخيه السيد أبي اسحق، وأبي محمد بن أصناج، وأبي يوسف بن تيجا الجدميوى، وأبي موسى بن عزوز الهنتاتى، وغيرهم، وقد صاهر المرتضى هذين الوزيرين الأخيرين، وزوج كل منهما ابنة من بناته. وكتب للمرتضى أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله التلمسانى، وكلاهما من كتاب العصر البلغاء (¬1). وكان الخليفة المرتضى فقيها عالما، وأديباً شاعراً. ويقول لنا ابن عذارى إنه قد وقف على مجلد من شعره ونثره، بيد أن شعره كان ضعيفاً، ثم يورد لنا شيئاً من نظمه. فمن ذلك قوله من قصيدة نظمها في شهر ربيع: ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 389

وافى ربيع قد تعطر نفحه ... أذكى من المسك العتيق نسيما بولادة المختار أحمد قد بدا ... يزهو به فخرا وحاز عظيما وقوله في معنى الزهد: ولما مضى العمر إلا الأقل ... وحان لروحى فراق الجسد دعوت إلآهى مستعطفا ... ليصلح منى ما قد فسد وكان شغوفا بالكتب والتصانيف، وكان ممن يتمتع بعطفه ورعايته، من علماء عصره، الفقيه أبو محمد ابن القطان، وقد ألف له جملة من الكتب، منها كتاب " نظم الجمان وواضح البيان فيما سلف من أخبار الزمان " وهو الذي انتفعنا به، وأشرنا إليه فيما تقدم. في غير موطن. وكتاب " شفاء الغلل في أخبار الأنبياء والرسل " ركتاب " الأحكام لبيان آياته عليه السلام " وكتاب " المناجاة " وكتاب " المسموعات " وفيه قصائد مختارة في فضائل المولد النبوى، وشهور رجب وشعبان ورمضان، وغير ذلك (¬1). وقد أشاد ابن القطان في كتابه " نظم الجمان " بذكر المرتضى ومديحه، مما يدل على أنه كان متمتعاً بسابغ رعايته وجزيل صلاته (¬2). وتصف الرواية المرتضى، بأنه كان معتدل القامة، ساطع البياض، عالى الأنف، أسيل الخد، أشيب، لا يخضب بحناء أو غيرها (¬3). أما أولاد الخليفة المرتضى، فقد زجهم أبو دبوس إلى السجن، فلبثوا معتقلين فيه طوال مدته، حتى أطلق سراحهم الأمير أبو يوسف المرينى، حينما دخل مراكش في أوائل سنة 668 هـ، إلاّ كبيرهم محمد، فكان قد قتل في سجنه بأمر أبي دبوس. ولما أطلق سراحهم، غادروا المغرب وعبروا إلى الأندلس، والتجأوا إلى حماية ألفونسو العاشر ملك قشتالة، وعاشوا بإشبيلية تحت كنفه أعواما طويلة، ثم انتقلوا بعد ذلك إلى غرناطة، وأقاموا بها تحت رعاية ملكها ابن الأحمر، وأطلق لهم ملك غرناطة، ما يكفيهم من الأرزاق الشهرية. ويقول ابن عذارى إنهم كانوا بغرناطة حتى هذا الوقت الذي كتب فيه قصتهم. ويزيد على ذلك أن أخاهم أبا زيد، غادر الأندلس في سنة 684 هـ، وعبر إلى المغرب وسار إلى السوس راكبا على حمارة، وسمته العامة من أجل ذلك بأبي حمارة، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 452 و 453. (¬2) كتاب " نظم الجمان " المخطوط السابق ذكره لوحة 67. (¬3) البيان المغرب ص 389

وأنه نزل بجبل سكسا وعاش هنالك، وهو يرتزق من النسخ، وأنه كان مايزال بقيد الحياة، هو وأخوه محمد المقيم بغرناطة، حتى الوقت الذي كتب فيه ابن عذارى هذه السطور، وهو عام اثنى عشر وسبعمائة (¬1). هذا، وتقدم إلينا الرواية الإسلامية، قصة أخرى عن أخ لأبي دبوس، آخر الخلفاء الموحدين، هو السيد أبو زيد بن السيد عبد الله، حفيد الخليفة عبد المؤمن، خلاصتها أن هذا السيد، أو السويد حسبما تنعته الرواية، كان مقيما بالأندلس، وكان قد لجأ إلى ملك قشتالة ألفونسو العاشر، وعاش تحت رعايته بمدينة إشبيلية. وفي أواخر سنة 659 هـ (1261 م)، أعلن هذا السويد اعتناقه لدين النصرانية، في حفل عام أقيم لهذا الغرض، فقام ملك قشتالة بحلق لحيته بيده، وكساه حلة ملوكية، وعندئذ صعد السويد الموحدي، إلى كرسى عال يشرف منه على الناس، ثم قال: " أشهدكم يا من حضر من المسلمين والنصارى واليهود، أننى قدمت على دين النصرانية منذ أربعين سنة، وكنت أكتمه، وأنا الآن قد أبحته وأظهرته، وأن دين المسيح بن مريم، هو الدين القديم الأزلى "، ثم تحدث ملك قشتالة، فأثنى على السويد وهنأه باعتناق النصرانية. على أن هذا السويد المتنصر لم يعش طويلا بعد تنصره، فقد توفي بإشبيلية بعد ذلك بأربعة أشهر فقط، وذلك في أوائل سنة 660 هـ (1262 م) (¬2). وإنا لنقف قليلا، عند هذه الظاهرة الأليمة، التي تكررت بين بعض السادة من بني عبد المؤمن، وهي إقبالهم على اعتناق النصرانية، وخروجهم بهذه الطريقة المثيرة، على دين آبائهم وأجدادهم العريق، الذين جاهدوا في سبيل إعزازه أيما جهاد، وعلى إمامتهم الموحدية، ومقام خلافتهم العظيمة. وليس من شك في أن هذه الرِّدة، التي تكررت على يد أبي محمد عبد الله البياسى، وأخيه السيد أبي زيد والي بلنسية، ثم على يد هذا السويد أبي زيد، لم تكن ترجع إلى بواعث تتعلق بالإيمان أو العقيدة، وإنما كانت ترجع إلى بواعث مادية ودنيوية، وذلك حسبما تدلى به بالأخص حالة البياسى وأخيه السيد أبي زيد. ولا ريب أن في هذه الصفحة المؤلمة ما يصدع من هيبة الخلافة الموحدية، ومن عظمة تاريخها. ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 454. وهذه السطور تكشف لنا لأول مرة، عن جانب من حياة المؤرخ ابن عذارى، والعصر الذي عاش فيه، وقد امتد حسبما ينبئنا بنفسه، إلى ما بعد سنة 712 هـ، ومن ثم فقد عاصر المرحلة الأخيرة من حياة الدولة الموحدية، وشطراً كبيراً من حياة الدولة المرينية في مراحلها الأولى. (¬2) الذخيرة السنية ص 106

الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها

الفصل الرابع نهاية الدولة الموحدية وعوامل تفككها وسقوطها مبايعة أبي العلاء إدريس الواثق. الوحشة بينه وبين زعيم هسكورة. خروج الواثق في قواته. تصرفاته ومحاولاته لدى هسكورة. مخاطبته ووعوده للأمير أبي يوسف. مؤامرة في مراكش ضد الواثق. ضبطها وإخمادها. تأهب الواثق للزحف على بلاد السوس. ورود مبايعة يغمراسن وتحذيره من بني مرين. مسير الواثق ونزوله في جبال السوس. مهاجمته لحصن تيزغت واقتحامه. مسيره إلى حصن تيوينوين. مهاجمة الحصن وصموده. علي بن يدر يتظاهر بعرض الطاعة. مسير الواثق إلى الحضرة في موكبه الخلافى الفخم. أبو يوسف يطالب الواثق بتنفيذه عهوده. شعور الواثق بقوته وكثرة حلفائه. رده الجاف على أبي يوسف. غضب أبي يوسف وزحفه على الحضرة الموحدية. استنجاد الواثق بيغمراسن. مهاجمة يغمراسن لأطراف الأراضي المرينية. ارتداد أبي يوسف لمحاربته. اللقاء بينهما في وادي تلاغ. المعركة العنيفة. هزيمة يغمراسن وفراره إلى تلمسان. عود أبي يوسف إلى التأهب لمحاربة الواثق. مسيره إلى مراكش وغزواته المخربة في طريقه. أبو دبوس يحشد سائر قواته. خروجه للقاء بني مرين. ارتداد أبي يوسف نحو الشمال ومطاولة الموحدين. اللقاء بين الفريقين في وادي غفو. المعركة المضطرمة. بلاء أبي دبوس وجيشه. صمود بني مرين. مصرع أبي دبوس وتمزيق قواته. تعليق رأسه على سور فاس. مسير أبي يوسف إلى مراكش. فرار الموحدين إلى تينملل. دخول أبي يوسف مراكش واستقباله ومبايعته. انتهاء الدولة الموحدية. سيطرة بني مرين على سائر المغرب الأقصى. أبو يوسف يرسل حملة لإخضاع بلاد السوس. خروجه لمطاردة العرب في قطاع درعة وإخماد حركتهم. عوده إلى مراكش. مطاردته لبقايا الموحدين. ظفره بالقبض على بعض أكابرهم وإعدامهم. أبو يوسف يعقد ولاية العهد لولده أبي مالك. مسيره صوب سبتة وطنجة. استيلاؤه على طنجة. إذعان العزفى صاحب سبتة وإقراره بالطاعة. مسير أبي يوسف إلى سجلماسة وافتتاحها. جهاد أبي يوسف بالأندلس ونصرته لمملكة غرناطة. كون هذا الجهاد استمرار لرسالة المغرب التاريخية. وفاة السطان أبي يوسف. الدولة الموحدية وعوامل تفككها. موقعة العقاب وآثارها. العوامل الأدبية. الحكومة الموحدية وصفتها الإقطاعية والعائلية. ضعف هذا النظام وقصوره. استطالة الممالك النصرانية على الأندلس. قصور الجيوش الموحدية عن حمايتها. التنافس على عرش الخلافة. خروج البياسى وأخيه السيد أبي زيد وما ترتب على ذلك. ثورة بني غانية وتخريبها لبلاد إفريقية. إنسلاخ إفريقية وقيام الدولة الحفصية. إنسلاخ تلمسان وسبتة وطنجة. نهوض بني مرين واستيلاؤهم تباعا على المغرب الأقصى. العوامل الأدبية. تحول الإمامة إلى ملك دنيوى. إلغاء الإمامة الموحدية ورسومها. ما خسرته الخلافة الموحدية بذلك. تقلب القبائل البربرية وطوائف العرب. الحرب الأهلية بين الخلفاء. انهيار الدولة الموحدية وكونه لم يحدث صدى قويا. انهيار الصرح القبلى الموحدي. عناصر هذا الصرح من القبائل والبطون. مصير هذه القبائل. اندثار هرغة قبيلة المهدي. قبر المهدي بتينملل. هنتاتة وفوزها بسلطان إفريقية. مصير جدميوه وغيرها. - 1 - لما دخل أبو العلي إدريس، الملقب بأبي دبوس حضرة مراكش في اليوم الثاني والعشرين من محرم سنة 665 هـ، واحتل القصر عقب فرار الخليفة المرتضى بايعه سائر الأشياخ والطلبة والكافة، وتلقب حسبما تقدم بالواثق بالله. وكان أول

ما قام به أن ركب في اليوم التالي، وطاف بأحياء الحضرة، للعمل على توطيد السكينة والنظام، وتهدئة روع الناس، وقمع المعتدين والمفسدين، ثم كتب إلى حليفه، الأمير أبي يوسف عاهل بني مرين، ينبئه بما تم، وما انتهى إليه مجرى الحوادث، ولبثت المخاطبات بينهما مدى حين. بيد أنه وقعت وحشة، بين الواثق وبين ابن جلداسن زعيم هسكورة، لم توضح لنا الرواية أسبابها، وكان ابن جلداسن من حلفائه، ومعاونيه في حركته إلى افتتاح مراكش، حسبما ذكر في موضعه، ومن ثم فإنه لم تمض بضعة أشهر حتى أخذ الواثق في الأهبة للحركة والخروج، فخرج في قواته من مراكش، في الثاني عشر من شعبان سنة 665 هـ، فنزل أولا بالبحيرة، ثم سار إلى بلاد هيلانة فوادى أغمات، ونزل فيه بمكان يسمى تادارت معطاسة، وهنالك وفد عليه بعض أشياخ هسكورة، ومنهم الشيخ حميدى بن مخلوف الهسكورى، وكان يقوم من قبل الواثق بالاتصال بالأمير أبي يوسف، ويتردد بينهما في مراسلات ومفاوضات مختلفة. وقدم الواثق أبا موسى بن عزوز على بلاد حاحة، ليقوم بالنظر في أعمالها وتحصيل جبايتها، وبعث رجلا من ثقاته، هو عبد العزيز بن عطوش إلى ابن جلداسن زعيم هسكورة، ليستطلع الأمر، وليحادثه في بعض الشؤون، فعاد هذا الرسول، وأبلغه ما وقف عليه، والظاهر أن الأمور كانت قد هدأت عندئذ ولم ير الواثق في موقف ابن جلداسن ما يستدعى الغضب والمؤاخذة، فتركه على حاله، وقنع منه بالطاعة، مؤثراً مودته على خصومته (¬1). وسار الواثق بعد ذلك من تادارت إلى الولجة الواقعة في شرقها، وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بانصراف بني مرين، وإجازتهم لوادى أم الربيع ومسيرهم إلى بلادهم، وكان الأمير أبو يوسف يعقوب، قد خرج في حشوده من فاس، وسار إلى بلاد دُكاله وانتسف زروعها، نذيرا لأبي دبوس، فبعث إليه أبو دبوس الشيخ الصالح أبا العباس الهسكورى بهدية سنية، ليطمئنه وليؤكد له أنه سوف يفى بعهوده وينفذ ما اشترطه على نفسه، فتقبل أبو يوسف ذلك الوعد، وارتد منصرفا إلى بلاده. فكان ذلك من بواعث الارتياح في المحلة الموحدية (¬2). بيد أنه وصلت في نفس الوقت، أنباء تدل على أنه يخشى من وقوع أحداث في الحضرة، من جراء نشاط مريب، يقوم به السيد عبد العزيز بن الخليفة السعيد، فسار الواثق في ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 457 و 458. (¬2) الذخيرة السنية ص 126

ْجنده، إلى تاونزرت على مقربة من الحضرة، وبعث من هنالك بعض قواته لتحصيل الجباية من حاحة ورجراجة، وكان السيد عبد العزيز هذا، من ولد الخليفة الراحل السعيد، وكان يرى أن قيام الواثق في الخلافة، وهو ليس من عقب المنصور، اغتصابا يجب منعه، وانضم إليه في ذلك بعض الزعماء، وكاتب ابن جلداسن شيخ هسكورة سراً، ليقوم بمعاونته، ووقف الواثق على ذلك من صهره، السيد أبي زيد ابن السيد أبي عمران والي مراكش، وضبطت بعض كتب كانت مرسلة، من السيد عبد العزيز إلى جلداسن، وكان السيد عبد العزيز يلزم داره متحرزاً على نفسه، فعمل السيد أبو زيد على استدراجه واستدعائه، فقصد إليه مع بعض أشياخ الموحدين، فواجهه بما نسب إليه، وأبرز له كتبه المكتوبة بخطه، فأسقط في يده وبهت، وعندئذ قبض عليه، وأعدم بأمر الواثق، وأخمدت هذه المؤامرة في مهدها (¬1). وعلى أثر ذلك أخذ الواثق في الأهبة للزحف على السوس، وفي خلال وجوده بوادي تانسيفت، وردت إليه هدية ومكاتبة، من الأمير يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان، يقدم فيها بيعته للخليفة الموحدي، ويحذره من أطماع بني مرين فيما بقى من أقطار الدولة الموحدية، ويعد بمحالفته، وتعهده بأن يكفيه شر بني مرين. وذاع أمر هذه البيعة الهامة بين الجند، وضربت الطبول ابتهاجا بها، وعم السرور لذلك في المحلة الموحدية (¬2). ثم تحرك الواثق صوب بلاد السوس، وتقدمه الشيخ أبو زكريا ابن وانودين، ليستنفر القبائل للخدمة، والحركة ضد علي بن يدر الثائر بالسوس، واستمرت الحملة في مسيرها حتى وصلت إلى جبال السوس (وهي شعبة من جبال الأطلس)، ونزلت هنالك في بعض البسائط، وهنالك قضى الواثق عيد الفطر. وأخذت الحملة بعد ذلك في التنقل بين القبائل، وأصدر الواثق عدداً من الظهائر لبطون جزولة وغيرها، يبلغهم عزمه، على القضاء على ثورة علي بن يدِّر وتأمين أرجاء نواحي السوس. ثم مرت الحملة بتارودنت حاضرة السوس، وقد خرب أكثرها، ونزلت المحلة هنالك في واد أخضر، في أسفل حصن تيزغت المنيع، وكانت به حامية قوية، من جند علي بن يدر، فاستعد الجند لمهاجمته، ونشبت بينهم وبين حاميته معارك عنيفة، استمرت بضعة أيام، حتى اضطر قائده أخيراً، واسمه حمدين، إلى طلب الأمان، وقرر بأن علي بن يدر، على ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 459 و 460. (¬2) الذخيرة السنية ص 127، والبيان المغرب ص 461

استعداد لإعلان الطاعة، وقبل الواثق طلبه، ولكن لم يتم التسليم، وانتهى الأمر، بأن اقتحم الموحدون أحواز الحصن، بعد قتال شديد، ولجأت الحامية إلى الداخل، بعد أن قتل منهم عدد جم. وأخيراً اقتحم الحصن نفسه، وأبيدت حاميته قتلا وأسراً، وكانت أخت علي بن يدر ضمن الأسرى، وكتب بالفتح إلى الحضرة، وكان ذلك في 13 شوال سنة 665 هـ (¬1). وفي اليوم الحادي والعشرين من شوال، استأنفت الحملة سيرها داخل بلاد السوس، وقدم عندئذ أبو زكريا بن وانودين مع جمع كبير من واوزجيت، وهم من خصوم علي بن يدر، وبعد يومين نزلت الحملة قرب تارودنت، وكان ابن يدر قد خرب حصنها الكبير وهدمه، فأمر الواثق بتجديده وإعادة بنائه، ولكن لم يتم أمره بذلك. واتجهت الحملة بعد ذلك، إلى حصن تيوينوين، وهو من أعظم حصون السوس وأمنعها، وكان في معظم الأحيان مركزاً للعصيان والثورة، فاستعدت حاميته القوية للدفاع، وهاجم الموحدون الحصن، وذلك في الثاني من ذي القعدة، فدافعت حاميته دفاعا شديداً، ووصل عندئذ كتاب من السيد أبي زيد والي مراكش، ومعه كتاب ببيعة أبي الحسن علي بن أبي على، من زعماء الخلط، ودخوله في الطاعة، فكان لذلك أطيب وقع. ولما رأى الواثق مناعة الحصن، وشدة بأس حاميته، قرر اتخاذ الأهبة لاقتحامه، بمعاونة من كان معه، من حشود العرب وزناتة، ولمطة وبني واوزجيت، وهوجم الحصن بشدة، وضرب بالمنجنيق، ولكن حاميته استمرت في المقاومة. واستمر الأمر كذلك حتى مر عيد الأضحى. وفي الحادي والعشرين من ذي الحجة، وصل رسل علي بن يدر، يعرضون التوبة، ويعدون البيعة والطاعة، ولكن لم يتم شىء من ذلك، واستمر حصن تيوينوين على امتناعه. وورد على المحلة خلال ذلك كثير من عرب المعقل في أهلهم وأموالهم برياسة شيخهم عبد المؤمن بن أبي الطيب لتقديم بيعتهم، فتلقاهم الوزير أبو موسى ومعه العسكر، وأكرم الواثق وفادتهم، وأجزل صلاتهم، وسمح لهم برؤية إخوانهم من المعتقلين، فاطمأنوا عليهم، ووعدوا بتسريحهم، ثم عادوا إلى منازلهم (¬2). وفي الثامن والعشرين من المحرم سنة 666 هـ، تأهب الواثق للعود إلى ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 465 و 466. (¬2) الذخيرة السنية 126 و 127، والبيان المغرب ص 470

حاضرته، وانتظم الموكب الخلافى، في أكمل وضع وأفخمه، على نسق المواكب الموحدية، فحمل المصحف الكريم (مصحف عثمان)، في هودجه بزينته القديمة، وجعلت قلائد الفضة في عنق الجمل الذي يحمله، وجملت البغال بالكسى الجميلة، وارتدى العبيد الذين يقودونها الثياب البيض، وسار الواثق وراء المصحف، ومعه الأهل والقرابة والحاشية، ومن بعدهم الوزراء في الساقة، ومعهم الأعلام الخلافية السبعة، وقبائل الموحدين كل منها رافعة علامتها التقليدية، وسار الموكب على هذا النمط حتى أشرف على الحضرة، فبرزت الناس والفرسان لاستقباله أعظم بروز، وهم يحملون البنود والطبول، واحتشد العرب من سائر البطون، وكان يوماً مشهوداً (¬1). ولم يكن يخطر يومئذ ببال أحد أن الخلافة الموحدية تشهر آخر مواكبها، وأنه سيكون لها بمثابة موكب الوداع، الذي تنهار من بعده، وتلفظ أنفاسها الأخيرة. - 2 - وكان قد مضى عندئذ زهاء عام، مذ دخل أبو العلى إدريس أو أبو دبوس حضرة مراكش، وتبوأ الخلافة، بمعاونة أبي يوسف، ولم تبدر أية بادرة من أبي دبوس، تدل على أنه يعتزم الوفاء بعهوده، وإشراك العاهل المرينى، فيما افتتحه من بقايا الدولة الموحدية القديمة، بمعاونة جنده وأمواله، وعندئذ كتب أبو يوسف إلى أبي دبوس ينذره بوجوب تنفيذ عهوده، وتمكينه من نصف البلاد التي غلب عليها، وفاء بعهوده. وكان أبو دبوس مذ وعده يغمراسن صاحب تلمسان بحلفه ومعاونته، ومذ توالت عليه بيعات القبائل من العرب والبربر، خلال زحفه على السوس، قد شعر بتوطد سلطانه، واشتداد ساعده، واعتزم أن يدافع عن عرشه، وعن تراث الدولة الموحدية. فلما جاءه نذير أبو يوسف، رد رسوله بجفاء، وطلب إليه أن يبلغ سيده، بأن يقنع بما في يده من البلاد، وإلا جرد عليه جنوداً لا قبل له بها، وكتب إلى أبي يوسف كتابا شديد اللهجة، يخاطبه فيه مخاطبة الخلفاء والرؤساء إلى عمالهم. فثار لذلك أبو يوسف، وخرج من فاس في حشود بني مرين والمغرب، وعبر وادي أم الربيع، وزحف على العاصمة ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 471 و 472. وهنا ينتهي المجلد الثالث من كتاب " البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب " لابن عذارى المراكشي وهو المخطوط الذي وجد في الخزانة الناصرية بثامجروت بالمغرب وأشرنا إليه في الفصل الخاص بالمصادر. وقد تم نشره بمدينة تطوان بعناية الأستاذ هويسى ميرانده ومساهمة الأستاذين محمد بن تاويت وابراهيم الكتانى (أواخر سنة 1963) وقد كان لنا خلال قيامنا بتأليف هذا الكتاب من أقيم مصادرنا، وأهمها، وأكثرها تفصيلا

الموحدية، وهو ينتسف الزروع، ويخرب المنازل والضياع، فاضطربت الأحوال في مراكش، وانقطعت عنها الموارد، وقلت المؤن، وارتفعت الأسعار فامتنع أبو دبوس بالحضرة، وبعث إلى حليفه يغمراسن بن زيان أمير تلمسان، يستغيث به، ومع رسله إليه هدية سنية. فنهض يغمراسن في حشوده، منتهزاً فرصة ابتعاد أبي يوسف بالقوات المرينية، وأخذ يغير على أطراف المغرب الخاضعة لبني مرين، ولاسيما في وادي ملوية، أصل منازلهم، ويعيث فيها تخريباً ونهبا وسلبا. فلما وقف أبو يوسف على ذلك اعتزم لفوره، أن يترك أمر العاصمة الموحدية مؤقتا، وأن يسير لقتال يغمراسن، والقضاء على حركته أولا، ثم يعود لمناجزة الموحدين. ومن ثم فقد غادر وادي تانسيفت، وارتد راجعا في قواته إلى فاس، فأقام بها أياما يستكمل أهبته، ثم غادرها في جموع عظيمة، حسنة الأهبة والسلاح، وذلك في منتصف شهر ربيع الأول سنة 666 هـ وكان يغمراسن في تلك الأثناء قد استكمل من جانبه أهباته، وحشد سائر قواته لملاقاة المرينيين. وسار أبو يوسف نحو وادي ملوية، من طريق أجرسيف أو كرسيف، وكان اللقاء بوادي تلاغ، فنشبت بين الفريقين معركة عنيفة طاحنة، قاتل فيها كلاهما بمنتهى الإقدام والشجاعة، وامتازت بالأخص بمثول النساء في الهوادج والمراكب سافرات بين الفريقين، وتحريضهن للشجعان على الثبات والإقدام، وانتهت بانتصار بني مرين، وهزيمة يغمراسن وقومه بني عبد الواد، وتمزيق صفوفهم، ومصرع جماعة من أكابرهم، وفي مقدمتهم أبو حفص ولد يغمراسن. وفر يغمراسن بفلوله صوب تلمسان، وتبددت جموعه، واستولى بنو مرين على سائر ما في محلته، من السلاح والعتاد والأموال، ووقعت هذه الهزيمة الشنيعة على يغمراسن في الثاني عشر من جمادى الآخرة سنة 666 هـ (¬1). وهكذا قضى أبو يوسف، على الجبهة المعادية في مؤخرته، بالقضاء على قوي أمير تلمسان، وارتد بقواته إلى فاس فاستراح بها حينا، وهو يستكمل أهباته للمعركة التالية. ثم غادر فاس في شهر شعبان من نفس العام (666 هـ) في حشود ضخمة، وعبر وادي أم الربيع، وهبط إلى البسائط المؤدية إلى مراكش، وهو يسرح جنده في كل ناحية لانتساف الزروع، وتخريب الضياع، والنهب والسبي، وأنفق بقية سنة 666 هـ في القيام بتلك الغزوات المخربة، ثم غزا عرب الخلط ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 131 و 132 وابن خلدون ج 7 ص 180

ومنازلهم بناحية تادلا، وأثخن فيهم، ومزق جموعهم ثم غزا وادي العبيد، ونفذ إلى منازل صنهاجة، وهي الواقعة في شمالي وادي تانسيفت، وعاث فيها. واستغرقت هذه الغزوات المحلية عاما آخر هو عام 667 هـ (1268 م) (¬1). وكان البلاط الموحدي خلال ذلك، قد ساده الاضطراب والجزع، وأخذ أشياخ الموحدين والعرب، يهيبون بأبي دبوس أن ينهض لرد بني مرين، ودفع عاديتهم، بعد أن تفاقم الأمر، وخربت الديار، وقتل الأهل والإخوة أو شردوا، ولم يكن أمام أبي دبوس في الواقع أي سبيل آخر سوى خوض هذه المعركة الحاسمة، فحشد سائر قواته من الموحدين والعرب والأغزاز وبقايا الروم، واجتمع له من ذلك جيش ضخم، وخرج في قواته من مراكش يريد لقاء بني مرين، وكان آخر الخلفاء الموحدين شجاعا مقداما، وكان يعرف أنه سوف يخوض المعركة الأخيرة والحاسمة، فإما أن يكتب له النصر علي بني مرين، وعندئذ يستطيع أن يردهم إلى منازلهم، فيما وراء وادي أم الربيع، وإما أن يلقى هزيمته الحاسمة ويسقط مدافعا عن عرشه وقومه الموحدين. ولما علم أبو يوسف بخروج أبي دبوس في قواته لمحاربته، رأى أن يلجأ إلى خطة لاستدراجه وإبعاده عن قواعده، فارتد في قواته صوب الشمال. وتصور لنا الرواية ارتداد بني مرين، أمام زحف أبي دبوس، في صورة الخدعة الحربية، وقد يكون ذلك صحيحاً، ولكنه قد يدل من جهة أخرى على أن الأمير المرينى، وقف على ضخامة الجيش الموحدي وحسن استعداده، وأنه خشى أن يخوض معه المعركة الحاسمة، قبل العمل على مطاولته وإنهاكه. وعلى أي حال فقد ارتد أبو يوسف في قواته نحو الشمال، وسار الجيش الموحدي في أثره، وهو يطاوله من موضع لآخر، واعتقد أبو دبوس من جهة أخرى أنه يطارد جيشاً يخشى لقاءه، واستمرت هذه المطاردة حتى وادي غفو، وهنالك وقف بنو مرين واستعدوا للقاء الموحدين. ونشبت في وادي غفو بين الجيشين معركة عنيفة، قاتل فيها الفريقان بمنتهى الشجاعة والجلد، وكان الموحدون يوالون الهجوم علي بني مرين، وأبو دبوس يقود المعركة بنفسه، ولكن بنو مرين ثبتوا كالصخر وقاتلوا بشدة حتى اختلت صفوف الموحدين، وتمكنت جماعة من أنجاد فرسانهم، من تطويق أبي دبوس وصحبه الذين حوله، والتحمت بينهما معركة عنيفة، أثخن فيها أبو دبوس ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 204، وابن خلدون ج 7 ص 182

خريطة: تفكك الدولة الموحدية الكبرى والدول التي قامت مكانها في المغرب االأندلس 630 - 660 هـ = 1232 - 1262 م

طعناً بالرماح، وسقط صريعا عن جواده، وقتل معه وزيره أبو موسى عمران، وكاتبه علي بن عبد الله المغيلى، ومزقت صفوف الموحدين وبدد شملهم، وسقطت محلتهم، بسائر ما فيها من الأمتعة والأموال، في أيدي بني مرين، واحتز رأس آخر الخلفاء الموحدين، وحمل إلى أبي يوسف، فخر ساجداً شكراً لله على ما أولاه من النصر، وأرسلت الرأس فعلقت على سور فاس " ليعتبر برؤيتها جميع الناس ". ووقعت هذه الهزيمة الساحقة على الموحدين وهلك آخر خلفائهم في يوم الأحد الثاني من شهر المحرم سنة 668 هـ (أول سبتمبر 1269 م) (¬1). وعلى أثر هذا النصر الحاسم، سار الأمير أبو يوسف إلى مراكش، وكان قد فر من كان بها من قرابة الخليفة وأشياخ الموحدين، على أثر وقوفهم على نبأ النكبة المروعة، ولجأوا إلى جبال الموحدين في تينملل، وهنالك بايعوا بالخلافة السيد أبا اسحاق أخا الخليفة المرتضى. بيد أنها لم تكن سوى شبح باهت ومهزلة تدعو إلى الرثاء. وفي يوم الأحد التاسع من المحرم سنة 668 هـ، دخل عاهل بني مرين أبو يوسف يعقوب حضرة مراكش في موكب فخم، فاستقبله سائر الأكابر والوجوه، من الفقهاء والقضاة والأشياخ، وبايعوه بالطاعة، والتمسوا إليه الأمان والحماية، فأمنهم أبو يوسف وطمأنهم، وأذاع الأمان لسائر أهل المدينة، وأحوازها فاطمأن الجميع، وسادت السكينة والأمن، واستقرت الأمور، ونزل أبو يوسف بالقصبة، وتم له بفتح مراكش ملك المغرب الأقصى، وقامت على أنقاض الدولة الموحدية الأخيرة، دولة جديدة هي دولة بني مرين الفتية، تسيطر على سائر أنحاء المغرب الأقصى، من وادي ملوية وجبال الأطلس الوسطى شرقا، حتى المحيط الأطلنطى غربا، ومن رباط تازا وجبال غمارة شمالا حتى وادي تانسيفت جنوبا، وتسمى أبو يوسف منذ دخوله حضرة مراكش " بأمير المسلمين "، وخرجت كتبه إلى القبائل بهذا اللقب، وكان قبل ذلك يكتفي بلقب " الأمير " (¬2). ولبث أمير المسلمين أبو يوسف يعقوب، مقيما بمراكش إلى شهر رمضان سنة 669 هـ، وهو ينظر في شئونها وينظم أحوالها، وترد إليه الوفود مهنئة من كل صوب، وفي خلال ذلك، بعث ابنه الأمير أبا مالك عبد الواحد في حملة قوية إلى بلاد السوس لغزوها، وإخضاع من بها، من الثوار والقبائل الخارجة ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 132 و 133، وروض القرطاس ص 205، وابن خلدون ج 6 ص 265 وج 7 ص 182. (¬2) الذخيرة السنية ص 134

عن الطاعة، فسار إليها، وغزا مختلف نواحيها، واستمر في توغله حتى ماسة، ثغر السوس الأقصى، وفرض الطاعة على سائر النواحي والقبائل، ثم عاد إلى الحضرة. وبعد ذلك خرج أبو يوسف بنفسه، إلى غزو طوائف العرب، التي بسطت سلطانها على منطقة درعة، وملكت حصونها، وعاثت فيها قتلا ونهبا، فسار إليهم في رمضان، واخترق منطقة درعة، واستنزلهم تباعا، وقتل منهم عدداً كبيراً، واستولى على أموالهم ودوابهم، وسبي نساءهم، وافتتح سائر بلاد درعة وحصونها، وقضى في غزوته هذه زهاء شهرين، ثم عاد إلى مراكش في منتصف شهر شوال، فأقام بها فترة قصيرة، وعقد عليها وعلى أعمالها لمحمد ابن علي بن يحيى، وهو من أكابر قرابته ووزرائه، وأنزله بالقصبة، وفوض إليه النظر في شئونها، وعهد إليه بالقضاء على آثار بني عبد المؤمن وتتبع آثارهم أينما كانوا (¬1). وكان من آثار هذه المطاردة أن قبض في سنة 674 هـ، بأحواز تينملل، على السيد إسحق بن السيد أبي ابراهيم، أخي الخليفة المرتضى، وكان قد نصبه الموحدون هنالك خليفة كما تقدم، وقبض كذلك على ابن عمه السيد أبي الربيع وغيره من القرابة، وسيقوا مع أولادهم إلى مراكش وقتلوا جميعا (¬2). وغادر أبو يوسف مراكش في منتصف ذي القعدة (669 هـ) فسار إلى رباط الفتح، وقضى بها عيد الأضحى، ثم أخذ البيعة لولده الأمير أبي مالك بولاية عهده (¬3)، وعاد بعد ذلك إلى حاضرته فاس. وعنى أبو يوسف بأمر سبتة وطنجة لما لهما من أهمية بارزة بموقعهما على المضيق، وكونهما معبر المغرب إلى الأندلس، ومعبر الأندلس إلى المغرب، ولاسيما بعد ما ظهر من نيات إسبانيا العدوانية نحو المغرب، منذ غزو سفنها لثغر سلا، فاعتزم الاستيلاء على هذين الثغرين الهامين، وكان ابنه الأمير أبو مالك قد زحف على طنجة في سنة 666 هـ، ولكنها امتنعت عليه، وكان يسيطر على كلا الثغرين، الفقيه العزفي حسبما تقدم ذكره. فسار أبو يوسف في قواته إلى طنجة في أوائل سنة 672 هـ، واستولى عليها، ومنح الأمان لأهلها، ثم بعث ولده الأمير أبا يعقوب في قوة كبيرة إلى سبتة فنازلتها أياما، ثم أذعن العزفى إلى الطاعة، وتعهد بأداء ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 134 و 138، وروض القرطاس ص 205 و 206، وابن خلدون ج 7 ص 182. (¬2) ابن خلدون ج 7 ص 182. (¬3) الذخيرة السنية ص 139، وروض القرطاس ص 206

الجزية، فتقبل السلطان منه ذلك، وارتد عائداً في قواته إلى فاس (¬1). ولم يكن باقيا من قواعد المغرب الأقصى دون فتح سوى سجلماسة، وكانت بيد يغمراسن بن زيان صاحب تلمسان، وحلفائه من عرب المنبّات من بطون المعقل، فسار إليها أبو يوسف في جيش ضخم، وضرب حولها الحصار، ثم اقتحمها عنوة، وكان افتتاحها في شهر صفر سنة 673 هـ. وتم بذلك افتتاح بني مرين لسائر أمصار المغرب الأقصى وأقطاره، وبسطهم لسيادتهم عليه كاملة شاملة. ووقعت قبل ذلك في سنة 670 هـ، حروب ومعارك طاحنة بين أبي يوسف ويغمراسن في أحواز تلمسان، ووجدة، كان النصر فيها لأبي يوسف، وهي أحداث ليس من موضوعنا أن نتناولها هنا، لأنها تتعلق بتاريخ بني مرين وبنى عبد الواد، ولا علاقة لها بتاريخ الدولة الموحدية. أما عبور السلطان أبي يوسف إلى الأندلس بعد ذلك غير مرة، استجابة لنداء ابن الأحمر صاحب غرناطة، وجهاده بها ضد النصارى، وانتصاراته الباهرة في ذلك الميدان، وما كان بينه وبين ابن الأحمر طوراً بعد طور، من التحالف والقطيعة، فقد تناولناه مفصلا في كتابنا " نهاية الأندلس ". وإنما نود أن نشير هنا إلى أن نزول بني مرين ميدان الجهاد بالأندلس، إنما كان قياما بنفس الرسالة التاريخية، التي بدأ بها المغرب منذ عصر المرابطين، وأن بني مرين خلفوا الموحدين، في القيام بأعمال الجهاد في الأندلس، ولكن بعد فوات الوقت، وبعد سقوط معظم القواعد الأندلسية التالدة، في أيدي النصارى، خلال الفترة التي انهار فيها سلطان الدولة الموحدية، وتضاءلت قواها ومواردها بالأندلس ثم المغرب. بيد أن تدخل بني مرين في سير الحوادث بالأندلس، ومناصرتهم لمملكة غرناطة، آخر الممالك الإسلامية بالأندلس، عصراً امتد زهاء ثمانين عاما، كان أكبر عون لها في كفاحها ضد إسبانيا النصرانية، وفي صمودها الطويل، في ميدان الصراع، ولولا عون بني مرين وعبورهم المتوالى إلى شبه الجزيرة، ليشدوا بأزر المملكة الإسلامية الصغيرة، لما كتب لغرناطة كل هذا العمر الطويل الذي عاشته، والذى امتد بعد انهيار الأندلس الكبرى زهاء قرنين آخرين. وتوفي السلطان أبو يوسف يعقوب المرينى، قاهر الدولة الموحدية ومبيدها بعد حياة حافلة بالفتوح المظفرة، في أنحاء المغرب، وأعمال الجهاد الجليلة بالأندلس ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 187

وذلك بثغر الجزيرة الخضراء، في المحرم سنة 685 هـ (مارس سنة 1285 م) وقد أسبغت عليه انتصاراته الباهرة بالأندلس لقب المنصور بالله (¬1). - 3 - والآن نقف لحظة تأمل، نحاول فيها أن نستعرض بعض العوامل والأسباب التي أدت إلى سقوط الدولة الموحدية، بعد أن عاشت منذ قيامها، بإعلان المهدي ابن تومرت لإمامته ورياسته، في جبل إيجليز في رمضان سنة 515 هـ، حتى سقوط حاضرتها مراكش، في يد السلطان أبي يوسف يعقوب المرينى في المحرم سنة 668 هـ، مائة واثنتين وخمسين عاما، قضت منها زهاء نصف قرن، في القضاء على الدولة المرابطية بالمغرب، وافتتاح سائر أقطاره، ثم افتتاح إفريقية وثغورها، وافتتاح قواعد الأندلس بعد ذلك، والقضاء على ثورة ابن مردنيش والاستيلاء على مملكة مرسية، آخر مهاد الثورة والمقاومة بالأندلس، وذلك في سنة 567 هـ، وقامت الإمبراطورية الموحدية الكبرى من ذلك التاريخ، تمتد من لوبية وساحل تونس شرقا، حتى المحيط الأطلنطى غربا، ومن ضفاف نهر التاجُه بالأندلس شمالا، حتى وادي درعة وبلاد السوس ومشارف الصحراء الكبرى جنوبا. على أن هذه الإمبراطورية العظيمة المترامية الأطراف، لم تمكث على وحدتها وتماسكها أكثر من نحو نصف قرن، هو الذي يشغله الشطر الأخير من عهد الخليفة عبد المؤمن، وعهد ولده الخليفة أبي يعقوب يوسف، ثم عهد الخليفة المنصور. ومنذ عهد ولد المنصور، الخليفة محمد الناصر (595 - 610 هـ)، تعمل عوامل الانحلال والتفكك، التي بدأت قبل ذلك حتى في عهد المنصور، وحجبتها قوته وعزمه وانتصاراته الباهرة، عملها الفعال، في تقويض دعائم الدولة الموحدية، وتمزيق وحدتها. ويمكننا أن نعتبر موقعة العقاب المشئومة (صفر 609 هـ - يوليه 1212 م) أخطر العوامل الحاسمة، في تسرب هذا الانحلال، إلى ذلك الصرح الشامخ، فقد هزت هذه الكارثة العظيمة أسس الدولة الموحدية إلى الأعماق، وكان ما وقع فيها من إفناء مروع للجيوش الموحدية وسحق لقوى الدولة ومواردها العسكرية، نذيراً واضحاً بانحلالها، وتضعضع قواها، وتضاءل مواردها. ثم جاء عصر الخلفاء الأحداث والخلفاء الضعاف، ¬_______ (¬1) راجع في جهاد أبي يوسف وغزواته بالأندلس كتاب " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين " الطبعة الثانية ص 88 - 98

وعصر التنافس على عرش الخلافة، والحروب الأهلية المستمرة، وذلك كله في ظل دولة تقتص أطرافها وتنهار مواردها تباعا. على أن موقعة العقاب الحاسمة، جاءت لتعزز عوامل خطيرة أخرى، كانت تجتمع تباعا، لتحدث آثارها المخربة المادية والأدبية، في صرح الدولة الموحدية. وقد كانت هذه العوامل تعمل عملها حتى في ظل عصر النهضة، وعصر الخلفاء الأقوياء، وقد كان في مقدمة هذه العوامل، نظام الحكومة الموحدية ذاته، وأسلوب الحكم الموحدي. فقد كانت الحكومة الموحدية تقوم على أساس العصبية والقبيلة والأسرة، وكان الخليفة الموحدي وهو رأس الدولة، يجعل من أقطار الدولة وعمالاتها إقطاعات قبلية وعائلية، فلا يتولى الحكم في الأقطار والعمالات سوى السادة من أبناء الخليفة، وأبناء عمومته وقرابته، إلا في أحوال نادرة، وكانت هذه القاعدة تطبق في المغرب والأندلس في وقت واحد. ولم يكن أولئك السادة أو الحفاظ، أو الزعماء القبليين، الذين يتولون الحكم، في المقاطعات والمدن، يتمتعون دائما بمستوى عال، من الكفاية والحزم والنزاهة، وإن كان منهم في أحيان كثيرة، رجال من ذوى المقدرة، والنباهة والعفة، وقادة من أقدر رجال الحرب. ولا شك أن هذا الأسلوب الإقطاعى الضيق، في حكم العمالات والمدن، لم يكن دائماً كفيلاً بتحقيق النظام والأمن والرخاء، أو بالدفاع عن مختلف أقطار الإمبراطورية وثغورها، ومن ثم فقد كشفت حوادث الأندلس وإفريقية، غير بعيد، عن ضعف هذا النظام وقصوره. فأما في الأندلس فقد استطالت إسبانيا النصرانية والبرتغال على الأراضي الإسلامية، ونفذت قشتالة بغزواتها إلى ما وراء جبل الشارات (سيرّا مورينا)، ووصلت جيوشها إلى بسائط قرطبة وإشبيلية، ونفذت مملكة ليون الصغيرة حتى ضفاف نهر وادي يانه، واستطاعت مملكة البرتغال الناشئة من جانبها، أن تستولى على قواعد ما وراء التاجه، وأن تنفذ بغزواتها جنوبا حتى شلب، وشرقا حتى بطليوس. ولم تستطع القيادة الموحدية بالأندلس بالرغم مما كان لديها من الموارد والحاميات العديدة، وبالرغم مما كان يتدفق عليها من القوات من وراء البحر، أن تقمع هذا العدوان المستمر من جانب النصارى، أو أن تقف في وجه الغزوات النصرانية بطريقة ثابتة، بل لم يستطع الخلفاء الموحدون أنفسهم، بالرغم من عبورهم إلى شبه الجزيرة غير مرة، في جيوشهم الزاخرة، وعُددهم الهائلة، حماية الأندلس

واسترداد قواعدها وثغورها المفقودة، وكان ما أصابهم من مرارة الإخفاق أكثر مما حققوا من الفتح والنجح، ولم يكن بين غزواتهم الموفقة اللامعة سوى غزوات المنصور وانتصاره الباهر في معركة الأرك العظيمة (شعبان 591 هـ - يوليه 1194 م) وهو انتصار لم تلبث أن محت آثاره هزيمة العقاب الساحقة (609 هـ). وتفاقمت هذه الآثار في الأندلس بقيام الخليفة العادل، خروجا على خلافة أبي محمد عبد الواحد بمراكش، ثم اضطرام ثورة البياسى (621 - 623 هـ)، وجنوحه إلى ممالأة ملك قشتالة، وتسليمه إليه عديد الأراضي والحصون، ثم خروج الخليفة المأمون على أخيه العادل 624 هـ، والتجائه إلى ملك قشتالة، واستعانته بالجند النصارى على تحقيق أمره، وتسليمه بدوره لملك قشتالة طائفة جديدة من الحصون الأندلسية. ويجب أن نضيف إلى ذلك مأساة السيد أبي زيد والي بلنسية وأخى عبد الله البياسى، فقد رأينا ما كان من أمر هذا السيد، حينما نهض الأمير أبو جميل زيان وانتزع منه حكم بلنسية، فقد التجأ إلى حماية ملك أراجون، واعتنق النصرانية وأصبح حربا على أمته ودينه، يسلم للنصارى ما كان بيده من الحصون، ويقودهم إلى غزو الأراضي الإسلامية. وقد كانت هذه الأحداث المبيرة كلها، نذيراً بانهيار الأندلس، وتمزيق وحدتها، وتفكك أوصالها، والتمهيد لسقوط قواعدها الكبرى، وكان في الوقت نفسه نذيراً بفقد الدولة الموحدية لهذا القطر العظيم من أقطارها. وأما في إفريقية، فقد كان غزو بني غانية لثغورها وقواعدها الغنية، وعيثهم في بسائطها، وقتلهم لسكانها وانتهابهم لأموالها، وذلك مدى ثلاثين عاما، وما اضطرت الخلافة الموحدية أن تخوضه من المعارك المستمرة في إفريقية، خلال هذه الفترة، وما تكبدته من الجهود والنفقات الهائلة، في سبيل هذه المعارك، وما هلك من جيوشها في ميدان القتال لمدافعة بني غانية، وللذود عن سلطانها في إفريقية: كان لذاك كله أثر بالغ في تقويض مواردها، وإضعاف قواها. وتخريب قطر من أعظم أقطارها، وأغناها وأزخرها بالموارد. وبالرغم من أن الخلافة الموحدية، استطاعت في النهاية أن تقضى على فورة بني غانية، وأن تسترد منهم سائر الثغور والأراضي الإفريقية، وأن تفتتح ميورقة موطنهم الرئيسي، ومثوى حكومتهم ورياستهم، فإن ذلك لم يكن كافيا لتوطيد سلطان الدولة الموحدية بإفريقية، ولم يكن ليحول دون تيار الحوادث الجارف، وقد كان يندفع بإفريقية إلى قدر آخر غير البقاء في ظل الدولة الموحدية

وقد كان انسلاخ إفريقية عن الدولة الموحدية، وقيام الدولة الحفصية بها منذ سنة 627 هـ (1229 م) في الواقع نتيجة لفورة بني غانية، والأحداث العظيمة التي أثارتها، وكان هذا الانفصال، بعد ضياع الأندلس، أخطر ضربة أصابت الإمبراطورية الموحدية من الناحية الإقليمية، ثم تبعتها تلمسان فاستولى عليها يغمراسن بن زيان وقومه من بني عبد الواد، وقامت بها إمارة مستقلة، أخذت في التوطد والنماء، وبذلك فقدت الدولة الموحدية إفريقية والمغرب الأوسط وفقدت في نفس الوقت ثغرى سبتة وطنجة، حيث قامت كلتاهما أولا بالدعوة الحفصية، ثم استقلت سبتة برياسة الفقيه العزفى (سنة 647 هـ) وتبعتها طنجة، فاستقلت برياسة ابن الأمين. وبذلك فقدت الدولة الموحدية سائر ثغورها الشمالية. ثم كانت المرحلة الأخيرة في تفكك الدولة الموحدية، وهي المرحلة التي ظهر فيها بنو مرين، وقوى أمرهم بوادي ملوية، وغلبوا تباعا على أطراف المغرب الأقصى. وفي الوقت الذي شغلت فيه الخلافة الموحدية بمصانعة طوائف العرب من الخلط وغيرهم، ومعالجة غدرهم وخياناتهم، وبقمع الثورة في الأنحاء الجنوبية، كان بنو مرين يتوغلون تباعا في الأنحاء الشمالية. ولما شعر الموحدون بخطر بني مرين، على ما تبقى من إمبراطوريتهم الشاسعة، في المغرب الأقصى، كان الوقت قد فات للتغلب على تلك القوة الناهضة الدافعة، وكان سقوط مكناسة في أيدي بني مرين في سنة 643 هـ، بداية النهاية في ضياع أمصار المغرب الأقصى، وتلتها فاس عاصمة المغرب القديمة التالدة، فسقطت لأول مرة في أيدي بني مرين في سنة 646 هـ، ثم استولوا عليها نهائيا بعد ذلك بعامين، وكان سقوط فاس أعظم أمصار المغرب الأقصى بعد مراكش، عنوان الانهيار الأخير، فلم تمض عشرون عاما أخرى هي عهد الخليفة المرتضى، حتى اجتاح بنو مرين سائر أراضي المغرب الأقصى، فيما وراء وادي أبي رقراق ووادي أم الربيع، واستولوا على سائر تلك المنطقة، ثم كان استيلاؤهم على مراكش في المحرم سنة 668 هـ من يد صنيعتهم أبي دبوس، خاتمة ذلك الصراع المرير المؤلم، وكان خاتمة الدولة الموحدية. وإذا تركنا العوامل والأسباب المادية جانبا، فإن العوامل الأدبية قد لعبت أيضاً، دوراً في هذه المأساة التاريخية. ذلك أن الدولة الموحدية، قامت على أسس الإمامة المهدية، والعقيدة الموحدية، وكانت هذه الأسس بغض النظر عن حقيقة أمرها، توثق أواصر الزعامة الموحدية، وتجمع كلمة الموحدين القبلية

والعقيدية، حول إمامة واحدة، فلما تحولت الإمامة الموحدية، إلى خلافة دنيوية، وانحصرت في بني عبد المؤمن، ضعفت هذه الأواصر العقيدية، التي كانت توثق بين الزعامة الموحدية، ولم يبد الخلفاء الموحدون من بعد عبد المؤمن أية حماسة ظاهرة في تمجيد الإمامة المهدية. وكان الخليفة المنصور بالعكس، يبدى ريبه في صحة إمامة المهدي، وفي عصمته، ولكنه لم يجرأ على أن يحدث أي تغيير ظاهر، في رسوم الإمامة الموحدية. فلما تولى ولده أبو العلا إدريس المأمون الخلافة، كان في ذلك أشد منه جرأة وإقداما، فأصدر مرسومه الشهير بإلغاء الإمامة المهدية، ومحو رسومها وآثارها (627 هـ) وقام بذلك بثورة حقيقية في كيان العقيدة الموحدية. وكان من أثر هذا الاجتراء على محو تراث المهدي ووصيته الدينية، أن خرج معظم الأشياخ الموحدين على خلافة بني عبد المؤمن، ولجأوا إلى منازلهم في جبال المصامدة. وبالرغم من أن هذا الانفصام لم يكن له أثر مباشر من الناحية المادية، فقد كان له من الناحية الأدبية أعمق وقع، وفقدت خلافة مراكش من جرائه كثيراً مما كانت تتمتع به، من التأييد الروحى والقبلى، ولاسيما في منطقة جبال المصامدة وبلاد السوس. فلما كان عهد الرشيد ولد المأمون، وقع التقرب بين الزعماء الموحدين وبين الخلافة الموحدية، وأعاد الرشيد رسوم الإمامة المهدية، وتقاليدها السابقة، إرضاء لهؤلاء الزعماء، وجمعا للكلمة. ولكن الخلافة الموحدية لم تبرأ من ذلك الصدع الذي أصابها، ولم يكن ذلك التقرب الجديد بينها وبين أوليائها القدماء، وثيق العرى، بل كانت تغشاه الريب المتبادلة والحذر الدائم. وكذلك كان أمر الروابط القبلية بين الخلافة الموحدية، وبين بعض القبائل البربرية القوية، وطوائف العرب من أنصارها القدماء. وقد كانت هسكورة وهي من أقوى هذه القبائل وأكثرها عدداً، تتردد بين تأييد الخلافة الموحدية وبين الخروج عليها، لا بسبب العقيدة أو المبدأ، ولكن لبواعث المصلحة الشخصية، وقد لعبت بذلك دورا هاما في المرحلة الأخيرة، من مصاير الخلافة الموحدية. وأما طوائف العرب مثل عرب الخلط وعرب المعقل وبنى جابر وغيرهم، فقد كان موقفهم من الخلافة الموحدية، موقفاً ذميما مؤلما، ولم يكن يحدوهم في تأييدها أية عاطفة من الولاء الثابت، أو شكر الصنيعة، مهما أغدقت عليهم، وكان تقلبهم في تأييد الجهات المختلفة، لا تمليه سوى البواعث المادية الوضيعة. وكانت أعمال التخريب والعيث والسفك والنهب، هي جل ما يستغرق نشاطهم أينما حلوا، وكانت خياناتهم

وتخاذلهم عن نصرة حلفائهم، في مختلف المعارك، مضرب الأمثال، وقد عانت الخلافة الموحدية كثيراً من أعمال غدرهم ونكولهم، وذلك حسبما فصلناه في مختلف المواطن. ويجب ألا ننسى تبعة الخلفاء الموحدين أنفسهم، في العمل على تقويض أسس سلطانهم ودولتهم. فقد رأينا الخلفاء، منذ وفاة يوسف المستنصر، ينحدرون إلى هاوية الحرب الأهلية، ويشتغلون بالصراع فيما بينهم، حول اغتنام العرش، ويبددون قوي الدولة ومواردها، في معارك أهلية عقيمة، وقد استغرقت معارك المأمون، ثم ولده الرشيد، ويحيى المعتصم، فترة طويلة وموارد زاخرة، في الوقت الذي كان فيه بنو مرين يتوغلون داخل أنحاء المغرب، ويوطدون سلطانهم فيها، وقد اجترأ الموحدون في أواخر عهدهم على قتل خلفائهم، فقتل الخليفة أبو محمد عبد الواحد، ثم قتل خلفه الخليفة العادل، وقتل المأمون أشياخ الموحدين، الذين نكثوا بيعته، وقد كانوا نحو مائة أو تزيد، وقد أفنيت بهذا العمل الدموى، خلاصة الزعامة الموحدية، وانهار نفوذها القوي في توجيه الشئون. ومما تجدر ملاحظته أن الدولة الموحدية، جازت عهداً طويلا من الانحلال والتفكك، استطال زهاء ستين عاما، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، وتدرجت في هذا الانحلال أطواراً متعاقبة، فلم يكن سقوطها أمراً سريعاً مفاجئاً، كما حدث في أمر الدولة المرابطية، وإنما كانت كل مرحلة تنبىء عن المرحلة التالية، ومن ثم فإن سقوطها لم يحدث في الأمة المغربية هزة عميقة، كتلك التي أحدثها سقوط الدولة المرابطية، ولم يقع في مراكش أو غيرها من المدن المغربية، عند انهيار الحكم الموحدي، شىء من تلك المناظر المروعة، التي اقترنت بدخول الموحدين مراكش، وغيرها من الحواضر، واستقبلت الأمة المغربية دولتها الحاكمة الجديدة - دولة بني مرين - بشعور الاستبشار والرضى، ولم يلبث أن تألق الحكم الجديد، وسطعت دولة بني مرين الزاهرة، وساد الأمن والنظام، وعم اليسر والرخاء في الحواضر والبوادى، واختفت تلك الهزات والأحداث العنيفة، التي لبثت تعكر صفاء السلم والحياة الوادعة، أكثر من نصف قرن. - 4 - وعلى أثر انهيار الدولة الموحدية، انهار ذلك الصرح القبلى الشامخ، الذي كان ينتظم عقده، من سائر قبائل المصامدة، والموحدين، كلما جد الجد أو أقبل الجهاد، فيغدو عماد الجيوش الموحدية الجرارة، وكانت هذه القبائل تنقسم

إلى مجموعتين: الأولى قبائل المصامدة، والثانية قبائل الموحدين. فأما المجموعة الأولى، فكانت تضم قبائل هسكورة ودُكالة وهيلانة وحاحة وغيرها، من قبائل المصامدة، وكانت هسكورة أكبر هذه القبائل عددا وأكثرها بطونا، ومن بطونها قبيلة جنفيسة (كنفيسة)، وكانت لضخامتها ووفرة حشودها، تحتل مكانة ملحوظة، بين قبائل الدولة الموحدية، بيد أن أهلها كانت تغلب عليهم البداوة، لا يخالطون الموحدين، فيما انغمسوا فيه من حياة الحضر والترف، بل يؤثرون التزام جبالهم المتشعبة من جبال الأطلس الشامخة، والممتدة في جنوب شرقي مراكش حتى مشارف السوس الأقصى. ولما غلب بنو مرين على الدولة الموحدية ومحوا آثارها، اضطهدوا هسكورة وفرضوا عليها المغارم الثقيلة، فلزموا السكينة، ولبثوا معتصمين بجبالهم، ولم يرتضوا خدمة الدولة الجديدة، ولم يدينوا بدعوتها، وكانت كلما اشتدت عليهم وطأة عسكر بني مرين ردوهم بدفع الإتاوات من آن لآخر. وكان رؤساؤهم يتمتعون بنوع من الاستقلال المحلى، ويحشدون حولهم الحشود لحماية سلطانهم، وتحصيل جباياتهم، ويستعينون أحيانا ببعض قبائل الجبل من أهل بسائط السوس من بطون هسكورة وجنفيسة، وكذلك ببعض بطون العرب مثل بني الحارث من سفيان، والشبانات من عرب المعقل. وهكذا لبثت هسكورة بعيدة عن الولاء لبني مرين، لا تدين بطاعتهم، إلا عن طريق الجزية، كما حدث أيام السلطان أبي الحسن المرينى، وأحيانا تناوئهم متى شعرت بضعف الدولة وتراخيها (¬1). وكذلك استقلت بقية قبائل المصامدة غربي مراكش، مثل دكالة وهيلانة وحاحة، بأمرها ورياستها، وكانت منازلهم تمتد غربا حتى شاطىء المحيط (¬2). وأما المجموعة الثانية فكانت تضم قبائل الموحدين، ومنازلها على مقربة من مراكش، وكانت منها سبع قبائل امتازت بالسبق والإيثار على غيرها، لاعتناقها دعوة المهدي ابن تومرت، قبل أن يتوطد أمره، أو بعبارة أخرى قبل افتتاح مراكش. وهذه القبائل السبع تنتمى إلى المصامدة، وهي هرغة قبيلة الإمام المهدي، وهنتاتة، وتينملّل وهم الذين بايعوه مع هرغة في بداية أمره، وجنفيسة، وهزرجة، وجدميوة (كدميوة) ووريكة. وتلحق بها قبيلة ثامنة، هي كومية قبيلة الخليفة عبد المؤمن ابن علي كبير صحابة المهدي. وكانت هذه القبائل الثمان لسبقها في البيعة والطاعة، تتمتع بمزايا الإيثار في السلطان والنفوذ، وتولى المناصب والقيام بمهام الأمور. فلما ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 262 و 263. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 264

انهارت الدولة الموحدية ضعف أمرهم، وأضحوا من الرعايا العاديين للدولة الغالبة (¬1). وقد دثرت قبيلة هرغة - قبيلة المهدي - بعد سقوط الدولة بقليل، وفقدت كل مكانة ونفوذ، وكذا كان مصير قبيلة أو أهل تينملّل، وهم الذين نزل بينهم المهدي وأعلن إمامته، وأنشأ داره ومسجده، وكان لهم شأن في مناصب الدولة، وعمالاتها، ولكن رجالاتهم انقرضوا غير بعيد، وملك أمرهم غيرهم من زعماء المصامدة. وكان قبر المهدي لديهم بتينملّل، مايزال حتى العصر الذي كتب فيه ابن خلدون تاريخه، حوالى سنة 780 هـ، مايزال مزاراً مرموقاً، وعلى ما كان عليه من التجلة والتعظيم، يتلى به القرآن والأحزاب باستمرار ويقوم عليه الحجاب والحفاظ، وتترى إليه الوفود من كل فج، وتقدم الصدقات نذرا وتبركا. وكان أهل تينملل ومعهم كافة المصامدة، يعتقدون اعتقاداً جازماً، بأن أمر المهدي سيعود، وأن الدولة ستظهر على أهل المشرق، ويملأ المهدي الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وذلك وفق ما وعدهم به (¬2). وأما هنتاتة، فكانت من أشد قبائل الموحدين بأسا وتمكنا في الدولة، وذلك لما كان عليه زعيمها الشيخ أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتى، أحد الصحب العشرة، من مكانة ملحوظة لدى المهدي، وقد لبث آبناؤه يتبوأون أرفع مناصب الدولة، وانتهى زعيمهم أيام الناصر، الشيخ أبو محمد عبد الواحد بن أبي حفص، بأن غلب على ولاية إفريقية، ومهد ملكها لعقبه، فأقاموا بها دولة مستقلة عظيمة. ولما انتهت الدولة الموحدية، لبثت هنتاتة في موطنها القديم بجبال درن، على مقربة من مراكش، وكانوا أيام بني مرين، من القبائل الخاضعة لسلطان الدولة الجديدة، يولون عليها من شاءوا لضبطها وتحصيل جبايتها. وكانت قبيلة جدميوة تابعة لهنتاتة، وتينملل، وجبلهم بجوار جبل هنتاتة، فلما انهارت الدولة افترق أمرهم، وخضع بعضهم لبني مرين، وامتنع البعض الآخر عن الطاعة. وكانت وريكة كذلك من القبائل المجاورة لهنتاتة، وكانت بينهم فتن وحروب مستمرة هلك فيها كثير من الفريقين المتخاصمين (¬3). وهكذا كانت الخاتمة المؤسية، لتلك المجموعة من القبائل البربرية والبدوية، التي هزتها دعوة المهدي ابن تومرت إلى الأعماق، ومكنتها من أن تنشىء دولة من أعظم الدول، في الغرب الإسلامي، هي الدولة الموحدية الكبرى. ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 6 ص 266. (¬2) ابن خلدون ج 6 ص 267، وراجع ما ورد في القسم الأول بشأن قبر المهدي ص 198. (¬3) ابن خلدون ج 6 ص 270 و 271

الكتاب الحادى عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصر الموحدى.

الكتاب الحادي عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصْر الموحّدى

الفصل الأول قشتالة وليون

الفصل الأول قشتالة وليون منذ عهد الفونسو الثامن حتى عهد فرناندو الثالث ألفونسو الثامن الملقب بالنبيل. الممالك النصرانية الإسبانية في عهده. ألفونسو الثاني ملك أراجون. العلائق بين قشتالة وأراجون. اجتماع ألفونسو الثامن وألفونسو الثاني. تسوية العلائق بينهما وتحالفهما. زواج ألفونسو الثامن من إبنة ملك انجلترا هنري الثاني. ألفونسو الثامن يشهر الحرب على نافارا. غزوه للأراضي الإسلامية. استيلاؤه على قونقة. توثق العلائق بين قشتالة وأراجون. التحكيم بين قشتالة ونافارا. تنظيم فتوح الإسترداد بين قشتالة وأراجون. اضطراب العلائق بين قشتالة ونافارا. وفاة فرناندو ملك ليون. يخلفه ولده ألفونسو التاسع. غزوات القشتاليين لأراضي الأندلس حتى موقعة الأرك. غزوات الموحدين لأراضي قشالة. تحالف ملك قشتالة وبيدرو الثاني ملك أراجون. تعاونهما في محاربة نافارا وليون. استنصار سانشو ملك نافارا بالموحدين. عبوره إلى المغرب وزيارته للخليفة الناصر. غزو ملك قشتالة لنافارا واستيلاؤه على جيبوسكوا. اهتمام البابوية بالتجاء ملكى نافارا وليون إلى الموحدين. مطالبتها بإلغاء زواج ألفونسو التاسع من ابنة عمه برنجيلا. إلغاء هذا الزراج وآثاره. إهتمام ألفونسو الثامن بفتوح الإسترداد. سعيه في جمع كلمة الملوك النصارى. تكتل اسبانيا النصرانية ضد اسبانيا المسلمة. تأييد البابوية والنصرانية لهذا التكتل. عبور الناصر إلى الأندلس. موقعة العقاب ونتائجها المشئومة. غزوات ألفونسو الثامن لأراضي الأندلس. وفاته وخلاله. إصلاحاته الداخلية. ولده الطفل إنريكى يخلفه على العرش. وقوعه تحت وصاية آل لارا. مشروع لزواجه وإلغاء البابوية لهذا المشروع. وفاة إنريكى في حادث. الملكة برنجيلا تنصب ولدها فرناندو الثالث على عرش قشتالة. فرناندو الثاني ملك ليون. يعقد الصلح مع ألفونسو الثامن. وفاته وقيام ولده ألفونسو التاسع في العرش. عقده لمجلس الكورتيس. يعقد الصلح مع قشتالة والبرتغال. زواجه من الأميرة تريسا البرتغالية وإلغاء البابوية لهذا الزواج. تحالفه مع الموحدين. عقد التحالف بين نافارا وليون والموحدين. عود ألفونسو التاسع إلى التفاهم مع قشتالة. زواجه من الأميرة برنجيلا ثم إلغاء هذا الزواج. تردده بين مخاصمة قشتالة ومسالمتها. إجتماع كلمة الملوك النصارى تحت ضغط البابوية. غزوات القشتاليين لقطاع أبدة، ومحاصرة ألفونسو التاسع لقاصرش. قيام فرناندو الثالث في عرش قشتالة أثر وفاة ألفونسو الثامن. محاولة ملك ليون معارضته وانتزاع العرش منه. فشل هذه المحاولة. عقد السلام بين قشتالة وليون. عود ألفونسو التاسع لمحاصرة قاصرش وافتتاحها. استيلاؤه على ماردة وبطليوس. وفاته. يترك العرش لإبنتيه. تنازلهما عنه لفرناندو الثالث. عود اتحاد قشتالة وليون. فرناندو الثالث ملك قشتالة وليون، وخايمى الأول ملك أراجون. اهتمام فرناندو الثالث بفتوح الإسترداد. ظروف الأندلس تمهد لهذه الفتوح. غزوات فرناندو في الأندلس الوسطى. استيلاؤه على أبدة. استيلاؤه على قرطبة وأحوازها. تنافس ابن هود

وابن الأحمر على مصانعته. وفاة ابن هود واحتواء ابن الأحمر على معظم تراثه. اهتمام فرناندو بالضغط على ابن الأحمر. ابن الأحمر يعقد الصلح مع فرناندو ويعترف بطاعته. أعظم أعمال فرناندو استيلاؤه على إشبيلية. استيلاؤه على بقية قواعد هذه المنطقة. عنايته بالشئون الداخلية. إصلاحه لنظم الحكم والإدارة. إنشاؤه لجامعة شلمنقة. إنشاؤه لدار الصناعة بإشبيلية. مشروعه في توحيد القوانين القشتالية. إتمام هذا المشروع في عهد ولده ألفونسو العاشر. وفاته وخلاله. 1 - مملكة قشتالة انتهينا فيما تقدم، من تاريخ الممالك الإسبانية النصرانية حتى وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس (1157 م) وما أعقب وفاته من تقسيم مملكته، بين ولديه سانشو وفرناندو، حيث اختص أكبرهما سانشو بعرش قشتالة، واختص الأصغر فرناندو بمملكة ليون وجلّيقية، وما حدث بعد ذلك من وفاة سانشو فجأة في سنة 1158 م، لعام فقط من حكمه، دون أن يترك لوراثة العرش سوى طفل في الثالثة من عمره هو ألفونسو، وما أثارته مسألة الوصاية على هذا الأمير الطفل في قشتالة من حرب أهلية مضطرمة بين أسرتى كاسترو ولارا، استمرت بضعة أعوام، وانتهت حينما بلغ الطفل الحادية عشر من عمره بإعلانه ملكاً على قشتالة، تحت كنف أسرة لارا القوية. كما تحدثنا فيما تقدم، عن قيام جماعات الفرسان الدينية، في الممالك الإسبانية النصرانية، وعن قيام مملكة البرتغال، واشتداد ساعدها، في عصر ملكها ومنشئها الحقيقي ألفونسو هنريكيز. ونود الآن أن نتابع تاريخ هذه الممالك الإسبانية النصرانية، خلال العصر الموحدي، وذلك في شىء من الإيجاز، ولاسيما فيما يتعلق بمراحل الصراع، بينها وبين الأندلس المسلمة، أو بعبارة أخرى بينها وبين الدولة الموحدية، صاحبة السيادة على الأندلس في تلك الفترة، وذلك لأننا تتبعنا مراحل هذا الصراع خلال كتابنا بإفاضة وافية. بدأ ملك قشتالة الصبي ألفونسو الثامن، الملقب بألفونسو النبيل، حكمه حينما بلغ الرابعة عشرة في سنة 1169 م. وكانت إسبانيا النصرانية، تنقسم يومئذ إلى أربع ممالك، هي قشتالة وليون وأراجون ونافارا (نبرّة)، هذا عدا مملكة البرتغال، وكانت تشق طريقها الخاص في غربي شبه الجزيرة، وتتخذ لنفسها سياسة مستقلة، عن باقي الممالك الإسبانية. وكانت قشتالة، بالرغم من انفصال ليون عنها، وقيامها مملكة مستقلة، ما تزال أكبر المالك الإسبانية رقعة،

وأوفرها قوة وموارد، تليها في ذلك مملكة أراجون التي اتسعت رقعتها، ونمت قوتها باتحاد إمارة قطلونية أو إمارة برشلونة معها، وذلك منذ سنة 1137 م حسبما سبق أن فصلناه في موضعه. وكانت ليون ثالثة الممالك الإسبانية، بيد أنها لم تكن في الواقع، بالرغم من استقلالها وانفصالها عن قشتالة، وفقاً لوصية القيصر ألفونسو ريمونديس، سوى إمارة ضعيفة تشق طريقها بصعوبة، ولم يكن لها كبير شأن، في سير الحوادث الهامة في شبه الجزيرة، وكان التوتر سائداً بينها وبين شقيقتها الكبرى قشتالة. وكانت نافارا وهي رابعة هذه الممالك كعهدها دائماً، مملكة صغيرة الرقعة، ولكن قوية الشكيمة، ممتنعة وراء جبالها الوعرة، وحرصها المأثور على استقلالها. وكان على عرش أراجون في الوقت نفسه ملك فتى آخر، هو رامون برنجير الذي سمى ألفونسو الثاني، وقد تولى العرش عقب وفاة أبيه رامون برنجير الرابع في سنة 1162 م، ولقب كأبيه بملك أراجون وقطلونية، وكانت علائق أراجون وقشتالة، منذ أواخر عهد القيصر ألفونسو ريمونديس، على أتم صفاء ووفاق، وذلك لما كان يربط القيصر بعاهل أراجون رامون برنجير الرابع، من وشائج المصاهرة، بزواجه، من ابنته الملكة برنجيلا. وكان أول عمل قام به ألفونسو الثامن، أن اجتمع في ساهاجون بزميله الفتى ملك أراجون ألفونسو الثاني، وذلك في سنة 1170 م، وقد شهد هذا الاجتماع أكابر الأحبار، والأشراف من المملكتين، واتفق الملكان على تسوية سائر الشئون والخلافات القائمة بين المملكتين، وعقدا معا حلفا ضد باقي الملوك والأمراء، ما عدا ملك انجلترا هنري الثاني، وذلك لأن ألفونسو الثامن كان قد عقد خطبته على ابنته الأميرة إلينور، ثم سار الملكان إلى سرقسطة عاصمة أراجون، وقضى ألفونسو الثامن في سرقسطة زهاء شهرين في انتظار مقدم عروسه الأميرة الإنجليزية، وكانت قادمة من انجلترا في حاشية فخمة من الأحبار والفرسان الإنجليز والنورمان والغسقونيين، وكانت قد سارت بعثة ملكية قشتالية، على رأسها أسقف طليطلة حتى ثغر بوردو، وعادت بالأميرة الإنجليزية إلى اسبانيا. وسار الملكان إلى طرسونة حيث عقد زواج ألفونسو الثامن بالأميرة إلينور في حفلات باذخة، في تلك المدينة الأرجونية المتواضعة. وكانت أول حركة قام بها ألفونسو الثامن هو شهره الحرب على نافارا،

وكان سانشو السادس ملك نافارا قد انتهز فرصة قصر ألفونسو، وانتزع جزءاً كبيراً من أراضي قشتالة المجاورة، فلما عقد التحالف بين أراجون وقشتالة، زحف ألفونسو على نافارا في جيش ضخم في صيف سنة 1173 م، واستولى على بريفسكا ولوجرينو وناباريتي، وهزم ملك نافارا، وطارده حتى أحواز بنبلونة. وبعد ذلك بعامين عاد ملك قشتالة وحليفه ملك أراجون، فشهرا الحرب ضد نافارا، وأوقعا بها هزائم أخرى. وكانت فكرة غزو الأراضي الإسلامية، هي الهدف الأول للسياسة القشتالية. ولم يشذ ألفونسو الثامن عن هذه القاعدة، ففي أواخر سنة 1176 م، خرج ألفونسو ووصيه السابق الكونت نونيو دي لارا، واتجها صوب حدود شرقي الأندلس، وكانت مدينة قونقة إحدى قواعد الحدود الإسلامية، هدف هذه الغزوة، خصوصاً وقد كان الموحدون، يتخذونها قاعدة للإغارة على أراضي شرقي قشتالة، واضطرت القوات القشتالية، نظراً لمناعة المدينة، أن تضرب حولها الحصار، واستمرت قونقة، صامدة نحو تسعة أشهر، ولم تستطع الأمداد الموحدية أن تصل إليها، حيث اعترضتها قوات ملك أراجون حليف ملك قشتالة، وسقطت المدينة المسلمة في النهاية، في أيدي القشتاليين، في سبتمبر سنة 1177 م، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في موضعه (¬1). وجدد ملك قشتالة وملك أراجون تحالفهما، بمناسبة ما أبداه ملك أراجون، من المعاونة في فتح قونقة، وأحلّ ملك قشتالة زميله الفتى، من عهد الولاء الذي كانت ترتبط به أراجون نحو قشتالة، منذ عهد رامون برنجير الرابع. وفي الوقت نفسه اتفق ملك قشتالة مع خصمه سانشو السادس ملك نافارا، على تسوية ما بينهما من خلاف، واتفقا على أن يخضعا في ذلك لتحكيم هنري الثاني ملك انجلترا، وبعث كل من الملكين سفراء إلى لندن، ليعرضا ما بينهما من أوجه الخلاف. وبعد أن درس هنري الثاني، وجوه النظر المختلفة، وأخذ رأى البرلمان في ذلك، أصدر قراره بأن يرد كل من الملكين إلى الآخر بعض القواعد والأراضي، التي كان يدعى كل ملكيتها، وأن يرد ملك قشتالة بالأخص إلى نافارا، لوجرينو وأوسيخو ووناباريتى، وأن يدفع ملك قشتالة لملك نافارا مدى عشرة أعوام ثلاثة آلاف مرافيدى كل عام، فقبل الملكان هذا القرار، ¬_______ (¬1) تراجع قصة حصار قونقة وسقوطها في ص 96، 97 من هذا الكتاب

وعقد بينهما السلم لمدة عشرة أعوام. وكانت فكرة التحالف بين قشتالة وأراجون، وهما أقوى الممالك الإسبانية النصرانية، تنطوى قبل كل شىء على التكتل ضد الجبهة الإسلامية في شبه الجزيرة، والتعاون في دفع حركة الإسترداد النصرانية La Reconquista ضد الأندلس، ومن ثم فقد كان لابد من تنظيم هذه الحركة، وتحديد مناطقها بالنسبة لكل من المملكتين، وقد عقد اتفاق جديد من هذا النوع بين الملكين في بلدة كسولا Cazola حيث التقيا، وذلك في سنة 1179 م، وفيه خصت مملكة أراجون بالفتوح في منطقة بلنسية الإسلامية جنوبا حتى ثغر لقنت، وخصت مملكة قشتالة بالفتوح في سائر الأراضي الواقعة جنوب هذا الثغر، وجاء هذا الاتفاق، مؤيداً لأول اتفاق عقد بهذا الشأن، بين القيصر ألفونسو ريمونديس، والكونت رامون برنجير، بمدينة كربون في سنة 1150 م، حسبما سبق أن أشرنا إليه في موضعه (¬1). وعقد ملكا قشتالة وأراجون أيضاً، حلفاً جديداً ضد ملك نافارا، لأنه بدأ يعارض في قرارات التحكيم التي أصدرها ملك انجلترا، والتزم كل من الفريقين بتنفيذها، واضطر ملك قشتالة من جراء ذلك أن يحتل لوجرنيو وناباريتى وبريفيسكا وغيرها، وهي الأماكن التي تقرر ردها إلى نافارا، لأن ملك نافارا أبي من جانبه أن يرد الأماكن التي تقرر ردها إلى ملك قشتالة. وقد اقترح ملك أراجون، أن يعقد اجتماع جديد بين الملكين المتخاصمين، وعقد هذا الاجتماع بالفعل في جريدا، في سنة 1185 م، ولكنه لم يسفر عن نتائج حاسمة، واستمر التوتر في العلائق قائما بين نافارا وقشتالة. وفي سنة 1188 م. توفي فرناندو الثاني ملك ليون وجليقية، وهو كما نذكر عم ملك قشتالة، وخلفه في الحكم ولده ألفونسو التاسع، ورأى ملك ليون الجديد، أن يعدل سياسة الخصومة التي كان يتبعها أبوه نحو قشتالة، وأن يعقد معها أواصر الود، فقابل ألفونسو الثامن في كريون، وقدم إليه طاعته، وأسبغ عليه ملك قشتالة ثوب الفروسية، وهكذا ارتدت ليون إلى التفاهم مع قشتالة، بعد أن لبثت حينا تناصبها العداء. ولسنا في حاجة لأن نكرر هنا، الحديث عند الغزوات المتوالية، التي قام ¬_______ (¬1) راجع ص 509 من القسم الأول من هذا الكتاب

بها القشتاليون في أراضي الأندلس، منذ استيلائهم على حصن شنتفيلة في سنة 1182 م، حتى غزوة مطران طليطلة وفرسان قلعة رباح لأراضي جيان وقرطبة في سنة 1191 م، وخروج ملك قشتالة في قواته لاختراق جبال الشارات، وغزو أراضي الأندلس مرة أخرى في سنة 1194 م، على أثر انتهاء أجل الهدنة التي سبق أن عقدها الخليفة يعقوب المنصور، منتهزاً فرصة انشغال المنصور بحوادث إفريقية، وما كان لهذا العدوان من أثر، في تحرك الخليفة الموحدي، وعبوره إلى الأندلس في جيوشه الزاخرة، لقمع هذا العدوان، وما تلا ذلك من نشوب موقعة الأرك العظيمة بين الموحدين وبين قوي قشتالة، وذلك في 18 يوليه سنة 1194 م (9 شعبان سنة 591 هـ)، وهي معركة انتهت بنصر الموحدين الباهر، وذلك كله حسبما فصلناه فيما تقدم من كتابنا. وقد وضعت هزيمة الأرك، حدا مؤقتا، لتفوق قشتالة العسكرى في شبه الجزيرة، ولنشاطها المخرب في أراضي الأندلس، وكانت فرصة انتهزها سانشو ملك نافارا، فأغار على أراضي قشتالة من ناحية سُرية وعاث فيها، وهذا إلى ما قام به الموحدون من جانبهم، من استردادهم لقلعة رباح، ومن غزوات مخربة متوالية، في منطقة طلبيرة وطليطلة والقلعة، ووادي الحجارة وغيرها، وما قام به ألفونسو التاسع ملك ليون من غزو أراضي قشتالة بمعاونة الموحدين، واجتياحها حتى مدينة كريون، وهي غزوة تعاونت قوات قشتالة وأراجون في دفعها (¬1). ولم يجد ملك قشتالة، إزاء هذه الخطوب المتوالية، ملاذا إلا في محالفة أراجون وكان ملكها ألفونسو الثاني قد توفي في سنة 1196 م، وخلفه ولده الملك بيدور الثاني، وتوثقت أواصر هذا الحلف مع أراجون، وغدا ملكها الجديد، أكبر عون لملك قشتالة. وبدت ثمار هذا الحلف في معاونة ملك أراجون لقشتالة في محاربة نافارا وليون وحلفائها الموحدين، وشهر الملكان الحرب على نافارا، ثم على ليون، ونفذت الجيوش المتحدة إلى ليون وعاثت فيها. وترتب على هذه الحرب أن ألغى مشروع زواج ألفونسو التاسع ملك ليون، من الأميرة برنجيلا إبنة ملك قشتالة، وكان ألفونسو الثامن قد جعل مهرها رد الأراضي والحصون التي اقتطعها من ليون. ¬_______ (¬1) راجع ص 233 من هذا الكتاب

ولما شعر سانشو ملك نافارا، بما يتهدده من جراء هذا الحلف القوي، بين خصميه ملكي أراجون وقشتالة، فكر في الاستنصار بالموحدين على غرار ملك ليون، وعبر البحر وجماعة كبيرة من الفرسان إلى مراكش، ملتجئاً إلى الخليفة المنصور ومستنجدا به، ولكنه ما كاد يصل إلى العاصمة الموحدية حتى كان المنصور قد توفي، وخلفه ولده محمد الناصر (أواخر يناير سنة 1199 م) فاستقبل الناصر الملك النصراني بمنتهى الحفاوة والتكريم، وأمضى سانشو في مراكش زهاء عامين، وتوثقت علائقه بالخليفة الموحدي وبلاطه، حتى كاد وفقاً لقول الرواية الإسلامية، أن يعتنق الإسلام (¬1)، وفي الرواية النصرانية أن سانشو اشترك خلال إقامته بالمغرب، في حروب الناصر في إفريقية وأبلى فيها (¬2)، وهو ما لم نجد له أثراً في الرواية العربية. ويجب أن نذكر أن هذه الزيارة من جانب ملك نافارا لبلاط مراكش، قد تلتها زيارته الأخرى للناصر، عقب عبوره إلى الأندلس في سنة 607 هـ (1210 م)، وقد زاره ملك نافارا خلال إقامته بإشبيلية، وهي الزيارة التي تقدمها إلينا الرواية العربية في عبارات غامضة رنانة في نفس الوقت، وقد سبق أن أشرنا إليها تفصيلا. وفي خلال ذلك، انتهز ملك قشتالة الفرصة، وغزا أراضي نافارا، وكانت ولاية جيبوسكوا، بالرغم من كونها لبثت دهراً منضمة إلى قشتالة، قد احتلها ملوك نافارا، وضموها إلى مملكتهم، فلما نفذ ألفونسو الثامن بقواته، إلى أراضي نافارا، وحاصر مدينة فتورية، طلب إليه أهل جيبوسكوا، أن تعود ولايتهم إلى أراضي قشتالة، فترك حصار فتورية للدون دي هارو، وسار إلى جيبوسكوا واتفق مع زعمائها على شروط وضعها تحت حماية قشتالة، واحتلت قواته سان سبستيان، وفوانتى رابيا، وحصن بلاسكواجا ووادي اديارسون. كما استولى على مقاطعة ألبة (سنة 1200 م)، وعلى أثر ذلك سلمت فتورية، وذلك بموافقة سانشو نفسه، وكان نائبه أسقف بنبلونة قد عبر البحر إلى مراكش لينبئه بما حدث وعاد بموافقته، وبذلك فقدت نافارا شطراً كبيراً من أراضيها (¬3). ¬_______ (¬1) راجع ص 290 من هذا الكتاب. (¬2) Lafuente: Historia General de Espana, T. III. p. 346 (¬3) Lafuente: ibid ; T. III. p. 346

وحاول ملك أراجون في نفس الوقت أن يحصل على نصيبه من أراضي نافارا، فهاجمها بقواته، ولكنه لم يستطع أن بفتتح منها، إلا بضعة أماكن صغيرة. ودافعت بنبلونة، وغيرها من المدن الكبيرة، عن نفسها أعنف دفاع، واستطاعت أن ترد القوي المغيرة على أعقابها. وقد أثار التجاء ملك ليون ألفونسو التاسع، وملك نافارا سانشو القوي، إلى الموحدين، صدى سيئاً في اسبانيا، واهتمت البابوية، بجنوح هذين الملكين النصرانيين إلى محالفة المسلمين أعداء الدين، وبعث البابا سلستينو الثالث، بسفير خاص من قبله، ليسدى النصح إلى الملكين الخارجين، وليهددهما بصدور القرار بنفيهما من الكنيسة، إذا لم يعدلا عن مسلكهما، فنزل سانشو مرغما على هذا الوعيد، وعقد هدنة مع خصميه، ملكى أراجون وقشتالة، ولكنه نقضها قبل بعيد، ثم توفي البابا سلستينو، وخلفه البابا إنوصان الثالث، فبعث إلى اسبانيا برسول جديد، ليرى على من تقع تبعة هذه الحروب الأهلية المتوالية، بين الملوك النصارى، وليعمل في نفس الوقت على إلغاء زواج ألفونسو التاسع من إبنة عمه الأميرة برنجيلا إبنة ألفونسو الثامن، وكان الزواج قد تم قبل ذلك ببضعة أعوام، واعتبرته البابوية باطلا لشدة القرابة بين الزوجين. وقد أثارت مطالبة البابوية بإلغاء هذا الزواج، مشكلة قومية في ليون، وخصوصاً بعد أن أصدر البابا إنوصان الثالث قراره بالحرمان الكنسى، وانقسم الأحبار في شأنه، بين مؤيد له، ومنكر لصحته. ومع ذلك فقد عاد البابا، ووافق على تخفيف نصوص الحرمان، وسمح بتنصير أول ولد جاء من هذا الزواج في كنيسة ليون الكبرى. وقد كان هذا الإبن هو فرناندو الذي احتفل الكورتيس بتعيينه وليا للعهد (سنة 1204 م)، والذى غدا فيما بعد فرناندو الثالث ملك قشتالة الكبرى، وفاتح قرطبة وإشبيلية. وبعد ذلك ارتضت الملكة برنجيلا الطلاق من زوجها، وألغى البابا قرار الحرمان الكنسى، وانتهت بذلك مشكلة كانت تهدد سلام ليون وسكينتها. وكاد الخلاف ينشب من جديد بين قشتالة وليون، بسبب طلاق الأميرة القشتالية، ومطالبة أبيها برد ما استولت عليه ليون من الحصون والأراضي مهراً لها، ولكن تغلب صوت العقل والسلم. وكان ألفونسو الثامن، يشعر بأن مهمته الأساسية هي أن يتفرغ لمقارعة الموحدين، وفتوح الإسترداد La Reconquista

وأن يبذل كل ما في وسعه لجمع كلمة الملوك النصارى في شبه الجزيرة، للتعاون في تحقيق هذه المهمة الكبرى، وقد نجح ألفونسو في سعيه. ونحن نعرف أنه كانت تربطه بملك أراجون بيدرو الثاني أواصر التحالف الوثيق، ثم كان أن زاره سانشو السابع (القوي) ملك نافارا في وادي الحجارة (سنة 1207 م)، وتم التفاهم بين الخصمين القديمين، وعقدت بينهما الهدنة والتحالف لمدة خمسة أعوام، ووعد ملك قشتالة بتوسطه لدى بيدرو الثاني لكي يعقد مثل هذه الهدنة مع الملك سانشو (¬1)، وفي نفس الوقت عقد السلم بين ملكى قشتالة وليون على نسق ما تم في مؤتمر وادي الحجارة، وأخيراً تم التفاهم بين ألفونسو الثامن، وسانشو ملك البرتغال، وتوثق التحالف بينهما بزواج الأميرة أوراكا القشتالية، بألفونسو ولى عهد البرتغال. وهكذا اجتمعت الممالك الإسبانية النصرانية كلها في جبهة واحدة، تحت رعاية ملك قشتالة وقيادته. وكان اجتماع كلمة إسبانيا النصرانية على هذا النحو، لا يقصد به فقط تحقيق سلامها الداخلى، بل كان ينطوي قبل كل شىء على المضي في تحقيق الهدف الرئيسي الذي تدخر له اسبانيا النصرانية كل مواردها وقواها، وهو محاربة اسبانيا المسلمة، ودفع تيار فتوح " الاسترداد " بأقصى ما يستطاع. ولم تكن اسبانيا النصرانية تقف وحدها إزاء هذا الهدف، بل كانت البابوية والنصرانية كلها، تحبو تلك الغاية بعطفها ومؤازرتها الفعلية، ولم تبخل البابوية بأن تسبغ الصفة الصليبية على أية طور من أطوار هذا الصراع، وكان البابا إنوصان الثالث، يشمل بنصحه ورعايته كل حركة تقارب واتحاد بين الملوك الإسبان، وكان فوق ذلك يوعز إلى الأحبار في جنوب فرنسا، أن يبثوا كل دعاية ممكنة، لحشد السادة والفرسان، للتطوع إلى هذه الحرب المقدسة. وقد سبق أن أشرنا في الفصل الذي خصصناه لموقعة العقاب إلى تلك الجهود في حشد قوي النصرانية كلها ضد اسبانيا المسلمة. وكان عبور الخليفة محمد الناصر في جيوشه الجرارة إلى الأندلس في أواخر سنة 607 هـ (1211 م) عاملا جديداً في إذكاء تلك الحركة الصليبية. ولم يلبث ملك قشتالة أن بدأ أهباته لشهر الحرب على الأندلس، وبدأ القشتاليون غزواتهم المخربة للأندلس، وذلك بالرغم من قيام الهدنة بينهم ¬_______ (¬1) راجع ص 288 من هذا الكتاب

وبين الموحدين، وكان عبور الناصر رداً على هذا التحدى السافر، وبدأ الناصر بالعمل على وقف هذا العدوان، فزحف أولا نحو منطقة جيان واستولى على قلعة شلبطرّة، ثم عاد إلى إشبيلية وضاعف أهباته وحشوده، وخرج للمرة الثانية، من إشبيلية في المحرم سنة 609 هـ (يونيه 1212 م). وكان ألفونسو الثامن، وحلفاؤه الملوك الإسبان، قد استكملوا أهباتهم عندئذ، ووفد لمؤازرتهم سيل من الأحبار والفرسان، والمتطوعة من وراء البرنيه، واتخذت الحرب الصليبية شكلها الحقيقي، والتقت الجيوش النصرانية المتحدة بالجيوش الموحدية في هضبة العقاب أسفل جبال الشارات (سيرّا مورينا)، وكانت الموقعة المشئومة التي هزمت فيها الجيوش الموحدية شر هزيمة، ومزقت شر ممزق، وذلك في الخامس عشر من صفر سنة 609 هـ (16 يوليه 1212 م)، وذلك كله حسبما فصلناه فيما تقدم تفصيلا شافيا. وكانت نكبة العقاب، نذير انحلال الجبهة الدفاعية الموحدية للأندلس، ونذير انهيار الأندلس ذاتها، وقد عجل بهذا الانهيار، ما اضطرمت به الأندلس على أثر ذلك من ثورات جديدة، ومن تبدد قواها ومواردها الباقية، في حروب أهلية جديدة، ومنافسات على الزعامة، كان لها أسوأ الأثر في تفكك وحدتها، وفي تمهيد الطريق إلى سقوط قواعدها، واقتطاع أراضيها. ولم يفت اسبانيا النصرانية، بعد أن خرجت من موقعة العقاب، مكللة بغار الظفر الساحق، أن تعمل لاجتناء الفرصة السانحة، وخرج ألفونسو الثامن في ربيع سنة 1213 م، لغزو أراضي الأندلس، من ناحية قلعة رباح، واستولى على بلدة الكرس، وحول مسجدها إلى كنيسة. وبالرغم مما حدث هذا العام في قشتالة، من تلف الزروع ونفق الماشية، وانتشار القحط، وموت الكثيرين من الجوع والمرض، فإن ملك قشتالة لم يحجم عن استئناف الغزو، وفي تلك المرة اخترق جبال الشارات، وسار منحدراً نحو بيّاسة، وضرب حولها الحصار، ولكن المسلمين كانوا قد أحكموا تحصينها، وطال الحصار، والمدينة صامدة، وحل القحط في المعسكر النصراني، فاضطر ملك قشتالة إلى رفع الحصار، وعاد في قواته إلى طليطلة. ولم تمض بضعة أشهر حتى غادر العاصمة، وسار غربا بقصد لقاء ملك البرتغال ومفاوضته، ولكنه ما كاد يصل إلى بلدة جوتيرى مونيوس، حتى مرض وتفاقم مرضه

بسرعة، وتوفي في اليوم السادس من أكتوبر سنة 1214 م. ويوضع ألفونسو الثامن في ثبت ملوك اسبانيا العظام، وقد أسبغ عليه انتصاره في موقعة العقاب هالة من المجد، وفي ظله احتفظت قشتالة بتفوقها السياسي والعسكرى، على باقي الممالك الإسبانية النصرانية، على نحو ما كانت عليه أيام فرناندو الأول وألفونسو السابع (ألفونسو ريمونديس). وكان هذا التفوق يتخذ أحيانا صفة السيادة على هذه الممالك، وكان يثير لديها كثيراً من المرارة والاحتجاج، ويحملها أحيانا على التحالف ضد قشتالة (¬1). وكان ألفونسو الثامن، فضلا عما أحرزه من الظفر العسكرى الباهر، ملكاً مصلحاً، وكان من أثر عنايته بشئون الإصلاح، توسعه في إنشاء البلديات، وتوسيع مهامها واختصاصاتها، وإصداره القوانين الخاصة بذلك Fueros. وقد أنشأ ألفونسو أول جامعة إسبانية هي جامعة بالنسيا، Palencia وذلك في سنة 1209 م، وجلب إليها الأساتذة من فرنسا وإيطاليا. وكان حسبما تصفه الرواية الإسبانية، يتسم بالتقى والورع، وقد أنشأ عدداً من الأسقفيات الجديدة، والأديار الفخمة، وكان من بينها دير برغش الشهير المسمى بالدير الملكي (لاس هويلجاس)، وأسبغ على الكنائس والأديار امتيازات جمة. وخلف ألفونسو الثامن على عرش قشتالة، ولده هنري الأول (إنريكى) ولما يبلغ الحادية عشرة من عمره، وتولت الوصاية عليه أمه الملكة إلينور، ولكن لأجل قصير فقط، إذ توفيت بعد ذلك بقليل، وعندئذ تولت الوصاية عليه أخته الملكة برنجيلا، مطلقة ألفونسو التاسع ملك ليون، بيد أنها لم تستطع مقاومة أطماع آل لارا الأقوياء في انتزاع الوصاية، وهم الكونت ألبارو نونيز وإخوته، فتنازلت إليهم عنها بشروط خاصة، أقسموا بالعمل على تنفيذها، وخلاصتها ألا يعلن الكونت دي لارا الحرب على أي ملك، ولا أن يعطى أو يتنازل عن الأراضي للاتباع، أو يفرض أية ضرائب دون موافقة الملكة برنجيلا، ولكن الكونت دي لارا لم يحترم عهوده، وكان مقصد آل لارا الأول أن يوطدوا نفوذهم على الملك الصبي، فلما اطمأنوا إلى ذلك، قرروا تزويجه من الأميرة مافالدا إبنة سانشو الأول ملك البرتغال، ولم يكن الملك الصبي قد جاوز ¬_______ (¬1) R. Altamira: Historia de Espana y de la Civilizacion Espanola ; T. I. p. 366

الثانية عشرة من عمره، وكانت الأميرة قد جاوزت العشرين، ومع ذلك فقد عقد هذا الزواج بالفعل (سنة 1215)، في انتظار بلوغ الملك الصبي سن الرشد. ولكن الملكة برنجيلا وأكابر قشتالة، اعترضوا على هذا الزواج بشدة، ورفعوا أمره إلى البابا إنوصان الثالث، فأصدر البابا قرارا بإلغائه بسبب القرابة بين الزوجين، وعادت الأميرة البرتغالية إلى وطنها، ودخلت أحد الأديار. وكان الملك الصبي يتوق إلى التحرر من نير آل لارا والعودة إلى أخته برنجيلا. ولكن الكونت ألبارو نونيز حال دون ذلك. ثم سار فضرب الحصار حول قلعة أوتليو وبها برنجيلا وبعض أنصارها، فاستغاثت برنجيلا بزوجها السابق ألفونسو التاسع ملك ليون، فبعث لإنجادها ولدها وولده فرناندو في بعض قواته، فرفع آل لارا الحصار عن الملكة، وساروا إلى بالنسيا، وكان الملك الصبي قد نزل في قصر أسقف بالنسيا، وكان يلعب في فنائه مع بعض صبية في سنه، فرماه أحدهم بحجر أصابه في رأسه بجرح بالغ، لم يلبث أن توفي منه، وذلك في يوم 6 يونيه سنة 1217 م. فبادرت أخته دونيا برنجيلا باستدعاء ولدها فرناندو وصحبها المخلصين. وسارت إلى بلد الوليد، وهنالك أعلنت نفسها ملكة لقشتالة، ولكنها نزلت في الحال عن العرش لولدها فرناندو، وكان يومئذ فتى في الثامنة عشرة من عمره (أول يوليه 1217) وكان القدر يدخر لهذا الفتى الذي تولى الملك في تلك الظروف المؤسية، مستقبلاً باهراً، حيث غدا هو فرناندو الثالث، قاهر الأندلس، والمستولى على قواعدها الكبرى. 2 - مملكة ليون لما توفي القيصر ألفونسو ريمونديس في سنة 1157 م، قسمت مملكته بين ولديه، فاختص ولده الأكبر سانشو بملك قشتالة، واختص ولده الأصغر فرناندو بملك ليون. وتوفي سانشو بعد عام واحد من حكمه في سنة 1158، وخلفه على عرش قشتالة ولده ألفونسو الثامن الذي أتينا على سيرته فيما تقدم. أما فرناندو الثاني فاستمر ملكاً على ليون حتى توفي في سنة 1188 م. وفرناندو الثاني هذا هو الذي تعرفه الرواية الإسلامية (بالببوج) وقد لبث خلال حكمه يتردد بين محالفة الموحدين وبين خصومتهم، وكان له في إنجاد الموحدين ببطليوس، وفي التحول إلى خصومهم مواقف متناقضة، سبق أن أتينا عليها

في مواضعها. وكان من أهم أعماله تصفية الخصومة بين ليون والبرتغال. وكان ألفونسو الثاني ملك البرتغال قد غزا جليقية، واستولى على بعض مواضع فيها، فسعى فرناندو الثاني إلى عقد الصلح، واجتمع الملكان، واتفقا على أن يتزوج فرناندو بالأميرة أوراكا إبنة ألفونسو الثاني، وأن تكون المواضع التي استولى عليها البرتغاليون في جليقية مهرا لها. وكذلك انتهى فرناندو بأن عقد الصلح مع ألفونسو الثامن ملك قشتالة (سنة 1180 م) بمقتضى معاهدة خططت فيها الحدود النهائية بين المملكتين، ونظمت العلائق بينهما، وعقدت محالفة للتعاون على تحقيق فتوح " الاسترداد " وتعهدت كل منهما ألا تعقد أي صلح أو هدنة مع المسلمين. وكان من أبرز أعمال فرناندو العسكرية حصاره لقاصرش، ثم انسحابه عنها ليسير إلى نجدة البرتغاليين، حينما كان الخليفة أبو يعقوب يوسف يحاصر شنترين. وكانت هذه الحركة، وفقا لبعض الروايات، هي السبب الرئيسي في انسحاب الخليفة الموحدي، وفيما تلا ذلك من نكبة الجيش الموحدي (سنة 1184 م). ولما توفي فرناندو الثاني في سنة 1188 م، خلفه على العرش ولده ألفونسو التاسع. وفي بداية حكمه وقعت في أنحاء ليون، اضطرابات كان يحركها ويغذيها ملك قشتالة، فدعا الملك لمعالجة الحالة إلى عقد مؤتمر بمدينة ليون، مثل فيه الأحبار والأشراف، ونواب المدن. ويعتبر المؤرخون الإسبان أن هذا المؤتمر كان أول " كورتيس " Cortes أو برلمان إسبانى حقيقي. وكان ألفونسو التاسع، يواجه كأبيه، مشكلة العلائق المتوترة مع جارتيه قشتالة والبرتغال. وكانت قشتالة في الواقع تحتل معظم القواعد الأمامية التي تؤلف خط الدفاع عن ليون، فسعى ألفونسو التاسع إلى الاجتماع مع ابن عمه ملك قشتالة، في كريون، حسبما قدمنا، وعقدت أواصر المودة والتفاهم بين الملكين. بيد أن ألفونسو التاسع لم يكن مخلصاً في هذا الاتجاه الودى نحو قشتالة، إذ كان يشعر دائماً أن قشتالة هي المتجنية على بلاده. وأما فيما يتعلق بالبرتغال، وتسوية مشكلة الحدود بينها وبين ليون، فقد رأى ألفونسو التاسع أن يرتبط مع ملك البرتغال سانشو الأول، برباط المصاهرة، بعد أن كان قد قطع مثل هذا الوعد لملك قشتالة، وعقد بالفعل زواج ألفونسو التاسع بالأميرة تريسا إبنة سانشو (سنة 1191 م) وذلك بالرغم من القرابة الوثيقة بين الزوجين، إذ كانت أم ألفونسو دونيا أوراكا، هي أخت سانشو. ومن ثم فإن البابوية لم توافق على هذا الزواج، وأصدر البابا سلستينو قراره بإبطاله، وبالتحريم ضد المملكتين، واضطر

ألفونسو التاسع أخيراً، بعد أن رزق من هذا الزواج، بثلاثة أولاد، أن ينزل عند إرادة البابوية، وأن ينفصل بالطلاق عن زوجته (1194 م). وعاد ألفونسو التاسع، أسوة بما فعل أبوه إلى التحالف مع الموحدين. وكانت الممالك الإسبانية النصرانية الأخرى، تشعر كلها في الواقع بالنفور من قشتالة، لما يدعيه ملكها من السيطرة الأدبية عليها، وكان الموحدون في تلك الآونة قد عبروا في حشودهم الجرارة إلى اسبانيا بقيادة الخليفة المنصور، ووقع اللقاء في الأرك بين الجيوش القشتالية بقيادة ألفونسو الثامن وبين الموحدين، وأسفر عن هزيمة القشتاليين وظفر الموحدين الساحق (19 يوليه سنة 1195 م). وعلى أثر ذلك عقد التحالف بين ليون ونافارا، وبين ليون والموحدين، وهوجمت قشتالة من الشرق والغرب (ربيع سنة 1196 م)، ولكن ألفونسو استطاع بمعاونة أراجون في الشرق، والبرتغال في الغرب، أن يصمد ضد هذا الهجوم. وفي ربيع العام التالي (1197 م) قام الموحدون بغزو أراضي طلبيرة والقلعة ومدريد وقونقة، وقام القشتاليون والبرتغاليون بغزو أراضي ليون وجليقية. ورأى ألفونسو التاسع عندئذ أن يعود إلى مسالمة قشتالة، وأن يعقد معها أواصر المودة والتفاهم. وقد تحقق ذلك بزواجه من الأميرة برنجيلا ابنة ألفونسو الثامن، ولكن البابوية عادت فاعترضت على هذا الزواج الثاني لملك ليون، وطالبت بإلغائه بسبب القرابة، وانتهى الأمر بإلغائه حسبما فصلنا ذلك من قبل. ولبث ألفونسو التاسع يتردد حيناً بين خصومة قشتالة ومسالمتها، وانتهى الأمر، بعد أن بذلت البابوية ما بذلت من ضغط ووعيد، ومن جهود متوالية في التقريب بين الملوك النصارى، إلى أن نجح ألفونسو الثامن ملك قشتالة فيما بذل من سعى لجمع كلمة الملوك النصارى في شبه الجزيرة (سنة 1207 م) ونزل ألفونسو التاسع عند هذا المسعى، وتم التفاهم بينه وبين خصمه القديم ألفونسو الثامن، وكان من أثر ذلك أن وقف إلى جانبه في معركة العقاب (سنة 1212 م). وكان ملك قشتالة ألفونسو الثامن، قد خرج في العام التالي لموقعة العقاب (1213 م) لغزو أراضي الأندلس الوسطى، وأقام حيناً على حصار مدينة بياسة، وكان قد اتفق مع زميله ملك ليون أن يقوم من جانبه بغزو قطاع إشبيلية، وأمده في ذلك بقوة من الفرسان القشتاليين. ولكن ألفونسو التاسع، بعد أن سار في قواته نحو قاصرش، وحاول الاستيلاء عليها عبثاً، ومضى في تقدمه نحو ماردة، قرر أن يوقف الغزو

نظراً لاقتراب الشتاء، وأن يعود أدراجه. وسار حلفاؤه القشتاليون غاضبين ولحقوا بملكهم، وهو على حصار أبدة، ولكن المدينة المسلمة لبثت صامدة، واضطر القشتاليون بدورهم إلى الانسحاب، والعودة إلى بلادهم (يناير سنة 1214 م). وفي هذا العام - سنة 1214 م - توفي دون فرناندو ولد ألفونسو التاسع وولي عهده، وهو فتى في الثانية والعشرين من عمره. وكان لألفونسو ولدين آخرين من مطلقته الملكة برنجيلا، هما فرناندو وألفونسو، ولكنه لم يقرر بصفة حاسمة من يخلفه منهما على العرش. ولما توفي ملك قشتالة الصبي هنري الأول في يونيه سنة 1217، بادرت أخته الملكة برنجيلا باستدعاء ولدها فرناندو، وأعلنت في الحال نفسها ملكة لقشتالة، ثم تنازلت على الأثر عن العرش لولدها فرناندو، فأصبح هو ملكاً لقشتالة. وهنا ثارت أطماع ألفونسو التاسع، ورأى وفقاً لنصح بطانته، أن يعلن نفسه إمبراطوراً لقشتالة وليون، وفي الحال دخل قشتالة بجيشه، ولكنه ما كاد يقترب من بلد الوليد، حتى علم بأن ولده فرناندو قد أعلن ملكاً لقشتالة. وبعثت إليه الملكة برنجيلا بعض أكابر الأحبار يرجونه احترام الأمر الواقع، والمحافظة على سلام المملكة، ولكنه لم يصغ إليهم ومضى في سيره نحو برغش. وهنا استعدت الملكة وولدها، وأكابر فرسان قشتالة، لرده، فعندئذ ارتضى ألفونسو، أن يعود أدراجه، بعد أن عقد مع ابنه الهدنة لمدة عامين (نوفمبر 1217 م) وتلتها بعد ذلك معاهدة سلام دائم بين قشتالة وليون عقدت في أغسطس سنة 1218 م. ولما استقر السلام على هذا النحو بين قشتالة وليون، اتجه ألفونسو التاسع إلى العناية بفتوح " الإسترداد " في القطاع الذي خصص من أراضي الأندلس لغزوات ليون. وكانت حملات الغزو من أي الممالك الإسبانية، تتخذ عندئذ صفة الحرب الصليبية، ويشترك فيها بالأخص فرسان الجمعيات الدينية، والمتطوعة الأجانب. ففي أواخر سنة 1217 م، سار ألفونسو التاسع في حملة مختلطة من قوات ليون وقشتالة، وبعض فرسان الجماعات الدينية، وضرب الحصار حول مدينة قاصرش، ولكنه لم يلبث أن رفع الحصار بعد أسابيع قلائل، وكرر ملك ليون وحلفاؤه بعد ذلك حملاتهم لافتتاح هذه القاعدة الإسلامية المنيعة، وانتهى الأمر بسقوطها في أيديهم في صيف سنة 1227 م. وفي أواخر سنة 1229 م، قام ملك ليون بغزوة جديدة في أراضي الأندلس، واستولى في هذه المرة على حصن منتانجش على مقربة من ماردة، ثم ضرب الحصار حول ماردة، وفي خلال ذلك وصل المتوكل بن هود في قواته لإنجاد

المدينة المحصورة، واشتبك الفريقان في معركة هزم فيها ابن هود وارتد في قواته نحو الشرق، وكان من أثر ذلك أن سقطت ماردة وبطليوس في أيدي الليونيين، وذلك في صيف سنة 1230 م (أواسط 627 هـ). ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك حتى توفي ألفونسو التاسع ملك ليون، وذلك في يوم 24 سبتمبر سنة 1230 م، وكانت مسألة وراثة عرش ليون، هي أهم المسائل المعلقة في الأعوام الأخيرة من حكمه. ذلك أنه لم يرد أن يوصى بعرش ليون إلى ولده فرناندو الثالث ملك قشتالة، ولكنه أوصى به إلى ابنتيه سانشا ودولثى. ولكن هاتين الأميرتين ما لبثتا أن تنازلتا عن العرش إلى أخيهما فرناندو (أواخر سنة 1230 م)، وبذا وحدت مملكة قشتالة وليون مرة أخرى، كما كانتا قبل وفاة القيصر ألفونسو ريمونديس في سنة 1157 م، وعادت قشتالة كما كانت، أعظم ممالك اسبانيا النصرانية وأقواها. 3 - قشتالة وعهد فرناندو الثالث لما جلس فرناندو الثالث على عرش قشتالة في يوليه سنة 1217 م، ثم على عرش ليون (1230 م) وفقاً للظروف التي شرحناها، وعادت قشتالة بذلك إلى حدودها ووحدتها القديمة، كان القدر يدخر لهذا الملك الفتى، عهدا حافلا بصنوف الفخار والظفر. وكان من غرائب القدر، أن يقوم على عرش أراجون في نفس الوقت ملك فتىّ آخر، يدخر له القدر مثل هذا المستقبل الحافل، هو خايمى الأول، وبينما كان فرناندو يحقق فتوحه العظيمة المتوالية في أواسط الأندلس، كان خايمى يحقق مثل هذه الفتوح في شرقي الأندلس. وكان أبرز ما في حكم فرناندو الثالث، هو غيرته في متابعة فتوح الإسترداد Reconquista في أراضي الأندلس، وتكريسه لها كل جهوده وموارده. وقد بدأ بها مبكراً، وكانت أحوال الأندلس التي شرحناها، من انهيار سلطان الموحدين بالأندلس، عقب موقعة العقاب، وما تلاها غير بعيد من اضطرام الحرب الأهلية بين بني عبد المؤمن حول الخلافة الموحدية، وما كان من ثورة البياسى وانضوائه تحت لواء ملك قشتالة، وما أقدم عليه الخليفة المأمون من الاستنصار بملك قشتالة، واستعانته على أمره بالجند النصارى، ثم ما كان بعد ذلك من قيام ابن هود في شرقي الأندلس، وابن الأحمر في الأندلس الوسطى،

وتنافس هذين الزعيمين، كل في بسط سلطانه، وفي مصانعة ملك قشتالة وغلبة التفكك والفوضى على شئون الأندلس: كانت هذه الظروف كلها تفسح مجالاً طيباً لنشاط فرناندو ومحاولاته العدوانية ضد الأندلس. ففي سنة 1230 م، غزا فرناندو منطقة أندوجر وجيان، وتوغل في جنوب الأندلس. وفي سنة 1233، غزا أحواز قرطبة وإشبيلية وعاث فيها. وفي نفس هذا العام حاصر مدينة أبدة واستولى عليها. وكان من الواضح أن تضعضع قوي الأندلس، وما يمزقها من المعارك الأهلية، يفسح لأطماع فرناندو أعظم مجال. ومن ثم فإنا نراه، بعد ذلك بعامين يستولي على قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، وذلك في شوال سنة 633 هـ (يونيه 1236 م) ثم يستولي على سائر المدن والحصون القريبة منها، مثل إستجة والمدور وإشتبة وغيرها. ثم نرى ابن هود، وابن الأحمر كل يسعى إلى مصانعته والانضواء تحت لوائه. ولما توفي ابن هود في سنة 635 هـ (1237 م) وخلصت القواعد الجنوبية، غرناطة ومالقة وألمرية لابن الأحمر، كان فرناندو الثالث يلقى بكل ثقله ضد هذا الزعيم الأندلسي، خشية أن تلتف حوله كل القوي الباقية في الأندلس، فيغدو حجر عثرة ضد مشاريعه، ومن ثم نراه يكرر غزواته للأندلس الوسطى التي نشأ فيها ابن الأحمر، وبها موطنه ومثوى أسرته، أرجونة، ونراه يدفع غزواته جنوبا حتى غرناطة ذاتها، ونرى ابن الأحمر نزولا على هذا الضغط الخطير، يضطر إلى عقد الصلح مع ملك قشتالة، وإلى الاعتراف بطاعته، وإلى أن يسلمه مدينة جيان، وعدة كبيرة أخرى من القواعد والحصون (643 هـ - 1246 م)، وذلك كله حسبما فصلناه في مواضعه ولا حاجة بنا إلى تكراره. على أن أعظم أعمال فرناندو الثالث، هو افتتاحه لمدينة إشبيلية أعظم حواضر الأندلس، وذلك في سنة 1248 م (646 هـ)، ولم يكن فتح إشبيلية أمراً هيناً كفتح قرطبة، ولكنه كان محاولة عسكرية وبحرية ضخمة، قاومتها الحاضرة الإسلامية العظيمة، بمنتهى البسالة، وصمدت للحصار المرهق خمسة عشر شهراً، قبل أن تستسلم إلى قدرها المحتوم. وقد فصلنا أطوار هذه المأساة كلها في الفصل الذي خصصناه لذلك (¬1). وفتح إشبيلية هو الذي أسبغ على فرناندو الثالث أروع آيات مجده، الذي تطنب الروايات القشتالية في الإشادة به. وقد سقطت على أثر افتتاح إشبيلية، في أيدي القشتاليين، سائر القواعد الواقعة في ¬_______ (¬1) وهو الفصل الرابع من الكتاب التاسع ص 465

جنوبي الوادي الكبير، مثل أركش وشذونة وشلوقة (سان لوكار) وقادس وغيرها. وبالرغم من أن فرناندو الثالث، أنفق شطراً كبيراً من حكمه، في فتوح القواعد والأراضي الأندلسية، فإنه عنى في نفس الوقت بتنظيم الشئون الداخلية، فأصلح نظم الحكم والإدارة، وأصدر طائفة من القوانين البلدية لعديد من المدن، وعنى بتدعيم الجامعات وتقدمها، وأنشأ جامعة شلمنقة التي لبثت عصورا أعظم الجامعات الإسبانية، والتي ما زالت حتى يومنا تتمتع بكثير من سمعتها العلمية القديمة. ولما افتتح إشبيلية جعل منها عاصمة قشتالة، وأنشأ بها دار صناعة بحرية عظيمة لإنشاء السفن والقطائع الحربية، وفرناندو هو أول من عنى بإنشاء قوة قشتالة البحرية، وقد غدا الأسطول القشتالي منذ أيام ولده ألفونسو العاشر خطراً جديداً، يهدد شواطىء المغرب الشمالية والغربية. بيد أن أهم ما قام به فرناندو في مجال الإصلاح الداخلى، هو تنظيم القوانين وتوحيدها، وقد أنشأ لذلك مجلساً تشريعياً خاصاً من اثنى عشر مشرعاً من أعظم فقهاء الدولة سمى " مجلس قشتالة الملكى " وعهد إليه بأن يضع مجموعة موحدة من القوانين للمملكة كلها، وقطع هذا المجلس في تحقيق المشروع خطوات كبيرة، ولكن فرناندو توفي قبل إتمامه، فقام على إتمامه ولده ألفونسو العاشر، وسميت هذه المجموعة التشريعية " بالبنود السبعة " Siete Partidas وغدت وحدها مرجع التشريع في قشتالة (¬1). وتوفي فرناندو الثالث في اليوم الثلاثين من مايو سنة 1254 م، في الرابعة والخمسين من عمره، بعد حكم دام ستة وثلاثين عاما. ويعتبر فرناندو الثالث بما قام به من فتوح واسعة في أراضي الأندلس، وبما استولى عليه من قواعدها العظيمة، ولاسيما قرطبة وإشبيلية، قاهر الأندلس الحقيقي، وتعتبره الرواية القشتالية أعظم ملوك قشتالة، وتشيد بخلاله أعظم إشادة، وقد لبثت سيرته مدى عصور نموذجا للبطولة النصرانية، حتى أن البابوية أسبغت عليه صفة القداسة، وتوج قديساً في سنة 1671 م، على يد البابا كليمنضوس العاشر، وسمى من ذلك التاريخ بالقديس فرناندو (سان فرناندو). وخلف فرناندو الثالث على عرش قشتالة وليون، ولده ألفونسو العاشر، وهو الملقب بالعالم أو الحكيم El Sabio. وقد تحدثنا عن هذا الملك وعصره وعلائقه مع مملكة غرناطة وبنى مرين، في كتابنا " نهاية الأندلس " فلا حاجة بنا إلى تناوله هنا. ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 96

الفصل الثانى أراجون ونافارا والبرتغال

الفصل الثاني أراجون ونافارا والبرتغال منذ أواخر القرن الثاني عشر إلى أواخر القرن الثالث عشر قيام مملكة أراجون الكبرى. ألفونسو الثاني ملك أراجون. سياسة قشتالة وأراجون الموحدة نحو فتوح الإسترداد. غزوة ألفونسو لأراضي بلنسية. شنتمرية الشرق تحول دون تقدمه. خروجه للغزو ثانية وإنشاؤه لقلعة طرويل. غزوته لأحواز بلنسية ورده. اتفاقه مع ملك قشتالة بشأن شنتمرية الشرق. اتفاق الملكين بشأن مناطق الفتح في شرقي الأندلس. تحالفهما ضد نافارا. فشل أراجون في غزو نافارا وتحالفها مع ليون والبرتغال. وفاة ألفونسو الثاني وجلوس ولده بيدرو مكانه. عقده لمجلس الكورتيس. اتفاقه مع ألفونسو الثامن على مسائل الحدود. تحالفهما في موقعة العقاب. مشروعه في زيارة رومة والتماسه لحماية البابا. البابا يقوم بتتويجه في رومة. اعترافه بطاعة أراجون للكرسى الرسولى. غضب الشعب الأرجونى لمسلكه. إتحاد الشعب والأشراف ضده. سحبه للاعتراف بالطاعة. سيطرة الأشراف الإقطاعيين على المملكة. سعى بيدرو في تخفيف هذا النظام. التنظيم القضائى. غزو بيدرو لأراضي بلنسية. تدخله في الحرب القائمة ضد الألبيين ومصرعه. ولده الطفل خايمى يخلفه. اجتماع الكورتيس واختياره للوصى. ثورة عميه ضده. الحرب بين الفريقين. انتصار خايمى على منافسيه. عقد السلم بين الخصوم. عناية خايمى بأمر الفتح. افتتاحه للجزائر الشرقية. غزواته لأراضي بلنسية. استيلاؤه على بلنسية وقواعد الشرق. تدخله في حوادث مرسية. افتتاحه إياها بالاتفاق مع صهره ألفونسو العاشر. مشروعه في إعداد حملة صليبية إلى المشرق. فشل هذا المشروع. صراع خايمى مع النبلاء. وفاته وخلاله. مصير مملكة نافارا. تربص جارتيها أراجون وقشتالة بها. سانشو السادس وإصلاحاته. ولده شانشو السابع الملقب بالقوى. خوضه لنفس المعارك القديمة ضد قشتالة وأراجون. التهادن والسلم بين الملوك النصارى. سانشو ووراثة العرش. اتفاقه مع خايمى ملك أراجون على أن يكون وارثه. تنحى خايمى وقيام الكونت تيوبالدو ابن أخت سانشو في العرش. تطور مصاير نافارا. عهد كونتات شمبانا. تيوبالدو الثاني وأمه الملكة مرجريتا. التجاؤها إلى حماية خايمى الثاني. مهاجمة قشتالة لنافارا ثم عقد الصلح بين الفريقين. تزوج تيوبالدو من ابنة لويس التاسع. مسيره معه إلى الحرب الصليبية في الشرق. وفاته وقيام أخيه إنريكى مكانه. وقوع نافارا تحت حماية فرنسا. مملكة البرتغال. ألفونسو هنريكيز وإصلاحاته. غزواته للأراضي الإسلامية. وفاته وقيام ولده سانشو الأول مكانه. غزوات سانشو للأراضي الإسلامية. استيلاؤه على شلب واستعادة المنصور إياها. الخلاف بينه وبين البابوية ورجال الدين. وفاته وجلوس ولده ألفونسو الثاني مكانه. الخلاف بينه وبين أخواته الأميرات. استيلاؤه على حصن القصر. النزاع بينه وبين البابوية. وفاته وقيام ولده سانشو الثاني مكانه. عقده الصلح مع رجال الدين ومع الأميرات. غزوه للأراضي الإسلامية. إستيلاؤه على إلفاس وشربه وجلمانية

استيلاؤه على شلب وطبيرة. عود النزاع بينه وبين رجال الدين والأشراف. بواعث هذا النزاع. أخواه ألفونسو وفرناندو وعمه بيدرو يؤيدون الثورة ضده. إصدار البابوية قراراً بعزله وتنصيب أخيه ألفونسو مكانه. فراره والتجاؤه إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث. محاولة فرناندو معاونته وفشل هذه المحاولة. استيلاء ألفونسو على شنتمرية الغرب وقضاؤه على سلطان المسلمين في أراضي البرتغال. 1 - مملكة أراجون قامت مملكة أراجون الكبرى باتحاد أراجون وقطلونية في سنة 1137 م، على يد الكونت رامون برنجير الرابع أمير برشلونة، ولما توفي هذا الأمير في سنة 1162 م، خلفه على العرش ولده ألفونسو الثاني. وبقيام هذا الأمير على رياسة أراجون، يعود إليها ثبت الملوك الأقوياء الذي انقطع بوفاة ألفونسو المحارب في سنة 1134 م. وكانت علائق قشتالة وأراجون على أتم وفاق وصفاء منذ عهد القيصر ألفونسو ريمونديس، وهكذا استمرت العلائق بينهما في عهد ألفونسو الثاني، وزميله الفتى ألفونسو الثامن ملك قشتالة. وكانت تجمع بينهما بالأخص سياسة موحدة نحو فتوح الإسترداد La Reconquista في أراضي الأندلس، وذلك وفق برنامج مشترك تحددت معالمه فيما بعد بين الملكين بمعاهدة كاسولا (سنة 1179 م) التي سبقت الإشارة إليها. وبدأ ألفونسو الثاني غزواته في الأراضي الإسلامية مبكراً، ففي سنة 1170 م سار جنوبا نحو بداية الوادي الأبيض Guadalaviar، قاصداً أن يخترق مملكة بلنسية، ولكن حال دون تقدمه من تلك الناحية، أن شنتمرية الشرق (¬1)، وما حولها من المواقع والحصون كانت يومئذ تحت حكم الفارس بيدرو دي أساجرا، وهو من أشراف نبرّة، وكان الأمير محمد بن سعد بن مردنيش قد أقطعه هذه المدينة المسلمة وحصونها، لمعاونات قدمها إليه، ولم يعترف هذا الفارس بطاعة أراجون ولا قشتالة، ولكنه أعلن نفسه حاكماً مستقلا باسم " صاحب شنتمرية الشرق "، واستطاع أن يحصل على موافقة مطران طليطلة، على أن ينشىء بها أسقفية خاصة. وفي العام التالي (1171 م) خرج ألفونسو الثاني في قواته إلى الوادي الأبيض ¬_______ (¬1) وتسمى بالإسبانية Albaracin نسبة إلى بني رزين، الذين حكموها أيام الطوائف، ومن ثم فإنها تسمى كذلك شنتمرية ابن رزين

مرة أخرى، وأنشأ في تلك المرة عند منابع هذا النهر، قلعة سميت " طرويل " ومنح من يؤمها هي وأرضها من السكان النصارى، بعض المزايا المغرية، وتقوم اليوم مكانها مدينة طرويل الحديثة. وفي سنة 1172 م، خرج ألفونسو الثاني في غزوة إلى أراضي بلنسية، منتهزاً فرصة ضغط الموحدين على ابن مردنيش أمير مملكة الشرق أو الملك لوبى كما تسميه الرواية الإسبانية. وفي بعض الروايات النصرانية أن ملك أراجون وصل في زحفه حتى شاطبة وحاصرها، وأن أمير بلنسية عرض أن يدفع إليه الجزية، وأن يساعده في فتح مملكة بلنسية. والحقيقة أن القوات الأندلسية استطاعت أن ترد القوات الغازية سواء في البر أو البحر، ولم تنل القوات الأرجونية من أراضي بلنسية مأربا (¬1). وعقد ألفونسو الثاني مع زميله ملك قشتالة اتفاقا بشأن مقاطعة شنتمرية الشرق، نص فيه على أن تغدو مدينة شنتمرية الشرق ذاتها (البراثين) ملكاً لأراجون، وأن تكون حصونها ملكاً لقشتالة. وفي رواية أخرى أن الفارس بيدرو دي أساجرا صاحب شنتمرية الشرق، اعترف بطاعة ألفونسو الثامن. وفي سنة 1179 م، غزا ألفونسو أراضي بلنسية بجيش ضخم، وحاصر ثغر مربيطر. وكانت هذه الغزوات الأرجونية المتكررة لأراضي شرقي الأندلس مثار التوجس والقلق لدى قشتالة، ومن ثم فقد استدعى ألفونسو الثامن زميله ملك أراجون إلى بلدة كسولا، وعقد الملكان اتفاقهما الذي سبقت الإشارة إليه، بتقسيم مناطق الفتح في شرقي الأندلس، كما عقدا معاً حلفاً لمتابعة الحرب ضد نافارا. ولكن الأمور ما لبثت أن تطورت، وبينما نجح القشتاليون في غزو نافارا من ناحية الغرب، إذ فشل الأرجونيون وردوا إلى أراضيهم بخسارة. وقد أحدث ذلك صدى سيئاً في نفس ألفونسو الثاني، وحقد على زميله الظافر ألفونسو الثامن. ثم ذهب إلى أبعد من ذلك فعقد حلفا مع سانشو ملك نافارا لمحاربة قشتالة (1190 م) وقد انضم إلى هذا التحالف ملكا ليون والبرتغال (1191 م)، ورأى ملك قشتالة في ذلك نذيراً خطراً، إذ كانت الأنباء تترامى إليه في تلك الآونة بالذات بما يقوم به الموحدون من استعدادات عظيمة للعبور إلى شبه الجزيرة، وقد رأينا ما انتهى إليه ألفونسو الثامن من اضطراره إلى لقاء الجيوش الموحدية في الأرك في القوات ¬_______ (¬1) راجع ص 52 من هذا الكتاب، وكذلك: A. P. Ibars: Valencia Arabe, p. 532

القشتالية وحدها، وما أصيبت به يومئذ من هزيمة فادحة (18 يوليه 1195 م)، وتوفي ألفونسو الثاني في 25 أبريل سنة 1196 م، فخلفه في مملكة أراجون وإمارة قطلونية، ولده الصبي بيدرو، وخلفه في باقي الإمارات الفرنجية، وهي روسيون وبليارش ومونبلييه وغيرها ولده ألفونسو. وبدأ الملك بيدرو حكمه تحت وصاية أمه دونيا سانشا. وكان أول ما عمله أن دعا إلى اجتماع ممثلى الأحبار والأشراف والفرسان وممثلى الولايات والمدن، بمدينة دروقة في هيئة "كورتيس ". وفي هذا الاجتماع وافق الملك على سائر الحقوق والامتيازات، التي منحها أسلافه لمختلف الهيئات والطبقات. بيد أنه سرعان ما دب الخلاف بين الملك وأمه، ثم سوى بينهما على أن تحتفظ الملكة بملكية البلاد والحصون الواقعة في قطلونية، والتي أوصى زوجها بتركها لها. وكان ثمة بين أراجون وقشتالة خلاف على بعض مواقع الحدود، فاجتمع بيدرو الثاني وألفونسو الثامن ملك قشتالة على مقربة من طرسونة (1204 م) واتفقا على التحكيم في مسائل الحدود، وقام المحكمون بالمهمة، وسوى الخلاف بين المملكتين. وقد رأينا فيما تقدم، أن الوئام كان سائداً بين أراجون وقشتالة، منذ عهد القيصر ألفونسو ريمونديس، وأن أواصر هذا الوئام قد توثقت بنوع خاص في عهد الملك بيدرو الثاني، وظهر ذلك في تحالف المملكتين على محاربة نافارا وليون، ثم ظهر في تحالفهما الوثيق ضد الموحدين في معركة العقاب (1212 م). وقد سبق أن أشرنا إلى الدور الذي اضطلع به الملك بيدرو في تلك الموقعة. وشغل بيدرو الثاني وقتا بشئون أملاكه فيما وراء البرنيه، وهي ولاية بروفانص وبعض الإمارات الفرنجية الأخرى. ولكنه ما كاد يفرغ من هذه الشئون حتى اعتزم أن يزور رومة، وكانت له في مصانعة البابوية والانضواء تحت لوائها، فكرة لم ترق لشعبه. وذلك أنه سار إلى رومة، في عدة من السفن وعرج في طريقه على جنوة وبيزة، ويقال إنه كان يرمى إلى التفاهم مع هاتين الجمهوريتين البحريتين القويتين، على الاتفاق والتحالف على غزو الجزائر الشرقية، وانتزاعها من المسلمين. أما في رومة فقد كانت له أمنية أخطر وأبعد أثراً، وذلك أنه التمس إلى البابا إنوصان الثالث أن يقوم بتتويجه، وقد استجاب البابا لرغبته ومنحه الشارات الملكية، وأسبغ عليه درع الفروسية، وقام بتتويجه في كنيسة

القديس بطرس (سنة 1204 م)، ومنحه هو وأعقابه من ملوك أراجون حق التتويج في سرقسطة عاصمة المملكة، وتعهد بيدرو نظير ذلك بأن يحمى الدين الكاثوليكى، وأن يحترم حريات الكنائس وامتيازاتها، وأن يطارد الكفرة، وأن يقيم العدل في سائر بلاده، واعترف ملك أراجون فوق ذلك بأنه تابع للبابا، وأنه يحكم أراجون وقطلونية بمثابة إقطاع من البابوية، وتعهد بأداء الجزية السنوية. وتعهد الكرسى الرسولى من جانبه بأن يدافع البابوات عن أراجون عن طريق سلطانهم الرسولى. وقد كان لذلك أسوأ وقع بين الأرجونيين والقطلان، وأنكروا على الملك أن يقوم بمثل هذا العمل دون موافقتهم، واتحد الأشراف والشعب ضد الملك، وأرغموه على أن يسحب اعترافه بالتبعية للبابوية، ومع ذلك فإن أراجون اضطرت أن تدفع إلى البابوية الجزية التي تعهدت بها. ومن جهة أخرى فقد بدأت معارضة السادة والفرسان فيما بعد لكثير من التشريعات التي حاول بيدرو سنها في شئون الضرائب وغيرها (¬1). وكان السادة والنبلاء في أراجون يبسطون سيادتهم على سائر المدن والبلاد الهامة، ويستولون على دخولها، لكي ينفقوا منها على الفرسان التابعين لهم، والذين يقودونهم في الحرب، فكان الأشراف بذلك يسيطرون على قوي المملكة العسكرية، ولا يستطيع الملك أن يفعل بذلك شيئاً لا في السلم ولا في الحرب دون مشاورتهم وموافقتهم، وكانت هذه السيادة الإقطاعية تؤول إلى عقب أصحابها. وقد بذل بيدرو جهوداً شاقة في العمل على تخفيف أوضاع هذا النظام المرهق، ونجح في أن يعدل توزيع هذه السلطات بين الأشراف بصورة أقرب إلى العدالة مع السماح لهم بتوريثها لأعقابهم، ولكنه احتفظ للعرش بالسلطات القضائية، وكان الاختصاص القضائى يمنح للأشراف والفرسان، ولا يسترد منهم إلا لسبب جوهرى، ويُزاول القضاء بالنيابة عن الملك على يد الأساقفة والأشراف. وللمحكوم عليه حق الاستئناف إلى العرش. وكان الحق الوحيد الذي يحتفظ به الأشراف لممارسة القضاء هو أن يكونوا أعضاء في مجلس الملك، أو يعينهم الملك قضاة في المدن والبلاد التي تخضع لسيادتهم. ولم يغفل بيدرو الثاني العناية بغزو الأراضي الإسلامية، وهي مهمة من مهام السياسة الأرجونية الأساسية، فخرج في حشوده سنة 1210 هـ، وسار جنوبا ¬_______ (¬1) R. Altamira: Historia de Espana, T. I. p. 345 & 346

صوب أراضي بلنسية، واستولى بمساعدة فرسان الداوية على حصن الديموس، وعدة حصون أخرى من حصون منطقة شنتمرية الشرق. واضطر بيدرو أن يتدخل في الحرب الصليبية التي شهرها سيمون دي مونفور وزملاؤه السادة الفرنسيون على الملاحدة الألبيين (¬1)، وذلك لحماية أملاكه فيما وراء البرنيه، وقد كانت مسرحا لهذه الحرب وخربت فيها عدة مدن. وكان من سوء حظه أن سقط في إحدى المواقع التي خاضها ضد سيمون دي مونفور، وذلك في 13 سبتمبر سنة 1213 م. وترك بيدرو الثاني ولداً وحيداً هو دون خايمى، وكان عند وفاته طفلا حدثاً، وكان محجوزاً لدى سيمون دي مونفور، إذ كان ثمة قبل اضطرام الخصومة بين الفريقين، مشروع لتزويج خايمى بإبنة لسيمون، ولم يفرج سيمون عن خايمى إلا بتدخل شديد من البابوية، فأفرج عنه في العام التالي (1214 م)، واستقبل الأرجونيون والقطلان ملكهم الطفل بابتهاج وحماسة. واجتمع نواب المملكة في (الكورتيس) في لاردة، واختاروا للوصاية على خايمى أستاذ فرسان الداوية جليم دي مونرادو. ولكن الأمور ما لبثت أن تعقدت إذ ثار عماه دون فرناندو ودون سانشو في محاولة لانتزاع العرش منه، ومن جهة أخرى فقد أعلن كثير من الأشراف استقلالهم، وأخذوا يحاربون بعضهم بعضاً، وعمت الفوضى في المملكة. واستطاع أنصار الملك خايمى أن ينتزعوه من وصيه أستاذ الداوية، وكان يعتقله بقلعة مونتشون، وكان قد بلغ التاسعة من عمره. واضطرم الصراع عندئذ بين حزب خايمى وبين خصومه، وكان يؤازره بالأخص الأشراف القطلان، ونواب الكورتيس، واستطاع خايمى أن يتغلب على منافسيه في العرش، بيد أنه استمر أعواما أخرى يكافح ضد الأشراف الخوارج، وانتهى الأمر بأن عقد بينهما سلم عام، وذلك في شهر مارس سنة 1227 م (¬2). وكان الملك خايمي قد بلغ عندئذ نحو العشرين من عمره. وكان يشعر عندئذ أنه بعد أن فرغ من المشاغل الداخلية، يستطيع أن يوجه عنايته إلى تحقيق أطماع الفتح، واقتطاع ما يمكن اقتطاعه من الأراضي الإسلامية في قطاع بلنسية. بيد أنه كان يتوق إلى أن يحقق قبل ذلك أمنيته في افتتاح الجزائر الشرقية. ولقد ¬_______ (¬1) راجع الهامش في ص 289 من هذا الكتاب. (¬2) A. Altamira: ibid ; T. I. p. 377 & 378

تحدثنا فيما تقدم تفصيلا عما قام به خايمى من الاستعداد لافتتاح الجزائر، وما وفق إليه من افتتاحها بين سنتى 1229 و 1232 م. أما عن قطاع بلنسية فلم يكن بخاف على خايمى، ما تجوزه بلنسية، وسائر ثغور هذه المنطقة وقواعدها، من الضعف والفوضى، وافتراق الكلمة، وتوالى المعارك الأهلية الانتحارية. ولقد تحدثنا فيما تقدم كذلك تفصيلا عن حملات خايمى المتوالية على أراضي بلنسية، وافتتاحه تباعا لثغور الشرق وقواعده، وفوزه أخيراً بالاستيلاء على ثغر بلنسية العظيم وذلك في صفر سنة 636 هـ (أكتوبر سنة 1238 م)، ثم استيلائه بعد ذلك على دانية، ثم شاطبة، وجزيرة شقر، وغيرها من قواعد هذه المنطقة، مما كان يدخل في نطاق الفتوحات الأرجونية، وفقاً للاتفاقات التي عقدت لتقسيم مناطق الفتح، في شرقي الأندلس، بين أراجون وقشتالة، وهو ما سبقت الإشارة إليه في موضعه. وأما مرسية وأحوازها، فقد كان من المتفق عليه أن يكون ضمن حظيرة الفتوح القشتالية. وقد أعلنت مرسية خضوعها بالفعل لملك قشتالة فرناندو الثالث منذ سنة 1241 م، واستقرت فيها حامية قشتالية صغيرة، ولكنها لبثت حينا تستقل بشئونها الداخلية، ويحكمها أعقاب بني هود وغيرهم من الزعماء المسلمين، حسبما سبق أن فصلناه. ولكن تطور الحوادث في مملكة بلنسية واضطراب الأحوال فيها، وثورة المدجَّنين بها، حملت ملك أراجون دون خايمى إلى أن يسعى إلى افتتاح مرسية، وذلك بالاتفاق مع صهره، زوج ابنته ألفونسو العاشر ملك قشتالة، وكانت ظروفه غير مسعفة له على القيام بهذا الفتح، وكان الملك خايمى يخشى من أن مرسية إن بقيت تحت حكم زعمائها المسلمين، تغدو مصدر خطر على سلامة بلنسية، ومن ثم فقد زحف خايمى في قواته على أراضي مرسية واحتل لقنت وألش وغيرهما من قواعدها الأمامية، ثم استولى على مرسية ذاتها، وذلك في سنة 1266 م (665 هـ) وانتهى بذلك حكم المسلمين في شرقي الأندلس. وحاول خايمى بعد ذلك أن يسير إلى المشرق في حملة صليبية، وجهز بالفعل جيشاً وأسطولاً لتلك الغاية، وخرج في قواته البرية والبحرية متجهاً إلى الشرق في سنة 1269 م، ولكن العواصف الجامحة حطمت معظم السفن الأرجونية، ودفعت بباقيها إلى الشاطىء الفرنسى، فعدل الملك خايمى عن مشروعه وسارت بضع سفن فقط، بها قوة صغيرة من القطلان والأرجونيين وفرسان شنت ياقب،

ووصلت إلى ثغر حيفا بالشام، وانضمت إلى من كان هناك من القوات الصليبية في محاربة المسلمين. وكان الملك خايمي، طوال حكمه، يعانى من عنت النبلاء، ومعارضتهم لكثير من تصرفاته ومشاريعه، وقد لبث معهم في صراع مستمر، لكي يتغلب على عنتهم، ويحطم سلطانهم الإقطاعى القوي، ولكنهم قاوموه، ووقعت الحرب الأهلية بين الفريقين، ولم يهدأ ذلك الصراع إلا حينما تفاقمت الأحوال في مملكة بلنسية، واشتدت بها ثورات المدجنين، وخشى أن يؤدي ذلك إلى ضياع الفتوحات الأرجونية. وتوفي الملك خايمي في 27 يوليه سنة 1276 م، بعد حكم طويل استطاع فيه أن يضاعف رقعة مملكته أراجون، وأن يقضى على دولة الإسلام في الجزائر وشرقى الأندلس، وهو ما لقب من أجله " بالفاتح ". ويعتبر خايمى الأول مؤسس مملكة أراجون الحقيقي، وموطد استقلالها، وقد قاوم في هذا السبيل مطامع البابوية، ورفض أن يعترف لها بأي نوع من التبعية كما فعل أبوه. وقد عمل كثيراً لإصلاح القوانين، وتنظيم الإدارة والشئون المالية بالمملكة، بيد أنه يوصف بالقسوة وغلبة الشهوات عليه، ومما يؤثر عنه أن كتب تاريخا لحكمه (¬1). ولما توفي خايمي قسمت مملكته بين ولديه، فتولى حكم أراجون وقطلونية وبلنسية ولده الأكبر بيدرو، وتولى حكم الجزائر والإمارات الفرنجية فيما وراء البرنيه، ولده الأصغر خايمى، على أن هذا التقسيم لم يدم طويلا. 2 - مملكة نافارا (نبرَّة) لبث الصراع قائماً دون انقطاع بين نافارا وبين جارتيها من الجانبين، أراجون وقشتالة. وقد تتبعنا فيما تقدم مصاير نافارا، منذ اتحادها مع أراجون تحت حكم ألفونسو المحارب، ثم انفصالها بعد ذلك عند وفاته في سنة 1134 م واستئنافها لحياتها المستقلة، تحت حكم ملكها غرسية راميريس حفيد سانشو الكبير. ولما توفي غرسية في سنة 1150 م، خلفه ولده سانشو السادس الملقب بالعالم. وقد خاض سانشو ضد قشتالة وأراجون بعض الأحداث المماثلة، إذ كان التربص بنافارا سياسة مرسومة تنفذ بالاعتداء عليها كلما سنحت الفرص. وعقد السلم حيناً بين قشتالة ونافارا، نتيجة لتدخل هنري الثاني ملك انجلترا، وتسوية ¬_______ (¬1) ويسمى تاريخ الملك خايمي Historia del Rey don Jaime

المشاكل الإقليمية بينهما بصورة ارتضتها كل من البلدين (¬1). واستطاع سانشو بعد ذلك أن يتفرغ حينا لمعالجة الشئون الداخلية لمملكته، فأصدر لمختلف المدن طائفة من القوانين البلدية، وعنى بتنظيم التجارة وتوطيد الرخاء والأمن. ولما توفي سانشو السادس خلفه على العرش ولده سانشو السابع الملقب بالقوى El Fuerte. وقد خاض سانشو السابع نفس المعارك القديمة ضد أراجون وقشتالة وذلك حسبما فصلنا فيما تقدم. وقد أشرنا كذلك إلى ما سعى إليه سانشو من محالفة الموحدين والاستنصار بهم ضد ملكى قشتالة وأراجون، بعد أن تكرر ائتمارهما بنافارا واعتداءاتهم عليها، واقتطاع أراضيها من الجانبين، وإلى ما حدث بعد ذلك من تقارب بين ملوك اسبانيا النصرانية، ومن عقد الوئام والتحالف بين ملك قشتالة ألفونسو الثامن، وسانشو السابع وذلك في اجتماع وادي الحجارة في سنة 1207 م، ثم عقد السلم والتحالف كذلك بين ملكى نافارا وأراجون، وما كان لذلك من أثر في اجتماع كلمة الملوك النصارى، على لقاء الموحدين في جبهة موحدة في معركة العقاب (1212 م)، وهي التي خرجت منها الجبهة النصرانية مكللة بغار الظفر الباهر. وقد شاء القدر أن تتطور مصاير نافارا على يد سانشو السابع. ذلك أنه لبث قائماً على عرشها بعد موقعة العقاب زهاء عشرين عاما أخرى. وكانت تزعجه مسألة وراثة العرش، لأنه لم يعقب بالرغم من زواجه. وكان يبغض مرشح العرش الوحيد وهو تيوبالدو ابن أخته الأميرة بلانكا وتيوبالدو الرابع كونت شامبانيا. وفي أواخر أيامه ارتد مريضاً إلى تطيلة، وبعث إلى ملك أراجون خايمى الأول يعرب له عن رغبته في تبنيه، وترشيحه لخلافته على العرش، فوافاه ملك أراجون، وعقدت بينهما في تطيلة معاهدة لتحقيق هذا الغرض (فبراير 1231). ثم توفي سانشو بعد ذلك بثلاثة أعوام (1234 م). على أن خايمى لم يحاول أن ينفذ معاهدة تطيلة، ولا أن يسعى للجلوس على عرش نافارا. ذلك أنه كان مشغولا بافتتاح مملكة بلنسية، وبمسائل داخلية كثيرة أخرى، وكان يخشى أن يعرضه الطموح إلى عرش نافارا لمشاكل كثيرة لا قبل له بها، ومن ثم فقد آل عرش نافارا إلى الكونت تيوبالدو دي شمبانيا، ابن أخت سانشو، وكان هذا التحول أول خطوة في انسلاخ نافارا عن حظيرة الممالك الإسبانية النصرانية، ووقوعها تحت نفوذ فرنسا، وابتعادها عن الاندماج في مشاكل شبه الجزيرة الإسبانية. واستمر ¬_______ (¬1) راجع ص 585 و 586 من هذا الكتاب

حكم تيوبالدو حتى وفاته في سنة 1253 م. وكانت وفاته بالمشرق في الحرب الصليبية السادسة. وكانت أيام حكمه مليئة بالاضطرابات، والخلاف مع شعبه، لأنه لم يتبع في الحكم قواعده المأثورة، ولم يفهم روح الشعب النافارى. وترك تيوبالدو، ولده تيوبالدو وارث العرش طفلا في الخامسة من عمره تحت وصاية أمه الملكة مرجريتا. وعندئذ رأت مرجريتا، اتقاءا لمطامع قشتالة القديمة، أن تضع المملكة تحت حماية خايمى الثاني ملك أراجون، وقطع خايمى على نفسه العهد بحماية نافارا من كل أعدائها، وأن يزوج ابنته كونستنزا لتيوبالدو، فإذا توفي، تزوجت من أخيه الأصغر إنريكى. وتعهدت الملكة مرجريتا من جانبها أن تقف نافارا إلى جانب أراجون ضد سائر أعدائها خلا ملك فرنسا وامبراطور ألمانيا. ووقع ما توقعته الملكة مرجريتا، وقام ملك قشتالة بمهاجمة نافارا، وهرع خايمى في قواته لحمايتها وفقاً لعهوده، وكادت الحرب تنشب بين الملكين بالرغم مما كان يربطهما من رباط المصاهرة الوثيق، ولكن تدخل الأحبار، وعقدت الهدنة بين الفريقين، وهكذا استطاع الملك تيوبالدو الثاني أن يحكم مملكته في سلام (¬1). ولم يتزوج تيوبالدو إبنة الملك خايمى، ولكنه تزوج إبنة لويس التاسع ملك فرنسا (القديس لويس)، وصحبه إلى المشرق، وخاض معه الحرب الصليبية السابعة، ثم صحبه إلى تونس وتوفي هنالك سنة (1270 م). وحل محله في الحكم أخوه إنريكي الأول خلال غيابه، فلما توفي أعلن ملكاً لنافارا، واستمر في الحكم أربعة أعوام أخرى ثم توفي سنة 1274 م. واستمرت نافارا بعد ذلك عصراً تحت حماية فرنسا. 3 - مملكة البرتغال تحدثنا فيما تقدم من تاريخ الممالك النصرانية، عن نشوء مملكة البرتغال، ثم اشتداد ساعدها وتوطد أمرها، في ظل ملكها ألفونسو هنريكيز، وكيف استطاع هذا الملك أن يوطد استقلال مملكته، وأن يحميه ضد دعاوى قيصر قشتالة في السيادة. وقد كان للبابوية، فضل معاونته على اتخاذ صفة الملك المستقل، ومن ثم فقد كان للبابوية نفوذها على العرش البرتغالي. وقد أبدى ألفونسو هنريكيز فوق ذلك، غيرة ملحوظة في إنشاء جماعات الفرسان الدينية، للاستعانة بها في محاربة المسلمين وقام بتنظيم وراثة العرش، ووضع القوانين المدنية والجنائية التي تكفل تحقيق العدل. ¬_______ (¬1) M. Lafuente: ibid ; T. IV. p. 120 & 121 - Altamira: ibid ; T. I. p. 390 & 391

وكرس ألفونسو هنريكيز معظم نشاطه لغزو الأراضي الإسلامية، وبدأ بمحاصرة أشبونة وافتتاحها (1147 م)، ثم استولى في نفس الوقت على مدينة شنترين حصنها الشمالي، واستولى على ثغر قصر الفتح أو قصر أبي دانس في سنة 1160 م، ولبث في أيدي البرتغاليين، حتى قام الخليفة يعقوب المنصور باسترداده في سنة 1191 م، ثم غزا بطليوس في سنة 1169 م، واستولى عليها بالفعل، ولكن الموحدين استردوها في الحال بمعاونة حليفهم فرناندو الثاني ملك ليون، واستولى أخيراً على مدينة باجة في سنة 1177 م. وقد أتينا على تفاصيل هذه الغزوات كلها في مواضعها من الكتاب. ولما توفي ألفونسو هنريكيز في شهر ديسمبر 1185 م، خلفه ولده سانشو الأول. وكان سانشو كأبيه يضطرم حماسة لغزو الأراضي الإسلامية، والقضاء على بقايا الحكم الإسلامي في البرتغال، فقضى أعوام حكمه الأولى في إصلاح البلاد والحصون التي خربتها الحرب، ثم زحف نحو الجنوب، وقام بمحاصرة مدينة شلب أهم القواعد الإسلامية الباقية وافتتاحها، وذلك بمعاونة القوات الصليبية المسافرة إلى المشرق (سنة 1189 م) ولكنه لم يستطع الاحتفاظ بها أكثر من عامين، إذ قام الخليفة المنصور باستردادها من أيدي البرتغاليين في سنة 1191 م، وكان قد غزا أراضي البرتغال قبل ذلك، وقام بزحفه المظفر نحو الشمال (¬1). ولم تقع خلال حكم سانشو حوادث خارجية ذات شأن، وهدأ الصراع حيناً بين البرتغاليين والمسلمين. ولبث المسلمون عصراً آخر يحتلون الرقعة الجنوبية من البرتغال، تتوسطها مدينة شلب، والرقعة المتصلة بولاية الغرب، وبها ميرتلة وعدة قواعد أخرى، وشغل سانشو معظم أعوام حكمه بما نشب بينه وبين البابوية من خلاف، أولا يسبب رفضه لأداء الجزية، التي تعهد والده ألفونسو هنريكيز بأدائها للكرسى الرسولى، نظير حمايته ضد دعاوى قشتالة، وثانيا بسبب النزاع المستمر بينه وبين الأحبار، ولاسيما أسقف بورتو، وأسقف قلمرية. وقد أصدر الأساقفة ضده أكثر من قرار بالحرمان الكنسى، وتوفي في مارس سنة 1211 م، ولم يرفع عنه قرار الحرمان إلا بعد موته. فخلفه ولده ألفونسو الثاني وهو الملقب بالبادن لبدانته المفرطة. وفي بداية حكمه نشب الخلاف بينه وبين أخواته. وكان والدهن قد أوصى لهن ببعض القلاع والأراضي، وأبين ¬_______ (¬1) راجع ص 170 - 174، وص 187 و 188 من هذا الكتاب

أن يعترفن بسيادة أخيهن عليها، وقصدن إلى البابا لحمايتهن، ثم نشبت الحرب بعد ذلك بين الملك والأميرات، وتدخلت البابوية في الأمر، وأصدر مندوبو البابا قراراً بالحرمان ضد الملك، وكاد النزاع يتفاقم. وأخيراً تدخل البابا، وألغى قرار الحرمان، وقضى بأن يُعهد بالأماكن المتنازع عليها إلى فرسان الداوية على أن تكون خاضعة لسيادة الملك، وأن يعطى دخلها للأميرات، فارتضى الطرفان هذا الحل وعاد السلام إلى المملكة. وكان أهم حدث حربي وقع في عصر ألفونسو الثاني، هو استيلاؤه بمعاونة القوات الصليبية المتجهة إلى المشرق، على ثغر قصر أبي دانس، وذلك في سنة 1217 م (614 هـ) وذلك حسبما فصلناه في موضعه. وفي الأعوام الأخيرة من حكم ألفونسو، عاد النزاع بينه وبين البابوية بسبب مطاردته لمطران براجا، واعتدائه على امتيازات رجال الدين، وتدخل البابا مرة أخرى وهدد الملك بالحرمان، ولكنه لم يذعن للوعيد، وما لبث أن مرض وتوفي في مارس سنة 1223 م. فخلفه ولده سانشو الثاني، وبدأ حكمه بأن عقد مجلساً نيابياً في قلمرية عنى بتسوية النزاع بين العرش ورجال الدين، وكذلك عقد الصلح بين الملك وعماته الأميرات وقرر أن يمنحهن مخصصات مجزية، على أن يعترفن بطاعته، وأن تؤول الأراضي والحصون التي لهن بعد وفاتهن إلى العرش. ثم تأهب سانشو بعد ذلك لمنازلة المسلمين، وانتزاع ما بقى بأيديهم من أراضي البرتغال. فاستولى على إلفاس (1226 م)، وافتتح حصني شربة وجلمانية وغيرهما من حصون الحدود الواقعة على ضفة وادي يانه. ثم استولى على ميرتلة، وسلمها لفرسان شنت ياقب، واستولى على شلب (1242 م) ثم استولى أخيراً على ثغر طبيرة (1243 م) في الجنوب، وكان سانشو يستعين في معظم فتوحه بالصليبيين الوافدين، وكانت البابوية، تمده بعونها الأدبى، وتسبغ الصفة الصليبية على حروبه ضد المسلمين. على أن سانشو لم يوفق إلى تدعيم السلام في مملكته. ذلك أن النزاع عاد يضطرم بينه وبين رجال الدين، لأسباب عديدة تلخص في محاولة العرش أن يحتفظ بسلطاته الدنيوية والقضائية، ومحاولة رجال الدين أن يحافظوا على سلطانهم وامتيازاتهم، واختصاصاتهم القضائية. وكانت مبالغة الأحبار في توسيع امتيازاتهم، ينعكس أثرها على امتيازات الأشراف، فيضطر العرش إلى إرهاقهم

بمطالبه المالية والعسكرية، فكانت منهم كذلك طائفة كبيرة تنقم على العرش هذا الإرهاق، وكان سانشو يشعر بقصوره عن إخماد هذه النزعات الثورية ضد العرش، خصوصاً وأن البابوية كانت دائماً تصغى إلى شكوى الأحبار وتحريضهم. ومن جهة أخرى فإن سانشو كان دون ولد، وكان أخواه ألفونسو وفرناندو وعمه بيدرو، جميعاً يمالئون الحركة الثورية، سعياً إلى انتزاع العرش من سانشو، وكان أكثر هؤلاء حظاً من التأييد الإنفانت ألفونسو، وكان قد تزوج من الأميرة ماتيلدة صاحبة بولونيا بإيطاليا، وغدا بزواجه أميراً لهذه الولاية، وكان الأحبار، والأشراف الثوار يرون فيه أداة صالحة لتنفيذ خطتهم، خصوصاً وأنه كان يتمتع بعطف البابوية. وانتهى الأمر بأن نجح هؤلاء في سعيهم لدى البابوية، وأصدر البابا إنوصان الرابع في يوليه سنة 1245 م، قرارا بإقالة سانشو الثاني وتنصيب أخيه ألفونسو مكانه في العرش. فقطع ألفونسو على نفسه عهداً باحترام امتيازات رجال الدين، وركب البحر مع طائفة من الأحبار والأشراف البرتغاليين إلى ثغر أشبونة، وفي الحال أعلن ملكاً، واضطر سانشو إلى الفرار، والالتجاء إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث، فوعده بتأييده، وبعث معه ولده ألفونسو في جيش جهزه لمقارعة خصومه، ولكن هذه المحاولة انتهت بالفشل، حيث استطاع ألفونسو ملك البرتغال الجديد، أن يقنع الأمير القشتالي، بأنه ارتقى العرش بأمر الكرسى الرسولى، وأن معظم الأحبار والأشراف والشعب إلى جانبه، فارتد القشتاليون أدراجهم دون قتال، وارتد سانشو معهم ليقضى أعوامه الأخيرة، في طليطلة، وهناك توفي في يناير سنة 1248 م. وتأهب ألفونسو الثالث، بعد أن اطمأن إلى توطيد عرشه، إلى إتمام فتوح ما تبقى بأيدى المسلمين من أراضي البرتغال، وبدأ بحصار قلعة فارو أو شنتمرية الغرب، واستولى عليها في سنة 1249 م، ولم يكن بهذه القواعد الإسلامية الأخيرة سوى حاميات ضئيلة من الموحدين وغيرهم، ثم استولى ألفونسو تباعا على سائر ما كان باقيا بأيدى المسلمين من القواعد، والحصون بهذه المنطقة وبذلك تم القضاء على سلطان المسلمين نهائيا من الأراضي البرتغالية، ولم يكتف ألفونسو الثالث بذلك بل عبر في قواته نهر وادي يانه، ومضى في فتوحه في أراضي ولاية الغرب الأندلسية، ولكنه اضطر فيما بعد أن ينزل عما فتحه من الأماكن في تلك المنطقة لملك قشتالة، إذ كانت داخلة في نطاق الفتوح القشتالية

الكتاب الثانى عشر نظم الدولة الموحدية وخواص العصر الموحدى.

الكتاب الثاني عشر نظم الدولة الموحديّة وخواص العصْر الموحدي

الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس

الفصل الأول الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس وأوضاعها السياسية والعسكرية والإدارية الدولة الموحدية وقيامها على أسس دينية. الفرق بينها وبين الدولتين المرابطية والفاطمية. الحكومة الإمامية في عهد المهدي. تحول الإمامة الموحدية إلى خلافة دنيوية. صفة الإمامة الشكلية. الأساس القبلى لهيكل الدولة الموحدية. قبائل المصامدة وغيرهم. غلبة نفوذ المصامدة في تسيير الدولة. تصنيف عبد المؤمن لطوائف الموحدين. وضع أسس الحكم الدنيوى الجديد. تخليده في بني عبد المؤمن. اختيار عبد المؤمن لولى عهده. زعمه بأنه يحقق بذلك رغبة القبائل البربرية والعربية. تعيينه أولاده لحكم الولايات. اختصاصهم وأعقابهم بلقب السادة. إيثار القرابة والأصهار بمناصب الحكم والوزارة. ولايات المغرب والأندلس في ظل الدولة الموحدية. إشبيلية قاعدة الحكم الموحدي بالأندلس. بواعث هذا الاختيار. الأسس الأولى للحكم الموحدي حسبما وردت في رسالة عبد المؤمن. ظهور الخلافة الموحدية بحرصها على توطيد العدل. الوزارة الموحدية. نظامها أيام المهدي. خطة الوزارة منذ عبد المؤمن. الوزارة والكتابة. اضطلاع الأبناء والقرابة بالوزارة والحجابة. تعيين الوزراء العاديين. اختيارهم من خاصة القبائل الموحدية. الكتابة من أهم الخطط. اختيار أكابر الكتاب لهذه الخطة. معظمهم من أهل الأندلس. بعض الكتاب الأندلسيين والمغاربة. الخلفاء المتعاقبون وكتابهم. حرص الخلافة الموحدية على بلاغة الترسل. العلامة وديوان العسكر. منصب أشغال البرين وأهميته. وزراء الشئون المالية. ديوان الأعمال المخزنية واختصاصاته. متولى المجابى. متولى المستخلص. صاحب الشرطة. منصب مقدم إرسال ملوك الروم وإنزالهم والترجمة عنهم. سياسة الموحدين في شئون الجباية. رسائل عبد المؤمن في ذلك. تضخم الدولة وتطور سياسة الضرائب. تكسير عبد المؤمن لأراضي الدولة. فرض الخراج وغيره من المكوس. مضاعفة وزن الدينار الموحدي. الأحوال الاقتصادية في بداية الدولة. خراب إفريقية وأثره في تحطيم رخاء المغرب. موقعة العقاب وآثارها الاقتصادية المدمرة. اضطراب شئون الخلافة وأثره. عيث العرب وقبائل البربر. القحط والغلاء. تردد صدى هذه المحن بالأندلس. الحروب الأهلية وغزوات النصارى وآثارها المدمرة. المناصب الدينية. القضاء والتعيين في مناصبه. استئثار قضاة الأندلس بمناصبه في بلادهم. توليهم أحيانا قضاء الجماعة بالمغرب. خطة الشورى. خطة الأحكام. خطة المواريث. حسبة السوق. منصب الخطابة. صاحب الصلاة. متولى شئون طلبة الحضر. تحول الخلافة إلى ملك دنيوى. الاحتفاظ برسوم المهدي. تطور الفكرة المذهبية في عصر المنصور. مرسوم المأمون بإزالة رسوم المهدي ومحو أسطورته. فتكه بالزعامة الموحدية. الرشيد وعوده إلى استرضاء الأشياخ. إعادته لرسوم المهدي. القوة العسكرية الموحدية. الحشود القبلية مصدرها الرئيسي. بداية حشدها أيام المهدي. علم المهدي الأبيض. تضخم الجيوش في عهد عبد المؤمن. تأليف عبد المؤمن للحشود القبلية وتنسيقها. طريقة مسير الجيوش الموحدية. سلا ورباط الفتح مركز

لتجمع الجيوش الموحدية. مراكز التموين. طريق العبور إلى شبه الجزيرة. خطة المربع الموحدي ومنعتها. طوائف العرب بعد الحشود القبلية. عبد المؤمن يضع خطته لاستمالة العرب. مساعى ولده الخليفة أبي يعقوب في ذلك. العرب يؤلفون جناحا خاصا في الجيوش الموحدية. هدف السياسة الموحدية في حشد العرب. تقلبهم وعدم ولائهم. دورهم في الحرب الأهلية. القوات الأندلسية ودربتها وولاؤها. الخليفة قائد الجيش العام. المؤتمرات الحربية. ساقة الجيش وقبة الخليفة. الاستعانة بالمرتزقة النصارى. البنود والطبول. الإنعام والبركات. المطوعة ونظامهم. القوي البحرية. عناية الموحدين بإنشاء القطائع. أهمية الأسطول ودوره في حماية الشواطىء. مراسى الأسطول. إدارة شئون الجيش. ديوان العسكر. ديوان التمييز. التمييز وتطور غايته. الحج إلى تينملل. الثغرات في الجيش الموحدي. فوضى القيادة. اختلال التموين. تفوق الموحدين في فنون الحصار والآلات المدمرة. المدافع البدائية. تفوقهم في فن التحصينات. موقعة العقاب وانهيار الدفاع بالأندلس. انشغال الموحدين بالتنافس على الخلافة. توثب الممالك النصرانية. الحكومة الموحدية بالأندلس. ميلها إلى الطابع المدنى. أقسام الأندلس الإدارية. السادة والقرابة يتولون حكم الولايات. إشبيلية مركز الحكم الموحدي والحاكم العام. البلاط الموحدي بإشبيلية. حكومات الولايات المحلية. عناصر هذه الحكومات. استخدام السادة لكتاب الأندلس. إشبيلية مركز تجمع الجيوش المحلية الغازية. القوات الأندلسية. قيادتها ودورها في الدفاع والحراسة. مملكة الشرق. احتفاظها بالطابع الأندلسي. كونها أول مركز لقيام الحركات القومية. اللون الانتحارى لهذه الحركات. مصانعة زعمائها للنصارى واستمدادهم. حكومة إشبيلية بعد انهيار سلطان الموحدين. الاضطراب والفوضى في الأندلس. الآن وقد انتهينا من استعراض تاريخ الدولة الموحدية، بالمغرب والأندلس، منذ قيامها على يد إمامها المهدي ابن تومرت، حتى انحلالها وسقوطها، على يد آخر خلفائها، أبي العلى إدريس الملقب بأبي دبوس، فيما يملأ نحو قرن ونصف قرن، نحاول في هذا الفصل، أن ندرس طبيعة النظم، التي سارت عليها الدولة الموحدية، في حكم تلك الإمبراطورية العظيمة، خلال هذا المدى الطويل من الزمان. قامت الدولة الموحدية، حسبما رأينا، على أسس دينية محضة، وهي في ذلك قرينة الدولة المرابطية، التي قامت كذلك على أسس دينية. ولكن شتان بين الحالتين. ذلك أن الأساس الدينى، الذي قامت عليه الدولة المرابطية، كان أساس العقيدة الدينية، والجهاد في سبيل نشرها. ولكن الدولة الموحدية، تمتاز باستنادها إلى أسس الإمامة الدينية، ونظرية المهدي المنتظر، وهي في ذلك تضارع الدولة العبيدية الفاطمية. بيد أنها بالرغم من اشتراكها مع الدولة الفاطمية في وحدة المصدر، وهو الدعوة الشيعية، تمتاز باستقلالها عن الحركة الشيعية المشرقية، وبصفتها المغربية المحلية. وامتازت رياسة الدولة الموحدية، في البداية، بإمامة منشئها المهدي

ابن تومرت، ولم تتخذ في حكمها مدى العشرة أعوام، التي لبثها المهدي على رياستها أي طابع آخر، وكانت هذه الإمامة مصدر السلطات الدينية والسياسية معاً. وكانت الحكومة الموحدية عندئذ، عبارة عن ثيوقراطية (حكومة دينية) يعاون الإمام فيها، صحبه العشرة الأوائل، المسمون بالجماعة، فيما يمكن أن نصفه بالوزارة، وكان هؤلاء يضطلعون بمشورة الإمام في جلائل الأمور، بيد أنه كان يوجد إلى جانب هؤلاء، أفراد آخرون من ذوى النفوذ، كان الإمام يرجع إليهم في تدبير الشئون، وذلك حسبما يخبرنا ابن القطان (¬1)، ثم كان هناك من صحب المهدي أهل خمسين، وهؤلاء يشتركون في بحث الشئون الأقل أهمية، ثم أهل سبعين، ويشتركون أيضاً في بحث الشئون العادية. فلما توفي المهدي، في رمضان سنة 524 هـ (أغسطس سنة 1130 م) عقب هزيمة أنصاره الساحقة في موقعة البحيرة، بأشهر قلائل، وخلفه في رياسة الموحدين كبير صحبه وآثرهم لديه عبد المؤمن بن علي، وبزغ نجم الموحدين بعد ذلك على يد عبد المؤمن، واستمروا في صراعهم ضد المرابطين، حتى انتهوا بسحق دولتهم، وذلك بالاستيلاء على حضرة مراكش، في شوال سنة 541 هـ (مارس 1147 م)، واستكملت الدولة الموحدية بذلك سيادتها، على سائر أنحاء المغرب، لم يكن ثمة بد، من أن تتحول الإمامة الموحدية إلى خلافة دنيوية. وبالرغم من أن الإمامة الموحدية، لم تفقد في ظل هذا التحول صفتها الدينية، ولا اعتبارها كشعار للدولة الموحدية، فإنها لم تكن عندئذ سوى عنوان إسمى يتوج الخلافة الجديدة. والواقع أن الخليفة عبد المؤمن، هو المنشىء الحقيقي للدولة الموحدية الكبرى، وعلى يديه، توطد سلطانها بالمغرب وإفريقية والأندلس، وفي ظله تحولت الخلافة الموحدية شيئاً فشيئاً، من إمامة دينية إلى ملك سياسى باذخ، وذلك مع الاحتفاظ دائماً برسوم الإمامة المهدية، وتعاليم المهدي الدينية، والدعاء له في الخطبة، وفي المكاتبات الرسمية، ووصفه دائما "بالإمام المعصوم، المهدي المعلوم ". ومن ذلك الحين، نستطيع أن نتتبع ملامح النظم الموحدية، وطبائع الحكم الموحدي، بصورة واضحة. ويجب أن نذكر أولا، أن هيكل الدولة الموحدية الأساسى، كان يقوم منذ البداية، على أسس قَبَلية، وذلك سواء من الناحية المدنية أو العسكرية. وكانت القبائل، التي يرتكز إليها هذا الهيكل، ينتمي ¬_______ (¬1) نظم الجمان (المخطوط السالف ذكره، لوحة 10 ب و 33 ب) وراجع ص 196 من هذا الكتاب

معظمها إلى مصمودة، ومنها القبائل السبع الأولى، التي اتسمت بالصفة الموحدية، وكانت أسبق القبائل إلى مبايعة المهدي، وهي هرغة قبيلة الإمام المهدي ذاته، وهنتاتة، وأهل تينملل، وجنفيسة، وهزرجة، وجدميوة، ووريكة، ويلحق بهذه القبائل التي اكتسبت قبل غيرها صفة التوحيد، قبلة كومية وهي قبيلة الخليفة عبد المؤمن، وكذلك مجموعة أخرى من قبائل المصامدة القوية، مثل هسكورة، ودُكاله، وهيلانة، وحاحة، وغيرها، ومن غير المصامدة، زناتة تيفسرت وصنهاجة القبلية (¬1). وقد انضم بعض هذه القبائل، إلى العصبة الموحدية بطريق الفتح، مثل هسكورة وحاحة. وكان سلطان الدولة الموحدية يقوم على تأييد هذه القبائل، وتستأثر القبائل الموحدية السبع في الدولة، بأكبر قسط من النفوذ، وتحتل معظم المناصب الكبرى، من الوزارة والولاية والقيادة، وتغذى هذه المجموعة الكبيرة من القبائل الجيوش الموحدية الجرارة، بحشودها الزاخرة المدربة على القتال. وقد وضع عبد المؤمن لتنظيم الموحدين نظاماً جديداً غير الذي وضعه المهدي ابن تومرت من قبل، وكان المهدي حسبما تقدم في موضعه، قد جعل من الجماعة أو الصحب العشرة، رأس الطوائف الموحدية، ومن بعدهم أهل خمسين ثم أهل سبعين، فطلبة العلم، فالحفاظ، فأهل الدار. بيد أنه لما تعاقبت الحوادث، وفُقد الكثير من أهل الجماعة، وأشياخ الموحدين، رأى عبد المؤمن أن يصنف الموحدين، إلى ثلاث طوائف: الأولى هي طائفة السابقين الأولين، وهم الذين سبقوا إلى مبايعة الإمام المهدي، وصحبوه أو غزوا معه، أو صلّوا خلفه، والذين اشتركوا في موقعة البحيرة الفاصلة. والثانية هي طبقة الموحدين، ممن دخلوا في زمرة الموحدين، منذ موقعة البحيرة حتى فتح وهران. والثالثة هي طبقة الذين دخلوا في التوحيد، منذ فتح وهران إلى ما هلم جرا، وهذا كله مع المحافظة على هيكل النظام القبلى الذي تقدم شرحه (¬2). ولما توطد سلطان الخليفة عبد المؤمن، بما تم له من استكمال فتوح المغرب والأندلس، وإخضاع سائر القبائل الخصيمة، وغلب لون الخلافة الدنيوى، بتضخم صرحها السياسي، وتحولت في الواقع إلى ملك باذخ، وضعت القواعد الأولى لتنظيم هذا الملك، وتخليده في بني عبد المؤمن، كما وضعت الأسس التي ¬_______ (¬1) يقدم إلينا البيذق في أخبار المهدي ابن تومرت تفصيلا شاملا لبطون هذه القبائل (35 - 43). (¬2) راجع الرسالة الثانية عشرة من رسائل موحدية ص 53 و 54، وراجع أيضاً ص 398، 399 من هذا الكتاب

تحكم بمقتضاها، أقطار الدولة الموحدية وشعوبها. وبدأ عبد المؤمن في ذلك، باختيار أكبر أولاده أبي عبد الله محمد لولاية عهده (سنة 549 هـ)، وقد أوضحنا فيما تقدم كيف اختير عبد المؤمن للخلافة، عقب وفاة المهدي، وما أحاط بذلك الاختيار من ظروف خاصة. ولم يكن ثمة ما يؤذن عندئذ أو يسمح للخليفة، بأن يجعل من الخلافة أمراً وراثياً في عقبه، ومن ثم فقد أبدى عبد المؤمن، في رسائله الرسمية عن ولاية العهد، أنه لم يكن له في ذلك رغبة خاصة، وإنما حمل على تصرفه برغبة القبائل والعشائر البربرية والعربية المختلفة، وهي التي دفعته، إلى القيام باختيار ولده لولاية العهد. وقام عبد المؤمن في نفس الوقت باتخاذ الخطوة الثانية، لتنظيم الحكم، وتوكيد سيادة بني عبد المؤمن. فعين بقية أولاده، لحكم ولايات المغرب والأندلس، وذلك حسبما فصلنا في موضعه. وكان أولاد الخليفة ينعتون هم وأعقابهم بالسادة، وهو لقب اختصوا به طوال أيام دولتهم. وقد جرت الخلافة الموحدية، على نسق الدولة المرابطية، في تعيين الأبناء والقرابة والأصهار، لحكم الولايات والمدن، وأحيانا للقيادة والوزارة، هذا مع تعيين بعض الأشياخ والحفاظ المقربين أحيانا، في هذه المناصب الكبرى. وقد حرصت الخلافة الموحدية، على هذه القاعدة، حتى أواخر أيامها، سواء في المغرب أو الأندلس. وكانت ولايات المغرب أو عمالاته، في ظل الخلافة الموحدية، تشمل بلاد السوس، وسجلماسة، ومراكش، وفاس، وتلمسان، وبجاية، وإفريقية، ثم سلا فيما بعد، وكانت سبتة، أحيانا ولاية مستقلة، وأحيانا تلحق بمالقة والجزيرة الخضراء. وأما ولايات الأندلس، فكانت تشمل ولاية الغرب (شلب وأحوازها)، وإشبيلية، وقرطبة، وجيان، وغرناطة، ومالقة، ومرسية، وبلنسية. وكانت قاعدة الحكومة الموحدية بالأندلس أولا إشبيلية، وذلك لأنها كانت أول قاعدة أندلسية كبرى، نادت بطاعة الموحدين، وبعثت بيعتها إلى عبد المؤمن على يد وفد من أعيانها، وثانيا لأنها كانت أول قاعدة كبرى استولى الموحدون عليها، ولكن عبد المؤمن، قبيل وفاته بقليل، أمر ولده السيد أبا يعقوب يوسف، وكان عندئذ واليا لإشبيلية، أن ينتقل منها إلى قرطبة، وأن يجعل بها قاعدة الحكم الموحدي، ومستقر الجيوش الموحدية، لأنها " مُوسَّطة الأندلس ". بيد أن هذا التغيير لم يطل أمده، ولم يمض سوى وقت قصير، حتى

أعيد مركز الحكم الموحدي إلى إشبيلية، واستقر بها بعد ذلك، طوال عهد الدولة الموحدية، وذلك بالأخص لبعدها عن حدود قشتالة، وعن خطر الغزو النصراني، ولأنها باتصالها بالبحر، بواسطة مصب نهرها الوادي الكبير، ووفرة مواردها الزاخرة من وادي الشَّرف، كانت تعتبر خير قاعدة، لنزول الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، وغدت إشبيلية في ظل الحكم الموحدي، أعظم حواضر الأندلس، وازدانت بكثير من الصروح، والمنشآت العمرانية العظيمة، التي أتينا على ذكرها في موضعها. 1 - نظم الحكم الموحدي وأما عن نظم الحكم الموحدي، فقد كان الخليفة عبد المؤمن أيضاً، هو أول من وضع أسسها الرئيسية، وكان ذلك نتيجة طبيعية، لتحول الخلافة الموحدية على يده، إلى ملك دنيوى، ووضعه لنظام ولاية العهد. ونجد هذه الأسس الأولى، لنظام الحكم الموحدي، مدونة في الرسالة التي وجهها عبد المؤمن، بتاريخ ربيع الأول سنة 543 هـ، إلى الطلبة والأعيان والمشيخة والكافة بالأندلس والتي أوردها لنا ابن القطان، ولخصنا ما تضمنته فيما تقدم (¬1). وتنحصر هذه الأسس في خمس نقط هي: وجوب التزام الدقة في تطبيق الأحكام الشرعية، ووجوب الكف عن اقتضاء أية مغارم أو مكوس، لا تبيحها الشريعة ولا تتفق مع قواعد العدل، وأنه لا يجوز الحكم في مواد الحدود بالإعدام، أو تنفيده قبل الرجوع إلى الخليفة، ليصدر هو قراره في هذا الشأن، وأنه يجب تحريم الخمر، ومطاردتها في سائر أنحاء الدولة، وأنه يجب حماية أموال " المخزن " (أموال الدولة)، وصونها وعدم التصرف في شىء منها، دون استئذان الخليفة. وقد حذا الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، حذو أبيه، بتأكيد هذه الأسس الدستورية، للحكم الموحدي، وذلك في رسالة شبيهة برسالة أبيه، وجهها في رمضان سنة 561 هـ، إلى أخيه السيد أبي سعيد والي قرطبة، وأصحابه الطلبة، وفيها يحث على وجوب تطبيق أحكام الشرع، أوامرها ونواهيها بدقة، واتباع الحق والعدل، في الفصل في قضايا العباد، وأنه فيما يتعلق بالدماء، فإنه يحظر على سائر عمال الموحدين أن يحكموا في الدماء من تلقاء أنفسهم، وأنه لابد من أن ترفع قضايا القتل إلى الخليفة، مشفوعة بتفاصيلها وأدلتها وشروحها، ويسرى ذلك حتى على القضايا ¬_______ (¬1) راجع ص 400 و 401 من القسم الأول من هذا الكتاب

التي وقع فيها اعتراف بالقتل، أو دليل أو شهادة مقبولة، أو غير ذلك، فإنه يجب في سائر الأحوال، أن يرفع الأمر إلى الخليفة، وأن ما ورد في كتاب الله من الحظر المؤكد والوعيد الشديد، نحو إراقة الدماء، واستباحة الأموال، واستحلال الحرمات إلا بوجه صحيح، يوجب عليهم اتباع ما رسم، ووجوب التوقين والبيان والتعريف، هذا مع وجوب تقوى الله، وطاعة أوامره، والجرى على سننه. وتكرار هذا النصح، بالعف عن إراقة الدماء، والتحوط في تنفيذ أحكام الإعدام، هو صدى طبيعى، لما اتسمت به الدولة الموحدية، منذ قيام المهدي ابن تومرت، من المبالغة في استباحة دماء خصومها وإراقتها. وقد ذكرنا من ذلك، طائفة من الحوادث المروعة المثيرة، أيام المهدي، وخليفته الأول عبد المؤمن. فلما انتهت الدولة الموحدية، من القضاء على خصومها، ولما توطدت دعائمها، وضخم سلطانها، لم يبق ثمة موجب لهذا الإغراق في سفك الدم، وكان من حسن السياسة، أن تؤكد الخلافة الموحدية حرصها على احترام دماء الناس، وتمسكها بتنفيذ أحكام الشريعة، وحثها عمالها على مراعاة ذلك، وبالأخص على عدم التورط في إراقة الدم، إلا بموافقة الخليفة نفسه. وكانت الخلافة الموحدية، تؤثر أن تبدو في نفس الوقت، حريصة على توطيد العدل، وقمع الظلم، وقد رأيناها منذ البداية، تتبع العمال الظلمة وتطاردهم وتقضى في أحيان كثيرة، بعزلهم ومحاسبتهم، وأحيانا باعتقالهم وإعدامهم. وقد كانت للخليفة عبد المؤمن، ولولده وخليفته أبي يعقوب يوسف، وحفيده يعقوب المنصور، في ذلك جهود ضخمة، ذكرناها في مواضعها، بل لقد حذا الخليفة الناصر نفسه، في ذلك حذو أبيه وجده، في مطاردة العمال الظلمة وإزالتهم، وكان تكرار هذه المطاردة للعمال الظلمة، وعمال المخزن وغيرهم، وتوقيع العقوبات الرادعة عليهم، مما يصل أحيانا إلى الإعدام والمصادرة، في ذاته دليلا، على ما كان يغشى الإدارة الموحدية، في بعض الأحيان، من ضروب الفساد، التي ترمى هذه المطاردة إلى قمعها. وكانت الوزارة الموحدية، وهي أداة الحكم المباشر، أوسع نطاقا منها، في عهد الدولة المرابطية. وقد رأينا أن المهدي ابن تومرت، لم يكن له وزير خاص، وإنما كان يتخذ من الجماعة، وهم الصحاب العشرة الأوائل، أعضاء

وزارته، ويبحث معهم شئون الحكم، وكان يجعل من باقي الصحب، وهم أهل خمسين، وأحيانا أهل سبعين، نوعا من الجمعية الاستشارية (¬1). ثم بدأت خطة الوزارة، في عهد عبد المؤمن أول الخلفاء الموحدين، وانتظمت على يده أداة الحكم، بصورتها التقليدية، من الاعتماد على معاونة وزير أو أكثر، يتولون أعباء الحكم والإدارة بتوجيه الخليفة وإرشاده، ويطالعونه بمختلف الشئون الهامة، وعلى معاونة كاتب أو أكثر من الكتاب المجيدين، يكونون ترجمانا لدعوته، ويضطلعون بتوجيه رسائله وتعليماته، إلى مختلف العمال والجهات. وكان الخليفة، يعهد في بعض الأحيان بوزارته، إلى أحد أولاده أو أخوته، فقد رأينا مثلا كيف عهد عبد المؤمن، في أواخر أيامه، بالوزارة إلى ولده السيد أبي حفص (¬2). ولما توفي عبد المؤمن، وخلفه ولده السيد أبو يعقوب يوسف، تولى شئون الحجابة مدى حين، أخوه السيد أبو حفص، وذلك على معنى الوزارة والإمارة (¬3). ثم لما توفي الخليفة أبو يعقوب، عقب موقعة شنترين، وخلفه ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، تولى حجابته أخوه كبيره السيد أبو حفص، والحجابة هنا معناها رياسة الوزارة. ثم تولى له الوزارة أخوه السيد أبو عبد الله محمد. وأحيانا كان يضطلع بالوزارة بعض القرابة، كما حدث أيام الخليفة المستنصر والرشيد. بيد أن تعيين الحجاب والوزراء من الأبناء والإخوة أو القرابة، لم يكن يحول دون تعيين الوزراء العاديين، للاضطلاع بتدبير الشئون، وقد كان أولئك الوزراء أيضاً، في الغالب، من خاصة القبائل الموحدية الموالية. وكانت الوزارة تبقى في الأسرة الواحدة أجيالا متعاقبة، كما حدث في أسرة بني جامع، التي تولى أبناؤها الوزارة، منذ خلافة عبد المؤمن، واستمروا في توليها فترات مختلفة، حتى عصر الناصر، وأسرة بني يوجان، التي تولى أبناؤها أيضاً الوزارة غير مرة. وأما الكتابة، فقد كانت من أهم خطط الحكومة الموحدية. وكان الخليفة الموحدي، يحشد في بلاطه، أقطاب الكتاب المجيدين، وكان السادة من الولاة سواء بالمغرب أو الأندلس، يتخذون لكتابتهم أبلغ كتاب العصر. ومنذ عصر الخليفة عبد المؤمن، نرى ثبتاً طويلاً، من أئمة النثر والبلاغة، ينتظمون في ¬_______ (¬1) راجع ص 196 من ق 1 من هذا الكتاب. (¬2) راجع ص 394 من ق 1 من هذا الكتاب. (¬3) كتاب المن بالإمامة لوحة 48 ب

بلاط مراكش، ليكونوا لسانا للخليفة الموحدي، وترجمانا له، في مخاطبة الولاة والقبائل والكافة، سواء بالمغرب أو الأندلس، وكان معظم هؤلاء الكتاب من أهل الأندلس، ومنهم كذلك عدة من أكابر الكتاب المغاربة. فكان من الأندلسيين في بلاط عبد المؤمن، أبو الحسن بن عياش القرطبي، وأخيل ابن إدريس الرندي، والخطيب أبو الحسن بن الإشبيلي. ومن المغاربة، أبو جعفر ابن عطية، وأخوه عقيل بن عطية، ولو أنهما ينتميان إلى أصل أندلسي. واستمر أبو الحسن ابن عياش في منصب الكتابة، في عهد أبي يعقوب يوسف. وكان يعاونه اثنان من ألمع الكتاب المغاربة في ذلك، هما أبو القاسم القالمي، وتلميذه أبو الفضل طاهر بن محشرة. وتولى الكتابة في عهد يعقوب المنصور، أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن عياش البرشانى، وأبو الفضل بن محشرة. وكتب للناصر ولد المنصور، أبو عبد الله محمد بن عياش، وأبو الحسن على ابن عياش، ومن المغاربة أبو عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازى، وكتب الأول كذلك للمستنصر. وحتى في أواخر عهد الدولة الموحدية حينما أدركها الانحلال والوهن، نجد مثل هذه العناية بمنصب الكتابة، والحرص على استخدام الكتاب البلغاء. فقد كتب للمأمون، وهو نفسه من الكتاب البلغاء، كاتب من أعظم أئمة البيان الأندلسيين، هو أبو المطرف بن عميرة المخزومي، وكتب معه أبو الحسن الرعينى، وأبو عبد الله بن عياش، ومن كتاب المغرب، أبو زكريا الفازازى. وكتب أبو المطرِّف بن عميرة وأبو زكريا الفازازى كذلك للرشيد. وهكذا نجد البلاط الموحدي، حتى أواخر عهد الدولة، حريصاً على الاحتفاظ لديوان الكتابة والترسل، بمستواه الرفيع، الذي بلغه منذ عهد الخليفة عبد المؤمن. وإنا لنجد ذلك الحرص، من جانب الخلافة الموحدية، على بلاغة الترسل المترجم عنها في تلك المجموعة من الرسائل، التي صدرت عن الخلفاء المتعاقبين، في مختلف الشئون، الشرعية، والإدارية، وعن سير الغزوات ْوالفتوحات الموحدية، والتي أشرنا إليها، واقتبسنا من محتوياتها، في مواطن عديدة، فيما تقدم، من فصول هذا الكتاب (¬1). ¬_______ (¬1) نود أن نشير هنا مرة أخرى إلى مجموعة الرسائل الموحدية التي نشرت بعناية العلامة الأستاذ ليفى بروفنسال (الرباط سنة 1941) والتي رجعنا إليها مراراً عديدة فيما تقدم، وكذلك إلى مختلف الرسائل الموحدية الأخرى التي جاء ذكرها في كتاب " المن بالإمامة "، وكتاب (البيان المغرب) مما سبقت الإشارة إليه في مواضعه. وقد نشرنا بعضها في نهاية الكتاب

وكان مما يلحق بديوان الكتابة، كتب التوقيعات والظهائر وكل ما يمهر بالعلامة، وكذلك ديوان العسكر، وما انضاف إليه من التنفيذات السلطانية، وتقييد الجزيات العامة في أنواع النفقات (¬1). وكان لديوان العسكر كتابه المختصون به، وهم غير كتاب الديوان المختصين بالشئون الأخرى. وكانت أداة الحكومة التنفيذية، تضم عدة مناصب هامة، في مقدمتها منصب " متولى أشغال البرين " أعني المغرب والأندلس، وكان لذلك المنصب أهمية خاصة، أيام عنفوان الدولة الموحدية وتماسكها، ويوصف اختصاصه " بالأعمال العلية والأشغال السلطانية ". فنراه أيام الخليفة المنصور، يسند إلى كبير الوزراء نفسه أبي زيد بن يوجان (¬2) ويوصف أحيانا " بإشراف البرين وضم الأعمال وتفقد الأشغال " ويسند إلى وزير أو أكثر يسمون " أصحاب الأشغال " (¬3) ويلى ذلك في الأهمية الوزراء المختصون بالشئون المالية، وهم " صاحب الأعمال المخزنية "، ومتولى المجابى، ومتولى أموال النفقات والمحاسبة، ومتولى أعمال المستخلص. وكان لصاحب ديوان الأعمال المخزنية، اختصاصات وسلطات واسعة في السهر على تحصيل الأموال العامة وإنفاقها، وفي رقابة العمال والمشرفين، ومحاسبتهم والقبض عليهم (¬4)، وكان له وكلاء في سائر المدن الكبرى، يسمون بالمشرفين، ويمثله في إشبيلية عاصمة الأندلس " صاحب المخزن "، وكان للمشرف بدوره خازن على المال، وخازن على الطعام، يتولى الإشراف على حركة الوارد والصادر بالمخازن العامة، وأحيانا يقع ضمن أعمال المشرف الرقابة على تقييد المجابى (¬5). وكان أولئك الوكلاء المشرفون على الأموال العامة يتحملون مسئوليات خطيرة، ونراهم من آن لآخر، عرضة لمختلف الاتهامات والمطاردات (¬6) وكان من التقاليد المأثورة أن يقوم الخليفة الجديد، في بداية ولايته بالعفو عن المسجونين، ورفع الأموال المتخلفة، عن عاتق العمال المبددين، وتأمينهم من العقاب (¬7). وأما متولى المجابى، فهو المختص بتحصيل الضرائب، والجزيات على مختلف صنوفها، وله عمال في المدن وفي البوادى. وكانت الحملات ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 231. (¬2) البيان المغرب 201 و 236. (¬3) البيان المغرب ص 227 و 283. (¬4) البيان المغرب ص 131 و 201 و 237. (¬5) راجع البيان المغرب ص 131 و 172. (¬6) البيان المغرب ص 31 و 108 و 112، و 131، و 237. (¬7) البيان المغرب ص 73

العسكرية، تحشد أحيانا، لإرغام القبائل المتخلفة عن أداء الجباية، على أدائها، وذلك حسبما ذكرنا فيما تقدم غير مرة. وأما متولى المستخلص، فهو المشرف على الأموال الخليفية، والمحافظة عليها، وتحصيل ما يتعلق بها، من مختلف أبواب الدخل. وقد يتولى صاحب الأشغال المخزنية أحيانا، الإشراف على ما يتعلق " بالسهام السلطانية " أي أنصبة الخليفة أو حقوقه الشرعية في الغنائم وغيرها (¬1). وكان منصب صاحب الشرطة، من الناصب الإدارية الهامة، وكانت أهميته تبدو بنوع خاص في الأوقات المضطربة، وعند اضطرام الفتن، وكان يشغله أحيانا، رجال من ذوى المكانة الرفيعة في الدولة من أكابر الوزراء، كما حدث أيام الرشيد (¬2). وبرز في أواخر العصر الموحدي، منصب هام في الحكومة الموحدية، هو منصب وزير يقوم فيه صاحبه، بالتقديم إلى إرسال ملوك الروم، والاشتغال بإنزالهم، وتضييفهم، والترجمة عنهم (¬3). ومن الواضح أن هذا المنصب، لم تبرز أهميته، إلا منذ أيام الخليفة المأمون، حينما عقد حلفه المشهور، مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، وأمده هذا الملك النصراني، بفرقة كبيرة من جنده، ليعبر بها إلى المغرب، ويستعين بها على قتال منافسه في الخلافة، يحيى المنتصر. ومن ذلك التاريخ، يأخذ الروم بقسط بارز، في الحروب، التي يشهرها الخليفة الموحدي، على خصومه، ويقتضى أن يمثل في بلاط مراكش، شخص يتولى استقبال الوافدين من " الروم " (القشتاليين)، من أمراء وقادة وسفراء وغيرهم، ويتولى الإشراف على رعايتهم، والترجمة بينهم وبين الخليفة، وذوى الشأن من رجال الدولة. وقد أشرنا فيما تقدم، إلى سياسة الحكومة الموحدية في شئون الجباية، ووجوب التزام أحكام الشرع في شأنها، والاقتصار في ذلك، على ما يجيزه الشرع من الزكوات والأعشار. وقد نوه الخليفة عبد المؤمن، بوجوب التزام هذه السياسة، في رسائله الرسمية غير مرة، وكانت له شعاراً، في حملاته للقضاء على الدولة المرابطية، فنراه يذكرها في أولى رسائله الدستورية، وهي الرسالة الجامعة، التي وجهها إلى الطلبة والمشيخة والأعيان والكافة بالأندلس، في ربيع الأول سنة 543 هـ، وفيها يتحدث عن المغارم، والمكوس والقبالات، ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 201 و 227. (¬2) البيان المغرب ص 283. (¬3) البيان المغرب ص 234

وتحجير المراسى، وغيرها من المظالم، ووجوب القضاء عليها، وإجراء العدل في شأنها (¬1)، ونراه بعد ذلك ببضعة أعوام، يعود إلى ذكرها، في رسالة إلى إلى أهل قسنطينة عن فتح بجاية في جمادى الأولى سنة 547 هـ، وفيها يتحدث عما فرضه " أهل الاختلاق والابتداع " من " القبالات والمكوس والمغارم وسائر تلك الأنواع " دون التفات إلى ما أوجب الله من الزكوات والأعشار، حتى قضى الله بإزالتهم، ورد الأمر إلى نصابه، بإجراء الشريعة على حقيقتها، وإراحة أهل البلاد المعمورة بالتوحيد من جميع هذه المغارم (¬2). على أن هذه العهود الرسمية، التي كانت تستند في جوهرها، إلى تعاليم المهدي ابن تومرت، ودعايته ضد الدولة المرابطية، فيما جرت عليه من فرض المغارم والمكوس غير الشرعية، لم تكن سوى شعار مؤقت، تستظل به الدولة الموحدية في بداية عهدها، ذلك أنه لما توطدت دعائم الدولة الجديدة، واتسع نطاق مسئولياتها المدنية والعسكرية، سواء في المغرب والأندلس، كان من الواضح أن الاقتصار على تحصيل الفروض الشرعية في شئون الجباية، لا يمكن أن يفى بما تتطلبه نفقات الدولة، أو نفقات الجيوش الموحدية الضخمة في المغرب، أو فيما وراء البحر، ومن ثم فقد اضطرت الدولة الموحدية غير بعيد، أن تبحث عن وجوه أخرى، لتحقيق الجباية وتوفير النفقات، فكان مما فعله عبد المؤمن في ذلك، قيامه بمسح (أو تكسير) بلاد إفريقية والمغرب، من برقة إلى السوس الأقصى، وإسقاط مقدار الثلث من مساحتها، مقابل الجبال والأنهار والطرقات وغيرها، وفرض الخراج على ما بقى بعد ذلك، من الأراضي الصالحة للزرع، وألزمت كل قبيلة أن تؤدى قسطها من الزرع والمال (¬3). ومن جهة أخرى فإن الخلافة الموحدية، كانت إلى جانب ما يدخل خزائنها، من غنائم الفتوحات المظفرة، وأبواب المصادرة لأموال الخصوم، ومن يلحق بهم من العمال المنكوبين، لم تحجم عن أن تفرض مختلف الضرائب والمكوس، على مختلف أنواع المعاملات، من البيع والشراء، والصادر والوارد، وغير ذلك، مما كان متبعاً في سائر دول العصور الوسطى، وهذا إلى ما كانت تستولى عليه، من أموال ¬_______ (¬1) راجع ص 400 من القسم الأول من هذا الكتاب. (¬2) راجع رسالة عبد المؤمن المذكورة في " رسائل موحدية " وهي الرسالة السابعة ص 21. (¬3) راجع ص 377 من القسم الأول من هذا الكتاب

النصارى واليهود، الذين بقوا في أراضي الدولة، ولاسيما خلال حركات الاضطهاد ْوالمطاردة، وقد كانت تحدث من آن إلى آخر. وكان من الإجراءات المالية الهامة، التي قامت بها الخلافة الموحدية، مضاعفة وزن الدينار الموحدي، وقد تم ذلك في بداية عهد الخليفة المنصور، وكان له أثره في دعم طمأنينة التعامل، وتحسين الشئون الاقتصادية، بوجه عام. وقد لبثت الأحوال الاقتصادية بالمغرب والأندلس، في ظل الدولة الموحدية، أيام عنفوانها وقوتها، طيبة يدعمها الأمن والرخاء، وتقدم الزراعة والتجارة، وكان ذلك في عهد الخلفاء الأقوياء منذ عبد المؤمن، حتى أواخر عهد المنصور، وهي فترة دامت زهاء نصف قرن. ولم يكن يعكر هذا الرخاء، إلا فتنة محلية، أو محنة طبيعية، من جدب أو شرق أو غيره. بيد أنه لما اشتد عيث طوائف العرب بإفريقية، وخربوا مدنها، واجتاحوا بسائطها، وتفاقم هذا العيث والتخريب، أيام ثورة بني غانية، بما ترتب على مغامراتهم، من صنوف الدمار المطبق، وقطع السبل، ونهب التجار، وانقطاع المعاملات السلمية، أخذ خراب إفريقية، وهي أغنى أقطار الدولة، وأوفرها خصبا وموارد، يحدث أثره في اقتصاد المغرب، وفي تحطيم رخائه. ولما انتهت فتنة بني غانية في أوائل عهد الناصر، وعاد الأمن والرخاء لإفريقية، كانت حركة الناصر إلى الأندلس، تمهد لأعظم كارثة عسكرية، منيت بها الدولة الموحدية، ومنى بها المغرب. وكان لهزيمة العقاب الساحقة، فضلا عن آثارها العسكرية المدمرة، آثار اقتصادية بعيدة المدى، فقضى بفناء الجند على الأيدى العاملة، وانهارت الزراعة والتجارة، وعدمت الأقوات، وفشت المجاعة في المغرب والأندلس، وكان يذكى من هذه المحنة الاقتصادية، ضعف الحكومة وتواكلها، واحتجاب الخليفة، وعدم اهتمامه بآلام الشعب. وفي عهد المستنصر ولد الناصر، تفاقمت الأزمة الاقتصادية بالمغرب والأندلس، واشتدت الحال، وتناهى الغلاء (¬1)، واختلت أحوال الخلافة الموحدية، واضطرب الأمن، وقطعت السابلة، ووقع النهب على التجار، واستمرت هذه الأحوال طوال عهد المستنصر، وهو في غفلة عن كل ما يجرى، غير مهتم بشئون رعيته أو جاهل لها، لتواكل وزرائه، وإخفائهم عنه حقائق الشئون (¬2). ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 236 و 245. (¬2) الذيل والتكملة لابن عبد الملك (المجلد الخامس من مخطوط المتحف البريطاني لوحة 19)

ثم تفاقم الأمر، باضطراب شئون الخلافة الموحدية، ووقوع الفتنة والحروب الأهلية حول كرسى الخلافة، وتدخل بعض طوائف العرب، مثل عرب الخُلط وبعض القبائل البربرية القوية، مثل هسكورة، في هذا النزاع، وتقلبهم في مناصرة المتنافسين على العرش، وعيثهم بأحواز العاصمة، ومهاجمتها أحيانا، وكانت المجاعة تقع حيثما تضطرم الفتنة، ومن ذلك ما يقصه علينا صاحب البيان المغرب، من وقوع المجاعة في مراكش، حينما هاجمها عرب الخلط، وعاثوا في أحوازها، فعدمت الأقوات وارتفعت الأسعار، وتحطمت المرافق، وعانى الناس منتهى الشدة، ووصل الربع الواحد من الدقيق إلى ثلاثة دنانير (¬1). وحدثت مجاعة مماثلة، حينما اضطر الخليفة الرشيد، أن يغادر الحضرة، أمام ضغط عرب الخلط، فقاسى الناس أهوالا، وخلت الأسواق من كل شىء، ووصل المد من القمح إلى سبعة دراهم، وأكل الناس فيتور الزيتون، ونوار الخروب، وغير ذلك من النباتات الطفيلية، وكانت محنة مروعة (¬2). واستمرت الأزمات الاقتصادية، طوال أيام الفتنة، والحروب الأهلية بين الرشيد والخلط، والرشيد ويحيى بن الناصر، وخفت حدتها أيام السعيد والمرتضى، وكان القحط يقترن بوقوع الوباء. وفي سنة 647 هـ، وقعت بمدينة سبتة وأحوازها مجاعة عظيمة، وغلاء فاحش، وذلك بسبب الفتن والحروب الأهلية المستمرة (¬3). وكان صدى هذه الأزمات الاقتصادية، يحدث أثره في الأندلس. وكان من أثر المحن والأحداث السياسية في الأندلس، أن كانت أهوال الغلاء والجوع، تعصف بالناس من آن لآخر، وحدث ذلك في بلنسية حين حصارها، ووقعت شدة مماثلة بإشبيلية وقت حصارها ومات كثير من أهلها بسبب الجوع (¬4). وكانت الفترة التي تلت قيام ابن هود، في شرقي الأندلس، وقيام ابن الأحمر في أواسط الأندلس، ثم في الجنوب، وما تخلل ذلك من فتن وحروب أهلية، وما قام به النصارى، من غزوات لأراضي الأندلس، ومن استيلائهم على معظم قواعدها الكبرى، وذلك كله في النصف الأول من القرن السابع الهجري، فيما بن سنتى 620 و 650 هـ، كانت هذه الفترة المدلهمة من تاريخ الأندلس، وما اقترن بها من محن ونوائب، وتشريد لأهل القواعد المفتوحة، وضياع للأموال والثروات، مليئة بالأزمات الإقتصادية ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 307. (¬2) البيان المغرب ص 315 و 316. (¬3) البيان المغرب ص 347. (¬4) البيان المغرب ص 381، 382

وأهوال الغلاء والجوع والحرمان، والأوبئة، وكانت من أشد ما عانت الأمة الأندلسية عقب انهيار الحكم الموحدي، وما ترتب عليه، من انهيار خط دفاعها القديم، ووقوعها فريسة هينة للغزو النصراني. ... وكانت المناصب الدينية تنحصر في القضاء، وهو أهمها، والشورى، وهي من متعلقات القضاء، والخطبة في المساجد الجامعة. وكان يعين في عاصمة كل ولاية قاض للجماعة، وهو يتولى اختيار نوابه في مناصب القضاء المحلية. وقد لبث القضاء في عهد الدولة الموحدية، سواء بالمغرب أو الأندلس، محتفظاً بأهميته وجلاله القديم. وكان الخليفة الموحدي، يقوم بتعيين قضاة الجماعة، في سائر المدن الكبرى، دون تدخل في ذلك من الولاة (¬1). وتتبع نفس القاعدة في تعيين قضاة الأندلس. ومما هو جدير بالذكر، أن الأندلسيين كانوا يستأثرون بمناصب القضاء في بلادهم، وذلك منذ أيام الدولة المرابطية، ولم تحاول الخلافة الموحدية أن تحيد عن ذلك التقليد الراسخ إلا في أحوال نادرة كان يتولى فيها القضاء بالأندلس بعض الممتازين من القضاة المغاربة (¬2). بل لقد كان الخليفة الموحدي، يختار لقضاء الجماعة بمراكش، بعض اللامعين من فقهاء الأندلس، كما حدث أيام الخليفة أبي يعقوب يوسف حينما تولى قضاء الجماعة بالعاصمة الموحدية، أبو محمد المالقي، ثم أبو جعفر بن مضاء، وتولاه أيام الخليفة المنصور أبو جعفر بن مضاء، وأبو القاسم أحمد بن بقى، وشغل أبو القاسم نفس منصبه أيام الخليفة الناصر، وذلك حسبما ذكرنا في مواضعه من قبل. ويرجع ذلك كما هو واضح، إلى تفوق الدراسات الشرعية في الأندلس، وتفوق القضاة الأندلسيين في الفقه المالكى، وفي ممارسة الأحكام وتطبيقها. وقد لبثت الأندلس محتفظة بهذا التفوق، سواء في الكتابة أو القضاء، حتى إبان انحلالها في أواخر العهد الموحدي. وأما خطة الشورى، فقد كانت أيضاً من المناصب القضائية، ولكنها كانت حسبما يبدو من مختلف الإشارات الخاصة بها، أقل في الرتبة من القضاء. ويختص ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 129 و 231. (¬2) مثال ذلك ما يرويه لنا ابن الأبار في التكملة من أن أبا عبد الله محمد بن يخلفتن الفازازي التلمساني، ولى قضاء مرسية ثم قرطبة (التكملة رقم 1616)، وأن ابن جبل الهمداني من أهل وهران، ولى قضاء إشبيلية سنة 592 هـ (التكملة رقم 1719)

صاحبها بإبداء الرأي والفتوى في مسائل الأحكام، ويشغلها على الأغلب أحد الفقهاء. وفي مواضع كثيرة من " التكملة " وغيرها، يوصف صاحب هذه الوظيفة بأنه كان " فقيهاً مشاوراً "، أو أنه كان فقيهاً يشاور في الأحكام، أو أنه ولى " خطة الشورى " (¬1). وقد أورد لنا ابن الأبار نص كتاب صادر عن أمير مرسية، بتولية أبي بكر بن أبي جمرة خطة الشورى، يبين لنا ماهية هذه الخطة واختصاصها (¬2). وكانت خطة الأحكام، فيما يبدو أيضاً من شرح صاحب " التكملة "، وظيفة تابعة للقضاء، شبيهة بخطة الشورى، وكان صاحبها يضطلع بالفتيا أو إبداء الرأي في الأحكام الشرعية (¬3). وقد كانت للمواريث خطة خاصة بالرغم من كونها داخلة في اختصاص القضاء العام. وهذا ما يشير إليه ابن الأبار في غير موضع من " التكملة "، وهذا ما يدل على أهمية المواريث، والعناية بالدقة في تطبيقها (¬4). ويلحق بهذه المناصب القضائية منصب " حسبة السوق "، وقد أشار إليه ابن الأبار أيضاً، وهو في الحقيقة، ناحية، من نواحي الحسبة العامة، يتعلق بالإشراف على ضبط التعامل، وسلامة السلع المعروضة، وصحة الموازين، والمكاييل (¬5). ويلحق بالمناصب الدينية الهامة منصب الخطابة بجوامع المدن الكبرى، وكان لا يلي هذا المنصب إلا الفقهاء المبرزين في فن الخطابة، ولاسيما في جوامع قواعد كإشبيلية وقرطبة وغرناطة ومالقة وبلنسية، وأهمها في الرتبة منصب الخطابة بجامع إشبيلية وجامع قرطبة (¬6). وكذلك كان يؤم الصلوات بجوامع المدن الكبرى " صاحب الصلاة " وكان منصبه يعتبر أيضاً من المناصب الدينية الكبيرة، ولاسيما إذا كان بجامع إشبيلية أو جامع قرطبة. وكان منصب متولي شئون طلبة الحضر، من المناصب العلمية والدينية الرفيعة، وقد سبق أن أشرنا إلى نشأة هذه الطبقة من الطلاب الموحدين " المصامدة " ¬_______ (¬1) راجع التكملة لإبن الأبار (القاهرة) ج 1 ص 34 و 44 و 66 و 71 و 86 و 149 و 209 و 243. (¬2) راجع التكملة ج 2 ص 562. وقد نشرنا هذا الكتاب في باب الوثائق. (¬3) راجع التكملة ج 1 ص 71 و 228. (¬4) راجع التكملة ج 1 ص 67. (¬5) التكملة ج 1 ص 82. (¬6) البيان المغرب ص 193

وطلاب الحضر، منذ عصر الخليفة عبد المؤمن. وقد سما شأن هؤلاء الطلاب، ولاسيما في عهد الخليفة يعقوب المنصور، وكانت لهم لديه مكانة ملحوظة (¬1) وكان المقدم على طلبة الحضر بحضرة مراكش، ينتخب من أكابر العلماء، ويقوم الخليفة بتعيينه مباشرة، وقد تولى هذا المنصب علماء أجلاء، مثل أبي محمد المالقي، وأبيه عبد الرحمن المالقي من قبل (¬2). 2 - تطور الأساس الروحي للخلافة الموحدية قامت الدولة الموحدية في بدايتها، حسبما قدمنا، على فكرة الإمامة والتوحيد، فلما توفي المهدي ابن تومرت، وقام في رياسة الدولة زعيم لا يتشح بثوب المهدية أو الإمامة الروحية، واتسعت رقعة الدولة، وعظمت صولتها العسكرية، والسياسية، تحولت الخلافة الموحدية على يد عبد المؤمن، إلى ملك دنيوى باذخ، وغاضت فكرة الإمامة المهدية شيئاً فشيئاً، وإن كانت الدولة الموحدية، قد لبثت حريصة على تقديس ذكرى المهدي، ونعته دائماً في الخطب والرسائل الرسمية " بالإمام المعصوم، المهدي المعلوم "، وذكر اسمه في السِّكة، والمناداة بشعائره البربرية القديمة في أوقات الصلاة. واستمر الأمر على ذلك حتى عهد الخليفة يعقوب المنصور، وفيه بلغت الدولة الموحدية أوج عظمتها وروعتها. وكان المنصور عالماً مستنيراً، متمكناً من الشريعة وعلوم الدين، ولم يكن حسبما تبين بعض من تصرفاته المذهبية، من الغلاة في تقدير العقيدة الموحدية، أو المؤمنين بعصمة المهدي ابن تومرت، بيد أنه بالرغم من عظيم هيبته وسلطانه، وبالرغم مما قام به من تغييرات مذهبية بعيدة المدى، مثل مطاردة كتب المذهب المالكى، وإحياء المذهب الظاهرى، فإن الخلافة الموحدية لبثت مع ذلك تنضوى من الناحية الدستورية تحت لواء " الدعوة المهدية "، ولبثت رسائلها الرسمية تتوج " بالرضا عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم " (¬3). على أنه لم يك ثمة شك، في أن العقيدة الموحدية لم تكن عندئذ، سوى ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 158، وراجع ص 244 من هذا الكتاب. (¬2) البيان المغرب ص 233 و 234. (¬3) راجع الرسائل الثانية والثلاثون والرابعة والثلاثون والخامسة والثلاثون من مجموعة " الرسائل الموحدية " وهي صادرة عن الخليفة المنصور (ص 199 و 219 و 229)

شعار إسمي، وأن إبقاء الخليفة الموحدي، على رسوم المهدي ابن تومرت، لم يكن سوى إجراء شكلى، يقصد به إلى جمع كلمة الموحدين، تحت شعار موحد، وكانت هذه سياسة حكيمة من جانب الخلافة الموحدية، كان لها أثرها القوي في تدعيم أركان الدولة، وحمايتها من أخطار الفتنة والتفرق. فلما كان عهد الخليفة أبي العُلي المأمون ولد الخليفة المنصور، وقع الحدث الحسم، في دستور الخلافة الموحدية، وشعارها الروحى، وأصدر المأمون مرسومه الشهير (627 هـ) بإزالة اسم المهدي من الخطبة، ومن السكة، ومن المخاطبات الرسمية، وقطع النداء عند الصلوات بشعائره البربرية، التي كان العمل جاريا باتباعها منذ بداية الدولة الموحدية، ولم يحجم المأمون عن أن يصرح في كتابه الرسمى الذي أنشأه بنفسه، أن وصف ابن تومرت " بالمهدي وبالإمام المعصوم " إنما هو نفاق وبدعة وأمر باطل، وأنه يجب نبذه والقضاء عليه (¬1). وهكذا قضى بضربة جريئة على أسطورة المهدي ابن تومرت، وأسطورة إمامته وعصمته، وهي الأسطورة التي اتشح بها ابن تومرت، وبويع في ظلها بجبل إيجليز في رمضان سنة 515 هـ (ديسمبر سنة 1121 م)، وكانت هي الأساس الروحى لقيام الدولة الموحدية. وفضلا عن ذلك فقد قضى المأمون على عصبة الموحدين، بقتله لزعمائهم الذين نكثوا بيعته، حتى فنى معظمهم، وفر الباقون ليعتصموا بجبالهم القديمة في تينملل، وبذلك ضربت الزعامة الموحدية في الصميم، وفقدت الخلافة الموحدية بذلك عضدا، كان له في عونها ومؤازرتها، قيمته الأدبية والمادية. ثم كانت خلافة الرشيد، ولد المأمون، فوقع تطور جديد في رسوم الخلافة الموحدية وأسسها الروحية. وذلك أن الرشيد شعر بأهمية مؤازرة أشياخ الموحدين، واتجه إلى استرضائهم، واستعادتهم إلى جانب الخلافة الموحدية، وقبل الزعماء الموحدون، أن يعودوا إلى سابق ولائهم، وتعاونهم مع الخلافة، على أن تعود رسوم الدعوة المهدية كما كانت، من ذكر المهدي في الخطبة والسكة، والنداءات الموحدية في الصلوات، وغير ذلك مما كان العمل جاريا عليه، قبل أن يصدر المأمون مرسومه بإلغاء الدعوة المهدية. وقبل الرشيد ذلك، وقام بتنفيذه، وأعيدت رسوم الدعوة المهدية كما كانت. بيد أنها لم تكن يومئذ سوى ¬_______ (¬1) راجع مرسوم المأمون في البيان المغرب ص 267 و 268، وراجع ص 371 من هذا الكتاب

إجراء شكلي، وشبح باهت، ولم تلبث الخلافة الموحدية، أن دخلت في مرحلة انحلالها الأخير، وأخذت تسير إلى قضائها المحتوم. 3 - النظم العسكرية ليس ثمة شك في أن القوة العسكرية، كانت منذ البداية، عماد الدولة الموحدية الأول، وقد بلغت التنظيمات العسكرية في ظل الدولة الموحدية، من حيث الضخامة مبلغاً لم تبلغه في أية دولة أخرى، في الغرب الإسلامي. وقد كانت الحشود القبلية، هي المصدر الرئيسي للجيوش الموحدية. وقد بدأت هذه الحشود بصورة متواضعة، حينما أعلن المهدي ابن تومرت إمامته، وبايعته القبائل الموحدية، وأخذ يتأهب لمحاربة المرابطين. وكان المهدي هو أول من وضع نظاما عسكريا لأنصاره الموحدين، فرتبهم صفوفا، وجعل لكل عشرة منهم نقيباً. والتقت هذه الحشود القبلية لأول مرة بالمرابطين، وهي قليلة ْالأهبة، قليلة العدة، ودون نظام عسكري محكم، فكانت الحماسة لديها تغنى عن السلاح والنظام، وكانت انتصاراتها في المعارك الصغيرة الأولى، التي نشبت بينها وبين المرابطين، تذكى من عزمها وإقدامها، وتساعد في تضخم جموعها. وهكذا بدأ الجيش الموحدي في التجمع والانتظام، وإذا استثنينا موقعة البحيرة، التي فنى فيها معظم الجيش الموحدي الأول تحت أسوار مراكش، فإن الجيوش الموحدية، لم تلبث أن نهضت من هذه الضربة، وعادت منذ خلافة عبد المؤمن إلى سابق منعتها وتضخمها. واتخذ المهدي لجيشه منذ البداية علما أبيض، كتب على أحد وجهيه " الواحد الله. محمد رسول الله. المهدي خليفة الله "، وكتب على الوجه الثاني " وما من إله إلا الله. وما توفيقى إلا بالله. وأفوض أمرى إلى الله " (¬1). وقد لبث البياض شعار العلم الموحدي دهراً، ولكن مع تغيير الأدعية والآيات التي تكتب عليه، ثم غيرت ألوانه بعد ذلك فيما يبدو، في أواخر عهد الدولة الموحدية، حسبما يبدو ذلك من ألوان العلم الموحدي الذي غنمه القشتاليون في معركة العقاب 609 هـ، والذى يحفظ حتى اليوم في دير برغش الملكي (¬2). وفي عهد عهد المؤمن بن علي، أول الخلفاء الموحدين، اتسع نطاق الجيوش الموحدية، وزادت حشودها زيادة هائلة، وذلك بعد أن دانت سائر ¬_______ (¬1) راجع ص 196 من القسم الأول من هذا الكتاب. (¬2) راجع ص 317 من هذا الكتاب

قبائل المغرب للطاعة، وأخذت تساهم بحشودها في الجيوش الموحدية، وبالرغم من أن الحشود كان يجرى تنظيمها على أساس قبلى محض، فقد استطاع عبد المؤمن بسياسته في تأليف القبائل المختلفة، أن يؤلف بين هذه الحشود القبلية، وأن يجعل منها وحدة عظيمة متناسقة كانت هي عماد الجيش الموحدي، وقد استطاع عبد المؤمن من أن يحشد لغزو إفريقية جيشاً جراراً تقدره الرواية بخمسة وسبعين ألف فارس وخمسمائة ألف راجل، وهو رقم هائل في ذلك العصر (¬1). وقد وصف لنا صاحب الحلل الموشية بهذه المناسبة، طريقة مسير الجيش الموحدي، وخلاصتها أن يبدأ السير عقب صلاة الصبح، على صوت طبل الرحيل، فإذا ركب الخليفة، اجتمع حوله الأشياخ والأعيان، ويسير على بعد منه نحو مائة فارس، ويتقدم الموكب الخليفى مصحف عثمان، وهو في تابوته المغلف بصفائح الذهب، والمرصع بالياقوت الأحمر، موضوع في هودج يحمله نجيب، ويتبعه الخليفة ومن ورائه أولاده، ثم البنود والطبول، فالوزراء وأكابر الدولة. وتسير الجيوش على ترتيبها، دون تزاحم، فلا يتعدى أحد طوره، فإذا كان وقت النزول، نزلت كل قبيلة في منزلها، وكانت محلة الجيش تضم إلى جانب موارد المؤن، جميع الصناع وسائر أرباب الحرف، وكل ما يحتاج إليه " كأن المسافر معهم مقيم " (¬2). وكانت سلا ورباط الفتح، مركزاً لتجميع الجيوش الموحدية، سواء الذاهبة منها إلى إفريقية، أو تلك التي تقصد العبور إلى الأندلس، وكانت المنطقة الواقعة شمالا،، فيما بين سلا وسبتة، تحتوي عدة مراكز كبيرة متتالية لتخزين المؤن اللازمة لإمداد الجيوش الذاهبة والعائدة. وكان طريق العبور المفضل للجيوش الموحدية، إلى شبه الجزيرة، قصر مصمودة أو القصر الصغير، الواقع على مسافة قريبة غربي سبتة. وموضع نزولها المفضل في شبه الجزيرة، هو ثغر طريف أو الجزيرة الخضراء، وذلك بالرغم مما قام به الخليفة عبد المؤمن من إعداد جبل طارق لنزول الجيوش الموحدية، وتزويدها بالحصون والمرافق اللازمة. وقد سبق أن أشرنا إلى رواية ابن اليسع عن ابتكار الموحدين، منذ عصر عبد المؤمن، لخطة المربع الموحدي، التي اتخذت من ذلك الوقت، أساسا لخطط ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 115. (¬2) الحلل الموشية ص 116

الدفاع الموحدية، وخلاصتها أن " تصنع دارة مربعة في بسيط المعركة، يجعل فيها من جهاتها الأربع، صف من الرجال بأيديهم القنا الطوال، والطوارق المانعة، ومن ورائهم أصحاب الدروق والحراب صفاً ثانياً، ومن ورائهم أصحاب المخالى فيها الحجارة صفاً ثالثاً، ومن وراء هؤلاء الرماة صفاً رابعاً. وفي وسط المربعة، ترابط قوي الفرسان ". وكانت صفوف الفرسان تخصص لها أمكنة معينة، في جميع جوانب المربع، وتفتح لها مخارج سريعة تستطيع أن تنطلق منها، ثم تعود إلى أماكنها الداخلية، دون أن تخل بنظام الرجّالة (المشاة). ويقوم بالهجوم الأول قوات المتطوعة المجاهدة، تؤيدها القوات الخفيفة، فإذا استطاع العدو أن يرد هؤلاء، وأن يتقدم حتى مواقف الجنود الموحدية النظامية، وقف حملة الحراب أمامه كالسد الحديدى الذي لا يخترق، واستقبله الرماة من حملة القسى والنبال بسيل من السهام والحجارة، فإذا استطاع العدو أن يخترق الصف الأول وهم حملة الحراب، استقبله حملة السيوف والدروع متأهبين لرده، وبادر الفرسان إلى معاونتهم من الأماكن الداخلية، فإذا استطاع العدو بعد كل ما تقدم، أن يتغلب على القلب والجناحين، فعندئذ يقوم الجيش الموحدي بالضربة الأخيرة، وتتقدم قوات الضلع الرابع من المربع، وهي الساقة أو الاحتياطى، المكون من صفوة الجند، ولاسيما الحرس الخاص، ويقودها الخليفة بنفسه، وكثيراً ما كانت هذه الصفوف الاحتياطية، تساعد على إحراز النصر بشجاعتها وخبرتها. وكانت هذه القوات تمتنع أحيانا داخل نطاق من السلاسل الحديدية، تبرز من خلالها الحراب الطويلة، فتثخن بذلك في العدو متى اجترأ على الدنو منها (¬1). وكان التجمع القبلى حسبما أشرنا من قبل، هو الدعامة الأولى لحشد الجيوش الموحدية، وكانت معظم الحشود تجمع من القبائل الموحدية الرئيسية، التي يرتكز إليها هيكل الدولة الموحدية، والتي ذكرناها فيما تقدم، ومعظمها ينتمى إلى مصمودة. ولما اتسع نطاق الغزوات الموحدية في المغرب والأندلس، ولم تعد القبائل البربرية تكفى وحدها، لإمداد الجيوش الموحدية، بما تحتاج إليه من الحشود الضخمة، عمدت الخلافة الموحدية إلى التفكير في استمالة طوائف ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 98، وتاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ ص 448 و 489. وراجع ص 246 من القسم الأول من هذا الكتاب

العرب النازحين لإفريقية، والاستعانة بهم في مختلف حروبها وغزواتها، ومن أول من فكر في ذلك الخليفة عبد المؤمن، وذلك حينما اصطدم بأولئك العرب لأول مرة عند افتتاحه لبجاية، ثم افتتاحه للمهدية، بيد أنه لم ينجح في ذلك نجاحا يذكر. فلما تولى الخلافة ولده أبو يعقوب يوسف، بذل في سبيل استنفار طوائف العرب، واستمالتها إلى المشاركة في الجهاد بالأندلس جهوداً مضاعفة، واستعان في ذلك بتوجيه القصائد الرنانة لهم، وكان ممن اشترك في توجيه الشعر إليهم طبيبه الفيلسوف ابن طفيل، فوجه إليهم قصيدته الرائعة التي مطلعها: أقيموا صدور الخيل نحو المضارب ... لغزو الأعادي واقتناء الرغائب ونجحت هذه المحاولة، في استمالة طوائف كبيرة، من عرب هلال وسُليم وزغبة ورياح وغيرهم، إلى الانضمام إلى الجيوش الموحدية المجاهدة، وغمرهم الخليفة بإنعاماته وصلاته، من المال والكساء والسلاح، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في موضعه (¬1). ومن ذلك الحين تؤلف طوائف العرب، جناحا هاما في الجيوش الموحدية، وتشترك في سائر الحروب والغزوات الموحدية بالمغرب والأندلس. بيد أنه تبين فيما بعد، في كثير من الوقائع، أن انضمام أولئك العرب إلى الجيش الموحدي، كان خطأ عسكرياً فادحاً، وأن ضررهم كان أكثر من نفعهم في مشاركته، وذلك لما كانوا يتسمون به من التقلب وعدم الولاء، وشغف انتهاز الفرص السانحة. وقد خذلوا الجيش الموحدي في كثير من الوقائع في إفريقية والأندلس. وقد كان اجتذاب الخلافة الموحدية، لهذه الطوائف العربية، يرمى إلى تحقيق غايتين: الأولى إنقاذ إفريقية من عيثهم وتخريبهم المستمر، والثاني الاستعانة بهم في أعمال الجهاد بالأندلس. ولكن تبين على ضوء الحوادث، أنهم لبثوا في إفريقية عامل تخريب ودمار، طوال أيام ثورة بني غانية، يتقلبون طول الوقت بين الفريقين المتحاربين، وأنهم كانوا في الحملات الموحدية بالأندلس عامل تثبيط وخذلان. على أن السياسة الموحدية لم تعدل عن المضي في سياستها، في استمالة العرب ومصانعتهم حتى النهاية. فنراهم في أواخر عهد الخلافة الموحدية يشغلون في شئونها، وفي تكييف مصيرها، مكانة ملحوظة. ونرى الخليفة الموحدي، عند اضطرام الحرب الأهلية بينه وبين منافسيه، يستعين بعرب الخُلط، وأحيانا ¬_______ (¬1) راجع ص 59 - 61 من هذا الكتاب

بعرب سفيان وبنى جابر، ونراه يقوم بتعيين مشايخ هذه الطوائف، ونرى هذه الطوائف، تلعب في الأعوام الأخيرة الحاسمة، من حياة الدولة الموحدية، في مصايرها دوراً له خطره. وكذا كانت القوات الأندلسية، تؤلف بالجيش الموحدي بالأندلس جناحا هاما، وتشترك في سائر الغزوات والحروب التي تشهرها الجيوش الموحدية ضد النصارى، سواء في البرتغال أو في الممالك الإسبانية. وكانت القوات الأندلسية، تمتاز بشجاعتها ودربتها، وولائها لقضية الإسلام بالأندلس، وكانت تقاتل في طليعة الجيوش الموحدية، لخبرتها بقتال النصارى، وتغدو في معظم الأحيان عاملا من عوامل النصر. وكان الخليفة الموحدي، يقود جيوشه في الحملات والغزوات الكبرى، بالمغرب والأندلس، وكان قبيل نشوب المعركة، أو بداية الغزو، يعقد مؤتمراً حربياً لوضع خطة الغزو، ويستمع فيه إلى آراء قادته (¬1). وكان لآراء القادة الأندلسيين، في غزوات شبه الجزيرة رأى مسموع، وقد دلت الحوادث غير مرة، على سلامة آرائهم ونصحهم. ومتى عبىء الجيش تعبئة قتال، ضربت قبة الخليفة الحمراء، ورفع فوقها العلم الموحدي الأبيض، وأحيطت بالسلاسل الحديدية الضخمة، وكانت تضرب عادة في ساقة الجيش، ويحف بها الحرس الخليفى، وهو يتألف عادة من الجند العبيد، ونخبة من الجند البربر، يحملون الرماح الطويلة، وكان الخليفة، متى رأى قواته خلال المعركة في حاجة إلى العون، يقود الساقة بنفسه، ويشد أزر قواته، ويعاونها بذلك على إحراز النصر، وقد تقع الكارثة فيهلك الخليفة، كما حدث لأبي يعقوب يوسف في نكبة شنترين، أو يلجأ إلى الفرار، كما حدث للناصر في موقعة العقاب. وعلى غرار ما حدث للجيوش المرابطية، في أواخر عهدها، من الاستعانة بالمرتزقة النصارى، لجأ الخليفة الموحدي، إلى حشد المرتزقة النصارى في جيشه وذلك منذ أيام الخليفة المأمون. ونحن نعرف قصة التجاء المأمون إلى ملك قشتالة فرناندو الثالث، والثمن الفادح الذي دفعه إليه، لقاء عونه إياه بفرقة من الفرسان النصارى، لكي يعبر بها إلى المغرب، ويستعين بها على مقاتلة خصمه يحيى المنتصر، وانتزاع الخلافة منه، ومنها أن تقام كنيسة كبيرة للنصارى في مراكش، ¬_______ (¬1) ابن صاحب الصلاة في " المن بالإمامة " لوحة 41 أ

وكانت هذه الفرقة، وعددها نحو خمسمائة فارس، هي أساس القوة النصرانية أو جيش الروم بالجيش الموحدي. وقد لعب الجند النصارى في عهد المأمون، وولده الرشيد أدوارا حاسمة، في المعارك التي خاضتها الخلافة الموحدية يومئذ ضد خصومها، وقامت بمراكش تحت رعاية الفرقة النصرانية، جالية نصرانية كبيرة، وقد استعملت البنود والطبول بالجيش الموحدي منذ البداية، وكذلك بالأساطيل الموحدية، وكان لها فرق خاصة، ونظم معينة تجرى عليها، وكانت تستعمل عند الرحيل، وعند بدء المعركة، وعند كل إجراء عام يجب أن يقوم به الجند، وكان منها الطبل الكبير الذي يضرب للرحيل، وهو مستدير الشكل يبلغ دوره خمسة عشر ذراعا من خشب أخضر اللون، مذهب الحافة، وكان يضرب للرحيل ثلاث مرات، ويسمع على مسيرة نصف يوم، من مكان مرتفع في يوم لا ريح فيه (¬1). وكانت الرسائل تستعمل لإذاعة الأوامر والنواهى، والانتصارات. وعند النصر يقترن ذلك بالاحتفال والإطعام. وكانت الإنعامات والبركات من أخص امتيازات الجيش الموحدي، ولاسيما في إبان ازدهار الدولة وقوتها، وكان ذلك يشتمل فضلا عن منح الأجور والأعطية للجند، على إقامة المآدب للطعام، وتوزيع الأسلحة والكسى، وكان كساء الفارس عبارة عن طقم كامل من عفارة وعمامة وكساء وقسطة وشقة. وهذا عدا مبالغ من النقود الذهبية تصل للقادة والأعيان أحيانا إلى مائة دينار لكل منهم (¬2)، وكذلك لأشياخ العرب مائة دينار لكل منهم، وللفارس عشرون دينارا، وكان النظام القبلى، هو حسبما قدمنا، أساس حشد الجيوش الموحدية، فتقدم كل قبيلة ما يتعين عليها من الفرسان والرجّالة، عند الاستنفار العام. وكان نظام التطوع يقوم كذلك إلى جانب نظام الحشد الجبرى، فتحشد أعداد كبيرة من الجند على سبيل التطوع دون تكليف، ويسمى هؤلاء بالمطوعة (¬3) وتعنى الخلافة الموحدية في نفس الوقت، وعند الاستعداد للجهاد، باستجلاب الخيل والعدد والأسلحة والرماح والبيضات والدروع والتروس وكذلك الكسى، وتوزيعها على الفرسان والجند وفق نظام معين. ولم تغفل الخلافة الموحدية عن أهمية القوي البحرية، وخصوصاً منذ ¬_______ (¬1) الحلل الموشية ص 115. (¬2) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة ص 74 أ. (¬3) البيان المغرب ص 174

استولت على إفريقية والأندلس. ومنذ عصر عبد المؤمن أول الخلفاء الموحدين، نرى الخلافة الموحدية، فضلا عما آل إليها من بقايا الأسطول المرابطي، تعنى بإنشاء القطائع البحرية سواء في مياه المغرب، أو إفريقية أو الأندلس. وقد أنشأ عبد المؤمن في أواخر عهده عدداً ضخماً من هذه القطائع بلغ نحو ثلاثمائة أو أربعمائة، كانت عماد الأسطول الموحدي الكبير، وكان الأسطول، فضلا عن قيامه بنقل الجيوش الموحدية الزاخرة، وعتادها الهائل، عبر المضيق إلى الأندلس في الذهاب والأوبة، يقوم بحراسة الشواطىء الأندلسية، من مياه البرتغال جنوبا، حتى مياه بلنسية والجزائر الشرقية، وشواطىء المغرب الشمالية حتى مياه تونس والمهدية. وكانت للأسطول الموحدي وحدات كبيرة، ترابط في المعمورة وسبتة، وتونس، ومالقة وقادس، وأحيانا في مياه البرتغال الجنوبية. وقد لعب الأسطول الموحدي أدواراً هامة في معارك الخلافة الموحدية مع البرتغال، وكذلك في افتتاح المهدية، وحوادث الصراع مع بني غانية، وفي افتتاح الجزائر الشرقية، وغيرها من مواطن الصراع بينها وبين خصومها. وكانت شئون الجيش، توكل إلى ديوانين أو وزارتين هامتين: الأول هو ديوان العسكر، وعلى رأسه وزير، يكون في الغالب من الجند، يشرف على كل ما يتعلق بشئون الجيش (¬1). والثاني هو ديوان التمييز. وقد رأينا كيف بدأ التمييز في بداية الدولة الموحدية، إجراء تعسفياً لاستبعاد الخصوم أو المارقين أو إعدامهم، وتطهير صفوف الجيش منهم، ثم تطور هذا الإجراء بمضى الزمن، وأصبح ينصرف إلى اختيار الصفوة من الجند، وكان يجرى التمييز قبيل كل غزوة أو حرب هامة، يضطلع بها الخليفة الموحدي، ويعمل بالتمييز زمام، ويقرن بالإنعام والبركات على الجند الذين فازوا بالتمييز. وكان يتولى ديوان التمييز، وزير يسمى كاتب ديوان التمييز (¬2)، وكان للجيش في نفس الوقت، في ديوان الكتابة، كاتب أو أكثر يختصون بالكتابة في شئونه. وكان حج الخليفة الموحدي إلى قبر المهدي وقبور آبائه بتينملّل، من الرسوم المأثورة، وكان الخليفة يقوم بهذه الزيارة حينما يعتزم الغزو، أو الاضطلاع بعظائم الأمور، وكانت تعتبر دائما حركة مباركة، وعنوان التشجيع والتيمن. بيد أنه بالرغم مما بلغه الجيش الموحدي، في ظل الخلفاء الأقوياء منذ عبد المؤمن ¬_______ (¬1) البيان المغرب ص 141. (¬2) ابن صاحب الصلاة في المن بالإمامة لوحة 150 ب

حتى نهاية عهد المنصور، من الضخامة والقوة، فإنه كانت توجد به ثمة ثغرات، تعرضه من آن لآخر إلى وقوع الكوارث المؤلمة. ومن ذلك فوضى القيادة، فإنه لم تكن للجيش من بعد عبد المؤمن قيادة قوية حازمة، وكان اختيار القادة يتوقف على الظروف، ويتم غالبا قبيل وقوع الغزو أو المعركة المرتقبة، هذا مع اعتبار الخليفة دائماً هو القائد الأول لجيشه، وكان استئثار الخليفة بالقيادة، وعدم استماعه للخبراء من قادته، ينتهي بالفشل كما حدث في غزوة وبذه، أو بالكارثة كما حدث في موقعة شنترين. ولم يوفق المنصور إلى نصره الباهر في معركة الأرك، إلا بفضل حزمه ونصح قادته، ولاسيما القادة الأندلسيين، وكان اختيار القادة يتأثر غالبا بصلات القربى والمصاهرة، مما يترتب عليه استبعاد القادة الأكفاء. وكان حظ القيادة الأندلسية، على كفايتها وخبرتها بحروب شبه الجزيرة ضئيلا، وقد أدت هذه الفوضى في تنظيم القيادة الموحدية واختيارها، إلى هزيمة الجيش الموحدي غير مرة، في ظروف كان يلوح فيها أن النصر قريب منه. وكان اختلال التموين في الجيوش الموحدية، يحدث كذلك أثره السىء في كفاية هذه الجيوش ومقدرتها. وقد كان امتداد خطوط التموين من أعماق المغرب عبر البحر إلى الأندلس، مسافات طويلة، أهم سبب في هذا الاختلال. وبالرغم من إقامة قواعد التموين الهائلة فيما بين سلا وسبتة، ولاسيما في وادي سبو، فإن الجيوش الموحدية، كانت حينما تعبر إلى شبه الجزيرة، وتتوغل في أراضي العدو، تشعر بنقص في تموينها، وكان هذا النقص، يؤدي في بعض الأحيان إلى اختلال نظام الجيش كله، وإلى انشغال معظم الجند بالبحث عن القوت. وقد تحدثنا فيما تقدم، غير مرة، عن هذه الظاهرة المؤسفة في نظام الجيش الموحدي. وكان من أهم ما تمتاز به الجيوش الموحدية، تفوقها في فن الحصار، ومقدرتها على اقتحام المدن المنيعة، بالآلات الفتاكة. وقد كانت تتفوق في ذلك تفوقاً واضحاً، على الجيوش المرابطية، وكانت أمنع الأسوار والتحصينات تتحطم تحت ضربات هذه الآلات المدمرة. وقد دلل الموحدون على هذا التفوق في حوادث كثيرة، سواء في إفريقية أو في اسبانيا أو البرتغال، حينما كانت تنهار تحصينات المدن والقلاع المنيعة، أمام قصف مجانقهم وآلاتهم المدمرة، ولنا من ذلك أمثلة بارزة في حوادث حصار وهران والمهدية بإفريقية. وطرُّش وحصن

القصر أو قصر أبي دانس وشلب بالبرتغال. ومن جهة أخرى، فإنه مما يلفت النظر، أن الموحدين لم يقتصروا على استعمال الآلات القديمة وتحسينها، بل كانوا يستعملون آلات جديدة قاذفة، تقذف الحجارة والكرات الحديدية الملتهبة. وفي أواخر العهد الموحدي بالأندلس نرى الموحدين في لبلة حين حصارها، يطلقون على القوات النصرانية المحاصرة، آلات تقذف الحجارة والحديد، ويصحبها دوى كالرعد، تشبه المدافع البدائية (¬1). وكان الموحدون في نفس الوقت يتفوقون في تشييد الحصون والمنشآت الدفاعية، ومازالت أطلال قصبة بطليوس العظيمة، وقلعة جابر، والأسوار الموحدية في إشبيلية ولبلة، تقوم شاهداً على هذا التفوق في فنون التحصينات. ولما وقعت نكبة العقاب المشئومة، وسحقت الجيوش الموحدية، وتعذر على الخلافة الموحدية أن تبعث حشودها إلى الأندلس، انهارت الجبهة الدفاعية الأندلسية، ونهضت الممالك الإسبانية النصرانية لتجنى ثمار نصرها، وتلتهم من أشلاء الأندلس المهيضة ما استطاعت، وشغل الولاة الموحدون، وشغلت القوات الموحدية القليلة الباقية، بما نشب حول كرسى الخلافة الموحدية من خلاف، بدأ بالمغرب، وتردد صداه بالأندلس، فنهض أبو محمد عبد الله بن يعقوب المنصور، المتلقب بالعادل، أولا بإشبيلية، ونادى لنفسه بالخلافة ضد عمه أبي محمد عبد الواحد، وقام من بعده أيضاً بإشبيلية أخوه أبو العلى إدريس المتلقب بالمأمون، مدعيا الخلافة لنفسه، وتركت الأندلس لمصيرها، بعد أن تخلت عنها الخلافة الموحدية، تحاول بمواردها وقواها المضعضعة، أن تقف في وجه السيل المتدفق عليها، من جيوش الفتح الإسبانية، ولكن هيهات، فقد كانت مصاير الأندلس كلها، ترتجف في كفة القدر، وكان أن فقدت الأندلس، سائر قواعدها الكبرى، في أقل من ربع قرن. 4 - الحكومة الموحدية بالأندلس كانت نظم الحكم المرابطية للأندلس، يغلب عليها الطابع العسكرى، وكان معظم حكام الولايات الأندلسية، من قادة الجيش البارزين، مثل سير بن أبي بكر اللمتوني، ومحمد بن الحاج، ومزدلي بن تيولتكان، ويحيى بن غانية، وغيرهم من أكابر القادة. ولكن النظم الموحدية، كانت أميل إلى الطابع المدنى، وكانت ¬_______ (¬1) راجع ص 493 من هذا الكتاب

الأندلس، أو شبه جزيرة الأندلس كما كانت تنعت في الرسائل الموحدية الرسمية، تعتبر خلال العصر الموحدي، مثلما كانت عليه في العهد المرابطي، قطراً من أقطار الدولة الموحدية الكبرى. وكانت تنقسم إلى عدة ولايات أو عمالات، هي ولاية الغرب (شلب وأحوازها)، وباجة ويابره، وبطليوس وماردة وأحوازهما، وإشبيلية وكانت أعظمها رقعة، وتشتمل على قواعد شريش وشذونة وأركش وقرمونة وإستجه، وقرطبة وأحوازها، وجيان وأحوازها، وتشتمل على بياسة وأبدة، وغرناطة وتشتمل على وادي آش وبسطة والمنكب وألمرية وأحوازها، ومالقة وأحوازها، وكانت عمالاتها تضم أحيانا إلى سبتة والجزيرة الخضراء (¬1)، وبلنسية وتشتمل على قواعد قسطلونة، والجزيرة وشاطبة ودانية والجزائر الشرقية (وذلك قبل أن يستقل بها بنو غانية)، ومرسية وتشتمل على لقنت، وأوريولة ولورقة. وكان يتولى حكم هذه الولايات عادة أبناء الخليفة وإخوته أو قرابته وأصهاره. وكانت مدينة إشبيلية هي مركز الحكومة الموحدية العامة بالأندلس لما تقدم شرحه من الأسباب والبواعث، العمرانية والجغرافية والعسكرية، وقد نقلت منها الحكومة إلى قرطبة في أواخر عهد عبد المؤمن، ولكن لفترة قصيرة فقط، ثم أعيدت إلى إشبيلية، وبقيت بها حتى نهاية العهد الموحدي. وكان يتولى منصب الحاكم العام للأندلس، على الأغلب واحد من أبناء الخليفة أو إخوته، وكان أول من تولاه من أبناء الخليفة السيد أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وذلك في سنة 551 هـ، وذلك تحقيقاً لرغبة أشياخ إشبيلية (¬2). وفي إشبيلية، كان ينتظم حول ولد الخليفة، أو أخيه، بلاط موحدى صغير، كان يسطع أحيانا بمن يلتف حول السيد الحاكم، من أكابر الشخصيات الأندلسية المعاصرة، وقد كان هذا شأن بلاط السيد أبي يعقوب يوسف حينما كان يتولى حكم إشبيلية، ثم بعد ذلك لما عاد إليها بعد وفاة أبيه، متشحا بثوب الخلافة، وأقام بها بضعة أعوام. وكذلك سطع البلاط الموحدي بإشبيلية، أيام أن أقام بها ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، وحظيت إشبيلية في عهد أبي يعقوب وولده المنصور بطائفة من الصروح والمنشآت العمرانية العظيمة مثل جامع إشبيلية الأعظم، وصومعته الرائعة (لاخيرالدا)، والقصور والبساتين الموحدية خارج باب جهور، وحصن الفرج، وقنطرة طريانة، وغيرها مما سبق أن فصلناه في موضعه. ¬_______ (¬1) راجع ص 339 ق 1 من هذا الكتاب. (¬2) راجع ص 348 ق 1 من هذا الكتاب

وكان لكل ولاية أندلسية حكومتها المحلية، تضم إلى جانب الوالي الموحدي، الوزير والكاتب وصاحب العمل، والمشرف على الجباية، هذا عدا المناصب الدينية من القضاء والخطبة والشورى وغيرها. وكانت تؤلف هذه الحكومات المحلية عادة من أهل الأندلس، وهم يختصون عادة بمناصب الكتابة والقضاء. وكان بعض السادة من أبناء الخليفة أو إخوته، يستخدمون في حكوماتهم المحلية أكابر كتاب الأندلس، جريا على سنة بلاط مراكش، فنرى مثلا السيد أبا سعيد ابن الخليفة عبد المؤمن، حين ولايته لغرناطة، يستخدم لكتابته، الكاتب والشاعر الكبير أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسى (¬1). ونرى في أواخر العهد الموحدي، السيد أبا زيد بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن والي بلنسية، يستخدم لوزارته وكتابته، كاتبا من أعظم كتاب الأندلس وشعرائها هو ابن الأبار القضاعى (¬2). بيد أنه كانت تسند بعض المناصب الحساسة، إلى الموحدين، مثل الإشراف على الجباية والأعمال. أما حكم القواعد فكان يسند على الأغلب إلى حكام من الأندلسيين، الموثوق بولائهم وإخلاصهم للحكم الموحدي. وكانت إشبيلية فضلا عن كونها مركز الحكومة الموحدية العامة، تتخذ في نفس الوقت، مركزاً لتجمع الجيوش الموحدية، القادمة من وراء البحر، أو العائدة من الغزو، لتعبر البحر مرة أخرى إلى أوطانها بالمغرب. وكانت القوات الأندلسية، حسبما ذكرنا في موضعه، تؤلف جناحاً خاصاً في الجيوش الموحدية الوافدة إلى شبه الجزيرة، وكانت تقوم بحراسة كثير من الحصون في مناطق الحدود، إما مستقلة، وإما بالاشتراك مع بعض الحاميات الموحدية. وكان لجند الأندلس قيادتها الأندلسية الخاصة، إلى جانب القيادة الموحدية، وكانت هذه القيادة الأندلسية تلعب أدواراً هامة في التوجيه والإرشاد في بعض المعارك الكبرى. ومما هو جدير بالذكر أن مملكة الشرق، أعني منطقة بلنسية ومرسية، كانت خاضعة قبل سقوطها في أيدي الموحدين في سنة 567 هـ (1171 م) لحكومة أندلسية محضة، كانت تقوم بحكمها وفقاً للتقاليد الأندلسية الخالصة، وقد لبثت هذه المنطقة دائماً، حتى بعد استيلاء الموحدين عليها، تحتفظ بطابع أندلسي قوي، يميزها عن بقية المناطق الأندلسية في الوسط وفي الغرب. ويرجع ذلك من بعض ¬_______ (¬1) الإحاطة في أخبار غرناطة (1956) ج 1 ص 224. (¬2) راجع ص 396 من هذا الكتاب

الوجوه إلى حظوة آل مردنيش بعد وفاة عميدهم محمد بن سعد، لدى الخليفة الموحدي، وإلى موافقة الخليفة على استبقاء آل مردنيش لسلطانهم ونفوذهم في تلك المنطقة مدى حين. ولما تضعضع سلطان الحكومة الموحدية، بعد ذلك بنحو ثلث قرن، على أثر نكبة الجيوش الموحدية في موقعة العقاب (609 هـ) وضعفت الحاميات الموحدية المحلية، كان شرقي الأندلس كذلك، أول المناطق التي قامت بها الحركة التحريرية الأندلسية، على يد المتوكل بن هود، في مرسية وأحوازها، والرئيس أبي جميل زيان بن مردنيش في بلنسية. ولم يكن ذلك سوى تجديد للحركة القومية الأندلسية، التي اضطرمت ضد الحكم الموحدي في شرقي الأندلس، على يد محمد بن سعد بن مردنيش، ولبثت صامدة زهاء ربع قرن. بيد أن هذه المرحلة الأخيرة من الحركة القومية الأندلسية، كانت ضعيفة، ولم يكتب لها الصمود، إزاء توثب الممالك النصرانية وهجماتها المتوالية، فكانت بداية المحنة ونذير الانهيار. ونهض محمد بن الأحمر في أواسط الأندلس، فكانت ثمة حركة قومية أندلسية أخرى. وكانت هذه الحركات القومية الأندلسية المحلية، في الظروف الدقيقة التي كانت تعمل فيها، وبالرغم من صفتها القومية والتحريرية، تصطبغ بلون انتحارى مؤلم، وكانت الزعامات والقوى الموحدية، التي بقيت في شبه الجزيرة تشغل بمشاريعها الخاصة، وأطماعها في عرش مراكش، الذي أحاقت به الخلافات والفتن، عن الاهتمام بقضية الأندلس، أو التفكير في مدافعة أعدائها المتربصين بها، أعني النصارى الإسبان، بل كانت بالعكس تصانع أولئك الأعداء، وتستمد عونهم، وتقطعهم ما بيدها من حصون الأندلس وأراضيها. وقد لبثت إشبيلية حتى بيعة المأمون بالخلافة، مركز الحكم الموحدي بالأندلس، ولكنها مذ غادر المأمون شبه الجزيرة إلى المغرب (626 هـ)، قامت بها حكومة محلية في ظل الخلافة الموحدية، ثم أخذت تتردد بين الاستقلال، وبين الانضواء تحت حكم ابن هود تارة، وتارة تحت ظل الخلافة الموحدية، وأخيراً تحت ظل الدولة الحفصية بإفريقية. وكان حكم الأندلس في تلك الفترة العصيبة، كله اضطراب وفوضى، ولم تكن ثمة حكومة موحدة، في أية منطقة من المناطق، بل كانت ثمة حكومات محلية عديدة في منطقة الشرق، وفي أواسط الأندلس، وفي إشبيلية وقواعد الغرب، حسبما فصلناه كله في مواطنه

الفصل الثانى الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى

الفصل الثاني الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي القسم الأول الدولة المرابطية دولة دينية عسكرية. الحركة الفكرية في ظلها امتداد لها في عصر الطوائف. إزدهار الحركة الفكرية خلال العصر الموحدي. المهدي ابن تومرت وسمته العلمية. الخلفاء الموحدون العلماء. رعايتهم للعلماء والحركة العلمية. الخلافة الموحدية وإطلاقها لحرية البحث. دور الأندلس في إذكاء الحركة الفكرية في الغرب الإسلامي. تقاطر علماء الأندلس على العدوة. أثر ذلك في تقدم الحركة الفكرية بالمغرب. إزدهار الحركة الفكرية خلال العصر الموحدي. تماوج الحركة الفكرية الأندلسية من جراء سقوط القواعد الاندلسية. نزوح علماء الشرق إلى إفريقية. إتجاه الحركة الفكرية خلال عصر الانهيار إلى العلوم الدينية. إزدهار العلوم الدينية والآداب حتى خلال عصر الانهيار. ضعف الحركة العلمية. كثرة علماء الدين والفقه والأدب بالأندلس خلال العصر الموحدي. الفقهاء والمحدثون وعلماء الدين الذين ظهروا في أوائل هذا العصر. نماذج من أعلامهم. أبو عبد الله بن الفرس. ابن الجد الفهرى. أبو عبد الله بن الفجار. ابن ذي النون الحجرى. ابن أبي جمرة. ابن أبي زمنين. ابن عون الله المعروف بالحصار. عبد الله بن سليمان بن حوط الله الأنصارى. أخوه داود بن سليمان بن حوط الله. الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعى. محمد بن ابراهيم المهرى. ابن زرقون الإبن. علماء الدين الذين جمعوا بين الحديث والفقه والأدب والشعر واللغة. نماذج من هؤلاء. عبد الله بن عمر الحضرمى. ابن الأشيرى. محمد بن إدريس العبدرى. محمد بن أحمد المنتانجشى. محمد بن خير الإشبيلي. عبد الله بن يحيى بن صاحب الصلاة. ابن صاف اللخمى. محمد بن جعفر بن حمدين الأموى. ابن زرقون الأب. ابن نجبة الرعينى. أحمد بن عبد الرحمن بن مضاء. ابن عيسى التادلى. أحمد بن عتيق الذهبى. ابن خلف الأموى الخطيب. ابن عمران القيسى الميرتلى. ابن نوح الغافقي. أبو عمر أحمد بن عات النفرى. أحمد بن خلف الشنتيالى. ابن خلصة الحميرى. ابن عبد العزيز الأنصارى النحوى. ابن حزم الأموى النحوى. ابن عبد المؤمن القيسى الشريشى. من نبغ في أواخر العصر الموحدي من العلماء الذين جمعوا بين علوم الدين واللغة والأدب والشعر. محمد بن يخلفتن الفازازى التلمسانى. أحمد بن يزيد بن بقى بن مخلد الأموى. ابن أصبغ الأزدي. ثابت بن خيار الكلاعي. محمد بن جابر السقفي. ابن السقاء. من ظهر من هؤلاء وقت الانهيار. ابن مطروح التجيبي. ابن عسكر المالقي. ابن الصفار الضرير. ابن أبي حجة. أحمد بن علي بن أحمد الأنصاري. عبد الله بن خلف اللخمى الحرار. ابن محرز. أكابر المتصوفة. أحمد بن عمر المعافرى المعروف بابن إفرندو. ابن مراد السلمى. محمد بن عبد الله بن العربى المعافرى. ابن سيدبونه الخزاعى. محمد بن عبد الله بن قاسم الأنصارى. ابن مهيب اللخمى. الشيخ محيى الدين الطائى ابن عربي

لم تكن الدولة المرابطية، حسبما وضح من تاريخها، سوى دولة دينية عسكرية، استمدت حياتها ومنعتها خلال عهدها القصير، مما كانت تتسم به من صفات البداوة والخشونة، وكانت روح التزمت التي تغلب عليها، وتدفعها إلى تجاهل القيم الفكرية والأدبية، تحول دون تفتح الحركات العقلية وتقدمها، ولم تكن تلك الحركة الفكرية التي ازدهرت في ظلها، والتي استعرضنا بعض ملامحها فيما تقدم، سوى امتداد طبيعى، واندفاع حتمى، لتلك الحركة الفكرية العظيمة التي ازدهرت في ظل دول الطوائف، والتي أسبغ عليها ملوك الطوائف كل تشجيع ورعاية، ثم جاءت الدولة المرابطية، فاحتضنت بعض جوانبها الرسمية، بمن كانت تحشدهم حولها من الوزراء العلماء، والكتاب البلغاء، ليكونوا لسانا لها، لدى الشعوب المحكومة، سواء بالمغرب، أو الأندلس، ولكى يستكمل البلاط المرابطي، بعد أن ضخمت الدولة وتوطد سلطانها، ما ينقصه من أسباب الهيبة والبهاء. أما الدولة الموحدية فكان لها شأن آخر. ذلك أن عصر الدولة الموحدية، الذي استطال زهاء قرن ونصف قرن من الزمان، كان من أحفل عصور التاريخ الأندلسي والمغربى بالحركات الفكرية. وإنه ليبدو من الغريب المدهش، أن نجد الحركة الفكرية الأندلسية، حتى في مرحلة الانحلال والانهيار، التي توالى فيها سقوط القواعد الأندلسية الكبرى، مستمرة في الاحتفاظ بنشاطها وعنفوانها، ونراها تنحدر عبر البحر من القواعد الأندلسية الذاهبة، إلى قواعد إفريقية والمغرب، تحمل معها تراثها الزاخر، وتزدهر هنالك حقبة أخرى. ويجب قبل أن نتحدث عن هذه الحركة الفكرية الباذخة، التي ازدهرت بالمغرب والأندلس، خلال العصر الموحدي، أن نحاول أن نستكشف في ملامح الدولة الموحدية، بعض العوامل المشجعة، أو الدافعة لمثل هذه الحركة، إذ أنه لا ريب في أن الدولة الموحدية، بالرغم مما كان يقع في ظلها بين آونة وأخرى، من ضروب المطاردة الفكرية، كانت دولة حامية للعلوم والآداب والفنون. لقد كان مؤسس الدولة الموحدية الروحى، المهدي محمد بن تومرت، من أقطاب علماء عصره، وقد أفسح في دعوته للعلم أيما مكانة، وحض على تحصيله بقوة وحماسة، في عبارته المشهورة، التي يفتتح بها كتابه وهي: " أعز ما يطلب، وأفضل ما يكتسب، وأنفس ما يدخر، وأحسن ما يعمل، العلم الذي جعله الله سبب الهداية إلى كل خير، هو أعز المطالب، وأفضل

المكاسب، وأنفس الذخائر، وأحسن الأعمال ". وقد كان أول خلفاء المهدي، وهو عبد المؤمن بن علي، مؤسس الدولة الموحدية الحقيقي، وموطد دعائمها، كذلك كان عالما من ألمع علماء عصره، يلتف حوله العلماء والكتاب والشعراء من المغرب والأندلس، يبسط عليهم رعايته، ويغمرهم بصلاته، وهو الذي نظم جماعة الحفاظ الموحدين، وعنى بأمرها أشد عناية، حتى بلغت في أيامه نحو ثلاثة آلاف حافظ، يدرسون كتب المهدي وتعاليمه، وقد تولى الكثير منهم فيما بعد كثيراً من مناصب الثقة والمسئولية، في الدولة الموحدية بالمغرب والأندلس. وكان الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، كذلك من أكابر علماء عصره، وكان أديباً متمكناً، وفقيهاً، ومحدثاً بارعاً، يشغف في نفس الوقت بالدراسات الفلسفية، ويجمع حوله طائفة من أعظم علماء العصر ومفكريه، وفي مقدمتهم أبو بكر ابن طفيل، وأبو الوليد بن رشد، وأبو بكر بن عبد الملك بن زهر، وهم أساتذة الفلسفة والطب في هذا العصر. وقد انتهى إلينا من آثاره كتابه في " الجهاد " وهو الملحق بكتاب المهدي ابن تومرت. وذلك حسبما أشرنا إلى ذلك في موضعه. وكان ولده الخليفة يعقوب المنصور عالماً مستنيراً، متمكناً من الحديث والفقه واللغة، وكان مثل أبيه وجده، يجمع حوله العلماء والأدباء والشعراء، من المغرب والأندلس، ويجزل صلتهم، ويجرى المرتبات على الفقهاء والطلبة، وفقا لمراتبهم وطبقاتهم (¬1). وكان كذلك يجرى الرواتب المنتظمة، لكثير من الأطباء، والمهندسين والكتاب والشعراء وغيرهم (¬2)، وكان له بتمكنه من الفقه، دور فعال في تطور العقيدة الموحدية، وجنوحها إلى المذهب الظاهري. ونجد حتى في أواخر الدولة الموحدية، حينما شاخت وأدركها الوهن، في الخلفاء الموحدين، من يتسم بالصفات العلمية البارزة، فقد كان الخليفة المأمون ابن المنصور، عالماً متمكناً من اللغة والأدب والشعر، وكان كاتباً مقتدراً، وكان الخليفة المرتضى لأمر الله، فقيهاً وأديباً وشاعراً. وكانت هذه الصفات العلمية للأواخر من الخلفاء الموحدين، تبرز على ما عداها، بالرغم مما كانت تتردى فيه الدولة، من الفتن والحروب الأهلية المتواصلة. وقد كان لهذه النزعة العلمية التي غلبت على معظم الخلفاء الموحدين، أثر ¬_______ (¬1) روض القرطاس ص 143. (¬2) المراكشي في المعجب ص 134

كبير فيما جرت عليه الدولة الموحدية طوال أيامها، من رعاية للعلماء والمفكرين من كل ضرب، وحشدها لأعلام الكتاب والمفكرين حول البلاط الموحدي، سواء في مراكش أو إشبيلية. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك أن الخلافة الموحدية، تحملها هذه النزعة العلمية الأصيلة، قد جرت على سياسة إطلاق حرية البحث والتفكير، خلافا لما كانت عليه الدولة المرابطية، من تزمت وتقييد لحرية الفكر، ومطاردة منظمة لكتب الغزالى وأضرابها من كتب الأصول المشرقية. ولم تشذ الخلافة الموحدية عن هذا المبدأ الحر، إلا في أحيان قليلة، كان أهمها حادثان، هما اضطهاد العلامة الفيلسوف والطبيب اليهودى الرئيس موسى بن ميمون، ومحنة العلامة الفيلسوف والطبيب أبي الوليد بن رشد، وذلك حسبما نشير إليه فيها بعد عند الكلام على هذين المفكرين. بيد أنه بالرغم من هذا التنويه، بما كان عليه الخلفاء الموحدون من الصفات العلمية، ورعاية العلوم والآداب، وما جرت عليه الخلافة الموحدية من إطلاق حرية الفكر، يجب ألا ننسى حقيقة هامة، وهي ذلك الدور الفعّال الذي لعبته الأندلس، وهي يومئذ إحدى ولايات الإمبراطورية الموحدية الكبرى، في إذكاء الحركة الفكرية العامة، بالغرب الإسلامي، خلال العصر الموحدي. وإذا تركنا جانبا ما كان يحشده البلاط الموحدي حوله، من أعلام الكتاب الأندلسيين، فإن تقاطر العلماء على اختلاف طوائفهم باستمرار من شبه الجزيرة الأندلسية، إلى العدوة، واستقرار الكثير منهم بالحاضرة الموحدية، أو بغيرها من قواعد المغرب، وعبور الطلاب والعلماء المغاربة من جهة أخرى إلى الأندلس، للدراسة بمعاهدها التالدة في إشبيلية، وقرطبة وغرناطة وبلنسية ومرسية، كان له أكبر الأثر في ازدهار الحركة الفكرية، بالقطرين العظيمين المغرب والأندلس. ولما انهار سلطان الموحدين بالأندلس، وأخذت قواعد الأندلس الكبرى، تسقط تباعا في أيدي النصارى، عبر كثير من علماء الأندلس، من أبناء القواعد الذاهبة، إلى ثغور إفريقية وقواعدها، ولاسيما تونس وبجاية وتلمسان، وقامت في شمال إفريقية في أواسط القرن السابع الهجرى، حركة فكرية وأدبية زاهرة. ومن ثم فإنه من الواضح، إزاء ذلك كله، أن الحركة الفكرية في الغرب الإسلامي، كانت خلال العصر الموحدي، تجوز، سواء بالمغرب أو الأندلس،

فترة من القوة والازدهار. وإذا كان من الصعب علينا، خلال هذا البحث الذي خصص لتاريخ الدولة الموحدية السياسي، أن نستوعب سائر جوانب هذه الحركة الفكرية العظيمة، التي لا يمكن أن يتسع لتفاصيلها، سوى تاريخ خاص للآداب في هذا العصر، فإننا سوف نحاول مع ذلك، أن نلم بعناصرها بصفة عامة، وأن نستعرض الكثير من أعلامها، في مختلف العلوم والفنون، ولاسيما في شبه الجزيرة الأندلسية. هذا مع ذكر طائفة من أعلام التفكير المغاربة، الذين يقتضى المقام أن نذكرهم. ومما يلاحظ في سير الحركة الفكرية الأندلسية في العصر الموحدي، تماوجها وعدم استقرارها، ولاسيما منذ أواخر القرن السادس الهجرى، وذلك حينما بدأت قواعد الغرب الإسلامية تسقط في أيدي النصارى، واتجهت هجرة العلماء وغيرهم، من أوطانهم القديمة، صوب منطقة إشبيلية. وحدث مثل هذا التقلقل في الأندلس الوسطى، وذلك حينما سقطت قرطبة عاصمة الخلافة القديمة، وأعظم مراكز التفكير الأندلسي، في أيدي القشتاليين (633 هـ). وتلتها بقية قواعد المنطقة مثل جيان وغيرها، فعندئذ تحول مركز التفكير الأندلسي من هذه المنطقة إلى الجنوب، صوب غرناطة وغيرها من قواعد الأندلس الجنوبية، وكانت قد بدأت تجتمع في ظل زعامة إسلامية جديدة، هي زعامة ابن الأحمر، ثم لما وقع الانهيار العام في شرقي الأندلس، وسقطت بلنسية وشاطبة ودانية وغيرها من قواعد الشرق في أيدي النصارى (الأرجونيين) (636 - 641 هـ)، غادرها العلماء والخاصة، بعضهم إلى مرسية وأحوازها، ومعظمهم إلى ثغور إفريقية، ولاسيما تونس وبجاية، وكان في مقدمة هؤلاء علماء وكتاب أعلام، مثل ابن الأبار القضاعى، وأبي المطرف بن عميرة المخزومي، وأبي عبد الله بن الجنان وغيرهم. ولبثت مرسية وأحوازها، بعد سقوط بلنسية، زهاء ثلاثين عاما أخرى، مركزاً للعلوم الأندلسية، وإن كان ذلك في ظروف مقلقة، وتحت ضغط العدو المستمر، حتى سقطت بدورها في أيدي النصارى، وخبا بذلك آخر مشعل للعلوم الإسلامية في شرقي الأندلس، وتفرق بقية علماء الشرق، في مختلف القواعد الجنوبية، وقصد الكثير منهم إلى ثغور إفريقية وقواعد المغرب. وثمة ملاحظة أخرى تتعلق بعناصر الحركة الفكرية الأندلسية، في هذا العصر الذي اضطربت فيه أوضاع الحياة الإجتماعية بالأندلس، وهي أن هذه

العناصر كانت تتجه قبل كل شىء إلى العلوم الدينية والآداب، بينما لا تحظى العلوم الدنيوية المحضة منها إلا بالقليل النادر، فلا نجد من علماء الطب والفلك والنبات مثلا سوى أفراد قلائل، ولا نجد، إذا استثنينا العالم النباتى الكبير أبا العباس ابن الرومية، شخصيات علمية بارزة، من طراز ابن زهر وابن طفيل وابن رشد. أما العلوم الدينية والآداب، فقد لبثت حتى خلال المحنة، محتفظة بمستواها الرفيع السابق، بل لقد بلغت الآداب، وقت الانهيار العام، مستوى عظيما من التفوق، لم تبلغه في عصور سابقة، وبلغ النثر والشعر منتهى الروعة. ذلك أن المحنة بسقوط الأوطان القديمة، وتبدد الشمل، وفقد المال والأهل والولد، وانهيار أركان الدين، وانطفاء نور الإسلام، في تلك الربوع العزيزة، كل ذلك قد أذكى لوعة الشعر والنثر، وصدرت عندئذ في بكاء الأندلس، من المراثى البليغة، من النظم والنثر، ما يهز أوتار القلوب، وما لا يزال يحتفظ حتى اليوم بكل روعته وتأثيره. والآن بعد أن استعرضنا بعض ملامح الحركة الفكرية الأندلسية، خلال العصر الموحدي، نحاول أن نستعرض ذلك الثبت الحافل من أعلام التفكير الأندلسي، الذين ظهروا في هذا العصر، وسوف نبدأ في ذلك بعلماء الدين، من فقهاء ومحدثين، ومن إليهم من علماء الكلام والأصول وغيرهم. - 1 - قلنا إن الحركة الفكرية الأندلسية، خلال العصر الموحدي، تمتاز بوفرة في دراسة علوم الدين والفقه والأدب، ومن ثم فإنا نجد أمامنا جمهرة كبيرة من علماء الدين والفقه يعدون بالمئات، ومن المتعذر علينا في هذا المقام المحدود، أن نذكرهم جميعاً، ولهذا فسوف نقتصر على ذكر الأعلام البارزين منهم. ومن جهة أخرى فإن كثيراً من هؤلاء العلماء والفقهاء، الذين امتازوا بالتفوق في العلوم الدينية، كالحديث والأصول والتفسير والفقه، كانوا في نفس الوقت يمتازون بتمكنهم من الأدب وعلوم اللغة، وبعضهم ينظم الشعر، ومن ثم فإنا سوف نحاول أن نقدم منهم من غلب عليهم التفوق في العلوم الدينية، ثم نتبعهم بمن مزجوا بين علوم الدين والأدب، بيد أن مثل هذا التصنيف لا يمكن إلا أن يكون أمراً نسبياً. ونود أن نشير كذلك، إلى مسألة الفارق الزمنى بين عصر المرابطين وعصر الموحدين. ذلك أننا أدرجنا ضمن أعلام التفكير الأندلسي في عصر المرابطين،

بعض من امتدت حياتهم إلى صميم العصر الموحدي، إلى سنة 560 هـ، وأحيانا إلى سنة 570 هـ، وسوف ندرج هنا ضمن أعلام العصر الموحدي بعض من توفوا قبل ذلك، ممن أدركوا العصر المرابطي وظهروا فيه. والتفرقة هنا نسبية أيضاً، ولا ضير منهما، ما دمنا نعنى في كتابنا بعصر المرابطين والموحدين معا. ونبدأ بذكر طائفة من الفقهاء والمحدثين وعلماء الدين، الذين ظهروا بالأندلس في أوائل العصر الموحدي، منذ منتصف القرن السادس الهجرى. ومن الواضح أن معظمهم ظهر كذلك في العصر المرابطي، قبل عبور الموحدين إلى شبه الجزيرة واستيلائهم عليها. كان من هؤلاء ابراهيم بن الحاج أحمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن خالد ابن عماره الأنصارى، من أهل غرناطة، وبها نشأ ودرس على أعلام عصره بها، وبقرطبة ومالقة، وألمرية، وكان ممن أخذ عنهم أبو بكر بن عطية، وأبو الحسن ابن الباذش، وابن عتاب، وابن رشد، وغيرهم من الأقطاب، وبرع في الفقه والحديث، والقراءات، ومارس عقد الشروط، وولي القضاء بعدة جهات من ولاية غرناطة، ولما انهار سلطان المرابطين بالأندلس غادر موطنه غرناطة، يتجول في البلاد، حتى استقر أخيراً بمدينة ميورقة في كنف أميرها إسحاق بن محمد بن غانية، فولاه قضاءها، وتصدر للدرس والإقراء وكان من أعلام دولة بني غانية. وتوفي بميورقة في جمادى الأولى سنة 579 هـ، ومولده بغرناطة سنة 495 هـ (¬1). ومحمد بن عبد الرحيم بن محمد بن الفرج بن هاشم الأنصارى الخزرجى، ويعرف بابن الفرس، من أهل غرناطة، درس على أبيه أبي القاسم، وأبي بكر بن عطية، وأبي الحسن بن الباذش، وأبي القاسم بن ورد، ودرس في قرطبة على ابن عتاب وابن رشد، وابن الوراق وغيرهم من أعلام العصر. وعنى بالحديث والفقه والقراءات، والرواية، مع تمكن من الفتوى. غادر بلده غرناطة عند وقوع الفتنة بها على أثر انهيار سلطان المرابطين واستوطن مرسية، وولي بها خطة الشورى ثم تولى قضاء بلنسية، ولكنه غادرها منذ قيام ثورة ابن شلبان، وأدى اضطراب الأحوال إلى أن صرفه الأمير محمد بن سعد عما كان بيده من الخطط، ثم عاد فاسترضاه لما رأى من علمه وفضله وزهده، وكان في وقته من أعلام حفاظ الأندلس، مع مشاركة في الأدب. أخذ عنه الكثير ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة (القاهرة) رقم 400

وانتفعوا به، وكانت وفاته بمدينة إشبيلية، عند وفوده عليها مع وجوه أهل مرسية لتحية الخليفة، وذلك في شوال سنة 567 هـ (¬1). وبيبش بن محمد بن أحمد بن خلف بن بيبش العبدرى من أهل أندة، وسكن مع أبيه بلنسية، ودرس بها وبرع في الفقه، وولي الشورى ببلنسية، وكذلك خطة الأحكام، وكان بصيراً بعقد الشروط، مدركا لصحة الأحكام، وتطوع في جيش الخليفة أبي يعقوب يوسف حينما سار لغزو مدينة وبذة في سنة 567 هـ، ثم توفي عقب عوده من الغزو المذكور في سنة 568 هـ (¬2). وعبد الله بن أحمد بن سعيد بن عبد الرحمن العبدرى من أهل بلنسية ويعرف بابن موجوال، درس الفقه والحديث والقراءات، ونزح إلى إشبيلية، فسكنها وأخذ عن أبي مروان الباجى، وأبي بكر بن العربى وغيرهما، وبرع بالأخص في دراسة الفقه، وكان بصيراً بالأحكام، وعرف فوق ذلك بالورع والزهد، وحدث عنه جماعة من الأعلام. ألف شرحاً في صحيح مسلم، ولكنه توفي قبل إتمامه، وله كذلك شرح لرسالة أبي زيد القيروانى. وتوفي في إشبيلية سنة 566 هـ (¬3). ومحمد بن عبد العزيز بن علي بن عيسى بن مختار الغافقي، من أهل قرطبة، ويعرف بالشقورى لأن أصله من شقورة. كان معنيا بصناعة الحديث، بصيراً بطرائقه، وكان فوق ذلك حافظا لأخبار الأندلس متمكنا من الفقه والأحكام. ولى قضاء شقورة بلده الأصلى، فحمدت سيرته، واشتهر بالعدل والنزاهة، وحدث وأخذ عنه الناس، وتوفي في المحرم سنة 579 هـ (¬4). وأحمد بن يوسف بن عبد العزيز بن محمد القيسي الوراق من أهل قرطبة أخذ عن ابن عتاب وابن رشد والقاضي عياض وغيرهم من أقطاب عصره، وكان عالما بالحديث، حدث وأخذ عنه جماعة كبيرة، وكان أصم، وتوفي بمراكش سنة 582 هـ (¬5). وأحمد بن عبد الصمد بن أبي عبيدة الخزرجي من أهل قرطبة، وسكن غرناطة وقتا، ثم نزح إلى بجاية، وكان محدثاً متمكناً من الرواية. وكتب في أحكام النبى كتابا سماه " آفاق الشموس وأعلاق النفوس " وكتابا آخر عنوانه " مقامع الصلبان ومراتع رياض أهل الإيمان "، وتوفي بمدينة فاس في شهر ذي الحجة سنة 582 هـ (¬6). ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1394. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 609. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 2050. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1436. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 222. (¬6) ترجمته في التكملة رقم 223

وبيبش بن محمد بن علي بن بيبش العبدرى من أهل شاطبة، درس الفقه والحديث والتفسير مع مشاركة في النحو ومارس الشورى والفتيا زمنا، وعرف بمقدرته وكفايته. ثم تولى قضاء شاطبة بلده. وألف في التعليق على صحيح البخاري كتابين، وأخذ عنه جماعة من أعلام عصره، توفي في جمادى الأولى سنة 582 هـ (¬1). وكان من أعظم فقهاء هذا العصر وحفاظه، ابن الجد الفهرى، وهو محمد ابن عبد الله بن يحيى بن فرج بن الجد، وأصله من لبلة وبها ولد سنة 496 هـ، وتلقى بها دراسته الأولى ثم درس بقرطبة، وأخذ فيها عن ابن عتاب، وابن رشد، وأخذ في إشبيلية عن أبي بكر بن العربى وغيره، وعنى لأول أمره بدراسة العربية فبرع فيها، وعزم على التخصص فيها، والتصدر لإقرائها، ولكنه مال بعدئذ بتوجيه أستاذه ابن رشد إلى دراسة الفقه والحديث، فبرع في هذا الميدان وبلغ فيه الذروة، وانتهت إليه رياسة عصره في الحفظ والفيتا، وقدم للشورى بإشبيلية مع أبي بكر بن العربى ونظرائه من الفقهاء البارزين يومئذ، وكان في عصره فقيه الأندلس والمغرب وحافظهما دون منافس ولا منازع، كما كان أبرع أهل عصره في التمكن من مذهب مالك. وكان فوق ذلك فصيحاً، وخطيباً مفوهاً، وذاع صيته في المغرب والأندلس، وتبوأ ذروة النفوذ والجاه في ظل الدولة الموحدية، ولكنه لم يترك من قلمه آثارا ذات شأن، وتوفي بإشبيلية في الرابع عشر من شوال سنة 586 هـ عن تسعين عاما، ولبثت أسرته عصراً تحتفظ بمكانتها ونفوذها، وتولى حفيده الفقيه أبو عمرو بن الجد زعامة إشبيلية وقتا، أيام الانهيار والفتنة، وتوفي قتيلا قبل سقوط إشبيلية بوقت قصير (¬2). ومن الفقهاء والمتكلمين، صالح بن أبي صالح خلف بن عامر الأنصارى الأوسى من أهل مالقة، درس بها على أعلام عصره ثم رحل إلى تلمسان، ثم إلى تونس، والمهدية، وأخذ عن أقطابها سماعا وإجازة. وكان فقيهاً متمكناً من علم الكلام. وروى عنه الأخوان أبو محمد وأبو سليمان إبنا حوط الله، وتوفي في رمضان سنة 586 هـ (¬3). ومنهم أحمد بن محمد بن أخلف بن عبد العزيز الكلاعي، من أهل إشبيلية ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 610. (¬2) راجع ترجمة الحافظ ابن الجد في التكملة رقم 1469، وراجع ص 470 - 472 من هذا الكتاب. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1887

ويعرف بالحوفي. درس الفقه والحديث، وسمع من أبي بكر بن العربي وغيره، وتولى قضاء إشبيلية، وعنى بنوع خاص بعلم الفرائض، وألف فيه كتابا حسنا وتوفي في شعبان سنة 588 هـ (¬1). وأبو بكر بن خلف الأنصاري، من أهل قرطبة، ويعرف بالموافق، درس الحديث والفقه، ونزح إلى مدينة فاس، واشتهر بغزارة الحفظ، وتولى تدريس الفقه عصراً، واشتهر بمقدرته وتبحره، وعنى في الحديث بالتعليل والبحث عن الأسانيد والرجال، ولم يعن بالرواية، والتحق وقتا بخدمة الخليفة في مراكش، ونال جاهاً وثراءً، ثم ولى قضاء فاس، فلبث فيه حتى توفي في شوال سنة 590 هـ (¬2). ومحمد بن ابراهيم بن خلف بن أحمد الأنصاري من أهل مالقة، وأصله من بلنسية، ويعرف بابن الفخار. كان إماما في الحديث، مقدما فيه، وفي المعرفة بسرد المتون والأسانيد، وتمييز الرجال. سمع من أبي بكر بن العربى، وأكثر عنه واختص به، وعن أبي مروان بن بونه، وأبي جعفر البطروجى، وشريح ابن محمد، وأبي طاهر السلفى. وكانت له فوق ذلك مشاركة في اللغة ومعرفة الشروط، وكان يتولى عقدها بباب قنتنالة، وكان يحفظ " صحيح مسلم "، وكان شديد الورع، جليل القدر، شديد التمسك بالعدل، مكرما لطلاب العلم. واستدعى في أواخر حياته من الخليفة يعقوب المنصور إلى مراكش ليسمع عليه بها، فقصد إليها، ولكنه توفي بها بعد قليل في شعبان سنة 590 هـ، ومولده بمالقة سنة 511 هـ (¬3). وعبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن ذي النون الحجري، من أهل ألمرية، وأصلهم القديم من طليطلة، ولهم فيما يبدو صلة رحم ببنى ذي النون سادة طليطلة أيام الطوائف. درس الحديث والفقه ثم رحل إلى قرطبة، ثم إلى إشبيلية، ودرس فيهما على أعلام عصره، ولاسيما أبي القاسم بن بقى، وابن مغيث، وأبي بكر بن العربى، وشريح بن محمد، واشتهر بتبحره وغزارة حفظه. وكان آية في الصلاح والورع والفضل والعدالة، وولي الخطبة والصلاة بجامع بلده ألمرية، ودعى إلى القضاء، فاعتذر. ولما غلب النصارى على ألمرية في سنة ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 227. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 596. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1480

542 هـ (1147 م) غادرها إلى مرسية، وعاش بها وقتا في خمول وضعة، ثم غادرها إلى مالقة، ولكنه لم يجد بها طيب المستقر، فعبر البحر إلى العدوة، ونزل بمدينة فاس وأقام بها مدة، ثم انتقل منها إلى سبتة، فاستوطنها، وهو عاكف على إقراء القرآن وتدريس الحديث، وسار ذكره، وبعد صيته، حتى قصد إليه الناس من كل صوب للأخذ عنه، واستدعاه الخليفة، أبو يعقوب يوسف، إلى مراكش، ليسمع بها، فقصد إليها وأقام بها مدة، ثم استأذن في العود إلى سبتة وقضى بها بقية حياته. حدث عنه عدد كبير من جلة العلماء من الأندلس والمغرب. وكان مولده بحصن قنجاير على مقربة من ألمرية في سنة 505 هـ، وتوفي بسبتة في شهر المحرم، وقيل في صفر سنة 591 هـ (¬1). ومحمد بن عبد الكريم الفندلاوى من أهل مدينة فاس، ويعرف بابن الكتانى، كان إماما في علم الكلام وأصول الفقه، وعكف على تدريسهما طول حياته، وكان له معرفة بالآداب، وله رجز في أصول الفقه، وروى عنه جماعة من أهل المغرب، وتوفي سنة 596 هـ (¬2). وأحمد بن سلمة بن أحمد بن يوسف بن سلمة الأنصارى من أهل لورقة، وسكن تلمسان، ويعرف بابن الصيقل. درس الحديث وبرع في صناعته، وروى عن ابن الدباغ، وابن بشكوال، وابن خير، وابن الجد، وغيرهم من الأقطاب، وكان من أهل الضبط والإتقان. حدث، وسمع منه الكثير، وذكر لنا ابن الأبار أن شيخه أبا الربيع بن سالم كبير علماء بلنسية في عصره، كان يطنب في الثناء عليه. وتوفي في المحرم سنة 598 هـ (¬3). ومحمد بن أحمد بن عبد الملك بن موسى بن محمد بن مروان بن خطاب ابن عبد الجبار، ويعرف بابن أبي جمرة، من أهل مرسية. درس الفقه والحديث على أقطاب عصره، وعنى بالرأى وحفظه، وولي خطة الشورى، وهو شاب في الحادية والعشرين أيام إمامة القاضي ابن أبي جعفر، ثم في ظل إمارة محمد بن سعد، واستمر فيها وقتا، وكان أول من شاوره من القضاة أبو الحسن بن برطلة. ثم ولى قضاء مرسية وبلنسية وشاطبة وأوريولة في أوقات مختلفة. وكان حافظاً متقناً، وفقيهاً بارعاً، بصيراً بمذهب مالك، متخصصاً في تدريسه، عدلاً دقيقاً في ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 2080. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1718. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 238

أحكامه، فصيحاً، حسن البيان. ومن مؤلفاته، كتاب " نتائج الأبكار، ومناهج النظار، في معانى الآثار "، ألفه بعد سنة 580 هـ، حينما قام الخليفة المنصور بمطاردة أهل الرأي، وأمر بإحراق المدونة وغيرها، من كتبه، وكتاب " إقليد التقليد المؤدى إلى النظر السديد ". وله برنامج عدد فيه الأعلام من علماء أسرته. وقد حمل عليه وعلى أسلافه بعض علماء عصره، ودافع عنه ابن الأبار، في ترجمته بالتكملة، ونوه بفضل بعض الأعلام من سلفه، تأييداً لدفاعه، واستشهد كذلك بأقوال بعض شيوخه مثل أبي عمر بن عات، وأبي سليمان بن حوط الله، وأبي بكر ابن وضاح وغيرهم. وكانت وفاته بمرسية مصروفا عن القضاء، في اليوم الثلاثين من المحرم سنة 599 هـ (¬1). ومحمد بن علي بن مروان بن جبل الهمداني، من أهل وهران، وأصله أندلسي، ونشأ بتلمسان، ودرس بها، وولي قضاءها، ثم ولى قضاء الجماعة بمراكش في سنة 585 هـ، بعد أبي جعفر بن مضاء، ثم نقل إلى قضاء إشبيلية عام 592 هـ، ثم أعيد ثانية إلى قضاء مراكش بعد إقالة أبي القاسم بن بقى، وكان فقيهاً متمكناً، حميد السيرة، شديد الهيبة، عارفا بالأحكام، ميالا إلى العدل، وتوفي سنة 601 هـ. ويقول لنا صاحب التكملة إن أحداً لم يجلد طوال ولايته للقضاء، مما يدل على أن عقوبة الجلد، كانت مستعملة في هذا العصر، للمعاقبة على الذنوب التي يقضى فيها بالتعزير (¬2). ومحمد بن أبي خالد عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن .. بن محمد بن أبي زمنين عدنان بن بشير بن كثير المرّى الإلبيرى، من أهل غرناطة، كان من ألمع فقهاء عصره، وأخذ عن أبي مروان بن قزمان، وأبي الحسن الزهرى، وأبي القاسم بن بشكوال، وغيرهم من أقطاب عصره. ولى قضاء غرناطة، ثم قضاء مالقة، وكان فوق براعته في الفقه، محدثاً متقناً، بارعاً في الرواية، عارفاً بتاريخ من نزل بالأندلس قديماً من العرب. وحدث عنه جماعة ممن تبوؤوا الطليعة فيما بعد، ومنهم أبو سليمان بن حوط الله، وأبو القاسم الملاّحى، وأبو الربيع ابن سالم وغيرهم. توفي مصروفا عن القضاء في شهر ربيع الأول سنة 602 هـ. وكان مولده بغرناطة سنة 533 هـ (¬3). ¬_______ (¬1) أورد له ابن الأبار ترجمة مطولة في التكملة رقم 1514. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1719. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1530

وإسحاق بن ابراهيم بن يعمر الجابري، من مدينة فاس، ودرس بها، ودرس كذلك بسبتة، ثم رحل إلى الأندلس، ودرس الفقه بمرسية. وولي قضاء فاس وسبتة، وكان متبحراً في الفقه المالكى، حافظا متقنا، ويقال إنه كان يستظهر المدونة. وولي قضاء بلنسية في أواخر عمره سنة ست وستمائة، ثم ولى قضاء جيان، وفقد في موقعة العقاب في شهر صفر سنة 609 هـ (¬1). وأحمد بن علي بن يحيى بن عون الله الأنصاري، ويعرف بالحصّار. أصله من دانية وسكن بلنسية، ودرس القراءات وبرع فيها، وتبوأ رياستها في عصره، ولم يكن أحد يدانيه في صناعته في الضبط والتجويد والإتقان. وكان يقصده الطلاب من كل صوب للأخذ عنه، ويصفه تلميذه ابن الأبار، الذي ننقل عنه هذه الترجمة، بأنه كان " آخر المقرئين " بشرق الأندلس. وكانت وفاته ببلنسية في الثالث من شهر صفر سنة 609 هـ، قبيل كارثة العقاب بأيام قلائل، وقد قارب الثمانين من عمره (¬2). وعبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري من أهل مالقة، ويعرف بابن القرطبي، لأن أصلهم من قرطبة. ودرس الحديث، وبرع فيه، وأخذ عنه جمهرة من أقطاب عصره مثل أبي بكر بن الجد، وابن زرقون، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي عبد الله بن الفخار، وعنى بالرواية عناية شديدة، وأكثر من الرحلة في لقاء الشيوخ، وطلب العلم، وكان من أشهر أهل عصره في صناعة الحديث، والتصرف في فنونه، ولم يكن أحد يدانيه في حفظ التاريخ، إلا القلائل من أهل عصره، وكان فوق ذلك له مشاركة طيبة في علم العربية والآداب، إلا أن شهرته في الحديث كانت هي الغالبة عليه. وقد حدث ودرس وأخذ عنه الكثير، وألف مجموعة في " تلخيص أسانيد الموطأ " توفي بمالقة في شهر ربيع الآخر سنة 611 هـ (¬3). وكان من أبرز أقطاب الحديث والفقه في أواخر العصر الموحدي بالأندلس، الأخوان عبد الله وداود، إبنا حوط الله الأنصاري الحارثي. وأكبرهما عبد الله، وهو عبد الله بن سليمان بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمرو بن خلف ابن حوط الله الأنصاري الحارثي، ولد بأندة من أعمال بلنسية في سنة 549 هـ، ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 517. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 261. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 2097

وهي موطنهم وأصل دارهم، ودرس ببلنسية ومرسية وقرطبة. وتجول في سائر قواعد الأندلس الأخرى. وبرز في الحديث، والقراءات، وأخذ عن جمهرة من أقطاب العصر، منهم بمرسية أبو القاسم بن حبيش، وبقرطبة أبو القاسم ابن بشكوال، وأبو العباس المجريطي، وأبو الوليد بن رشد، وبإشبيلية أبو بكر ابن الجد، وأبو اسحق بن ملكون، وبمالقة أبو عبد الله بن الفخار وأبو القاسم السهيلى، وغير هؤلاء. وكان إماما في صناعة الحديث، متفوقاً في الرواية والضبط، حافظاً لأسماء الرجال، متمكناً من التعديل والتجريح، ولم يكن في وقته أبعد صيتا منه، ومن أخيه أبي سليمان في هذا الميدان، وكان فوق ذلك متفوقاً في علم العربية، كاتباً بليغاً، وخطيباً مقتدراً، وشاعراً محسناً. استدعاه الخليفة المنصور لتأديب بنيه فحظى لديه، ونال جاها ودنيا عريضة. وتولى في أوقات مختلفة قضاء قرطبة وإشبيلية ومرسية وسبتة وسلا وغيرها، وألف كتاباً في " تسمية شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والنسائى والترمذى " ولكنه لم يكمل، ووضع فهرسا حافلا لشيوخه. حدث وسمع منه الكثيرون من أعلام عصره. وتوفي بغرناطة، وهو في طريقه إلى مرسية، وذلك في الثاني من شهر ربيع الأول سنة 612 هـ، ثم نقل إلى مالقة ودفن فيها (¬1). وأما أخوه داود بن سليمان بن داود، فقد ولد بأندة سنة 560 هـ، ودرس الحديث على أبيه وأخيه كبيره عبد الله، وبرع مثله في الحديث، وطاف بقواعد الأندلس طلباً للعلم، وأخذ من الجلة أينما حل، ورحل كذلك إلى سبتة وغيرها من بلاد العدوة، وكان خبيراً بعقد الشروط. وكان ممن أخذ عنهم أبو العباس المجريطى، وابن بشكوال، وأبو بكر بن الجد، وأبو عبد الله بن زرقون، وأبو عبد الله بن الفخار، وأبو العباس بن مضاء، وابن الفرس، وأبو بكر بن أبي زمنين وغيرهم وغيرهم. وتولى قضاء سبتة وألمرية والجزيرة الخضراء، ثم تولى قضاء بلنسية، ومالقة، وعرف أينما حل بالعلم والحلم والنزاهة، وكان ورعا متواضعا، لين الجانب، يشاطر أخاه الشهرة وعلو المكانة. وتوفي بمالقة في سادس ربيع الآخر سنة 621 هـ، ودفن بسفح جبل فاره إلى جانب أخيه (¬2). ونختتم هذا الثبت من علماء الحديث والحفاظ بذكر إمامهم وشيخهم في وقته، العلامة الحافظ أبو الربيع بن سالم. وهو سليمان بن موسى بن سالم بن حسان ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 2099. (¬2) ترجمته في الإحاطة (1956) ج 1 ص 511 - 514

ابن سليمان الحميرى الكلاعى من أهل بلنسية، وأصله من بعض ثغورها الشرقية. درس القراءات والحديث، وأخذ وروى عن جماعة كبيرة من شيوخ عصره، مثل أبي العطاء بن نذير وأبي القاسم بن حبيش وأبي بكر بن الجد، وأبي الوليد بن رشد وأبي محمد بن الفرس وغيرهم. وبرع في الحديث والفقه والأدب. وكان حسبما يصفه تلميذه ابن الأبار " إماما في صناعة الحديث، بصيراً، حافظا حافلا، عارفا بالجرح والتعديل، ذاكراً للمواليد والوفيات، يتقدم أهل زمانه في ذلك وفي حفظ أسماء الرجال، مع الاستبحار في الأدب والاشتهار في البلاغة، فرداً في إنشاء الرسائل، مجيداً في النظم، خطيباً فصيحاً مفوهاً ". ويصفه ابن عبد الملك بأنه " بقية الأكابر من أهل العلم بصقع الأندلس الشرقي، حافظا للحديث مبرزاً في نقده، ضابطا لأحكام أسانيده، كاتباً بليغاً شاعراً مجيداً، خطيباً مصقعاً ". تولى الخطبة بجامع بلنسية غير مرة، وقدم إلى سماعه الطلاب من كل صوب. وكتب عدة مصنفات في الحديث والسير والآداب، منها حلية الأمانى في الموافقات العوالى، وتحفة الرواد في الغوالى البدلية والإسناد، والمسلسلات من الأحاديث، وكتاب الاكتفاء في مغازى رسول الله، ومغازى الثلاثة الخلفاء، وكتاب حافل في معرفة الصحابة والتابعين لم يكمله، وبرنامج مروياته، وجنى الرطب في سنى الخطب، جمع فيه طائفة كبيرة من خطبه، ومؤلفات أخرى في الأدب، ومجموع رسائله، وغير ذلك، وجمع شعره في ديوان. ومما يؤثر عنه أنه كان ينحى باللائمة على الإمام الغزالي في اختيار عنوان كتابه " إحياء علوم الدين " ويقول متى ماتت العلوم حتى نقول بإحيائها، فهى مازالت حية وسوف تبقى كذلك. وكان فوق علمه الغزير، مجاهداً من أولى الإقدام والبسالة، وثبات الجأش. يحضر الغزوات والوقائع، ويشترك بنفسه في القتال، ويبلى البلاء الحسن، وكانت آخر وقيعة اشترك فيها هي وقيعة أنيشة التي اضطرمت بين المسلمين والنصارى في ظاهر بلنسية في اليوم العشرين من ذي الحجة سنة 634 هـ، ودارت فيها الدائرة على المسلمين، واستشهد منهم عدد جم بينهم كثير من الفقهاء والعلماء. وكان أبو الربيع في مقدمة من استشهد وهو يخوض المعمعة، ويحث إخوانه على القتال، وذلك حسبما سبق أن ذكرناه في موضعه. وقد رثاه تلميذه ابن الأبار، ومن سقط معه من علماء بلنسية،، بقصيدته الشهيرة التي مطلعها: ألمّا بأشلاء العلى والمكارم ... تقد بأطراف القنا والصوارم

وعوجا عليها مأربا وحفاوة ... مصارع غصت بالطلى والجماجم وهي في نحو مائة بيت. وكان مولد أبي الربيع بن سالم في قرية من قرى مرسية في شهر رمضان سنة 565 هـ (¬1). ومن الفقهاء الذين نبغوا في الأصول وعلم الكلام، محمد بن ابراهيم المهرى من أهل بجاية، وأصله من إشبيلية. رحل إلى المشرق، وأخذ عن جمهرة من أقطاب المحدثين، وبرز في علم الكلام، وأصول الفقه، حتى اشتهر بالأصولى، وكان علم وقته في هذا الميدان. وولي قضاء بجاية غير مرة، وعنى بإصلاح كتاب "المستصفى" لأبي حامد الغزالى، ورحل إلى الأندلس، واتصل بابن رشد وكان يدرس معه " علوم الأوائل ". ولما امتحن ابن رشد سنة 593 هـ، محنته المشهورة، التي سبق ذكرها في موضعها، امتحن معه المهرى، ونفى مثله من قرطبة، إلى بعض الجهات، ثم عفى عنه، وكف بصره في أواخر حياته، وتوفي سنة 612 هـ (¬2). ومنهم عبد الله بن باديس بن عبد الله بن باديس اليحصبى من أهل جزيرة شقر، نشأ في بلنسية، ورحل إلى إشبيلية فأخذ بها عن أقطابها، ثم عبر البحر إلى فاس، وتبحر في الأصول وعلم الكلام على أشياخها، ثم عاد إلى بلنسية، وتصدر للتدريس بالمسجد الجامع، ونوظر في " المستصفى " لأبي حامد الغزالى، وكان من أساتذة ابن الأبار، أخذ عليه وصحبه وقتا، وتزهد في آخر حياته، وتوفي في شعبان سنة 622 هـ (¬3). ومنهم محمد بن محمد بن سعيد .. بن مجاهد الأنصارى من أهل إشبيلية ويعرف بابن زرقون، وأصلهم من بطليوس، أخذ عن أقطاب عصره، وفي مقدمتهم أبو بكر بن الجد، وأبو جعفر بن مضاء. وكان فقيهاً مالكياً متبحراً في المذهب، متعصباً له، وأخذ عنه أهل عصره، وكان فوق ذلك يشارك في الأدب مشاركة طيبة، وينظم اليسير من الشعر. ومن مؤلفاته " الكتاب المعلى في الرد على المُحَلّى لابن حزم " وكتاب " قطب الشريعة في الجمع بين الصحيحين " واختصر كتاب " الأموال " لأبي عبيد، وغير ذلك. وكانت وفاته بإشبيلية في شوال سنة 621 هـ، ومولده بها في سنة 539 هـ (¬4). ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة لابن الأبار (الأندلسية) رقم 1991، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك، مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيري - لوحة 23 وما بعدها، وعنوان الدراية ص 167 - 169. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1726. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 2109. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1612

- 2 - وهنالك طائفة كبيرة من علماء الدين، الذين نبغوا في الفقه أو الحديث والقراءات، ونبغوا في نفس الوقت في الأدب والشعر أو اللغة، وقد رأينا أن نذكرهم مجتمعين في هذا القسم على النحو الآتي: ْكان من هؤلاء عبيد الله بن عمر بن هشام الحضرمي، أصله من إشبيلية، ونزح أهله إلى قرطبة، وبها ولد ونشأ. ودرس القراءات والحديث، والعربية والآداب، على أقطاب عصره، وتحول في حواضر الأندلس في طلب الاستزادة والتمكن. وكان مقرئاً، نحوياً، أديباً شاعراً. عبر البحر إلى المغرب، وتصدر للإقراء وتعليم الآداب والعربية، وتنقل بين مراكش ومكناسة وتلمسان. ثم قفل إلى الأندلس، ونزل ألمرية حينا، ثم غادرها إلى مرسية وولي الخطبة بجامعها، وله تصانيف عدة، منها " كتاب الإفصاح في اختصار المصباح " وكتاب في " شرح مقصورة ابن دريد ". وكان انفصاله عن مرسية في سنة 550 هـ، ولا يعرف كم عاش بعدها. ومولده في سنة 489 هـ (¬1). وعبد الله بن محمد عبد الله الصنهاجي المعروف بابن الأشيري، نسبة إلى أشير من أعمال المغرب الأوسط. درس الحديث والفقه بالأندلس، وأخذ بها عن أبي بكر بن العربى، وابن عساكر، وشريح بن محمد، وأبي الفضل عياض، وأبي الوليد بن الدباغ وغيرهم. وكان أديبا، وكاتبا بليغا، كتب لصاحب المغرب (وهو فيما يرجح علي بن يوسف)، فلما توفي استتر وغادر المغرب إلى المشرق وحج، وجاور حينا بمكة، ثم توجه في أواخر حياته إلى حلب، وحدث بها وهنالك توفي في سنة 561 هـ (¬2). ومحمد بن عبد الله بن ميمون بن إدريس العبدري، من أهل قرطبة. درس الفقه والحديث على أقطاب عصره، مثل ابن عتاب، وابن رشد، وابن مغيث، وابن العربى، وابن الباذش وغيرهم، وبرع بنوع خاص في علم اللغة، وكان مشاركا في فنون كثيرة، حافظا متمكنا، وشاعراً محسناً. غادر قرطبة أيام الفتنة وعبر البحر إلى المغرب، ونزل بمراكش، فاقرأ بها العربية والآداب، وله شرح مشهور " لجمل الزجاجي "، ومعشرات في الغزل، ونظم في الزهد، ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 3172. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 2149

وتوفي بمراكش سنة 567 هـ (¬1). ومحمد بن أحمد بن محرز بن عبد الله بن أميه، من أهل بطليوس، واستوطن إشبيلية ويعرف بالمنتانجشى نسبة إلى حصن منتانجش. عنى بالقراءات والفقه والحديث، ودرس العربية على أبي عبد الله بن أبي العافية وأبي بكر بن القبطورنة وغيرهما، وكان فقيهاً مشاوراً، حافظاً، له حظ من الأدب والكتابة. وقد أخذ عنه عدة من الجلة مثل ابن خير، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي الخطاب بن واجب وغيرهم، وتوفي في آخر سنة 569 هـ، ومولده في سنة 479 هـ سنة الزلاقة (¬2). ومنهم وهو من أنبغهم، محمد بن خير بن عمر بن خليفة الأموي، مولى ابراهيم بن محمد بن يغمور اللمتونى من أهل إشبيلية. ودرس بها وبقرطبة وألمرية وغيرها، وشغف بالقراءات والحديث والفقه، وبرع فيها، وعنى عناية كبيرة بتقييد الرواية والآثار، وأخذ عن جمهرة كبيرة من أقطاب عصره، منهم أبو مروان الباجى، وأبو بكر بن العربى. وأبو اسحاق بن حبيش، وأبو القاسم ابن بقى، وابن مغيث، وابن أبي الخصال، وأبو الفضل عياض وغيرهم. وقد اشتهر بالإتقان والضبط، وكان فوق ذلك أديباً كبيراً، بارعاً في اللغة والنحو. وفي أواخر حياته ولى الصلاة بجامع قرطبة وتوفي بها في ربيع الأول سنة 575 هـ، ومولده في سنة 502 هـ. وقد اشتهر ابن خير بنوع خاص بفهرسه الجامع الذي ألفه عن شيوخه، وعن الكتب التي رواها وقرأها، عنهم، ومن هذا الثبت الحافل، نستطيع أن نكون فكرة جامعة عن الكتب الدراسية وكتب النصوص، التي كانت متداولة بمدارس الأندلس في القرن السادس الهجري (¬3). ومنهم محمد بن عبيد الله بن أحمد .. بن نصر بن سالم الخشنى، من أهل رندة وسكن مالقة، ودرس بها، وبقرطبة، وبرع في القراءات واللغة والنحو، وأنفق حياته في إقراء القرآن وتعليم العربية، وكان كذلك محدثا حافظا، حدث، وأخذ عنه الكثيرون. وتوفي بمالقة في سنة 576 هـ (¬4). وعبد الله بن محمد بن عيسى الأنصاري، ويعرف بابن المالقي، لأن أصله ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1395. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1400. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1424. وقد نشر فهرست ابن خير ضمن المكتبة الأندلسية، وهو يشغل المجلد العاشر منها، ونشر بعناية الأستاذين كوديرا وخوليان ربيرا (سنة 1893). (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1427.

من مالقة، ودرس بإشبيلية وغيرها، ثم نزح إلى العدوة وسكن مراكش وكان فقيهاً متمكناً، وخطيباً مفوهاً، وأديباً كبيراً محسناً، ندبه الخليفة أبو يعقوب يوسف لرياسة طلبة الحضرة، ونال في ظل رعايته جاها ودنيا عريضة. وتوفي بمراكش في سنة 574 هـ، وعلى قول آخر في سنة 573 هـ (¬1). وعبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فتوح الحضرمي النحوي من أهل دانية، ويعرف بابن صاحب الصلاة. درس القراءات والعربية والأدب، ونزح إلى شاطبة فدرس بها الأدب والنحو زمانا، وكان أديبا متمكنا، مبرزاً في صناعة العربية، استدعاه ابن سعد أمير الشرق إلى بلنسية، وذلك لتأديب أولاده، وأخذ عنه كثير من أهل عصره، ومنهم أعلام مثل أبي الربيع بن سالم، وكان له كذلك حظ من قرض الشعر. ومن ذلك قوله: وعجل شيبي أن ذا الفضل مبتلى ... بدهر غدا ذو النقص فيه مؤمّلا ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... بها الحر يشقى واللئيم ممولا وتوفي ببلنسية في شهر رجب سنة 578 هـ ثم حمل إلى بلده دانية، ودفن بها. ومولده في سنة 517 هـ (¬2). وأحمد بن محمد بن مفرج الأموي أصله من سرقسطة، ونزل مرسية، ويعرف بالملاّحى، عنى بالقرآن والحديث والعربية وبرع فيها، وأقرأ القرآن بمرسية، وحدث وأخذ عنه، وعلم العربية زمنا، وتوفي في سنة 582 هـ (¬3). والحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري، من أهل قرطبة، ونزل مالقة، درس القراءات والحديث وبرع في الرواية، وأخذ عن عدة من أقطاب عصره، ومنهم أبو القاسم بن بشكوال، أخذ عنه كتاب الصلة، وكان متمكنا من العربية ومن علم العروض. وحدث عنه أهل عصره. وتوفي بمالقة في رمضان سنة 585 هـ، ومولده في سنة 518 هـ (¬4). ومحمد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن صاف اللخمي من أهل إشبيلية. عنى بالقراءات والعربية، ودرس ببلده إشبيلية، ثم رحل إلى جيان، فدرس على أبي بكر بن مسعود الخشني. واشتهر ببراعته في القراءات والعربية، وله شرح في أشعار الستة وفي تغلب. وكتاب في ألفات الوصل والقطع، وشروح ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 2058. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 2066. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 220. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 694

لآيات من القرآن، وأجوبة لأهل طنجة في مسائل القراءات والنحو. حدث، وأخذ عنه جماعة. وتوفي في سنة 585 هـ وقيل في 586 هـ، ومولده سنة 512 هـ (¬1). ومحمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميد بن مأمون الأموي، من أهل بلنسية. درس القراءات بإشبيلية وغرناطة على أقطاب عصره، ورحل إلى جيان فدرس بها العربية والآداب على أبي بكر بن مسعود. ثم رحل إلى ألمرية فدرس على من كان بها من أقطاب العصر. ثم قفل إلى بلده، وقد ذاع صيته، واشتهر بغزير علمه، فأقرأ وحدث وعلم العربية. ثم ندب لقضاء بلنسية فقضى في منصبه عدة أعوام، واشتهر بنزاهته وعدالته وحسن تصريفه، وهو في نفس الوقت يقرىء القرآن والعربية، مع حظ وافر من البلاغة والبيان والبديع. وانتقل إلى مرسية في أواخر حياته، وتولى بها الصلاة والخطبة، وتوفي في جمادى الأولى سنة 586 هـ ومولده في سنة 513 هـ (¬2). ومحمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد بن عبد البر بن مجاهد الأنصاري، من أهل إشبيلية ويعرف بابن زرقون. درس على أبيه، وعلى عدد من الجلة، مثل أبي محمد ابن عبدون، وأبي بكر بن القبطورنة، وأبي الفضل عياض، واختص به ولازمه كثيراً، وكتب له أيام ولايته لقضاء غرناطة. وكان متمكنا من الحديث والفقه، مع براعته في الأدب وقرض الشعر. ولى قضاء شلب، ثم قضاء سبتة، فحمدت سيرته، واشتهر بكفايته ونزاهته. وله عدة مؤلفات منها كتاب الأنوار، جمع فيه بين المنتقى والاستذكار، وجمع أيضاً بين مصنف الترمذى وسنن أبي داود، وكان الطلاب يرحلون إليه لعلو روايته. وتوفي بإشبيلية في رجب سنة 586 هـ. ومولده بشريش سنة 512 هـ (¬3). ومفوز بن طاهر بن حيدرة المعافري، من أهل شاطبة، درس القراءات والفقه، وبرع فيهما، وكان فقيهاً مشاوراً، ولى قضاء شاطبة، زمنا فحمدت سيرته، وكان فوق ذلك متمكنا من الأدب، بليغاً حسن البيان، وله حظ من قرض الشعر، ومن نظمه: وقفت على الوادي المنعم دوحه ... فأرسلت من دمعى هنالك واديا وغنمت به ورق الحمام عشية ... فأذكرنا أياما مضت ولياليا ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1465. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1467. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1468

وتوفي بشاطبة في شعبان سنة 590 هـ، ومولده في سنة 517 هـ (¬1). ونجبة بن يحيى بن خلف .. بن نجبة الرعيني من أهل إشبيلية، درس على أقطاب عصره مثل أبي مروان الباجي، وأبي بكر بن العربي، وأبي بكر بن طاهر، وأبي القاسم بن الرماك، وغيرهم. وكان إماما في القراءات والعربية، وقد تصدر لإقراء القرآن، وتعليم العربية زمانا، ثم عبر إلى المغرب، ونزل بمراكش استجابة لدعوة الخليفة، وهنالك أقرأ القرآن بالحاضرة الموحدية، وكان يرافق حملات الغزو الموحدية. وقد حدث عنه جماعة من الشيوخ، وتوفي على مقربة من شريش سنة 591 هـ، وهو مرافق لجيش المنصور المتجه إلى الغزو، وحمل إلى إشبيلية ودفن بها، ومولده في سنة 520 هـ (¬2). وأحمد بن عبد الرحمن بن محمد .. ابن مضاء بن مهند بن عمير اللخمى، من أهل قرطبة، وأصله من شذونة، درس القراءات والحديث والعربية، وأخذ عن عدة من الجلة، مثل ابن أبي الخصال، وابن مسرة، وأبي بكر بن مدبر، وأبي بكر بن سمجون، وأخذ العربية بإشبيلية عن أبي القاسم بن الرماك، وسمع من أبي بكر بن العربى، وسمع بألمرية أبا محمد عبد الحق بن عطية، وأبا الفضل عياض، ومال إلى العربية وبرع فيها، ثم عبر إلى المغرب والتحق بخدمة الخلافة، وولي قضاء فاس، ثم نقل إلى قضاء الجماعة بمراكش. وكان له حظ وافر من الأدب، والبيان والشعر، وله في العربية كتاب سماه " بالمشرق " وكتاب " تنزيه القرآن عما لا يليق من البيان ". وتوفي بإشبيلية مصروفا عن القضاء في جمادى الأولى سنة 593 هـ، ومولده بقرطبة سنة 511 هـ (¬3). وعبيد الله بن عبد الرحمن .. بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان، من أهل قرطبة، واستوطن أشونة من أعمالها. درس الحديث والفقه، وسمع من عدة من الأقطاب، منهم أبوه القاضي أبو مروان، وأبو جعفر البطروجى، وأبو إسحق ابن فرقد، وغيرهم. وولي القضاء بعدة بلاد من أعمال قرطبة، وكان فقيهاً متمكناً بصيراً بالأحكام، وكان فوق ذلك أديباً محسناً وشاعراً، من بيت علم وأدب ونباهة. توفي بأشونة سنة 593 هـ، أو 594 هـ (¬4). ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1844. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1879. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 234. (¬4) ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك المجلد الأول من مخطوط باريس لوحة 1765، وكذلك في التكملة رقم 2181

ومنهم من علماء المغرب عبد الله بن محمد بن عيسى التادلى، من أهل فاس، ودخل الأندلس في أواخر العهد المرابطي، ودرس بإشبيلية، وسمع من القاضي عياض، وأجاز له ابن بشكوال، وتلقى الحديث عن ابن عتاب، وأبي بحر الأسدى، وكان فقيهاً متمكناً، أديباً محسناً، وله رسائل وأشعار عديدة، وولي قضاء بلده فاس في أواخر أيام الخليفة أبي يعقوب يوسف. وحدث عنه جماعة من أقطاب الأندلس، مثل أبي محمد بن حوط الله، وأبي الربيع بن سالم. وتوفي بمكناسة سنة 597 هـ. ومولده في سنة 511 هـ (¬1). ومنهم أحمد بن عتيق بن الحسن بن زياد بن فرج، أصله من ألمرية، وسكن بلنسية، ويعرف بالذهبى، درس القراءات والفقه والآداب والعربية، ومهر في عدة فنون، وكان فقيهاً مبرزاً في علم الأصول، متبحراً في علوم الأوائل، ماهراً في العربية، وكان آية في الحفظ والذكاء والفهم، وحسن الاستنباط، والغوص على المعانى الدقيقة. حدث وأقرأ العربية، واستدعاه الخليفة المنصور إلى مراكش فحظى لديه، وكان من أبرز أعضاء مجلسه العلمى، وكان يتلقى عليه بعض العلوم النظرية. وقدمه للشورى والفتوى، فأبدى في هذا الميدان ما يشهد بتمكنه وغزارة علمه. ولما امتحن ابن رشد وزملاؤه محنتهم المشهورة في سنة 591 هـ، اختفى ابن فرج حينا خشية توجيه الاتهام إليه، ثم ظهر وطمأنه المنصور، وحظى بعد المنصور لدى ولده محمد الناصر، ونال جاها وثراء. وله تآليف، منها كتاب الإعلام بفوائد مسلم للمهدى الإمام، وكتاب حسن العبارة في فضل الخلافة والإمارة. وكانت وفاته بتلمسان في شوال سنة 601 هـ، أثناء مرافقته الجيش الموحدي المتجه إلى إفريقية (¬2). والحسن بن علي بن خلف الأموي من أهل قرطبة، وسكن إشبيلية، ويعرف بالخطيب، أخذ عن عدة من أقطاب عصره، مثل ابن مغيث، وأبي بكر بن العربى، وابن مسرة، وأبي بكر بن مسعود، وابن أبي الخصال، وبرع في القراءات والحديث والأدب. وتولى الخطابة ببعض جهات إشبيلية، وله عدة مصنفات نفيسة، منها كتاب روضة الأزهار، وكتاب في الأنواء، وكتاب اللؤلؤ المنظوم في معرفة الأوقات بالنجوم، وكتاب روضة الحقيقة في بدء الخليقة، وكتاب تهافت ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 2155. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 247

الشعراء وغيرها. توفي بإشبيلية سنة 602 هـ، ومولده بقرطبة سنة 514 هـ (¬1). ومحمد بن يوسف بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن أبي زيد، من أهل لرية من عمل بلنسية، ويعرف بابن عياد. أخذ عن أبيه أبي عمر، وعدة من الأقطاب مثل أبي الحسن بن النعمة، وأبي عبد الله بن الفرس، وأبي القاسم ابن حبيش، وغيرهم، وعنى أشد العناية بالرواية، وتقييد الآثار والأخبار، والتواريخ. وكان له حظ وافر من الآداب والعربية، وله مشاركة في النظم، وحدث وأخذ عنه البعض، وله مجموع في مشيخة أبيه أبي عمر. توفي ببلده سنة 603 هـ، ومولده في سنة 544 هـ (¬2). وموسى بن حسين بن موسى بن عمران القيسي، الميرتلي، نزيل إشبيلية، درس القراءات والآدب، وبرع فيهما، وصحب أبا عبد الله بن المجاهد، واختص به وسلك طريقته في الزهد والورع والعزلة والعبادة، وكان في ذلك منقطع القرين. وكان يلازم مسجده داخل إشبيلية، يقرىء ويعلم، وله حظ وافر من قرض الشعر، ومعظمه في الزهد والتخويف من سطوة الله. توفي في أوائل سنة 604 هـ، وقد تجاوز الثمانين. ومن نظمه قوله: سليخة وحصير ... لبيت مثلى كثير وفيه، شكراً لربى ... خبز وماء نمير وفوق جسمى ثوب ... من الهواء ستير إن قلت أني مقل ... إنى إذاً لكفور قررت عينا بعيشى ... فدون حالى الأمير (¬3). وأحمد بن محمد بن أحمد بن مقدام الرعيني، من أهل إشبيلية، أخذ عن ابن العربى، وأبي القاسم بن الرماك، وأبي الحسن بن عظيمة، وغيرهم، ومهر في القراءات والأدب، وكان أديبا حافظا، يستظهر شعر المعرى المدون بسقط الزند، ولما توجه ابن العربى على رأس وفد إشبيلية إلى مراكش لمقابلة الخليفة عبد المؤمن، صحبه في رحلته، وحضر وفاته عند عوده بفاس، وتوفي في أواخر سنة 604 هـ، ومولده سنة 516 هـ (¬4). وإدريس بن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي من أهل مرسية ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 698. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1533. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1731. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 252

درس الحديث والفقه والأدب، وكان في مقدمة من أخذ عنهم أبو العباس بن الحلاّل صاحب الأحكام بمرسية، وكان ماهراً في شئون الوثائق والعقود، وولي قضاء شاطبة، ثم ولى الخطابة والصلاة بجامعها، وكانت له مشاركة طيبة في الأدب وله موجز في السيرة لابن إسحاق سماه " بالإشراق " وتوفي في سنة 606 هـ (¬1). وأحمد بن عبد الودود بن عبد الرحمن .. بن صالح الهلالى، من أهل غرناطة وسكن المنكب حينا. ويعرف بابن سمجون. أخذ عن أبيه أبي محمد، وعدة من أقطاب عصره. وبرع في الحديث والفقه، وولي قضاء المنكب، ثم تولى الخطبة، بجامع قرطبة وقتا. وكان فوق ذلك أديبا محسنا في النثر والنظم، حدث وأخذ عنه بعض الشيوخ الجلة. وتوفي بغرناطة، في أوائل سنة 608 هـ، ومولده في سنة 528 هـ (¬2). ومحمد بن أيوب بن محمد بن وهب .. بن نوح الغافقي من أهل بلنسية، ودار سلفه بسرقسطة. وكان من أشهر وأنبغ الفقهاء الذين جمعوا بين الفقه والأدب في تلك الفترة. درس القراءات والفقه والأدب، وأخذ عن عدة من الأقطاب، واستظهر المدوّنة، وأخذ العربية والآداب عن ابن النعمة. ولى خطة الشورى ببلنسية في حياة شيوخه، وتفوق عليهم في الحفظ والتحصيل، ولم يكن في وقته بشرقى الأندلس، أغزر منه علماً وتبحراً، وانتهت إليه الرياسة يومئذ في عقد الشروط والفتيا. وكان فوق براعته في الفقه والقراءات والتفسير، أديبا متمكنا، ماهراً في الغريب من اللغة، حافظا للأنساب والأخبار، متقنا لما استغلق من معانى الأشعار الجاهلية والإسلامية، مشاركا في فنون كثيرة أخرى. وولي بعد الشورى، قضاء بعض الكور ببلنسية، وخطب بجامعها وقتا. وكان له حظ متوسط من النظم. أسمع الحديث ودرس الفقه وعلوم العربية والآداب وأخذ عنه كثير من الناس، وسمع منه جلة من الشيوخ، ودرس عليه ابن الأبار، وهو يقول لنا إنه كان " أغزر من لقيت علماً، وأبعدهم صيتاً ". توفي في شوال سنة 608 هـ، ومولده سنة 530 هـ (¬3). ومنهم، ومن أشهرهم، أبو عمر أحمد بن هارون بن أحمد بن جعفر بن عات النفزي، من أهل شاطبة، أخذ عن أبيه وغيره من شيوخ وقته، ورحل إلى ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 521. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 259. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1556

المشرق، فأدى فريضة الحج، وسمع بمصر أبا طاهر السلفى، وغيره من الأقطاب وكان آية في الحفظ، يسرد المتون والأسانيد ظاهراً، ولا بخل بشىء منها، مع مشاركة طيبة في النظم والنثر، وكان موصوفا بالدراية والرواية، يغلب عليه الزهد والورع، حدث عنه بعض الشيوخ الجلة، وكان من العلماء المرافقين للجيش الموحدي في موقعة العقاب، وفيها لقى حتفه، وذلك يوم الاثنين منتصف صفر سنة 609 هـ، ومولده سنة 542 هـ (¬1). وحيان بن عبد الله بن محمد بن هشام .. بن حيان الأنصاري الأوسى من أهل بلنسية، وأصلهم من أروش من عمل قرطبة، درس القراءات والنحو، وأقرأ وقتا بجامع بلنسية، وكان نحويا بارعا، متقنا لكتاب سيبويه، لغوياً، أديباً شاعراً ماهراً في الكتابة، يميل إلى استعمال العويص من اللغة، وكان من أساتذة ابن الأبار وتوفي سنة 609 هـ (¬2). ومحمد بن أحمد بن خلف بن عياش الأنصاري الخزرجي، من أهل قرطبة، ويعرف بالشنتيالى، درس على أبي القاسم بن بشكوال، وأبي القاسم بن غالب الشراط، وأبي إسحاق بن طلحة، وأبي الحسن بن بقى، وأبي بكر بن خير، وأبي القاسم السهيلى وغيرهم، وبرع في علم القراءات، والحديث والفقه، والنحو، وكانت له كذلك مشاركة في الفرائض والحساب، تولى الصلاة بجامع قرطبة نحواً من ثلاثين سنة، وأقرأ به القرآن، وحدث زمنا، وأخذ عنه عدد من الشيوخ، وكان من أهل العلم والعمل، والصلاح والتواضع، توفي في شعبان سنة 609 هـ. ومولده في سنة 532 هـ (¬3). وأحمد بن محمد بن إبراهيم بن يحيى بن إبراهيم بن خلصة الحميري، من أهل قرطبة، درس القراءات والعربية والآداب واللغة، وبرع فيها، وعين خطيبا للجامع الأعظم، وتصدر للإقراء به مدة طويلة، وعكف بالأخص على تدريس علوم اللغة، وكان متمكناً منها متفوقاً فيها، وكان له حظ من قرض الشعر. لبث دهراً يدرس علوم اللسان بجامع قرطبة، وتولى به الخطبة نحو ثلاثة أعوام وكانت وفاته وهو قائم يخطب فوق منبر الجامع الأعظم، وذلك في شهر صفر ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 262. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 774. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1560

سنة 610 هـ، ومولده في سنة 524 هـ (¬1). ومحمد بن محمد بن سليمان بن محمد بن عبد العزيز الأنصاري النحوى، من أهل بلنسية، وأصله من سرقسطة. عنى بالحديث والرواية، وبرع في علم اللسان والعربية، وكان من شيوخه عدة من الجلة مثل أبي الخطاب بن واجب، وأبي عمر ابن عات، وأبي بكر عتيق بن علي. وكان غزير العلم والمعرفة، حافظاً متمكناً، متفوقاً في صناعة العربية عاكفا على إقرائها وتعليمها، وكان فوق ذلك شاعراً مجيداً، حسن التصرف والذوق. وكانت وفاته في ربيع الأول سنة 610 هـ، ومولده في سنة 563 هـ (¬2). وعبد الله بن عمرو بن محمد بن يوسف الخزرجى من أهل قرطبة، ونشأ بتلمسان، درس القراءات والعربية، وكان أديبا كاتبا بليغا، نزح إلى قرطبة، وعاش بها، وخدم بعض ولاتها الموحدين بالكتابة عنهم. ثم ولى القضاء وظهر بكفايته ونزاهته. وتوفي بقرطبة في رمضان سنة 613 هـ، وقد نيف على السبعين (¬3). ومحمد بن أحمد بن عبد العزيز بن سعادة من أهل شاطبة، درس القراءات والحديث، وأخذ عن أبي الحسن بن هذيل، وأبي بكر بن سيدبونه، وأخذ العربية والآداب عن أبي الحسن بن النعمة، وغيره من أقطاب العصر. وكان مقرئا بارعا، ونحويا متمكنا، ولغوياً محققاً. وقد أخذ عنه ابن الأبار وجماعة من أصحابه. وتوفي سنة 614 هـ (¬4). وإبراهيم بن علي بن ابراهيم .. بن أغلب الخولاني، من أهل إسطبة من عمل قرطبة، يعرف بالزواتى، درس بأشونة على أبي مروان بن قزمان، وبإشبيلية على ابن فرقد، وأخذ كذلك عن ابن النعمة، وابن سعادة، وأبي الحسن الزهرى، وغيرهم. وتجول في مختلف البلاد في طلب العلم، وعنى بالأخص بالآداب واشتهر ببراعته فيها. وولي قضاء ألش من أعمال مرسية، وحدث وأخذ عنه. وكانت وفاته بمراكش في آخر سنة 616 هـ، ومولده في سنة 540 هـ (¬5). ومحمد بن طلحة بن محمد بن عبد الملك .. بن حزم الأموي النحوى، سكن إشبيلية، وأصلهم من يابرة من أعمال الغرب (البرتغال)، عنى بالقراءات ¬_______ (¬1) ترجمته في الذيل والتكملة (مخطوط خزانة الرباط المصور) ج 1 لوحة 134 وفي التكملة لابن الأبار رقم 263. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1562. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 2100. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1579. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 435

والعربية، وأخذ عن أبي بكر بن صاف، وأبي اسحاق بن ملكون، وأبي بكر ابن الجد، وأبي زيد السهلى، وغلب عليه التخصص في العربية، والتمكن منها، والتحقق من غوامضها، فعكف على تعليمها، واعتبر في هذا الميدان أستاذ إشبيلية الذي لا يبارى، وقد انتفع به عدد من الشيوخ اللاحقين، مثل أبي على الشلوبين وغيره، وغلب عليه في أواخر حياته حب العزلة، فاعتكف عن الناس، وتوفي في صفر سنة 618 هـ. ومولده بيابرة في سنة 545 هـ (¬1). وسليمان بن حكم بن محمد بن أحمد بن علي الغافقي من أهل قرطبة، درس القرآن والحديث واللغة، وأخذ عن جمهرة من أقطاب عصره، منهم ابن الفخار، وأبو عمر بن عات، وأبو القاسم بن بشكوال، وأبو جعفر بن يحيى وغيرهم. امتهن عقد الشروط بقرطبة مدة، وكان متقناً مبرزاً في العدالة والضبط، عارفاً بالأحكام، أديباً كاتباً وشاعراً مبرزاً في النظم، وضع أرجوزة جيدة في الفقه. وله غير ذلك من النظم. ولد بقرطبة سنة 546 هـ، وتوفي بها في ربيع الآخر سنة 618 هـ (¬2). وأحمد بن عبد المؤمن بن موسى بن عبد المؤمن القيسي، من أهل شريش. درس الحديث والعربية على شيوخ عصره. عكف زمنا على تدريس اللغة. وله في هذا الميدان عدة مصنفات نفيسة، منها شرح الإيضاح للفارسى، والمجمل للزجاجى، وله تأليف في العروض، ومجموع في مشاهير قصائد العرب، ومختصر لنوادر أبي على القالى، ولكنه اشتهر بنوع خاص بشرحه لمقامات الحريرى. وله في ذلك ثلاث نسخ، كبرى، ووسطى، وصغرى. وأخذ عنه عدد من أقطاب العصر، ومنهم ابن الأبار حسبما يحدثنا في ترجمته. وقد نشرت شروحه على هامش المقامات مراراً، وما تزال هي عمدتنا في فهم غوامضها. وكانت وفاته ببلدته شريش سنة 619 هـ (¬3). وعبد الله بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي بكر القضاعى، وهو والد ابن الأبار صاحب التكملة، أصله من أندة وسكن بلنسية، درس القراءات والأدب، وكان حسبما يصفه لنا ولده، " مقدما في حملة القرآن، ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1595. (¬2) ترجمته في الذيل والتكملة (مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيري). (¬3) ترجمته في التكملة رقم 281، وفي نفح الطيب ج 1 ص 376

كثير التلاوة له، والتهجد به، ذاكراً للقراءات، مشاركاً في حفظ المسائل، آخذاً فيما يستحسن من الأدب معدَّلا عند الحكام ". وقد كان أول أساتذة ابنه في القراءات والأدب، وقد اطلع على جميع كتبه، وشاركه في الأخذ عن معظم شيوخه، وتوفي بأندة في ربيع الأول سنة 619 هـ، وولده المؤرخ يومئذ ببطليوس، ومولده بأندة سنة 571 هـ (¬1). - 3 - وظهرت من هذه الطبقة التي تجمع بين علوم الدين، وبين اللغة أو الأدب أو الشعر، إلى جانب من تقدم ذكرهم، جمهرة كبيرة أخرى، ممن نبغوا في أواخر العصر الموحدي، وفي خلال عهد الفتنة والانهيار بالأندلس نذكرهم فيما يلي: كان من هؤلاء عبد الله بن حامد بن يحيى بن سليمان بن أبي حامد المعافرى من أهل مرسية، درس الحديث على أبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد بن حوط الله وغيرهما من أعلام عصره، ثم درس العربية وبرع فيها، وصحب الأديب الكبير أبا بحر صفوان بن إدريس، وغيره. وكان له حظ من قرض الشعر، والبراعة في الكتابة، وكان في وقته من رؤساء مرسية وأعيانها. وكانت وفاته في سنة 621 هـ (¬2). ومحمد بن يخلفتن بن أحمد بن تنفليت الجنفيسي الفازازي التلمساني، نزح من المغرب إلى الأندلس، ودرس على عدة من الأعلام، وكان فقيهاً متمكناً، وأديباً مبرزاً، وكاتباً بليغاً، وشاعراً محسناً، ولى قضاء مرسية ثم قضاء قرطبة، وقيل إنه كان يحفظ صحيح البخاري أو معظمه. وتوفي بقرطبة سنة 621 هـ (¬3). وأحمد بن يزيد بن عبد الرحمن .. بن بقى بن مخلد بن يزيد الأموي، من أهل قرطبة، ومن أعرق بيوتاتها في العلم والنباهة، درس على جمهرة من أقطاب عصره ومنهم ابن بشكوال، وابن مضاء، وابن فرقد وغيرهم، وبرع في الفقه والحديث والأدب. وتولى قضاء الجماعة بمراكش حينا، وكذلك خطتى المظالم والكتابة العليا. وكان من أعلم رجالات عصره، وأوفرهم سراوة وجلالا. وعاش بمراكش معظم حياته، ثم غادرها إلى الأندلس وولي قضاء قرطبة قبل وفاته بيسير. وكان فوق تضلعه في الفقه أديباً كبيراً، وشاعراً مجيداً. وتوفي بقرطبة في شهر رمضان ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 2105. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 2107. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1616.

سنة 625 هـ، ومولده في سنة 537 هـ (¬1). واسماعيل بن أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري من أهل إشبيلية، ويعرف بابن السراج، درس القراءات والحديث، ودرس العربية على أبي اسحاق بن ملكون أستاذ عصره في ذلك الميدان، وولي قضاء بعض الكور، وكان عاكفا على عقد الشروط خبيراً بصناعتها. وتوفي بإشبيلية في حدود سنة 625 هـ (¬2). وإبراهيم بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي من أهل قرطبة. درس الحديث والفقه، وأخذ العربية عن أبي ذر الخشنى، وبرع فيها وفي النحو، وولي قضاء دانية، ثم صرف عنه لما اضطرمت الفتنة ببلنسية في سنة 621 هـ، وسيق إلى بلنسية، واعتقل بها وقتا، ثم أطلق سراحه، فعبر البحر إلى مراكش. وله مؤلف حسن في " مسائل الخلاف بين النحويين "، وولي في أواخر حياته قضاء سجلماسة، وتوفي بها سنة 627 هـ (¬3). وثابت بن محمد بن يوسف بن خيار الكلاعي من أهل لبلة بغرب الأندلس ونزل جيان، ثم سكن غرناطة. درس القراءات والحديث والفقه، وسمع بقرطبة، وإشبيلية، ووادي آش وغيرها، وأخذ عن عدة من الأقطاب مثل أبي القاسم بن بشكوال، وأبي بكر بن بيبش، وأبي بكر بن خطاب، وأبي الحسن بن كوثر، ودرس العربية والنحو وبرع فيهما. وأقرأ القرآن والعربية بجيان وغرناطة، وبها توفي سنة 628 هـ (¬4). وأحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد الأزدي، من أهل لقنت من أعمال مرسية، عنى بالقراءات والفقه وولي القضاء بجزيرة شقر، ثم ولى قضاء دانية، وكان فوق ذلك أديباً، متحققاً من العربية. وتوفي في ربيع الأول سنة 629 هـ (¬5). ومحمد بن جابر بن علي بن سعيد الأنصاري من أهل إشبيلية، ويعرف بالسقطى. درس القرآن والحديث وأخذ في ذلك عن نجبة بن يحيى، وأبي الوليد بن نام، وأبي ذر الخشنى وغيرهم، ودرس العربية والأدب، وكان من أهل العناية بالرواية ولقاء الرجال، رحل إلى شرق الأندلس، وأخذ عن أبي الخطاب بن واجب وغيره ببلنسية. وكان يقرىء القرآن والعربية، وقد حُدث عنه. وتوفي بعد سنة 630 هـ (¬6). ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 292. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 495. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 440. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 626. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 297. (¬6) ترجمته في التكملة رقم 1646

وأحمد بن مليك بن غالب بن سعيد بن عبد الرحمن التجيبى من أهل أبدّة ويعرف بابن السقاء. درس القراءات والحديث، وأخذ عن جمهرة من أقطاب عصره مثل أبي محمد بن غلبون، وأبي الخطاب بن واجب، وابن عات، وابن بقى وغيرهم، وأخذ العربية واللغات عن أبي عبد الله بن يربوع وبرع فيها، وتصدر ببلده للإقراء والتدريس، ولما استولى القشتاليون على أبدة، غادرها إلى غرناطة واستوطنها، وتوفي بها بعد سنة 630 هـ (¬1). وبسام بن أحمد بن حبيب .. بن شاكر الغافقي، من أهل جيان، وسكن مالقة، أخذ الحديث والفقه عن جماعة من الأقطاب مثل أبي عبد الله بن الفخار، وأبي جعفر بن مضاء، وأبي القاسم بن بشكوال وغيرهم، ودرس العربية والأدب، وولي قضاء ثغر المنكب وغيره، وكان له أيضاً حظ من قرض الشعر. توفي بمالقة في شعبان سنة 631 هـ، ومولده في سنة 557 هـ (¬2). ومن هؤلاء الذين جمعوا بين علوم الدين واللغة والأدب والشعر أحيانا، جمهرة أخرى، ظهرت وقت انهيار سلطان الموحدين، ثم انهيار الأندلس الكبرى، وسقوط قواعدها، نذكرهم فيما يلي: كان من هؤلاء المتأخرين، عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي يحيى بن مطروح التجيبى من أهل بلنسية، وأصله من سرقسطة. درس القراءات والفقه والعربية والآداب، وكان من أساتذته أقطاب مثل أبي عبد الله بن نوح، وأبي ذر الخشنى، وأبي الخطاب بن واجب، وأبي محمد بن حوط الله وغيرهم. وكان فقيها متمكنا عارفا بالأحكام، من أهل الشورى والفتيا. ولى القضاء بعدة كور من بلنسية، ثم ولى قضاء دانية، وكان فوق ذلك أديباً شاعراً، راوية. وكانت وفاته ببلنسية، أثناء حصار النصارى لها، في شهر ذي القعدة سنة 635 هـ ومولده سنة 574 هـ (¬3). ومحمد بن ابراهيم بن محمد بن عبد الجليل .. بن غالب بن حمدون الأنصاري الخزرجى، من أهل ألش من عمل بلنسية. أخذ بمرسية وشاطبة عن أقطاب الشرق، مثل أبي الخطاب بن واجب، وأبي عمر بن عات، وأقطاب الغرب مثل أبي القاسم ابن بقى، وأبي سليمان بن حوط الله، وأبي القاسم الملاّحي، وغيرهم، وعنى ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 301. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 606. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 2117

بالحديث والفقه أتم عناية، وكان له حظ من الأدب واللغة. ولى قضاء ألمرية، وتوفي بغرناطة في شهر صفر سنة 636 هـ (¬1). ومحمد بن علي بن خضر بن هارون الغساني، من أهل مالقة، يعرف بابن عسكر، كان في مقدمة أعلام عصره في الفقه واللغة والأدب، فكان فقيهاً متمكناً، ماهراً في عقد الشروط، وكان حافظا للغة، أديبا، وكاتبا بليغا، وله كذلك حظ من قرض الشعر. ولى قضاء بلده مالقة مرتين. وكتب عدة كتب قيمة في اللغة والأدب منها كتاب " المشرع المروى في الزيادة على غريبى الهروى " وكتاب " نزهة الناظر في مناقب عمار بن ياسر " وكتاب " الجزء المختصر في السلو عن ذهاب البصر ". وله رسالة في الزهد عنوانها " ادخار الصبر في افتخار القصر والقبر ". وتوفي وهو يتولى قضاء مالقة في جمادى الآخرة سنة 636 هـ. ومولده في نحو سنة 584 هـ (¬2). وابراهيم بن محمد بن ابراهيم، من أهل بطليوس، ونزح إلى إشبيلية، ويعرف بالأعلم. درس القرآن والحديث والعربية، وبرع فيها، وتصدر لإقرائها. وله شروح قيمة في كتب الإيضاح والجمل، والكامل، والأمالى، وغيرها. وألف أيضاً كتاباً في " آداب أهل بطليوس ". وتوفي في سنة 637 هـ (¬3). وإسماعيل بن سعد السعود بن أحمد بن هشام .. بن عفير الأموي، من أهل لبلة، وسكن إشبيلية، وينتسب إلى موالى بني أمية، عنى بالحديث والفقه ودرس بقرطبة، وأخذ بها عن أبي بكر بن خير، وابن بشكوال، وابن فرقد، وغيرهم، وكان فقيها متمكنا، ولى قضاء مراكش أيام الفتنة. ثم صرف عنه وعاد إلى إشبيلية. وكان في نفس الوقت أديبا بارعا، وتوفي سنة 637 (¬4). ومحمد بن اسماعيل بن محمد بن اسماعيل بن خميس الجمحي، من أهل قسنطانة من عمل دانية، درس الحديث والفقه، وصحب أبي عبد الله بن نوح ولازمه، وكتب للقضاة، ثم ولى قضاء بلنسية أيام الفتنة. وكان فوق براعته في الفقه، أديبا متمكنا له حظ من قرض الشعر، بصيراً في الأحكام وعقد الشروط، ثم غادر بلنسية مصروفا عن القضاء، وقدم إلى قضاء شاطبة، وكان من أساتذة ابن الأبار. وتوفي بشاطبة في صفر سنة 639 هـ (¬5). ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1660. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1661. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 447. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 496. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 1638

وسهل بن محمد سهل بن ملك الأزدري من أهل غرناطة. أخذ ببلده عن أبي عبد الله بن عروس، وأبي الحسن بن كوثر، وعبد المنعم بن الفرس، وأخذ بمالقة عن أبي عبد الله بن الفخار، وبإشبيلية عن أبي بكر بن الجد وأبي عبد الله بن زرقون وأبي العباس بن مضاء وأبي الوليد بن رشد، وأخذ عن غيرهم من أقطاب العصر. وبرع في الفقه والأصول والعربية، وكان كاتباً مقتدراً وشاعراً محسناً. نفى من وطنه غرناطة إلى مرسية بسعى بعض خصومه، وبقى بها حتى توفي المتوكل ابن هود بألمرية في سنة 635 هـ، فعندئذ سرح إلى بلده. وقد صدر عنه كثير من النثر والنظم الجيد، وصنف في العربية كتابا رتب الكلام فيه على أبواب كتاب سيبويه. ولد سنة 559 هـ، وتوفي بغرناطة سنة 639 هـ (¬1). ومحمد بن عبد الله بن عمر بن علي بن اسماعيل بن عمر الأنصاري الأوسي الضرير، من أهل قرطبة، ويعرف بابن الصفار. أخذ عن أبي القاسم بن بشكوال، وأبي بكر ابن الجد، وأبي عبد الله بن زرقون، وابن مضاء، وأبي ذر الخشنى، وغيرهم من أعلام العصر، وبرع في القراءات والحديث. ورحل إلى المشرق وأخذ عن بعض أقطابه، ثم عاد إلى المغرب، وسكن مراكش، وكان يقرىء العربية والآداب، ويسمع الحديث، واستقر أخيراً بمدينة تونس، وبها توفي سنة 639 هـ (¬2). وعلي بن ابراهيم بن علي بن عبد الرحمن المعروف بابن الفخار من أهل أركش، درس الحديث والفقه على جماعة من أهل عصره مثل ابن الغزال وابن زرقون وغيرهما، وكان حافظاً متقناً، ذاكراً لأسماء الرجال وأحوالهم، بارعاً في الفقه والأدب، وكان على قول ابن عبد الملك " أعجوبة زمانه في حضور الذكر لذلك كله "، وكان مشاركاً في النظم. تولى القضاء برندة والجزيرة الخضراء وغيرهما، وتوفي بشريش في صفر سنة 642 هـ (¬3). وأحمد بن محمد بن القيسي من أهل قرطبة، ويعرف بابن أبي حجة. أخذ عن أقطاب عصره، وفي مقدمتهم ابن بشكوال، وابن مضاء، وأبي العباس المجريطى، وبرع في علوم القرآن والعربية، وتصدر لإقرائها. وله عدة تآليف، منها كتاب منهاج العبادة، وكتاب تفهيم القلوب في آيات علام الغيوب، وكتاب ¬_______ (¬1) ترجمته في الذيل والتكملة (مخطوط الإسكوريال 1682 الغزيري). (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1668. (¬3) ترجمته في الذيل والتكملة (السفر الرابع من مخطوط المتحف البريطاني)

تسديد اللسان لذكر أنواع البيان، وغيرها. ولما سقطت قرطبة في أيدي النصارى غادرها إلى إشبيلية، وسكن بها حينا، ثم غادرها متجها إلى ميورقة، وأسرته الروم في البحر، وامتحن بالتعذيب، وتوفي على أثر ذلك بميورقة في سنة 643 هـ (¬1). وأحمد بن محمد بن وهب البكرى من أهل شاطبة، أخذ عن ابن نوح وابن عات وغيرهما، وبرع في الفقه والعربية، ومهر في عقد الشروط. وغادر شاطبة عند إجلاء النصارى لأهلها المسلمين، وذلك في سنة 645 هـ، وقصد إلى أوريولة، وهناك توفي في أواخر هذا العام (¬2). وأحمد بن علي بن أحمد .. بن عبد الله الأنصاري من أهل قرطبة، درس الفقه والأدب بقرطبة وإشبيلية وجيان، وولي الأحكام ببعض الكور، وعنى بعقد الشروط، وكتب لوالى قرطبة وقتا. ولما سقطت قرطبة في أيدي النصارى غادرها، وعبر البحر إلى تونس، ونزل بها. وكان يقرىء بها اللغة والأدب، وممن أخذ عنه بها ابن الأبار، وكان قد استقر بها كذلك. ثم قصد إلى المشرق لتأدية فريضة الحج، ولكنه توفي بقوص وذلك في رجب سنة 646 هـ (¬3). وعبد الله بن قاسم بن عبد الله بن محمد بن خلف اللخمي من أهل إشبيلية ويعرف بالحرار وبالحريرى. أخذ عن أبي الحسن الشقورى، وأبي محمد بن حوط الله وأبي القاسم الملاّحى، وابن زرقون، وابن عات، وغيرهم من الأقطاب. وبرع في الحديث، والأدب، وقرض الشعر. وله عدة مؤلفات منها، " حديقة الأنوار " وهو في تذييل " اقتباس الأنوار " في الأنساب للرشاطى، وكتاب " المنهج المرضى، في الجمع بين كتابى ابن بشكوال وابن الفرضى ". وكانت وفاته بإشبيلية خلال حصار النصارى لها في أوائل سنة 646 هـ، ومولده بجزيرة شقر، بلد أسلافه في سنة 591 هـ (¬4). ومحمد بن محمد بن أحمد .. بن سليمان الزهري، من أهل بلنسية، ويعرف بابن محرز، درس على جماعة من أقطاب الشرق، مثل أبي عبد الله بن نوح، وأبي بكر بن جمرة، وأبي العطاء بن نذير، وغيرهم، وكان متمكنا من الحديث والفقه والأدب واللغة وحفظ الغريب، وله شعر رائق. ولما استولى النصارى على بلنسية، عبر البحر إلى إفريقية، ونزل ببجاية، واستوطنها وأخذ يقرىء بها ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 307. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 310. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 312. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 2121

الحديث والفقه واللغة. وكانت له بين علمائها مكانة رفيعة، وبها توفي في سنة 655 هـ. ومولده سنة 569 هـ (¬1). ومحمد بن ابراهيم بن محمد بن ابراهيم بن المفرح الأوسي المعروف بابن الدباغ الإشبيلي، برع في الفقه، وكان أوحد عصره في حفظ مذهب مالك، وفي عقد الوثائق، وكان في الوقت نفسه، عارفا بالنحو واللغة، أديبا بارعا، مشاركا في النظم والتاريخ. انتقل إلى غرناطة ولبث يقرىء بجامعها حينا، وتوفي في سنة 668 هـ (¬2). ... وازدهرت في هذا العصر، الذي توالت فيه المحن على الأندلس، ومالت شمسها إلى الغروب، حركة التصوف، وظهر عدة من أكابر المتصوفة نذكرهم فيما يلي: كان من هؤلاء أحمد بن عمر المعافرى من أهل مرسية، وأصله من طبيرة من ولاية الغرب، ويعرف بابن إفرندو، أخذ عن أبي علي بن سكرة، وأبي بكر بن العربي، وأبي محمد الرُّشاطى وغيرهم، ورحل إلى المشرق، وأخذ عن بعض أقطابه، ومنهم بعض أصحاب الإمام الغزالى وكان محدثاً حافظاً، ومال إلى الزهد والتصوف، وأخذ عنه بعض أعلام العصر، مثل أبي الخطاب بن واجب وغيره. ولم نقف على تاريخ وفاته (¬3). ومنهم ابراهيم بن محمد بن خلف بن سوار بن أحمد بن حزب الله، بن أبي العباس بن مرداس السلمى من أهل بلفيق من أعمال ألمرية، وبها ولد ونشأ، ويعرف بابن الحاج. درس القراءات والحديث، وأخذ في ذلك عن أبي محمد البسطى الخطيب، وابن كوثر، وابن عروس، وابن أبي زمنين وغيرهم. وكان فوق براعته في علوم السنة، مشاركا في الأدب، ومال إلى التصوف، وشغف به، وأقبل الناس إليه من كل صوب، وكثر الازدحام عليه، فنفاه الوالي إلى المغرب، وتوفي بمراكش في جمادى الآخرة سنة 616 هـ (¬4). ومحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن العربي المعافري، من أهل إشبيلية ومن بيت القاضي أبي بكر بن العربي، درس بإشبيلية وقرطبة، ورحل إلى المشرق، فأخذ عن أبي طاهر السلفي بالإسكندرية، ورحل إليه ثانية، ودخل الشام، ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1692، وفي عنوان الدراية للغبريني ص 170 - 173. (¬2) ترجمته في الإحاطة - مخطوط الإسكوريال (1673 الغزيري) لوحة 107. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 190. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 434

والعراق وبغداد، وأخذ عن أكابر علمائها، وجاور بمكة، وسمع الحديث من أكابر حفاظها. وعاد من رحلته الثانية إلى إشبيلية سنه 604 هـ، وأخذ عنه الطلاب عندئذ بإشبيلية وقرطبة. ثم رحل إلى المشرق للمرة الثالثة سنة 612 هـ، وجاور بالحرمين عدة أعوام، وحج مراراً، وسلك طريقة التصوف، وغلب عليه الزهد، وتوفي في طريق العود، بثغر الإسكندرية سنة 617 هـ (¬1). ومن أشهرهم وأبعدهم صيتا، جعفر بن عبد الله بن محمد بن سيدبونه الخزاعى العابد، من أهل قسنطانة من عمل دانية. درس القراءات والحديث، وأخذ عن ابن هذيل، وابن النعمة، ورحل إلى المشرق، فأدى فريضة الحج، ودخل الإسكندرية فسمع السلفى، ثم عاد إلى بلده، ولزم العزلة والزهد، والإعراض عن الدنيا، وسلك طريقة التصوف، وكان شيخ المتصوفة بالأندلس في وقته، وعلا صيته، وذاع ذكره، في الزهد والورع، وتوفي عن نحو مائة عام في شهر ذي العقدة سنة 624 هـ، ولبث قبره حينا مزارا يتبرك به الناس (¬2). ومنهم محمد بن عبد الله بن محمد بن خلف بن قاسم الأنصاري من أهل بلنسية، وأصلهم من قلعة أيوب بالثغر الأعلى. درس القراءات والفقه والعربية والآداب، وأخذ عن أبي العطاء بن نذير، وأبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب ابن واجب وغيرهم. وعنى لأول أمره بعقد الشروط، ثم اعتزل الحياة وتزهد، وانقطع للعلم والعبادة، وتصدر لإقراء التفسير بجامع بلنسية، وغلب عليه التصوف. وألف كتاب " نسيم الصبا " في الوعظ، وكتاب " النفوس الزكية في الخطب الوعظية "، وكان من أساتذة ابن الأبار، أخذ عنه وكتب عنه بعض كتبه. ولما وقع حصار النصارى لبلنسية، وجهه أميرها إلى مرسية لاستنهاض همم أهلها. وتوفي بأوريولة في رجب سنة 640 هـ (¬3). ومحمد بن مفضل بن حسن بن عبد الرحمن بن محمد بن مهيب اللخمى، أصله من طبيرة من أعمال الغرب، وسكن ألمرية. كان فقيهاً وأديباً وشاعراً، مائلاً إلى التصوف، ولى الخطبة بقصبة ألمرية حيناً، ثم نزح إلى تونس، ثم إلى سبتة وبها توفي سنة 645 هـ، ومن مؤلفاته كتاب " الجواهر الثمينة " (¬4). ونختتم هذا الثبت القصير من متصوفة الأندلس في أواخر العهد الموحدي، ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1593. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 643. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1671. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1682

بذكر قطبهم الأكبر الشيخ محيى الدين الطائي، الذي يعتبر شيخ المتصوفة على الإطلاق. وهو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله، الشيخ محيى الدين الطائى الحاتمى، ويكنى أبا محمد وأبا بكر، ويعرف بابن عربي تمييزاً له من العلامة أبي بكر بن العربي. ولد في شهر رمضان سنة 560 هـ بمدينة مرسية، وسكن إشبيلية وقتا، وأخذ بمرسية عن أشياخها، ومنهم ابن بشكوال، وكان يقيم بها يومئذ، وعبر إلى المغرب ونزل بجاية في رمضان سنة 597 هـ، وأخذ عن أشياخها، ثم رحل إلى المشرق حاجا، فأدى الفريضة، ولم يرجع بعدها إلى وطنه، وسمع بمكة وبغداد ودمشق، ودرس الحديث ومال إلى التصوف، وشغف به، حتى ملك عليه كل جوارحه، وكان ظاهرى المذهب، وكان يحدث بالإجازة العامة عن أبي طاهر السلفى. واشتهر ابن عربي، بانقطاعه إلى التصوف وتبحره في مذاهبه وطرائقه، حتى وصفه بعض مترجميه " بالبحر الزاخر في المعارف الإلهية "، وله ثبت حافل من المؤلفات الجليلة التي تدل على غزير علمه وسمو معارفه، نذكر منها " الفتوحات المكية " وهو مؤلف ضخم يعالج فيه طرائق الصوفية علاجا شاملا، " والتدبيرات الإلهية " و " فصوص الحكم "، " وتاج الرسائل ومنهاج الوسائل " و " كتاب العظمة "، و " المتجليات " و " مفاتيح الغيب "، و " كتاب الحق "، و " مراتب علوم الوهب "، و " الإعلام بإشارات أهل الإلهام "، و " العبادة والخلوة "، و " المدخل إلى معرفة الأسماء "، و " أسرار الخلوة "، و " عقيدة أهل السنة "، و " ناصحة النفس واليقين "، و " مشكاة الأنوار "، وكثير غيرها. وقد ذكر منها صاحب فوات الوفيات أكثر من خمسين مؤلفا. وكان ابن عربي يجاهر بكثير من الآراء الحرة التي تؤخذ عليه أحيانا، وتعتبر من ضروب الإلحاد، حتى أنه حينما كان بمصر، وصدرت عنه تلك الآراء أو الشطحات كما كان يصفها ابن عربي، اشتد العلماء المصريون في محاسبته، ورموه بالإلحاد والكفر، وطالبوا بإهدار دمه، لولا أن شفع له بعضهم ونجا من تلك المحنة. وكان ابن عربي آية في الذكاء والحافظة وسرعة الخاطر، فصيحا، بارع البيان، وعلى الجملة فقد كان قطبا من أعظم أقطاب عصره، وكان صيته يطبق أنحاء المشرق والمغرب. وتوفي ابن عربي في دمشق في نحو الثمانين من عمره، وقد اختلف في تاريخ وفاته، فذكر صاحب فوات الوفيات أنه توفي في الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة 638 هـ. وذكر ابن الأبار أنه توفي بعد الأربعين وستمائة

وعنى كثير من أكابر المستشرقين بدراسة حياة ابن عربي وتراثه، ومن هؤلاء آسين بلاثيوس، وجولد سيهر، ومكدونالد. وكان ابن عربي، فوق براعته في التصوف، شاعراً جزلاً ينظم الشعر الرقيق الجيد، ومن ذلك قوله في التعبير عن الشوق: سلام على سلمى ومن هل بالحمى ... وحق لمثلى رقة أن يسلما وماذا عليها أن ترد تحية ... علينا ولكن لا احتكام على الدمى سروا وظلام الليل أرخى سدوله ... فقلت لها صبّا غريبا متيما فأبدت ثناياها وأومض بارق ... فلم أدر من شق الحنادس منهما وقالت أما يكفيه أني بقلبه ... يشاهدنى من كل وقت أما أما وقوله: درست عهودهم وإن هواهم ... أبدا جديد في الحشا ما يدرس هذى طلولهم وهذى الأدمع ... ولذكرهم أبدا تذوب الأنفس ناديت خلف ركابهم من حبهم ... يا من غناه الحسن ها أنا مفلس يا موقدا نارا رويدا هذه ... نار الصبابة شأنكم فلتقبسوا (¬1). ¬_______ (¬1) راجع في ترجمة ابن عربي فوات الوفيات ج 2 ص 241 - 243، والتكملة لابن الأبار رقم 1673، وعنوان الدراية للغبرينى (طبع الجزائر 1338 هـ)، ص 97 - 99

الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى

الفصل الثالث الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي القسم الثاني علماء اللغة والنحو والأدب. ابن سمحون الأنصاري. عبد الرحمن بن محمد السلمي. داود بن يزيد السعدى. ابن طاهر الأنصاري النحوي. ابن ملكون الحضرمي، عبد الله بن محمد بن عبيد البكرى. سليمان الحضرمي النحوي. أبو ذر الخشني. ابن خروف. ابن سعدون الأزدي. ابن وهب البكري. ابن البرذعي. ابن عامر الجزيري. أبو علي الشلوبين. نهضة الشعر الأندلسي خلال العصر الموحدي. أثر المحنة في اضطرابه. ابن حبوس. ابن أبي العافية الأزدي. ابن مغاور. ابن غلبون. ابن غالب البلنسي الرصافي. شىء من شعره. ابن عياض القرطبي. أبو بحر صفوان بن إدريس التجيبي. محمد ابن أحمد الصابونى. ابن المناصف. ابن حريق. محمد بن إدريس مرج الكحل، شىء من شعره. ابن حزمون. ابراهيم بن سهم الإشبيلي. شىء من شعره. أحمد بن محمد بن حجاج اللخمى. أبو العباس الجراوى. أبو بكر بن مجبر. أعلام الكتاب في العصر الموحدي. أبو القاسم بن خيرة المواعينى. ابن هرودس ابن سعد الخير الأنصاري. الحسن بن حجاج الهوارى. أبو الفضل بن محشرة. الرحالة ابن جبير. بنو عياش. أبو الحسن بن عياش. محمد بن عبد العزيز بن عياش. أبو الحسن علي بن عياش. أحمد بن عبد العزيز بن عياش. عزيز بن عبد الملك بن خطاب. أبو عبد الله بن الجنان. أحمد بن محمد القضاعى البلوى. ابن هيصم الرعينى. أبو المطرف بن عميرة المخزومي. الرواة والمؤرخون في العصر الموحدي. صلة ابن بشكوال ثم تكملة ابن الأبار ثم الذيل والتكملة، ثم صلة الصلة. عبد الملك بن صاحب الصلاة. عبد الواحد المراكشي. ابن مدرك الغسانى. أحمد بن محمد الأزدي. أبو القاسم الملاحى. عيسى بن سليمان الرعينى. ابن قسوم اللخمى. ابن الأبار القضاعى. آثاره وتراثه. ابن سعيد الأندلسي. بن فرتون السلمى. ابن عذارى المراكشي. ابن القطان. ابن الزبير. ابن عبد الملك المراكشي. استعرضنا في الفصل السابق طائفة كبيرة من أعلام الفكر الأندلسي، ممن نبغوا في العلوم الدينية، ومن جمعوا بينها وبين اللغة والأدب، ومن برزوا في ميدان التصوف، خلال العصر الموحدي، وهم حسبما بينا فيما تقدم، الكثرة الغالبة في ميدان التفكير الأندلسي في ذلك العصر، الذي قدر أن تجوز فيه الأندلس محنتها الكبرى، بانهيار صرحها القديم الشامخ، وسقوط معظم قواعدها الكبرى، في يد اسبانيا النصرانية

ونريد الآن أن نستعرض بقية أعلام الفكر الأندلسي في تلك الحقبة ممن ظهروا في ميادين التفكير الأخرى. (1) ونبدأ في ذلك بذكر طائفة من علماء اللغة والنحو والأدب وما إليها، وهم ليسوا من الناحية العددية كثرة تلفت النظر، ولكن ظهرت منهم شخصيات بارزة، لا تقل عن مثيلاتها في أي عصر، من عصور النهضة والاستقرار. كان من هؤلاء، أحمد بن محمد القيسي، من أهل جيان ويعرف بالفندرى. درس ببلده، ثم نزح إلى مرسية، ودرس بها الآداب والعربية، وبرع فيها ثم انتقل إلى بلدة ألش من أعمالها، واستقر بها وقتا، وكانت له إلى جانب ذلك مشاركة في علم الطب، وتوفي بمرسية في شهر ربيع الأول سنة 559 هـ (¬1). وأبو بكر بن سليمان بن سمحون الأنصاري، من أهل قرطبة، درس القراءات والعربية والآداب، وبرع في علم النحو حتى فاق سائر أقرانه، وكان يوصف بأنه أعلم معاصريه بالنحو، وكان يدرس العربية، وله مشاركة في علم الحساب، وأخذ عنه عدة من أعلام عصره، مثل أبي جعفر بن مضاء، وأبي محمد عبد الحق بن محمد الخزرجى، وأبي القاسم بن بقى، وتوفي بقرطبة سنة 563 هـ (¬2). وعبد الرحمن بن محمد السلمي من أهل شرق الأندلس، وبه نشأ، ويعرف بالمكناسى. درس على أقطاب صقعه، وبرع في الآداب واللغات، ومعرفة أيام العرب ورجالها، وكان كاتبا جيد النظم، مقتدرا في إنشاء الرسائل اللزومية، وله منها طائفة جليلة. وتوفي بمراكش سنة 571 هـ (¬3). وداود بن يزيد بن عبد الله السعدى النحوى، من أهل قلعة يحصب من عمل غرناطة، درس بغرناطة وأخذ بها عن أبي الحسن بن الباذش، واختص به، ثم رحل إلى قرطبة فسمع من أقطابها، وكان أستاذ النحويين في وقته، وكان ممن أخذ عنه أعلام، مثل أبي بكر بن أبي زمنين، وأبي الحسن بن خروف، وأبي القاسم الملاّحي، وتوفي عن سن عالية في سنة 573 هـ (¬4). وعبد الله بن أحمد بن علي بن قرشى الحجري، من أهل قرطبة، ونشأ ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 178. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 591. (¬3) نقلنا ترجمته من أوراق مخطوطة من صلة الصلة لابن الزبير عثرنا عليها بمكتبة القرويين. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 855

بشرق الأندلس، وأخذ عن أبي الحسن بن النعمة، وأبي الوليد بن الدباغ، وأبي عبد الله بن سعادة، ومهر في صناعة العربية والآداب، وضبط اللغات، وتصدر لإقرائها زمنا. وكان له إلى جانب ذلك حظ من النثر والنظم. وتوفي بقرطبة سنة 575 هـ (¬1). ومحمد بن أحمد بن طاهر الأنصاري النحوي، من أهل إشبيلية. درس العربية على أبي القاسم بن الرماك، وأبي الحسن بن مسلم، وبرع فيها، وتفوق على أقران عصره، وعكف على تدريسها في مختلف البلاد. ودخل مدينة فاس محترفاً للتجارة، فرغب إليه أهلها في الإقراء، فاستجاب إليهم، وأقام بها وقتا، ثم رحل إلى المشرق ودرس بمصر وحلب والبصرة، وعاد بعد أداء الفريضة فنزل مدينة بجاية، وله تعليق جيد على كتاب سيبويه سماه " بالطرر ". وكان ممن أخذ عنه أقطاب مثل أبي ذر الخشني، وأبي الحسن بن خروف، وغيرهما. وتوفي ببجاية سنة 580 هـ (¬2). وابراهيم بن محمد بن منذر بن أحمد بن سعيد بن ملكون الحضرمي النحوى، من أهل إشبيلية، أخذ بها عن أقطاب العصر، مثل أبي مروان الباجي، وشريح ابن محمد، وأبي الوليد بن حجاج، وأبي القاسم بن الرماك، وبرز في علم العربية والآداب، ومهر فيها، وقام على إقرائها، وكان ممن أخذ عنه الخليفة أبو يعقوب يوسف وعدة من الجلة، وله في اللغة والنحو عدة مؤلفات قيمة منها " إيضاح المنهج " وقد جمع فيه بين كتابى ابن جنى، ووضع شرحا لكتاب الجمل للزجاجى، وشرحا آخر لكتاب التبصرة للصميرى وغيرها. وتوفي بإشبيلية سنة 581 هـ (¬3). وعبد الله بن محمد بن أبي عبيد بن عبد العزيز البكري، من أهل قرطبة، وأصلهم من لبلة، ومن سادة جزيرة شلطيش أيام الطوائف، وجده أبو عبيد البكرى، وهو العلامة الجغرافى اللغوى الشهير صاحب المسالك والممالك، ومعجم ما استعجم. ونبغ عبد الله كجده في اللغة والآداب وغريبها، وأخذ على أبي عبد الله ابن مكى، وأبي جعفر البطروجى، وأبي بكر بن عبد العزيز وغيرهم. وأخذ عنه الجلة مصنفات جده، وكانت وفاته بقرطبة في جمادى الأول سنة 581 هـ، ومولده في سنة 507 هـ (¬4). ولب بن عبد الله بن لب بن أحمد الرُّصافي، نسبة إلى رُصافة بلنسية، أخذ ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 2060. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1447. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 406. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 2071

العربية عن أبي الحسن بن النعمة وغيره، وبرع فيها، وقام بتعليمها، وبرع كذلك في النحو، وكان قائما على شرح ابن بابشاذ لجمل الزجاجى، وأخذ عنه كثير من شيوخ عصره، وتوفي نحو سنة 590 هـ (¬1). وجابر بن محمد بن نام بن أبي أيوب، ويعرف بسليمان الحضرمي النحوى، من أهل إشبيلية. عنى بالحديث والرواية، ثم درس العربية على أبي القاسم ابن الرماك، وأبي الحسن بن مسلم، وبرع فيها وغاص على دقائقها وأسرارها، وتصدر لإقرائها، ولم يكن في وقته بإشبيلية أقدر منه على شرح كتاب سيبويه، وتوفي سنة 596 أو 597 هـ (¬2). ومصعب بن محمد بن مسعود الخشني، من أهل جيان، ويكنى بأبي ذر، ويعرف بابن أبي ركب، درس العربية والآداب واللغات بالأندلس والمغرب دراسة مستفيضة، وكان في مقدمة أساتذته العلامة النحوى أبو اسحاق بن ملكون. وبرع في العربية وتبوأ رياستها في عصره، وقصده، الطلاب من كل صوب للأخذ عنه، هذا مع مشاركته في الآداب واللغات، وقرض الشعر. ولى الخطبة بجامع إشبيلية وقتا، وكان يقرىء العربية بمسجد ابن الرماك، ثم ولى قضاء جيان، واستوطن في أواخر حياته مدينة فاس. وتصدر بها لإقراء العربية، وله تأليف في " شرح غريب السير لأبي اسحاق "، ورسالة في العروض. وتوفي بمدينة فاس في شهر شوال سنة 604 هـ (¬3). وعلي بن محمد بن علي بن خروف الحضرمي النحوي من أهل إشبيلية، ويعرف بابن خروف. درس الكلام والأصول، وأخذ عن أبي مروان بن قزمان، وأبي إسحاق بن ملكون، وداود بن يزيد السعدى، وبرع في العربية، وانقطع لها، وأصبح من أئمتها البارزين، وتصدر لإقرائها طول حياته، بإشبيلية وقرطبة ورندة، وبالمغرب بفاس وسبتة. ورحل إلى المشرق، وأقام مدة بحلب. وتفوق بالأخص في شرح كتاب سيبويه، وأخذه عنه جمهرة من الجلة. وألف شرحه المشهور عليه، ويقال إنه حمل منه نسخة إلى الخليفة الناصر بمراكش، فوصله عنها بألف دينار، وألف كذلك شرحا لكتاب الجمل للزجاجي، وكانت له مشاركة في علم الفرائض وفي القراءات. وكان ذا أسلوب بارع في الدرس والمحاضرة والمناظرة. ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 946. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 655. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1785.

وأخذ عنه ولازمه كثير من شيوخ العصر. وتوفي بإشبيلية سنة 609 هـ (¬1). وأحمد بن طلحة بن محمد بن عبد الملك الأموي، أصله من أهل يابرة، ونشأ بإشبيلية، أخذ العربية عن أخيه أبي بكر بن طلحة، وغيره، وبرع في الأدب والنحو والعروض، وله في ذلك تآليف وأخذ عنه. وتوفي في نحو سنة 620 هـ (¬2). وعبد الله بن محمد بن عبد العزيز .. بن سعدون الأزدي، من أهل بلنسية، درس العربية والآداب ومهر فيها، وكان من أهل المعرفة الكاملة بها وبفنونها، مبرزاً في العربية واللغة، متقناً، متحققاً، بديع الخط، وكان إلى جانب ذلك بارع النظم والنثر، وكتب عن بعض الرؤساء. وتوفي في آخر سنة 622 هـ (¬3). وأحمد بن محمد بن وهب البكري، من أهل شاطبة، أخذ عن عدة من أقطاب عصره مثل ابن نوح وابن عات وغيرهما. ومهر في صناعة العربية، إلى جانب مشاركته في حفظ المسائل، وعقد الشروط. قال ابن الأبار " وكان صاحبا لأبي رحمه الله، اشتركا في الأخذ عن ابن نوح، وانفرد هو بالأخذ عن أبي بكر ابن عتيق ". وغادر موطنه شاطبة حينما قام النصارى بإجلاء أهلها عنها بعد نقض هدنتهم وذلك في رمضان سنة 645 هـ، وتوفي على أثر ذلك بمدينة أوريولة (¬4). ومحمد بن يحيى بن هشام بن عبد الله بن أحمد الأنصاري الخزرجي، من أهل الجزيرة الخضراء ويعرف بابن البرذعى، درس القراءات والعربية، وأخذ العربية عن أبي ذر الخشنى، وأبي الحسن بن خروف، وأبي على الرندي وغيرهم، وأخذ كذلك عن القاضي ابن رشد، وأبي الحسن بن الصائغ، وأبي محمد بن حوط الله وأخيه، وأبي على الشلوبين وغيرهم، وكان إماما في صناعة العربية منقطعا إليها، مقدما فيها، وكان أستاذه الشلوبين يثنى عليه، ويشهد بتفوقه فيها، وله فيها عدة مؤلفات منها، " كتاب الإفصاح بفوائد الإيضاح " و " كتاب فصل المقال في تلخيص أبنية الأفعال "، وكتاب " غرة الإصباح في شرح أبيات الإيضاح ". وكان يشارك أيضاً في فنون شتى. ونزح في أواخر حياته إلى تونس، وهنالك لقيه ابن الأبار وأخذ عنه. وتوفي بتونس ¬_______ (¬1) ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير رقم 245، وفي فوات الوفيات ج 3 ص 80، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (الجزء الأول من مخطوط الرباط المصور). (¬2) ترجمته في التكملة رقم 283. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 2110. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 310

في شهر جمادى الأخرى سنة 646 هـ (¬1). وإدريس بن محمد بن موسى الأنصاري، من أهل قرطبة، أخذ عن أبي جعفر بن يحيى الخطيب، وأبي محمد بن حوط الله، ومال إلى العربية والآداب، وبرع فيها، وتصدر لإقرائها بقرطبة، إلى أن تملكها القشتاليون في سنة 633 هـ، فغادرها وعبر البحر إلى سبتة، واستأنف بها الإقراء، وكانت له مشاركة في النظم والنثر، وتوفي سنة 647 هـ (¬2). والحسن بن أحمد بن الحصين بن عطاف العقيلي، من أهل جيان، أخذ عن أبيه وغيره من أشياخ بلده، وبرع في اللغة والأدب، وكانت جيان من مناطق التفوق في دراسة العربية، وله شرح في " مقصورة ابن دريد ". ولم تذكر لنا تاريخ وفاته (¬3). ومحمد بن محمد بن مخلد النحوى، من أهل شاطبة، درس العربية وبرع فيها، ثم انتقل من بلده إلى غرب الأندلس. وله كتاب في شرح " الجمل للزجاجي " ولم تذكر لنا تاريخ وفاته (¬4). وموسى بن علي بن عامر من أهل إشبيلية يعرف بالجزيري، لأن أصله من الجزيرة الخضراء، درس القراءات والحديث والعربية، ومهر في العربية وكان عمدة في النحو في عصره، يؤخذ عنه، ويؤثر به. وله شرح في كتاب "لحن العامة " للزبيدى، وشرح لكتاب " التبصرة " للصميرى، وكتاب آخر عنوانه " الاستيضاح في شرح الإيضاح " ولم نعثر كذلك على تاريخ وفاته (¬5). ونختتم هذا الثبت من علماء اللغة والنحو بذكر إمامهم وقطبهم الأكبر في ذلك العصر، وهو العلامة عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله الأزدي الإشبيلي، أبو علي الشلوبين - قال ولده إنه سمى بالشلوبين، لأنه كان أشقر أزرق. وكان خبازا. ودرس الشلوبين القراءات والآداب واللغات وأخذ بقسط من رواية الحديث، وروى عن جمهرة من أقطاب عصره مثل ابن بشكوال، وأبي بكر بن زهر، وأبي محمد بن بونه، وأبي زيد السهلي، وابن مضاء، وابن حبيش، وابن كوثر وغيرهم. ولكن غلبت عليه دراسة العربية ونبغ فيها حتى غدا إمامها الذي لا يبارى، وتصدر لإقرائها بإشبيلية دهراً، وكانت تشد إليه الرحال من سائر ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 522. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1684. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 692. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1548. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 1736

الآفاق للأخذ عنه، والتضلع عليه، وذاع صيته في سائر أنحاء الأندلس والمغرب، وكان إمام العربية بالمشرق والمغرب دون مدافع، وكان ذا معرفة بنقد الشعر وغيره، بارعا في التعليم والإلقاء، أخذ عنه كثير من الجلة مثل القاضي أبي عبد الله ابن عياض، وأبي العباس الأزدي، وأبي بكر بن رشيق، وأبي عمر بن حوط الله وغيرهم. وكان منقطعاً بإشبيلية إلى ابن زهر. عبر البحر إلى مراكش أيام المنصور، وعاد إلى بلده، وكرس حياته للعربية، وقد لبث يقرئها زهاء ستين عاما، وله شرح للكراسة المنسوبة للجزولى، وألف كتاب التوطئة، إتماما للكراسة المذكورة. ولد بإشبيلية سنة 562 هـ، وتوفي بها في أواخر صفر سنة 645 هـ، أثناء حصار القشتاليين إياها (¬1). - 2 - ازدهر الشعر خلال العصر الموحدي بالأندلس والمغرب معا، وكان الخلفاء الموحدون يتذوقون الشعر الجيد، ويقدرون أثر الإشادة والمديح، في تأييد هيبة الدولة والخلافة، ومن ثم فقد أسبغوا رعايتهم على الشعراء، وأغدقوا عليهم الصلات. وكان للخلافة الموحدية شعراؤها الأثيرون لديها مثل الجراوى، وابن حزمون، وابن مجبر، وغيرهم، ينظمون قصائدهم في مختلف المواطن، والمناسبات السعيدة، من ولاية وفتوح ومقدم وإبلال وغيرها، يشيدون فيها بقوة الخلافة الموحدية ومجدها وسعدها. وبلغ الشعر في الأندلس في تلك الفترة مستوى عاليا من الازدهار والقوة في ظل الخلافة الموحدية، التي قدرت قدره، وأظلته برعايتها، وتبارى الشعراء الأندلسيون، منذ عهد عبد المؤمن في مديح الخلافة الموحدية، والإشادة بذكرها. على أن نهضة الشعر الأندلسي، في أوائل العصر الموحدي لم تكن سوى امتداد طبيعى لنهضتها القديمة منذ الطوائف، وذلك إذا استثنينا عهد المرابطين القصير الذي لم يحظ فيه الشعر بشىء من التقدير والرعاية، من الدولة المرابطية. ولم تخب النهضة الشعرية القوية، حتى في عصر الانهيار، في أواخر العهد الموحدي، بل بالعكس فقد زادتها المحنة قوة واضطراما. وصدرت في الصريخ من المحنة وفي الأندلس ورثاء قواعدها الذاهبة، وشعبها المغلوب، من غرر القصائد المبكية، ما يشهد بأن الشعر ¬_______ (¬1) ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير المنشور بعناية الأستاذ ليفي بروفنسال (الرباط سنة 1937) رقم 128، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (الجزء الرابع من مخطوط المتحف البريطاني)

الأندلسي، قد بلغ في تلك الفترة المؤسية من حياة الأمة الأندلسية، ذروة قوته وروعته. وسوف نستعرض فيما يلي، أهم الشعراء، الذين ظهروا في العصر الموحدي سواء بالأندلس أو المغرب، وقد كانت الخلافة الموحدية تجذبهم إليها أينما حلت، ولم تكن الأندلس يومئذ، سوى قطر من أقطار الدولة الموحدية الكبرى. كان في مقدمة هؤلاء الشعراء، أبو عبد الله محمد بن حسين بن عبد الله ابن حبوس، وهو من أهل فاس، وكان عالماً محققاً، وشاعراً كبيراً، يقول لنا المراكشي إن طريقته في الشعر كانت على نحو طريقة ابن هانىء الأندلسي في تخير الألفاظ الرائعة. وظهر ابن حبوس في ميدان الشعر منذ أيام المرابطين، ومدح بعض أمرائهم، ولكن نقلت إليهم عنه بعض تهم وحماقات خشى منها على نفسه، ففر إلى الأندلس ونزل مدينة شلب حيناً، ولما غلب أمر الموحدين، انضوى تحت لوائهم، ولقى الخليفة عبد المؤمن بجبل طارق مع باقي الشعراء، وامتدحه بقصيدته التي أشرنا إليها في موضعها. وكثرت مدائحه من بعده لولده الخليفة أبي يعقوب يوسف، وأمراء بني عبد المؤمن. وجمع شعره في ديوان حافل، يدل على جزالته، وقوة شاعريته. وكانت وفاته في سنة 570 هـ عن سبعين عاما (¬1). ومحمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز بن أبي العافية الأزدي، من أهل غرناطة، ويعرف بالكتندى لأن أصله من كتندة. كان أديباً كاتباً شاعراً، متمكناً من العربية، أخذ عن أقطاب عصره، وحدث عنه أبو سليمان بن حوط الله، وأبو القاسم الملاّحي وغيرهما، ومن شعره: يا سرحة الحي يا مطول ... شرح الذي بيننا يطول ماضٍ من العيش كان فيه ... ملبسنا ظلك الظليل زال، وماذا عليك ماذا ... يا سرح، لو لم يكن يزول حيَّا عن المدنف المُعنى ... منبتك القطر والقبول وتوفي الكتندى سنة 583 هـ (¬2). ومنهم عبد الرحمن بن محمد بن مغاور بن حكم بن مغاور من أهل شاطبة، كان من العلماء المحققين، وأخذ عن أبي على الصدفي وغيره، وكان من الكتاب البلغاء، والشعراء المجيدين، ومن شعره في الزهد: ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1711، وراجع المعجب للمراكشي ص 117 و 118. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1458

أيها الواقف اعتبارا بقربى ... استمع فيه قول عظيم رميم أودعونى بطن الضريح وخافوا ... من ذنوب كلومها بأديم قلت لا تجزعوا على فإنى حسن ... الظن بالرؤوف الرحيم وتوفي ابن مغاور في صفر سنة 587 هـ (¬1). وأبو رجال بن غلبون من أهل مرسية، وكان أيضاً كاتباً شاعراً بليغاً يجيد النثر والنظم، وأخذ عنه الأدب جماعة من الأقطاب، مثل أبي بحر صفوان، وأبي الربيع بن سالم، وكان يحمل عن أبي اسحاق بن خفاجة ديوان شعره ويرويه ويؤخذ عنه، وتوفي سنة 579 هـ (¬2). وكان من أعلام الشعر في تلك الفترة من أوائل العصر الموحدي، وأعظمهم شأنا، أبو عبد الله محمد بن غالب البلنسى الرفاء المعروف بالرُّصافى، نسبة إلى رُصافة بلنسية. ولد ببلنسية، وسكن غرناطة ومالقة، وبرع في الشعر والأدب، وكان ظهوره في أواخر العصر المرابطي. وكان ممن مدح الخليفة عبد المؤمن عند وفوده على جبل طارق سنة 556 هـ، وألقى بين يديه قصيدته الغراء التي مطلعها: لو جئت نار الهدى من جانب الطور ... قبست ما شئت من علم ومن نور من كل زهراء لم ترفع ذؤابتها ... ليلا لسار ولم تشبب لمغمور وقد أشرنا إليها في موضعها. وكان الرصافى يومئذ فتى في عنفوانه، ولكنه كان قد لمع في ميدان الشعر وكان له فيه افتنان وإبداع، ومع ذلك فقد كان كثير التواضع، لا يحب أن يشتهر بشعره، مع إجادته في كثير منه. وكان عزيز النفس موفور الكرامة، يعيش من صناعة الرفو، ولا يبتذل نفسه في خدمة أحد، ولا يتجر بشعره ولا يتخذه سبيلا إلى الزلفى، أو التقرب من أحد. ومن نظمه يصف نهر إشبيلية (الوادي الكبير): ومهول الشطين تحسب أنه ... متسايل من درة لصفائه فاءت عليه مع الهجيرة سرحة ... صدئت لفيأتها صفيحة مائه فتراه أزرق في غلالة سمرة ... كالدارع استلقى بظل لوائه ومن قوله: وفتيان صدق كالنجوم تألقوا ... على الناس من شتى بروج وآفاق ¬_______ (¬1) ترجمته نقلناها من أوراق مخطوطة من صلة الصلة لابن الزبير. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 882

على حين راق البرق في الجو مغمدا ... صباه ودمع المزن في جوه راق وحانت بعينى في الرياض التفاته ... حبست وكاساتى قليل على الساق على سطر خير ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناق ويرنو بأحداق ومن قصائده المشهورة، قصيدة طويلة، يتشوق فيها إلى وطنه بلنسية ويشيد بمحاسنها وفيها يقول: خليلى ما لليد قد عبقت نسرا ... وما لرؤوس الركب قد رجحت سكرا أظنك مفتونا بمدرجة الصبا ... أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا خليلى عوجابى قليلا فإنه ... حديث كبرد الماء في الكبد الحرّا قفا غير مأمورين ولتضربا على ... بقية للمزن فاستبقيا القطرا بجسر معان والرُّصافة أنه ... على القطران يسقى الرصافة والجسرا بلادى التي ريشت قويدمتى منها ... صريحا وأدوانى قرارتها وكرا لبسنا بها ثوب الشباب لباسها ... ولاكن عرينا من حلاه ولم تعرا وتوفي الرصافى بمالقه في شهر رمضان سنة 572 هـ (¬1). ومنهم محمد بن عيسى بن عياض القرطبي، كان من أقطاب الأدب وأفذاذ الشعراء والكتاب، وإليه تنسب المقامة العياضية الغزلية. ومما ينسب إليه من الشعر قوله: كم من أخ في فؤاده دغل ... أخوف من كاشح تجاهده برء السقام الخفى أعسر من ... برء سقام بدت شواهده ولم يذكر له تاريخ وفاة (¬2). وأبو بحر صفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبى، من أهل مرسية، درس الحديث والأدب، وبرع في النثر والنظم، وكان من أقطاب الكتاب البلغاء، والشعراء المجيدين، وله رسائل عديدة وقصائد جليلة. وجمع ما صدر منها في كتاب سماه " عجالة المحتفز، وبداهة المستوفز "، وألف كتابا آخر عنوانه " زاد المسافر ". وتوفي شابا ببلده مرسية في شوال سنة 598 هـ، ومولده سنة 561 هـ (¬3). ومحمد بن أحمد بن الصابونى الصدفى من أهل إشبيلية. كان من أعظم أدباء ¬_______ (¬1) راجع المعجب ص 119 - 124، وابن خلكان ج 2 ص 10، والتكملة لابن الأبار رقم 1416. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1406. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1895

عصره، وألمع شعرائه، ويقول ابن الأبار إن ابن الصابونى كان شاعر وقته، ويقول أيضاً إن الآداب ذهبت بذهابه، وختمت الأندلس شعراءها به. وهو قول يحمل طابع المبالغة. ورحل ابن الصابونى إلى المشرق فتوفى بالإسكندرية، وهو في طريقه إلى القاهرة، وذلك في سنة 640 هـ. ومن نظمه قصيدته المشهورة في مدح عزيز بن عبد الملك بن خطاب والي مرسية، حين وفد عليه في سنة 632 هـ، وهذا مطلعها: أهلا بطيف خيال منك منساب ... أزال عتبك عندى حين إعتابى ومنها: لا درّ درُّ ليالى البعد من زمن ... يطول فيه اجتراع الصب للصاب نابت صروف نبابى عندها وطنى ... قرعت بابى لها من رحلى الناب جوابة الأرض لا ألوى على سكن ... تشجى الركاب وتجرى بى لتجواب ومن قوله من قصيدة: أقسم فرق الليل عن سنة الضحى ... وأهبط خصر القاع من كفل الدعص إلى أن أرى يرقا إذا شمت وجهه ... رأيت جبين البدر مكتمل القرص (¬1). وطلحة بن يعقوب بن محمد بن خلف بن يونس بن طلحة الأنصاري من أهل شاطبة، وأصله من جزيرة شقر. كان كاتبا بليغا، وشاعراً مجيداً، أخذ عن أشياخ عصره، ورُوى عنه. وتوفي في رمضان سنة 618 هـ (¬2). ومحمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ .. بن عيسى بن أصبغ، ويعرف بابن المناصف، أصلهم من قرطبة، وخرج أبوه منها أيام الثورة على المرابطين، واستوطن إفريقية، وبها نشأ ولده هذا. وكان عالما متمكنا من الفقه مع حظ وافر من اللغة والأدب، وقرض الشعر الجيد. وله أراجيز في عدة فنون منها " الدرة السنية في المعالم السنية ". وألف كتاب " الإنجاد في الجهاد " وكتاب " الأحكام "، وفي أواخر حياته ولى قضاء بلنسية، ثم قضاء مرسية، ولما صرف عن القضاء عاد إلى المغرب وتوفي بمراكش في شهر ربيع الآخر سنة 620 هـ (¬3). وعلي بن محمد بن أحمد بن حريق من أهل بلنسية، كان بارعا في اللغة والأدب، حافظا لأشعار العرب، وأيامها، شاعراً مجيداً، وافر الإنتاج، ذاع ¬_______ (¬1) ترجمته في فوات الوفيات ج 2 ص 168. وراجع الحلة السيراء ص 249 و 250. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 913. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1606

شعره في الأندلس وتداوله الناس، وله عدة كتب في الأدب، ومن نظمه قوله: يا صاحبى وما البخيل بصاحبى ... هذى الخيام فأين تلك الأدمع أتمر بالعرصات لا تبكى بها ... وهي المعاهد منهم والأربع يا سعد ما هذا القيام وقد نأوا ... أتقيم من بعد القلوب الأضلع هيهات لا ريح اللواعج بعدهم ... زهر ولا طير الصبابة وقع وتوفي ابن حريق ببلده بلنسية في سنة 622 هـ (¬1). ومحمد بن علي بن حماد بن عيسى الصنهاجي، أصله من قلعة بني حماد، وسكن بجاية، وأخذ عن أشياخها ثم دخل الأندلس، فسمع بها، وولي قضاء الجزيرة الخضراء ثم قضاء سلا، وكان كاتبا بليغا، وشاعراً مجيداً، وله ديوان شعر معروف. وله أيضا كتاب " الإعلام بفوائد الأحكام " وشرح لمقصورة ابن دريد. وتوفي سنة 628 هـ (¬2). ومنهم ومن أشهرهم وألمعهم، محمد بن إدريس بن علي بن ابراهيم بن القاسم من أهل جزيرة شقر، ويعرف بمرج الكحل، وكان من أعظم شعراء عصره مقدرة على الإبداع والتوليد والتجويد، وبرع في الأخص في الغزل، والشعر الوصفى المبتكر، وعاش حينا في غرناطة، وذاع صيته في سائر أنحاء الأندلس. وأخذ عنه عدة من أشياخ العصر، مثل أبي الربيع بن سالم، وأبي عبد الله بن أبي البقاء، وابن عسكر، ومترجمه ابن الأبار وغيرهم. ومن شعره قوله: مَثَل الرزق الذي تطلبه ... مَثَل الظل الذي يمشى معك أنت لا تدركه متَّبعا ... فإذا وليت عنه أتَّبعك وقوله يصف عشة بنهر الفنداق الذي يمر بلوشة: عرج بمنعرج الكثيب الأخضر ... بين الفرات وبين شط الكوثر ولنغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتى أحوى المراشف أحور والروض ما بين مفضض ومذهب ... والزهر بين مدرهم ومدنر والنهر مرقوم الأباطح والربا ... بمصندل من زهره ومعصفر وتوفي مرج الكحل ببلده في شهر ربيع الأول سنة 634 هـ (¬3). ومنهم أبو بكر بن هشام بن عبد الله بن هشام .. بن عبد الغافر الأزدرى ¬_______ (¬1) ترجمته في صلة الصلة لإبن الزبير رقم 263، وفوات الوفيات ج 2 ص 70. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1637. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1656

من أهل قرطبة. درس الفقه والحديث على أقطاب عصره. وبرع في الأدب، وكان كاتبا بليغا وشاعراً مجيداً، كتب لبعض الولاة، وولي قضاء بعض الكور. وتوفي بالجزيرة الخضراء سنة 635 هـ (¬1). ومن أشهرهم أيضاً علي بن عبد الرحمن بن حزمون، أصله من مرسية. وكان شاعراً مجيداً، متمكناً من الآداب والتواريخ، وكان بارع التصرف في النظم، مقذع الهجاء. قال ابن عبد الملك في الذيل والتكملة " وكان شديد القنا، وارد الأنف، أزرق حاد النظر، أسيل الوجه، بادى الشر، مهيبا ". ووقعت بينه وبين بعض أدباء عصره مخاطبات ومساجلات تشهد بتقدمه وتمكنه. دخل مراكش غير مرة، جاء في آخرها متظلما إلى الخليفة المستنصر من المجريطى والي مرسية، لاضطهاده، والاعتداء عليه وضربه بالسياط. ولما ظهرت براءته مما نسب إليه من هجو المجريطي، أصدر المستنصر أمره بإنصافه، وإعدايه على المجريطي، وتمكينه منه، حتى ينتصف لنفسه، وعاد ابن حزمون إلى الأندلس، يحمل أمر المستنصر بإنصافه، ولكنه ما كاد يصل إلى مرسية حتى ورد الخبر بوفاة المستنصر، وتحطم بذلك أمله من الانتصاف لنفسه، ومن نظمه قوله: يا من له بالأنام أنسى ... وهو إلى اللهو ذو التفات استغفر الله من ذنوب ... أنابها نازل الصفات وقوله وهو مطلع قصيدته في الشكوى إلى الخليفة: إليك إمام الحق جبت المفاوز ... وخلفت خلفى صبية وعجائزا يرجين سبب الله ثم حنانكم ... إمام الهدى حتى يمتن عجائزا وتوفي ابن حزمون حول سنة 630 هـ (¬2). ومن ألمعهم أيام الانهيار، إبراهيم بن سهل الإشبيلي، وقد كان يهوديا واعتنق الإسلام، وبرع في الشعر ولاسيما في الموشحات. ومن أبدع قصائده، قصيدة نظمها في مدح النبى. وقد توفي غريقاً في النهر وهو شاب في عنفوانه، وذلك في سنة 649 هـ. ومن شعره، حينما حاصر النصارى إشبيلية في سنة 645 هـ واشتدت الحال بأهل إشبيلية، قصيدة مؤثرة، يحثهم فيها على الصبر والثبات، وفيها يقول: ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 598. (¬2) ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك، الجزء الرابع من مخطوط المتحف البريطاني. وقد أورد لنا ابن عذارى كثيرا من شعره. وراجع البيان المغرب ص 74 - 77

ورداً فمضمون نجاح المصدر ... هي عزة الدنيا وفوز المحشر نادى الجهاد بكم بنصر مضمر ... يبدو لكم بين القنا والضمر خلوا الديار لدار عز واركبوا ... عبر العجاج إلى النعيم الأخضر وتسوغوا كدر المناهل في السرى ... ترووا بماء الحوض غير مكدر ومن شعره قوله: مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى ... أدارى بها همى إذا الليل عسعسا أتانى حديث الوصل زورا على النوى ... أعد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا ويا أيها الشوق الذي جاء زائرا ... أصبت الأمانى خذ قلوبا وأنفسا وقوله: ليل الهوى يقظان ... والحب مترب السهر والصبر لي خوان ... والنوم من عينى برى (¬1). ومنهم أحمد بن محمد بن عيسى .. بن عبد الرحمن بن حجاج اللخمى من أهل إشبيلية، ويعرف بالأفيلح تصغير الأفلح وهو المشقوق الشقة السفلى، كان أديبا بارعا وشاعراَّ مجيداً، وزر للمتوكل ابن هود، وخاض معه حوادث إمارته، وحظى لديه. وله أرجوزة مخمسة في السير عنوانها " نظم الدرر ونثر الزهر " وهي من أحسن ما نظم في موضوعها. وله شعر جيد، وعدة مدائح في أمراء بني عبد المؤمن، ومن ذلك قوله يهنىء المأمون أبا العلاء إدريس. هنأ الله بلاد العرب ... ما تتمناه بلاد المشرق طلع المأمون فيها أمل ... الراجى وأمن التق وكساها من سنا أنواره ... رونقا يدهش نور الحدق (¬2). ومالك بن عبد الرحمن بن علي، يكنى أبا الحكم ويعرف بابن المرحل، درس الفقه والأدب، وامتهن صناعة التوثيق حيناً، وولي القضاء بغرناطة وغيرها، وكان شاعراً رقيقاً مطبوعاً، وله شعر كثير أورد لنا منه ابن الخطيب في الإحاطة عدة قصائد. ولد سنة 604 هـ وتوفي عن سن عالية في سنة 699 هـ (¬3). ومن شعراء الخلافة الموحدية الأثيرين، شاعران، اختصا عصراً بمدائح ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 4 ص 304. (¬2) ترجمته في الذيل والتكملة، الجزء الأول من مخطوط الرباط المصور لوحة 110 و 111. (¬3) ترجمته ومقتطفات من شعره في الإحاطة (مخطوط الإسكوريال لوحات 189 - 196)

الخلفاء الموحدين، منذ عصر أبي يعقوب يوسف حتى عصر الناصر، وهما أبو العباس أحمد بن عبد السلام الجراوي، وأبو بكر بن عبد الجليل بن مُجبر، وقد سبق أن أشرنا في غير موضع إلى مدائح هذين الشاعرين. وكان الجراوى، وأصله من تادلا، وسكن مراكش، شاعراً مبرزاً، عالماً بالآداب، حافظاً لأصول البلاغة، ورحل إلى الأندلس مراراً. وقد وضع للخليفة المنصور كتابه الذي سماه " صفوة الأدب وديوان العرب " في مختار الشعر، وانتشر هذا الديوان في المغرب انتشارا عظيما، وكان لديهم ككتاب الحماسة عند أهل المشرق (¬1). وكذلك جمعت مدائح بن مجبر للمنصور في ديوان وأورد لنا منها ابن خلكان قصيدته التي مطلعها: أتراه يترك الغزلا ... وعليه شب واكتهلا كلف بالغيد ما عقلت ... نفسه السلوان مذ عقلا (¬2). ومن شعراء الخلافة الموحدية أيضاً أبو الحسن الرعيني، وأبو زيد الفازازى، وعبد الرحمن الجزولي وغيرهم. وقد أورد لنا صاحب البيان المغرب كثيراً من مدائح هؤلاء الشعراء للخلفاء الموحدين في غير موضع (¬3). ولدينا ثبت آخر من أكابر الشعراء، مثل ابن طفيل الوادي آشى، وابن الأبار القضاعى، وأبي المطرف بن عميرة المخزومي، ولكنا رأينا أن نضع هؤلاء في مواضع هم أكثر ارتباطا بها وألصق، فابن الأبار، بالرغم من إنتاجه الشعرى الرائع، أكثر انتسابا إلى ميدان التاريخ، وابن عميرة أكثر انتسابا إلى الكتابة، وابن طفيل موضعه الحقيقي بين الفلاسفة والعلماء. - 3 - ولنعرض الآن إلى أكابر الكتاب خلال العصر الموحدي. ولدينا من ذلك ثبت حافل يصعب علينا أن نستوعبه في هذا المقام المحدود، ولكنا سوف نحاول أن نذكر ألمعهم في هذا الميدان. كان من هؤلاء أبو القاسم محمد بن ابراهيم بن خيرة، ويعرف بالمواعينى من أهل قرطبة، وسكن إشبيلية. سمع ابن مغيث، وابن مكى، وابن العربي، ¬_______ (¬1) ترجمة الجراوى في التكملة رقم 323، وقد أورد لنا ابن عذارى كثيراً من شعر الجراوي (يراجع البيان المغرب ص 81 و 93 و 114 و 151 و 154). (¬2) ابن خلكان ج 2 ص 432 و 494. (¬3) راجع البيان المغرب، القسم الثالث ص 226 و 227 و 232 و 258 و 260 و 266 و 268

وابن أبي الخصال وغيرهم، وبرع في الأدب، وكان كاتباً بليغاً، وشاعراً مجيداً. كتب أولا للسيد أبي اسماعيل الوالي بغرناطة، ثم كتب من بعده للسيد أبي جعفر بن عبد المؤمن وحظى عنده، ونال جاها عريضا. وله عدة مؤلفات تاريخية وأدبية منها: " ريحان الإعراب وريعان الشباب " و " الوشاح المفصل " وكتاب في " الأمثال السائرة "، وكتاب في الأدب نحى فيه منحى ابن عبد البر في " بهجة المجالس ". وتوفي بمراكش سنة 564 هـ، أو نحو سنة 570 هـ، وفقاً لرواية ابن الأبار (¬1). وأبو الحكم إبراهيم بن علي بن إبراهيم بن محمد الأنصاري، أصله من وادي آش وسكن مالقة، ويعرف بابن هرَوْدس. كان عالما متمكنا، وكاتبا بليغا، وله حظ من قرض الشعر. كتب أيام الفتنة لأحمد بن ملحان الطائى القائم بوادي آش، إلى جانب العلامة ابن طفيل. وتوفي في سنة 573 هـ (¬2). ومنهم أبو عبد الرحمن بن طاهر، زعيم مرسية أيام الفتنة، وقد سبق أن أتينا على ترجمته بين الكتاب الذين ظهروا في العصر المرابطي (¬3). ومنهم علي بن ابراهيم بن محمد عيسى بن سعد الخير الأنصاري من أهل بلنسية، وأصله من بلدة قشتيل من أعمالها، كان إماما بارعا في علوم اللسان والأدب وكاتباً بليغاً وشاعراً محسناً، بديع التشبيه. وكتب عن السيد أبي الربيع سليمان ابن عبد الله بن عبد المؤمن. وله مصنفات أدبية عديدة منها اختصاره للعقد الفريد، وجمع طرر أبي الوليد الوقشى، وكتاب مشاهير الموشحين بالأندلس، وهم عشرون، ذكرهم بصفاتهم ومحاسنهم، على طريقة الفتح في القلائد والمطمح، وابن بسام في الذخيرة. وله رسائل عديدة. وسار إلى إشبيلية مع مخدومه السيد أبي الربيع، حينما قدم إليها مهنئا ابن عمه الخليفة المنصور بفتح شلب، وارتجاعها من أيدي البرتغاليين، وهنالك توفي في شهر ربيع الآخر سنة 591 هـ (¬4). والحسن بن حجاج بن يوسف الهوارى التجيبى، أصله من بجاية وسكن مراكش، ودخل الأندلس مرارا. وولي الخطبة بإشبيلية. وكان أديباً مبرزاً ¬_______ (¬1) ترجمته في الإحاطة مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى، لوحة 11، وفي التكملة رقم 1407. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 397. (¬3) راجع ترجمة ابن طاهر في ص 445 من القسم الأول من هذا الكتاب. (¬4) ترجمته في الذيل والتكملة، مخطوط المتحف البريطاني، السفر الرابع لوحات 41 - 43

وكاتبا بليغا، أخذ عن أقطاب العصر، وأخذ عنه عدة من الجلة، منهم أبو الربيع ابن سالم، وتوفي بمدينة فاس سنة 598 هـ (¬1). ومنهم أبو الفضل محمد بن علي بن طاهر بن تميم القيسي من أهل بجاية، ويعرف بابن محشرة. كان عالما متمكنا، وأديبا بارعا، وكاتباً مجيداً، وكان تلميذاً لأبي القاسم القالمي. استدعاه الخليفة أبو يعقوب يوسف ليتولى كتابة السر، فظهر في هذا المنصب بمقدرته، وروعة أسلوبه وبيانه. ولما توفي أبو يعقوب، كتب من بعده لولده الخليفة يعقوب المنصور. وفي مجموعة الرسائل الموحدية، عدد من الرسائل مدبجة بقلمه، تشهد بتفوقه، وتفننه في أساليب البلاغة، وكانت وفاته في سنة 598 هـ (¬2). ونستطيع أن نضع بين أعلام كتاب الأندلس في العصر الموحدي، الرحالة ابن جبير، وهو محمد بن أحمد بن جبير بن محمد بن جبير الكنانى، أصله من بلنسية، ونزل أبوه شاطبة، وانتقل إلى غرناطة. ودرس ابن جبير القراءات والحديث، وبرع في الآداب، وبرز في الكتابة والنظم، وكتب في شبابه بسبتة للسيد أبي سعيد عثمان بن عبد المؤمن، ثم كتب لوالى غرناطة، ونال جاها وثراء. ثم تزهد ورحل إلى المشرق لأول مرة في سنة 578 هـ، لقضاء فريضة الحج، وسمع الحديث بمكة على أبي حفص اليانشى، وأخذ مقامات الحريرى بدمشق عن أبي طاهر الخشوعى. ثم عاد إلى الأندلس وأخذ بها عليه ما كان عنده، وحُمل عنه شعره في الزهد، وهو كثير. وقام برحلته الثانية إلى المشرق سنة 585 هـ، وعاد إلى المغرب. ثم رحل رحلته الثالثة بعد سنة 601 هـ ودرس بمكة والقدس، وحدث هناك وأخذ عنه. وتوفي بالإسكندرية في شهر شعبان سنة 614 هـ، ومولده ببلنسية، أو شاطبة سنة 540 هـ (¬3). ومن أشهر آثار ابن جبير رحلته القيمة المسماة " اعتبار الناسك، في ذكر الآثار الكريمة، والمناسك " أو بعبارة أخصر " رحلة ابن جبير " وفيها يدون مشاهداته وملاحظاته بأسلوب قوي شائق. وظهر في أواسط العصر الموحدي في ميدان الكتابة بنو عيّاش، وهم من ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 722. (¬2) ترجمته في " عنوان الدراية " ص 30، وراجع المعجب ص 149. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1581

أقطاب الكتاب البلغاء. وهم أسرة أندلسية نزحت إلى المغرب، وكان أول من ظهر منهم في خدمة الخلافة الموحدية أبو الحسن بن عياش من كتاب الخليفة عبد المؤمن، ثم ولده الخليفة أبي يعقوب يوسف. ومحمد بن عبد العزيز بن عياش، كاتب الخليفة يعقوب المنصور، ثم ولده الناصر. وأبو الحسن علي بن عياش ابن عبد الملك كاتب الخليفة الناصر وولده يوسف المستنصر. وكان أنبههم، وأشهرهم، هو أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عياش التجيبى، وأصله من برشانة من أعمال ألمرية (¬1). ونزح إلى المغرب، وسكن مراكش، وبرع في الآداب وعلوم اللغة، وكان قطب عصره في البيان والبلاغة، خطيباً مصقعاً، وله حظ من قرض الشعر. وقد وصفه ابن عبد الملك في التكملة بقوله: " كان كاتباً بارعاً، فصيحاً، مشرفاً على علوم اللسان، حافظاً للغات والآداب، كبير المقدار، حسن الخلق، كريم الطباع، دفاعاً مجاهداً، كثير الاعتناء بطلبة العلم، والسعى الجميل لهم "، وتولى ابن عياش منصب الكتابة للخليفة المنصور، وظهر فيه برسائله المشرقة، وبيانه الرائع، عن أحوال الخلافة الموحدية ومراسيمها، وتحركاتها (¬2). وهو الذي دبج بقلمه المنشور الصادر بأمر المنصور ضد الفيلسوف ابن رشد وزملائه. ولما توفي المنصور، تولى منصب الكتابة لولده الخليفة الناصر، ثم ولده الخليفة يوسف المستنصر. وكان من آثر رجال الدولة، وأرفعهم مكانة لدى الخلافة الموحدية. وكان صديقاً شخصياً للخليفة المنصور، وله معه أخبار كثيرة. وتوفي أبو عبد الله ابن عياش بمراكش في شهر جمادى الآخر سنة 618 هـ، ومولده ببرشانة سنة 550 هـ (¬3). وتولى ولده، أحمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عياش، منصب الكتابة للخليفة يوسف المستنصر ثم للخليفة المأمون، وتولى قضاء تلمسان وسبتة، وكان كذلك كاتبا محسنا، مشرق البيان، بارع الطريقة، وتوفي في محرم سنة 629 هـ (¬4). ومن أشهر كتاب الأندلس في هذا العصر، الذي اضطرمت فيه الفتنة في كل ¬_______ (¬1) برشانة هي بالإسبانية Puchena. (¬2) وردت في الرسائل الخامسة والثلاثين، والسادسة والثلاثين، والسابعة والثلاثين، من مجموعة رسائل موحدية نماذج بديعة من أسلوب ابن عياش. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1596، وفي الإحاطة - مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 50 - 59. وقد أورد لنا أيضاً نماذج من كتابته. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 300، وفي الذيل والتكملة (مخطوط باريس لوحة 174)

ناحية، أبو بكر عزيز بن عبد الملك بن محمد بن خطاب القيسى، وهو سليل آل خطاب أعيان مرسية ورؤسائها أحيانا منذ القرن الرابع الهجرى. وكانت له كأسلافه مشاركة في العلوم، وتمكن من النثر والنظم. ولما تغلب ابن هود على مرسية في سنة 625 هـ، اختاره لرياستها نائبا عنه، فلبث على ولايتها حتى توفي ابن هود في أوائل سنة 635 هـ، وعندئذ، استبد عزيز بمرسية، ولكن لم يمض سوى قليل حتى تغلب عليه أبو جميل زيان أمير بلنسية السابق، وانتهى الأمر باعتقاله ثم قتله في رمضان سنة 636 هـ. قال ابن عبد الملك في حقه " كان وجيه أهل بلده وصدرهم المعظم لديهم، مشهور الفضل لديهم، أجمل الناس صورة، وأحسنهم شارة، زاهدا ورعا ناسكا عابدا .. حريصاً على نشر العلم، مثابراً على التدريس مستبحراً في المعارف، إلى بيان في الخطابة وبلاغة في النظم والنثر ". وكان يميل إلى طرائق الصوفية وله نظم حسن، ورسائل نثرية بليغة (¬1). ومنهم أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد الأنصاري المعروف بابن الجنّان وهو من أهل مرسية، وكان محدثا راوية، وكاتبا بليغا، وشاعراً محسناً، ظهر بنثره البارع، وكتب لابن هود أيام إمارته، ثم استكتبه الرئيس أبو جميل زيان، أيام تغلبه على مرسية. ولما تغلب النصارى على مرسية سنة 640 هـ، غادرها إلى أوريولة، واستقر بها وقتاً، ثم نزح إلى إفريقية، مع من نزح إليها من أهل الشرق، ونزل ببجاية، وكانت بينه وبين كتاب عصره أمثال أبي المطرف بن عميرة وغيره مراسلات بليغة، ظهرت فيها براعة أسلوبه. وكانت وفاته ببجاية سنة 650 هـ (¬2). وأحمد بن محمد بن عبد الرحمن .. بن علي القضاعى ثم البلوى، من أهل إشبيلية، كان كاتبا مطبوعا بارعا في النثر والنظم. كتب في شبابه لبعض ولاة الأندلس من أبناء الخليفة عبد المؤمن وأحفاده، ثم ترك الكتابة، واشتغل بكتب الشروط. ونزح إلى مراكش في أيام الناصر، واستقر بها وقتا، وغادرها إلى إشبيلية، ثم عاد إلى مراكش مع وفد إشبيلية الذي يحمل بيعة أهلها إلى الخليفة السعيد، ومدحه بقصيدة فريدة وخطبة بارعة، وحظى لديه، وتوفي بمراكش سنة 657 هـ (¬3). ¬_______ (¬1) ترجمته في الحلة السيراء لابن الأبار ص 249 - 253، وفي الذيل والتكملة لابن عبد الملك (مخطوط باريس). (¬2) ترجمته في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال (1673 الغزيرى) لوحة 14 - 18. وكذلك في عنوان الدراية ص 213 - 215. (¬3) ترجمته في الذيل والتكملة لابن عبد الملك المجلد الأول (مخطوط باريس) لوحة 171 و 172

وعلي بن محمد بن علي بن هيصم الرعينى من أهل إشبيلية، كان محدثاً، وكاتباً بليغاً، مشاركاً في علوم كثيرة، وغلبت عليه الكتابة السلطانية، فبرع فيها، وانقطع لها، وكتب عن عدة من أمراء الأندلس والعدوة، فكتب للمتوكل ابن هود، ثم كتب بعد وفاته لمحمد بن الأحمر صاحب غرناطة، ووقعت مساجلات أدبية بينه وبين أبي عبد الله بن الجنان، وأبي المطرِّف بن عميرة، ينقلها إلينا صاحب التكملة. ثم نزح من الأندلس إلى العدوة، فكتب عن أمير سبتة، ثم عن الأواخر من الخلفاء الموحدين، خلفاً لشيخه أبي زيد الفازازى، وكان من شيوخ ابن عبد الملك صاحب الذيل والتكملة وتوفي بمراكش سنة 666 هـ (¬1). ونستطيع أن نختتم هذا الثبت من الكتاب، بكاتب من أبرع وألمع كتاب الأندلس، في عصر الانهيار، هو أبو المطرِّف أحمد بن عبد الله بن الحسين بن عميرة المخزومي. وأصله من جزيرة شقر من أعمال بلنسية وبها ولد سنة 582 هـ. وسكن بلنسية ودرس بها الحديث والفقه، ولكنه شغف باللغة وعلومها، وبالأدب، وبرع في النثر. قال ابن عبد الملك: " وتفنن في العلوم، ونظر في العقليات وأصول الفقه، ومال إلى الأدب، فبرع فيه براعة عد بها في كبار مجيدى النظم. وأما الكتابة، فهو علمها المشهور، وواحدها الذي عجزت عن ثانيه الدهور "، وقال ابن الخطيب في وصفه " كان نسيج وحده إدراكا وتفننا، بصيراً بالعلوم، محدثاً مكثراً، راوية ثبتاً، متبحراً في التاريخ والأخبار، قائماً على العربية واللغة، جم العيون، غزير المعانى والمحاسن " (¬2). وأخذ ابن عميرة عن عدة من أقطاب عصره، منهم أبو الخطاب بن واجب، وأبو الربيع بن سالم، وأبو علي الشلوبين وأبو عمر بن عات، وأبو محمد بن حوط الله. وولي لأول أمره القضاء بأوريولة ثم شاطبة، ولكنه ظهر في ميدان الكتابة والترسل، وكتب عن الأمير أبي جميل زيان، وصدرت عنه في تلك الفترة المدلهمة من تاريه شرق الأندلس رسائل عديدة، منها ما هو موجه منه، وهو قاض بشاطبة إلى المتوكل بن هود، وما كتبه عن أبي جميل زيان أيام ولايته لمرسية إلى ملك قشتالة، وإلى أبي زكريا الحفصى أمير إفريقية، ومنها ما تبادله مع زميله وصديقه وقرينه في الشهرة والبراعة ابن الأبار ¬_______ (¬1) ترجمته في الإحاطة مخطوط الإسكوريال السالف الذكر لوحة 328 و 329. وفي الذيل والتكملة المجلد الرابع من مخطوط المتحف البريطاني. (¬2) الإحاطة لإبن الخطيب (1956) ج 1 ص 180

القضاعى. وقد انتهى إلينا عدد كبير من هذه الرسائل التي دبجها ابن عميرة في تلك الفترة، وكلها تدلى بروعة بيانه، ومقدرته الفائقة في الترسل (¬1). وكان مما نقله إلينا صاحب " صبح الأعشى " من رسائله، رسالة كتبها عن " صاحب أرغون " إلى الخليفة الموحدي يوسف المستنصر، يخبره فيها بأن صاحب أرغون، قد وقع بينه وبين بلده خلاف، انتهى بنكبته، وإخراجه من بلاده، ففكر في " أن يلجأ إلى المقام الباهر الأنوار، العزيز الجوار، فقدم إلى بلنسية، التي صدرت منها هذه الرسالة، وبأنه إن وجد من الأمر العالي تأييداً، واستطاع أن ينتصر على خصومه، كانت لذلك نتائج هامة، خصوصاً وأن له في " أرغون " كثير من الزعماء والأقارب والفرسان المناصرين له " (¬2). وقد ظن بعض الباحثين أن ابن عميرة التحق بخدمة ملك أراجون، وكتب عنه هذه الرسالة وهو في خدمته. والحقيقة كما يبدو من نص الرسالة الواضح، أن ابن عميرة، كان وقت كتابة الرسالة مقيما ببلده بلنسية، وربما كان عندئذ يتولى الكتابة لواليها السيد أبي زيد، أما " صاحب أرغون "، الذي كتبت عنه هذه الرسالة، فالمرجح أنه الدون فرناندو الأرجونى عم ملك أراجون الصبي " خايمى "، وكان يحاول مع جماعة من أعيان أراجون أن يناوئه، وأن ينتزع العرش لنفسه (¬3)، ومن ثم كان قدومه إلى بلنسية، وتوجيه رسالة منها إلى الخليفة الموحدي، وكان ذلك، فيما يبدو حوالى سنة 618 هـ (1220 م)، في أواخر عهد المستنصر. ولما تفاقمت الحوادث في شرقي الأندلس، وشعر ابن عميرة أنه لم يبق له ثمة أمل في البقاء في الوطن المنكوب، عبر البحر إلى المغرب، والتحق بخدمة الخليفة الموحدي الرشيد، وكتب عنه في أواخر عهده. ثم ولى بعد ذلك قضاء سلا ومكناسة. ولما قتل الخليفة المعتضد (السعيد) لحق بسبتة، وهنالك انقض عليه جمع من بني مرين وسلبوه كل أمواله، فارتد في أسوأ حال إلى إفريقية، وسكن بجاية حينا، ثم رحل إلى تونس، وحظى لدى أميرها المستنصر بالله، فولاه قضاء قسنطينة ثم قضاء ¬_______ (¬1) نشرت عدة من رسائل ابن عميرة في صبح الأعشى ج 6 ص 534 وج 7 ص 98 و 94 و 116. ونشرت منها عدة بكتاب زواهر الفكر، لابن المرابط - مخطوط الإسكوريال رقم 518 الغزيرى، ورقم 520 ديرنبور. ونشر المقري بعضها في نفح الطيب ج 2 ص 596 - 601، وفي الروض المعطار - صفة جزيرة الأندلس ص 48 - 52، وكذلك الإحاطة ص 182. (¬2) تراجع هذه الرسالة في صبح الأعشى ج 6 ص 534 - 535. (¬3) M. Lafuente: Historia General de Espana ; T. IV, p. 69 & 70

قابس، ثم كتب حينا عن المستنصر. وقد كان ابن عميرة إلى جانب براعته في الكتابة، شاعراً مجيداً له النظم الرائق. وله تأليف في " كائنة ميورقة " وسقوطها في أيدي النصارى، نحى فيه بأسلوبه المسجع منحى العماد الأصفهانى في الفتح القدسى. وكتاب في التعقيب على فخر الدين الرازى في كتاب المعالم في أصول الفقه، ومختصر في " ثورة المريدين " وغيرها. وجمع ابن هانىء السبتى رسائل ابن عميرة وشعره في كتاب في سفرين، وسماه " بغية المستطرف وغنية المتطرف، من كلام إمام الكتابة ابن عميرة أبي المطرِّف ". والخلاصة أن القاضي ابن عميرة، مثل زميله ابن الأبار، يمثل كلاهما، بشعره ونثره نفثة من نفثات الأندلس المحتضرة، ويودع كلاهما رسائله أنفس نماذج تراثها الأدبى الأخير. وتوفي ابن عميرة بتونس عن سن عالية، في شهر رمضان سنة 658 هـ، وقيل في ذي الحجة سنة 656 هـ (¬1). - 4 - وأما عن الرواة والمؤرخين الذين ظهروا في العصر الموحدي، فليس لدينا منهم سوى القليل، بيد أنه قد انتهى إلينا من تراث هذه الحقبة، عدد من المصادر القيمة الهامة، وفي مقدمتها تلك السلسلة النفيسة من تراجم العصرين المرابطي والموحدى، وهي التي بدأت بكتاب " الصلة " لابن بشكوال. وقد سبق أن ترجمنا لابن بشكوال ضمن مؤرخي العصر المرابطي، وجاء ابن الأبار القضاعى فوضع معجمه " التكملة " ليتم به معجم " الصلة " وليصل بما يتضمنه من التراجم إلى ما بعد سنة 650 هـ بقليل، وليقدم لنا بذلك ثبتاً حافلاً ضخماً من أعلام الفكر الأندلسي، في سائر ميادينه، خلال العصر الموحدي. وجاء من بعد ابن الأبار، العلامة المغربى الثقة، ابن عبد الملك المراكشي المتوفى أواخر القرن السابع، فوضع معجمه الضخم " الذيل والتكملة لكتابى الموصول والصلة " تكملة لهذه السلسلة النفيسة. مستدركا فيها الكثير مما فات سلفيه، ومتوسعا في كثير من التراجم المشتركة، هذا إلى ما يقدمه إلينا خلال هذه التراجم عن أحداث العصر الموحدي، سواء بالمغرب أو الأندلس من نبذ تاريخية قيمة، ومن وثائق فريدة أحيانا. وقد عاش ابن عبد الملك في أواخر العصر الموحدي، وأدرك نهايته، ثم توفي بعد ذلك بنحو ثلث قرن. وجاء أخيراً من بعد ابن عبد الملك ¬_______ (¬1) تراجع ترجمة ابن عميرة في الإحاطة (1956) ج 1 ص 179 - 186، وعنوان الدراية ص 178 - 180

راوية ومؤرخ أندلسي، ولد في أواخر العصر الموحدي بالأندلس، هو أبو جعفر ابن الزبير المتوفى في سنة 708 هـ، فوضع لنا معجماً جديداً من التراجم الأندلسية والمغربية، سماه " صلة الصلة "، وبه يضيف إلى سلسلة المعاجم السابقة، مرحلة أخرى من تراجم العصر الموحدي. وسوف نحاول التعريف بأولئك الرواة المؤرخين، أصحاب المعاجم المذكورة خلال حديثنا عن المؤرخين الذين ظهروا خلال العصر الموحدي. كان من هؤلاء مؤرخان لا ينتميان فقط إلى العصر الموحدي، ولكن يعتبر كلاهما من أولياء الدولة الموحدية ومؤرخيها الأوائل، هما ابن صاحب الصلاة، وعبد الواحد المراكشي. فأما ابن صاحب الصلاة، فهو عبد الملك بن محمد بن أحمد بن محمد بن ابراهيم الباجى، ويكنى أبا مروان وأبا محمد، ويعرف بابن صاحب الصلاة وصاحب التاريخ. وقد سبق أن أتينا على ترجمته، ووصف أثره التاريخى الهام عن الدولة الموحدية وهو كتاب " المن بالإمامة "، كما أشرنا إلى ما يوجد من خلاف حول تاريخ وفاته، وإلى ما يبدو بالرجوع إلى بعض شذور تاريخية من كتابه من أنه قد عاش حتى أواخر القرن السادس الهجرى، وتوفي فيما يرجح حوالى سنة 605 هـ (¬1). وأما المراكشي فهو أبو محمد عبد الواحد بن علي التميمى المراكشي، ولد بمدينة مراكش، حسبما يحدثنا في سنة 581 هـ، وغادرها في صباه إلى فاس، وهناك درس القرآن والنحو، ثم عبر إلى الأندلس في سنة 603 هـ، وتجول بها حيناً، وعاد إلى مراكش، وبقى بها حتى سنة 611 هـ، ثم عبر إلى الأندلس مرة أخرى وهناك اتصل ببعض الولاة الموحدين، وغادرها في أواخر سنة 613 هـ إلى المشرق، وقضى بمصر حيناً. وكتب كتابه " المعجب في تلخيص أخبار المغرب "، وفيه يتحدث عن تاريخ الأندلس بإيجاز، ثم تاريخ المغرب خلال عصر المرابطين والموحدين، في شىء من التفصيل، ويبدى عناية خاصة بسرد أخبار الموحدين ويبدى في سردها إعجاباً وعطفاً، لما كان يربطه قبل مغادرته الأندلس والمغرب، من أواصر المودة ببعض الولاة والأمراء الموحدين. وبالرغم مما يبدو في تاريخه من ثغرات كثيرة، فإنه يعتبر من المصادر القيمة لتاريخ الدولة الموحدية، لما يحتويه من إشارات ونبذ قيمة عن تاريخ الخلافة الموحدية، منذ عهد عبد المؤمن ¬_______ (¬1) راجع القسم الأول من هذا الكتاب ص 9 و 10

حتى محمد الناصر. ولم نعثر على تاريخ وفاته (¬1). ومنهم محمد بن سعيد بن محمد .. بن مدرك الغسانى من أهل مالقة، درس الحديث والفقه على عدة من أعلام عصره، ومنهم أبو بكر بن العربي، وبرع في الرواية والتاريخ وتحقيق الأنساب، وكان يقتنى مكتبة من أكبر مكتبات بلده. ولم يذكر له تاريخ وفاة (¬2). وأحمد بن محمد الأزدي المؤرخ من أهل قرطبة، كان من تلاميذ ابن بشكوال وأخذ عنه كثيراً، وكان يلازم المسجد الجامع، متعبداً متبتلاً، وقيد كثيراً من التواريخ والمواليد والوفيات، ولكن لم يصلنا من آثاره شىء، وتوفي سنة 611 هـ (¬3). ومن أشهر مؤرخي العصر الموحدي بالأندلس، أبو القاسم محمد بن عبد الواحد بن ابراهيم بن مفرج بن حريث بن مروان الغافقي، من أهل غرناطة ويعرف بالملاّحى نسبة إلى " الملاحة " وهي قرية من أعمال إلبيرة على مقربة من غرناطة، وكان بها منزل سلفه. درس الحديث وشغف بالرواية والأدب والسير، وأخذ عن عدة من أقطاب عصره، مثل أبي الحسن بن كوثر، وأبي محمد ابن الفرس، وأبي عبد الله بن بونه، وأبي بكر بن أبي زمنين وغيرهم، وكان محدثا وراوية متقنا، وأديبا مؤرخا بارعا. وله عدة مؤلفات أشهرها كتابه " تاريخ علماء إلبيرة وأنسابهم وأنبائهم "، وهو مؤلف يقتبس منه المتأخرون بكثرة مثل ابن الخطيب وغيره. ومن مؤلفاته أيضاً " كتاب الشجرة في أنساب الأمم العرب والعجم " وكتاب " الأربعين حديثا "، وله استدراك على كتاب الصحابة لأبي عمر ابن عبد البر. توفي في شهر شعبان سنة 619 هـ، ومولده سنة 549 هـ (¬4). ومنهم عيسى بن سليمان بن عبد الله بن عبد الملك الرعيني، ويعرف بالرندى، لأن أصله من رندة وسكن مالقة. عنى بالإسناد والرواية، وأخذ بالأندلس عن عدة من الأشياخ، ورحل إلى المشرق وحج، وأخذ هنالك عن كثيرين، وأنفق في المشرق نحو عشرين عاما، ثم عاد إلى بلده مالقة، وأخذ عنه الكثيرون، وكان ضابطا متقنا، عارفا بالرجال والأسانيد، وألف كتابا في " الصحابة " ووضع معجم أشياخه. وتوفي سنة 632 هـ (¬5). ¬_______ (¬1) راجع المعجب ص 130 و 187 و 189 و 203 حيث يشير المراكشي إلى بعض مراحل حياته. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1412. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 269. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1604، وفي الإحاطة مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى لوحة 146. (¬5) ترجمته في صلة الصلة لابن الزبير ص 51

ومحمد بن عبد الله بن ابراهيم بن عبد الله بن قسوم اللخمى من أهل إشبيلية، كان أديباً شاعراً راوية. وعكف على الزهد والعبادة، فطار ذكره، وقصر شعره على الزهد والمراثى، وأخذ البعض عنه. وعنى بالسير، وألف كتابا سماه " محاسن الأبرار في معاملة الجبار " يشتمل على أخبار الصالحين من أهل إشبيلية. وتوفي في ذي الحجة سنة 639 هـ (¬1). على أن أعظم أقطاب الرواية والتاريخ، في هذه الفترة القاتمة من تاريخ الأندلس، هو بلا ريب أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي بكر القضاعى المعروف بابن الأبار. وقد آثرنا أن نضع هذا المفكر الأندلسي العظيم بين المؤرخين، لأن تراثه التاريخى هو أقيم ما انتهى إلينا من آثاره العديدة. ذلك أن ابن الأبار، هو علامة متعددة الجوانب، فهو فقيه راسخ، وكاتب بلغ ذروة البيان، وشاعر مبدع مبكى، ثم هو بعد ذلك كله مؤرخ محقق، وكان مولده بثغر بلنسية في سنة 595 هـ، في بيت علم ونبل، وأصلهم من أندة على مقربة من غربي بلنسية. ودرس ابن الأبار على أبيه عبد الله، وعلى عدة من أقطاب عصره، منهم أبو عبد الله ابن نوح، وأبو جعفر الحصار، وأبو الخطاب بن واجب، وأبو سليمان بن حوط الله، وكبير محدثى الأندلس يومئذ أبو الربيع بن سالم، وقد لازمه ابن الأبار أكثر من عشرين سنة، وهو الذي أشار عليه فيما بعد أن يضع معجمه الشهير " التكملة لكتاب الصلة ". وبرع ابن الأبار في اللغة والأدب، وشغف بالأخبار والسير، ورحل في مطلع شبابه إلى غربي الأندلس، فزار قرطبة، ثم إشبيلية، وهو يأخذ أينما حل عن أساتذة العصر. وتولى ابن الأبار في شبابه قضاء دانيه (¬2)، ولكن القدر كان يدخره لمهام أخطر. ذلك أنه تولى منصب الكتابة للسيد أبي زيد والي بلنسية الموحدي، ولما اضطرمت الثورة ببلنسية ضد الموحدين وغلب على بلنسية الرئيس أبو جميل زيان بن مردنيش، تولى ابن الأبار له منصب الكتابة، ولكنه لم يمكث طويلا في ذلك المنصب، وشاء القدر أن تسقط بلنسية في أيدي النصارى سنة 636 هـ، وأن يكون ابن الأبار يوم تسليمها إلى جانب أميره، وأن يقوم هو بتحرير شروط التسليم، وكان ذلك بعد أن عبر ابن الأبار البحر سفيراً إلى تونس يطلب إلى أميرها باسم أميره، وباسم الإسلام في الأندلس، الإنجاد ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1669. (¬2) هذا ما يستفاد من قول ابن الأبار في التكملة في الترجمة رقم 2117

والغوث، وينشد بين يديه قصيدته السينية الرائعة التي مطلعها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وقد أتينا على ذلك كله مفصلا في موضعه. ونود أن نضيف هنا أن ابن الأبار هزته هذه المحنة إلى الأعماق، فلم يطق البقاء في الوطن المنكوب، وغادر الأندلس وعبر البحر مرة أخرى إلى تونس، فوصلها في أواخر سنة 636 هـ (¬1). وعاش حيناً في كنف أميرها أبي زكريا الحفصى يتولى له كتابة العلامة، ثم أخذ يتردد بين تونس وبجاية يدرس هنا وهناك. ولما توفي الأمير أبو زكريا في سنة 647 هـ، وخلفه ولده المستنصر بالله، التحق ابن الأبار ببطانته العلمية، ولكنه لم يكن قريراً مطمئناً إلى هذه الحياة، لما كان يتخللها من غضب السلطان بسبب دسائس خصومه أحيانا، وبسبب تصرفاته الشخصية النزقة أحيانا أخرى. واستطاع خصوم ابن الأبار في النهاية أن يوقعوا به، ورفعت إلى السلطان بعض أقوال وأبيات شعر نسبت إليه طعناً في السلطان وتعريضاً به، فأمر المستنصر بجلده ثم بقتله، فجلد بالسياط، ثم قتل طعناً بالرماح، وأخذت كتبه وأحرقت في موضع قتله. ووقع مصرع ابن الأبار على هذا النحو المؤسى في الحادي والعشرين من شهر المحرم سنة 658 هـ (8 يناير سنة 1260 م)، واختتمت بذلك حياة أعظم شخصية في الأدب الأندلسي في القرن السابع الهجرى. وقد ترك لنا ابن الأبار تراثا حافلا من المنثور والمنظوم، والمصنفات التاريخية الجليلة. وأقوى وأروع ما صدر عن ابن الأبار من نثر ونظم، هو ما كتبه أيام المحنة، أيام انهيار الأندلس، وأيام سقوط وطنه بلنسية، من القصائد والرسائل، التي مازالت تحتفظ حتى يومنا برنينها المبكى، الذي يتفطر له الفؤاد، وقد أشرنا إلى بعضها فيما تقدم من فصول هذا الكتاب. وأما تراثه التاريخي، فهو من أنفس ما انتهى إلينا عن تاريخ الأندلس، وتاريخ رجالاتها، ولاسيما في القرن السادس الهجرى، وأوائل القرن السابع، وقد كان ابن الأبار وزيراً وكاتباً، ومعاصراً لكثير من الحوادث التي يرويها. وأهم مصنفاته التاريخية هو بلا ريب كتاب " التكملة لكتاب الصلة " وهو موسوعة حافلة في التراجم، يتخللها كثير من النبذ التاريخية الهامة، وقد وضعه ابن الأبار تنفيذاً لإشارة أستاذه أبي الربيع بن سالم كبير علماء الشرق الأندلسي يومئذ، وأريد به أن يكون " تكملة " لكتاب الصلة ¬_______ (¬1) هذا ما يقوله ابن الأبار في التكملة في الترجمة رقم 1880

لابن بشكوال القرطبي، ويقول لنا ابن الأبار إنه كان قد انتهى من وضع كتاب " التكملة " في سنة 636 هـ (¬1)، وهنالك ما يدل على أنه لبث ينقحها ويزيد فيها حتى أواخر سنة 655 هـ أعني إلى ما قبل وفاته بنحو عامين (¬2). وظاهر من محتويات " التكملة " أن ابن الأبار يعنى عناية خاصة بعلماء شرقي الأندلس، وأحداثه التاريخية، وهي المنطقة التي ولد فيها، وسلخ فيها شبابه، واكتمل نضجه، واتصل بالعدد الجم من علمائها. وكتاب " الحلة السيراء " وهو أيضاً مجموعة نفيسة من تراجم رجال الأندلس والمغرب وغيرهم، تبدأ من المائة الأولى للهجرة حتى أوائل المائة السابعة، وكتاب " المعجم في أصحاب القاضي أبي على الصدفى السرقسطى " ينحو نحو القاضي عياض في وضعه لمعجم شيوخه (¬3)، وهذه هي معاجم التراجم الكبيرة، التي انتهت إلينا من تراث ابن الأبار، وهناك ما يدل خلال بعض تراجم التكملة أن الأبار قد وضع معجما لشيوخه، ومعجما آخر في أصحاب ابن العربي. وانتهت إلينا من قلمه مجموعة صغيرة أخرى من التراجم عنوانها " إعتاب الكتاب " تشتمل على تراجم طائفة من كتاب الأندلس وبعض الكتاب المشارقة (¬4)، ولابن الأبار مؤلفات أخرى لم تصل إلينا منها كتاب " درر السمط في أخبار السبط "، وهو مؤلف يشير إليه المقري في نفح الطيب ويقتبس منه (¬5)، وكتاب " معدن اللجين في مراثى الحسين (¬6). ويوجد بمكتبة الإسكوريال كذلك مخطوط عنوانه " تحفة القادم " من تأليف ابن الأبار، يوصف بأنه " مقتضب من كتاب تحفة ¬_______ (¬1) راجع التكملة في الترجمة رقم 1690. (¬2) هذا ما يبدو من مراجعة ما ورد في الترجمة رقم 1652. (¬3) نشر كتاب التكملة في مجلدين بمدريد منذ سنة 1887 ضمن المكتبة الأندلسية. ونشر كذلك في طبعة ناقصة بالقاهرة (1955). ونشر كتاب المعجم في أصحاب القاضي أبي على الصدفى أيضا ضمن المكتبة الأندلسية (سنة 1886). ونشر كتاب الحلة السيراء بعناية المستشرق دوزى في طبعة ناقصة حذف منها كثير من التراجم (سنة 1851) نشر بعضها بمعرفة دوزى أيضاً في مجموعة " نصوص بني عباد " Historia Abbadidarum، والبعض الآخر بعناية المستشرق ميللر في: Beitrage. وقد قام أخيراً الدكتور حسين مؤنس بإصدار طبعة كاملة محققة من الحلة السيراء في مجلدين (القاهرة سنة 1964) وذلك أثناء قيامنا بطبع هذا الكتاب. (¬4) وتوجد منه نسخة قديمة بالية، بمكتبة الإسكوريال رقم 1731 الغزيري. (¬5) راجع نفح الطيب ج 2 ص 601 - 604 حيث يقتبس المقري منه عدة فصول. (¬6) وقد ورد ذكره خلال الترجمة رقم 1654 من كتاب التكملة حيث يشير ابن الأبار نفسه إلى أنه ألف كتابا بهذا الإسم

القادم " وهو حسبما يصفه ابن الأبار في الديباجة " اقتضاب من بارع الأشعار" وفيه يورد ابن الأبار تراجم بعض الشعراء الأندلسيين والغرباء، ومختارات من أشعارهم (¬1). وذكر لنا ابن الأبار في الحلة أن له مؤلفا آخر عنوانه " إيماض البرق في أدباء الشرق " (¬2). وبعد فهذه لمحة في التعريف بابن الأبار وتراثه، حسبما وسع هذا المقام المحدود. وقد خلدت لنا آثار ابن الأبار صوراً حية من محنة الأندلس، وعوامل انهيارها، لم يستطع كاتب آخر من معاصريه، أن يقدم إلينا شيئاً يدانيها. ومازالت هذه الآثار حتى يومنا، أهم وأوثق مصادرنا عن تلك الفترة المشجية من التاريخ الأندلسي (¬3). ومن الأدباء المؤرخين الذين نبغوا في تلك الفترة، علي بن موسى بن سعيد الأندلسي، المعروف بابن سعيد المغربى، وأصله من سادة قلعة يحصب من أعمال شمالي غرناطة، وهو أديب ورحالة وسليل أسرة من الأدباء والمؤرخين، تعاقب منها قبله خمسة في مدى قرن، على تصنيف مؤلف ضخم في فضائل مدن الأندلس والمغرب والمشرق، بضم كتابين كبيرين هما " كتاب المشرق في حلى المشرق "، وكتاب " المغرب في حلى المغرب " وأتمه علي بن موسى آخر من نبغ من هذه الأسرة. وقد ولد بغرناطة سنة 610 هـ، وتجول بقواعد الأندلس، والمغرب والمشرق، وتوفي بدمشق سنة 673 هـ، ومؤلفه أثر أدبى كبير، تاريخى جغرافي، بارع الأسلوب. وله كتب أخرى منها " المرقص والمطرب " و " ملوك الشعر "، و " الطالع السعيد في تاريخ بني سعيد "، و " لذة الأحلام في تاريخ أمم الأعجام "، و " نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب "، وغيرها (¬4). ومن المؤرخين المغاربة في العصر الموحدي، أحمد بن يوسف بن أحمد ابن يوسف بن فُرتون السلمي، من أهل مدينة فاس، واستوطن سبتة، ويعرف ¬_______ (¬1) يحفظ هذا المخطوط بمكتبة الإسكوريال برقم 356 الغزيرى. (¬2) الحلة السيراء ص 222. (¬3) راجع ترجمة ابن الأبار في فوات الوفيات ج 2 ص 226 - 227، ونفح الطيب ج 2 ص 578 - 580، وعنوان الدراية ص 183 - 186، والزركشى في تاريخ الدولتين ص 27. وراجع أيضاً في ترجمة ابن الأبار وتعداد آثاره Pons Boigues ; ibid , p. 291-296. (¬4) ترجمته في فوات الوفيات ج 2 ص 89 - 91 وكذلك في: Pons Boigues ; p. 306

بابن فرتون، عنى بالتاريخ والسير، وتراجم الرجال، إلى جانب عنايته بالحديث، وألف مجموعا في التراجم عنوانه " الذيل "، وتوفي بسبتة في شعبان سنة 660 هـ (¬1). ونبغ في أواخر العصر الموحدي، وتجاوزه بقليل عدة من المؤرخين، وأصحاب المعاجم والسير، التي كانت من أخصب مصادرنا في كتابة تاريخ العصر الموحدي وتراجم رجاله، وفي مقدمة هؤلاء أبو عبد الله محمد المراكشي المعروف بابن عذارى صاحب الموسوعة الجليلة في تاريخ المغرب والأندلس، " البيان المغرب "، وهي التي كانت من أهم وأوثق مصادرنا. وقد أشرنا إليها وإلى أهميتها في بداية هذا الكتاب، في الفصل الذي كتبناه عن " المصادر ". أما عن حياة ابن عذارى فلسنا نعرف الكثير، ولا نعرف إلا أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع وأوائل القرن الثامن، وكان حيا في سنة 712 هـ، حسبما يذكر لنا ذلك في مؤلفه، وربما توفي بعد ذلك بقليل (¬2). وابن القطان صاحب كتاب " نظم الجمان "، وقد كان حيا في عصر الخليفة المرتضى، وقد أشرنا إلى ذلك في فصل المصادر. وأحمد بن ابراهيم بن الزبير بن الحسن بن الحسين بن الزبير، الشهير بابن الزبير، وهو أندلسي من أهل جيان ولد بها سنة 627 هـ، وتوفي بغرناطة سنة 708 هـ، وكان محدثا متقنا. وقد ترك لنا مجموعة نفيسة من التراجم عنوانها ْ" صلة الصلة " مذيلا بها على صلة ابن بشكوال، ومنها كثير من التراجم لرجال العصرين المرابطي والموحدي (¬3). وأبو عبد الله محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي، المراكشي، وقد كان فقيهاً جليلاً، ومؤرخاً ثقة، تولى قضاء الجماعة حينا. ويصفه ابن الخطيب خلال ترجمته لولده " بقاضى القضاة، نسيج وحده الإمام العالم التاريخى المتبحر في الأدب " (¬4)، وقد ترك لنا ابن عبد الملك موسوعة من أجل موسوعات التراجم لرجالات المغرب والأندلس، تشغل عدة مجلدات كبيرة، وتوجد منها نحو خمسة مجلدات، مبعثرة بالمتحف البريطاني، والمكتبة الوطنية ¬_______ (¬1) ترجمته في مقدمة صلة الصلة (ص ط). (¬2) راجع البيان المغرب القسم الثالث ص 454. (¬3) نشر كتاب " صلة الصلة " بعناية المرحوم الأستاذ ليفى بروفنسال (الرباط سنة 1937)، ووردت به ترجمة ابن الزبير في المقدمة (ص هـ) منقولة عن تكملة ابن عبد الملك. (¬4) في الإحاطة في ترجمة محمد بن عبد الملك ولد المؤرخ، مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى لوحة 67

بباريس، ودار الكتب المصرية، ومنها قطعة بالإسكوريال، وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الخاص بالمصادر. أما عن حياة مؤلفها فلسنا نعرف الكثير، ولا نعرف إلا أنه عاش في النصف الثاني من القرن السابع الهجرى، وتوفي أواخر هذا القرن وربما في أوائل القرن الثامن (¬1). وتسمى موسوعة ابن عبد الملك " بالذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة " أي لكتابي " ابن الفرضي وصلة ابن بشكوال " وقد كتبت تراجمها بلغة أدبية ونقدية قوية، وتخللتها نبذ تاريخية عديدة هامة، انتفعنا بالكثير منها. ¬_______ (¬1) ذكر بونس بويجيس P. Boigues في معجمه في ترجمة ابن عبد الملك أنه كان معاصراً للعبدرى صاحب " الرحلة المغربية " التي كتبت في سنة 688 هـ، وأنه يجب أن يكون قد توفي في سنة 669 هـ (1270 م) Historiadores y Geograficos Arab. Espanoles ( ص 310 و 414). وقد وهم هذا العلامة فيما استنتج. وقد وقفنا على ما يدحض هذا الوهم، أولا في الجزء المحفوظ من التكملة المحفوظ بمكتبة الإسكوريال (1682 الغزيرى) ففيه يترجم ابن بعد الملك لأبي الطيب صالح ابن شريف الرندي المتوفى سنة 684 هـ ويذكر في هذه الترجمة كما يأتى " وروى عنه جماعة من أصحابنا، وكتب إلى بإجازة ما رواه وألفه وأنشأه نظماً ونثراً " ومعنى ذلك أن ابن عبد الملك، أخذ عن الرندي وتتلمذ عليه، فهو بذلك متأخر عنه، وثانيا وقفنا في كتاب الإحاطة لابن الخطيب (مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى) على ترجمة لمحمد بن محمد بن عبد الملك وهو ابن صاحب التكملة، وفيها أنه توفي في وقيعة على المسلمين من جيش مالقة في شهر ذي القعدة سنة 743 هـ (لوحة 67 - 74 من المخطوط) وهو ما يؤيد مرة أخرى أن صاحب التكملة امتدت حياته فيما يرجح إلى أواخر القرن السابع أو أوائل القرن الثامن الهجرى

الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى

الفصل الرابع الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي القسم الثالث إزدهار العلوم في ظل الدولة الموحدية. أعلام الطب في العصر الموحدي. أبو جعفر الغافقي القرطبي. ابن غلندة الأموي. أبو مروان بن جريول. محمد بن عبد الملك بن زهير. أبو جعفر ابن حسان القضاعى. عبيد الله بن الوليد المذحجى. محمد بن علي القرشى الزهرى. علماء النبات. أبو علي ابن مفرج البكرى الأشبونى. جودى بن عدنان القيسى. ابن مفرج الأموي المعروف بابن الرومية. ابن البيطار المالقي. علماء الرياضيات. ابن سهل الضرير. أبو اسحق البطروجى المراكشي. عبد الله ابن محمد بن حجاج. محمد بن بكر الفهرى. الحسن بن علي المراكشي. أبو بكر الرقوطى المرسى. العالم الزراعى ابن العوام الإشبيلي. عباقرة الطب والفلسفة. أبو بكر بن طفيل القيسى. رسالة " حى ابن يقظان ". أبو الوليد ابن رشد. تصانيفه الفلسفية والطبية. اتهامه ونكبته أيام المنصور. الرئيس موسى بن ميمون القرطبي. الفنون في ظل العهد الموحدي. تحول الخلافة الموحدية إلى ملك دنيوى باذخ. الإتجاه إلى استكمال مظاهر الأبهة الملوكية. إنشاء مدينة جبل طارق. رعاية الدولة الموحدية للفنون المعمارية. المنشآت الموحدية بإشبيلية. القصور الموحدية والجامع الأعظم وصومعته. قصر السيد أبي يحيى بقرطبة. قصر السيد أبي اسحق بغرناطة. بعض أقطاب الهندسة والفن في هذا العصر. صدى هذه الحركة العمرانية والفنية في العاصمة الموحدية. ضاحية الصالحة. صومعة الكتبية. الموسيقى وإغفال شأنها. فن كتابة المصاحف. تفوق الفنون الموحدية في المنشآت الدفاعية. بقى علينا أن نستعرض من الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدي، ناحية من أهم نواحيها، وهي ناحية العلوم والفنون. ففي هذا الميدان ميدان العلوم والفنون، تصل الحركة الفكرية الأندلسية إلى ذروة قوتها وازدهارها، وتسطع خلالها أسماء من أعظم شخصيات التفكير الأندلسي، بل من أعظم شخصيات التفكير الإسلامي، على الإطلاق، ويكفى أن يكون من بينها، عبقريات مثل ابن طفيل، وابن زهر، وابن رشد، وابن الرومية، وابن البيطار. لم تكن الدولة الموحدية، بالرغم من صفتها الدينية الراسخة، من الناحية الفكرية، كالدولة المرابطية، دولة رجعية تطارد العلوم والفلسفة، بل كانت بالعكس حسبما بينا من قبل، دولة تفسح للتفكير مجالاته، لما كان يتصف به

مؤسسها الروحى وخلفاؤه من الصفات العلمية البارزة، وإذا استثنينا بعض حوادث المطاردة الفكرية، مثل حادث اتهام ابن رشد وزملائه أيام المنصور، فإنا نستطيع أن نصف الدولة الموحدية، بأنها كانت دولة حامية للعلوم، كما كانت حامية للآداب، حامية للفنون في نفس الوقت، حماية تشهد بها منشآتها العمرانية العظيمة في المغرب والأندلس. ولدينا في الواقع ثبت حافل، من أكابر العلماء الذين نبغوا في ذلك العصر في مختلف العلوم، في الطب والنبات والرياضة والفلك والهندسة وغيرها، وإذا كان هذا الثبت ليس مرتفعا من الناحية العددية، كما هو الشأن في ميدان العلوم الدينية والنظرية، فإنه يضم أقطابا من الطراز الأول، من أساتذة الطب والفلسفة والنبات في العصور الوسطى. - 1 - ولنبدأ بذكر أعلام الطب في هذا العصر، وقد كانت منهم ثمة جمهرة كبيرة، وأقطاب عظام. كان من هؤلاء أبو جعفر أحمد بن محمد الغافقي القرطبي، برع في الطب والنبات، وتجول في أنحاء الأندلس وإفريقية، وجمع منها أصنافا عديدة من النباتات الطبية، وقام بتصنيفها من الناحية العلمية، وسجلها بأسمائها العربية واللاتينية والبربرية، وكان كتابه " الأدوية المفردة " من أهم المراجع الطبية في عصره. وتوفي سنة 561 هـ. وعبيد الله بن غَلِندة الأموي، أصله من سرقسطة، وسكن إشبيلية. غادر أهله سرقسطة حين تغلب عليها النصارى في سنة 512 هـ، ونزلوا أولا بقرطبة، وبها درس عبيد الله، ثم رحل منها إلى إشبيلية واستقر بها، وبرع في الأدب والشعر. ولكنه برع في الطب في نفس الوقت، وذاع صيته كطبيب ماهر في العلاج. وفي أواخر حياته عبر البحر إلى المغرب، واستقر بمدينة مراكش، وبها توفي في سنة 581 هـ، وقد بلغ السابعة والتسعين من عمره (¬1). ومنهم أبو مروان عبد الملك بن محمد بن جُرُّيول من أهل بلنسية، وسكن قرطبة ويعرف بابن كنبراط، كان من المبرزين في معرفة الطب، المتقدمين في صناعته، وعنه أخذ كثير من أقطاب العصر، وفي مقدمتهم العلامة ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 2180

أبو الوليد بن رشد، وغيره. ولم يذكر تاريخ لوفاته (¬1). وعبد الله بن سيد أمير اللخمي من أهل شِلب، من ناحية الغرب، برع في الحديث والنحو وكانت له مشاركة في علم الطب عرف بها، وانتفع به (¬2). ومنهم، ومن أشهرهم وألمعهم، أبو بكر محمد بن عبد الملك بن زهر ابن عبد الملك بن زهر الأيادى، سليل الأسرة الإشبيلية الشهيرة، ولد العلامة والطبيب العظيم أبي مروان عبد الملك، وحفيد أبيه وقرينه في النبوغ أبي العلاء ابن زهر. وقد سبق أن قمنا بالتعريف بالأب والجد في القسم الأول من هذا الكتاب (¬3). ودرس أبو بكر علم الطب على أبيه وجده، وبرع في نفس الوقت في الحديث والأدب واللغة، ولكنه تفوق في صناعة الطب، وبلغ الغاية منها، وحظى لدى حكومة الموحدين، منذ أيام أبي يعقوب يوسف، وتولى في بلده إشبيلية بعض المناصب الإدارية الهامة، ثم عين فيما بعد طبيباً خاصاً للخليفة أبي يعقوب المنصور، وبلغ في ظل الخلافة الموحدية ذروة الجاه والنفوذ، وتوفي بمراكش في أواخر شهر ذي الحجة سنة 595 هـ، وصلى عليه الخليفة (محمد الناصر) ودفن بروضة الأمراء، ومولده في سنة 507 هـ (¬4). ومنهم أحمد بن داود بن يوسف الجذامى من أهل باغة من عمل غرناطة، كان أديباً نحوياً عالماً باللغة ومن العارفين بصناعة الطب. ومن مؤلفاته الأدبية شرحه لكتاب آداب الكتاب لابن قتيبة، وبدأ في وضع شرح لمقامات الحريرى ولم يتمه. وتوفي في سنة 598 هـ (¬5). وأبو جعفر بن الحسن بن أحمد بن الحسين بن حسان القضاعى، أصله من أندة من عمل بلنسية، وولد بمرسية، ودرس الحديث، ورحل إلى المشرق مرافقاً لابن جبير في رحلته، وسمع معه في دمشق وبغداد وغيرهما، وعاد معه إلى المغرب وكانت أبرز خلة لدى أبي جعفر هي براعته في صناعة الطب، وتحققه من دقائقها، وقد وضع فيها تأليفاً مفيداً لم يذكر لنا عنوانه. وتوفي بمراكش سنة 599 هـ (¬6). وعبيد الله بن محمد بن عبيد الله .. بن ابراهيم بن الوليد المذحجى، من أهل باغة، وسكن قرطبة ودرس بها الحديث والأدب والطب، وأخذ الطب بنوع ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة (الأندلسية) رقم 1714. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 2075. (¬3) راجع ص 473 من القسم الأول من هذا الكتاب. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1499. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 240. (¬6) ترجمته في التكملة رقم 241

خاص عن أبي مروان عبد الملك بن جُرُّيول البلنسى، وأبي نصر بن الحجام، ومحمد بن ظهير وغيرهم، وعنى بلقاء الشيوخ من المحدثين والأطباء، وكان فوق مهارته في الطب أديبا يجيد النظم والنثر. وذكر ابن الطيلسان أنه سليل أسرة من الأطباء تعاقب أبناؤها في المهنة منذ عهد عبد الرحمن الداخل. وتوفي ابن الوليد في ربيع الآخر سنة 612 هـ (¬1). ومحمد بن علي بن أحمد بن عبد الرحمن القرشي الزهري من أهل إشبيلية، درس الحديث والرواية، ولكنه شغف بالطب، ومهر فيه، وكان يقصده الحكام والكبراء للعلاج، ولما مرض والي إشبيلية الموحدي، كان ممن شاركوا في علاجه، توفي سنة 623 هـ، وقد جاوز التسعين من عمره (¬2). وأحمد بن عتيق بن علي بن خلف .. بن سعيد، من سلالة عبد الرحمن الداخل، أصله من سرقسطة. كان عالماً نابهاً متقناً للطب وعلوم الأوائل. ولى القضاء بشريش حيناً. ثم اتصل بأبي العلى المأمون أيام ولايته لإشبيلية فحظى لديه، ولما دعا المأمون لنفسه بالخلافة، وجهه إلى قبائل العدوة ليستميل شيوخها إلى بيعته، فنجح في مهمته. ثم صحب المأمون إلى العدوة، ولكنه لما شعر باضطراب الأحوال استأذن المأمون في العودة إلى الأندلس، ونزل بمالقة، فألفاها قد خلعت طاعة الموحدين وانضمت إلى ابن هود. واتجهت إليه الريبة عندئذ بأنه حضر إلى مالقة ليروج بها دعوة المأمون واعتقله الوالي، ولكن العامة ألحوا عليه في إخراجه وهددوه فأخرجه إليهم فقتلوه، وذلك في ربيع الآخر سنة 627 هـ (¬3). ومحمد بن علي بن سليمان بن رفاعة من أهل شريش، عنى بالحديث والرواية والأدب، وكانت له مشاركة في الطب، وكان من أساتذته أبو بكر بن زهر، وتوفي سنة 636 هـ (¬4). وعبد الله بن أحمد عبد الله .. بن حفص الأنصاري من أهل دانية، وسكن شاطبة، درس الحديث والعربية والأدب، ورحل إلى المشرق فسمع بالإسكندرية ودمشق والموصل، ومال إلى علم الطب وعنى به، ومهر فيه. وعاد من رحلته الأولى إلى المغرب ونزل بتونس حيناً، ثم رحل ثانية إلى المشرق، وتوفي بالقاهرة في سنة 646 هـ (¬5). ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 2184. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 1618. (¬3) ترجمته في الذيل والتكملة لإبن عبد الملك - المجلد الأول من مخطوط باريس لوحة 67 و 68. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1666. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 2122

هؤلاء هم طائفة من الأطباء الذين ظهروا في العصر الموحدي، ولم نذكر من بينهم أقطاب الطب العظام مثل ابن طفيل، وابن رشد، وابن ميمون، لأننا آثرنا أن نذكر هؤلاء بين الفلاسفة، وهي الصفة الغالبة عليهم بالرغم من مثولهم بين أعظم الأطباء في العصور الوسطى. - 2 - ونبغ في هذا العصر عدة من علماء النبات، منهم اثنان من أعظم النباتيين في العصور الوسطى، وهما ابن الرومية الإشبيلي، وابن البيطار المالقي، ونحن نذكرهم فيما يلي: كان منهم أبو علي حسن بن أحمد بن عمر بن مفرج البكرى الأشبونى، لأن أصله من أشبونة عاصمة البرتغال الإسلامية، وسكن الجزيرة الخضراء، يعرف بالزرقالة، درس الحديث والأدب، ولكنه مهر في الطب والعلاج، وفي تمييز النبات والعشب، وفاق في ذلك أهل عصره، وكان يقرض الشعر في نفس الوقت وتوفي سنة 613 هـ (¬1). وجودى بن عبد الرحمن بن جودى .. بن عدنان القيسى من أهل وادي آش، درس القرآن والعربية على جماعة من أقطاب عصره مثل أبي جعفر بن حكم، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي القاسم بن سمجون وغيرهم، وكانت له معرفة بالنبات وتمييزه، مع اشتهاره بالأدب في نفس الوقت. وتوفي ببلده سنة 631 هـ (¬2). على أن أعظم النباتيين والعشابين في العصر الموحدي، بل أعظم النباتيين المسلمين في سائر العصور، هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج الأموي، المعروف بابن الرومية، وبالعشاب، والنباتى. ولد بإشبيلية في المحرم سنة 561 هـ، وأصلهم من قرطبة، ودرس الحديث على جماعة من أقطاب العصر مثل أبي بكر ابن الجد وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي الوليد بن عفير، وعبد المنعم بن الفرس، وأبي ذر الخشنى وغيرهم، وتجول في طلب العلم، وسماع الحديث، حتى صار فيه إماماً حافظاً، ناقداً، ذاكراً تاريخ المحدثين وأنسابهم وموالدهم، ووفياتهم، وتعديلهم وتجريحهم. ومال إلى علم النبات ودراسته، وتمييزه، وتصنيفه، وتجول من أجل ذلك في ربوع الأندلس، والمغرب وإفريقية، ثم رحل إلى المشرق، بعد سنة 580 هـ، وتجول في مصر والشام والعراق والحجاز، فدرس الكثير من أصناف النباتات غير المعروفة، ووقف على كثير من غوامضها، قال ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 699. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 661

ابن عبد الملك " حتى وقف من ذلك على ما يقف عليه غيره، ممن تقدم في الملة الإسلامية، فصار واحد عصره فرداً، لا يجاريه فيه أحد بإجماع ذلك الشأن " ووصفه ابن الخطيب بأنه " عجيبة نوع الإنسان في عصره، وما قبله، وما بعده في معرفة علم النبات، وتمييز العشب، وتحليلها، وإثبات أعيانها، على اختلاف أطوار منابتها بمشرق أو بمغرب، حساً، ومشاهدة وتحقيقاً، لا مدافع له في ذلك ولا منازع، حجة لا ترد ولا تدفع. قام على الصنعتين لوجود القدر المشترك بينهما وهما الحديث والنبات، إذ موادهما الرحلة والتقييد، وتصحيح الأصول وتحقيق المشكلات اللفظية، وحفظ الأديان والأبدان وغير ذلك ". وكان ابن الرومية فقيهاً ظاهرى المذهب، من أنصار ابن حزم، وانتشرت على يديه تصانيف ابن حزم، بما أبداه من غيرة وعناية في إظهارها واستنساخها والإنفاق عليها، وكان إلى ذلك ورعا، زاهدا، وكان بعد أن عاد من رحلاته الدراسية بالمشرق قد استقر ببلده إشبيلية، وافتتح متجراً لبيع الأعشاب الطبية. قال ابن الأبار: " وهناك رأيته ولقيته غير مرة ". ولإبن الرومية تصانيف عديدة في الحديث والنبات، منها في الحديث، رجالة المعلم بزوائد البخاري على مسلم، واختصار حديث مالك للدارقطنى، ونظم الدرارى فيما تفرد به مسلم عن البخاري، والحافل في تدليل الكامل وغيرها. ومن مصنفاته في النبات " شرح حشائش دياسقوريدس وأدوية جالينوس، والتنبيه على أوهام ترجمتها " و" التنبيه على أغلاط الغافقي "، و " الرحلة النباتية " و " المستدركة " وغيرها، وله كتاب في " الأدوية المفردة " على نمط كتب بني زهر في ذلك. ويعتبر ابن الرومية أعظم العشابين والنباتيين في العصور الوسطى، ولا يتقدمه أحد في هذا الشأن من القدماء سوى دياسقوريديس اليونانى، الذي عاش في القرن الأول للميلاد، والذى وضع ابن الرومية شرحه لحشائشه. وتوفي ابن الرومية بإشبيلية في شهر ربيع الآخر سنة 637 هـ، قبل سقوطها في أيدي القشتاليين بنحو تسعة أعوام (¬1). وجاء بعد ابن الرومية تلميذه ابن البيطار المالقي، فكان أعظم علماء النبات بعد أستاذه، وهو ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد، ولد بمالقة في أواخر القرن السادس الهجرى، ودرس على أستاذه ابن الرومية وبرع مثله في النبات ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 304، وفي الإحاطة لابن الخطيب (1956) ج 1 ص 215 - 221

والوسائل العلاجية، ثم غادر الأندلس، وطاف بأنحاء المغرب باحثا عن الفصائل النباتية دارسا لخصائصها، ثم قصد إلى مصر أيام الملك الكامل فدخل طبيبا في خدمته، ثم خدم ابنه الملك الصالح من بعده، وعنى بدراسة النبات والأعشاب في مصر والشام وآسيا الصغرى، وبلاد اليونان. ووضع في ذلك كتابين، هما: " كتاب الجامع في الأدوية المفردة " تناول فيه الأدوية النباتية المعروفة في عصره، ورتبها على حروف المعجم، " وكتاب المغنى في الأدوية المفردة " وهو مرتب على أبواب معالجة الأعضاء. وله أيضاً كتاب " الأفعال الغريبة والخواص العجيبة ". وكان ممن تتلمذ على ابن البيطار ودرس عليه، العلامة الطبيب ابن أبي أصيبعة صاحب معجم طبقات الأطباء، وقد أشاد ببراعته وغزارة علمه، ودقة فهمه لكتب الأقدمين. وتوفي ابن البيطار بدمشق سنة 646 هـ (¬1). ونبغ في تلك الفترة كذلك عدة من علماء الرياضيات والفلك، نذكر منهم: عبد الله بن محمد بن سهل الضرير، من أهل غرناطة. درس القراءات والحديث، وبرع في العربية والآداب. ولكنه مال كذلك إلى العلوم الرياضية، وأخذها من بعض أصحاب أبي بكر بن الصائغ (ابن باجة). واستدعاه الأمير محمد بن سعد أمير الشرق لتأديب ولده فسكن مرسية وقتا. ولما تفاقمت الحوادث شغل عنه، فبقى مضاعا إلى أن توفي بها في أواخر سنة 571 هـ (¬2). وأبو اسحق نور الدين البطروجي المراكشي، تلميذ الفيلسوف ابن طفيل، وقد برع في العلوم الطبيعية والفلك، وحاول أن يصحح أخطاء الطريقة البطلمية في الأفلاك بوضع شرح جديد للدورة الفلكية، ويعرف البطروجى عند علماء الغرب باسمه اللاتينى Alpetragius، وقد توفي بإشبيلية في سنة 601 هـ. وعبد الله بن محمد بن حجاج من أهل فاس، ويعرف بابن الياسمين، وهو من قبيلة أساسة البربرية النازلة في أحواز فاس، أخذ عن أبيه عبد الله بن قاسم علم الحساب والعدد وبرع فيه، وعبر إلى الأندلس فأتم بها دراسته. وله أرجوزة في علم الجبر، وخدم البلاط الموحدي بمراكش، وكانت له فيه حظوة. وتوفي قتيلا بمراكش سنة 601 هـ (¬3). ومحمد بن بكر بن محمد عبد الرحمن بن بكر الفهري من أهل بلنسية، كان ¬_______ (¬1) ترجمته في فوات الوفيات ج 1 ص 204، ونفح الطيب ج 2 ص 44 و 45. (¬2) ترجمته في التكملة رقم 2056. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 2156

إماما في الحديث، ودرس على أقطاب عصره مثل أبي عبد الله بن نوح، وأبي الخطاب ابن واجب، وأبي عمر بن عات، وامتاز ببراعته في علم الحساب، وتحققه من مسائله، وكان فضلا عن ذلك مشاركا في الطب، حافظا للتواريخ، وتوفي سنة 618 هـ (¬1). وكان من أبرع علماء الفلك في أواخر العصر الموحدي، أبو علي الحسن بن علي ابن عمر المراكشي من أهل مراكش، اشتهر بكتابه المسمى " جامع المبادىء والغايات " وهو موسوعة جليلة في الفلك، وتشتمل كذلك على أوصاف الآلات الفلكية التي كانت معروفة في عصره، وبه جداول فلكية، وفهرس للنجوم عن سنة 622 هـ، وشروح لخطوط الطول والعرض لكثير من الأماكن. وبالجملة فقد كان أبو علي آية عصره في علمه وفنه، وتوفي في أواخر العصر الموحدي في سنة 661 هـ (1262 م). ومن أواخر علماء شرق الأندلس أبو بكر محمد بن أحمد الرقوطى المرسى، وكان آية في المعرفة والبراعة، في المنطق والهندسة والرياضيات والطب والموسيقى، وكان فوق ذلك فيلسوفاً وطبيباً ماهراً، يتقن عدة لغات، وكان قد بقى في وطنه مرسية بعد تغلب النصارى عليها (664 هـ - 1266 م) ولم يقبل أن يغادرها فيمن غادرها من بني وطنه، وقدر المتغلب (خايمى الأول) قدره، وابتنى له مدرسة، يعلم فيها المسلمين والنصارى واليهود، وحاول عبثا أن يغريه باعتناق النصرانية، ثم غادر مرسية أخيراً، تلبية لدعوة ابن الأحمر سلطان غرناطة، فنزل بها، وأقبل عليه طلابها، وكان يدرس الطب، والرياضة والفلك وغيرها، ولم يذكر لنا تاريخ وفاة الرقوطى، ولكن المرجح أنه توفي أواخر القرن السابع (¬2). ونستطيع أن نضيف إلى هذا الثبت من علماء الرياضة والفلك، اسم عالم من علماء الزراعة، هو أبو زكريا يحيى بن أحمد بن العوام الإشبيلي، وقد عاش في إشبيلية في أواخر القرن السادس الهجرى (أواخر القرن الثاني عشر الميلادى) واشتهر بكتابه " الفلاحة " وقد اعتمد فيه بالأخص على كتاب الفلاحة لابن بصال الطليطلى، ويقدم إلينا ابن العوام في مؤلفه الضخم عرضا مستفيضا للفنون الزراعية وكيفية العمل في الزراعة والغراسة، وتسميد الأرض وإصلاحها، واختيار البذور والغراس الصالحة، والمواسم الملائمة لزراعة كل صنف، ¬_______ (¬1) ترجمته في التكملة رقم 1600. (¬2) ترجمة الرقوطى في الإحاطة، مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى - لوحة 107

وغير ذلك مما يؤدي إلى جودة الأرض ووفرة الإنتاج (¬1). - 3 - ونعود الآن إلى ذكر عباقرة الطب خلال العصر الموحدي، وهم الذين غلبت عليهم صفة الفلسفة قبل كل شىء، بالرغم من نبوغهم في الطب، واعتبارهم من أعظم الأطباء في العصور الوسطى. هؤلاء هم ثلاثة، أبو بكر بن طفيل، وأبو الوليد بن رشد، وموسى بن ميمون القرطبي. فأما ابن طفيل، فهو أبو بكر محمد بن عبد الملك بن محمد بن طفيل القيسى، من أهل وادي آش. ولسنا نعرف تاريخ مولده بالتحقيق، وربما ولد في الأعوام الأولى من القرن السادس الهجرى. ودرس ابن طفيل الحديث والفقه واللغة، على أبي محمد الرُّشاطى، وعبد الحق بن عطية، وغيرهما من أقطاب العصر. ولكنه مال إلى الحكمة وعلوم الأوائل، ودرس الحكمة على أبي بكر ابن الصائغ (ابن باجة) وغيره، وبرع في الفلسفة والطب، وكان عالماً محققاً، شغوفاً بالحكمة المشرقية، متصوفاً، طبيباً ماهراً في أصول العلاج، وفقيهاً بارع الإعراب. وكاتباً بليغاً، ناظماً ناثراً، مشاركاً في عدة فنون. وبدأ ابن طفيل حياته العامة بخدمة المتغلب على بلده وادي آش، أحمد بن ملحان الطائى في سنة 540 هـ. ولما سقطت حكومة ابن ملحان بعد ذلك بأعوام قلائل، انتقل ابن طفيل إلى خدمة الموحدين، وكتب لوالى غرناطة الموحدي. ولما ولى السيد أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن حكم إشبيلية، التف حوله جماعة من العلماء والمفكرين، كان منهم ابن طفيل. وكان الأمير يشغف بمجالس العلم، ويؤثر العلماء بصحبته. ولما تولى هذا الأمير الخلافة عقب وفاة أبيه في سنة 558 هـ، عين ابن طفيل طبيبه الخاص وكان فضلا عن ذلك يندبه لبعض المهام الخلافية الدقيقة، ومن ذلك أن عهد إليه بالسعى لتأليف طوائف العرب، وترغيبهم في الجهاد، وفي سبيل ذلك وضع ابن طفيل، وكان إلى جانب علمه الغزير، شاعراً مجيداً، قصيدته الشهيرة، يهيب فيها بالعرب أن ينهضوا للمشاركة في الجهاد، ومطلعها: أقيموا صدور الخيل نحو المضارب ... لغزو الأعادى واقتناء الرغائب ¬_______ (¬1) نشر كتاب الفلاحة لابن العوام لأول مرة بمدريد سنة 1802 في مجلدين كبيرين من مخطوطه الموجود بمكتبة الإسكوريال، بعناية القس يوسف أنطونيو بانكيرى مقرونا بترجمة إسبانية

ولما عبر الخليفة أبو يعقوب يوسف إلى الأندلس في أواخر سنة 566 هـ، واستطالت إقامته في إشبيلية بضعة أعوام، التف حوله رهط من صفوة العلماء، كان في مقدمتهم ثلاثة من أعظم الأطباء والفلاسفة المسلمين، هم طبيبه الخاص ابن طفيل، وتلميذه القاضي الفيلسوف أبو الوليد بن رشد، والعلامة الطبيب أبو بكر ابن زهر. وقد سبق أن أشرنا إلى شغف الخليفة أبي يعقوب يوسف بالدراسات الفلسفية، وشغفه بملازمة ابن طفيل، والأخذ عليه، كما أشرنا إلى الدور الذي قام به ابن طفيل في الإيعاز إلى تلميذه ابن رشد بعمل تلخيص جديد لشروح أرسطو. وكان ابن طفيل يقوم بمهمة السفارة بين الخليفة وبين العلماء، ويدعوهم باسمه من مختلف الأقطار، وينبه على أقدارهم لديه، ويحثه على إكرامهم والتنويه بهم، وهو الذي نوه بفضل تلميذه ابن رشد وبراعته لدى الخليفة حتى علت مكانته لديه. ولما توفي الخليفة أبو يعقوب يوسف في ربيع الآخر سنة 580 هـ، عقب نكبة جيشه في موقعة شنترين، استمر ابن طفيل في منصبه طبيبا خاصا لولده الخليفة الجديد أبي يوسف يعقوب المنصور، ولكنه لم يعش بعد ذلك طويلا إذ توفي بمراكش في أواخر سنة 581 هـ (1185 م)، وحضر الخليفة جنازته (¬1). وأشهر مؤلفات ابن طفيل رسالة " حى بن يقظان " أو " أسرار الحكمة المشرقية " و " الأرجوزة الطبية المجهولة " و " رسالة في النفس " وغيرها من مؤلفات ورسائل لم تصل إلينا. وقد انتهت إلينا لحسن الحظ رسالة " حى بن يقظان " وهي تلخيص فلسفى رائع لأسرار الطبيعة والخليقة، عرضت خلال حياة وأعمال طفل، خلق من " بطن الأرض " في جزيرة مجهولة من جزائر الهند جنوبي خط الإستواء، وهذا الطفل هو " حى ". وقد استطاع بالملاحظة والتأمل التدريجى لظروف الحياة، ومظاهرها الطبيعية، أن يصل إلى أسرار الطبيعة، وأسرار الحكمة العليا، وأن يتقرب في تأمله وصومه من الله. وبالرغم من صغر حجم هذه الرسالة الفلسفية، وهو لا يزيد عن خمسين صفحة، فقد لفتت بروعتها أنظار النقد الحديث، وترجمت إلى اللاتينية منذ القرن السابع عشر، كما ترجمت بعد ذلك إلى لغات أخرى (¬2). وأما ابن رشد، فهو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد ¬_______ (¬1) راجع في ترجمة ابن طفيل، الإحاطة مخطوط الإسكوريال 1673 الغزيرى لوحة 50 - 57، والمعجب للمراكشي ص 134 - 135. وراجع ص 136 من هذا الكتاب. (¬2) ترجمها إلى اللاتينية Pockocke، ونشرت بأكسفورد سنة 1671 بعنوان Philosophus Autodidacius ونشرت ترجمتها الإنجليزية في سنة 1708 بقلم Ockly والفرنسية سنة 1900 بقلم Gautier ونشرت ترجمتها الإسبانية سنة 1900 بقلم المستشرق Pons Boigues

ابن رشد، وهو سليل بيت من بيوتات العلم والنباهة العريقة بقرطبة، وبها ولد سنة 520 هـ (1126 م)، ودرس بها دراسة حسنة، وأخذ الحديث عن أبيه أبي القاسم، وابن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وغيرهم. درس الطب أولا على أبي مروان بن جرُّيول البلنسى، ثم بعد ذلك على أستاذه الأثير عبد الملك بن زهر، ودرس الفقه والأصول والكلام على أقطاب عصره. وبرع ابن رشد بالأخص في الحكمة والطب. ولما بلغ الثلاثين من عمره غادر موطنه قرطبة إلى إشبيلية، وكانت دولة المرابطين قد انهارت يومئذ، وخلفتها دولة الموحدين، وكان والي إشبيلية الموحدي يومئذ، هو حسبما قدمنا الأمير العالم، السيد أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، فاتصل به ابن رشد، وحظى برعايته، وكان من آثار هذه الرعاية أن وُلى ابن رشد قضاء مدينة إشبيلية، ثم ولى بعد ذلك قضاء قرطبة بعض الوقت. وكان من أنفس ما حظى ابن رشد خلال إقامته بإشبيلية، دراسته المستفيضة على أستاذه العلامة الطبيب العبقري عبد الملك ابن زهر، وهو الذي وصفه ابن رشد فيما بعد بأنه أعظم طبيب بعد جالينوس. ولما تولى أبو يعقوب يوسف الخلافة، وقدم إلى إشبيلية وأقام بها، زادت مكانة ابن رشد وتوطدت في البلاط الموحدي، ولاسيما عن طريق أستاذه ابن طفيل طبيب الخليفة الخاص، وصديقه وناصحه الأثير لديه، وكان من آثار هذه الرعاية، أن عين الخليفة ابن رشد، طبيباً خاصاً له إلى جانب ابن طفيل. وكان ابن رشد ينتقل معظم الوقت مع بلاط الخليفة سواء بالمغرب أو الأندلس، ولما توفي الخليفة أبو يعقوب يوسف في سنة 580 هـ، وخلفه ولده الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور، بقى ابن رشد في منصب الطبيب الخاص. ولما توفي ابن طفيل، انفرد ابن رشد بمنصب الطبيب الخاص. وكان الخليفة المنصور صنو أبيه في الشغف بالعلوم والفنون، ومن ثم لقى ابن رشد لديه نفس التقدير والرعاية، ولبث على مكانته المرموقة في هذا الجو العلمي الرفيع. وكان ابن رشد خلال ذلك قد بلغ ذروة مجده العلمي، وكتب كثيراً من مصنفاته الفلسفية والطبية. وأهم مؤلفات ابن رشد الفلسفية، هي شروح فلسفة أرسطو، ويقال إن الذي أوعز إليه بكتابتها أستاذه ابن طفيل (¬1)، وهي تشغل عدة مؤلفات ورسائل، هي جوامع كتب أرسطوطاليس في الطبيعيات والإلهيات، ¬_______ (¬1) المراكشي في المعجب ص 136

وتلخيص كتاب ما بعد الطبيعة، وتلخيص كتاب الأخلاق، وتلخيص كتاب البرهان، وتلخيص كتاب السماع الطبيعي، وشرح كتاب النفس وغيرها. وتشمل مؤلفات ابن رشد الطبية كذلك عدة مصنفات، منها شرح أرجوزة الطب للشيخ الرئيس ابن سينا، وتلخيص عدة كتب لجالينوس، منها كتاب المزاج، وكتاب القوي الطبيعية، وكتاب العلل والأعراض، وكتاب الحميات، وكتاب الأدوية المفردة، وغيرها. بيد أن أشهر مصنفات ابن رشد الطبية هي كتابه " الكليات " وفيه يتناول أبواب الطب الكلية أو الرئيسية، وذلك مقابل التفاصيل الجزئية التي يتناولها أستاذه عبد الملك بن زهر في كتابه " التيسير " (¬1). وله كتاب في الحيوان. ولإبن رشد كذلك، في الفقه والأصول عدة مصنفات، منها كتاب " تهافت التهافت " وفيه يرد على كتاب " التهافت " للغزالى، وكتاب " منهاج الأدلة في علم الأصول "، ورسالة في " فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال "، وكتاب " المقدمات "، وكتاب " بداية المجتهد في الفقه "، وغيرها. وله فضلا عن ذلك عدة رسائل أخرى في الفلسفة والطب والأصول والمنطق لا يتسع المقام لذكرها. وقد عرف التفكير الغربي ابن رشد في عصر مبكر، وعرفه بالأخص فيلسوفا وطبيبا من أعظم الفلاسفة والأطباء المسلمين، بل من أعظم الفلاسفة والأطباء في كل قطر، وكل عصر، واشتهر ابن رشد في الغرب بالأخص بشروحه لفلسفة أرسطو، وهي شروح ترجمت إلى اللاتينية، وذاعت في دوائر التفكير الغربي منذ القرن الثالث عشر الميلادى. ولبث ابن رشد على حظوته في البلاط الموحدي أعواما طويلة، ولكن الفقهاء والطلبة الموحدين، الذين ضاقوا ذرعا بتفكيره الدينى والفقهى المستنير، وبحوثه الفلسفية الرفيعة، عملوا على مناوئته، والوشاية به لدى الخليفة المنصور، واتهامه بالانحراف والمروق، وانتهى المنصور، بالرغم مما كان يكنه لابن رشد من التوقير والتقدير، أن ينزل عند تحريضهم، وأن يصدر قراره الشهير بمحاكمة الفيلسوف وبعض زملائه وتلاميذه، وأن يقضى بنفيه إلى بلدة اليسّانة على مقربة من غرناطة (سنة 591 هـ)، وصدر إلى جانب ذلك بيان للمنصور بقلم كاتبه أبي عبد الله بن عياش، بالحملة على ابن رشد وزملائه، واتهامهم بالمروق والزيغ. ¬_______ (¬1) رأينا خلال إحدى زياراتنا لغرناطة نسخة خطية نادرة من كتاب " الكليات " لابن رشد بمكتبة دير ساكرومنتى القريب من غرناطة. وقد طبع هذا المخطوط بأصله كما هو ألواحا مصورة

وقضى ابن رشد في منفاه في اليسّانة نحو ثلاثة أعوام، ثم عفا عنه المنصور، ورده إلى سابق منصبه وحظوته (594 هـ). وعاد ابن رشد إلى مراكش، ولكنه لم يمكث بها سوى فترة يسيرة، وتوفي في التاسع من شهر صفر سنة 595 هـ (10 ديسمبر سنة 1198 م) وهو في الخامسة والسبعين من عمره. وقد سبق أن أفضنا القول في اتهام ابن رشد ونكبته، وأوردنا نص المرسوم الموحدي الصادر بشأن اتهامه (¬1). وكان من أعلام المفكرين والفلاسفة الأندلسيين في أوائل العهد الموحدي، العلامة اليهودي، موسى بن ميمون، واسمه العربي، أبو عمران موسى بن ميمون ابن عبد الله القرطبي الأندلسي الإسرائيلى، واسمه اليهودى موسى بن ميمون، وقد ولد بقرطبة سنة 530 هـ (1135 م) ودرس بها علوم الأوائل والرياضيات والفلسفة على أقطاب عصره، وبرع في الطب والفلسفة والدراسات التلمودية. ولما غلب الموحدون على الأندلس، وأصدر الخليفة عبد المؤمن في أواخر عهده قراره الشهير بنفى النصارى واليهود من المغرب والأندلس، إلا من اعتنق الإسلام منهم، ومن بقى ولم يعتنق الإسلام، حل ماله ودمه، تظاهر كثير من النصارى واليهود الذين آثروا البقاء باعتناق الإسلام، وكان من هؤلاء موسى بن ميمون وأسرته. وعبر ابن ميمون البحر إلى المغرب في سنة 557 هـ، وأنفق بضعة أعوام في فاس حاضرته العلمية، وهو يزاول مهنة الطب التي اشتهر بها، ويستتر في نفس الوقت بمزاولة شعائر الإسلام، ولكنه كان يرقب الفرصة لمغادرة المغرب إلى بلاد أوسع آفاقا ورزقا. فلما سنحت هذه الفرصة، سار مع أهله إلى مصر، ونزل بالقاهرة (سنة 561 هـ)، وأقام بالفسطاط بين أبناء دينه اليهود، مظهراً دينه الحقيقي، وأخذ يرتزق بتجارة الجوهر، وتزوج أختا لرجل يهودى من كتاب السلطان يدعى أبا المعالى، واتصل بواسطته بالبلاط، وأسبغ عليه القاضي الفاضل رعايته لما كان يتصف به من علم غزير وبراعة في الطب. وعين ابن ميمون طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين، وغدا عميد الجالية اليهودية بالقاهرة. وكان يلقب بالرئيس لمكانته العلمية البارزة. ولما توفي صلاح الدين، ¬_______ (¬1) راجع ترجمة ابن رشد في التكملة لإبن الأبار رقم 1497، والمراكشي في المعجب ص 134 و 136 و 174 و 175، والبيان المغرب ص 202. وقد وردت في الذيل والتكملة لابن عبد الملك ترجمة ضافية لابن رشد، ذكر خلالها نص المرسوم الموحدي، وذلك في مخطوط المتحف البريطاني الجزء الخامس. وراجع ص 223 - 228 من هذا الكتاب

خدم طبيبا لولده الملك الأفضل، وأخذ عليه بالقاهرة كثير من علمائها وأطبائها، ومنهم العلامة الطبيب عبد اللطيف البغدادى، وكان يقيم وقتئذ بالقاهرة، وتوفي ابن ميمون في سنة 602 هـ (1204 م). ويعتبر ابن ميمون من أعظم المفكرين اليهود في العصور الوسطى، ومن أعظم شراح الشريعة اليهودية، وقد ترك تراثاً حافلاً من المؤلفات الدينية والفلسفية والطبية، من ذلك شرح للتلمود، وعدة شروح لكتب جالينوس، " ودلالات الحائرين " في شرح فلسفة أرسطو، وهو أعظم كتبه الفلسفية، وتهذيب كتاب الإستكمال لابن هود في الرياضيات، ومقالة في صناعة المنطق، وكثير غيرها في أبواب الشريعة اليهودية. وكان لكتابات ابن ميمون الدينية والفلسفية تأثير عظيم في التفكير الأوربى في العصور الوسطى. - 4 - هذا، ونختتم هذا الحديث الطويل عن الحركة الفكرية الأندلسية وأعلامها، بكلمة موجزة عن سير الفنون خلال العصر الموحدي. لقد امتاز العصر الموحدي بالأندلس والمغرب، بظهور حركة فنية مستقلة، تتمثل بالأخص في الصروح والمنشآت العظيمة، التي أقيمت خلال هذا العصر، سواء بالمغرب أو الأندلس، وتميزت بخصائصها المعمارية والفنية الخاصة، والتي بقيت منها حتى اليوم آثار عديدة، تشهد بتقدم العلوم الهندسية والفنون المعمارية في هذا العصر. وقد نشأت الدولة الموحدية في البداية على أسس دينية محضة، تباعد بينها وبين المظاهر الدنيوية البراقة. بيد أنه لما تحولت الخلافة الموحدية، على يد عبد المؤمن إلى ملك دنيوى باذخ، كان من الطبيعي أن تتجه الدولة الموحدية إلى استكمال مظاهر الفخامة والأبهة الملوكية. وبدأ ذلك الاتجاه منذ أواخر عهد عبد المؤمن بإقامة مدينة جبل طارق الملوكية، لتكون منزلا للخليفة أو السادة، عند عبورهم في جيوشهم إلى الأندلس، وكان هذا العمل الإنشائى العظيم مسرحا لظهور عبقرية بعض أعلام المهندسين الأندلسيين، الذين اقترن اسمهم فيما بعد بأعمال إنشائية جليلة أخرى، مثل الحاج يعيش المالقي. وظهرت رعاية الدولة الموحدية للفنون المعمارية بالأخص بمدينة إشبيلية، عاصمة الأندلس خلال العصر الموحدي، وهي التي كانت مسرحا لأعظم وأجمل المنشآت العمرانية الموحدية بالأندلس. وقد سبق أن تحدثنا عن إنشاء القصور الموحدية الفخمة خارج إشبيلية أمام باب جهور أيام الخليفة أبي يعقوب يوسف، وعن بساتينها اليانعة، كما

تحدثنا عن إنشاء جامع إشبيلية الأعظم على يد الخليفة أبي يعقوب يوسف ثم ولده الخليفة أبي يوسف يعقوب المنصور، وعناية المنصور بإقامة صومعته العظيمة، (وهي التي يسميها الإسبان اليوم لاخيرالدا). وأقام الموحدون كذلك عدداً من المنشآت العمرانية بقرطبة عاصمة الخلافة القديمة، من قصور وغيرها. وكان قصر السيد أبي يحيى بن أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن خارج قرطبة على النهر الأعظم تحمله أقواس. وأنشأ ولده السيد أبو إبراهيم اسحق أيام أن كان واليا لغرناطة، قصره الفخم على مقربة من ضفة شَنيل، ومازالت تقوم حتى اليوم بعض أطلاله وعقوده (¬1). وقد كانت الخلافة الموحدية تبتعد في البداية عن مظاهر الترف والزخرف في منشآتها العمرانية، وتكتفى بمراعاة المتانة والجلال، ولكنها لما بلغت ذروة عظمتها الدنيوية أيام المنصور، أخذت تغدق على منشآتها أعظم مظاهر الفخامة والزخرف، فنرى المنصور يزود جامع إشبيلية بمنبره الفخم المرصع بالصندل المجزع والعاج وبصفائح الذهب والفضة، وبمقصورته المزينة بالفضة، ونراه يزود صومعة هذا الجامع بتفافيحها الذهبية الشهيرة (¬2). وفي خلال هذه الحركة العمرانية والفنية العظيمة، نرى عدداً من أقطاب الهندسة والفن مثل الحاج يعيش المالقي المتقدم الذكر، والعريف أحمد بن باسُه، والمعلم أبو الليث الصقلي، وغيرهم ممن اقترنت أسماؤهم بهذه المنشآت العظيمة، يتزعمون بالأندلس خلال العصر الموحدي حركة فنية زاهرة، ونرى أصداء هذه الحركة العمرانية والفنية الزاهرة، تتردد في نفس الوقت في المغرب، وفي عاصمة الخلافة الموحدية مدينة مراكش العظيمة، في إنشاء الخليفة المنصور في بداية عهده لضاحية الصالحة الملوكية، وقصورها الفخمة، جنوبي مراكش، وفي إنشاء أو إتمام صومعة جامع الكتبية، على نمط صومعة جامع إشبيلية العظيمة، وإنشاء صومعة حسان بمدينة رباط الفتح، وهي صومعة لم تكمل، وماتزال هذه الصوامع العظيمة، وهي من أبرز آثار العصر الموحدي الفنية، قائمة إلى يومنا، ومنها صومعة جامع إشبيلية التي تحول فقط جزؤها الأعلى، إلى برج للأجراس لكنيسة إشبيلية العظمى، التي أنشئت فوق موقع الجامع، بيد أنها لم تفقد بالرغم من ذلك سمتها الإسلامية، ومازالت زخارفها العربية، في مشارفها ونوافذها السفلى، تشهد بروعة الفنون الزخرفية خلال العصر الموحدي. ¬_______ (¬1) راجع ص 331 من هذا الكتاب. (¬2) راجع ص 232 و 233 من هذا الكتاب

ولم نجد في أخبار العصر الموحدي ما يدلنا على تطور الموسيقى الأندلسية، ومن المعروف أن الموحدين مهما بلغ تسامحهم وتشجيعهم، نحو فنون العمارة والزخارف المعمارية، فإنهم لم يكونوا بطبيعة نظامهم، وتزمتهم الدينى، حماة للفنون الجميلة المحضة من الموسيقى غيرها، ومن ثم فإننا لم نعثر على أحد من نبغ في الموسيقى في تلك الحقبة، اللهم إلا محمد بن أحمد الرَّقوطى المرسى، الذي جمع إلى براعته في الهندسة والمنطق، والفلسفة والطب، براعته في الموسيقى، وكان ظهوره في الشرق عقب انهيار سلطان الموحدين، وانهيار شرقي الأندلس، وسقوط قواعده في أيدي النصارى (¬1). بيد أنه كان ثمة فن من الفنون الجميلة ازدهر خلال العصر الموحدي، هو فن كتابة المصاحف وتنميقها وزخرفتها، ونستطيع أن نذكر عدة ممن نبغوا في هذا الفن، فمنهم محمد بن عبد الله بن سهيل الأنصاري البلنسى المعروف بابن غطوس، والمتوفى في سنة 610 هـ، فقد وهب ابن غطوس حياته لكتابة كتاب الله، وبرع في تنميق المصاحف وزخرفتها براعة عظيمة، جعلت الملوك والأمراء يتنافسون في اقتنائها (¬2). ومنهم محمد بن محمد بن يحيى بن حسين من أهل جزيرة شقر، المتوفى نحو سنة 630 هـ، وكان أبرع أهل وقته في كتابة المصاحف (¬3)، ومنهم محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز المعروف بابن حمنال، من أهل مرسية والمتوفى سنة 633 هـ (¬4)، ومنهم موسى بن عيسى اللخمى القرطبي المعروف بابن الفخار، وقد توفي في سنة 621 هـ (¬5)، وغير هؤلاء. هذا وقد سبق أن أشرنا إلى تفوق الهندسة والفنون الموحدية، في إقامة المنشآت الدفاعية، من حصون وأسوار وأبراج، مازالت تشهد بروعتها حتى اليوم أطلال قصبة بطليوس، وقلعة جابر، وأسوار إشبيلية ولبلة الموحدية (¬6). ¬_______ (¬1) سبق أن أتينا على ترجمة الرقوطى في ص 218 من هذا الكتاب. (¬2) ترجمة ابن غطوس في التكملة رقم 1571. (¬3) ترجمته في التكملة رقم 1644. (¬4) ترجمته في التكملة رقم 1652. (¬5) ترجمته في التكملة رقم 1733. (¬6) راجع ص 640 من هذا الكتاب

وثائق موحّديّة

1 رسالة الخليفة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى أخيه السيد أبي سعيد عثمان وأصحابه الطلبة بقرطبة، يوصى فيها بأن تجرى الأحكام وفقاً للعدل وتحرى الدقة، وألا يقضى في أمر الدماء إلا بعد رفعه إلى الخليفة، من إنشاء الوزير الكاتب أبي الحسن بن عياش، ومؤرخة في شهر رمضان سنة 561 هـ: (منقولة عن كتاب " المن بالإمامة " لابن صاحب الصلاة مخطوط أكسفورد لوحات 79 ب - 82 ب. ونشرها العلامة جولدسيهر في بحثه: Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung p. 134-138) بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم والحمد لله وحده من الأمير يوسف بن أمير المؤمنين أيدهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته، إلى الشيخ الأجل أخينا الأعز علينا، الأكرم لدينا، أبي سعيد وأصحابه، الطلبة الذين بقرطبة أعزهم الله، ودام كرامتهم بتقواه، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإنا نحمد اليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونشكره على آلاته ونعمه، ونصلى على محمد نبيه المصطفى ورسوله، ونرضى عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم نجله وسليله، ونوالى الدعاء لسيدنا أمير المؤمنين القائم بأمره والداعى إلى سبيله. وإنا كتبناه إليكم أكرمكم الله بتقواه، وكلأ جانبكم وحماه، من حضرة مراكش حرسها الله. والذى نوصيكم به تقوى الله تعالى، والعمل بطاعته والاستعانة به والتوكل عليه، وموالاة شكره على ما هدى أولياء أمره، وأنصار دعوته، وحماة كلمته، من صرف أعنة المحبة والاهتمام، وإحكام منابر الأحكام، فيما وكله إليهم من أمور الإسلام، إلى أن تجرى على السداد، وتنسق على سبيل الإرشاد، وتستقيم على المهيع، وتمضى على المنهج، وتسير في الواضح، وتهتدى على اللاحب، ويسلك بها في الجدد، الذي من سلكه أحمدت منه الآثار وأمن عليه العثار، وارتضى له الإيراد والإصدار، فيكون العمل فيها على اليقين، الهادى إلى الصراط المستبين، المأمون في سلوكه من المزلة والضلال، المرجو في الاهتداء به حسن العاقبة وصلاح الحال، فنسئله تعالى جده عونا من قبله على هذا الغرض العام الجدوى يصاحب، وتوفيقاً من لدنه في هذا النظر الشامل المنفعة يجاور ويصاقب، وأنه أدام الله

كرامتكم، لما كان مبانى هذا الأمر العزيز أدامه الله على التقوى مؤسسة، وأوامره ونواهيه على أمر الله ورسوله جرية مترقبة، وإليها في الأخذ والتركة مستندة، وبمقتضياتها في جميع الأحكام آخذة عاملة، إذ هي نور الحق وسراجه، وعمود الصدق ومعراجه، وسبيل الفوز ومنهاجه، ورائد الثواب وبشيره، وقائد العقاب ونكيره، فمن ائتم بكتاب الله، الذي هو الإمام المنادى والحق الواضح البدى، وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، التي جعل العمل بها كالعمل بكتابه، والوقوف عند حدها كالوقوف عند حده، أمن من الغوائل، في العاجل والآجل، وبلغ من السلامة في الحالين إلى أقصى أمد الآمل، ولم يوجد للباطل إليه سبيلا، ولم يتمكن للشيطان أن يجد في تضليله واستهواءه صرفاً ولا حويلا، فتوفرت الدواعى على الدعاء إليها، وحمل الكافة عليها، وأخذ الجميع مما يفقههم لديها، وقد أمر الله تعالى، من أمر الناس بطاعته، أن يحكموا بالعدل، ويضعوا للعبد موازين القسط، فلم يكن لهم بد من امتثال أمره، والاستناد إلى حكمه، وكانت الوجوه التي تفضى إلى الحق، في فصل قضايا العباد متنقبة، والطرق المؤدية إلى مغنى الصدق ومعناه ملتبسة ومتشعبة، فخرج فيها بُنَيات تخطىء الصراط المستقيم، وتضل الضلال البعيد، فصار امضاءها من غير استناد إلى هذا الهدى المتبوع، والعلم المرفوع، خطراً على ممضيها، وإنفاذها على غير هذا السنن غررا على منفذيها، ولما كان الأمر كذلك، تعين ووجب وثبت وترقب، أن نخاطب جميع عمال بلاد الموحدين أعزهم الله، شرقاً وغربا وبعداً وقربا، خطابا يتساوى فيه جميعهم، ويتوازى في العمل فيه كافتهم، بألاّ يحكموا في الدماء حكماً من تلقائهم، ولا يريقوها بباد أو رأى من آرائهم، ولا يقدموا على سفكها بما يظهر إليهم، ويتقرر فيما يروقه لديهم، إلا بعد أن تُرفع إلينا النازلة على وجهها، وتؤدى على كنهها، وتشرح حسب ما وقعت عليه، وتنتهى بالتوثق والبيان إلى ما انتهت إليه، وتقيد بالشهود العدول، المعروفين في مواضعهم بالعدل والرضا، الموجبين للقبول، وتكتب أقوال المظلومين وحججهم، وإقرارهم واعترافهم، وحجج الظالمين في مقالاتهم واستظهارهم في بيناتهم، مُعطًى كل جانب حقه، موفى كل قائد قوله، فتكون مخاطبتكم أعزكم الله، ومخاطبة من يتناول هذا الكتاب وتوجه إليه هذا القصد، خطاب من تَحَمَّل الشهادة ويؤدى فيها الأمانة، على ما يجب من البيان الذي لا يعتوره التباس ولا يطمس وجهه إشكال، ويتوثقون في المطلوبين بالدماء بسجنهم

وتثقيفهم، ويتوكفون ما تصلكم به المخاطبة، فتقفون عند مقتضاه، ولا يعدلون عن شىء من معناه، مراقبا كل منكم إلاهه ومولاه، علما بأنه يعلم سره ونجواه، وأنه يسمعه ويراه، واعلموا وفقكم الله وأسعدكم، أن هذا الحكم عام في جميع النوازل، التي أطلقت السُّنَة فيها القتل وسنته، وحكمت به وشرعته، كمن قتل نفساً وأقر بالقتل، أو شهد العدول عليه به، ومن بدَّل دينا وارتد عنه، ومن أتى الفاحشة بعد الإحصان، باعتراف أو دليل أو شهادة مقبولة، وما خيّر الأئمة فيه من قتل المحاربين والساعين في الأرض بالفساد، والمتأملين أمر الله بالاستهزاء والعناد، سواء سُنّ ذلك كله أو وقع فيه ضرب يشاكله مجراه، واحد في التوقف عن امضاءه، والتأخر عن تنفيذه، إلا بعد المطالعة، وتعرف وجه العمل من المجاوبة. وكذلك وفقكم الله يكون التوقف فيما عدا المذكور من النوازل، التي يكون [فيها] أحكام دون النفوس من قتل الخطأ وديات الشّجاج، وعقول الأعضاء، وأورش الجراحات، ووجه القصاص، والقطع في السرقات، إلى غير ذلك من القضايا المشكلة في الأموال وإطلاقها واستحقاقها، وفي الرقاب وإعتاقها واسترقاقها، وملتبسات المناكحات والمعاملات، وما أشبهها من الأمور التي الإقدام على الحكم فيها تهجم، والعمل فيها بغير استناد إلى ما يجب تسور، فتوقفوا أعزكم الله عن جميع ما فُسّر لكم، ولو أخفه توقف الساعى في نجاته، العامل لدنياه وآخرته، وقد ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسوله من الحظر الوكيد، والوعيد الشديد، في إراقة الدماء، واستباحة الأموال، واستحلال الحرمات إلا بوجه صحيح، لا يسلم إلا من طريق العصمة، ولا تهتدى إليه إلا أنوار الحكمة، ما يزع العقلاء، ويكف الألباء، ويحذرهم من سطو الله وعقابه، ويخوفهم من ألم عذابه، فعولوا على ما رسم في هذا الكتاب، من التعريف بما يبطن، وانهاء كل ما ينزل، ليتصلكم من التوقيف، والبيان والتعريف، لما يظهر لكم به بركة الاقتداء، وتستبرق منه عليكم أنوار الائتمام والاهتداء، ويتراءى لكم به الحق في صوره الصادقة، ومثله المطابقة، ومناظره الموافقة، ومطالعه المشرقة، بفضل الله ورحمته، وملاك ما يسدد مقاصدكم في جميع أحوالكم، ويوجب لكم الرضا في كافة أقوالكم وأفعالكم، تقوى الله في السر والجهر، وخيفته في الباطن والظاهر، وقدع النفس عن هواها، وكبحها بلجام النهى عن الركض، في ميدان رداها، وطاعة أمره العظيم والجرى على سننه المستقيم، فذلك عصمة من الزلل،

وتوفيق في القول والعمل بفضل الله، وقد وجب أكرمكم الله لهذا الكتاب، بما انطوى عليه من الأغراض الشاملة المنفعة، العامة المصلحة، أن يعطى حقه من الإشاعة والتشهير، وينهض مقتضاه إلى الصغير والكبير، ويجمع الناس لقراءته وتلقى مضمنه، ويساوى فيه بين الغائب والشاهد، والبادى والحاضر، بإسماع من حضر ومخاطبة من غاب، ممن يتعلق بنظركم ويدخل تحت عملكم، فتوجهون بنسخ منه إلى كل جهة من جهاتكم، وعمل من أعمالكم، ليأخذ الجميع بقسطه من المسرة، وتعرف بركته واستشعار عائدته، وأنسه بما أمر به هذا الأمر العزيز، من إفاضة العدل، وبسط الدعة والأمن، وإقامة أمر الله تعالى على وجهه المتعين، وسننه الواضح المبين، إن شاء الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، كتب في الثالث من شهر رمضان المعظم سنة إحدى وستين وخمسمائة. 2 بيعة أهل إشبيلية للخليفة أبي يعقوب يوسف استكتبها ولده والي إشبيلية السيد أبو إبراهيم إسماعيل، ووجهها إلى الحضرة مع بعض أشياخ إشبيلية، وهي من إنشاء الفقيه أحمد بن محمد، ومؤرخه في جمادى الآخرة سنة 563 هـ (منقولة عن كتاب " المن بالإمامة "، مخطوط اكسفورد لوحة 101 أوب. ونشرها العلامة جولدسيهر في بحثه الذي سبق ذكره ص 139 - 140). بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم الحمد لله الذي جعل الإمامة قواما للحق، ونظاما للخلق، وتماما على الذي أحسن رعاية العدل والرفق، وأوجب الاعتصام بطاعتها، والانتظام بجماعها، والصلاة على محمد نبيه المبتعث بنور الحق، الساطع الأضواء، المبلغ عن الله سبحانه بأكمل وجوه التبليغ والإنهاء، وعلى آله وأصحابه الذين والوه بالنصر والإيواء، والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، المخصوص بأثرة الاصطفاء والاجتباء، والدعاء لسيدنا ومولانا أمير المؤمنين الخليفة المرتضى، متمم أنوار الهدى، ومجلى غياهب الظلماء، والإمام الأعدل الأهدى، سيدنا ومولانا أمير المؤمنين أبي يعقوب بن أمير المؤمنين بدوام النصر والاستيلاء، واستصحاب الظهور والاعتلاء. أما بعد فإنه لما اجتمعت طائفة التوحيد، وهم الذين يحضرهم من الله حاضرة التوفيق، وينظر إليهم نظر الاقتداء والاهتداء من وراءهم من أهل الحق والتحقيق، على تجديد البيعة المباركة لسيدنا ومولانا

أمير المؤمنين أبي يعقوب بن أمير المؤمنين خلد الله أمرهم، وأعز نصرهم بالإسم المبارك الكريم، الذي أول من دعى به الفاروق رضوان الله تعالى عليه، فعرف الله من يمنه ما فتح لملة الإسلام شرقاً وغربا، وأحال الدلو بيد ساقيهم فاستحالت غربا، حتى ضرب الدين بجرانه، وألقى الناس بعطن من يمنه وأمانه، جددنا من بيعته على الإسمية المباركة، فرضا أوجبه الشرع وجوب الإلزام، واقتضى الوفاء بشروطه المؤكدة على الكمال والتمام، فبايعنا على السمع والطاعة بيعة أمان وإيمان وعدل وعبادة، والتزمنا بها، في اليسر والعسر، والمنبسط والمكروه، واعتقدناها عصمة ديننا، وذخر معادنا، وتمسكنا بها بالعروة الوثقى، والعصمة التي من يعلق بحبلها، وأوى إلى ظلها، فقد اعتصم بالجانب الأمنع الأوفى، علما أنها البيعة الرضوانية، والدعوة التي تتكفل بنصرها وإعلاء أمرها، العناية الربانية، علينا بذلك عهد الله الأوكد الألزم، وميثاقه الأغلظ الأعظم، وذمته التي لا يقطع حبلها على مرور الزمان ولا يصرم، مستبصرين في هذه البيعة الكريمة بنور الاهتداء، سالكين في التزام الطاعة على الحجة البيضاء، عارفين بما أمر الله سبحانه من طاعة الخلفاء، والله سبحانه يحفظ بها أكناف الإسلام، ويجعلها كلمة باقية على مرور الأيام، بفضل الله ويمنه، وعلى مضمن ما نص فوق هذا، التزم أهل إشبيلية كافة، وكتبوا على ذلك شهادتهم في النصف من جمادى الآخرة سنة ثلث وستين وخمس ماية. 3 رسالة من الخليفة أبي يعقوب يوسف إلى الطلبة الذين بغرناطة، يشير فيها إلى وصول بيعتهم مع أشياخ غرناطة، وينوه بولائهم ووفائهم، ويوصى بإكرامهم وبرهم. (منقولة عن كتاب " المن بالإمامة " مخطوط أكسفورد لوحة 105 ب). بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم والحمد لله وحده. من أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين أيده الله بنصره، وأعزه بمعونته. إلى الطلبة الذين بأغرناطة أكرمهم الله بتقواه. سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ونشكره

على آلايه ونعمه، ونصلى على محمد نبيه المصطفى ورسوله، ونسأله الرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، القايم بأمر الله، والداعى إلى سبيله، ونوالى الدعاء لصاحبه وخليفته الإمام أمير المؤمنين مسنى أمره العزيز إلى غاية تتميمه وتكميله، فإنا كتبناه إليكم أكرمكم الله بتقواه من حضرة مراكش حرسها الله. والذى نوصيكم به تقوى الله والعمل بطاعته، والاستعانة به والتوكل عليه. وقد وصلنا كتابكم من عند الشيوخ من إغْرناطة، حرسها الله والموحدين، وفق الله جميعهم، ووفقنا عليه، ورأينا ما تحملوه عن الموحدين بأغرناطة وجيرانهم من انعقاد إجماعهم على ما أجمع عليه شيوخ أهل [الهدى] وأعيانهم من الأمر الذي أوجبوا على أنفسهم المبايعة عليه، وأعطاه صفقة اليد فيه، وقد وفقهم الله لما وفق إليه أهل أمره، وذوى العصمة من طايفته، والله تعالى يتقبل منهم عملهم ويعرفهم بركة ما التزموه، ويعينهم على القيام بواجبهم والوفاء بحقه. وقد انصرف هؤلاء الأشياخ المذكورين بعد إقامتهم بهذه الحضرة ونيلهم بركاتنا، ما يجدون أثره في أحوالهم [وسريان] الانتفاع به في أقوالهم وأعمالهم، فاعرفوا لهم حق وفادتهم ومكان رفادتهم وأحملوهم .. خيراً بهم على الرعاية المتصلة، والمبرة الحافلة المشتملة، إن شاء الله تعالى، والله ولى عونكم وصوبكم، لا رب غيره، والسلام الكريم العميم عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في الثاني عشر من شوال عام ثلثة وستين وخمس مائة. 4 رسالة موجهة من السيد أبي اسحق إبراهيم بن الخليفة أبي يعقوب يوسف إلى الحافظ أبي عبد الله بن أبي ابراهيم والي غرناطة يبلغه فيها بدخول ابن همشك في الدعوة الموحدية وهي من إنشاء ابن مصادق. (منقولة عن كتاب " المن بالإمامة " مخطوط أكسفورد لوحة 127 أوب و 128 أ). بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على محمد وآله وسلم الشيخ الأجل الحافظ الأعلى ولينا في الله تعالى، أبو عبد الله محمد بن ابراهيم أدام الله عزه وكرامته بتقواه. وليكم في الله تعالى ابراهيم بن أمير المؤمنين، سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد حمد الله على ما أولى ومنح، والصلاة على محمد نبيه الذي تبين

به دين الحق ووضح، والرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، معيد دين الله، بعد ما عفى رسمه ومضى، والدعاء لسيدنا أمير المؤمنين خليفته الذي طهر بعدله البلاد وفتح، ولسيدنا أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين الذي أثمر سعيه وأنجح، وكمل فيمن جلا فيه الأمور الدينية وأصلح، فكتبناه إليكم أدام الله كرامتكم بتقواه، من قرطبة حرسها الله، ولا جديد إلا ما عود الله بركة هذا الأمر العزيز من فتح، لا تزال تفتح أبوابه وتتصل أعتابه، وترفع قبابه، وتتعرف مع كل حين انهلال ما فيه وإسكانه. والحمد لله على ذلك حمداً كثيراً، يصفو به سربال إحسانه وجلبابه. وإن من النعم التي ببركة هذا الأمر العزيز حديدها، واقتضى بسعادته مزيدها، واتبع بطريقها تأييدها، وانجر فيها لأولياء الأمر العزيز الموعود، ووافقهم فيها الجد المصحب المسعد. وإن الشيخ أبا اسحق ابراهيم بن همشك وفقه الله، كشف له عن وجه هداه، وجلى عن موارد رواه، وتبين له أن هذا الأمر العزيز هو المركب المنجى، السابق له السعادة الباقية المزجى، الذي لا يؤخر عثار من صدف عنه ولا يرجى، فبادر إلى الدخول فيه بدار من خلصت سرائره، وطويت على موعبة ضمايره، ورأى أن ذلك يمحى به خطاياه ويغفر جرايره. وأذاع الدعوة المهدية في جميع بلاده، وأعلن بها، وأبدى الاعتلاق بعصمتها، والتمسك بسننها، ولقى الموحدين أيدهم الله بتقواه، ملاقاة اللايذ بظلهم، المتمسك بحبلهم، المستنيم، المستسلم، المنطوى على الولاء الأخلص، والود الأسلم، والحمد لله على ذلك حمداً تتوالى به فتوحه، ويتصل به مبذول إحسانه وممنوحه، وخاطبناكم بذلك أدام الله كرامتكم لتجروا شكر الله تعالى على ما أسبغ من نعمه وأولى، وتسلكوا معه سبيلا يكون أحرى بازديادها، ما من عفا وولي، والله تعالى يوالى لديكم آلاه، ويسبغ عليكم ظاهره وباطنه نعماه، والسلام الأتم عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. كتب في شهر رمضان المعظم عام أربعة وستين وخمس ماية. 5 رسالة الخليفة أبي يعقوب يوسف إلى الطلبة والموحدين بجزيرة الأندلس، ينبههم فيها باهتمامه بأمر الأندلس، والعمل على نصرتها، ومجاهدة أعدائها، ويطمئنهم على تنفيذ هذا العزم، بما بعثه

من عسكر موحدى تحت إمرة الشيخ أبي حفص، تمهيدا لجواز الموحدين إليها، من إنشاء أبي الحسن بن عياش، ومؤرخة في ربيع الآخر سنة 564 هـ. (منقولة عن كتاب " المن بالإمامة " مخطوط أكسفورد لوحات 120 - 122). بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على محمد وآله وسلم والحمد لله وحده. من أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين أيده الله بنصره، وأمده بمعونته. إلى الطلبة والموحدين الذين بجزيرة الأندلس أدام الله توفيقهم وكرامتهم. سلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أما بعد فانا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، ونشكره على آلايه ونعمه، ونصلى على محمد نبيه المصطفى ورسوله، ونسأله الرضا عن الإمام المعصوم، المهدي المعلوم، القايم بأمر الله تعالى، والداعى إلى سبيله، ونوالى الدعاء لصاحبه وخليفته الإمام أمير المؤمنين، ممشى أمره العزيز إلى غاية تتميمه وتكميله. وأنا كتبناه إليكم وصل الله توفيقكم وكرامتكم بتقواه، من حضرة مراكش حرسها الله. والذى نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته، والاستعانة به، والتوكل عليه. وهذا الأمر العزيز بما وعده الله من النصر، وضمن له من التأييد، وتكفل له من التمكين، وزاد من تبسطه وامتداد علوايه، واتصال مضماره وخلوصه، إلى كافة الأرجاء، وتغلغله في كل الأنحاء، لإكمال دينه وإتمام نوره، وبث دعوته وتصديق وعده، لا تزال [موارده] الحافظة لصوره، المبقية لأثره، المثبتة لأركانه، الممكنة لقواعده، تشيع من الأسباب القوية واللطائف المنهضة، والمعانى المعينة على سريانه، المزعجة لتشربه وجريانه، مما يؤذن له بإنجازه موعوداته، وتتبع مضموناته، حتى يستوى على مداه الذي لا غاية بعده، ويقف على منتهاه الذي لا مطلع وراءه، يقينا اطمأنت بمقدمات العابه القلوب، وقرت على ظهور براهينه النفوس، وعضدته الآيات البينة، ونطقت به الآثار المفصحة، وناقدت شد أحواله لمن ألقى السمع وهو شهيد .. وما زلنا وفقكم الله، على أتم العناية بتلكم الجزيرة مهدها الله، والحرص على غوثها، والانتواء لنصرتها، والعمل على قصد ذلك بالمباشرة والمشاهدة إشفاقا على ما استضام منها جيرتها الأعداء، وأبناؤها الأغفاء، مجمعين وردها، وما كادوها به من التلف والتحفيف والتنقيض، وفغر الأفواه، وكسر الثبوب والأرصاد، لغيض ما فض فيها من نور التوحيد، وخفض ما نصب من أعلام هذا الأمر، والمناصبة للمنحاشين إليه، المتعلقين بأسبابه، المستذمين بذمته، ممن صح

ولاؤه، وصدقت طاعته، وخلص على السبك، ونصح على السبر، ونجعل لها من الفكر حظا، يستحق الصدق على ما سواه، من الأفكار، ويأخذ السبق على غيره من معنيات الأمور، ونراه من الأهم الأغنى، والأول الأولى، قياما بحق الله في جهاد أعدايها ومكابرى مناويها، ومن لم تنفعه العبر على مرورها على بصره، وتواردها على مشاهدته، وإدايتها به، ولم يرع سمعا دعوة الحق التي ملأت الخافقين، وقرع صوتها مسامع الثقلين، وتمكن أسباب التفرغ لذلك، والتوسع فيه، والنظر في أحكامه، فيعترض من أهل هذه المغارب، شواغب يثيرها الجهال، ويبغيها النعقة الضلال، فلا يسمع أسمالها، ولا يسوغ الإضراب عنها، قياما بحق الدين، وتوقياً من استشراء الشر، وتوقد أسباب الفتنة، فينصرف إليها من الالتفات والقصد، لحسم عللها، وإبراء أدوائها، ما يقشع غياباتها، ويطهر أقذاءها، ويفضى إلى المقصود الأول من التفرغ للجزيرة مهدها الله، والتوطيد لأمرها دوما .. الاشتغال بهذا الغرب يلط بأرجائه، ويشتمل على جوانبه، ويتخلل زواياه، وينتظم أوعاره وسهوله، حتى صفى الله مشاربه، وخلص من الشوب مشارعه. ووقف بأهل الانتزاء من أصناف مشغبية على تايب أنات بقلبه، وندم على ما فرط من ذنبه، وعلى شقى تمادى في غلوايه، ولج في تمرده فولى كل ما استحق، وسهم خطة ما رضى، ووجد التايب برد الأمان، وتبوأ كنف الإحسان، وحقت على العاصى كلمة العذاب، وأخذه التياب، والصيرورة إلى سوء المآل، وشر المآب، وما ربك بظلام للعبيد. ولما تولى الله هذه الجهات منة التمهيد، وبسط لها نعمة التمكين والتوطيد، انعطف النظر إلى محل مثاره، وسال سيل الاعتقاد إلى قراره، وتوجه حفل الاشتغال إلى الجزيرة مهدها الله، وتوفرت دواعى الاستعداد لنصرتها وجهاد عدوها، ورأينا في أثناء ما نحاوله من مروم هذه الغزوة المتممة المباشرة، أن نقدم بين أيدينا عسكراً مباركاً من الموحدين أعانهم الله، صحبة الشيخ الأجل أبي حفص أعزه الله، يكون تقدمه لجواز جمهور الموحدين، ومؤديا بما عزمنا عليه، والله المستعان، من التحرك لجملة أهل التوحيد، والقصد لهذا الغزو الميمون، الذي جعلناه نصب العين، وتجاه الخاطر، فتتعاونون مع إخوانكم الواصلين على بركة الله إليكم، على جهاد أعدايكم، إلى أن يوافيكم إن شاء الله هذا العزم، ويلم بكم هذا القصد، ويعتمدكم هذه الحركة المحكمة أسبابها، المبرمة أغراضها، التي انعقدت بها النية،

واحتدمت لها في ذات الله الحمية، واستعانت بتوفيق الله في تأصيل أصولها الفكرة الموجهة والروية، وإنا لنرجو من المبلغ لآمال القلوب، المتفضل بإدراك كل مطلوب، أن يهب فيها من العون ما يتمم مبدأها، ويكمل منشأها، وتشفى به صدور أوليائه، بالنعمة في أعدايه، وإن فضله تعالى ليسمح ببلوغ هذه الأمنية، والإطلال منها على كل شرف وثنية، فما ذلك على الله بعزيز، وإذا طالعتم وفقكم الله هذه الأنباء، واستعلمتم ما في ضمنها من البشائر، وعنوانات الفتوح، وآثار هذه القصود، وحملتم ذلك على الثقة مما وعد الله هذا الأمر، والتلفت إلى ما عودة رأيتموها نعمى تحولتكم، ورحمى انتحتكم وأتتكم، وشرحتم لها صدوركم، وعمرتهم بها أحناكم، وشغلتم بها مشاهدكم، وسررتم بها غايتكم وشاهدكم، وأذعتموها إذاعة تثلج بها صدور الأولياء، وتحرج منها صدور الأعداء، ويكون للمؤمنين منها مطلع أمل، وللكافر مطلع هول ووجل، عرفكم الله شكر النعمة بها، وأعانكم على أداء واجبها، وبلغكم الغاية الجميلة منها بمنه ويمنه. وإذا وصلكم هذا الكتاب، فأشيعوه قراءة على من حضركم من أصناف الناس، وإرسالا بنسخه إلى من نأى عنكم، حتى يجد أثر الاستبشار به، ويترقب بمودعه الغايب والشاهد والحاضر والناءى إن شاء الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كتب في الحادي والعشرين من ربيع الآخر سنة أربع وستين وخمس ماية. 6 ظهير الخليفة الرشيد بإسكان المهاجرين من أهل بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة وغيرهم من بلاد الشرق في مدينة رباط الفتح من إنشاء كاتبه أبي المطرِّف بن عميرة المخزومي. (منقولة من كتاب " زواهر الفكر " مخطوط الإسكوريال رقم 520 الغزيرى لوحة 115 و 116) هذا ظهير كريم أمر به أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين بن أمير المؤمنين، أيدهم الله تعالى بنصره، وأمدهم بمعونته ويسره، للمنتقلين من أهل بلنسية وجزيرة شقر وشاطبة، ومن جرى من ساير بلاد الشرق مجراهم، وعراه من عبر الأيام ما عراهم، حين أنهى ذو الوزارتين الشيخ الأجل الأكرم، الأعز، الأفضل، أبو علي ابن الشيخ الأجل الأكرم، أبي جعفر بن خلاص، أدام الله تعالى أثرته وكرامته، ما أصابهم من البلاء، ْودهاهم من أمر الأعداء، وسعى لهم سعى من يقضى فيهم .. ، ويلتمس لهم

مكانا للقرار، ومنزلا لإلقاء عصى التسيار. وعند ذلك أذن لهم، أعلى الله تعالى إذنه، وجدد مجده ويمنه، في النقلة إلى رباط الفتح عمره الله تعالى، بقضيضهم وقضهم، وأن يتخذوا مساكنه وأرضه بدلا من مساكنهم وأرضهم، ويعمروا منه بلداً بقبل منهم أولى من قبل، ويحملهم إن شاء الله تعالى، وخير البلاد ما حمل، فإنه مناخ التاجر والفلاح، وملتقى الحادي الملاح، والمرافق من بر أو بحر، موجودة في فصول السنة، مؤذنة لقاطنه بالمعيشة الهنية، والحال الحسنية، ولهم أفضل ما عهده رعايا هذا الأمر العزيز، أدامه الله تعالى، من التوسعة على قويهم، كى يزداد قوة، والرفق بضعيفهم حتى ينال يسارا وثروة، وأن يتوسعوا في الحرث، ففي أرضه هنالك متسع، ويتبسطوا في كل ما لهم منه مكافىء وبه منتفع، ويغرسوا الكروم وأنواع .. على عادتهم ببلادهم، ويتأثلوا الأملاك لأنفسهم وأولادهم، وأولاد أولادهم، وكل ما يعمرون من الضياع، ويقتنون من الأصول والركاع، فله حكم .. على الإطلاق والدوام، لا يلزمون فيه شيئاً من وجوه الإلزام، ولا يطلبون بغير حقوق الشرع، التي جعلها الله تعالى في أموال أهل الإسلام، وأقوالهم في مقاديرها مصدقة، وأمانيهم كلها لهم، واللاحقين بهم محققة، والولاة والعمال حفظهم الله تعالى، مأمورون بأن يحفظوهم من كل أذى يلم بجانب من جوانبهم، ويعوق عن مأرب صغير أو كبير من مآربهم، وأن يكرموا غاية الإكرام، نبهائهم وأعيانهم، ويولونهم من حسن الجوار، ما ينسيهم أوطانهم، حتى تدفع عنهم كل شبهة من شبه الحيف، ويجمع لهم بين الرعاية حرمة البلوى، والعناية بحق الضيف. احتسب منه على الله تعالى أمره، وأوزع شكره، ينسحب على جماعتهم وأفرادهم، ويحملهم على موجب اعتلامهم بهذا الأمر العلى، أدامه الله تعالى وملاه بهم، فمن وقف عليه من المكانة والعمال، أكرمهم الله تعالى، فليعمل بحسبه، ولا يعدل عن كريم مذهبه، إن شاء الله تعالى، وهو تعالى المستعان، لا رب سواه. كتب في الحادي والعشرين لشعبان المكرم من سنة سبع وثلاثين وستماية. 7 رسالة الخليفة المرتضى لأمر الله إلى البابا إنوصان الرابع ينوه في بدايتها بدحض نظرية التثليث، ويشير فيها إلى ما ورد من كتب البابا إلى الخلافة الموحدية، ويرجوه أن يكون اختيار الحبر المكلف بالنظر في شئون

النصارى بالمغرب من ذوى العقل الراجح، والأخلاق الحميدة، والنزاهة الوافرة. مؤرخة في الثامن عشر من ربيع الأول سنة 648 هـ. (وتحفظ الرسالة المذكورة بمحفوظات مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة برقم A. A. I. XVIII (1802) وهي الوثيقة الوحيدة من نوعها وعصرها، التي تحتفظ بها مكتبة الفاتيكان). بسم الله الرحمن الرحيم صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما والحمد لله وحده من عبد الله عمر أمير المؤمنين بن سيدنا الأمير أبي ابراهيم بن أمير المؤمنين ابن أمير المؤمنين أيدهم الله تعالى بنصره، وأمدهم بمعونته. إلى مطاع ملوك النصرانية ومعظم عظماء الأمة الرومية، وقيم الملة المسيحية ووارث رياستها الدينية، البابه إينه سانس أش، أنار الله تعالى بصيرته بتوفيقه وإرشاده، وجعل التقوى التي أمر عز وجل بها عدته لمحياه ومعاده، وأناله من سابق الهداية ما يفضى لمدى الغاية، بأتم انفساحه وامتداده، تحية كريمة نراجع بها ما تقدم من تحياتكم الواردة علينا، ويترجم لكم أرجها عما تعتمدكم به البار لدينا. أما بعد فإنا نحمد الله الذي لا إله إلا هو، حمد من علم أنه الرب الواحد، الذي دلت على وحدانيته البراهين القاطعة والشواهد، ونزهته العقول الراجحة عن أن يكون له ولد أو يدعى أنه الوالد، تعالى الملك الرحمن عما يقول المثلث والمشبه والجاحد، ونصلى على سيدنا محمد رسوله المصطفى الكريم، الذي وضحت به للنجاة المذاهب والمقاصد، وخرقت له بظهور المعجزات الباهرة على يديه العوايد، ونصر بالرعب فألقى له يد الاستسلام كل من كان ينادى ويعاند، وعلى آله وصحبه الكرام، الذين ازدانت بهم المحاضر والمشاهد، ووصلت صوارمهم في مواقف الحروب السواعد، وأنجزت لهم في استيلاء الإسلام على مشارق الأرض ومغاربها المواعد. ونسئل الله عز وجل رضاه عن الإمام المعصوم المهدي المعلوم، الذي جذبه لدين الله تعالى الشباب المعاود، وأهلت بهدايته بعد إقفارها المعاهد، وباء بالخسران المخاتل لأمره والمكايد، وعن الخلفاء الراشدين المهتدين، الذين تولى منهم إتمام بدايته الإمام الراشد فالراشد، وعلت بهم لأمر الله تعالى المراقى والمصاعد، وعن سيدنا الأمير الطاهر أبي إبراهيم بن سيدنا الخليفة أمير المؤمنين بن سيدنا الخليفة أمير المؤمنين الذي طابت منه العناصر والمحاتد، واشتق من نبعة للخلافة مذ أورق نضارة وغضارة قنتها المآئد، وزهد

في الدنيا الفانية، ورغب في الأخرى الباقية، فنعم الراغب الزاهد. وبعد كتابنا كتب الله تعالى لنا حظوظا من رضاه، تزكو وتتوفر، واستعملنا وإياكم بكل ما نتهيأ به لإحراز الفوز لديه ونتيسر، من حضرة مراكش حرسها الله تعالى، ودين الله عز وجل عال مسماه ومصعده، والتوحيد حال بالظهور جيده ومقلده، والسعى معمل في ابتغاء [منِّ] الله تعالى موفقه ومسدده، والحمد لله رب العالمين حمداً يتوالى على الألسنة تكرره وتردده، ونستدعى به من مزيد النعماء أفضل ما وعد به تعالى من يشكره ويحمده، وإلى هذا يسر الله تعالى بتوفيقه إسعادكم، وجعل في طاعته التي تعبّد بها خلقه إصدار [كم] وإيرادكم، فإنه سبقت منا إليكم مراجعات عن كتبكم الموثرة الواصلة إلينا [وأرسلنا] نحوكم من الجواب عنها، ما تممنا به بركم ووفينا، وعرفناكم أنا نوجب لمنصبكم الذي أبز في ملتكم على المناصب، وأقر لرتبتكم فيه أهل دينكم، بالشفوف على سائر ما لهم من المراتب، فأنتم عندنا لذلكم بالتكرمة الحفيلة ملحوظون، وبالعناية الجميلة محظوظون، نؤكد من أسباب المواصلة لكم ما حقه أن يؤكد، ونجدد من عهود الحفاية بكم ما شأنه أن يجدد، ونشكر لكم ما توالى علينا من حسن إيثاركم لجانبنا وتردد. وفي سالف هذه الأيام انصرف عن حضرة الموحدين أعزهم الله، البِشُب الذي كان قد وصل بكتابكم إلينا، انصرافا لم يعده منا فيه بر وإكرام، ولم يغبه فيه اعتناء به واهتمام، كما أنه في المدة التي قضى له فيها لدينا بالمقام، لم نزل نتعهده أثناءها بالإحسان والإنعام، وتحمّل كتابنا إليكم تعريفاً بما اختار من انصرافه، وتوخياً في ما آثره من ذلك لإسعافه، وما قصر له في حالى مقامه ورحيله، ولا عدل به عن حفى البر وحفيله، وسنى المن وجزيله، ذهابا لتكريم إشارتكم السابقة في حقه، وسلوكاً به من البر على أوضح طرقه، والله تعالى يرشد في كل الأحوال لأزكى الأعمال لديه، وينجد من الأقوال والأفعال على ما يقرب إليه بمنه. ومتى سنح لكم أسعدكم الله تعالى بتقواه، أن توجهوا لهاولاء النصارى المستخدمين ببلاد الموحدين أعزهم الله، من ترونه برسم ما يصلحهم في دينهم ويجريهم على معتاد قوانينهم، فتخيروه من أهل العقل الراجح، والسمت الحسن وممن يستلذ في النزاهة على واضح السنن، وممن يتميز في الخدمة بالمذهب المستجاد والقصد المستحسن، وذلكم هو الذي إذا تعين من قبلكم مستجمعاً للصفات المذكورة، ومتحلياً بالخلال المشكورة، حسن في كل ما يستخدم، وتسنى له

بذلك أجزل الخير وأوفره، وأنتم تفون بهذا المقصود في ما تعملون من اختياركم، متى ظهر لكم التوجيه بهذا الرسم لأحد، وتعتمدون فيه أجمل معتمد، وشكرنا لكم على كل ما تذهبون إليه في جانبنا من تمشية الأغراض والمذاهب، وتحتفلون فيه من المساعدة الصادرة فيكم عن كرم الضرايب، وتبادرون إلى بذله من المكارمة المناسبة لما لكم في نحلتكم من إناقة المناصب، مما نكافىء به صدق مصادقتكم، ونتوخى فيه ما لا يعدل عن موافقتكم، جزاء لبركم بأمثاله، واعتناء بما يقضى لولائكم بدوامه واتصاله، بحول الله تعالى وقوته، وهو سبحانه ييسرنا لنيل الحسنى، والزيادة من فضله، ويأخذ ما في ديننا ودنيانا على أقوم سبله، ويجعلنا وإياكم بما يمنحنا من التوفيق، في أول رعيل من حزب الحق وأهله، بمنه وكرمه، لا رب سواه. وكتب في الثامن عشر من شهر ربيع الأول عام ثمانية وأربعين وستمائة. 8 كتاب بتقليد خطة الشورى صادر من أبي جعفر بن أبي جعفر بن أبي جعفر أمير مرسية إلى الفقيه أبي بكر بن أبي جمرة هذا كتاب تنويه وترفيع، وإنهاض إلى مرقى رفيع، أمر بكتبه الأمير الناصر للدين، أبو جعفر بن أبي جعفر أدام الله تأييده ونصره، للوزير الفقيه الأجل المشاور الحسيب الأكمل، أبي بكر بن أبي جمرة أدام الله عزه، أنهضه به إلى الشورى، ليكون عند ما يقطع لأمر، أو يحكم في نازلة، يجرى الحكم بها على ما يصدر عن مشورته ومذهبه، لما علمه من فضله وذكائه، وجده في اكتساب العلم واقتنائه، ولكون هذه المرتبة ليست طريقة له، بل تليدة متوارثة عن أسلافه الكريمة وآبائه، فليتحملها تحمل المستقبل بأعبائها المحسن بأنبائها، العالم بمقاصدها المتوخاة المعتهدة وانحائها، والله يزيده تنويهاً وترفيعاً، ويبوئه من حظوته وتمجيده مكانا رفيعاً. وكتب في التاسع لذى حجة سنة 539، الثقة بالله عز وجل (¬1). ¬_______ (¬1) نقلنا هذا الكتاب من التكملة لابن الأبار (القاهرة) ج 2 ص 562؛، وقد فاتنا أن نلحقه بالوثائق المرابطية المنشورة بالقسم الأول فألحقناه هنا بالوثائق الموحدية

استدراك - 1 - جاء في القسم الأول من هذا المؤلف (عصر المرابطين وبداية الدولة الموحدية) ص 352 عند الكلام عن مصرع الكاتب الشاعر أبي جعفر بن عطية، أنه كان عند مصرعه فتى في السادسة والعشرين. وهذا ما نقلناه عن " الإحاطة " لابن الخطيب، وعلقنا عليه في حاشية أبدينا فيها أن ما يذكره ابن الخطيب عن سن ابن عطية لا يتفق مع مراحل حياته. وقد وقفنا بعد ذلك على رواية أخرى هي رواية ابن الأبار، وهي أن ابن عطية كان وقت مصرعه في السادسة والثلاثين من عمره، وأن مولده في سنة 517 هـ (¬1) لا في سنة 527 هـ حسبما يقول لنا ابن الخطيب. وهذه الرواية أكثر تناسقاً واتفاقاً مع حياة ابن عطية، إذ يقال لنا إنه تولى الكتابة عن أمير المسلمين، علي بن يوسف، ثم عن ولده تاشفين، ثم عن حفيده ابراهيم. - 2 - قرأنا في مقدمة ابن خلدون عن ابن قسى زعيم ثوار الغرب ودعوته، فقرة فاتنا أن نشير إليها عند كلامنا عنه (ص 377 و 466 من القسم الأول من كتابنا). ويقول لنا ابن خلدون في حديثه في الفصل الذي عنوانه " فصل في أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم " ما يأتي: " وهذا لما قدمناه من أن كل أمر تحمل عليه الكافة، فلا بد له من العصبية. وفي الحديث الصحيح كما مر: " ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ". وإذا كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم أن لا تخرق له العادة في الغلب بغير عصبية. وقد وقع هذا لابن قسى شيخ الصوفية، وصاحب كتاب " خلع النعلين " في التصوف، ثار بالأندلس داعياً إلى الحق، وسمى أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي. فاستتب له الأمر قليلا لشغل لمتونة بما دهمهم من أمر الموحدين. ولم تكن هناك عصائب ولا قبائل يدفعونه في شأنه، فلم يلبث حين استولى الموحدون على الغرب أن أذعن لهم، ودخل في دعوتهم، وكان أول داعية لهم بالأندلس، وكانت ثورته تسمى ثورة المرابطين (المقدمة ص 133). ¬_______ (¬1) تراجع رواية ابن الأبار في الحلة السيراء الطبعة الجديدة بتحقيق الدكتور حسين مؤنس ج 2 ص 238. وهي واردة في ترجمة عبد الله بن خيار الجيانى. وقد نقل الأستاذ بروفنسال هذه الترجمة كذلك في كتاب " أخبار المهدي ابن تومرت " ص 146 - 148 ووردت بها نفس الرواية

ثبت المراجع - 1 - تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر (بولاق 1284 هـ). مقدمة ابن خلدون (بولاق). تاريخ ابن الأثير (الكامل) المطبعة الأهلية (1303 هـ). نهاية الأرب للنويرى (القسم التاريخي) طبعة جسبار ريميرو Rev. del Cent.) (de Est. Hist. Granada 1919 صبح الأعشى للقلقشندى (طبعة دار الكتب المصرية 1332 هـ). وفيات الأعيان لابن خلكان (بولاق 1299 هـ). فوات الوفيات لابن شاكر الكتبى (بولاق 1299 هـ). نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقرى (القاهرة 1302 هـ). أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمقرى (القاهرة 1939). الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، لابن أبي زرع الفاسى المنشور بعناية كارل تورنبرج (أبسالة 1843). الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية (طبع تونس). الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية (طبع الجزائر 1920). المعجب في تلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي (القاهرة 1332 هـ). الإحاطة في أخبار غرناطة لإبن الخطيب (القاهرة سنة 1904 و 1956). أعمال الأعلام لابن الخطيب (طبع بيروت 1956). اللمحة البدرية في تاريخ الدولة النصرية لابن الخطيب (1347 هـ). المغرب في حلى المغرب لابن سعيد الأندلسي المنشور بعناية الدكتور شوقى ضيف (القاهرة 1953). قلائد العقيان للفتح بن خاقان (القاهرة 1283). الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنترينى (طبعة جامعة القاهرة). البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب (القسم الثالث) لابن عذارى المراكشي (المنشور بعناية معهد مولاى الحسن بتطوان 1960 - 1964)

كتاب محمد بن تومرت أو كتاب " أعز ما يطلب " المطبوع بالجزائر سنة 1903، مع مقدمة فرنسية للعلامة المستشرق إجناس جولد سيهر. كتاب موطأ الإمام المهدي (ابن تومرت) المطبوع بالجزائر سنة 1905. أخبار المهدي ابن تومرت وابتداء دولة الموحدين لأبي بكر الصنهاجي المكنى بالبيذق، ومنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال (باريس 1928). تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية للزركشى (تونس 1289 هـ). مجموع رسائل موحدية المنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال (الرباط 1941). الإستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوى (القاهرة 1306 هـ). المؤنس في أخبار إفريقية وتونس لابن دينار (طبع تونس). المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب، المشتق من كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكرى (طبعة دي سلان). وصف المغرب وأرض السودان ومصر والأندلس المشتق من كتاب نزهة المشتاق للإدريسي (طبعة دوزي). الروض المعطار (صفة جزيرة الأندلس) لإبن عبد المنعم الحميري المنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال (القاهرة 1937). الاستبصار في عجائب الأمصار المنشور بعناية الدكتور سعد زغلول (جامعة الإسكندرية 1958). رحلة التجّانى (أبو محمد عبد الله بن محمد) المطبوعة بعناية المطبعة الرسمية بتونس 1958. رحلة ابن جبير المنشورة بعناية الدكتور حسين نصار (القاهرة 1955). الروضتين في تاريخ الدولتين (القاهرة 1287 هـ). مفرج الكروب في أخبار بني أيوب المنشور بعناية الدكتور جمال الدين الشيال (القاهرة 1953). الرسالة المصرية لإبن أبي الصلت المنشورة بعناية الأستاذ عبد السلام هارون (القاهرة 1951). المطرب من أشعار أهل المغرب لإبن دحية البلنسى (القاهرة 1954). رسالة ابن عبدون في الحسبة المنشورة بعناية الأستاذ بروفنسال (طبع المعهد الفرنسى بالقاهرة)

الفِصَل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم القرطبي (القاهرة 1321 هـ). الملل والنحل للشهرستانى، المنشور على هامش كتاب " الفصل ". المنقذ من الضلال لأبي حامد الغزالى (القاهرة 1309 هـ). كتاب الحلة السيراء لابن الأبار (طبعة دوزى 1851). كتاب الصلة لابن بشكوال (طبع القاهرة 1955). كتاب التكملة لابن الأبار (طبع القاهرة 1956)، وضمن المكتبة الأندلسية (مدريد 1886). المعجم في أصحاب القاضي أبي على الصدفى لابن الأبار (ضمن المكتبة الأندلسية). بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس للضبى (ضمن المكتبة الأندلسية). كتاب صلة الصلة لابن الزبير المنشور بعناية الأستاذ بروفنسال (الجزائر 1937). عنوان الدراية لأبي العباس الغبرينى (الجزائر 1328 هـ). جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام بمدينة فاس لابن أبي العافية (فاس 1309 هـ). إخبار العلماء بأخبار الحكماء لجمال الدين القفطى (القاهرة 1326 هـ). تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين لأشباخ (الترجمة العربية 1958). دول الطوائف منذ قيامها حتى الفتح المرابطي لمحمد عبد الله عنان (القاهرة 1960) نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين لمحمد عبد الله عنان (القاهرة 1958). الآثار الأندلسية الباقية لمحمد عبد الله عنان (القاهرة 1961). صحيفة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (المجلدان السابع والثامن). المصادر المخطوطة سبق أن تناولنا في بداية القسم الأول من هذا الكتاب في الفصل الذي عقدناه بعنوان "بيان عن المصادر " أهم المصادر المخطوطة التي اعتمدنا عليها وانتفعنا بها، وذكرنا أوصافها، وأماكن وجودها. ولذا لا نرى حاجة لتكرار ذكرها في هذا الثبت. - 2 - F. Codera: Decadencia y Disparicion de los Almoravides en Espana (Zaragoza 1899) . Primera Cronica General, Ed. M. Pidal (Madrid 1956) . Mariana: Historia General de Espana. Sandoval: Historia de los Reyes de Castilla y de Leon. Florez: Historia de las Reinas Catolicas. Chronicon Lusitanum (Espana Sagrada Vol. XXIV) . Chronique Latine des Rois de Castille

M. Lafuente: Historia General de Espana. A. de los Rios: Trofeos Militares de la Reconquista (Madrid 1893) . F. J. Simonet: Historia de los Mozarabes de Espana (Madrid 1896) . Pons Boigues: Historiadores y Geograficos Arabigo-Espanoles (Madrid 1898) . R. Altamira: Historia de Espana y de Civilizacion Espanola (Barcelona 1900) . A. Campaner y Fuertes: Bosquejo Historico de la Dominacion Islamita en las Islas Baleares (Palma 1888) . P.y Vives: Los Reyes de Taifas (Madrid 1926) . G. Palencia y M. Alarcon: Miscelenea de Estudios y Textos Arabes (Madrid 1916) . A. P. Ibars: Valencia Arabe (Valencia 1901) . M. Gaspar Remiro: Historia de Murcia Musulmana (Zaragoza 1903) . A. Huici Miranda: Historia Politica del Imperio Almohade (Tetuan 1957) . A. H. Miranda: Las Grandes Batallas de la Reconquista (Madrid 1956) . J. Gonzalez: Las Conquistas de Fernando III en Andalucia (Madrid 1946) . Is. de las Cagigas: Sevilla Almohade y Ultimos Anos de su Vida Musulmana (Madrid 1951) . La Orden de Calatrava (Ciudad Real 1959) . Al-Andalus: Revista de las Escuelas de Estudios Arabes de Madrid y Granada. M. Amari: Storia Dei Musulmani di Sicilia (Fierenze 1867) . R. Dozy: Histoire des Musulmans d'Espagne (Leiden 1932) . R. Dozy: Recherches sur l'Histoire et Littérature de l'Espagne pendant le moyen age (Leiden 1881) . Alfred Bel: Les Benou Ghania (Paris 1903) . A. Muller: Der Islam im Morgen und Abendland (Berlin 1885) . I. Goldziher: Materialien zur Kenntniss der Almohaden Bewegung (Z. der Morg. Gesell. 1887) . I. Goldziher: Le Livre de Mohamed ibn Toumert (Alger 1903) , Intro- duction. M. Muller: Beitrage zur Geschichte des Wesentlichen Araber

فهرس الموضوعات تصدير ................................................................ 3 الكتاب السادس عصر الخليفة أبى يعقوب يوسف الفصل الأول: عصر الخليفة أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن ........... 10 الفصل الثانى: حوادث الأندلس وسقوط مملكة الشرق .................. 33 الفصل الثالث: حركة الجهاد بالأندلس والإخفاق فى غزوة وبذة ......... 58 الفصل الرابع: أحداث الأندلس والمغرب ................................ 94 الفصل الخامس: غزوة شنترين ومصرع الخليفة أبى يعقوب يوسف ...... 113 الكتاب السابع عصر الخليفة يعقوب المنصور حتى موقعة العقاب الفصل الأول: عصر الخليفة يعقوب المنصور وبداية ثورة بنى غانية ........ 140 الفصل الثانى: حوادث الأندلس وإفريقية ................................. 169 الفصل الثالث: موقعة الأرك ............................................. 196 الفصل الرابع: ما بعد الأرك حتى وفاة المنصور ............................ 222 الفصل الخامس: عصر الخليفة محمد الناصر ............................... 249 الفصل السادس: موقعة العقاب .......................................... 282 الكتاب الثامن الدولة الموحدية فى طريق الانحلال والتفكك الفصل الأول: عصر الخليفة يوسف المستنصر بالله وأوائل ظهور بنى مرين ... 328 الفصل الثانى: أبو محمد عبد الواحد والعادل وثورة البياسى بالأندلس ........ 348 الفصل الثالث: عصر الخليفة أبى العلى المأمون - إلغاء رسوم المهدى ابن تومرت وقيام الدولة الحفصية بإفريقية .................................... 367

الكتاب التاسع إنهيار الأندلس وسقوط قواعدها الكبرى الفصل الأول: الثورة فى مرسية وبلنسية ونذر الإنهيار الأولى .......... 388 الفصل الثانى: ابن هود وابن الأحمر وسقوط قرطبة .................... 410 الفصل الثالث: سقوط بلنسية وقواعد الشرق ........................ 437 الفصل الرابع: سقوط إشبيلية وقواعد الغرب ......................... 465 الكتاب العاشر نهاية الدولة الموحدية الفصل الأول: عصر الخليفة أبى محمد عبد الواحد الرشيد ............... 496 الفصل الثانى: عصر الخليفة أبى الحسن على السعيد ..................... 516 الفصل الثالث: عصر الخليفة المرتضى لأمر الله .......................... 528 الفصل الرابع: نهاية الدولة الموحدية .................................... 561 الكتاب الحادى عشر الممالك الإسبانية النصرانية خلال العصر الموحدى الفصل الأول: قشتالة وليون منذ عهد ألفونسو الثامن حتى عهد فرناندو الثالث .......................................................... 582 1 - مملكة قشتالة ....................................................... 583 2 - مملكة ليون ......................................................... 593 3 - قشتالة وعهد فرناندو الثالث ........................................ 597 الفصل الثانى: أراجون ونافارا والبرتغال، منذ أواخر القرن الثانى عشر إلى أواخر القرن الثالث عشر ................................... 600 1 - مملكة أراجون ....................................................... 601 2 - مملكة نافارا (نبرّة) ................................................... 607 3 - مملكة البرتغال ....................................................... 609

الكتاب الثانى عشر نظم الدولة الموحدية وخواص العهد الموحدى الفصل الأول: الحكومة الموحدية بالمغرب والأندلس وأوضاعها السياسية والعسكرية والإدارية ........................................ 614 1 - نظم الحكم الموحدى ............................................ 619 2 - تطور الأساس الروحى للخلافة الموحدية ......................... 630 3 - النظم العسكرية ................................................. 632 4 - الحكومة الموحدية بالأندلس ...................................... 640 الفصل الثانى: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى-القسم الأول. 644 الفصل الثالث: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى-القسم الثانى. 681 الفصل الرابع: الحركة الفكرية الأندلسية خلال العصر الموحدى-القسم الثالث. 711 وثائق موحدية 1 - رسالة الخليفة أبى يعقوب يوسف بن عبد المؤمن بالتوصية بأن تجرى الأحكام وفقاً للعدل، وبأن يرفع إليه أمر الدماء قبل البت فيه ........... 728 2 - بيعة أهل إشبيلية للخليفة أبى يعقوب يوسف ....................... 731 3 - رسالة الخليفة أبى يعقوب يوسف إلى الطلبة الذين بغرناطة ........... 732 4 - رسالة للسيد أبى إسحق ابراهيم يبلغ فيها عن دخول ابن همشك فى الدعوة الموحدية ...................................................... 733 5 - رسالة الخليفة أبى يعقوب يوسف إلى الطلبة والموحدين بالأندلس ينبئهم فيها باهتمامه بأمر الأندلس والعمل على نصرتها ..................... 734 6 - ظهير الخليفة الرشيد بإسكان المهاجرين من شرق الأندلس بمدينة رباط الفتح ............................................................... 737 7 - رسالة الخليفة المرتضى لأمر الله إلى البابا إنوصان الرابع ................ 738 8 - كتاب بتقليد خطة الشورى .......................................... 741 استدراك .................................................................. 742 ثبت المراجع ............................................................... 743

فهرست الخرائط والصور 1 - مواقع غزوات الموحدين لمملكة الشرق وغزوة وبذة ............... 49 2 - خط سير الجيش الموحدى والأسطول الموحدى إلى غزوة شنترين .. 120 3 - مواقع معركة شنترين ............................................ 120 4 - إفريقية والمغرب الأوسط، ومواقع الصراع بين بنى غانية والموحدين 163 5 - مواقع موقعة الأرك .............................................. 201 6 - رسم تخطيطى لميدان معركة الأرك حسبما يبدو اليوم .............. 205 7 - كنيسة الأرك - مجموعة أطلال قلعة رباح ........................ 207 8 - صومعة جامع المنصور بإشبيلية (لاخيرالدا) ........................ 231 9 - مواقع موقعة العقاب ............................................. 299 10 - أطلال حصن العقاب ........................................... 303 11 - نهر مجانيا كما يبدو فى أسفل الجبال .............................. 304 12 - منحدر دسبنيابروس ............................................ 304 13 - ممر بورتو دل مورادال .......................................... 307 14 - بسيط مائدة الملك (ميسا دل رى) ............................... 307 15 - رسم تخطيطى لموقعة العقاب خلال جبال سيرّا مورينا ............. 309 16 - صورة سهام أرضية عثر بها المؤلف فى ميدان الموقعة ............... 316 17 - صورة العلم الموحدى الذى غنمه الإسبان ........................ 319 18 - خطط قرطبة الإسلامية .......................................... 419 19 - قطاع بلنسية ومرسية ومواقع الفتوحات الأرجونية ............... 441 20 - مواقع حصار بلنسية ............................................. 445 21 - قطاع إشبيلية وأحوازها ومواقع الغزو القشتالى ................... 475 22 - حصار إشبيلية .................................................. 479 23 - خريطة تبين انهيار الأندلس وما كسبته الممالك النصرانية ........... 491 24 - صورة فتوغرافية لخطاب الخليفة المرتضى إلى البابا إنوصان الرابع ... 539 25 - خريطة تبين تفكك الدولة الموحدية والدول التى قامت مكانها ...... 569

فهرست الشعر أبو عمر بن حربون ..... بسعدك أضحى الدين جذلان باسما ............ 39 أبو بكر بن طفيل ..... أقيموا صدور الخيل نحو المضارب ............... 60 أبو الحسن بن عياش ..... أقيموا إلى العلياء عوج الرواحل .............. 61 أبو بكر بن المنخل ..... شرف الخلافة أن ملكت زمامها ................ 67 أبو بكر بن طفيل ..... ولما انقضى الفتح الذى كان يرتجى ............. 109 ابن صاحب الصلاة ..... خير البشائر صوغت حمل المنى ............... 109 شاعر من الجزائر ..... سلام على قبر الإمام الممجد .................... 110 أبو بكر بن مجبر ..... أسائلكم لمن جيش لهام ........................... 165 أبو العباس الجراوى ..... نار من الفتنة العمياء أطفأها .................. 180 أبو عبد الله الجزيرى ..... فى أم رأسى سر ............................. 180 عبد الرحمن بن منقذ ..... سأشكر بحراً ذا عباب قطعته ................. 185 أبو العباس الجراوى ..... إياب الإمام حياة الأمم ....................... 189 ...... " ....... " .... بشائر نصر الله جاءتك سافرة ...................... 212 ...... " ....... " .... هو الفتح أعيى وصفه النظم والنثرا ................. 216 على بن حزمون ..... حيتك معطرة النفس ............................. 216 أبو بكر بن مجبر ..... أتراه يترك الغزلا .................................. 244 عبد الرحمن بن الفرس ..... قولوا لأبناء عبد المؤمن بن على .............. 256 ابن يخلفتن الفازازى ..... هذى فتوح تفتحت أزهارها ................... 275 شاعر مرسى ..... موقعة عفص وطلياطة ................................ 355 ابن الأبار القضاعى ..... الحمد لله لا أهل ولا ولد ....................... 396 سعيد بن حكم الأموى ..... لا تمنع المعروف يوما معرضاً ومعرضا ....... 409 ابن الأبار القضاعى ..... ألما بأشلاء العلا والمكارم ........................ 442 ....... " ....... " ... أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ......................... 446 أبو المطرف بن عميرة ..... ما بال دمعك لا ينى مدراره ................... 454

شاعر من جيان ..... أودعكم أودعكم جيانى ........................... 469 إبراهيم بن سهل الإشبيلى ..... ورداً فمضمون نجاح المصدر ............. 482 أبو موسى بن هرون ..... يا حمص أقصدك المقدور حين رمى ............. 482 الخليفة المرتضى لأمر الله ..... وافى ربيع قد تعطر نفحه .................. 560 ...... " ...... " .......... ولما مضى العمر إلا الأقل ....................... 560 عبد الله بن فتوح الحضرمى ..... وعجل شيبى أن ذا الفضل مبتلى ........ 662 مفوز بن حيدرة المعافرى ..... وقفت على الوادى المنعم دوحه ........... 663 موسى بن حسين الميرتلى ..... سليخة وحصير ........................... 666 الشيخ محيى الدين بن عربى ..... سلام على سلمى ومن هل بالحمى ........ 680 ...... " ....... " ........... درست عهودهم وأن هواهم .................. 680 ابن أبى العافية الأزدى ..... يا سرحة الحى يا مطول ....................... 688 عبد الرحمن بن مغاور ..... أيها الواقف اعتباراً بقربى ....................... 689 ابن غالب البلنسى ..... لو جئت نار الهدى من جانب الطور ............... 689 ....... " ..... " .... ومهول الشطين تحسب أنه .............................. 689 ....... " ..... " .... وفتيان صدق كالنجوم تألقوا ........................... 689 ....... " ..... " .... خليلى ما لليد قد عبقت نسرا ........................... 690 ابن عياض القرطبى ..... كم من أخ فى فؤاده دغل .......................... 690 ابن الصابونى الصدفى ..... أهلا بطيف خيال منك منساب ................... 691 ابن حريق ..... يا صاحبى وما البخيل بصاحبى ............................... 692 مرج الكحل ..... مثل الرزق الذى تطلبه ................................... 692 .... " ... " .... عرج بمنعرج الكثيب الأخضر .................................. 692 عبد الرحمن بن حزمون ..... يا من له بالأنام أنسى ............................ 693 ...... " ...... " ........ إليك إمام الحق جبت المفاوز ........................... 693 إبراهيم بن سهل الإشبيلى ..... مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى ............ 694 ...... " ...... " ............ ليل الهوى يقظان .................................. 694 ابن حجاج اللخمى ..... هنأ الله بلاد العرب .................................. 694 أبو العباس الجراوى ..... أتراه يترك الغزلا .................................... 695

العصر الرابع نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين

دولة الإسلام في الأندلس تأليف محمَّد عبد الله عِنَانْ العصْر الرّابع نهَايَةُ الأَنْدَلُسْ وَتَارِيخ العَرَبْ المتنَصِّرِين

_ الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة

حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الرابعة 1417 هـ = 1997 م رقم الإيداع: 8988/ 90 الترقيم الدولي: 4 - 082 - 505 - 977 مطبعة المَدَنِي المؤسسة السعودية بمصر 68 شارع العباسية-القاهرة-ت: 4827851

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة (¬1) صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب في سنة 1949، وصدرت طبعته الثانية في سنة 1958، مدعمة بكثير من المراجع والوثائق التي أتيح لي أن أجمعها خلال رحلاتي وبحوثي العديدة في إسبانيا والمغرب وغيرهما. وقد قمت حتى اليوم باثنتى عشرة رحلة دراسية في شبه الجزيرة الإسبانية، وزرت سائر المدن الأندلسية القديمة في إسبانيا والبرتغال، وعنيت بدراسة سائر ما بها من الآثار والأطلال والنقوش الأندلسية، كما زرت سائر المدن الإسبانية النصرانية التي لها علاقة بتاريخ الأندلس، في قشتالة، ونافار، وليون وجليقية؛ ووقفت خلال هذا التجوال الشامل في أنحاء شبه الجزيرة، على كثير من خواصها وطبائعها الجغرافية والإقليمية، وكثير من تقاليدها وخواصها الاجتماعية والأدبية، وقد كان لذلك كله، أعمق الأثر في نفسي، وفى إمدادي بكثير من الآراء والفكر الجديدة، المتعلقة بتاريخ الأندلس والأمة الأندلسية. وهناك حقيقة سبق أن نوهت بها في مقدمة الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وهي أن المصادر الإسلامية بالنسبة لهذه المراحل الأخيرة، من حياة الأمة الأندلسية قليلة ضنينة. أجل لقد انتهت إلينا عن تاريخ مملكة غرناطة وأحوالها طائفة من المراجع القيمة، في مقدمتها كتب الوزير ابن الخطيب، وما كتبه عنها ابن خلدون حتى حوادث عصره، وكذلك انتهت إلينا طائفة حسنة أخرى، عن تاريخ مملكة بني مرين، قرينة مملكة غرناطة، وعضدها الأيمن في الجهاد. ولكن هذه المراجع الإسلامية تقف بنا عند أواخر القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي)، ولا نكاد نظفر بعد ذلك، خلال القرن التاسع الهجري، وهو بالنسبة لمملكة غرناطة، عصر الانحلال والسقوط النهائي، بأية مراجع إسلامية ذات شأن، ¬_______ (¬1) هذه هي مقدمة الطبعة الثانية مع تعديلات يسيرة.

وليس لدينا من تراث الرواية الإسلامية عن تلك المرحلة القاتمة، من تاريخ دولة الإسلام في الأندلس، سوى رواية صاحب "أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر" عن سقوط غرناطة، وما نقله إلينا المقري من شذور قليلة متفرقة، في نفح الطيب، وفي أزهار الرياض، عن تلك المرحلة الأخيرة من حياة غرناطة. أما عن مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين، وهم بقايا الأمة المغلوبة، فلسنا نظفر من الرواية الإسلامية إلا بأقوال وشذور يسيرة، معظمها أيضاً مما نقل إلينا المقري في كتابيه السابقين. ولهذا كان جل اعتمادنا في استعراض هذه المرحلة الأخيرة، من حياة الأمة الأندلسية، على المصادر الغربية، والإسبانية بنوع خاص، ومنها بعض المصادر المعاصرة، التي تروى لنا تفاصيل المأساة عن مشاهدة فعلية؛ وإذا كانت المصادر الإسبانية، يفيض معظمها بالمؤثرات القومية والدينية، فإنه لما يشهد للبحث الغربي بالاعتدال والروية، وروح الإنصاف، ما يبديه في مواطن كثيرة، من تقدير مؤثر لعبقرية الأمة المغلوبة وحضارتها، وروعة كفاحها للذود عن حياتها وكرامتها وتراثها، وما يبديه بالأخص من عطف على محنتها وآلامها، ومن استنكار لخطط السياسة الإسبانية، وأساليب محاكم التحقيق في العمل على إبادتها. ويكفي أن ننقل في هذا الموطن تلك العبارة الموجزة القوية، التي يجمل فيها الدكتور "لي"، وهو من أحدث الباحثين في هذا الموضوع، مأساة العرب المتنصرين، إذ يقول في مقدمة كتابه: "إن تاريخ الموريسكيين لا يتضمن فقط مأساة تثير أبلغ عطف، ولكنه أيضاً خلاصة لجميع الأخطاء والأهواء، التي اتحدت لتنحدر بإسبانيا في خلال قرن، من عظمتها أيام شارل الخامس، إلى ذلتها في عصر كارلوس الثاني". ... ومن ثم فقد وطنت النفس على ألا أدخر وسعاً، في تقصي المصادر والوثائق المتعلقة بهذه المرحلة الغامضة القاتمة، من تاريخ الأمة الأندلسية -مرحلة الإنحلال والفناء- والسعي وراءها أينما وجدت، سواء منها العربية أو القشتالية، وأعتقد أنني بذلت في هذا السبيل جهد المستطاع، ووفقت إلى نتائج ذات شأن، سواء يالنسبة لتاريخ مملكة غرناطة، أو تاريخ الموريسكيين. ففي خلال الرحلات العديدة التي قمت بها حتى اليوم في شبه الجزيرة الإسبانية، لم أترك موطناً من

مواطن البحث والدرس، أو مستودعاً من مستودعات المصادر والوثائق المخطوطة أو المطبوعة إلا قصدته، ونهلت منه؛ وقد أنفقت أوقاتاً عديدة في البحث في المجموعات العربية المخطوطة، التي تحتفظ بها مكتبة مدريد الوطنية، وأكاديمية التاريخ، والإسكوريال، وغرناطة، وأنفقت كذلك أوقاتاً أوفى في البحث والتنقيب وراء الوثائق المخطوطة، الأندلسية، والمغربية، والمدجنية، والمستعربية العربية، والوثائق المخطوطة القشتالية، وذلك سواء في دار المحفوظات التاريخية بمدريد، أو الإسكوريال، أو دار المحفوظات العامة في شنت منكش Simancas، أو محفوظات التاج الأرجوني ببرشلونة، أو محفوظات مملكة بلنسية، أو بلدية غرناطة، وكتدرائية سرقسطة، وبلدية بنبلونة، وغيرها من المجموعات المحلية الخاصة، وقد ظفرت من وراء ذلك كله بمجموعة زاخرة من الوثائق التي تلقي أعظم ضوء، على هذه المرحلة المشجية من تاريخ الأمة الأندلسية، ومنها وثائق عديدة لم تر الضياء من قبل، وهي تمدنا بكثير من الحقائق والتفاصيل. وقد ألفيت بغيتي بنوع خاص، في دار المحفوظات الإسبانية العامة، في شنت منكش (سيمانقا)؛ وشنت منكش هي قلعة أندلسية قديمة تحيط بها محلة صغيرة، وتقع جنوب غربي مدينة بلد الوليد Valladolid، على قيد عشرة كيلومترات منها، وقد اتخذت منذ القرن السادس عشر داراً للمحفوظات الملكية الإسبانية، وهي ما تزال إلى يومنا مستودع هذه المحفوظات الشهيرة، التي تضم مجموعات عديدة زاخرة من أهم وأنفس الوثائق التاريخية والسياسية والقضائية، ومنها عدد من الوثائق الأندلسية والمغربية النادرة. وقد اطلعت فيها على عدد كبير من الوثائق الأندلسية والقشتالية المتعلقة بتاريخ مملكة غرناطة، ومجموعة كبيرة من المراسيم الملكية الصادرة إلى العرب المتنصرين، ومن وثائق ديوان التحقيق المتعلقة بهم وبمحاكماتهم، وحصلت على صور فوتوغرافية لهذه الوثائق، التي استقينا من محتوياتها خلال هذا الكتاب، كثيراً من الحقائق والتفاصيل، ونشرنا لوحات من بعضها. كما أوردت كثيراً من محتويات الوثائق المدجنية والمستعربية، التي استطعت الحصول عليها من مختلف المجموعات الإسبانية التي سبق ذكرها، وهي تلقى ضوءاً كبيراً على حياة المدجنين وأحوالهم في العصور المتأخرة، التي انقطعت فيها كل

صلاتهم بماضيهم القديم، وبدينهم ولغتهم، وأمتهم الأصيلة. وبالرغم من أن مجموعة الإسكوريال الأندلسية، لا تحتوي فيما يتعلق بتاريخ مملكة غرناطة، عدا كتب ابن الخطيب، على كثير من الآثار، ولم يكن بها من قبل عن المرحلة الأخيرة سوى نسخة مخطوطة من كتاب "أخبار العصر في انقضاء دولة بني نصر" الذي عنى بنشره المستشرق ميللر، ثم فقد بعد نشره، فإني وقفت خلال بحوثي بها على طائفة من النصوص الهامة، وردت في بعض الرسائل المغمورة، مثل رسالة "أسنى المتاجر" عن هجرة المدجنين، ورسالة ابن خاتمة عن الوباء الكبير. وقد ألفيت بالطبع في كتب ابن الخطيب -ومنها بالإسكوريال عدة- مادة نفيسة، وانتفعت بها في كثير من المواطن. بيد أني لم أجد مع الأسف هنالك شيئاً يتعلق بالموريسكيين أو العرب المتنصرين. ووقفت خلال بحوثي بمكتبة الفاتيكان الرسولية برومة، على مؤلف مخطوط هام لرحالة ومؤرخ مصري، هو عبد الباسط بن خليل الحنفي، عنوانه "الروض الباسم في حوادث العمر والتراجم" وقد وردت به فقرات كثيرة عن حوادث غرناطة الأخيرة، وقد شهدها الرحالة المذكور، أو وقف عليها خلال زيارته لغرناطة أيام السلطان أبي الحسن. وعثرت هنالك فوق ذلك على وثيقة فقهية هامة بها نصائح وتوجيهات دينية للعرب المتنصرين، وقله نشرت برمتها في موضعها من الكتاب. كما وقفت خلال بحوثي بالمغرب على بعض النصوص المفيدة، ومنها رواية مخطوطة ضافية عن أحوال العرب المتنصرين وموقف السياسة الإسبانية منهم، كتبها موريسكي هاجر وعاد إلى الإسلام في أواخر العهد الموريسكي. وقد كان لما تضمنته هذه الوثائق العديدة، وما تلقيه من أضواء هامة على كثير من الحوادث والتطورات، المتعلقة بالمرحلة الأخيرة من تاريخ مملكة غرناطة وتاريخ العرب المتنصرين، وحياتهم في ظل الإستعباد الإسباني المرهق، المدني والديني، نحو مائة عام - كان لذلك كله أثره العميق في تصحيح كثير من النصوص والروايات المتواترة، وفي إخراج قصة سقوط الأندلس، وقصة العرب المتنصرين واستشهادهم المؤثر، في ثوبها التاريخي الحق، المدعم بالأدلة والنصوص التي لاشك فيها.

ورأيت إلى جانب هذه الوثائق التاريخية، أن أتقصى المصادر القشتالية الكلاسيكية، ومنها بعض الروايات المعاصرة للمأساة أو القريبة منها، ولم أشأ أن أترك آراء المؤرخين القشتاليين وأحكامهم جانباً، بالرغم مما يشوب هذه الآراء والأحكام في كثير من الأحيان من التحامل. وقد انتفعت بثمار مراجعة دقيقة شاملة لأهم المصادر القشتالية، ونخص فيما يتعلق بالرواية التاريخية بالذكر ثلاثة منها هي: رواية هرناندو دي بايثا المعاصرة عن أحداث الأعوام الأخيرة لمملكة غرناطة؛ ورواية لويس دل مارمول المستفيضة عن سقوط غرناطة، وثورة العرب المتنصرين وقد كتب روايته بعد سقوط غرناطة بنحو ثمانين عاماً، وشهد ثورة العرب المتنصرين منذ بدايتها إلى نهايتها؛ وتاريخ غرناطة للمؤرخ الغرناطي لافونتي ألقنطرة، وقد كتب في القرن الماضي، وهو زاخر بالمعلومات والتفاصيل القيمة؛ ورجعت فيما يتعلق بالعرب المتنصرين ونفيهم، إلى عدة من أكابر المفكرين والمؤرخين الإسبان الذين يعتد بآرائهم في هذا الميدان، وفي مقدمتهم موديستو لافونتي، وخانير، وبيكاتوستي، ومننديث إي بلايو، ونقلت من تعليقاتهم على مأساة النفي ونتائجها فقرات طويلة، تعرض آراءهم وأحكامهم بوضوح، وحرصت على نقل آراء المؤيدين والمعارضين على السواء. وقد عنيت عناية خاصة بالتجوال في مملكة غرناطة القديمة، فزرت سائر مدنها: غرناطة، وألمرية، والمنكب، وبسطة، ووادي آش، ومالقة، وبلش، ولوشة، والحامة، ورندة، وأركش، والجزيرة، وطريف، وجبل طارق، كما زرت كثيراً من بلدانها وقراها، وزرت مدينة غرناطة ذاتها عشر مرات، وشهدت في بسائطها ونجودها وأحيائها، كثيراً من الأماكن التي كانت مسرحاً لكثير من الحوادث والوقائع الشهيرة، وتجولت في مرجها الشهير، وعلى ضفاف نهرها القديم شَنيل، وصعدت إلى جبال سيرّا نفادا ذات الآكام الناصعة، وشهدت بمدينة الحمراء - وهي التي مازال قصرها المنيف، وأبهاؤها الرائعة، عنواناً لمجد غرناطة الإسلامية وحضارتها العظيمة - سائر الأماكن التي اختتمت فيها المأساة الأندلسية، والتي تذكرها الرواية في كثير من المناسبات المشجية. وشغلت مدى أعوام، بدراسة هذه المجموعة الزاخرة من الوثائق والمصادر، وإعداد هذه الطبعة الجديدة من "نهاية الأندلس"، أو بعبارة أخرى بكتابة

الكتاب من جديد، بعد أن اجتمعت لدى سائر هذه العناصر الحية. ولقد كان لهذا التجوال المستفيض في مواطن الحوادث، وهذه المشاهدات العديدة، للديار والربوع، أعمق الأثر في نفسي، وفي ذهني، وفي تكييف قلمي، حتى لقد كنت أشعر، حين تدوين الحوادث، وأمام مخيلتي تلك الأماكن والمشاهد، أنني كأنما قد عشت في تلك الأيام، وفي تلك الربوع، وبين أولئك الناس أبطال المأساة، الذين أتتبع سيرهم ومصايرهم. ولهذا كله، وعلى ضوء كل ما تقدم من الوثائق والنصوص، العربية والقشتالية، التي اجتمعت لي منها أغزر مادة، يمكن أن تجتمع لباحث في هذا الميدان، أرجو أن أكون قد وفقت لأن أضع اليوم بين يدي القارىء، أوفى وأوثق رواية كتبت عن نهاية الأندلس. وعن مأساة العرب المتنصرين. وإني لأنتهز هذه الفرصة لأقدم جزيل الشكر إلى الآباء المحترمين القائمين على إدارة مكتبة الإسكوريال لما لقيت من جميل عونهم وعنايتهم خلال زياراتي العديدة لهذه المكتبة الجليلة. وإني مازلت أذكر بالأخص بعميق العرفان ما قدمه إلى صديقى المرحوم الأب الجليل نمسيو موراتا أمين مكتبة الإسكوريال السابق، من معاونات قيمة، كما أقدم وافر شكري لمديري وأمناء دور المحفوظات في سيمانقا ومدريد وبرشلونة وبلنسية وغرناطة، ومدير وأمناء مكتبة مدريد الوطنية، لما لقيت من معاوناتهم القيمة خلال بحوثي بها مدى أعوام طويلة. وأود أخيراً أن أعرب عن وافر امتناني وعرفاني، لإخواني القائمين على معهدنا المصرى بمدريد، لما أسدوا إلي في مختلف المناسبات من معاونات قيمة، كان لها أكبر الأثر في تسهيل مهمتى. صفر سنة 1378 الموافق أغسطس سنة 1958 محمد عبد الله عنان

تصدير

تصدير صدرت الطبعة الثانية من هذا الكتاب في سنة 1958، أعنى منذ نحو سبعة أعوام. والآن، وقد أنجزت كتابة مرحلة التاريخ الأندلسى، التي تسبق مرحلة الإنهيار والسقوط، وهي تاريخ "عصر المرابطين والموحدين" وتمت بذلك سلسلة تاريخ الأندلس، منذ الفتح حتى إخراج بقايا الأمة الأندلسية نهائياً من الأراضى الإسبانية، فإني أقدم هذه الطبعة الثالثة من "نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين". وقد كان في مقدمة ما عنينا به في هذه الطبعة الجديدة، هو أن نراجع فصول الكتاب الأولى، المتعلقة بسقوط القواعد الأندلسية الكبرى، ونهوض محمد ابن يوسف بن الأحمر، ونشوء مملكة غرناطة، وأن نصل وأن ننسق بين هذه الفصول، وبين ما ورد عن نفس الموضوعات في القسم الثاني من كتابنا "عصر المرابطين والموحدين"، وهو "عصر الموحدين وانهيار الأندلس الكبرى". وقد اقتضى هذا التنسيق بعض التكرار في سرد هذه الحوادث، وهو تكرار يقصد به قبل كل شىء، المحافظة على استقلال هذا القسم الأخير من تاريخ الأندلس، بيد أننا توخينا الإيجاز في استعراض هذه الحوادث، تمهيداً لموضوعنا الأساسى، وهو نشوء مملكة غرناطة، آخر دول الإسلام بالأندلس، وتاريخها خلال حياتها الطويلة، هذا بينما تناولنا مرحلة انحلال الأندلس الكبرى وسقوط قواعدها، في كثير من الإسهاب والإفاضة في كتابنا "عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس" وهو الذي يسبق مباشرة كتاب "نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين"، وهو الحلقة الختامية في هذه السلسلة الكبرى من تاريخ "دولة الإسلام في الأندلس". وقد أتيح لنا في نفس الوقت، أن نقوم بكثير من التعديلات والإضافات الجديدة، التي استطعنا أن نفيد الكثير منها، خلال بحوثنا في الأعوام الأخيرة

في مدريد وفي المغرب. وبالرغم من أن هذه التعديلات والإضافات، ليست كثيرة، فإنها مع ذلك تضفى على الكتاب قيما وفوائد جديدة. وإنا لنرجو أن تتوج هذه الطبعة الجديدة من "نهاية الأندلس" ذلك المجهود الطويل المضنى الذي بذلناه مدى خمسة وعشرين عاماً في كتابة هذه القصة المشجية - تاريخ الأمة الأندلسية- منذ بدايتها حتى نهايتها. ربيع الأول سنة 1386 الموافق يوليه سنه 1966 محمد عبد الله عنان

صفحتان من كتاب " الإحاطة في أخبار غرناطة " لابن الخطيب، من ترجمته لنفسه. مخطوط الإسكوريال رقم 1673 الغزيرى.

الصفحتان الأوليان من رسالة " أسنى المتاجر فيمن غلب النصارى على وطنه ولم يهاجر " وهي توجد ضمن مجموعة مخطوطة بالإسكوريال رقم 1758 الغزيرى.

تاريخ مملكة غرناطة 635 - 897 هـ: 1238 - 1492 م

تاريخ مملكة غَرناطة 635 - 897 هـ: 1238 - 1492 م.

الكتاب الأول مملكة غرناطة منذ قيامها حتى ولاية السلطان أبي الحسن 635 - 868 هـ: 1238 - 1463 م

الكِتابُ الأول ممْلكة غَرناطة منذ قيامها حتى ولاية السّلطان أبي الحسن 635 - 868 هـ: 1238 - 1463 م

الفصل الأول الأندلس الغاربة

الفصل الأوّل الأندلس الغاربة دول الطوائف. المرابطون والموحدون. سياسة الإسترداد النصرانية. سقوط القواعد الأندلسية في يد النصارى. موجة الاسترداد الغامرة في القرن السابع. شعور أهل الأندلس بمصيرهم. مدينة غرناطة. صفتها أيام الدولة الإسلامية. ما بقى من خططها ومعالمها الأندلسية. - 1 - يقدم إلينا تاريخ الأندلس في مراحله الأولى، صفحات باهرات من ضروب المجد الحربى والسياسى، وآيات ساطعات من ضروب التمدن والعرفان. ولكنه يقدم إلينا في مراحله الأخيرة، صفحات مشجية مؤثرة من تقلب الجدود، وتعاقب المحن، والانحدار البطىء المؤلم، إلى معترك الهزيمة، والذلة والسقوط. ولا تمثل قصة الأندلس، سوى الحقيقة التاريخية الخالدة. وليس مجرى التاريخ سوى تعاقب الأجيال والأمم، وتبدل الحضارات والدول. ولكن الصراع الطويل المضطرم، الذي خاضته الأمة الإسلامية في الأندلس، قبل أن تستسلم إلى قدرها المحتوم، يبدو فضلا عما يحف به من ألوان البطولة الخالدة، صفحة رائعة من الاستشهاد المؤثر، قلما يقدمها إلينا تاريخ أمة من الأمم، التي اشتهرت بالذود عن حياتها وحرياتها. وقد سقطت قواعد الأندلس الشهيرة، في سلسلة من المعارك والمحن الطاحنة، التي تقلبت فيها الأمة الأندلسية، منذ انهار صرح الخلافة الأموية في الأندلس، في أواخر القرن الرابع الهجري، وقامت دول الطوائف الصغيرة المفككة، على أنقاض دولة عظيمة شامخة. وكان سقوط كل قاعدة من هذه القواعد الشهيرة التي كانت تسطع بمجتمعاتها وحضارتها الزاهرة، خلال حلك العصور الوسطى، يمثل ضربة مميتة للدولة الإسلامية في الأندلس، ويحدث أعمق صدى في جنبات الدول الإسلامية في الشرق والغرب، وينتزع من وحى النثر والنظم أروع المراثى. وكانت الأمة الأندلسية، كلما سقطت قاعدة من قواعدها الشهيرة، في يد عدوتها القديمة المتربصة بها - إسبانيا النصرانية - ألفت عزاءها في قواعدها الأخرى،

وهرع معظم السكان المسلمين إلى تلك القواعد الإسلامية الباقية، إستبقاء لحرياتهم ودينهم وكرامتهم، حتى لم يبق من تلك القواعد الشهيرة سوى غرناطة وأعمالها، تؤلف مملكة إسلامية صغيرة، ولكن أبية ساطعة، استطاعت عبقرية بناتها النصريين، أن تسير بها خلال العاصفة أكثر من مائتى عام. والحقيقة أن مصير الأندلس، كان يهتز في يد القدر، مذ فشلت ريح دول الطوائف، وغلب عليها الخلاف والتفرق، وانحدرت إلى معترك الحرب الأهلية، تفسح لعدوها الخطر مجال التفوق عليها، والضرب والتفريق بينها. وقد استطاع بعض ذوى النظر الثاقب من رجالات الأندلس، حتى في ذلك العصر، الذي كان الإسلام يسيطر فيه على معظم أنحاء شبه الجزيرة الإسبانية، أن يستشفوا ما وراء هذا التفرق من الخطر الداهم. فنرى ابن حيان مؤرخ الأندلس في القرن الخامس الهجري، يقول لنا بعد أن يصف حوادث سقوط بربشتر، من أعمال الثغر الأعلى (أراجون)، في يد النصارى (النورمان) في سنة 456 هـ (1063 م) وما اقترن بسقوطها من القتل والسبى وشنيع الاعتداء: "وقد استوفينا في شرح هذه الفادحة مصائب جليلة، مؤذنة بوشك القلعة، طالما حذر أسلافنا لحاقها، مما احتملوه عمن قبلهم من آثاره. ولاشك عند أولى الألباب، أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع، وقد أخذنا بالتواصل والألفة، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادى عليه، على شفا -جرف يؤدى إلى الهلكة لا محالة، إذ قدر الله زماننا هذا بالإضافة إلى ما عهدنا في القرن الذي سلخه من آخر أمد الجماعة، على إدراك ما لحق الذي قبله، فمثل دهرنا هذا -لا قدس- بهيم الشبه، ما أن يباهى بعرجه، فضلا عن نزوح خيره، قد غربل ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهل، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معالى الغى بأقوياء. نشأ من الناس هامل يعللون أنفسهم بالباطل، من أول الدلائل على فرط جهلهم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعة خالقهم، ورفضهم وصية نبيهم، وغفلتهم عن سد ثغرهم، حتى أطل عدوهم الساعى لإطفاء نورهم، يتبجح عراص دورهم، ويستقرى بسائط بقاعهم، يقطع كل يوم طرفا، ويبيد أمة، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكراهم، لهاة عن بثهم " (¬1)، ولم يكن هذا التنديد من ¬_______ (¬1) نقلنا هذه الفقرة من تعليقات ابن حيان على نكبة بربشتر، عن الذخيرة لابن بسام، القسم الثالث المخطوط المحفوظ بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (لوحات 34 - 36). ونقل المقري بعض هذه التعليقات في نفح الطيب (مصر) ج 2 ص 576.

جانب المؤرخ الأندلسى الكبير، بتواكل أهل الأندلس، وتخاذلهم عن نصرة دينهم وإخوانهم، إلا معبراً عن حقيقة راسخة مؤلمة، ظهرت بأروع مظاهرها، في عصر الطوائف. بل لقد لاح مدى لحظة، حينما سقطت طليطلة أول قاعدة إسلامية كبيرة، في يد اسبانيا النصرانية في سنة 478 هـ (1085 م)، أن الأندلس أضحت على وشك الفناء، وأن دول الطوائف المنهوكة الممزقة، سوف تسقط تباعاً في يد عدوها القوى، وأن دولة الإسلام في اسبانيا سوف تطوى وتختتم حياتها المجيدة في شبه الجزيرة. وقد ساد الفزع والتوجس يومئذ جنبات الأندلس كلها، حتى قال شاعرهم حينما سقطت طليطلة: يا أهل أندلس شدوا رحالكم ... فما المقام بها إلا من الغلط السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط من جاور الشر لا يأمن بوائقه ... كيف الحياة مع الحيات في سفط ولكن الدرس كان عميق الأثر، فجنح زعماء الطوائف إلى الرشاد، وجمعت المحنة منهم الكلمة، وارتدوا إلى ما وراء البحر، يلتمسون الغوث إلى "المرابطين" إخوانهم في الدين. وكان المرابطون يومئذ في عنفوان دولتهم، وأميرهم يوسف ابن تاشفين يبسط سلطانه القوى على أمم المغرب، من المحيط غرباً حتى تونس شرقاً. فاستجاب المرابطون إلى صريخ الطوائف، وعبروا البحر إلى الأندلس في قوات ضخمة، والتقت الجيوش الإسلامية المتحدة بقيادة يوسف بن تاشفين، بالجيوش النصرانية المتحدة بقيادة ألفونسو السادس زعيم اسبانيا النصرانية، في سهول الزلاّقة في رجب سنة 479 هـ (أكتوبر سنة 1086 م) فأحرز المسلمون نصراً عظيماً حاسماً. وكانت موقعة الزلاّقة من أيام الأندلس المشهورة، وانتعشت دول الطوائف، وقويت نفوس الأمة الأندلسية، وبدأت الأندلس حياة جديدة. ولكن سرعان ما انقلب المرابطون على إخوانهم وحلفائهم، واجتذبتهم نعماء الأندلس وثرواتها، فحطموا دول الطوائف، وبسطوا حكمهم على الأندلس زهاء نصف قرن. ولما سقطت دولتهم في المغرب، وقامت على أنقاضها دولة الموحدين، جاشت مختلف القواعد الأندلسية بالثورة على المرابطين، وعبر الموحدون البحر إلى اسبانيا، واستولوا تباعا على القواعد الأندلسية الكبرى وبسطوا على الأندلس حكمهم زهاء قرن آخر. وفي ظل الموحدين أحرزت الجيوش الإسلامية كما أحرزت في الزلاّقة أيام المرابطين، نصرها الحاسم ضد اسبانيا

النصرانية، بقيادة الخليفة الموحدى يعقوب المنصور، وذلك في موقعة الأرك الشهيرة (591 هـ - 1195 م) (¬1). ولكنها ما لبثت أن لقيت هزيمتها الحاسمة، بعد ذلك بقليل على يد اسبانيا النصرانية، في عهد الخليفة محمد الناصر ولد المنصور في موقعة العقاب المشئومة التي فنى فيها معظم الجيوش الموحدية والأندلسية (609 هـ - 1212 م) (¬2). وكانت هزيمة العقاب ضربة شديدة لسلطان الموحدين ولاسبانيا المسلمة، فعاد شبح الفناء يلوح للأندلس قوياً منذراً، وسرى هذا التوجس إلى كتاب العصر وشعرائه، وظهر واضحاً في رسائلهم وقصائدهم. ومن ذلك ما قاله أبو اسحق ابراهيم بن الدباغ الإشبيلى معلقاً على موقعة العقاب: وقائلة أراك تطيل تفكراً ... كأنك قد وقفت لدى الحساب فقلت لها أفكر في عقاب ... غدا سبباً لمعركة العقاب فما في أرض أندلس مقام ... وقد دخل البلا من كل باب (¬3). وفي خلال ذلك كانت الأندلس تضطرم بأشنع ضروب الخلاف والفتن، والقواعد والثغور يتناوبها الزعماء والمتغلبون، واسبانيا النصرانية تنزل بالأندلس ضرباتها المتوالية، وتستولى تباعاً على القواعد والثغور. والحقيقة أن الجهد المضطرم الذي بذلته اسبانيا النصرانية يومئذ، لانتزاع القواعد الأندلسية لم يكن سوى الذروة في مرحلة طال أمدها، من حركة الفتح والاسترداد النصرانية La Reconquista. وقد بدأ هذا الاسترداد من جانب اسبانيا النصرانية لأراضيها المفتوحة منذ عصر مبكر جداً، أعنى مذ قامت المملكة النصرانية الشمالية عقب الفتح الإسلامى بقليل في حمى الجبال الشمالية، واشتد ساعدها بسرعة، واستطاعت منذ منتصف القرن الثامن الميلادي أن تدفع حدودها تباعاً نحو الجنوب. وكانت أولى القواعد الإسلامية التي سقطت هي "لُك" في أقصى الشمال الغربي لشبه الجزيرة، وأسترقة في شمال نهر دويرة، وسمورة وشلمنقة وشقوبية وآبلة في الناحية الأخرى من دويرة. ولم تتأثر الأندلس المسلمة ¬_______ (¬1) وتعرف في الاسبانية بموقعة Alarcos. وتراجع تفاصيلها في كتابى "عصر المرابطين والموحدين" القسم الثاني ص 200 - 214. (¬2) وتعرف في الاسبانية بموقعة Las Navas de Tolosa. وتراجع تفاصيلها في الكتاب السالف الذكر القسم الثاني ص 293 - 322. (¬3) نفح الطيب ج 2 ص 582.

كثيراً بفقد هذه القواعد الأولى لنأيها وقربها من المملكة النصرانية. ولكن الأندلس شعرت بالخطر الحقيقى منذ استطاع النصارى عبور نهر التاجُه متوسط شبه الجزيرة في غزوات قوية، واستيلائهم بعد ذلك على طليطلة ثالثة القواعد الأندلسية الكبرى بعد قرطبة وإشبيلية. ووضع نصر الزلاّقة، وقيام سلطان المرابطين في شبه الجزيرة، حداً مؤقتاً لتقدم النصارى في وسط شبه الجزيرة وشرقيها. ولكن موجة جديدة من الغزو النصرانى اجتاحت شمال شرقى الأندلس منذ بداية القرن السادس الهجري، فسقطت سرقسطة في يد النصارى (512 هـ - 1118 م)، وكانت تطيلة حصنها الأمامى قد سقطت قبل ذلك بعام، ثم تلتها بقية قواعد الثغر الأعلى، لاردة وإفراغة ومكناسة وطرطوشة (543 هـ - 544 هـ) (1148 - 1149 م). وفي تلك الآونة ذاتها بدأ سقوط القواعد الإسلامية في غربي شبه الجزيرة أعنى في البرتغال، فسقطت أشبونة وشنترة وشنترين في يد النصارى في سنة 1147 م (542 هـ)، وسقطت باجة بعد ذلك بقليل في سنة 1161 م (556 هـ)، ثم تلتها يابرة في سنة 1165 م (561 هـ). ولما توطد سلطان الموحدين بالأندلس في أواخر القرن السادس الهجري، توقفت حركة الإسترداد النصرانى مدى حين، ثم عادت تضطرم قوية بعد إحراز اسبانيا النصرانية لفوزها الحاسم على الموحدين في موقعة العقاب (609 هـ). ومنذ أوائل القرن السابع الهجري تجتاح اسبانيا المسلمة موجة عاتية من الغزو النصرانى وتسقط قواعد الأندلس التالدة شرقاً وغرباً في يد النصارى. وهكذا سقطت جزيرة ميورقة (627 هـ - 1229 م)، وبياسة (623 هـ - 1226 م) وأبَّدة (630 هـ - 1233 م) ثم قرطبة (633 هـ - 1236 م) وإستجة والمدور (633 هـ - 1236 م) وبلنسية (636 هـ - 1238 م) ودانية ولقنت (641 هـ - 1244 م) وأوريولة وقرطاجنة (643 هـ - 1245 م) وشاطبة (644 هـ - 1246 م) ومرسية (640 هـ - 1243 م) وجيان (643 هـ - 1246 م)، ثم إشبيلية (646 هـ - 1248 م). واجتاحت غرب الأندلس في الوقت نفسه موجة مماثلة من الغزو النصرانى، فسقطت بطليوس (627 هـ - 1230 م) وماردة (628 هـ - 1231 م) وشلب (640 هـ - 1242 م) وشنتمرية الغرب (647 هـ - 1249 م) ولبلة وولبة (655 هـ - 1257 م). ثم سقطت قادس في سنة 1261 م، وتلتها شريش في سنة 1264 م. وهكذا لم يأت منتصف القرن

السابع الهجري (القرن الثالث عشر الميلادي) حتى كانت ولايات الأندلس الشرقية والوسطى كلها، قد سقطت في يد اسبانيا النصرانية، ولم يبق من تراث الدولة الإسلامية بالأندلس، سوى بضع ولايات صغيرة في طرف اسبانيا الجنوبى. وأخذت الأندلس عندئذ، تواجه شبح الفناء مرة أخرى، وطافت بالأمة الأندلسية التي احتشدت يومئذ في الجنوب في بسيطها الضيق، ريح من التوجس والفزع، وعاد النذير يهيب بالمسلمين، أن يغادروا ذلك الوطن الخطر، الذي يتخاطف العدو أشلاءه الدامية، وسرى إلى الأمة الأندلسية شعور عميق بمصيرها المحتوم. ولكن شاء القدر أن يرجىء هذا المصير بضعة أجيال أخرى، وشاء أن يسبغ على الدولة الإسلامية بالأندلس. حياة جديدة في ظل مملكة غرناطة، التي استطاعت أن تبرز من غمر الفوضى ضئيلة في البداية، وأن توطد دعائم قوتها شيئاً فشيئاً، وأن تذود عن الإسلام ودولته الباقية بنجاح، أكثر من قرنين. وكان من حسن طالع هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، أن شغلت عدوتها القوية اسبانيا النصرانية مدى حين، بمنازعاتها وحروبها الداخلية، فلم توفق إلى تحقيق غايتها الكبرى، وهي القضاء على دولة الإسلام في الأندلس، وعلى الأمة الأندلسية بصورة نهائية، إلا بعد أن تهيأت لذلك جميع الظروف والأسباب. ولم يكن ذلك قبل مائتين وخمسين عاماً، عاشتها مملكة غرناطة الصغيرة أبية كريمة، ترفع لواء الإسلام عالياً في تلك الربوع، التي افتتحها الإسلام قبل ذلك بعدة قرون، وأنشأ بها المسلمون حضارتهم العظيمة التي حفلت بأرقى نظم للحياة المادية والأدبية، وأرفع ضروب العلوم والفنون التي عرفت في العصور الوسطى. - 2 - كانت غرناطة وقت افتتاح الأندلس، مدينة صغيرة من أعمال ولاية "إلبيرة" تقع على مقربة من مدينة إلبيرة قاعدة الولاية، من الناحية الجنوبية (¬1)، افتتحها المسلمون عقب انتصارهم على القوط، بقيادة طارق بن زياد فاتح الأندلس، في موقعة شَريش في رمضان سنة 92 هـ. (يوليه سنة 711 م). ولما اضطرمت الفتنة بالأندلس، ودب الخلاف بين القبائل، عقب موقعة بلاط الشهداء (732 م) ¬_______ (¬1) إلبيرة وبالاسبانية Elvira هي مدينة رومانية قديمة كانت تسمى أيام الرومان Iliboris وكانت عاصمة للولاية التي تسمى بهذا الاسم، وكانت أيام الفتح الإسلامى مدينة كبيرة عامرة.

واشتد التنافس على الإمارة بين الشاميين من ناحية، والعرب والبربر من ناحية أخرى، رأى أمير الأندلس أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبى، أن يعمل على تهدئة الفتنة بتمزيق عصبة الشاميين، ففرقهم في أنحاء الأندلس، وأنزل جند الشام بكورة إلبيرة، وجند حمص بإشبيلية، وجند فلسطين بشذونه والجزيرة، وجند الأردن بريُّه، وهكذا نزل الشاميون منذ البداية بولاية إلبيرة، وغدوا بمضى الزمن كثرة فيها. واستمرت مدينة إلبيرة قاعدة لهذه الولاية ومركز قضائها في ظل الدولة الأموية، حتى أواخر القرن الرابع حينما انهارت الخلافة الأموية وتعاقبت الفتن، وعاث البربر في النواحى، وخربت مدينة إلبيرة شيئاً فشيئاً، حتى غدت غرناطة قاعدة الولاية مكانها، وغلب اسم غرناطة على الولاية نفسها، ومن ذلك الحين يختفى اسم إلبيرة كقاعدة من قواعد الأندلس، ويذكر مكانها اسم غرناطة. والواقع أن إلبيرة وغرناطة تعتبران في معظم الأحيان ولاسيما في المراحل الأولى لتاريخ الأندلس، إسمين لمكان واحد، وقد جرى كثير من المؤرخين والجغرافيين على المزج بينهما (¬1). وغَرناطة أو إغرناطة اسم قديم يرجع إلى عهد الرومان والقوط، وقد اختلفت آراء الباحثين في أصل هذه التسمية، فيرى البعض أنه مشتق من الكلمة الرومانية Granata أى الرمانة، وأنها سميت كذلك لجمالها، ولكثرة حدائق الرمان التي تحيط بها (¬2)، ويرى البعض الآخر أن التسمية ترجع إلى أصل قوطى أو أنها ترجع إلى أصل بربرى مشتق من اسم إحدى القبائل (¬3). والواقع أن غرناطة تتمتع بموقع فائق في الحسن، فهى تقع في واد عميق يمتد من المنحدر ¬_______ (¬1) كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة، لابن الخطيب (القاهرة 1956) ج 1 ص 99 - 105. (¬2) المستشرق سيبولد في Ency. de l'Islame: Grenade؛ وكذلك في معجم ياقوت حيث يقول إن معنى غرناطة " الرمانة " بلسان عجم الأندلس سمى البلد كذلك لحسنه (راجع معجم ياقوت تحت كلمة غرناطة). وقيل إنها سميت كذلك لأنها أنشئت على البقعة التي زرع فيها الرمان لأول مرة عند نقله من إفريقية إليها، وقيل أيضاً إنها سميت كذلك لأنها بموقعها وانقسامها على التلين تشبه بمنازلها الكثيفة الرمانة المشقوقة. راجع كتاب: ( Prescott: Ferdinand and Isabella, p. 190, Note) . (¬3) هذا ما يراه المستشرق الإسبانى سيمونيت، إذ يقول إن المرجح أن الاسم قوطى الأصل، وأنه مركب من كلمة " ناطة " وهو اسم قرية قديمة كانت تقع على مقربة من إلبيرة و" غار" وهو المقطع الذي أضافه المسلمون إليها فصارت "غرناطة ". أو أن البربر سموها كذلك عند نزولهم بها وهو اسم أحد قبائلهم راجع: ( Simonet: Descripcion del Reino de Granada (Granada 1872) p. 40 & 41) وراجع كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 99 الهامش.

الشمالى الغربي لجبال سيرّا نفادا، وتظللها الآكام العالية من الشرق والجنوب، ويحدها من الجنوب نهرث شَنيل فرع الوادى الكبير (¬1)، وهو ينبع من جبال سيرّا نفادا، ويخترقها فرعه المسمى نهر حدرُّه أو هدره El-Darro، ويلتقى به عند جنوبى المدينة. وقد كان شنيل وفرعه حدره أيام المسلمين يفيض بالماء، ولاسيما في الصيف حين تذوب الثلوج، وكانت ضفافهما خضراء يانعة تغص بالحدائق الغناء. أما اليوم فقد جف مجرى شنيل، وقلما يجرى فيه الماء سوى القليل أيام الشتاء. وأما فرعه حدرُّه فيخترق المدينة من الشرق عند سفح التل الذي تقع عليه "الحمراء" ويتصل بشنيل عند القنطرة الأندلسية القديمة. وهو يكاد يختفى اليوم ولم يبق من مجراه سوى الجزء الصغير المجاور لتل الحمراء. وأما جزؤه الذي كان يخترق وسط المدينة فقد غطى اليوم بشارعها الرئيسى الأوسط المسمى "شارع الملكين الكاثوليكيين"، وامتداده في الميدان الكبير حتى قنطرة شنيل. وتشرف غرناطة من الجنوب الغربي، على بسيط شاسع أخضر وافر الخصب، هو المرج أو الفحص الشهير La Vega (¬2) الذي يمتد غرباً حتى مدينة لَوْشة، ومن الجنوب الشرقى على جبال سيرّا نفادا Sierra Nevada ( جبل شُلير أو جبل الثلج) (¬3) التي تغطى آكامها الثلوج الناصعة. وكانت غرناطة أيام الدولة الإسلامية، جنة من جنات الدنيا، تغص بالرياض والبساتين اليانعة، التي كانت لوفرة خصبها وروعة نضرتها، تعوف "بالجنات"، فيقال للمزرعة أو البستان "جنة كذا" أو جنة فلان، مثل جنة الحرف، وجنة العرض، وجنة الحفرة، ومدرج نجد، ومدرج السبيكة، وجنة ابن عمران وجنة العريف وغيرها. وقد ذكر ابن الخطيب أن هذه الجنات الغرناطية الشهيرة كانت تبلغ في عصره زهاء المائة، كما ذكر لنا أن منطقة غرناطة، كانت تضم زهاء ثلاثمائة قرية عامرة، منها ما كان يبلغ سكانه الألوف ومنها ما كان يملكه ¬_______ (¬1) شنيل هو بالاسبانية Xenil أو Genil، ويسمى أيضاً عند الأندلسيين بنهر سنجيل مشتقاً من اسمه اللاتينى Singilis. (¬2) وهي كلمة إسبانية معناها المرج. ولعلها مشتقة من كلمة "فحص" العربية. (¬3) يطلق الجغرافيون الأندلسيون اسم شلير أو جبل الثلج على جبال "سييرا نفادا ". فأما "شلير" فهو محرف عن اللاتينية Solarius ومعناها جبل الشمس، وذلك لأن الشمس تسلط أشعتها الساطعة على تلك الجبال فينعكس ضوؤها على الثلوج الناصعة التي تغطيها. وأما تسميتها بجبل الثلج، فهى ترجمة عربية مطابقة لاسمها القشتالى Sierra Nevada.

مالك واحد أو ملاك قلائل. هذا عدا الأملاك السلطانية والحصون (¬1). وبذلك نستطيع أن نقدر أن مدينة غرناطة، كانت تضم أيام أن كانت عاصمة للدولة الإسلامية، أكثر من نصف مليون من الأنفس. وأما خارج المدينة فيصفه ابن الخطيب في قوله: "ويحف بسور المدينة المعصومة بدفاع الله تعالى، البساتين العريضة المستخلصة، والأدواح الملتفة، فيصير سورها خلف ذلك كأنه من دون سياج كثيفة، تلوح نجوم الشرفات البيض أثناء خضرايه، فليس تعرى جنباته من الكروم والجنات جهة". وأما المرج الشهير أو الفحص La Vega فقد كان بسيطاً رائع الخضرة يشبهونه بغوطة دمشق، وتخترقه الجداول والأنهار، ويغص بالقرى والجنات، ويهرع إليه الرواد في ليالى الربيع والصيف فيغدو مسرح الأسمار والأنس. وكانت المدينة ذاتها نموذجاً بديعاً للعمارة الإسلامية، تغص بالصروح والأبنية الفخمة، وتتخللها الميادين والطرقات الفسيحة. وكانت مدينة الحمراء أو دار الملك أروع ما فيها، تطل على أحيائها "في سمت من القبلة، تشرف عليه منها الشرفات البيض، والأبراج السامية والمعاقل المنيعة، والقصور الرفيعة، تغشى العيون، وتبهر العقول" (¬2). وقد أشاد بذكر محاسن غرناطة وفضائلها كتاب الأندلس وشعراؤها؛ وانتهت إلينا من منظومهم ومنثورهم فيها تراث حافل، ينم بالرغم مما يحمله أحياناً من طابع المبالغة، عما كانت تثيره غرناطة في نفوسهم من عميق الإعجاب والحب. وقد أورد لنا ابن الخطيب في "الإحاطة" والمقرى في "نفح الطيب"، و "أزهار الرياض" كثيراً من هذه القصائد والرسائل، وإليك بعض نماذج منها: قال ابن الخطيب: بلد تحف به الرياض كأنه ... وجه جميل والرياض عذاره وكأنما واديه معصم غادة ... ومن الجسور المحكمات سواره ¬_______ (¬1) الإحاطة في أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 122 و 123. ويقدم لنا ابن الخطيب بياناً وافياً عن القرى الغرناطية. (راجع ص 131 - 138 والهوامش حيث تبين مواقع هذه القرى وأسماؤها الاسبانية الحالية). (¬2) راجع الإحاطة في أخبار غرناطة ج 1 ص 121. واللمحة البدرية في تاريخ الدولة النصرية لابن الخطيب أيضاً ص 13 و 14.

وقال أبو الحجاج يوسف بن سعيد: أغرناطة العلياء بالله خبرى ... أَلِلْهائم الباكى إليك طريق وما شاقنى إلا نضارة منظر ... وبهجة واد للعيون تروق تأمل إذا أملت " حوز مؤمل " (¬1) ... ومد من الحمراء عليك شقيق وأعلامه نجد والسبيكة قد علت ... وللشفق الأعلى تلوح بروق وقد سل شَنيل فرندا مهندا ... يضىء فوق درٍّ ذُرَّ فيه عقيق وقال آخر: غرناطة ما لها نظير ... ما مصر ما الشام ما العراق ما هي إلا العروس تجلى ... والأرض من جملة الصداق أما اليوم فقد غدت غرناطة مدينة متواضعة لا يزيد سكانها على مائة وثلاثين ألفاً. وهي عاصمة الولاية الأندلسية المسماة بنفس الإسم. وبالرغم من أنها قد فقدت بهاءها السالف، فإنها مازالت، تتشح بطابع خاص من التحفظ والنبل المؤثر. وقد اختفت معظم خططها الإسلامية، وقامت على أنقاضها مدينة أوربية حديثة. بيد أن غرناطة مازالت مع ذلك تحتفظ ببقية من صروحها ومعالمها الأندلسية، وتجتمع هذه البقية بالأخص في قسمها الشرقى حيث تربض أبراج "الحمراء" فوق هضبتها العالية، وأعظم آثارها الإسلامية الباقية هو بلا ريب قصر الحمراء الملكى الذي مازال يحتفظ بكثير من روعته القديمة، وقصر "جنة العريف" El Generalife الواقع في شرقه على مسافة قليلة، وقد كان مصيفاً لملوك غرناطة، وبقية ضئيلة من "قصر شنيل" Alcazar Genil (¬2) ، وهي تقع في ضاحية أرملة (أرمليا) على مقربة من شنيل، و "الخان" Alhondiga، وهو ذو عقد عربى رائع، ويقع على مقربة من دار البريد القديمة. أما المسجد الجامع وبقية المساجد الأخرى فقد هدمت جميعاً وقامت على أنقاضها الكنائس. وأما ما بقى من خططها الإسلامية، فهو ظاهر بالأخص في "حي البيازين" Albaicia الواقع في شمالها ¬_______ (¬1) هو اسم مكان بغرناطة الإسلامية كان يشتهر بنضرته ورياضه، ويحتل مكانه اليوم الحى الغرناطي المسمى Campo del Principe ( راجع الإحاطة ج 1 ص 449 والهامش). (¬2) هو القصر الذي يعرف في تاريخ غرناطة بقصر السيد، وقد أنشىء في عصر الموحدين، أنشأه السيد أبو إبراهيم إسحاق بن يوسف بن عبد المؤمن والى غرناطة، وذلك في سنة 614 هـ (1217 م) وعرف عندئذ بقصر السيد. وكان أيام الدولة النصرية يستعمل قصرا للضيافة الملكية (راجع كتابى عصر المرابطين والموحدين القسم الثاني ص 331).

الغربي، والميدان الكبير الذي مازال يحمل اسمه القديم "رحبة باب الرملة" Plaza de Bibrambla، وإلى جواره القيسرية القديمة Alcaicaria. هذا فضلا عما يبدو في كثير من دروبها الضيقة الصاعدة، ومنازلها العديدة ذات الطراز الأندلسى، من الملامح الأندلسية الواضحة. كذلك بقيت قطعة كبيرة من أسوار غرناطة الإسلامية، وبضعة من أبوابها القديمة مثل باب البنود وباب إلبيرة وباب البيازين وباب فحص اللوز، وباب الشريعة وهو مدخل الحمراء الرئيسى. هذا ومازالت "قنطرة شنيل"، قائمة على النهر عند التقائه بفرعه "حدرُّه"، وتحمل اسمها الإسلامى القديم Puente Genil. وتوجد في متحف غرناطة الأثرى طائفة كبيرة من اللوحات والنقوش والتحف الأندلسية. ولغرناطة منزلة خاصة في نفوس الإسبان وفي التاريخ الإسبانى. فهى إلى كونها خاتمة الفتوح المظفرة التي توجت حروب الإسترداد الإسبانية La Reconquista تعتبر بتاريخها المؤثر أنبل المدن الأندلسية، ويعتبر سقوطها في أيدى الإسبان فاتحة عصر اسبانيا الذهبى. ومن ثم فقد اتخذت مثوى أبدياً لفاتحيها الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيسابيلا، حيث يرقدان في كنيستها العظمى التي أقيمت فوق موقع المسجد الجامع. ونالت غرناطة حظوة خاصة لدى ملوك اسبانيا المتوالين فحبوها بمختلف المنشآت وضروب الإصلاح والتجميل؛ وحرص الإسبان على أن تبقى عاصمة الأندلس القديمة كما كانت مركز العلوم في جنوبى اسبانيا، فأنشئت جامعة غرناطة الشهيرة في سنة 1531 م، في عصر الإمبراطور شرلكان، وهي اليوم من أهم وأقدم الجامعات الإسبانية، ويوجد ضمن معاهدها الخاصة، معهد لدراسة عصر الملكين الكاثوليكيين فاتحى غرناطة، ومدرسة للدراسات العربية. وفي غرناطة معاهد علمية وثقافية عديدة أخرى، وعدة متاحف فنية أثرية.

الفصل الثاني نشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية

الفصل الثاني نشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية غرناطة منذ عهد الفتنة حتى عهد الموحدين. اضمحلال دولة الموحدين بالأندلس والمغرب. النزاع حول عرش الخلافة الموحدية. قيام العادل ثم المأمون. ظهور ابن هود وثورته على الموحدين. استيلاؤه على مرسية. دعوته للخلافة العباسية. انهيار الدولة الموحدية. الحرب بين ابن هود وبين النصارى. هزيمة ابن هود. زحف النصارى على قرطبة. استغاثتها بابن هود. ابن هود يؤثر السير إلى بلنسية. حصار قرطبة وسقوطها في يد النصارى. وفاة ابن هود. غزو ملك أراجون لبلنسية واستيلاؤه عليها. استيلاء القشتاليين على مرسية. أحوال جنوبى الأندلس. ظهور محمد بن الأحمر. طاعة القواعد الجنوبية له. دعوته لصاحب إفريقية. تحالفه مع الباجى وغدره به. دخول جيان ومالقة وشريش في طاعته. الثورة في غرناطة. دعوتها لابن الأحمر واستيلاؤه عليها. استيلاؤه على ألمرية. بنو أشقيلولة أصهار ابن الأحمر. قيام مملكة غرناطة. افتراق كلمة الأندلس. خضوع القواعد الشرقية للنصارى. غزو ابن الأحمر لمرتش. غزو فرناندو الثالث لأراضى ابن الأحمر وحصاره لغرناطة. خضوع ابن الأحمر لفرناندو وتعهده بأداء الجزية. سقوط القواعد الغربية في يد النصارى. تأهب فرناندو لافتتاح إشبيلية. استيلاؤه على قرمونة. حصار إشبيلية. معاونة ابن الأحمر للنصارى. قصيدة ابن سهل في استصراخ أهل العدوة. سقوط إشبيلية في يد النصارى. سقوط باقى القواعد الغربية. ابن الأحمر ودقة موقفه. اتجاهه إلى عون بني مرين. الحرب بينه وبين النصارى. سقوط إستجة. هزيمة ابن الأحمر. صدى صريخ الأندلس في المغرب. نزول ابن الأحمر عن شريش والقلعة وغيرهما. صدى سقوط القواعد الأندلسية. مرثية أبي الطيب الرندى. ثورة بني أشقيلولة بمالقة. غزو النصارى للجزيرة الخضراء. صفات ابن الأحمر وخلاله. كيف يصورها النقد الحديث. وفاة ابن الأحمر. لبثت غرناطة في ظل الدولة الأموية، قاعدة متواضعة من قواعد الأندلس الجنوبية، وهي تحتل مكان إلبيرة شيئاً فشيئاً، حتى كانت أيام الفتنة عقب انهيار الدولة الأموية في أواخر القرن الرابع، فأخذت القواعد الجنوبية تغدو، بعد تخريب قرطبة، ونأى القواعد والثغور الشرقية والشمالية، مركز التجاذب والتنافس بين زعماء الفتنة. ووقعت غرناطة يومئذ في نصيب البربر، واستولى عليها زعيم صنهاجة زاوى بن زيرى واتخذها دار ملكه، وقامت في قرطبة دولة بني حمود الإدريسية. واستمرت الحرب والفتنة مدى حين، سجالا بين المتغلبين من فلول بني أمية وبنى عامر، وفتيانهم ومواليهم، وبين زعماء البربر. ولما ظهر المرتضى، وهو من عقب

بني أمية، ودعا لنفسه بالخلافة، سار في عصبة الأمويين والموالى إلى غرناطة، لانتزاعها واتخاذها دار ملكه، فرده عنها صاحبها زاوى الصنهاجى في موقعة دموية (408 هـ). واستقر زاوى في حكم غرناطة وأعمالها بضعة أعوام، ثم غادرها إلى دار قومه في تونس، واستخلف عليها ابن أخيه حبوس بن ماكسن، فحكمها حتى توفى في سنة 429 هـ. وخلفه في ولايتها ولده باديس وتلقب بالمظفر، واستولى على مالقة من يد الأدارسة (بني حمُّود)، واتسع ملكه، ولبث طول حكمه الذي استطال حتى سنة 467 هـ، في قتال مستمر مع بني عباد أمراء إشبيلية، أعظم وأقوى ملوك الطوائف يومئذ. ولما توفى باديس المظفر، خلفه في حكم غرناطة وأعمالها، حفيده عبد الله بن بُلُكِّين بن باديس، واستمر في حكمها إلى أن عبر المرابطون البحر إلى الأندلس في سنة 483 هـ، بقيادة عاهلهم يوسف بن تاشفين، واستولوا عندئذ على غرناطة، كما استولوا على قواعد الأندلس الأخرى، وانتهت بذلك دول الطوائف، التي قامت على أنقاض الخلافة الأموية، وعاشت زهاء ستين عاماً. واستمر المرابطون في حكم الأندلس وقواعدها، زهاء ستين عاماً أخرى؛ وتعاقب في حكم غرناطة عدة من أمراء اللمتونيين (¬1) وسادتهم، من قرابة يوسف بن تاشفين. فلما انهارت دولتهم في المغرب، جاز الموحدون المتغلبون على دولتهم إلى الأندلس في سنة 541 هـ (1147 م)، وأخذوا يستولون تباعاً على القواعد والثغور، واستولوا أولا على قواعد المغرب، شلب وميرتلة وباجة، ثم استولوا على إشبيلية في أواخر سنة 541 هـ، فقرطبة في سنة 543 هـ، واعتصم المرابطون بغرناطة بضعة أعوام أخرى، ثم اضطروا أخيراً إلى تسليمها إلى الموحدين وذلك في سنة 551 هـ (1156 م). ولبثت غرناطة كباقى القواعد الأندلسية في أيدى الموحدين، يتناوب حكمها الأمراء والسادة من بني عبد المؤمن وقرابته، حتى كانت ثورة أبي عبد الله محمد ابن يوسف بن هود سليل بني هود أمراء سرقسطة السابقين، على الموحدين، وانتزاعه معظم قواعد الأندلس من أيديهم. وذلك أنه لما توفى أبو يعقوب يوسف المستنصر بالله خليفة الموحدين، في سنة 620 هـ دون عقب، أقام الموحدون مكانه السيد أبا محمد عبد الواحد ¬_______ (¬1) لمتونة هو اسم القبيلة التي ينتمى إليها المرابطون، ولذا يسمون أحياناً باللمتونيين.

الأندلس والممالك النصرانية الإسبانية في أواخر عصر الموحدين (أوائل القرن الثالث عشر).

خريطة: الأندلس والممالك النّصرانية الإسبانيّة في أواخر عصْر الموحّدين (أوائل القرن الثالث عشر).

ابن يوسف بن عبد المؤمن، الملقب بالمخلوع، ولكن الأمور لم تهدأ بذلك ولم تستقر، إذ ظهر بالأندلس، مدع جديد للخلافة، هو السيد أبو محمد عبد الله ابن يعقوب المنصور، والى مرسية، وأعلن نفسه خليفة للموحدين باسم العادل، وذلك في شهر صفر سنة 621 هـ. وأيدته في دعوته معظم القواعد الكبرى، وكان ولاة قرطبة وغرناطة ومالقة، وإشبيلية، يومئذ من أخوته، أولاد المنصور. ثم سار العادل إلى إشبيلية، وهنالك وصلته بيعات أهل مراكش وبلاد المغرب. وقام أشياخ الموحدين بمراكش بخلع الخليفة أبي محمد عبد الواحد، ثم دبروا قتله غيلة (شعبان 621 هـ) وعندئذ قرر العادل العبور إلى المغرب، وترك أخاه السيد أبا العلاء إدريس بن المنصور والياً لإشبيلية، وهي يومئذ قاعدة الحكم الموحدى بالأندلس. وعبر العادل البحر إلى المغرب في أواخر سنة 622 هـ. وتربع على كرسى الخلافة. وكانت أحوال الدولة الموحدية قد ساءت يومئذ ومزقتها الأهواء والفتن، وتضعضع سلطانها في معظم أنحاء المغرب والأندلس. ولم يمض قليل على قيام العادل في الخلافة حتى خرج عليه بالأندلس، أخوه أبو العلاء إدريس والى إشبيلية، ودعا لنفسه، وتسمى بالمأمون، وكان من أعداء هذه الحركة الجديدة في مراكش أن قام الموحدون بقتل العادل، ولكنهم لم يعلنوا بيعة المأمون، بل أقاموا مكانه في الخلافة ولد أخيه، يحيى بن الناصر (شوال 624 هـ) ولما علم المأمون بذلك، استشاط سخطاً، وقصد إلى فرناندو الثالث ملك قشتالة، وطلب إليه العون على انتزاع العرش من ابن أخيه، وقدم إليه عدداً من الحصون الأندلسية الهامة، ودفع إليه مبلغاً طائلا من المال، وتعهد بأن يمنح النصارى في مراكش امتيازات عديدة، وأن يسمح لهم ببناء كنيسة لهم، وفي نظير ذلك أمده ملك قشتالة بفرقة من جنوده ليستعين بها على مقاتلة خصمه. وعبر المأمون إلى المغرب في حشوده من العرب والموحدين والقشتاليين، وذلك في أواخر سنة 626 هـ (1228 م)، وقصد تواً إلى مراكش. وخرج الخليفة يحيى بن الناصر للقائه في قواته. ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها يحيى، وفر ناجياً بنفسه، ودخل المأمون مراكش، وتربع على كرسى الخلافة. وكان المأمون، أميراً وافر الهمة والعزم، يجيش بمشاريع وأطماع عظيمة. فقضى الأعوام القلائل التالية في العمل على توطيد سلطانه بالمغرب، واستبد بالحكم

واستعمل الشدة والعنف، في قمع كل نزعة إلى الخروج، وقضى بمرسومه الشهير، على رسوم المهدى ابن تومرت وتعاليمه ونظام حكومته، باعتبارها نظماً رجعية، لا تتفق مع روح الدين الصحيح، وفتك بخصومه والناكثين لبيعته من الموحدين وغيرهم. فسرت روح السخط إلى معظم القبائل، وأخذ الزعماء المتوثبون يرقبون الفرص. ثم مرض المأمون وتوفى فجأة، وهو في إبان سطانه ومشاريعه، وذلك في شهر ذى الحجة سنة 629 هـ (1232 م)، فخلفه ولده الفتى أبو محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد. وبينما كان المغرب يضطرم بعوامل الثورة والانتقاض على هذا النحو، وكرسى الخلافة الموحدية يهتز إزاء أطماع الخوارج والمتوثبين، كان سلطان الموحدين بالأندلس يهتز في الوقت نفسه، ويتداعى بسرعة، وينهار حكمهم تباعا. ففي تلك الآونة، ظهر زعيم أندلسى جديد، ينتمى إلى بيت عريق في الزعامة والملوكية، هو محمد بن يوسف بن هود الجذامى، وهو سليل بني هود ملوك سرقسطة القدماء، وكان يومئذ فتى متواضعاً من أهل مرسية من طوائف الجند. ظهر يدعو إلى دعوة جديدة، تمثل فيها روح الأندلس الحقيقية، وهي وجوب العمل على تحرير الأندلس من نير الموحدين والنصارى معا. وكان تحالف المأمون مع ملك قشتالة، وتنازله له عن الحصون الأندلسية، وتعهده بأن يمنح النصارى في أراضيه امتيازات خاصة، وذلك مقابل عونه له بالجند على محاربة خصومه: كان ذلك يسبغ على دعوة ابن هود قوة خاصة، ويدفع الأندلسيين إلى الانضواء تحت لوائه. وظهر ابن هود لأول مرة في أحواز مرسية في سنة 625 هـ (1228 م)، في الوقت الذي أخذ فيه سلطان الموحدين، يضطرب ويتصدع في الثغور والنواحى، ثم أغار على مرسية في عصبته القليلة، واستطاع أن ينتزعها من يد حاكمها الموحدى السيد أبي العباس. وأخذ نجمه يتألق من ذلك الحين، فأعلن أنه يعتزم تحرير الأندلس من الموحدين والنصارى معاً، والعمل على إحياء الشريعة وسننها، ودعا للخلافة العباسية، وكاتب الخليفة المستنصر العباسى ببغداد، فبعث إليه بالخلع والمراسيم، وتلقب بالمتوكل على الله. ولم يمض سوى قليل حتى دخلت في طاعته عدة من قواعد الأندلس، ومنها جيان وقرطبة وماردة وبطليوس. ثم استطاع أن ينتزع غرناطة

قصبة الأندلس الجنوبية، من المأمون وذلك في سنة 628 هـ (1231 م) (¬1). وفي العام التالى (629 هـ) توفى المأمون خليفة الموحدين حسبما تقدم، وهو في طريقه إلى مراكش، ليعمل على إنقاذ عرشه من المتغلبين عليه. وبينما كان سلطان الموحدين بالأندلس يدنو سراعاً من نهايته، كانت دولتهم بالمغرب تدخل في دور الانحلال وتجوز مراحلها الأخيرة. وبالرغم من أنه لاح مدى لحظة، في ظل الخليفة أبي الحسن على السعيد (640 - 646 هـ)، الذي خلف الرشيد، أن الدولة الموحدية سوف تنهض من كبوتها، وتسترد قوتها، وتصمد أمام هجمات بني مَرين المتوالية، فإن مصرع السعيد الفجائى في الحرب ضد أمير تلمسان، قضى على هذه البارقة. ثم جاء الخليفة المرتضى بالله (646 - 665 هـ)، فضمت الخلافة الموحدية في ظله سراعاً إلى المنحدر، ثم اختتمت حياتها، بعد ذلك بقليل في فاتحة سنة 668 هـ (سبتمبر 1269 م)، على يد آخر خلفائها الواثق أبي دبوس، لتقوم على أنقاضها دولة بني مرين الفتية الشامخة. وقد خاض ابن هود، قبل أن تستقر دعوته، مع الموحدين والنصارى معارك متوالية. فأما عن صراعه مع الموحدين، فقد بذل الخليفة المأمون قبل عبوره إلى المغرب محاولة لإخماد حركة ابن هود في المشرق، فلم يفلح (626 هـ)، وكان من أثر هذا الفشل، أن تمكنت دعوة ابن هود، وقامت إشبيلية عاصمة الأندلس الموحدية بالدخول في طاعته. على أن ابن هود لم يحرز مثل ذلك التوفيق في محاربة النصارى. ذلك أن ألفونسو التاسع ملك ليون، رأى أن ينتهز فرصة اضطراب الأحوال في الأندلس، وانهيار سلطان الموحدين في شبه الجزيرة، فخرج في قواته إلى منطقة الغرب الأندلسية، وزحف على مدينة ماردة، وضرب حولها الحصار. ولما علم ابن هود بذلك، سار في بعض قواته نحو الغرب لينقذ المدينة المحصورة، واشتبك مع الليونيين في معركة هزم فيها، واستولى الليونيون على ماردة، ثم احتلوا بعد ذلك بقليل مدينة بطليوس، وذلك في أواسط سنة 627 هـ (1230 م). وكان فرناندو الثالث ملك قشتالة، وهو ولد ألفونسو التاسع ملك ليون، يرقب الفرصة في نفس الوقت، لينتزع ما يمكن انتزاعه من أراضى الأندلس المتاخمة لقشتالة. فسير قواته لمقاتلة ابن هود، وقد كان يبدو في نظره ¬_______ (¬1) تحدثنا عن ظهور ابن هود تفصيلا في كتابنا (عصر المرابطين والموحدين) القسم الثاني ص 389 - 393.

يومئذ زعيم الأندلس الحقيقى. وكان ابن هود قد استطاع في تلك الآونة، أن يبسط سلطانه على الولايات والشواطىء الجنوبية، فيما بين الجزيرة الخضراء وألمرية، وفيما بين قرطبة وغرناطة، وكان يرى في مقاتلة النصارى عاملا لتدعيم دعوته وسلطانه. فسار للقائهم والتقى الجيشان في فحص شريش على ضفاف نهر وادى لكه، ولكن ابن هود هزم للمرة الثانية بالرغم من تفوقه في العدد (أواخر 630 - 1233 م)، وسار فرناندو بعد ذلك لاجتياح أبدة، فسقطت في يده بعد حصار قصير (631 هـ - 1234 م). على أن سقوط قرطبة كان أعظم ضربة نزلت يومئذ بالأندلس. وكان ابن هود عقب هزيمته في شريش، قد جمع قواته، وسار لقتال خصمه ومنافسه الجديد محمد بن الأحمر في أحواز غرناطة، وألفى النصارى من جانبهم الفرصة سانحة للزحف على قرطبة. وكانت عاصمة الخلافة القديمة، بالرغم من دخولها في طاعة ابن هود، تعانى من حالة مؤلمة من الاضطراب والفوضى، ولم يكن لها حاكم أو زعيم يجمع الكلمة أو يتزعم حركة الدفاع ضد النصارى. وكان القشتاليون في الحصون القريبة، يشعرون بضعف العاصمة التالدة، وإمكان مهاجمتها، فاجتمعت بعض قوى الفرسان القشتالية المرابطة في حصون الحدود، وسارت نحو قرطبة، وهاجمت قسمها الشرقى المسمى " بالشرقية"، واقتحمته ليلا، وعلى غرة من أهله، واستطاعوا الاستيلاء على بعض أبراجه، ولكنهم رأوا أن الاستيلاء على المدينة ذاتها ليس بالأمر السهل، ولابد لتحقيقه من قوات ضخمة. وعلم فرناندو الثالث، وهو في طريقه إلى ليون بما تم من استيلاء قواته على بعض أبراج المدينة، وبما تبين من ضعف وسائل الدفاع عنها، فارتد إليها مسرعاً تلاحقه قواته من سائر الأنحاء، وضرب الحصار حول المدينة، وبادر أهل قرطبة بالتأهب للدفاع عن مدينتهم، وأرسلوا إلى ابن هود أميرهم الشرعى، يطلبون الغوث والإنجاد. وقدر ابن هود خطورة الموقف، واعتزم في الحال أن يسير إلى إنجاد المدينة المحصورة، فسار في قواته نحو قرطبة، ونزل في إستجة على مقربة منها، ولكنه لبث جامداً لا يحاول الاشتباك مع النصارى. وفي بعض الروايات أن ابن هود رأى جيش القشتاليين يفوقه في الأهبة والكثرة، فنكل عن الاشتباك معه. وفي البعض الآخر، أن ابن هود، وصله وهو على مقربة قرطبة صريخ أبي جميل

زيان زعيم بلنسية لمعاونته ضد خايمى (¬1) ملك أراجون، الذي اشتد في مناوأته وإرهاقه؛ ولاح له أن السير إلى بلنسية التي كان يطمح إلى امتلاكها أيسر وأجدى، فترك قرطبة لمصيرها، مؤملا أن يصمد أهلها للدفاع عنها، أو يستطيع إنقاذها فيما بعد. ولبث النصارى على حصار قرطبة بضعة أشهر، ودافع القرطبيون عن مدينتهم وعن دينهم وحرياتهم، أعنف دفاع وأروعه، ولكنهم اضطروا في النهاية، وبعد أن أرهقهم الحصار، وفقدوا كل أمل في الغوث والإنقاذ، إلى التسليم. ودخل القشتاليون قرطبة في 23 شوال سنة 633 هـ (29 يونيه سنة 1236 م)، وفي الحال حولوا مسجدها الجامع إلى كنيسة (¬2). وقد كان هذا شعارهم كلما دخلوا قاعدة أندلسية، وذلك إيذاناً بظفر النصرانية على الإسلام. وكان لسقوط العاصمة الخلافية التالدة، أعظم وقع في الأندلس وفي سائر جنبات العالم الإسلامى، وكان ضربة مميتة أخرى صوبتها اسبانيا النصرانية، إلى قلب الأندلس المفككة المنهوكة القوى (¬3). ولم يلبث ابن هود أن توفى بعد ذلك بقليل في أوائل سنة 635 هـ (1237 م). وكانت وفاته في ثغر ألمرية، في ظروف غامضة. وكان قد سار إليها معتزماً أن ينقل بعض قواته في البحر لإنجاد أمير بلنسية، فقيل إن وزيره ونائبه في ألمرية أبا عبد الله محمد بن عبد الله الرميمى استضافه في قصره، ودبر قتله غيلة، وزعم في اليوم التالى أنه توفى مصروعاً. وكان الرميمى قد قام بدعوته في ألمرية ووفد عليه في مرسية، فقدر ابن هود عونه، وولاه وزارته وعينه حاكماً لألمرية، ثم تغير ¬_______ (¬1) خايمى Jaime وهو الرسم الإسبانى لاسم يعقوب. (¬2) وما زال جامع قرطبة العظيم قائماً إلى يومنا بأروقته وعقوده وأعمدته الإسلامية كاملا كما كان أيام المسلمين. بيد أنه حول إلى كنيسة قرطبة الجامعة، وأقيمت الهياكل في سائر جوانبه تحت عقوده القديمة، وأقيم في وسطه مصلى كبير على شكل صليب Crucéro، وقد أزيلت قبابه ونقوشه الإسلامية. ولم يبق محتفظاً بنقوشه القديمة سوى محاريبه الثلاثة. وما زال هذا الأثر الأندلسى العظيم إلى جانب تسميته بكتدرائية قرطبة يحمل اسمه الإسلامى القديم " المسجد الجامع " La Mezquita Aljama. راجع كتابى الآثار الأندلسية الباقية (الطبعة الثانية ص 20 - 33). (¬3) راجع في سقوط قرطبة، ابن خلدون ج 4 ص 169 و 183؛ ونفح الطيب ج 2 ص 585 حيث يشير إليه إشارة عابرة مع تحريف في التاريخ، إذ يذكر أن سقوطها كان في سنة 636 هـ. وراجع التكملة لابن الأبار (القاهرة) ص 202. وقد تحدثنا عن سقوط قرطبة تفصيلا في كتابنا " عصر المرابطين والموحدين " القسم الثاني (ص 418 - 425).

عليه فيما يقال من أجل جارية نصرانية رائعة الحسن، كان يودعها لديه وقد أغراها الرميمى واستأثر بها، فسار إلى ألمرية لمعاقبته، وخشى الرميمى العاقبة فدبر مصرعه، ولجأ إلى الجريمة احتفاظاً بسلطانه. وكان مصرع ابن هود على هذا النحو في الرابع والعشرين من جمادى الأولى سنة 635 هـ (21 يناير 1138 م) (¬1). وهكذا توفى ابن هود وهو في ذروة سلطانه ومشاريعه، ولم تطل وثبته التي لبثت إلى الأندلس مدى لحظة قصيرة أملا خلباً، سوى بضعة أعوام، فانهارت بوفاته دولته التي لم يتح لها كثير من أسباب الاستقرار والتوطد (¬2). وكان المتوكل بن هود أميراً شجاعاً، كريم الصفات، يضطرم إخلاصاً وغيرة للقضية التي نصب نفسه للاضطلاع بها، ولكنه لم يكن بصفاته وموارده كفؤا لتلك المهمة العظيمة، وكانت تعتور جهوده نفس المثالب القديمة التي كانت تصدع دائماً من جهود الزعماء الأندلسيين، والتي تتلخص في مصانعة النصارى، ومداراتهم، ومساومتهم على حساب المصالح القومية. وعلى أثر وفاة ابن هود وانهيار دولته، بادر خايمى ملك أراجون بانتهاز الفرصة السانحة فغزا ولاية بلنسية. وكان قد استولى قبل ذلك بأعوام قلائل على الجزائر الشرقية (جزائر البليار) في سنة 627 - 632 هـ (1230 - 1235 م). وكانت بلنسية، في الوقت الذي اضطرم فيه شرقى الأندلس بثورة ابن هود، ما تزال في أيدى الموحدين، ويحكمها واليها السيد أبو زيد عبد الرحمن بن محمد ابن يوسف بن عبد المؤمن. ولما استولى ابن هود على مرسية، خرج السيد أبو زيد في قواته لمحاربته، ولكنه ارتد مهزوما إلى بلنسية. فكان لذلك وقع عميق في بلنسية ذاتها، ونهض الشعب البلنسى ليحطم نير الموحدين، وشعر السيد أبو زيد بحرج الموقف، ونهض في نفس الوقت زعيم من آل مردنيش، زعماء بلنسية السابقين، هو الأمير أبو جميل زيان بن مردنيش، يحاول انتزاع السلطة، والتف حوله الشعب البلنسى، وعندئذ بادر السيد أبو زيد، وغادر بلنسية في أهله وأمواله والتجأ إلى أحد الحصون القريبة، ولكنه لما رأى تفاقم الموقف، اعتزم أمره ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 169، ونفح الطيب ج 2 ص 582 و 583، والبيان المغرب القسم الثالث ص 235 و 236. (¬2) راجع في ثورة ابن هود ووفاته، ابن خلدون ج 4 ص 168 - 170؛ والإحاطة ج 2 ص 90 - 94؛ ونفح الطيب ج 2 ص 581 - 583.

سار ملتجئاً إلى خايمى الأول ملك أراجون (626 هـ)، وعقد معه معاهدة تعهد فيها بأن يعطيه جزءاً من الحصون والأراضى الإسلامية التي يستردها أو يفتتحها، ثم زاد على ذلك، بأن اعتنق النصرانية، وانضم بكليته إلى أعداء أمته ودينه، وأخذ يسير مع حلفائه النصارى في غزواتهم المتوالية لأراضى بلنسية. وأخذ الملك خايمى يستولى تباعا على حصون بلنسية الأمامية، ثم هزم البلنسيين، بقيادة أميرهم زيان، هزيمة شديدة في موقعة أنيشة (ذى الحجة 634 - أغسطس 1237). ولم تمض على ذلك أشهر قلائل، حتى سار خايمى في قواته صوب بلنسية وضرب حولها الحصار (رمضان 635 هـ)، وأخذ يضربها بالآلات المخربة. ودافع البلنسيون عن مدينتهم أشد دفاع، وبعث الأمير أبو جميل كاتبه الفقيه الشاعر المؤرخ، ابن الأبار القضاعى بصريخه سفيراً إلى الأمير أبي زكريا الحفصى عاهل إفريقية، وألقى ابن الأبار بين يديه قصيدته السينية الرائعة التي نشير إليها فيما بعد، وبعث الأمير أبو زكريا عدة من السفن محملة بالعتاد والأموال إنجادا للمدينة المحصورة ولكنها لم تستطع اختراق الحصار، واضطر البلنسيون آخر الأمر إلى التسليم بعد أن استنفذوا كل وسائل الدفاع، وسقطت بلنسية في أيدى الأرجونيين، وذلك في اليوم السابع والعشرين من شهر صفر سنة 636 هـ (9 أكتوبر سنة 1238 م) (¬1)، وانهارت بذلك سائر خطط الدفاع عن شرقى الأندلس. وأتبع خايمى فتح بلنسية بالاستيلاء على شاطبة ودانية ولقنت وأوريولة وقرطاجنة، وذلك في سنة 641 - 644 هـ. وأما ولاية مرسية فقد استولى عليها في البداية الأمير أبو جميل زيان، عقب فقده لبلنسية، ولكن الزعماء المحليين آثروا الانضواء تحت حماية ملك قشتالة، فتقدموا إليه يلتمسون مهادنته ومحالفته على الوضع المأثور، وهو أن يسمح لهم باستبقاء مدنهم في طاعته وتحت حمايته، فأجابهم فرناندو ملك قشتالة إلى ملتمسهم، وبعث إليهم ولده ألفونسو. ودخل النصارى مرسية صلحاً سنة 640 هـ (1243 م). وبذلك سقطت ولاية بلنسية ومرسية وشرقى الأندلس كله في أيدى النصارى في أعوام قلائل فقط، وكانت نفس المأساة تتكرر في ذلك الوقت نفسه، بصورها وأوضاعها المحزنة، في غربي الأندلس حسبما نفصل بعد (¬2). ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 167. والحلة السيراء لابن الأبار ص 190. (¬2) تناولنا حصار بلنسية وافتتاحها، وسقوط باقى قواعد الشرق تفصيلا في كتابنا "عصر المرابطين والموحدين" القسم الثاني ص 437 - 464.

- 2 - وفي تلك الآونة العصيبة، التي أخذت فيها قواعد الأندلس العظيمة: قرطبة، وبلنسية ومرسية وإشبيلية، تسقط تباعاً في يد النصارى، والتي أخذت الأندلس تواجه فيها شبح الفناء من جديد كما واجهته أيام الطوائف، كانت عناصر الفتنة والفوضى تتمخض عن قيام مملكة إسلامية جديدة في جنوبى الأندلس هي مملكة غرناطة. وقيام هذه المملكة في الطرف الجنوبى للدولة الإسلامية القديمة، يرجع إلى عوامل جغرافية وتاريخية واضحة. ذلك أن القواعد والثغور الجنوبية التي تقع فيما وراء نهر الوادى الكبير آخر الحواجز الطبيعية، بين اسبانيا النصرانية وبين الأندلس المسلمة، كانت أبعد المناطق عن متناول العدو وأمنعها، وكانت في الوقت نفسه أقربها إلى الضفة الأخرى من البحر، إلى عُدوة المغرب وشمال إفريقية حيث تقوم دول إسلامية شقيقة، وحيث تستطيع الأندلس وقت الخطر الداهم، أن تستمد الغوث والعون من إخوانها في الدين. وقد كان لها في ذلك منذ أيام الطوائف أسوة، بل لقد كان صريخ الأندلس يتردد في تلك الآونة ذاتها على لسان شاعرها وسفيرها ابن الأبار القضاعى، حينما دهم العدو بلنسية في سنة 635 هـ (1237 م)، وكان الصريخ موجهاً من أميرها أبي جميل زيان، إلى أبي زكريا الحفصى ملك إفريقية (تونس)، وهو الذي ردده الشاعر في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: (¬1) أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل عز النصر منك ملتمسا وحاش مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً ... للحادثات وأمسى جدها تعسا في كل شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا وكل غاربة إجحاف نائبة ... تثنى الأمان حذاراً والسرور أسى تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النَّفسا مدائن حلها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا وصيرتها العوادى العابثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا ¬_______ (¬1) تراجع هذه القصيدة في نفح الطيب ج 2 ص 578 وما بعدها؛ وفي أزهار الرياض ج 3 ص 207 وما بعدها، وهي من غرر القصائد الأندلسية السياسية.

وفي قول الشاعر يتمثل هذا المغزى التاريخى. الذي لبث أحقاباً يربط بين الأندلس وبين الدول الإسلامية الشقيقة في عدوة المغرب، وقد كان يتمثل واضحاً كلما اشتد الخطر بالأمة الأندلسية، ولاح لها شبح الفناء في جزيرتها المنقطعة قوياً رهيباً. وقد قامت مملكة غرناطة، التي شاء القدر أن تكون ملاذ الأمة الأندلسية دهراً طويلا آخر، في ظروف متواضعة. وذلك أنه لما ضعف أمر الموحدين بالأندلس، وخرج عليهم محمد بن يوسف بن هود الملقب بالمتوكل كما قدمنا، وأخذت قواعد الأندلس تخرج من قبضتهم تباعاً، ينتزع بعضها ابن هود وثوار النواحى، والبعض الآخر ينتزعه النصارى، كان من الزعماء الذين ظهروا أثناء الفتنة محمد بن يوسف النصرى المعروف بابن الأحمر سليل بني نصر، وهم في الأصل سادة حصن أرجونة (¬1) من أعمال ولاية جيّان. وهو محمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن خميس بن نصر ابن قيس الخزرجى. ويُرجع بنو نصر نسبتهم إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج وأحد أكابر الصحابة، فهم بذلك من أعرق البطون العربية. وقد أشار إلى هذه النسبة بعض مؤرخى الأندلس ومنهم الرازى (¬2). وكان لبنى نصر وجاهة وعصبية. وولد محمد بن يوسف في أرجونة سنة 595 هـ (1198 م) ونشأ في مهاد الفضيلة والتقشف جندياً وافر الجرأة والعزم، يتزعم قومه، ويقودهم إلى مواطن النضال، وكان بالرغم من تقشفه وتواضعه يجيش بأطماع كبيرة، وكانت حوادث الأندلس يومئذ تقدم لأولى العزم والإقدام كثيراً من فرص الظهور والمغامرة، فلما تفاقمت الفتنة، واضطربت الشئون في الثغور والنواحى، وكثرت غزوات النصارى لقواعد الأندلس، وظهر ابن هود على الموحدين في الثغور الشرقية، لاحت لمحمد ابن يوسف فرصة العمل. وكان هذا الزعيم المتواضع الموهوب معاً، يبدو لكثير من الزعماء وذوى الرأى، معقد الآمال في إنقاذ ما بقى من تراث الأندلس، فالتفت حوله الصحب والأنصار، أولا في أرجونة موطن أسرته وعصبته، وفي الجهات المجاورة لها. وبينما كان ابن هود يعمل لتوطيد سلطانه في شرقى الأندلس وجنوبها، كان محمد بن يوسف يعمل من جانبه في الأنحاء الوسطى، ولم يلبث ¬_______ (¬1) ومكانه اليوم بلدة أرجونه Arjona وهي بلدة صغيرة تقع شمال غربي مدينة جيان، وجنوبى بلدة أندوجر. (¬2) ابن خلدون ج 4 ص 170، والإحاطة ج 1 ص 158 وج 2 ص 59 و 60، وأزهار الرياض ج 1 ص 167.

أن أطاعته جيّان وبسطة ووادى آش وما حولها من البلاد والحصون، وبسط حكمه على تلك الأنحاء بالرغم من معارضة ابن هود. ثم اتجه ببصره إلى القواعد والثغور الجنوبية باعتبارها أقرب ميدان للعمل، وأبعد الأماكن عن متناول العدو، ورأى في الوقت نفسه، أن يستظل بدعوة أحد الأمراء المسلمين الظاهرين، فدعا للأمير أبي زكريا الحفصى صاحب إفريقية (تونس) وتلقى منه بعض العون. وقيل أيضاً إنه حذا حذو ابن هود في الدعاء للخليفة المستنصر بالله العباسى؛ ونادت قرمونة وقرطبة وإشبيلية بطاعته لمدى قصير وذلك في أواسط سنة 629 هـ، ثم عدلت قرطبة وإشبيلية عنه إلى طاعة ابن هود. ولما اضطرمت الثورة في إشبيلية، واستطاع زعيمها القاضى أبو مروان الباجى أن يبسط حكمه عليها، وأن يخرج منها عامل ابن هود، بادر محمد بن يوسف إلى محالفته على معارضة ابن هود ومقاتلته، وهزماه سوياً في بعض المواقع. ولكن محمداً غدر بعد ذلك بالباجى ليخلو له الجو ودس عليه من قتله. ولم يمض قليل على ذلك حتى أطاعته شَريش ومالقة، وكثير من القواعد والحصون القريبة (سنة 630 هـ). أما إشبيلية وقواعد غربي الأندلس فقد احتفظت باستقلالها في ظل بعض الزعماء المحليين. وهرع إلى لوائه كثير من المسلمين الذين غادروا المدن التي وقعت في يد النصارى، واستطاع أن يحشد جيشاً كبيراً من الفرسان والرجالة، يؤازره في تنفيذ خططه ومشاريعه (¬1). ولما قويت دعوة ابن هود، وامتد سلطانه نحو الغرب والجنوب، واستولى على غرناطة وأقره الخليفة العباسى على دعوته، رأى محمد بن يوسف (ابن الأحمر) مصانعته والانضواء تحت لوائه، فانحاز إليه وجاهر بطاعته (631 هـ) ولكن ابن هود ما لبث أن توفى في أوائل سنة 635 هـ وانهارت دولته كما قدمنا. وعندئذ بادر محمد بن يوسف إلى العمل، لاجتناء تراثه في الأنحاء الوسطى. وكان ابن هود قد ولى على غرناطة عتبة بن يحيى المغيلى، وكان خصما لابن الأحمر يأمر بسبه على المنابر، وكان ظلوماً جائراً، فلما اشتدت وطأته على أهل غرناطة، ثار عليه جماعة من أشرافها بزعامة ابن خالد، واقتحموا القصبة والقصر في عصبتهم، وقتلوا عتبة وأعلنوا طاعتهم لابن الأحمر، وبعثوا إليه يستدعونه؛ فسار ابن الأحمر إلى غرناطة ودخلها عند مغيب الشمس في يوم من أواخر رمضان ¬_______ (¬1) البيان المغرب القسم الثالث ص 279، وابن خلدون ج 4 ص 169، واللمحة البدرية في الدولة النصرية لابن الخطيب ص 31.

سنة 635 هـ (أبريل سنة 1238 م)، وهو يرتدى ثياباً خشنة وحلة مرقعة، ونزل بجامع القصبة وأم الناس لصلاة المغرب، ثم خرج من المسجد إلى قصر باديس، والشموع بين يديه، ونزل فيه مع خاصته، وبذا غدت غرناطة حاضرته ومقر حكمه، وكان ذلك لأشهر قلائل فقط من وفاة ابن هود (¬1). وما كاد ابن الأحمر يستقر في حاضرته الجديدة، حتى عول على افتتاح ألمرية وسحق ابن الرميمى وزير ابن هود وقاتله، فسار إليها في بعض قواته وحاصرها مدة، فلما اشتد عليها الحصار غادرها الرميمى من جهة البحر بأهله وماله في سفينة خاصة، وسار إلى تونس مستظلا بحماية أميرها أبي زكريا الحفصى، وملك ابن الأحمر ألمرية وامتد بذلك سلطانه إلى سائر الشواطىء الجنوبية. وكان من أعظم أعوان محمد بن يوسف في تلك المعركة التي انتهت بتحقيق رياسته، أصهاره بنو أشقيلولة وهم أسرة قوية نابهة من المولدين. وكان كبيرهم أبو الحسن بن أشقيلولة من رجالات الأندلس وزعمائها وقت الفتنة، وكان من خصوم ابن هود ومن المقاومين لحركته، فانحاز إلى محمد بن يوسف منذ الساعة الأولى، وعاونه على مقاومة خصومه، وتوثقت أواصر الزعيمين بالمصاهرة، إذ تزوج أبو الحسن أخت محمد بن يوسف وتزوج ولده أبو محمد عبد الله بن أشقيلولة من ابنته. ولما استقام الأمر لابن الأحمر، ندب صهره أبا الحسن لحكم وادى آش، وندب أبا محمد لحكم مالقة. ولما توفى أبو الحسن خلفه في حكم وادى آش ولده أبو إسحق. وتمكن نفوذ بني أشقيلولة في الرياسة وكانوا عضداً لابن الأحمر، ولكن أطماعهم كانت تتجاوز حكم المدن، وكان ابن الأحمر في أواخر عهده يستريب بهم ويخشى بأسهم، وقد ظهرت أعراض انتقاضهم غير بعيد (¬2). ويرى المستشرق الإسبانى دى لاس كاخيجاس، أن قيام مملكة غرناطة في ظل بني نصر، يبدو لغزاً حقيقياً. ذلك أنها ولدت في ظروف غير ملائمة، بل ضعيفة ذابلة، ونشأ ابن الأحمر، لا كابن هود أو ابن مردنيش؛ وكلاهما ينتمى إلى أسرة حكمت ولاياتها منذ أيام الموحدين، ولكن وحيداً في بلده أرجونة ¬_______ (¬1) اللمحة البدرية ص 35؛ وراجع الذخيرة السنية في تاريخ الدولة المرينية، وهو مؤلف مجهول (طبع الجزائر سنة 1920) ص 60، وفيه أن دخول ابن الأحمر مدينة غرناطة كان في آخر رمضان سنة 636 هـ. ولكن معظم الروايات على أن دخوله كان في 635 هـ. (¬2) ابن خلدون ج 7 ص 197.

كحدث غير عادى، بل ودون رسوخ محلى. وقد كانت قوته الحقيقية، فضلا عن جرأة حركته، تتركز في أسرته الخاصة، وفي جمع من الأصدقاء والحلفاء مثل بني أشقيلولة المولدين. ثم يبدى دهشته من أن مملكة غرناطة بالرغم من تكوينها من هضاب وبسائط يغلب عليها القفر أكثر مما يغلب الخصب، وامتداد رقعتها من جيّان شمالا إلى الجزيرة جنوباً، وبالرغم من أن الجند النصارى كانوا في أحيان كثيرة يخترقونها يسهولة حتى مرج غرناطة، فإن هذه العوامل كلها لم تكن شيئاً إزاء الحوادث المستقبلة. ولم يمنع تردد مؤسسها وتقلبه، ولا ظروفها الجغرافية والاقتصادية السيئة، من تقدمها وازدهارها، ومن بقائها مدى قرنين ونصف سليمة موطدة، وهي خلال هذا المدى الطويل تستأثر بأطماع النصارى الفتحية. ثم يقول: "حقاً إن ذلك كله لغريب، بل إنه لينبو عن الإيضاح" (¬1). وهكذا نشأت إمارة غرناطة الصغيرة، من غمر الفوضى التي سادت الأندلس، على أثر انهيار سلطان الموحدين، ولكنها كانت في حاجة إلى الاستقرار والتوطد، وكان محمد بن يوسف يواجه في سبيل هذه المهمة كثيراً من الصعاب، وكانت الأندلس قد مزقتها الحرب الأهلية شيعاً، وانتثرت إلى حكومات ومناطق عديدة، وكان ابن الأحمر يحظى بتأييد جمهرة كبيرة من الشعب الأندلسى ولا سيما في الجنوب. ولم يك ثمة ما يمنع من التفاف الأمة الأندلسية كلها حول لواء هذا الزعيم المنقذ، ولكن روح التفرق والتنافس كانت متأصلة في نفوس المتغلبين والطامعين، وكان أصاغر الزعماء والحكام يؤثرون الانضواء تحت لواء ملك النصارى، والاحتفاظ في ظله بمدنهم وقواعدهم، على مظاهرة ابن الأحمر والانضواء تحت لوائه. وحدث ذلك بنوع خاص في مرسية وشرقى الأندلس حسبما أشرنا من قبل، حيث ارتضى والى مرسية محمد بن على بن هود وحكام لقنت وأوريولة وقرطاجنة وجنجالة وغيرها، أن يعقدوا الصلح مع ملك قشتالة على أن يعترفوا بطاعته ويؤدوا له الجزية، وأن يبقوا متمتعين في ظله بحكم مدنهم ومواردهم. وعلى أثر ذلك سلمت مرسية ودخلها ألفونسو ولد فرناندو الثالث ملك قشتالة في احتفال فخم (شوال 640 هـ - أبريل 1243 م). وهكذا كان الخلاف بين أبناء الأمة الأندلسية في تلك الآونة العصيبة، ويذهب إلى حد التضحية ¬_______ (¬1) Isidro de la Cagicas: Los Mudéjares (Madrid 1918) p. 425 & 426.

بأقدس المبادىء وأسمى الاعتبارات، وكانت وشائج القومية والدين والخطر المشترك كلها، تغيض أمام الأطماع الشخصية الوضيعة، وكان فرناندو الثالث يرى فى ابن الأحمر بعد اختفاء ابن هود، زعيم الأندلس الحقيقى والخصم الذى يجب تحطيمه. وكان ابن الأحمر من جانبه يقدر خطورة المهمة التى ألقاها القدر على عاتقه، وكان يضطرم عزماً وإقداماً لمحاربة النصارى، واستخلاص تراث الوطن من أيديهم، فما كاد يستقر فى غرناطة حتى نشط إلى محاربة النصارى وكانوا قد عاثوا فى أحواز جيان وخربوها، وسار إلى قلعة مرتش (¬1) فى قوة كبيرة، وضرب حولها الحصار (636 هـ)، ولكن النصارى قدموا لإنجادها بسرعة، واضطر ابن الأحمر إلى رفع الحصار، ثم اشتبك فى معركة حامية مع النصارى، وكان يقودهم ردريجو ألونسو وهو أخ غير شرعى لفرناندو الثالث، وهزمهم هزيمة شديدة، قتل فيها قائد مرتش، وعدة من أكابر الفرسان وأحبار قلعة رباح. على أن مثل هذه المعارك المحلية لم تكن حاسمة فى سير الحوادث. وكان فرناندو الثالث يرقب نهوض هذه القوة الأندلسية الجديدة بعين التوجس ويتأهب لمقارعتها، فما كاد ينتهى من إخضاع الثغور الشرقية والاستيلاء على مرسية، حتى عمد إلى مهاجمة ابن الأحمر، وكان يتوق إلى الانتقام لموقعة مرتش، وبعث لقتاله جيشاًَ قوياً بقيادة ولده ألفونسو. وعاث النصارى فى منطقة جيان واستولوا على حصن أرجونة موطن بنى نصر، وعدة حصون وأماكن أخرى من أملاك أمير غرناطة، تم حاصروا غرناطة نفسها (642 هـ - 1244 م)، ولكنهم ردوا عن أسوارها بخسائر فادحة. وفى العام التالى زحف النصارى على جيان وحاصروها، حتى كادت تسقط فى أيديهم. فلما رأى ابن الأحمر تفوق النصارى وعبث المقاومة، آثر مصانعة ملك قشتالة ومهادنته، فسار إلى لقائه فى معسكره، وقدم إليه طاعته، ويرى بعض الباحثين أن قدوم ابن الأحمر على هذا النحو إلى فرناندو، إنما كان تنفيذاً لاتفاق سابق، تم فيه التفاهم على تحديد مملكة غرناطة (¬2). وعلى أى حال فقد تم الاتفاق على أن يحكم ابن الأحمر مملكته وأراضيه باسم ملك قشتالة وفى طاعته، وأن يؤدى له جزية سنوية، قدرها مائة وخمسون ألف قطعة من الذهب (دوبلاس)، وأن يعاونه فى حروبه ضد أعدائه، فيقدم إليه عدداً من الجند أينما طلب منه ذلك، ¬_______ (¬1) مرتش، وبالاسبانية Martos، بلدة حصينة تقع على مقربة من جنوب غربى مدينة جيان. (¬2) Prieto y Vives: De como debio nacer el Reino de Granada p. 14.

وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة النيابى (الكورتيس)، باعتباره من الأمراء التابعين للعرش (¬1). وسلم ابن الأحمر إلى فرناندو جيّان وأرجونة وبركونة وبيغ والحجار وقلعة جابر (¬2) رهينة بحسن طاعته، ونزل له عن أرض الفرنتيرة لعجزه عن الاحتفاظ بها (¬3). وفى مقابل هذا الثمن الفادح عقد ملك قشتالة السلم مع ابن الأحمر لمدة عشرين سنة، وأقره على ما بقى بيده من القواعد والحصون (643 هـ - 1245 م) (¬4). وهكذا أمنت غرناطة شر العدوان مدى حين، وقبل ابن الأحمر أن يضحى استقلاله السياسى وهيبته الأدبية احتفاظاً بأراضيه، وتطلعاً إلى ظروف أفضل يستطيع فيها النضال والصمود. وفى تلك الفترة العصيبة، كانت الفتنة تمزق ما بقى من أوصال الأندلس، ويهرع الزعماء المسلمون الأصاغر، إلى مصانعة ملك قشتالة والانضواء تحت لوائه، وكانت اسبانيا النصرانية قد انتهت من الاستيلاء على الولايات الشرقية كلها، ولم يبق عليها سوى التهام الولايات الغربية. ولم يكن مثل ابن الأحمر وهو أعظم زعماء الأندلس يومئذ، مشجعاً على غير هذا المسلك المؤلم. ففى سنة 645 هـ (1247 م) نزل القاضى ابن محفوظ وهو من زعماء الغرب لملك قشتالة عن مدينة طبيرة، والعلى، وشلب، والخزا نة، ومرشوشة، وبطرنا، والحرة (¬5). وكان فرناندو الثالث يتأهب فى تلك الآونة ذاتها، لافتتاح إشبيلية أعظم القواعد الأندلسية. وكان قد استطاع قبل ذلك بأشهر أن يستولى على مدينة قرمونة حصن إشبيلية الأمامى، وذلك بمعاونة محمد بن الأحمر، وفقاً للتحالف المعقود بينهما، ثم عمد ¬_______ (¬1) Cronica General (Ed. Pidal) Vol. I. p. 74. (¬2) البيان المغرب القسم الثالث ص 367، والذخيرة السنية ص 72. وجيان وبالاسبانية Jaen من قواعد الأندلس القديمة وتقع جنوب شرقى قرطبة، وشمال غرناطة. وأرجونة سبق التعريف بها. وبركونة Porcuna تقع جنوبى غربى أرجونة؛ والحجار Higuera تقع جنوب بركونة وكلتاهما من أعمال مدينة جيان، وبيغ أو بيغو Priego وتقع جنوب شرقى قرطبة. (¬3) ابن خلدون ج 7 ص 190، والفرنتيرة La Frontera هى المنطقة الساحلية الواقعة غربى الجزيرة الخضراء والممتدة من ثغر قادس جنوباً حتى طرف الغار. (¬4) الذخيرة السنية ص 73؛ واللمحة البدرية ص 36، والإحاطة ج 2 ص 65. (¬5) الذخيرة السنية ص 76. وتقع هذه الأماكن كلها فى ولاية " الغرب " Algarve فى جنوبى البرتغال، ويحدد موقعها طبيرة Tavira وهى تقع على المحيط على مقربة من الحدود الإسبانية؛ وشلب Silves وهى تقع فى أقصى جنوب البرتغال الغربى على مقربة من المحيط.

بعد ذلك إلى افتتاح باقى الحصون القريبة من إشبيلية. واستطاع ابن الأحمر بنصحه وتدخله، أن يقنع معظم أصحابها بتسليمها لملك قشتالة، مقابل تعهده بأن يحقن دماء المسلمين، وأن يمنحهم شروطاً سخية. ولم تأت أواسط سنة 1247 م (645 هـ) حتى كان ملك قشتالة، قد استولى على جميع الحصون الأمامية لإشبيلية، وانتسف سائر البسائط والضياع القريبة منها. وبدأ النصارى حصارهم لإشبيلية فى أغسطس سنة 1247 م (جمادى الأولى سنة 645 هـ). وحشد فرناندو حول المدينة المحصورة قوات عظيمة حشدت فى سائر أنحاء قشتالة، وتسابق الأمراء والأشراف والأحبار النصارى، فى الاشتراك فى هذه الحملة الصليبية الخطيرة، ورابط أسطول قشتالى قوى فى نهر الوادى الكبير إحكاماً لمحاصرة المدينة من جهة البحر، واضطر ابن الأحمر أن يقدم وفقاً لتعهده قوة من الفرسان للمعاونة فى حصار الحاضرة الإسلامية والاستيلاء عليها. وهكذا أرغم هذا الزعيم المسلم على أن يشرب الكأس المرة إلى الثمالة، فى محالفة أعداء وطنه ودينه. وتقول بعض الروايات الإسلامية، إن ابن الأحمر كان يرمى بمعاونة النصارى على هذا النحو، إلى الانتقام من أهل إشبيلية لخذلهم إياه ونكولهم عن طاعته (¬1). وصمم أهل إشبيلية على الدفاع عن مدينتهم جهد الاستطاعة، ولكن الموقف داخل المدينة كان غامضاً ومضطرباً. ذلك أن إشبيلية، مذ خلعت طاعة الموحدين، عند اضطراب أمرهم، وانهيار سلطانهم، كباقى القواعد الأندلسية، لم تقم بها زعامة موحدة، ولا تحدثنا الرواية الإسلامية عن أولئك الزعماء الذين ألقى القدر إليهم مهمة الدفاع عن إشبيلية فى تلك الآونة العصيبة، ولكنا نعرف بعض الأسماء من الرواية النصرانية المعاصرة، ومن بعض إشارات عابرة فى الرواية الإسلامية، فهى تذكر لنا قائد الفحص شقّاف، والرئيس ابن شعيب، ويحيى ابن خلدون، ومسعود بن خيار. وكان القائد شقاف، فى الواقع، هو الزعيم الحقيقى الذى يتولى أمر الدفاع، وعليه تعقد الآمال. وطال الحصار حول إشبيلية وأخذ يشتد يوماً بعد يوم، وكانت المدينة المحصورة تتلقى من وقت إلى آخر من عُدوة المغرب، بعض المؤن عن طريق الوادى الكبير. ولما تفاقمت أهوال الحصار وضع شاعر إشبيلية يومئذ إبراهيم بن سهل الإشبيلى الإسرائيلى، قصيدة مؤثرة يستصرخ فيها أهل العدوة، ويستحثهم على المبادرة إلى نصرة إخوانهم فى الدين وفيها يقول: ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 190.

وِرداً فمضمون نجاح المصدر ... هى عزة الدنيا وفوز المحشر نادى الجهاد بكم بنصر مضمر ... يبدونكم بين القنا والضُّمَّر خلوا الديار لدار عز واركبوا ... عبر العجاج إلى النعيم الأخضر وتسوغوا كدر المناهل فى السرى ... ترووا بماء الحوض غير مكدر يا معشر العرب الذين توارثوا ... شيم الحمية كابراً عن أكبر إن الإله قد اشترى أرواحكم ... بيعوا ويهنئكم وفاء المشترى أنتم أحق بنصر دين نبيكم ... ولكم تمهد فى قديم الأعصر أنتم بنيتم ركنه فلتدعموا ... ذاك البناء بكل لدن أسمر (¬1). وطال حصار إشبيلية زهاء ثمانية عشر شهراً، وأبدى المسلمون آيات من البسالة والجلد فى الدفاع عن حاضرتهم، ولكن هذه البسالة لم تغن شيئاً أمام عزم النصارى وتصميمهم. وأخيراً اضطر الإشبيليون إلى قبول مصيرهم المحتوم، وارتضوا تسليم المدينة، على أن يؤمن المسلمون فى أنفسهم وأموالهم، وأن يمهلوا شهراً لتسوية شئونهم وإخلاء دورهم والتأهب للرحيل، ووضع ملك قشتالة الترتيبات اللازمة لنقل أهل المدينة بالبر والبحر إلى الجهات التى يقصدونها. وفى 23 ديسمبر سنة 1248 م (أوائل رمضان سنة 646 هـ) دخل فرناندو الثالث مدينة إشبيلية فى موكب فخم، وذلك بعد أن حكمها المسلمون أكثر من خمسة قرون، وحكمها الموحدون زهاء قرن. وفى الحال حوّل مسجدها الجامع إلى كنيسة، وأزيلت منها معالم الإسلام بسرعة، وتفرق معظم أهلها المسلمين فى الحواضر الإسلامية الباقية، ولا سيما غرناطة. وكان سقوط إشبيلية إيذاناً بسقوط سائر المدن والحصون الإسلامية الواقعة فيما بينها وبين مصب الوادى الكبير وفى المناطق المجاورة. وهكذا استولى للنصارى تباعاً على شريش وشذونة وقادس وشلوقة وغليانة وروضة أوروطة وأركش وثغر شنتمرية (¬2)، وغيرها من قواعد الوادى ¬_______ (¬1) راجع هذه القصيدة بأكملها فى الذخيرة السنية ص 74 وما بعدها. (¬2) شريش وبالإسبانية Jerez تقع على مقربة من مصب نهر وادى لكه شمال ثغر قادس، وشذونة Medina Sidonia تقع جنوب شرقى قادس وسط أرض الفرنتيرة، وقد اشتهرت بالموقعة التى حدثت على مقربة منها بين طارق فاتح الأندلس والقوط وانتهت بفتح اسبانيا، وقادس Cadiz، تقع جنوب شريش على المحيط الأطلنطى، وشلوقة وهى الآن مدينة San Lunar، وتقع شمالى شريش على المحيط، وروضة هى Ruta أو Roda، وتقع على مقربة من شلوقة على المحيط، وأركش Arcos =

وحصونه، وسلم ابن محفوظ فى الوقت نفسه للنصارى حصن اللقوة ووادى أنة وشنتل والحصين وشلطيش، على أن يستبقى حكم لبلة وأحوازها (¬1). وعاون ابن الأحمر النصارى فى الاستيلاء على ثغر قادس. وهكذا بسط القشتاليون سلطانهم على سائر الأراضى الإسلامية الواقعة غربى ولاية الأندلس، وأخذت رقعة الدولة الإسلامية تنكمش بسرعة مروعة (¬2). وكان موقف ابن الأحمر من هذه الحوادث موقفاً شاذاً مؤلماً، فقد كان يقف إلى جانب أعداء أمته ودينه، وكان يبذل للنصارى ما استطاع من العون َالمادى والأدبى، وكان معظم الزعماء المسلمين من حكام المدن والحصون الباقية، وقد أيقنوا بانهيار سلطان الإسلام فى الأندلس، يهرعون إلى احتذاء مثاله. وإلى الانضواء تحت لواء ملك قشتالة، وكانت هذه المناظر المؤلمة تتكرر فى تاريخ الأندلس منذ الطوائف، حيث نرى كثيراً من الأمراء المسلمين يظاهرون النصارى على إخوانهم فى الدين، احتفاظاً بالملك والسلطان. ولكن ابن الأحمر كان يقبل هذا الوضع المؤلم إنقاذاً لتراث لم يكتمل الرسوخ بعد، وتنفيذاً لأمنية كبيرة بعيدة المدى. ذلك أنه كان يطمح إلى جمع كلمة الأندلس تحت لوائه. وإدماج ما تبقى من تراثها وأراضيها فى مملكة موحدة، تكون مُلكاً له ولعقبه. ولم تكن تحدوه رغبة فى توسع يجعله إلى الأبد أسيراً لحلفائه النصارى، مثلما كان يفعل أسلافه زعماء الطوائف. بل كانت تحدوه قبل كل شىء رغبة فى الاستقلال، والتوطد داخل حدود إمارته المتواضعة. وقد لبث يعمل على تحقيق هذه الغاية فى ولاية غرناطة والولايات المجاورة، وهو يصانع النصارى ويتجنب الاشتباك معهم، ويشهد التهامهم لأشلاء الوطن الممزق، وقلبه يتفطر حزناً وأسى. ¬_______ = تقع شمال شرقى شريش وسط المثلث الإسبانى، وشنتمرية هى ثغر شنتمرية الغرب Sta Maria de Algarve وتقع جنوبى البرتغال على المحيط، ومكانها اليوم مدينة فارو البرتغالية. (¬1) الذخيرة السنية ص 85. وتقع هذه الأماكن فى ولاية الغرب على مقربة من مدينة أونية (ولبة Huelva الحديثة) شرقى نهر أوديل. (¬2) راجع حوادث حصار إشبيلية وسقوطها فى البيان المغرب القسم الثالث ص 381 و 382 وابن خلدون ج 4 ص 190، والذخيرة السنية ص 71 - 76، ومن المراجع القشتالية بالأخص: Cronica General (Ed. Pidal) Vol. I, No. 1080 - 1125، وقد أفردنا لسقوط إشبيلية، فى كتابنا " عصر المرابطين والموحدين " فصلا كبيراً، ويراجع فى القسم الثانى منه ص 466 - 488.

على أن ابن الأحمر لم يكن يعتزم المضى فى ذلك المسلك المؤلم المهين إلى النهاية، فقد كانت نفسه الوثابة تحدثه من وقت إلى آخر، بأن يحطم هذه الأغلال الشائنة التى صفدته بها محالفة النصارى، وكان كلما آنس ازدياد قوته ورسوخ سلطانه صلبت قناته وذكا عزمه، وكان يتجه ببصره إلى ما وراء البحر، إلى إخوانه فى الدين فى عدوة المغرب، وكان جرياً على السياسة الأندلسية المأثورة يرى فى ملوك العدوة، عضداً له قيمته فى مغالبة النصارى، وكانت حوادث المغرب تتمخض فى ذلك الحين بالذات عن قيام دولة جديدة قوية هى دولة بنى مرين. ومع أن الكفاح بين دولة الموحدين المحتضرة وبين دولة بنى مرين الناشئة (¬1)، كان يحول دون إنجاد الأندلس بصورة فعالة، فإن كتائب المجاهدين من بنى مرين والمتطوعة من أهل المغرب، لم تلبث أن هرعت إلى غوث الأندلس. وعبر القائد أبو معرف محمد بن إدريس بن عبد الحق المرينى وأخوه الفارس عامر، البحر فى نحو ثلاثة آلاف مقاتل، جهزهم أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بنى مرين. وكانت حوادث الأندلس المؤسية تحدث وقعها العميق فى المغرب، وكانت رسائل الأندلس تترى إلى أمراء المغرب وأكابرهم بالصريخ مما تكابده من عدوان النصارى واستطالتهم، والاستنصار بأهل العدوة إخوانهم فى الدين، وكان علماء المغرب وخطباؤه وشعراؤه يبثون دعوة الغوث والإنجاد، ومن ذلك قصيدة مؤثرة وضعها أبو الحكم مالك بن المُرَحِّل، وقرئت فى جامع القرويين بفاس فى يوم جمعة من أيام سنة 662 هـ، وبكى الناس تأثراً لسماعها ومما جاء فيها: استنصر الدين بكم فاستقدموا ... فإنكم إن تسلموه يسلم لاذت بكم أندلس ناشرة ... برحم الدين ونعم الرحم فاسترحمتكم فارحموها إنه ... لا يرحم الرحمن من لا يرحم ما هى إلا قطعة من أرضكم ... وأهلها منكم وأنتم منهم (¬2). وكان لاهتمام المغرب بإنجاد الأندلس صداه. وكان ابن الأحمر قد بدأ فى الوقت نفسه يشعر بمقدرته على مواجهة النصارى والخروج على طاعتهم، وحماية مملكته الفتية من عدوانهم. ولما فاتحه النصارى بالعدوان وغزوا أراضيه فى سنة 660 هـ (1261 م)، استطاع بمعاونة قوات من المتطوعة والمجاهدين الذين ¬_______ (¬1) سنعود إلى التحدث عن قيام دولة بنى مرين فى موضع آخر. (¬2) راجع الذخيرة السنية ص 108 - 112 حيث يورد القصيدة بأكملها.

وفدوا من وراء البحر، أن يهزمهم وأن يردهم عن أراضيه، وبذلك ظهرت الأندلس على عدوها فى ميدان الحرب لأول مرة منذ انهيار دولة الموحدين. ولما عبرت الكتائب المرينية بعد ذلك بقليل (662 هـ)، استطاع قائدهم الفارس عامر ابن إدريس أن ينتزع مدينة شريش من يد النصارى، ولكن لمدى قصير فقط (¬1)، وقد كانت هذه بارقة أمل متواضعة. ولكن الحوادث ما لبثت أن تجهمت للأندلس مرة أخرى. ذلك أن ملك قشتالة (ألفونسو العاشر) خشى هذه البادرة على خططه وغزواته، وخشى بالأخص أن تتضاعف الأمداد من وراء البحر فيشتد ساعد أمير غرناطة، ومن ثم فقد عول أن يضاعف أهبته وضغطه على القواعد الأندلس الباقية. ففى أواخر سنة 662 هـ (1263 م) نزل ابن يونس صاحب مدينة إستجة عنها إلى النصارى (¬2)، ودخلها دون خيل قائد القشتاليين، فأخرج أهلها المسلمين منها، وقتل وسبى كثيراً منهم وذلك بالرغم من تسليمها بالأمان. وفى العام التالى (663 هـ) ظهرت نيات ملك قشتالة واضحة فى العمل على افتتاح ما بقى من القواعد الأندلسية، وسرى الخوف إلى نواحى الأندلس، وعادت الرسائل تترى على أمراء المغرب وزعمائه، بالمبادرة إلى إمداد الأندلس، وإغاثتها قبل أن يفوت الوقت، خصوصاً وقد بدأ عدوان النصارى يحدث أثره، وبدأت هزائم قوات ابن الأحمر فى ذلك الوقت على يد دون نونيو دى لارا (دوننه) صهر ملك قشتالة وقائده الأكبر (663 هـ - 1264 م). وكتب الفقيه أبو القاسم العزفى صاحب سبتة رسالة طويلة إلى قبائل المغرب، يستنصرهم فيها ويحثهم على الجهاد فى سبيل الأندلس، وفيها يقول: "ولا تخلدوا بركون إلى سكون، والدين يدعوكم لنصره، وصارخ الإسلام قد أسمع أهل عصره، والصليب قد أوعب فى حشده، فالبدار البدار، بإرهاب الجد وأعمال الجهاد فى نيل الجد .. " (¬3). وتكرر مثل هذا الصريخ إلى سائر أمراء إفريقية، وأعلن ابن الأحمر بيعته للملك المستنصر بالله الحفصى صاحب تونس، فبعث إليه المستنصر ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 112. (¬2) سبق أن أشرنا إلى سقوط إستجة فى يد النصارى سنة 1237 م، أعنى قبل ذلك بخمسة وعشرين عاماً (ص 20). والظاهر أنها بقيت خلال هذه المدة بيد حكامها المسلمين تحت حماية ملك قشتالة على نسق كثير من المدن الأندلسية الأخرى، التى لبثت حيناً بيد حكامها المسلمين بعد تسليمها صلحاً للنصارى. (¬3) راجع هذه الرسالة فى الذخيرة السنية ص 113 - 122.

هدية ومالا لمعاونته (¬1). ولكن هذه المساعى لم تسفر عن نتيجة سريعة ناجعة، وبقيت الأندلس أعواماً أخرى تواجه عدوها القوى بمفردها وتتوجس من سوء المصير. ولما تفاقم عدوان القشتاليين وضغطهم، لم ير ابن الأحمر مناصاً من أن يخطو خطوة جديدة فى مهادنة ملك قشتالة ومصادقته، فنزل له فى أواخر سنة 665 هـ (1267 م) عن عدد كبير من البلاد والحصون، منها شَريش والمدينة والقلعة وغيرها. وقيل إن ما أعطاه ابن الأحمر يومئذ من البلاد والحصون المسورة للنصارى بلغ أكثر من مائة موضع، ومعظمها فى غرب الأندلس (¬2)، وبذا عقد السلم بين الفريقين مرة أخرى (¬3). وهكذا فقدت الأندلس معظم قواعدها التالدة فى نحو ثلاثين عاماً فقط (627 - 655 هـ) فى وابل مروع من الأحداث والمحن، واستحال الوطن الأندلسى الذى كان قبل قرن فقط، يشغل نحو نصف الجزيرة الإسبانية، إلى رقعة متواضعة هى مملكة غرناطة. وقد أثارت هذه المحن التى توالت على الأندلس، فى تلك الفترة المظلمة من تاريخها لوعة الشعر والأدب، ونظم شاعر العصر أبو الطيب صالح بن شريف الرندى، مرثيته الشهيرة، التى مازالت تعتبر حتى اليوم من أروع المراثى القومية وأبلغها تأثيراً فى النفس، وفيها يبكى قواعد الأندلس الذاهبة، ويستنهض همم المسلمين أهل العدوة لإنجاد الأندلس وغوثها، وإليك بعض ما جاء فى هذه المرثية الشهيرة التى خلدت ذكر ناظمها على كر الأحقاب: لكل شىء إذا ما تم نقصان ... فلا يغر بطيب العيش إنسان هى الأمور كما شاهدتها دول ... من سرَّه زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقى على أحد ... ولا يدوم على حال لها شان يمزق الدهر حتما كل سابغة ... إذا نبت مشرفيات وخرصان ... ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 125. (¬2) راجع الذخيرة السنية ص 127. وقد سبق أن أشرنا إلى تنازل ابن الأحمر لملك قشتالة عن أرض الفرنتيرة، وفيها تقع شريش وقادس وغيرها، ولكن هذا التنازل كان اسميا، واضطر النصارى إلى افتتاح هذه المدن بصورة فعلية. وكان سقوط شريش وقادس فى يد ألفونسو العاشر سنة 1262 م. والظاهر أن المقصود هنا مصادقة ابن الأحمر على استيلاء النصارى على هذه القواعد. (¬3) يضع ابن الخطيب تاريخ عقد ابن الأحمر الصلح مع النصارى للمرة الثانية فى سنة 662 هـ.

فجائع الدهر أنواع منوعة ... وللزمان مسرات وأحزان وللحوادث سلوان يهونها ... وما لما حل بالإسلام سلوان دهى الجزيرة أمر لا عزاء له ... هوى له أحد وانهد ثهلان فاسأل بلنسيةً ما شأن مرسية ... وأين شاطبة أم أين جيَّان وأين قرطبة دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شان وأين حمص وما تحويه من نزه ... ونهرها العذب فيّاض وملآن قواعد كن أركان البلاد فما ... عسى البقاء إذا لم تبق أركان تبكى الحنيفية البيضاء من أسف ... كما بكى لفراق الإلف هيمان على ديار من الإسلام خالية ... قد أقفرت ولها بالكفر عمران حيث المساجد قد صارت كنائس ما ... فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكى وهى جامدة ... حتى المنابر ترثى وهى عيدان ... أعندكم نبأ من أهل أندلس ... فقد سرى بحديث القوم ركبان كم يستغيث بنا المستضعفون وهم ... أسرى وقتلى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع فى الإسلام ينكم ... وأنتم يا عباد الله إخوان (¬1). ... وقضى ابن الأحمر الأعوام القليلة الباقية من حكمه، فى توطيد مملكته وإصلاح ¬_______ (¬1) راجع هذه المرثية البليغة بأكملها فى نفح الطيب ج 2 ص 594 و 595، وفى أزهار الرياض ج 1 ص 47 - 50. وقد التبس الأمر على المقرى فى تعيين العصر الذى قيلت فيه هذه القصيدة والذى عاش فيه ناظمها صالح بن شريف فوصفه بأنه خاتمة أدباء الأندلس (أزهار الرياض ج 1 ص 47). وذكر فى نفح الطيب أن أبياتاً أخرى أضيفت إليها تشتمل على ذكر بسطة وغرناطة وغيرهما ليست من نظم صاحبها لأنه توفى قبل سقوطها (أى غرناطة) مما يدل على اعتقاد المقرى بأن أبا الطيب عاش فى أواخر أيام مملكة غرناطة (أواخر القرن التاسع الهجرى). بيد أنه واضح من سياق القصيدة. وذكر القواعد الأندلسية التى تبكيها وهى بلنسية ومرسية وشاطبة وجيان وقرطبة وإشبيلية، وهى التى سقطت كلها فى يد النصارى بين سنة 635 هـ و 650 هـ، أن الشاعر قد عاش فى هذا العصر. ومن جهة أخرى فقد ذكر صاحب الذخيرة السنية صراحة أنها نظمت حينما نزل ابن الأحمر للنصارى سنة 665 هـ عن عدد كبير من القواعد الأندلسية. وقد توفى أبو الطيب الرندى بعد هذه الأحداث بنحو عشرين عاماً فى سنة 684 هـ. وسنعود إلى ترجمته فى الكتاب الرابع.

شئونها؛ وكان مذ شعر باستقرار الأمور فى مملكته، قد اختار لولاية عهده ولده الأمير أبا سعيد فرج بن محمد بن يوسف، ولكن هذا الأمير توفى فى سنة 652 هـ، فاختار مكانه لولاية العهد ولده محمداً أكبر أولاده من بعده. وهكذا أسبغ ابن الأحمر على رياسة بنى نصر صفة الملوكية الوراثية (¬1). ولم تقع فى تلك الفترة حوادث ذات شأن، فقد لزم النصارى السكينة حيناً. ولكن ظهرت عندئذ أعراض الانتقاض على بنى أشقيلولة أصهار ابن الأحمر ومعاونيه؛ وكان ابن الأحمر قد زوج فى سنة 664 هـ إحدى بناته لابن عمه الرئيس أبى سعيد بن اسماعيل بن يوسف ووعده بولاية مالقة، فنمى ذلك إلى واليها أبى محمد بن أشقيلولة، وهو أيضاً زوج ابنته، فغضب لذلك وأعلن العصيان والاستقلال بحكم المدينة، فسار ابن الأحمر لقتاله تعاونه قوة من حلفائه النصارى، وحاصروا مالقة ثلاثة أشهر، ولكنهم ارتدوا عنها خائبين (665 هـ - 1266 م). وعاد ابن الأحمر فسار إلى مالقة مرة أخرى فى سنة 668 هـ، ولكنه لم ينل منها مأرباً (¬2). وفى تلك الآونة عاد النصارى إلى التحرك والتحرش بالمملكة الإسلامية، وسار ملك قشتالة ألفونسو العاشر إلى الجزيرة الخضراء فعاث فيها، وعاد ابن الأحمر يتوجس شراً من نيات النصارى، فبعث إلى أمير المسلمين السلطان أبى يوسف المرينى ملك المغرب يطلب منه الغوث والإنجاد، ونصرة إخوانه المسلمين فيما وراء البحر، ويخبره بما بدا من عدوان النصارى ونيتهم فى القضاء على ما بقى من ديار الأندلس، ولكن ابن الأحمر لم يعش ليرى نتيجة هذه الدعوة، إذ توفى بعد ذلك بقليل. وكان محمد بن الأحمر يتمتع بخلال باهرة من الشجاعة والإقدام، وشغف الجهاد، والمقدرة على التنظيم، إلى جم التواضع والبساطة. ويقدم لنا ابن الخطيب مؤرخ الدولة النصرية عنه هذه الصورة المؤثرة: "كان هذا الرجل آية من آيات الله فى السذاجة والسلامة والجمهورية، جندياً ثغرياً، شهماً، أيِّداً، عظيم التجلد، رافضاً للدعوة والراحة، مؤثراً للتقشف والاجتزاء باليسر، متبلغاً بالقليل، بعيداً عن التصنع، جافى السلاح، شديد العزم، مرهوب الإقدام، ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 2 ص 65، واللمحة البدرية ص 36، والذخيرة السنية ص 88. (¬2) الذخيرة السنية ص 125 و 129.

عظيم التشمير، محتقراً للعظيمة، مصطعناً لأهل بيته، فضاً فى طلب حظه، حامياً لقرابته وأقرانه وجيرانه، مباشراً للحروب بنفسه، تتغالى الحكايات فى سلاحه وزينة ديابوزه، يخصف النعل، ويلبس الخشن، ويؤثر البداوة، ويستشعر الجد فى أموره " (¬1). وكان يعرف بالشيخ ويلقب بأمير المسلمين، وهو اللقب الذى غلب على سلاطين غرناطة فيما بعد. وهو الذى ابتنى حصن الحمراء الشهير، وجعله دار الملك، وجلب له الماء، وسكنه بأهله وولده. وأما تسميته بابن الأحمر فقد اختلفت فى شأنها الرواية. ويقال إن هذه التسمية ترجع إلى نضارة وجهه واحمرار شعره؛ ويرى البعض أنها أُسبغت عليه لإنشائه حصن الحمراء، ولكن سوف نرى عند الكلام على تاريخ الحمراء، أن هذا الاسم أقدم من الدولة النصرية ببضعة قرون، وأنه لا صلة بين هذا الإسم الذى أطلق على الحصن والقصور الملكية، التى أنشأها محمد بن يوسف وبنوه من بعده، وبين تلقيبهم ببنى الأحمر، كما أنه ليس ثمة بين القبائل العربية أية قبيلة تحمل هذا اللقب، ويمكن أن ينسب إليها بيت غرناطة الملكى (¬2). وكان ابن الأحمر يباشر الأمور بنفسه، ويدقق فى جمع الأموال والجبايات حتى امتلأت خزائنه بالمال والسلاح. وكان يعقد للناس مجالس عامة يومين فى الأسبوع، يستمع فيها إلى الظلامات وذوى الحاجات، ويستقبل الوفود، وينشده الشعراء. وكان يجرى فى تصريف شئون الملك على قاعدة الشورى، فيعقد مجالس يحضرها الأعيان والقضاة ومن إليهم من ذوى الرأى، للاسترشاد برأيهم، ونصحهم (¬3). وكان فى مقدمة وزرائه أبو مروان عبد الملك بن يوسف بن صناديد زعيم جيّان، وهو الذى مكنه من التغلب عليها، والقائد أبو عبد الله محمد بن محمد الرميمى ولد صاحب المرية السابق. وكان بين كتابه المحدث الشهير أبو الحسن على بن محمد بن سعيد اليحصبى اللوشى. وكان من شعرائه أبو الطيب الرندى ¬_______ (¬1) الإحاطة فى أخبار غرناطة ج 2 ص 61. (¬2) راجع مقدمة أطلس " الحمراء " Alhambra الذى وضعه Owen Jones & Jules Goury وكتبها المستشرق جاينجوس ( London 1842) ص 5 الهامش. وتسمى الدولة النصرية على الأغلب بدولة بنى الأحمر، ويؤثر ابن خلدون تسميتها بذلك الاسم (ج 4 ص 170 وما بعدها). (¬3) ابن خلدون ج 7 ص 190؛ واللمحة البدرية ص 31.

صاحب المرثية الشهيرة، وهو الذى سبقت الإشارة إليه. وكان أثيراً لديه، وقد نظم فى مدحه بعض غرر قصائده. وإليك كيف يصور النقد الغربى الحديث خلال منشىء مملكة غرناطة وظروف مملكته: "كان محمد بن الأحمر من أبرع أولئك الأمراء الذين كان لهم فضل خلال العصور المضطربة، فى الدفاع عن الإسلام ومجد المسلمين، وكان جريئاً بعيد الغور، ولكن مكره لم يكن راجعاً إلى طبيعة خبيثة وضيعة، ولكن إلى خلق خصومه الذين كان مرغماً على مقارعتهم. ففى العصور الوسطى كان قانون الأمم وعقد المعاهدات، ومجاملات الفروسية وشروط السلم الشريف، تفهم بطريقة ناقصة، وكثيراً ما تنتهك بعمد، وكانت معظم نقائص هذا الأمير العظيم، ترجع إلى أخلاق العصر المنحلة، وكانت بوادر خضوعه لأعدائه الألداء مظاهر فقط لسياسة محكمة التدبير، أقدم عليها لإحراز ملكه وتوطيد سلطانه، وكان تقدم الغزو المستمر يرهق مملكته، ولكنها كانت تغدو أقوى ويغدو الدفاع عنها أيسر، كلما انكمشت حدودها. وكان القشتاليون كلما احتلوا مدينة جديدة، هرعت منها جمهرة من المهاجرين العاملين إلى غرناطة، فتزيد سكانها كثرة على كثرة، يحملون معهم ثروات عظيمة، وصفات هى أثمن من الثروة لدولة منحلة: النشاط والاقتصاد، والمقدرة على هضم الظروف الجديدة، وذكرى المظالم السابقة، وآلام المطاردة المحزنة، وأمل الانتصاف، وشعور لا يقهر ببغض النصرانية. وكان الاندماج السياسى لهذه الجماعات المنفية المضطهدة، فى حماية الجبال التى تظلل ملاذها الأخير، هو الذى عاون فى حفظ مملكة غرناطة الزاهرة لمجدها المستقبل ومحنتها الغامرة " (¬1). وتوفى محمد بن الأحمر فى التاسع والعشرين من جمادى الثانية سة 671 هـ (ديسمبر 1272 م) على أثر سقطة من جواده، حين عوده من معركة رد فيها جمعاً من الخوارج الذين حاولوا الزحف على الحمراء فى منتصف جمادى الثانية من العام المذكور، فحمل جريحاً إلى القصر وتوفى بعد ذلك بأسبوعين، وقد قارب الثمانين من عمره، ودفن بالمقبرة العتيقة بأرض السبيكة (¬2). وكانت مملكة ¬_______ (¬1) Scott: The Moorish Empire in Europe, V. II p. 433-34. (¬2) الإحاطة ج 2 ص 66. وقد كان اسم السبيكة يطلق على البسيط الذى يقع جنوب شرقى الحمراء.

غرناطة قد توطدت دعائمها نوعاً، واستقر بها ملك بنى نصر الفتىّ على أسس ثابتة. وكان من حسن الطالع أنه لم يظهر فى مملكة غرناطة فى بداية أمرها زعماء خوارج ينازعون بنى نصر زعامتهم. ولذا لم نشهد فى هذه الأندلس الجديدة مأساة الطوائف مرة أخرى، وإن كان تاريخ الدولة النصرية لم يخل من ثورات وانقلابات محلية عديدة. وقد كان من غرائب القدر أن هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، استطاعت غير بعيد، أن تعيد لمحة من مجد الأندلس الذاهب، كما استطاعت بكثير من الشجاعة والجلد، أن تسهر على تراث الإسلام فى الأندلس، زهاء مائتين وخمسين عاماً أخرى.

الفصل الثالث طوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال

الفصل الثالث طوائف الأمة الأندلسية فى عصر الانحلال مملكة غرناطة وحدودها. عناصر سكانها. المدجنون. تاريخهم وحياتهم فى ظل الممالك النصرانية. وثائق هامة تلقى ضوءاً على أحوالهم. الأحكام الشرعية فى شأنهم. اضطهادهم على يد الكنيسة. نشاطهم وتفوقهم. النصارى المعاهدون وأحوالهم فى ظل الحكومة الإسلامية. تعصبهم وخياناتهم. هجرة الأندلسيين من مختلف القواعد إلى غرناطة. عناصر الأمة الأندلسية. المولدون. اليهود. الشعب الغرناطى. صفاته وخلاله. كانت مملكة غرناطة عند قيامها فى أواسط القرن السابع الهجرى تشمل القسم الجنوبى من الأندلس القديمة، وتمتد فيما وراء نهر الوادى الكبير إلى الجنوب، حتى شاطىء البحر الأبيض المتوسط ومضيق جبل طارق، ويحدها من الشمال ولايات جيّان وقرطبة وإشبيلية، ومن الشرق ولاية مرسية وشاطىء البحر المتوسط الممتد منها إلى الجنوب، ومن الغرب ولاية قادس وأرض الفرنتيرة. وكانت تشتمل عندئذ على ثلاث ولايات كبيرة، وهى ولاية غرناطة الواقعة فى الوسط، والممتدة جنوباً حتى البحر، وأهم مدنها العاصمة غرناطة، ووادى آش وبسطة وأشكر وحصن اللوز ولوشة والحامة وأرحبة والمنكب وشلوبانية. وولاية ألمريَّة وهى تمتد من ولاية مرسية حتى البحر، وأهم مدنها ثغر ألمرية وبيرة والمنصورة وبرشانة وبرجة ودلاية وأندَرَش. وولاية مالقة، وهى تقع على البحر غربى غرناطة، وأهم مدنها ثغر مالقة، وبلِّش مالقة وطرُّش وقمارش وآرشدونة وأنتقيرة ورندة ومربلة. ويلحق بها منطقة جبل طارق والجزيرة الخضراء وطريف. وتخترق مملكة غرناطة من الوسط جبال سيرّا نفادا (جبل شلير) الشاهقة، وهضاب البشرّات الوعرة وبسائطها الخضراء، كما تخترقها عدة أنهار منها شَنيل فرع الوادى الكبير ونهر أندرش الصغير، وفى الشرق نهر المنصورة. وكانت خواصها الطبيعية التى تجمع بين مزيج مدهش من المروج والوديان الخصبة، والجبال والهضاب الوعرة، تمدها بثروات زراعية ومعدنية حسنة، ينميها

ويضاعفها الشعب الأندلسى الموهوب بذكائه ونشاطه وبراعته المأثورة. وهكذا كانت مملكة غرناطة الصغيرة، تستمد من مواردها الطبيعية، أسباب القوة والمنعة والرخاء. وقد رأينا فيما تقدم أن كورة إلبيرة، وهى التى غدت فيما بعد كورة غرناطة، كانت منذ الفتح منزل قبائل الشام، وقد لبثت أعقاب هذه البطون مدى عصور كثيرة فى تلك الولاية. ولما اضطرمت الفتن بالأندلس عقب انهيار الدولة الأموية، تقاطر البربر من الضفة الأخرى من البحر على قواعد غرناطة، ثم غدت مدينة غرناطة مدى حين إمارة بربرية، وأصبح البربر عنصراً بارزاً فى سكان هذه المقاطعة. وكانت الثغور الجنوبية بطبيعة الحال، منزل البربر كلما عبروا إلى الأندلس، وخصوصاً أيام المرابطين والموحدين. وكانت طوائف كبيرة من الغزاة، تتخلف فى هاتيك الوديان النضرة وتستقر فيها، يجذبهم خصبها ونعماؤها. ولما أخذت قواعد الأندلس الشرقية والوسطى تسقط تباعاً فى أيدى النصارى، كان يهرع إلى القواعد والثغور الجنوبية كثير من الأسر المسلمة الكريمة، التى آثرت الهجرة إلى أرض الإسلام، على التّدجُّن والبقاء تحت سلطان النصارى. على أنه بقيت فى القواعد والثغور التى استولى عليها النصارى جموع كبيرة من المسلمين، الذين حملتهم ظروف الأسرة ودواعى العيش على البقاء فى الوطن القديم، تحت حكم الإسبان سادتهم الجدد. وأولئك هم المدجَّنون (¬1) (أو بالإسبانية Mudéjares) أو أهل الدجن. وقد شاع استعمال هذا اللفظ بالأندلس منذ أوائل القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) أو بعبارة أخرى مذ كثر استيلاء النصارى، على أراضى المسلمين، وكثر عدد الرعايا المسلمين الذين تضمهم اسبانيا النصرانية ففى هذه الفترة بالذات سقطت معظم قواعد الأندلس فى أيدى النصارى، وسقطت منها فى الشرق، بلنسية وشاطبة ودانية، ولقنت، وأوريولة، ثم مرسية، وسقطت فى الوسط قرطبة وجيان، وسقطت فى الغرب ماردة وبطليوس وإشبيلية وقرمونة ولبلة وغيرها - سقطت هذه القواعد الأندلسية التالدة كلها فى أيدى النصارى فى النصف الأول من القرن السابع الهجرى، وبقيت من أهلها المسلمين طوائف كبيرة تحت حكم الإسبان، وهى التى غدت مجتمع المدجنين. وكان أكثر ¬_______ (¬1) من دجن وتدجن أى أقام، ومصدره الدجن والتدجن ومنه دواجن البيوت وهى طيور وحيوانات أليفة مقيمة.

المدجنين احتشاداً فى شرقى الأندلس فى منطقتى بلنسية ومرسية. ولهذا المجتمع الإسلامى الإسبانى تاريخ طويل مؤثر. فقد لبث المدجنون عنصراً، يتمتعون فى ظل ملوك قشتالة وأراجون، بنوع من الطمأنينة والرخاء والأمن، فكان يسمح لهم بالاحتفاظ بدينهم وشريعتهم ومساجدهم ومدارسهم، وكان لهم فى العصور الأولى قضاة منهم يحكمون فى سائر المنازعات التى تقع فيما بينهم وفقاً للشريعة الإسلامية؛ أما المنازعات التى تقع بين مسلم ونصرانى، فكان ينظرها أحياناً قاض نصرانى أو تنظرها محكمة مختلطة من قضاة من المذهبين. وكان من امتيازاتهم، أن لا يدفعوا من الضرائب غير ما كانوا يؤدونه من قبل لملوكهم، ثم ترك هذا الامتياز بمضى الزمن، وأصدر الفونسو العاشر فى سنة 1254 م لسكان إشبيلية، امتيازاً يخولهم حق شراء الأراضى من المسلمين فى منطقتهم، مما يدل على أنه قد سمح للمسلمين بالاحتفاظ بأراضيهم، وكان لهم حق البيع والشراء فى العقارات. فلما تطورت الحوادث، وغلبت النزعة الرجعية فى أواخر القرن الثالث عشر، صدر قانون يحرم على المسلمين واليهود شراء الأراضى من النصارى، ولكن ترك هذا القانون فيما بعد. وكان يسمح للمدجنين أيضاً بحمل السلاح، ويلزمون بتأدية الخدمة العسكرية، ويعتبر الإعفاء منها امتيازاً خاصاً. ثم أعفى المدجنون بعد ذلك من الخدمة العسكرية نظير جزية سنوية يؤدونها، وكان انضمامهم إلى الجيوش النصرانية يقع فى حدود نسبتهم العددية. ولما توالى استيلاء الإسبان على القواعد والثغور الأندلسية، كان يخصص للمدجنين فى كل مدينة مفتوحة حىّ خاص لإقامتهم، يفصل بينه وبين أحياء النصارى سور ضخم، وكان هذا هو شأن اليهود أيضاً حيث كانوا يلزمون بالإقامة فى حىّ خاص بهم (¬1). وتوجد فى كتدرائية سرقسطة مجموعة من وثائق عربية تلقى ضوءاًَ على تاريخ المدجنين وأحوالهم فى مملكة أراجون منذ القرن العاشر الميلادى إلى القرن الخامس عشر. وهى عبارة عن طائفة من عقود البيع والشراء والوديعة وغيرها التى عقدت بين أفراد من المدجنين وبين المدجنين والنصارى، وفيها وثائق محررة فى تواريخ متأخرة فى سنة 1482، وسنة 1496. ويستفاد من تلاوتها أن المدجنين فى مملكة أراجون، كانوا إلى هذا العصر المتأخر، حتى بعد سقوط غرناطة فى يد الإسبان، ¬_______ (¬1) Dr. H. Ch. Lea: History of the Inquisition in Spain, V. I. p. 62-64.

يحتفظون بدينهم الإسلامى، وأنه كانت ما تزال ثمة بعض مساجد قائمة فى بعض أنحاء ولاية سرقسطة. (1) ومن ذلك وثيقة مؤرخة فى شهر ربيع الأول سنة 644 هـ (1246 م) تبدأ بالبسملة والصلاة على النبى، وهى عقد شراء، يشترى بمقتضاه "أحمد المران" من "محمد بن سلمة البرتيالى" جميع ما له من أملاك وديار ببطرة قرية ابتورة ... بثمن مبلغه وعدته تسعون دنيراً قناشر من القناشر الجارية بسرقسطة ... وذلك كله على سنة المسلمين فى طيبات بيوعاتهم ومرجع أدركهم وارتضاء ذلك البيعة المذكورة الشنيور من القرية المذكورة القسيس الأجل دون برتُلماوو شنت جيل عن إذن الأقسة من الكنيسة المذكورة، شهد على إشهاد المتبايعان المذكوران من أشهداه، وسمع منهما، وعرفهم، والجميع بحالة الصحة والجواز فى شهر ربيع الأول من سنة أربعة وأربعين وستمائة". (2) ووثيقة مؤرخة فى 9 أغسطس سنة 1484، ورد فيها ما يأتى: "الحمد لله وحده، أشهد على نفسه الكريم فرج الطليطلى الساكن بموضع قلعة التراب شهداء هذا الكتاب قولا بالحق وانقياداً إليه، أن عليه وفى ذمته وماله من المكرمان برول وكبلتة من شنت مرى لميور والسبداد ذاسرغوس وديعة محضة وأمان مؤتمن وذلك خمسون قفزاً قمح طيباً نقياً من مكايل مدينة سرقسطة ... ". وكتب هذه الوثيقة: "محمد بن محمد الأزقة فقيه وخادم مسجد قلعة التراب". (3) ووثيقة مؤرخة فى شهر فبراير عام إحدى وتسعمائة (1496 م) تبدأ أيضاً بالبسملة والصلاة على النبى. وهى عبارة عن إقرار كل من "موسى الحسن وابن عبد الله محمد بن فرج المجه الساكنون فى بلدة الحمام بأنهم يحبسون وديعة قمح" لمن يدعى "أبو باكر ابن أبو باكر، من أهل قلعة التراب". وكاتب الوثيقة هو: "ابراهيم البساتنى الينى هليجى خديم جامع البلد المذكور" (¬1). وعثرنا فى متحف بلدية بنبلونة على وثيقة عربية وحيدة مؤرخة فى " التاسع من شهر أبريل عام احدى وثمانمائة" (1398 م) وهى عبارة عن إشهاد بالدين ¬_______ (¬1) قام بدراسة هذه الوثائق المستشرق الإسبانى R. Garcia di Linares فى بحث عنوانه Escrituras Arabes Pertenecientes al Archivo de Nuestra Senora del Pilar de Zaragoza ومنشور فى كتاب Homenaje a Francisco Codera (Zaragoza 1904) p. 171-197.

صورة وثيقة مدجنية Mudéjar محفوظة بمتحف بلدية بنبلونة وهى عبارة عن إشهاد بالدين ومؤرخة فى سنة 801 هـ (1398 م).

مستهلة بالبسملة والصلاة على النبى ومحررة أمام "القاضى الأروع الأورع أبى الحسن على القريشى". وقد جاء فيها ما يأتى: "أشهدوا على أنفسهم أبو الحجاج يوسف الحضرمى ومحمد بن محمد بن جعفر الزهرى، ويوسف بن زيد، وأحمد بن المكحل، ويوسف شداد بن دجنبر مسلمان ساكنان فى ربض المسلمين ببلدة برجة حاضرون بغايبون كل واحد منهم عنه وعن الكل، بأنهم دانوا الاشتراك الشابلى إسراييل ساكن بلدة المذكورة أو لمن ظهر هذا العقد عنده ثلثماية واثنين وثلثين فلريناش ذهباً قالب أرغون من سكة طيبة موزونة ... الخ" وفى ذيلها عدة من أسماء الشهود المسلمين. وفيما أوردناه من نص هذه الوثيقة، ما يدل على أنه كانت توجد فى تلك المنطقة النائية من شمال اسبانيا، فى بلاد نافار، أقليات مسلمة لها أحياء خاصة حيث وجدت، وتتمتع بالتعامل بلغتها القومية أمام قاضيها الخاص، وذلك فى هذا العصر المتأخر، فى أواخر القرن الرابع عشر، أعنى بعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على استيلاء النصارى على سائر القواعد الإسلامية فى تلك الأنحاء. وكانت مسألة التدجن هذه وبقاء المسلمين فى الأرض التى يفتتحها النصارى تثير كثيراً من المسائل الفقهية، وكان بعض الفقهاء يرمى أولئك المدجنين بالمروق عن الإسلام لبقائهم تحت حكم النصارى. وقد عثرت خلال بحوثى فى مكتبة الإسكوريال على رسالة مخطوطة تتناول هذه المسألة، وهى عبارة عن فتوى طلبها أحد الفقهاء عن حكم الشرع فيمن آثر من المسلمين الأندلسيين الهجرة من دار الإسلام إلى الأراضى المفتوحة ليعيش تحت حكم النصارى، والمقصود بهؤلاء بنوع خاص أولئك الذين هاجروا من القواعد الأندلسية المفتوحة إلى بلاد المغرب، ثم لم يجدوا بها ما أملوا من رخاء ويسر فى العيش، وترتب على ذلك أنهم ندموا على هجرتهم، وتمنوا العودة إلى ديارهم القديمة تحت حكم ملك قشتالة، وتتضمن الرسالة الأسئلة الآتية: "ما حكم من تمادى من المسلمين فى ذلك؟ وما حكم من عاد منهم إلى دار الكفر بعد حصوله فى دار الإسلام؟ وهل يجب وعظ هؤلاء أو يعرض عنهم ويترك كل واحد منهم لما اختاره؟ وهل من شرط الهجرة أن لا يهاجر أحد إلا إلى دنيا مضمونة يصيبها عاجلا عند وصوله، جارية على وفق غرضه حيث حل من نواحى الإسلام، أو ليس ذلك بشرط بل تجب عليهم الهجرة من دار الكفر إلى دار

الإسلام، إلى حلو أو مر أو وسع أو ضيق أو عسر أو يسر بالنسبة لأحوال الدنيا، وإنما القصد بها سلامة الدين والأهل والولد، والخروج من حكم الملة الكافرة إلى حكم الملة المسلمة، إلا ما شاء الله من حلو أو مر أو ضيق عيش أو سعة ونحو ذلك من أحوال الدنيا. وقد رد الفقيه المسئول، وهو أحمد بن يحيى التلمسانى الونشريشى عن هذه المسائل بما خلاصته: 1 - أن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام فريضة إلى يوم القيامة، وكذلك الهجرة من أرض الحرام والباطل. وهو يؤيد قوله بطائفة من الأحاديث النبوية. 2 - ولا يُسقط هذه الهجرة الواجبة على هؤلاء الذين استولى الطاغية على معاقلهم وبلادهم، ولا يتصور العجز عنها بكل وجه وحال، لا الوطن ولا المال، فإن ذلك كله ملغى فى نظر الشرع. وأما المستطيع بأى وجه كان وبأى حيلة تمكنت، فهو غير معذور وظالم لنفسه إن أقام. والظالمون أنفسهم إنما هم التاركون للهجرة مع المقدرة عليها حسبما تضمنه قوله تعالى: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ... ". والمعاقب عليه إنما هو من مات مصراً على هذه الإقامة. 3 - وتحريم هذه الإقامة تحريم مقطوع به من الدين، كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وقتل النفس بغير حق ... ومن جوّز هذه الإقامة واستخف أمرها، واستسهل حكمها فهو مارق من الدين، ومفارق لجماعة المسلمين، ومحجوج بما لا مدفع فيه لمسلم، ومنبوذ بالإجماع الذى لا سبيل إلى مخالفته وخرق سبيله. قال زعيم الفقهاء القاضى أبو الوليد بن رشد رحمه الله فى أول "كتاب التجارة، إلى أرض الحرب"، من مقدماته: فرض الهجرة غير ساقط بل الهجرة باقية لازمة إلى يوم القيامة، وأجاب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الحرب أن لا يقيم بها حيث تجرى عليه أحكام المشركين، وأن يهجره ويلحق بدار المسلمين حيث تجرى عليه أحكامهم. 4 - ثم لما نبعت هذه الموالاة النصرانية فى الماية الخامسة وما بعدها من تاريخ الهجرة وقت استيلاء ملاعين النصارى دمرهم الله على جزيرة صقلية وبعض كور الأندلس، سئل فيها بعض الفقهاء، واستُفهموا عن الأحكام الفقهية المتعلقة بمرتكبها، فأجاب بأن أحكامهم جارية مع أحكام من أسلم ولم يهاجر، وألحقوا

هؤلاء المسئول عنهم والسكوت عن حكمهم بهم، وسووا بين الطائفتين فى الأحكام الفقهية المتعلقة بأموالهم وأولادهم ولم يروا فيها فرقاً بين الفريقين" (¬1). على أن هذه الاعتبارات الدينية لم تحل دون بقاء طوائف كبيرة من المسلمين فى الأراضى التى يقتطعها النصارى تباعاً من الوطن الأندلسى. وكانت الإعتبارات الدنيوية، وظروف الأسرة، ودواعى العيش، تغلب على كل الاعتبارات الأخرى. وكان تسامح النصارى فى البداية، وتركهم رعاياهم المسلمين، يتمتعون بتطبيق شريعتهم وأحكام دينهم فيما بينهم حسبما تقدم، يخفف عن أولئك المدجَّنين مرارة الانسلاخ عن مجتمعهم القديم، والانتماء إلى المجتمع النصرانى. وهكذا لبث المدجنون عصراً، يتمتعون فى ظل الحكم الإسبانى بامتيازات كثيرة، ويعيشون فى نوع من الأمن والدعة، بعيداً عن عصف الأهواء السياسية والقومية العنيفة. ولكن هذه الحال أخذت فى التبدل منذ اتسع نطاق الفتوحات النصرانية فى أراضى الأندلس، وزاد بذلك عدد المدجنين فى مختلف المناطق المفتوحة. وكانت الكنيسة تبغض هذه الطوائف الإسلامية، القائمة فى قلب المجتمع النصرانى، وتنقم على المدجنين هذه الدعة وهذا التسامح، وترى فى احتفاظهم بدينهم ولغتهم نوعاً من التحدى المذموم، وتأخذ على ملوك قشتالة وأراجون تسامحهم فى معاملتهم، وتسعى جاهدة لتحريضهم على اتباع سياسة الإنتقام والعنف، إزاء أولئك الرعايا المسالمين. ومنذ أوائل القرن الثالث عشر، تتوالى أوامر البابوية وقراراتها ضد المدجنين، والحض على استرقاقهم أو تنصيرهم، ومن ذلك ما أمر به البابا إنوسان الرابع فى سنة 1248 م، ملك أراجون خايمى الأول من وجوب استرقاق المسلمين فى الجزائر الشرقية. ولكن خايمى لم يأبه لذلك الأمر. ولما فتح ثغر بلنسية فى سنة 636 هـ (1238 م)، سمح للمسلمين أن يبقوا فيها كمدجنين. وكان ملوك قشتالة وأراجون يعارضون هذه السياسة العنيفة، لبواعث وأسباب تتعلق بمصالحهم القومية ورخاء بلادهم. ذلك لأن المدجنين كانوا بين رعاياهم، أفضل العناصر وأنشطها، ¬_______ (¬1) عنوان هذه الرسالة المخطوطة هو: "كتاب أسنى المتاجر فى بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب على ذلك من العقوبات والزواجر"، وهى تقع فى عشر لوحات مزدوجة وتوجد ضمن مجموعة مخطوطة لا عنوان لها، وتحفظ بمكتبة دير الإسكوريال برقم 1758 الغزيرى، وفى نهاية هذه المجموعة أنها كتبت سنة 896 هـ (1490 م). وقد قام بتحقيقها ونشرها أخيراً الدكتور حسين مؤنس، وذلك فى مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (المجلد الخامس ص 129 - 191).

وأكثرها دأبا ومثابرة، وأوفرها تأدية للضرائب، وكانوا ساعد النبلاء الأيمن فى زراعة أراضيهم واستغلالها. وكانوا يستأثرون بالتفوق فى العلوم والفنون والمهن. وكانوا أبرع الأطباء والمهندسين والبنائين. وكان لهم الفضل الأول، فى إدخال محاصيل عديدة فى اسبانيا النصرانية، مثل القصب والقطن والأرز والحرير والتين والبرتقال واللوز وغيرها، وما زالت مشاريع الرى التى أنشأوها، ولاسيما فى مناطق اسبانيا الشرقية والشمالية الشرقية تشهد بعبقريتهم فى هذا المضمار. وهم الذين وضعوا أسس الصناعة الإسبانية، وكانوا أساتذة الصناعات الدقيقة، وكانت صناعاتهم ولاسيما المنسوجات القطنية والحريرية، والفخار والخزف والجلود، نماذج بارعة تحذو حذوها الصناعة الأوربية، فلم يك ثمة أشهر من خزف مالقة، ولا أقمشة مرسية، ولا حرير ألمرية وغرناطة، ولا أسلحة طليطلة، ولا منتجات قرطبة الجلدية. وكانت بلنسية التى تضم كتلة كبيرة من المدجنين، تعتبر من أغنى ثغور أوربا بما تنتجه من السكر والنبيذ وغيرهما من المنتجات العديدة. وكان المدجَّنون مثال النشاط والدأب، يزاولون التجارة بنجاح وشرف، وكانوا أفضل التجار وأوفرهم أمانة ونزاهة، ولم يكن بينهم متسولون إذ كانوا يعولون فقراءهم. وكانوا مثلا للنظام والسكينة، يحسمون منازعاتهم بأنفسهم. وعلى الجملة فقد كانوا يؤلفون أصلح عنصر بين السكان الذين يمكن أن تحتويهم أى البلاد (¬1). ويلخص لنا المؤرخ الإسبانى خانير أحوال المدجَّنين فى عصور التسامح والتزمت معاً على النحو الآتى: "كان ثمة معاهدات من كل ضرب، تحترم بإخلاص فى سائر نقطها الجوهرية وتعتبر أساساً للحقوق والتعهدات المدنية للأندلسيين المدجنين، ويختلف بعضها عن بعض، سواء فى قشتالة أو أراجون، وفقاً لتباين النقط التى تتعلق بالامتيازات المختلفة. فهنا مثلا تطبق بنوع من التوسع، أو بروح يقل أو يكثر من الحرية أو التزمت، وذلك وفقاً لما نصت عليه اتفاقات تُطيلة أو طرطوشة، وقوانين قيجاطة أو عسقلونة، أو قلعة أيوب أو طليطلة، أو امتيازات بلنسية أو قرطبة أو إشبيلية، أو امتيازات القرى أو المزايا التى منحت للأحياء أو الضياع التى ¬_______ (¬1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain, V. II. p. 66, 67 ; Dr. Lea: The Moriscos of Spain p. 57.

يسكنها كلها المسلمون. ومن أمثال التوسع والتسامح التى يقدمها إلينا التاريخ، وهو واحد من عدة كثيرة، الإمتياز الذى منحه خايمى الفاتح إلى مسلمى "وادى أوشو"، بأن يسكنوا فيه، وأن يقيلهم من الجرائم التى ارتكبت فيه، والعقوبات التى وقعت بسببها، ومن الديون التى عليهم لليهود، وأن يستمروا فى تطبيق شريعتهم، وأن يعلموا القرآن جهراً لأولادهم، وأن يقوموا جهراً بسائر شعائرهم الإسلامية، وأن يتعاملوا فى كل شىء داخل المنطقة كلها، ويدفعوا الضرائب المعتادة، باستثناء السنة الأولى حيث يعفون منها، وأخيراً بأن يحكموا فى قضاياهم الخاصة، وأن يقوموا بإدارة إيراد المساجد، وتعيين القضاة والعلماء وفقاً لتقاليدهم القديمة، ثم ولا يسمح لنصرانى أو متنصر أن يقيم بينهم دون إذن خاص منهم، وأن يحصلوا على عهد بتأمين أنفسهم وأموالهم، سواء بالنسبة لهم أو بالنسبة لأعقابهم، وهم يتعهدون من جانبهم بأن يؤدوا العشور، وأن يتعاونوا مع الدولة ومع باقى الرعايا من جيرانهم، وألا يقتربوا مطلقاً من الأماكن التى توجد بها الحرب، وألا يساعدوا أعداء ملوك أراجون. بيد أنه كان ثمة طوائف أخرى من المدجنين أقل حظاً، فى بعض القرى التى أخضعت لبعض الفروض، ذلك أنه بالرغم من منحهم حرية التعبد، وضمان أملاكهم، فإنه نص مع ذلك على ألا يتخذوا الرقيق أو الخدم من النصارى، وألا يأكلوا أو يستحموا مع النصارى، وألا يقوموا بعلاجهم حال المرض، وألا يدفنوهم فى مدافنهم؛ كذلك حرم عليهم أن يقوموا علناً بشعائر دينهم، وألا يتخذوا مسائل الدين المسيحى موضعاً للمناقشة. ويلاحظ، أنه خلال هذه القيود العادلة التى كانت تقتضيها كرامتنا، فى عصر كانت الحروب الدينية تلهب فيه حماسة الكافة، أن حالة المدجَّنين كانت أفضل بكثير من حالة اليهود. وأن المدجنين قد استحقوا الثقة فى عهودهم. وقد كان المدجنون واليهود كلاهما يعاونون الدولة بدفع العشور من مواردهم، وكان هذا مما يرضى العرش، أو السادة، أو الأحبار الذين يتبعونهم. ونحن متى تدبرنا ذلك التنوع الذى يقدمه لنا التشريع النصرانى للجنس المغلوب خلال عصر الإسترداد، يجب ألا نعتقد أننا نستطيع أن نكتشف نظاماً سياسياً معيناً، يقصد إلى استغراق السكان المسلمين مباشرة، سواء بالقوة أو بالمصانعة، ويفضى تدريجياً إلى الوحدة، التى حققت فى النهاية فى المملكة، وكان واجباً أن

تحققها الأمة الإسبانية فى الدين كما تحققت فى شكل الحكومة. والواقع أنه إذا لم يكن ثمة نظام معين -كان من المستحيل تحقيقه أيام الاسترداد- فإنا نجد مع ذلك من خلال التعامل السلمى بين النصارى والمدجنين، والحرية المطلقة فى التعبد، ميولا واضحة للتوفيق قدر الإمكان بين الأجناس دون قوة ودون عنف. وهكذا فإنه مع ترك المساجد للمسلمين، كان الظافرون يخصصون أحدها فقط، وهو المسجد الجامع للعبادة النصرانية، كما حدث فى جيّان وقرطبة وإشبيلية. ولنفس هذه الغاية أنشأ الفونسو العالم فى سنة 1245 م فى إشبيلية دراسات لاتينية وعربية، وأمر أن تُرفع بعض الضرائب عن الأشخاص الذين ينتظمون فى دراستها. ويكفى للتدليل على روح التسامح التى كانت سائدة بين الأمتين أن نذكر التحية التى أداها ملك غرناطة المسلم لذكرى وفاة سان فرناندو، حيث أرسل فى سنة 1260 م، إلى الاحتفالات الدينية التى أقيمت بهذه المناسبة فى كتدرائية إشبيلية، طائفة من الفرسان من حاشيته، ومائة من المسلمين، حملوا فى أيديهم مع كثيرين آخرين شموعاً بيضاء. وفى خلال حرب غرناطة، أيام الملكين الكاثوليكيين، وهو عصر عظيم فى تاريخنا، كانت فيه القسوة تمتزج بالبطولة، سقطت أماكن كثيرة فى أيدى النصارى، بفضل ما أبداه هذان الملكان من الكياسة والحكمة السياسية، وما منحاه من ضروب الرحمة، والمنح الأخرى إلى المغلوبين، الذين فتحوا أبوابهم طوعاً، فى حين أنهم لو قاوموا حتى النهاية، لفرض الأسر على السكان، وبيعوا كالرقيق، ولم يمنحوا عهداً ما" (¬1). وقد لبث ملوك قشتالة عصوراً يحرصون على الانتفاع بنشاط المدجنين وحمايتهم. ونستطيع أن نقول على ضوء الوثائق التى سبقت الإشارة إليها إنه كانت ثمة طوائف كبيرة منهم حتى القرن الخامس عشر، تعيش فى أنحاءكثيرة من اسبانيا النصرانية محتفظة بدينها ولغتها وتقاليدها (¬2). وكانت البابوية تسير على خطتها، من التحريض ¬_______ (¬1) Florecio Janer: Condicion Social de los Moriscos de Espana (Madrid 1857) p. 13 & 14. (¬2) نشر المستشرق ديرنبور صورة وثيقة عربية إسبانية مؤرخة فى سنة 1312 م بعنوان: Une Charte Hispano-Arabe de l'année 1312:، وقد عقدت بين جماعة من المدجنين المقيمين بنافار وبين رئيس مستشفى يوهان دى أورشليم النصرانى. وفيها تبين حقوق كل طرف وواجباته. ومما رتب فيها على المدجنين "أن تعطوا للاشبطال Hospital المذكور الثلث من كل ما تجمعوا من طعام ومن عنب ومن زيتون ومن فول، ومن كل نوع من كل ما تجمعوا من كل فاكهة. وهذا =

عليهم والمطالبة بتجريدهم من دينهم، والعمل على تنصيرهم بطريق الاضطهاد والعنف، وتردد الكنيسة الإسبانية من جانبها هذا التحريض. ولكن هذه السياسة الباغية لم تحدث أثرها إلا ببطىء، ولم يتسع نطاقها إلا فى أواخر القرن الخامس عشر عندما أشرفت الدولة الإسلامية فى غرناطة على نهايتها. وكان قيام مملكة غرناطة فى ذاته، عنصراً من عناصر تكييف السياسة الإسبانية إزاء المدجنين. ذلك أن ملوك اسبانيا فوق ما كان يحدوهم من رغبة المحافظة على مصالحهم وسكينة بلادهم بإيثار الرفق فى معاملة المدجنين، كانوا أيضاً يخشون سياسة الانتقام من النصارى المقيمين فى غرناطة، وفيما وراء البحر فى بلاد المغرب، بل وفى الممالك الإسلامية الأخرى مثل مصر وتركيا. على أن العوامل الاجتماعية والمحلية كانت من جهة أخرى تحدث أثرها فى مجتمع المدجنين. ذلك أنه بالرغم من جميع الفوارق التى كانت تفصل بينهم وبين النصارى، فقد جنح الكثير منهم إلى التشبه بجيرانهم، وانتهوا بمضى الزمن وأثر الاختلاط والتزاوج إلى فقد دينهم ولغتهم، ومميزاتهم الجنسية والقومية، والاندماج شيئاً فشيئاً فى المجتمع الذى يعيشون فيه؛ وهكذا أصبحوا بالتدريج قشتاليين ونصارى، وأضحى علماؤهم يكتبون كتب الدين والشريعة بالقشتالية ¬_______ = كله أن يعملوه فى عهد وميثاق وصدق. وكل مسلم أن يحبس دار ونار فى أسران المذكور أن يقدم لقائد أسران الذى يكون على الاشبطال المذكور ربع من قمح، النصافة من قمح والنصافة من شعير فى شهر أغشت من كل عام طول الأبد، وكل دار أن يعطى للاشبطال المذكور أربعة مرافق من تين فى كل عام، وكل عامر مسلم ومسلمين فى الموضع المذكور أى يعملوا كل نفقة أن يحتاج فى الموضع المذكور .. " ثم تقول الوثيقة: "أن يطبخوا المسلمين المذكورة خبزهم فى فرن الإشبطال المذكور عن دايم الدهر، وأن يعطوا من ستة عشر خبزة واحدة، ولا يقطعوا أشجار، ولا يقلعوا كرمان دون أمر قائد أسران .. " يكون جميع خصماتكم لحكمه (أى القمندور) وإن كان تريدوا تعملوا عند حكمه ارتفاع (استئناف) أن تعملوا أمام كل قاضى أن يكون مسلم من تطيلة كما هو سنتكم وشرعتكم، وأن تكونوا أجسامكم وأموالكم ملتزمة للاشبطال المذكور، وذلك بشرط أن لا يكون لأحد منكم أن يخرج من الموضع المذكور، وكل واحد منكم لا يبيع ولا يرهن ميراث الاشبطال لنصرانى أو يهودى. ونص فى نهاية الوثيقة أنها ختمت بخاتم دون بطره غرسيس ملك نبره (نافار)، وأرخت فى الثامن عشر من فبراير سنة أحد عشر وسبعمائة هجرية وهى توافق سنة 1311 م. ووقعها من المدجنين سبعة منهم موسى الليلى المجتى والمراتب بن وليد وعيسى بن موسى ولب يارس دريس. ووضعت أصولها الإسبانية فوق كل عبارة عربية. ويبدو من مضمون هذه الوثيقة العربية الإسبانية ومن ركاكتها أن المدجنين فى هذه المنطقة من نافار كانوا أقل احتفاظاً بلغتهم وامتيازاتهم وأنهم كانوا قد بدأوا يومئذ يفقدون كيانهم الاجتماعى وامتيازاتهم القديمة.

للرجوع إليها. وقام أيضاً بين المدجنين أدب قشتالى، استمر عصوراً حتى بعد إخراج العرب المتنصرين من اسبانيا (¬1). على أن المدجنين لبثوا بالرغم من هذا الاندماج الاجتماعى تطبعهم مسحة خاصة تباعد بينهم وبين المجتمع النصرانى القديم (¬2). كان نظائر هؤلاء الأندلسيين المدجنين، جمهرة من النصارى الإسبان يعيشون فى القواعد والثغور الإسلامية، ويعرفون بالنصارى المعاهدين أو المستعربين (وبالإسبانية Mozarabes) . وقد لبثوا عصوراً يتمتعون فى ظل الحكم الإسلامى بضروب الرعاية والتسامح. وكانت الحكومات الأندلسية، حتى فى أزهى عصورها، تحافظ على سياسة التسامح التى اتبعت إزاءهم منذ الفتح، وتعاملهم بالرفق، وتحترم شعائرهم الدينية وتقاليدهم القومية، وتجانب أية محاولة لإرغامهم على اعتناق الإسلام. وكان من ضروب هذه الرعاية، أن أنشىء فى ظل حكومة قرطبة منذ عهد الحكم بن هشام، ديوان خاص للنظر فى شئون أهل الذمة (النصارى واليهود)، يتولاه كبير من الأحبار النصارى يطلق عليه " قومس أهل الذمة". وهكذا استطاعوا دائماً أن يحتفظوا بدينهم ولغتهم، ومميزاتهم القومية والاجتماعية. وكانت حال النصارى فى ظل الحكم الإسلامى، أفضل بكثير مما كانت عليه أيام القوط، وكثيراً ما كان يعهد إليهم بمناصب القيادة والوزارة، أو ينتظمون فى البلاط والحرس الملكى. ومع ذلك فقد كانت منهم دائماً طوائف متعصبة تسىء استعمال هذا التسامح، وتحاول بمختلف الوسائل أن تكيد للإسلام ودولته ومن ذلك ما حدث فى عهد عبد الرحمن بن الحكم (أواسط القرن التاسع الميلادى) من الحوادث الدموية التى أثارها تعصب النصارى (¬3). وهكذا فإن النصارى المعاهدين، لم يشعروا دائماً بالولاء والإخلاص للدولة الإسلامية. التى يعيشون فى ظلها، والتى توليهم كثيراً من رعايتها ورفقها، وكانوا دائماً يتربصون بها، وينتهزون الفرص لمناوأتها والكيد لها، ويستعدون عليها الوطن القديم، كلما اضطربت شئونها. وعصفت بها عواصف الثورة والحرب الأهلية. وكانت أعظم ¬_______ (¬1) المقصود هنا أدب الألخميادو Aljamiado وهو عبارة عن كتابة اللغة القشتالية المحرفة بحروف عربية مشكلة. وكان العرب المتنصرون يضطرون إلى كتابة كتبهم الدينية بهذه اللغة بعد أن حرمت عليهم لغتهم العربية، وسنعود إلى التحدث عن ذلك فيما بعد. (¬2) Dr. Lea: History of the Inquisition, V. I. p. 65. (¬3) راجع كتاب " دولة الإسلام فى الأندلس" (الطبعة الثالثة) العصر الأول ص 264 - 270.

خيانة ارتكبوها من هذا النوع، فى أواخر أيام المرابطين، حينما دعوا ألفونسو الأول ملك أراجون الملقب بالمحارب عقب استيلائه على سرقسطة، إلى أن يسير إلى غزو الأندلس، بعد ما لاح من انحلال سلطان المرابطين فيها، واستجاب ملك أراجون لتحريضهم، وسار مخترقاً الأندلس بجيوشه، والنصارى المعاهدون فى كل قاعدة ينهضون إلى معاونته بوسائلهم، وذلك فى سنة 519 هـ (1125 م)، ْحتى انتهى إلى فحص غرناطة وحاصرها حيناً، ثم غادرها إلى الجنوب، ونشب القتال بينه وبين المرابطين فهزمهم. ولبث حيناً يعيث فى تلك الأنحاء، والنصارى المعاهدون يهرعون إلى شد أزره، ويمدونه بالأقوات والمؤن. ثم عاد ثانية إلى اختراق الأندلس إلى أراجون، وقد انضم إلى جيشه آلاف من النصارى المعاهدين. ولفتت هذه الغزوة أنظار المسلمين إلى خطر بقاء أولئك المعاهدين فى الثغور والقواعد الأندلسية، فانقلبت الحكومة الإسلامية إلى مطاردتهم، وأفتى القاضى أبو الوليد ابن رشد الجد بإدانتهم فى نقض العهد والخروج على الذمة، ووجوب تغريبهم وإجلائهم عن الأندلس، وأخذ أمير المرابطين علىّ بن يوسف بهذه الفتوى، وغرّبت ألوف من النصارى المعاهدين إلى إفريقية، وفرقوا هنالك فى أماكن مختلفة، وهلك الكثير منهم بسبب الطقس وتغير وسائل التغذية، وضم السلطان كثيراً منهم إلى حرسه الخاص، وكانت هذه المحنة سبباً فى تمزيق عصبتهم وإضعاف شوكتهم (¬1). وقد كان مجتمع المستعربين أو النصارى المعاهدون، حتى فى القواعد الأندلسية التى سقطت تى يد اسبانيا النصرانية، وبسط عليها النصارى حكمهم، يتأثر بمجتمع المدجنين، وبأحواله وتقاليده، حتى أنهم كانوا يتخذون اللغة العربية لغة التعامل، ولغة التخاطب أحياناً، إلى جانب لسانهم القومى. وقد قمنا بدراسة مجموعة من الوثائق العربية المحفوظة بدار المحفوظات التاريخية بمدريد، والمنقولة إليها من دير سان كلميمنتى بطليطلة، وهى مجموعة ضخمة، كلها عقود تعامل من بيع وشراء وهبة وإيجار ووصية وغيرها، ومعظمها مكتوب فى القرن الثالث عشر الميلادى، وبعضها فى القرن الثانى عشر. وهى محررة على الأغلب بين المستعربين وأحياناً بينهم وبين المدجنين، بأسلوب عربى لا بأس به، وكلها تستهل بالبسملة مقرونة أحياناً بعبارة " وبه نستعين " أو " الحمد لله وحده "، وعلى كثير منها شهود مسلمون ¬_______ (¬1) راجع الإحاطة ج 1 ص 115 و 120؛ والحلل الموشية ص 70 و 81؛ وراجع كتابى " عصر المرابطين والموحدين فى المغرب والأندلس " القسم الأول - ص 108 - 112.

مدجنون إلى جانب الشهود النصارى، ومما يلفت النظر أن أسماء المستعربين النصرانية قد عربت فيها تعريباً حسناً، وإليك ملخص لبعض ما جاء فيها: (1) من ذلك وثيقة مؤرخة فى "شهر دجنبر من عام سبعة وثمانين وماية وألف من تاريخ الصفر" (1187 م) وبمقتضاها " باعت الراهبة دونة بويابيه وأختها كرشتينة بنتى تمام الرطلقى ومرتين ودمنغة إبنى بشتة بنت تمام الرطلقى ومريّة ولوقاذة بنتى دمنغة بنت تمام الرطلقى من دون ردريق مينوس ومن زوجته دونه سسيلية نصف الضيعة المعلومة لتمام الرطلقى بقرية دليش مالمزنوفه من عمل طليطلة حرسها الله وذلك سهم ونصف والحنان كله الذى فيه البير إذ تبقت عواضه البيوت المعلومة لتمام المذكور بالقرية المذكورة .. بثمن عدته عشرون مثقالاونصف ذهباً مرابطية دفع المبتاعان بجميع الثمن إلى البائعين وقبضوه منهما ... " وعلى الوثيقة أسماء شهود مدجنين مثل دمنغة بن عبد العزيز، واشتامن بن حسان، وشهود من النصارى. (2) ووثيقة مؤرخة فى شهر "أغشت من سنة ثلاث وسبعين وماية وألف لتاريخ الصفر" (1173 م) بمقتضاها" اشترى الوزير دون ميقايال بيطس أعزه الله من بهلول وأخيه بيطرة ابنى مرتين بن بهلول رحمه الله جميع الدار الكبيرة، والقرال المتصل بها من جهة الغرب والقبلاريسة المتصلة بها أيضاً من جهة القبلة حدود جميع ذلك كله فى الشرق الطريق السالك وإليه يشرع الباب، وفى الغرب دار ابن طورينه المسلم أمين الفخارين، وفى القبلة دار بيطرة البنا بن بهلول، وفى الجوف دار تبقت بيد البائعين، ودار سلمة بن حسان ... بثمن عدته ثمانون مثقال ذهباً مرابطية ... " وتحمل الوثيقة أسماء عدة شهود مسلمين مثل عبد الله ابن داود، وعامر بن تمام، وعلى بن عياش. (3) ووثيقة مؤرخة فى "العشر الأخر من شهر أكتوبر سنة خمس وأربعين ومايتين وألف للصفر " بمقتضاها " اشترى الوزير دون شانجه شقورة الفرايلى أدام الله عزته من دون خوان دمنغة بن الصباغ ومن زوجته دونة مريّة بنت تيان بيطر من جميع الكرم الكبير الذى لهما بحومة خندق عقرون من أحواز مدينة طليطلة حرسها الله، وحده فى الشرق كرم لورثة دون أندراش البرجمانس وفى الغرب مخدع سالك من نهر تاجه إلى الحقل وفى القبلة أرض بنضل لدون فرنندة بن بوارى عبد الملك وفى الجوف كرم كان للوزير المتشرف أبى عمر بن جوفار

ومنزل الآن للقاضى دون يليان افمانس ... والثمن مبلغه وعدته ستون مثقالا ذهباً من الذهب الأذفونشى الضرب دفع المبتاع المذكور جميع الثمن للبايعين المذكورين وقبضاه منه ... وخلص بذلك للمبتاع المذكور ملك جميع المبيع الموصوف ... الخ " وعلى الوثيقة شهود مسلمون ونصارى. ونحن نكتفى بإيراد ما تقدم من هذه الوثائق. وهذه العقود تدلى بكثير من الحقائق التاريخية، فمنها يستدل أولا على أنه كانت توجد بطليطلة حتى أواخر القرن الثالث عشر، أقلية مسلمة هامة من المدجنين. ونحن نعرف أن طليطلة سقطت فى أيدى النصارى منذ سنة 478 هـ (1085 م). ومنها نعرف الكثير عن خطط طليطلة فى القرنين الثانى عشر والثالث عشر للميلاد، ومنسوب أثمان العقارات، ونوع العملة المستعملة فى التعامل، وفيها ما يدل بوضوح على توثق أواصر المودة والتفاهم بين المدجنين والنصارى (¬1). على أن الكثرة الغالبة من المسلمين فى القواعد الأندلسية الذاهبة، كانت تؤثر الالتجاء إلى أرض الإسلام والتشبث بلواء الدولة الإسلامية. وهكذا أخذت مملكة غرناطة، تموج منذ أواسط القرن السابع الهجرى بسيول الوافدين عليها، من بلنسية ومرسية وقرطبة وإشبيلية وجيان وبياسة وغيرها، وهكذا غدت المملكة الصغيرة تضيق بسكانها المسلمين، بعد أن احتشدت بقايا الأمة الأندلسية المتداعية فى تلك المنطقة الضيقة. ومن المرجح أن مملكة غرناطة كانت تضم فى عصورها الأخيرة، زهاء خمسة أو ستة ملايين من الأنفس، وكانت غرناطة وحدها تضم أكثر من نصف مليون نفس، وقد كانت هذه الهجرة الغامرة من مختلف القواعد الأندلسية فى الشرق والغرب، إلى ذلك الوطن الأندلسى الجديد، تضفى على التكوين العنصرى لسكان مملكة غرناطة طابعاً خاصاً. وبالرغم من أن العناصر الأساسية التى تتكون منها الأمة الأندلسية، وهى العرب والبربر والمولدون - وهم أعقاب الإسبان الذين أسلموا منذ الفتح - لبثت على كر العصور ¬_______ (¬1) تحفظ هذه الوثائق فى قسم Archivos Historicos الملحق بالمكتبة الوطنية بمدريد. وقد نشر معظم وثائق هذه المجموعة المستشرق الإسبانى الكبير كونثالث بالنثيا Gonzalez Palencia مقرونة بترجمته الإسبانية فى أربعة مجلدات كبيرة تحت عنوان Los Mozarabes de Toledo en los Siglos XII y XIII ونشرت مقتطفات منها فى P. Boigues: Escrituras Mozarabes Toledanas.

صورة وثيقة مستعربية Mozarabe من مجموعة دير سان كلميمنتى بطليطلة، وهى عبارة عن عقد شراء مؤرخ فى شهر " أغشت " سنة 1173 م، وقد وقع عليها شهود مسلمون مدجنون إلى جانب المتعاقدين النصارى.

دون تغيير، فإنه يلاحظ أن الجموع الوافدة على المملكة الإسلامية الجديدة، كانت تضم كثيراً من العناصر التى صقلتها حضارة أرقى، ومن ثم فإنه يمكن القول بأن الأمة الإسلامية الجديدة، كانت تمثل أطيب وأثمن ما بقى من القيم العنصرية والحضارية للأندلس القديمة. وكان المولدون يمثلون فى المجتمع الأندلسى الجديد مثولا قوياً. وكان أولئك المولدون قد نموا بمضى الزمن حتى غدوا عنصراً هاماً بين سكان الأمة الأندلسية. وكان العرب والبربر ينظرون إليهم وبشىء من الريب. وكانوا بالرغم من تمتعهم فى ظل الحكومات الإسلامية المتعاقبة بنفس الحقوق التى يتمتع بها باقى المسلمين، ينزعون إلى الثورة فى أحيان كثيرة، وقد كان لهم شأن يذكر، فى إضرام بعض الثورات الخطيرة التى اضطرمت ضد حكومة قرطبة، مثل ثورة الربض، وثورة طليطلة أيام الحكم بن هشام، وثورة بنى قسىّ فى الثغر الأعلى، وقد كان جدهم الكونت قسىّ قوطياً نصرانياً. وكان المولدون أعوان ابن حفصون أعظم وأخطر ثوار الأندلس، وهو الذى استطاع بمؤازرتهم ومؤازرة النصارى المعاهدين، أن ينشىء مدى حين مملكة مستقلة فى منطقة رندة (أواخر القرن التاسع الميلادى). وكان ابن حفصون مولداً يرجع إلى أصل نصرانى. على أن المولدين كان لهم موقف آخر ضد الغزاة القادمين من إفريقية. فقد وقفوا إلى جانب مواطنيهم الأندلسيين ضد المرابطين ثم الموحدين، وكان عماد الثورة ضد المرابطين فى غربى الأندلس زعيم من المولدين هو الفقيه المتصوف أحمد بن قسىّ شيخ المريدين، وكان زعيم الثورة ضد الموحدين فى شرقى الأندلس زعيم من المولدين هو محمد بن سعد بن مردنيش أمير بلنسية ومرسية. وكان يتحدث القشتالية ويلبس الملابس الإفرنجية، ويحشد فى جيشه كثيراً من الضباط والجند النصارى (¬1). ولم يكن للعاطفة الدينية فى تلك العصور وفى تلك الظروف دائماً كبير أثر، بل كانت تغلب فى معظم الأحيان عواطف القومية والمصلحة الخاصة. ويبدو ذلك بنوع خاص فى سياسة زعيم مثل ابن مردنيش كانت سياسته تقوم على مصادقة النصارى، والاستعانة بهم على تنفيذ خططه (¬2). كذلك كان يمثل بين سكان غرناطة أقلية يهودية قوية، معظمهم من طائفة " السفرديم " القديمة أو اليهود الإسبان. وكان لليهود فى ظل معظم ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 2 ص 87. (¬2) Dr. Lea: History of the Inquisition, V. I. p. 50.

الحكومات الإسلامية نفوذ يذكر. وكان منهم أعلام فى العلوم والآداب مثل الرئيس موسى بن ميمون القرطبى، الذى غادر الأندلس إلى المشرق فى أواسط القرن السادس الهجرى، فراراً من اضطهاد الموحدين، وكان لهم مثل هذا النفوذ فى مملكة غرناطة، ومنهم معظم أطباء البلاط والخاصة. وكانت العروبة تغلب على السكان المدنيين فى مملكة غرناطة، ولاسيما بعد أن نزح إليها على أثر سقوط القواعد الأندلسية فى أيدى النصارى، كثير من سادة البطون العربية القديمة. ويذكر لنا ابن الخطيب عشرات من الأنساب العربية العريقة التى كان ينتمى إليها أهل غرناطة. بيد أنها كانت عروبة من نوع خاص، صقلتها الأمة الأندلسية، وأضفت عليها طابعها وألوانها الخاصة. ويصف ابن الخطيب الغرناطيين بوسامة الوجوه، واعتدال القدود، وسواد الشعر، ونضرة اللون، وإناقة الملبس، وحسن الطاعة والإباء، يتحدثون بعربية فصيحة تغلب عليها الإمالة. ويصف نساءهم بالجمال والرشاقة والسحر، ونبل الخلال، ولكنه ينعى عليهن المبالغة فى التفنن فى الزينة والتبهرج فى عصره. أما الجند فكانت فيهم كثرة ظاهرة من البربر، ولا سيما من قبائل زناتة ومغراوة وبنى مرين. ويرجع ذلك إلى أن طوائف البربر التى تخلفت منذ عهد المرابطين والموحدين بالأندلس، كان أغلبها من الجند، وقد بقيت على عهدها تؤثر الجندية على الزراعة والمهن والفنون المدنية (¬1). وهكذا كان الشعب الأندلسى حين آذنت شمسه بالمغيب، كما كان يوم مجده، يتكون من هذا المزيج العربى الإفريقى الإسبانى الذى أطلق عليه الغربيون عبارة "عرب الأندلس" أو "مسلمى الأندلس" (¬2). وكانت الأمة الأندلسية تتمتع حتى فى عصورها الأخيرة بحضارة زاهرة، كانت مثار التقدير والإعجاب فى سائر الأمم الأوربية، وكان يحج إلى معاهدها العلمية كثير من الطلاب من مختلف أنحاء أوربا. وكان الشعب الغرناطى من أهل السنة يدين بمذهب مالك، وهو المذهب الذى غلب على الأمة الأندلسية منذ أواخر القرن الثانى الهجرى، أعنى منذ عصر هشام بن عبد الرحمن الداخل، ولم تتأثر غرناطة فى نزعتها المذهبية ولا تقاليدها الدينية السمحة، بما توالى عليها من سيادة المرابطين والموحدين حيناً من الدهر. ¬_______ (¬1) راجع الإحاطة فى أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 140 - 145؛ واللمحة البدرية، ص 27 و 28. (¬2) وهى بالإسبانية Los Moros، وبالإنجليزية The Moors، وبالفرنسية Les maures

الفصل الرابع طبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية

الفصل الرابع طبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية المعركة الخالدة بين الأندلس واسبانيا النصرانية. تضاؤل قوة الأندلس. قيام مملكة غرناطة. مرحلة جديدة فى الصراع. طبيعة هذا الصراع. العوامل القومية والدينية. نزعة الجهاد عند المسلمين. النزعة الصليبية عند النصارى. قيام الجماعات الدينية المحاربة فى اسبانيا. ضعف العامل الدينى فى بداية النضال. السيد الكمبيادور. المرتزقة النصارى فى الجيوش الإسلامية. التجاء الأمراء النصارى إلى حماية الملوك المسلمين. زواج الأمراء المسلمين بنساء من النصارى. ابن مردنيش. التحالف بين المسلمين والنصارى. التعاون بينهما أيام السلم. الفروسة وعلائق المودة. طبيعة حرب الإسترداد. صبغتها الدينية فى مراحلها الأخيرة. يبدأ بقيام مملكة غرناطة فوق أنقاض الدولة الإسلامية الكبرى فى اسبانيا، طور جديد من أطوار الصراع الخالد بين الأندلس واسبانيا النصرانية، أو بعبارة أخرى طور جديد فيما يمكن أن نسميه فى تلك المرحلة المتأخرة من تاريخ الأندلس حرب الإسترداد القومية. وقد بدأت اسبانيا النصرانية حرب الاسترداد القومية La Reconquista منذ منتصف القرن الخامس الهجرى، أعنى حينما انهارت الدولة الإسلامية القوية، وانتثرت إلى عدة دويلات صغيرة متنافسة هى دول الطوائف. وبلغت الأندلس أيام الطوائف من التفرق والضعف مبلغاً عظيماً، حتى لاح لاسبانيا النصرانية أن عهد الدولة الإسلامية أوشك على الزوال، وأن الفرصة قد سنحت لتضرب ضربتها الحاسمة. وكانت مملكة قشتالة تتزعم اسبانيا النصرانية، وتقودها فى ميدان الصراع مع المسلمين، وكان ملكها أيام الطوائف ألفونسو السادس، يعمل بذكاء لاستغلال منافسة الدول الإسلامية وتفرق كلمتها، ويغلب أميراً على أمير، حتى انتهى بالاستيلاء على مدينة طليطلة من يد صاحبها يحيى بن ذى النون، وذلك فى صفر سنة 478 هـ (مايو سنة 1085 م). وكانت طليطلة أول قاعدة إسلامية عظيمة تسقط فى يد اسبانيا النصرانية. ويعتبر بعض الباحثين سقوطها ختام مرحلة التفوق السياسى الذى احتفظت به الدولة الإسلامية فى شبه الجزيرة منذ الفتح، وبدأ مرحلة التفوق السياسى لإسبانيا النصرانية (¬1) وعلى أى حال فقد كان سقوط ¬_______ (¬1) Isidro de las Cagigas: Los Mudéjares, p. 45.mmmmmm

طليطلة نذيراً خطيراً للأمة الأندلسية، يذكرها بقوة العدو المتربص بها، ويحذرها عاقبة التنابذ والتفرق، فاجتمعت كلمة أمراء الطوائف يومئذ على الاستعانة بإخوانهم فيما وراء البحر، فى عدوة المغرب. وكان المرابطون يومئذ قد بسطوا سلطانهم على سائر بلاد المغرب، وبدت دولتهم قوية شامخة، فاستجاب زعيمهم يوسف بن تاشفين إلى صريخ الأندلس. وعبر البحر بقواته إلى الأندلس. وكانت هزيمة اسبانيا النصرانية على يد جيوش المغرب والأندلس فى موقعة الزلاّقة (479 هـ - 1086 م) فاتحة حياة جديدة للأمة الأندلسية. وبالرغم من أن المرابطين استولوا على الأندلس بعد ذلك بأعوام قلائل وبسطوا حكمهم عليها، فقد استمد الإسلام فى اسبانيا من قوتهم قوة جديدة، وعاد الصراع الخالد بين الدولة الإسلامية وبين اسبانيا النصرانية، يضطرم فى نوع من تكافىء القوى. ولما اضمحل سلطان المرابطين فى الأندلس بعد ذلك بنحو ستين عاماً، وخلفهم الموحدون فى ملك المغرب والأندلس، لبثت الدولة الإسلامية حقبة أخرى فى شبه الجزيرة عزيزة قوية الجانب نوعاً، وإن كانت قد فقدت فى تلك الفترة بعض قواعدها التالدة، مثل سَرقُسطة التى سقطت فى يد النصارى سنة 512 هـ (1118 م) وبقية قواعد الثغر الأعلى التى سقطت بعد ذلك بفترة قصيرة. وأحرز الإسلام للمرة الثانية على النصرانية نصراً حاسما فى موقعة الأرك الشهيرة، التى انتصرت فيها جيوش يعقوب المنصور خليفة الموحدين على جيوش ألفونسو الثامن ملك قشتالة (593 هـ - 1195 م)، وانكمشت اسبانيا النصرانية مدى حين، ولكنها عادت فاجتمعت كلمتها تحت لواء ألفونسو الثامن، وسارت الجيوش النصرانية المتحدة إلى لقاء المسلمين بقيادة خليفة الموحدين محمد الناصر ولد يعقوب المنصور، وأصيب المسلمون فى موقعة العقاب بهزيمة فادحة (609 هـ - 1212 م) وأخذ سلطان الموحدين فى الأندلس يتداعى من ذلك الحين، وبدأ مصير الأندلس يهتز فى يد القدر، وبدت اسبانيا النصرانية يومئذ فى أوج سلطانها وقوتها. ولم تمض فترة وجيزة أخرى حتى بدأت قواعد الأندلس العظيمة، تسقط تباعاً فى يد النصارى: قرطبة (633 هـ) فبلنسبة (636 هـ) فمرسية (641 هـ) فشاطبة ودانية (644 هـ) فإشبيلية (646 هـ). وهكذا سقطت عدة من قواعد الأندلس التالدة ومنها عاصمة الخلافة القديمة فى يد اسبانيا النصرانية فى مدى عشرة أعوام فقط، ولقيت الأندلس أعظم محنها فى تلك الفترة العصيبة، ولاح لاسبانيا mmmmmm

النصرانية أن حرب الإسترداد القومية لن تلبث حتى تتوج فى أعوام قلائل أخرى، بالقضاء على ما بقى من تراث الإسلام فى الأندلس. ولكن شاء القدر أن تتمخض هذه المحنة، التى غمرت الأندلس فى أوائل القرن السابع الهجرى، عن قيام مملكة إسلامية جديدة هى مملكة غرناطة، تتمتع بالرغم من صغرها بكثير من عناصر الفتوة والحيوية. وفى الوقت الذى خيل فيه لاسبانيا النصرانية أنها أضحت على وشك الإجهاز على المملكة الإسلامية، كانت بذور صراع مرير طويل الأمد تنمو وتتوطد، وإذا بالنهاية المرجوة تستحيل إلى بداية جديدة. ولقد استطالت هذه المرحلة الأخيرة من حرب الاسترداد زهاء مائتين وخمسين عاماً، صمدت فيها المملكة الإسلامية لهجمات اسبانيا النصرانية المستمرة، وعملت على استغلال كل فرصة للمطاولة والمقاومة، وأبدت فى النضال على صغر رقعتها وضآلة مواردها، بسالة عجيبة. وكانت كلما شعرت بالخطر الداهم يكاد ينقض عليها ويودى بحياتها، استغاثت بجارتها المسلمة من وراء البحر، أو عصفت بإسبانيا النصرانية ريح الخلاف والتفرق فشغلتها عن إرهاق المملكة الإسلامية حيناً، حتى شاء القدر بعد طول النضال أن تنتهى هذه المعركة القاسية الطويلة إلى نهايتها المحتومة، وأن تنهار المملكة الإسلامية الصغيرة أمام ضغط القوة القاهرة، وأن تختتم حياتها المجيدة أبية كريمة. وهنا يجدر بنا أن نحاول أن نلقى شيئاً من الضياء، على طبيعة هذا النضال، الذى استمر قروناً بين الأمة الأندلسية وبين اسبانيا النصرانية , وإلى أى حد كانت تحدوه العوامل القومية أو الدينية. كانت العوامل القومية والدينية، تمتزج بأدوار هذا النضال فى معظم أطواره، وكانت تشتد حيناً وتخبو حيناً تبعاً لتطور الحوادث. ولما فتح العرب اسبانيا، وسيطرت الدولة الإسلامية على معظم أنحائها، قامت المملكة الإسبانية النصرانية الناشئة فى قاصية الشمال، ترقب الفرص للتوطد والتوسع. بيد أنها لم تجرؤ على تحدى المملكة الإسلامية والنزول إلى ميدان النضال قبل أواخر القرن التاسع، ففى ذلك الحين اضطرمت الأندلس بالفتن والثورات الداخلية، وشغلت حكومة قرطبة بأمر الثوار والنواحى. وكانت غزوات النصارى للأراضى الإسلامية يومئذ غزوات عيث يغلب عليها حب الانتقام والغنم. ولم يكن يطبعها شىء من تلك الروح الدينية العميقة، التى جمعت أوربا النصرانية تحت لواء كارل مارتل mmmmmm

لمحاربة العرب على ضفاف اللوار، والتى حفزت شارلمان فيما بعد إلى عبور جبال البرنيه وغزو الأندلس أيام عبد الرحمن الداخل. غير أنه لما اشتد ساعد الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر (أوائل القرن العاشر الميلادى) وظهرت المملكة الإسلامية فى أوج قوتها وظفرها، ونفذت الجيوش الإسلامية غير مرة إلى أعماق المملكة النصرانية، وشعر النصارى بالخطر الداهم على كيانهم، أخذت العوامل الدينية والقومية تستيقظ من سباتها، واتحدت المملكتان النصرانيتان ليون ونافار (نبرّة) على مقاومة الخطر الإسلامى. وكانت المعارك التى نشبت فى تلك الفترة فى عهد أردونيو الثانى وولده راميرو بين المسلمين والنصارى، تحدوها من الجانبين، فوق نزعتها القومية، نزعة دينية واضحة؛ فكانت غزوات المسلمين تحمل طابع الجهاد، ويهرع أهل الثغور إلى مرافقة الجيش لمقاتلة النصارى، وكان يرافق الجند النصارى إلى القتال جموع غفيرة من الأحبار ورجال الدين، يسقطون إلى جانب الفرسان فى ساحة الوغى. وكانت هذه الصبغة القومية الدينية تبدو كلما اشتد الخطر من الجنوب على اسبانيا النصرانية. ففى أواخر القرن العاشر فى عهد الحاجب المنصور، حينما اشتدت وطأة الأندلس على اسبانيا النصرانية، وغزا المسلمون أقصى وأمنع معاقلها الشمالية، اتحدت الممالك النصراية الثلاثة ليون وقشتالة ونافار ضد المسلمين فى جبهة دفاعية موحدة؛ وبدت كذلك موحدة الرأى والقوى، حينما عبرت جموع البربر إلى الأندلس تحت لواء المرابطين، لتنقذ الأندلس من خطر الفناء الذى كان يهددها، من جراء تفوق ملوك الطوائف. وكانت موقعة الزلاّقة تحمل فى نظر المسلمين طابع الجهاد فى سبيل الله، وتطبعها فى نظر النصارى صبغة صليبية واضحة، ولم يكن نصر الزلاّقة نصراً للأندلس على خصيمتها اسبانيا فقط، ولكنه كان نصر الإسلام على النصرانية أيضاً. وكذا كان نصر الموحدين فى موقعة الأرك، ثم هزيمتهم بعد ذلك فى موقعة العقاب، يحمل كلاهما من الجانبين هذا الطابع الدينى العميق. ويجب أن نذكر أن الحروب الصليبية، قد بدأت فى المشرق بعد موقعة الزلاّقة بقليل، واستمرت تضطرم بين المسلمين والنصارى فى مصر والشام زهاء قرنين، وبلغت ذروتها أيام الملك الناصر صلاح الدين معاصر الخليفة يعقوب المنصور الظافر فى معركة الأرك. ولم يك ثمة شك فى أن النزعة الصليبية التى دفعت بجحافل الغرب إلى الشرق الإسلامى، كانت تحدث صداها قوياً فى اسبانيا النصرانية وفى الغرب الإسلامى.

وفى الوقت الذى كانت جيوش الصليبيين تحاول فيه أن تغزو مصر حصن الإسلام فى المشرق، فى أوائل القرن السابع الهجرى، كانت قواعد الأندلس الكبيرة تسقط فى أيدى النصارى، وكانت اسبانيا النصرانية تبدو يومئذ إزاء الأندلس، موحدة الرأى والقوى، كما كانت الجيوش الأوربية الصليبية تسير إلى المشرق متحدة لتحقيق الغرض المشترك. وقد ظهر صدى النزعة الصليبية فى اسبانيا فى شكل آخر، هو قيام الجماعات الدينية المحاربة. ونحن نعرف أن جماعات الفرسان الدينية قامت فى المشرق فى ظل الصليبيين، واشتهر منهم بالأخص جماعة فرسان المعبد أو "الداوية" كما تسميهم الرواية العربية، وفرسان القديس يوحنا أوالأسبتارية. وكانت هذه الجماعات الدينية المحاربة، تشد أزر الأمراء النصارى وتؤدى للصليبيين أثناء الحرب والسلم خدمات جليلة. وكما أن قيامها فى المشرق كان أثراً من آثار المعارك الصليبية، فكذلك كان قيامها فى اسبانيا أثراً من آثار النضال بين اسبانيا النصرانية وبين اسبانيا المسلمة. ذلك أن بعض الفرسان والرهبان الورعين المتحمسين، كان يحزنهم تفرق الملوك النصارى وتخاذلهم أحياناً فى مقاتلة المسلمين، وكانوا يرون أنه لابد من قيام جماعات غيورة مخلصة من الفرسان، تنذر نفسها للدفاع عن الدين وعن الأراضى النصرانية. وكانت قدوتهم فى ذلك جماعات المسلمين من أهل الثغور والمرابطة، فقد كانت هذه الجماعات المجاهدة التى ترابط عند حدود الأراضى الإسلامية، تبدى فى محاربة النصارى بسالة منقطعة النظير، وتؤدى للجيوش الإسلامية أجلّ الخدمات. فلما أنشئت جماعة فرسان المعبد (الداوية) فى بيت المقدس سنة 1119 م عقب قيام المملكة اللاتينية بقليل، كان لقيامها صدى عظيم فى اسبانيا، ولم تمض أعوام قلائل حتى قامت أول جمعية محاربة دينية فى أراجون فى عهد ألفونسو المحارب، فى صورة فرع لجماعة فرسان المعبد، وأبدى ألفونسو فى تأييدها حماسة، وانتظم فى سلكها الكونت ريمون برنجار أمير برشلونة، وأقطعت عدة حصون وأراض شاسعة على حدود أراجون، كما احتلت عدداً من الحصون فى قشتالة، ونمت بسرعة وأخذت تضطلع من ذلك الحين بدور هام فى سائر المواقع التى تنشب بين النصارى والمسلمين. وقامت فى قشتالة بعد ذلك بقليل أعظم الجمعيات الدينية المحاربة، ففى أواخر mmmmmm

عصر القيصر ألفونسو ريمونديس أو ألفونسو السابع (¬1) ملك قشتالة، قامت حول سنة 1150 م جمعية فرسان دينية قوية فى بعض أديار منطقة شلمنقة، وسميت بجمعية القديس يوليان، ثم سميت بعد ذلك بجمعية فرسان القنطرة. وفى سنة 1158 م قامت جمعية دينية محاربة أخرى، ربما كانت أشهر وأقوى جماعات الفرسان التى ظهرت فى اسبانيا فى هذا العصر، وهى جمعية "فرسان قلعة رباح"، ونشأت لأول أمرها على يد بعض الرهبان الورعين المتحمسين الذين عملوا على حشد الجند النصارى للتطوع للدفاع عن تلك القلعة الحصينة ضد المسلمين، واتخذت قلعة رباح مركزاً لها (¬2). وقامت أيضاً فى البرتغال عدة فروع لفرسان المعبد (الداوية) وفرسان القديس يوحنا (الأسبتارية). وظهرت هذه الجمعيات الدينية المحاربة ولاسيما فرسان القنطرة وفرسان قلعة رباح فى كثير من المعارك، التى نشبت فى تلك العصور بين المسلمين والنصارى، وكان تدخلهم فى كثير من الأحيان من عوامل النصر والإنقاذ للجيوش النصرانية، بيد أنهم بالرغم من صفتهم الدينية والصليبية كانت تحدوهم بواعث وأطماع دنيوية، وكان ظمأ الكسب واجتناء المغانم روحهم المسيرة، وكانوا يسيطرون على قلاع كثيرة وأراض واسعة، ويعيشون فى بذخ وترف، بما يحصلون عليه من الإقطاعات والهبات والنذور الوفيرة، وكان تدخلهم فى شئون السياسة والعرش يشتد أحياناً، ويفضى إلى أحداث وتطورات خطيرة. كانت اسبانيا النصرانية حينما بدأت حرب الإسترداد الحقيقية La Reconquista فى أواسط القرن الثالث عشر، عقب سقوط القواعد الأندلسية الكبيرة، تجيش إلى جانب نزعتها القومية بهذه النزعة الصليبية الواضحة. على أنه يمكن القول أن ظهور هذه النزعة القومية والدينية العميقة فى حروب اسبانيا النصرانية مع المسلمين، لم يكن ملحوظاً بصورة واضحة، حينما كان التفوق فى القوة لإسبانيا المسلمة أيام الدولة الأموية، وحينما كان ثمة نوع من توازن القوى السياسية والعسكرية بين الأندلس واسبانيا النصرانية أيام المرابطين والموحدين وتدل حوادث التاريخ الأندلسى حتى أواخر القرن الثانى عشر على أن التعصب ¬_______ (¬1) Alfonso Raimundez وتعرفه الرواية الإسلامية باسم أدفنش بن رمند أو السليطين. (¬2) تناولنا قيام الجماعات الدينية النصرانية، ونشأة جمعية فرسان قلعة رباح تفصيلا فى " عصر المرابطين والموحدين " القسم الأول ص 518 - 520. mmmmmmmmmmmm

القومى أو الدينى لم يكن دائماً ظاهرة بارزة، فى حروب المسلمين والنصارى. فقد كان الفريقان المتحاربان على وجه العموم يحترم بعضهم بعضاً، وكان التعصب الدينى قاصراً على جماعات الفقهاء من ناحية، وعلى القساوسة والأحبار من جهة أخرى؛ ويوصف المسلمون فى الأناشيد الإسبانية القديمة بأنهم خصوم شرفاء، ولا يجيش النصارى نحوهم ببغض أكثر مما كان يجيش به المسلمون أنفسهم، بعضهم نحو بعض فى الحروب الأهلية التى كانت تنشب فيما بينهم (¬1). يقول العلامة دوزى: "إن الفارس الإسبانى فى العصور الوسطى لم يكن يحارب من أجل دينه أو وطنه، بل كان مثل "السيِّد" يحارب لكسب عيشه، سواء فى ظل أمير مسلم أو أمير نصرانى. ولقد كان "السيِّد" نفسه أقرب إلى روح المسلم منه إلى الكاثوليكى" (¬2). وفى حياة السيد الكمبيادور (الكنبيطور) (¬3) نفسه أوضح مثل لاتجاهات الفروسة الإسبانية فى تلك العصور، فقد نشأ السيد وظهر فى كنف أمير مسلم، وتقلب فى خدمة الأمراء المسلمين والنصارى على السواء، بل لقد خدم الأمراء المسلمين أكثر مما خدم الأمراء النصارى، ولو لم يمت وهو فى خدمة الجانب النصرانى لما حفلت به الأساطير الإسبانية، ورفعته إلى مرتبة البطل القومى (¬4). وفى أحيان كثيرة نرى المرتزقة من الفرسان والجند النصارى يعملون فى الجيوش الإسلامية. وفى مواطن عديدة من تاريخ اسبانيا النصرانية، نرى الملوك والأمراء النصارى خلال الحروب الأهلية يلوذون بحماية الأمراء المسلمين. فقد لجأ سانشو ملك ليون إلى حماية عبد الرحمن الناصر حينما استأثر أخوه أردونيو بالملك دونه، ولجأ ألفونسو السادس ملك قشتالة إلى حماية المأمون بن ذى النون ¬_______ (¬1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain ; V. I. p. 51. (¬2) Dozy: Recherches sur l'Histoire et Littérature de l'Espagne pendant le moyen age ; V. II. p. 203 & 233. (¬3) وبالإسبانية El Cid Campeador؛ ومعناها "السيد الباسل جدا". (¬4) يختلف تقدير التفكير الغربى للسيد الكمبيادور ومنزلته من البطولة، فيرى دوزى فى كتابه ( Le Cid) أنه ليس سوى جندى مغامر يجمع فى شخصه من رذائل عصره أكثر مما يجمع من فضائله ويجاريه فى هذا الرأى معاصره العلامة الفرنسى رينان، ويقول " إنه لم يفقد بطل بخروجه من حيز الاسطورة إلى حيز التاريخ كما فقد السيد". ولكن العلامة الإسبانى المعاصر الأستاذ منندث بيدال يخالف هذا الرأى، ويبالغ فى تقديره للسيد، ويقول " إن الشعر والتاريخ يتفقان فى شأنه، وأنه بالعكس لا يوجد بطل ملاحم أكثر لمعاناً فى ظل التاريخ " R.M.Pidal: La Espana del Cid ; Vol. II. p. 594.mmmmmm

أمير طليطلة، حينما تغلب عليه أخوه سانشو الثانى وعاش فى بلاطه حتى توفى أخوه؛ فلما ارتقى عرش قشتالة كان أعظم مشاريعه أن ينتزع طليطلة من يد القادر بن ذى النون ولد المحسن إليه. وفى سنة 990 م قدّم برمودو (برمند) الثانى أخته زوجة لحاكم طليطلة المسلم. ولم يكن زواج الأمراء المسلمين من الأميرات والعقائل النصارى أمراً نادراً. وربما كان تاريخ بلنسية فى القرنين الحادى عشر والثانى عشر أسطع مثل لهذا الامتزاج والتفاهم بين الفريقين المتحاربين، ففيه يكثر التحالف بين المسلمين والنصارى ولاسيما أيام "السيد" وبعدها. وقد كان أمير بلنسية فى أواخر عهد المرابطين وأوائل عهد الموحدين محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش ينتمى حسبما قدّمنا إلى أسرة من المولدين أعنى من أصل نصرانى، وكان يرتدى الثياب القشتالية، ويعتمد فى جيشه على الضباط والجند النصارى. ولم يحجم أمراء المرابطين فى الأندلس حينما انهارت دولتهم فى المغرب، وبدأ الموحدون فى انتزاع الأندلس من أيديهم، عن الإستعانة بألفونسو ريمونديس ملك قشتالة وحليفه غرسية ملك نافار على محاربة الموحدين. وهذا ما فعله بالأخص الأمير يحيى بن غانية آخر زعماء المرابطين بالأندلس حينما استعان بالقيصر ألفونسو السابع على الاحتفاظ برياسته لقرطبة. وهذا ما فعله أيضاً الخليفة الموحدى أبو العلاء المأمون حينما اتفق مع فرناندو الثالث ملك قشتالة، على معاونته بفرقة من الفرسان النصارى يستعين بها على استرداد العرش من خصومه. ولم ينقطع هذا التعاون بين المسلمين والنصارى حتى بعد أن بدأت مرحلة الإسترداد الأخيرة؛ فقد كان مؤسس مملكة غرناطة محمد بن الأحمر فى بداية أمره، ينضوى حسبما رأينا تحت حماية ملك قشتالة، ويتعهد بمعاونته فى حروبه ضد خصومه من المسلمين والنصارى. ونجد من الجانب الآخر أمراء النصارى، يلوذون من وقت إلى آخر بحماية المسلمين حتى فى ذلك العصر الذى تضاءلت فيه المملكة الإسلامية، فنرى الإنفانت فيلب حينما ثار على أخيه الملك ألفونسو العاشر، يلتجىء مع جماعة من النبلاء إلى حماية السلطان أبى يوسف المنصور المرينى ملك المغرب، ويستقرون ضيوفاً فى بلاط غرناطة، حتى انتهى ملك قشتالة إلى مصالحتهم واسترضائهم (1270 م). وفى سنة 1282 م اضطر ألفونسو العاشر نفسه حينما ثار عليه ولده سانشو وانتزع منه العرش، إلى الاستعانة بالسلطان أبى يوسف، وأرسل إليه تاجه مقابل ما ينفقه على معاونته، فاستجاب إليه وأمده بالمال والجند. وفى سنة 1332 م ثار حاكم

" الفرنتيرة " النصرانى ضد مليكه ألفونسو الحادى عشر، وتحالف مع سلطان غرناطة وعاون بذلك فى رد النصارى عن جبل طارق، وكانوا على وشك الاستيلاء عليه. ولما نشبت الثورة ضد ولده بيدرو القاسى (دون بطره) ونزع عن عرشه، ونشبت بينه وبين خصومه موقعة مونتيل الفاصلة لسنة 1367 م، كان إلى جانبه فرقة من الفرسان المسلمين، أمده بها حليفه الغنى بالله ملك غرناطة (¬1). وهكذا كان التعاون السياسى والحربى يجرى بين الفريقين من آونة إلى أخرى، حتى فى تلك العصور التى مال فيها نجم الأندلس إلى الأفول، ولم تكن تحول دون عقده عوامل القومية أو الدين؛ وكانت العلائق التجارية أيام السلم تجرى بانتظام، وتنظم بمعاهدات ودية بين الفريقين، ومن ذلك معاهدة الصداقة والتحالف التى عقدها محمد بن يوسف ملك غرناطة مع مرتين ملك أراجون لتنظيم العلائق والمبادلات الحرة، وتنظيم التحالف السياسى بين المملكتين (سنة 1405 م) (¬2). هذا ويجب ألا ننسى، ما كان هنالك من علائق المودة والتفاهم بين جماعات الفرسان من الفريقين، وقد كانت الفروسية الإسبانية فى العصور الوسطى تقتبس كثيراً من تقاليد الفروسية الإسلامية وخلالها الرفيعة، وتنظر إليها بعين التقدير والاحترام. وكانت مباريات الفروسية تجمع بين أنبل الفرسان من الجانبين، وكثيراً ما كانت تعقد فى العاصمة الإسلامية فى جو من العطف والحماسة، ويهرع إلى شهودها ألوف من المسلمين والنصارى، وكانت هذه الاجتماعات المثالية البهجة التى تجمع بين العنصرين الخصيمين، أبعد ما يكون عن الاعتبارات القومية والدينية، وقد كانت غرناطة التى اشتهرت بفروستها النبيلة البارعة، مسرحاً لكثير من هذه المباريات الشهيرة. تلك هى الصورة المتباينة، التى تقدمها إلينا معركة السلطان والقوة، ومعركة الحياة والموت، والحرية والاستعباد، بين الأندلس واسبانيا النصرانية. ذلك أن بواعث الدين والقومية، لم تكن دائماً كل شىء، فى هذا الصراع المضطرم الطويل الأمد. ومع ذلك فقد كانت النزعة الدينية أو الصليبية، تبدو كلما لاح شبح الخطر الداهم على كيان أحد الفريقين، أو كلما اتخذ النضال بين الفريقين صبغة حاسمة. ولما شعرت اسبانيا النصرانية أنها أضحت بعد الاستيلاء على القواعد ¬_______ (¬1) سوف نعود إلى تفصيل هذه الحوادث فى مواضعها بعد. (¬2) Dr. Lea: History of the Inquisition ; V. I. p. 52-55.

الأندلسية الكثيرة، وتضاؤل المملكة الإسلامية، فى مركز التفوق والغلبة، لم يكن ثمة ما يدعو لأن تتخذ حرب الإسترداد التى تلت بعد ذلك، بين اسبانيا النصرانية وبين مملكة غرناطة، ألوانا دينية أو قومية عميقة. ذلك أن معركة السلطان قد بُتّ فيها نهائيا بظفر اسبانيا النصرانية، وأضحى القضاء على الأندلس مسألة وقت فقط. وكانت اسبانيا النصرانية كلما حاولت أن تتعجل تحقيق هذه الغاية القومية الخطيرة، عاقتها المنازعات والثورات الداخلية، أو ردها تدخل الدولة الإسلامية القوية فيما وراء البحر. على أنه ما كاد يبدو تفكك المملكة الإسلامية قوياً واضحاً، وما كادت حرب الإسترداد تدخل فى طورها الأخير، حتى بدت النزعة القومية والدينية واضحة قوية، فى جهود اسبانيا النصرانية للقضاء على مملكة غرناطة. ولما اتحدت اسبانيا النصرانية نهائيا، وتم اندماجها فى مملكة موحدة بزواج فرناندو ملك أراجون وإيسابيلا ملكة قشتالة، اتخذت حروب غرناطة الأخيرة لوناً صليبياً عميقاً، يذكيها ويزيد فى ضرامها حماسة هذه الملكة الورعة المتعصبة، ومن حولها الأحبار المتعصبون، وأسبغ على فرناندو لقب "الكاثوليكى" وعلى إيسابيلا لقب "الكاثوليكية"، وكان أول عمل قام به الجند القشتاليون حينما دخلوا غرناطة فى الثانى من يناير سنة 1492، أن رفعوا الصليب فوق أبراج الحمراء، ورفعوا إلى جانب علم قشتالة علم القديس ياقب، وأقام الرهبان القدّاس داخل قصر الحمراء، ودفنت الملكة إيسابيلا وزوجها الملك فرناندو فى كتدرائية غرناطة التى أقيمت فوق أنقاض المسجد الجامع، تنويهاً بظفرهما على الإسلام. وكانت سياسة اسبانيا النصرانية إزاء الأمة الأندلسية المغلوبة، منذ إكراهها على التنصير فى عصر فرناندو حتى مأساة النفى النهائى فى عصر فيليب الثالث، تقوم على بواعث دينية وصليبية محضة، يصوغها ويمليها أحبار الكنيسة، ويدعمها ديوان التحقيق بقضائه الكنسى المروع ووسائله الدموية؛ وعلى الجملة فقد كانت جهود اسبانيا النصرانية فى القضاء على الأمة الأندلسية، تمثل منذ بدايتها إلى نهايتها مأساة من أروع وأشنع مآسى التعصب الدينى والقومى التى عرفها التاريخ. وتلك المأساة التى استطالت منذ قيام مملكة غرناطة زهاء مائتين وخمسين عاماً هى التى نستعرض حوادثها وظروفها فيما يلى من فصول هذا الكتاب.

الفصل الخامس تاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة

الفصْل الخامسُ تاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة انقسام اسبانيا النصرانية فى القرن الحادى عشر. تنافس الإمارات النصرانية. القضاء على مملكة نافار وعودها. اتحاد قطلونية وأراجون. الممالك النصرانية خلال القرن الثانى عشر. تنافسها وتنابذها. اجتماع كلمتها فى الصراع ضد المسلمين. قشتالة وأراجون. القيصر الفونسو ريمونديس. تحالف قشتالة وأراجون ضد نافار. اختفاؤها كمملكة مستقلة. فرناندو الثالث ملك قشتالة. اندماج مملكة ليون فى قشتالة. غزو فرناندو الثالث للأراضى الإسلامية. استيلاؤه على أبدة وقرطبة ومرسية. غزوه لأراضى ابن الأحمر. استيلاؤه على إشبيلية. وفاته وتلقيبه بالمقدس. مملكة أراجون. ملكها خايمى. غزوه للجزائر الشرقية. استيلاؤه على ميورقة. حصاره لبلنسية وسقوطها. استيلاؤه على دانية. وفاته وتلقيبه بالفاتح. - 1 - لما انهارت الدولة الإسلامية الكبرى بالأندلس، فى أوائل القرن الحادى عشر الميلادى، وانتثرت إلى عدة دول وإمارات صغيرة متنافسة هى دول الطوائف، كانت اسبانيا النصرانية تجوز حالة مماثلة من تعدد الإمارات والدول، وإن لم تبلغ ما بلغته اسبانيا المسلمة من الإنقسام والتفرق. والحقيقة أن اسبانيا النصرانية كانت قد اتحدت فى أوائل القرن الحادى عشر تحت سلطان ملك قوى، هو سانشو الثالث الملقب بسانشو الكبير (شانجُه) ملك نافار (نبرَّة أو بلاد البشكنس)، وكانت المملكة النصرانية تمتد يومئذ، من جبال البرنيه شرقاً إلى شانت ياقب غرباً، ومن خليج بسكونية شمالا إلى نهر دويرة جنوباً. فلما توفى سانشو فى سنة 1035 م، قسمت مملكته الكبيرة بين أولاده الأربعة، فاختص ولده فرناندو بقشتالة وغرسية بنافار؛ وحكم راميرو رقعة ضيقة تمتد جنوباً بشرق باسم مملكة أراجون، فكان هذا مولد هذه المملكة النصرانية التى نمت بسرعة ولعبت فيما بعد أعظم دور فى تاريخ النضال بين اسبانيا المسلمة واسبانيا النصرانية. وحكم ولده الرابع كونثالو ولاية سوبرابى فى أواسط البرنيه. وأما مملكة ليون وجلّيقية فى الغرب فكان يحكمها صهره برمودو الثالث. وكانت تقوم ثمة فى الشرق على

شاطىء البحر إمارة قطلونية المستقلة ويحكمها آل برنجير (¬1). وهكذا انقسمت المملكة النصرانية إلى عدة وحدات متنافسة. وكان من حسن طالع المسلمين أن يقع هذا الإنقسام، فى الوقت الذى انهارت فيه الدولة الإسلامية الكبرى، وتقاسمت أشلاءها دول الطوائف الضعيفة، وبذا قام مدى حين نوع من التوازن بين القوتين المتداعيتين. على أنه بينما استمرت الأندلس فريسة الاضطراب والتفرق، إذا باسبانيا النصرانية تسير بخطوات متعاقبة فى سبيل الإتحاد والتوطد. ومع أن هذه الخطوات لم تكن دائما ثابتة الأثر، فإنها كانت تعمل بمضى الزمن على توحيد قوى الممالك النصرانية لمواجهة العدو المشترك أعنى اسبانيا المسلمة. وكانت قشتالة تعمل باستمرار لضم مملكة ليون إليها، وقد نجحت غير مرة فى تحقيق مشروعها بالعنف لمدى قصير. وكانت أراجون تتوق إلى ضم إمارة قطلونية التى كانت تحجبها عن البحر، وكانت المملكتان تعملان معاً للقضاء على مملكة نافار الصغيرة، وقد ائتمرتا بالفعل على اقتسامها بالعنف، فاستولت قشتالة على القسم المحاذى لنهر إيبرو، واستولت أراجون على القسم الواقع على جبال البرنيه، وبذلك اختفت مملكة نافار مدى حين (1076 م). ولكن هذه المملكة الصغيرة الباسلة عادت فاستردت استقلالها بعد ذلك بنحو ستين عاماً. وذلك أنه حينما توفى ألفونسو المحارب ملك أراجون وتولى الملك مكانه أخوه الراهب راميرو سنة 1134 م، رفع النافاريون على العرش أميراً من سلالة ملوكهم القدماء هو غرسية راميرس، وانفصلت نافار بذلك عن أراجون وقشتالة، واستأنفت حياتها المستقلة حقبة أخرى. ولكن أراجون وقطلونية أتيح لهما أن يتحدا غير بعيد فى مملكة موحدة، وذلك أن ريمون برنجير أمير قطلونية تزوج بترونلا ابنة راميرو ملك أراجون، ولما توفى راميرو دون عقب تولى ريمون برنجير أيضاً ملك أراجون واتحدت المملكتان تحت تاج واحد، وقامت مملكة أراجون الكبيرة من ذلك الحين (1137 م) (¬2). كانت الممالك الإسبانية النصرانية خلال القرن الثانى عشر خمساً، هى قشتالة ¬_______ (¬1) سبق أن فصلنا تاريخ إمارة قطلونية وحكامها من آل برنجير، فى كتابنا " عصر المرابطين والموحدين " - القسم الأول - ص 499 - 502. (¬2) ذكرنا تفاصيل اتحاد قطلونية وأراجون فى "عصر المرابطين والموحدين" - القسم الأول ص 498 و 510.

وليون وأراجون ونافار والبرتغال، وكانت البرتغال قبل ذلك ولاية من ولايات جلِّيقية أو إمارة تخضع لها، ولم تفز باستقلالها إلا فى منتصف القرن الثانى عشر، فى عهد أول ملوكها المستقلين ألفونسو هنريكيز (¬1). وكانت هذه الممالك النصرانية الخمس دائمة الخلاف والتنافس، هذا فضلا عما كان يعانيه كل منها من الثورات والحروب الداخلية حول وراثة العرش. بيد أن هذه الممالك المتنافسة، كانت تجتمع دائماً تحت علم واحد هو علم النضال ضد اسبانيا المسلمة، فنرى جيوشها تجتمع متحدة فى موقعة الفزلاَّقة للقاء الجيوش الإسلامية المتحدة (479 هـ - 1086 م). وبالرغم من أن جيوش قشتالة بقيادة ألفونسو الثامن، لقيت بمفردها جيوش الموحدين بقيادة يعقوب المنصور فى موقعة الأرك الشهيرة (593 هـ - 1195 م)، وهى التى ظفر الموحدون فيها بالنصر الباهر، فإنه لم تمض خمسة عشر عاما أخرى، حتى عادت اسبانيا النصرانية تشعر كلها بشعور واحد، هو شعور الخطر المشترك إزاء العدو المشترك. ومن ثم فإنه لما نشبت موقعة العقاب (609 هـ - 1212 م) وهى ثالثة المواقع العظيمة الحاسمة بين الإسلام والنصرانية فى اسبانيا منذ الزلاقة، اجتمعت جيوش الممالك الاسبانية النصرانية كلها - قشتالة وأراجون ونافار - فى قواتهم، ومعهم أمداد كبيرة من ليون ومن البرتغال، للقاء الجيوش الموحدية بقيادة محمد الناصر ولد يعقوب المنصور، وفيها أصيب المسلمون بهزيمة مروعة، كانت بدء الإنحلال العام فى قوى الموحدين وقوى الأندلس. وهكذا كانت اسبانيا النصرانية تبدو إزاء اسبانيا المسلمة، كلما جدّ الخطر، موحدة الرأى والقوى. على أن الممالك النصرانية كانت تشعر فوق ذلك، أن هذا التقسيم الجغرافى المتعدد يفت فى قواها، ولا يلائم مصالحها القومية. وكانت قشتالة وجارتها الشرقية أراجون، هما أقوى الممالك النصرانية وأكبرهما رقعة، وكانت كلتاهما تطمح إلى التوسع وضم ما يليها من أراضى الممالك الصغرى، فكانت أراجون تطمح بعد انضمام قطلونية إليها، إلى انتزاع ولايات نافار المجاورة لها، وكانت قشتالة تطمح إلى ضم قرينتها وجارتها القديمة ليون، وإلى انتزاع ما بقى من ولايات نافار المجاورة لها، وهى ولايات البشكنس؛ وكانت إمارة البرتغال ¬_______ (¬1) تحدثنا تفصيلا عن قيام مملكة البرتغال وملكها ألفونسو هنريكيز فى "عصر المرابطين والموحدين" القسم الأول - ص 521 - 528. ويعرف الفونسو هنريكيز فى الرواية العربية، بابن الرنق أو ابن الرنك تحريفاً لهنريكيز أو إنريكى الإسبانية.

الصغيرة الناشئة تدافع عن كيانها واستقلالها بصعوبة، خلال هذه الأطماع المضطرمة، وقد استطاع ملك قشتالة القوى ألفونسو ريمونديس (1117 - 1157 م) الذى تلقب بالقيصر، أن يبسط على اسبانيا النصرانية فى أواخر حكمه حماية عامة، على أنه لم يحكم بالفعل سوى قشتالة وليون وجلِّيقية. وفى أواخر القرن الثانى عشر، عادت الحرب الأهلية تعصف بالممالك النصرانية، وتضطرم بين نافار وبين قشتالة وأراجون. ونراها تضطرم عقب موقعة الأرك، بين قشتالة وبين نافار وليون المتحالفين على قتالها. وكانت نافار المملكة الصغيرة الباسلة تدافع عن استقلالها إزاء أطماع جيرانها الأقوياء دفاعاً متواصلا، ولاسيما فى عهد ملكها سانشو السابع آخر ملوكها الأقوياء، وكان سانشو ينظر إلى تحالف جارتيه قشتالة وأراجون بعين الجزع، ويستشعر منه الخطر الداهم على ملكه واستقلال أمته، ولم يكتف بالتحالف مع ليون وهى المملكة الصغيرة الأخرى التى تخشى على استقلالها من أطماع قشتالة، بل حاول أن يستمد عون سلطان خليفة الموحدين الظافر يعقوب المنصور، وأن يعقد معه محالفة دفاعية، وسار فى بطانته إلى إشبيلية يحاول لقاءه، ولكن الخليفة المنصوركان قد توفى فى ذلك الحين. ولما عاد سانشو ألفى جاريه القويين بيدرو الأول ملك أراجون وألفونسو الثامن ملك قشتالة، قد انقضا فى غيابه على نافار يحاولان اقتسامها؛ وبالرغم مما أبداه النافاريون من الدفاع الباسل فقد استطاع ألفونسو أن ينتزع ولايات بسكونية وأن يضمها إلى مملكته (سنة 1200 م)، واستطاع بيدرو أن ينتزع بعض الأراضى المجاورة لأراجون، ولم يبق من مملكة نافار القديمة سوى جزئها الشمالى. ولم تمض فترة قصيرة أخرى حتى ذهب هذا الجزء إلى حوزة حكام فرنسا الجنوبيين بطريق المصاهرة والوراثة (1234 م). وبذلك اختفت هذه المملكة الصغيرة الباسلة من بين ممالك اسبانيا النصرانية. ولم يمض قليل على ذلك حتى اختفت مملكة ليون القديمة، جارة قشتالة من الغرب. وذلك أنه لما توفى ألفونسو الثامن (النبيل) ملك قشتالة فى سنة 1214 م، خلفه ولده الطفل هنرى، وكانت كبرى بناته الأميرة برنجيريا قد تزوجت بألفونسو التاسع ملك ليون، ثم طلقت منه بعد أن رزقت بعدة أولاد أكبرهم فرناندو. وثار فى قشتالة مدى حين نزاع على وصاية الملك الطفل هنرى، ثم توفى قبل أن يبلغ رشده قتيلا فى حادث. وكان ألفونسو النبيل قد قرر فى وصيته أنه إذا انقرض

عقبه من الذكور، فإن العرش يؤول عندئذ إلى ابنته الكبرى برنجيريا ثم إلى أعقابها الشرعيين، وهكذا قدر لفرناندو ولد برنجيريا من ألفونسو التاسع ملك ليون، أن يرقى عرش قشتالة باسم فرناندو الثالث، وهو الذى غدا فيما بعد من أعظم ملوك قشتالة. ولما توفى أبوه ألفونسو التاسع ملك ليون وجليقية فى سنة 1230 م، خلفه أيضاً فى ملك ليون باعتباره وارث العرش الشرعى، وبذلك اتحدت مملكتا قشتالة وليون تحت تاج واحد، واختفت مملكة ليون وجليقية القديمة من عداد الممالك الإسبانية النصرانية، وأضحت قشتالة بهذا الاتحاد أقوى الممالك الإسبانية، وأوسعها رقعة وأغناها موارد، واستطاع فرناندو الثالث بفضله أن يحرز التفوق على المسلمين، وأن يفتتح قواعد الأندلس العظيمة قرطبة وجيان وإشبيلية، وهى التى عجز عن افتتاحها جميع أسلافه من الملوك النصارى. وهكذا غدت الممالك الإسبانية النصرانية منذ أوائل القرن الثالث عشر، ثلاثا فقط، هى قشتالة وأراجون والبرتغال، وبينما قنعت البرتغال بالعمل على توطيد استقلالها وافتتاح الأراضى الإسلامية الواقعة فى جنوبها، وهى التى تعرف بولاية الغرب، إذا بقشتالة وأراجون تعملان معا للمضى فى تحقيق الغاية القومية والدينية الكبرى، التى تعمل لها اسبانيا النصرانية منذ قرون، وهى القضاء على الدولة الإسلامية بالأندلس واستخلاص تراث الوطن القديم. - 2 - فى الوقت الذى انهارت فيه دولة الموحدين بالأندلس، على أثر انهيارها فى المغرب، وملك ابن هود مرسية وشرقى الأندلس، وغلب ابن الأحمر على بعض القواعد الجنوبية والوسطى، مثل وادى آش وبسطة وجيان، وغلب بعض الزعماء على إشبيلية وقواعد ولاية الغرب، وأخذ هؤلاء الزعماء المسلمون يتربص بعضهم ببعض ويحاول كل منهم أن ينتزع ما فى يد الآخر من القواعد والحصون، شعرت مملكة قشتالة المتحدة القوية بأن الفرصة قد سنحت لتسديد ضربتها المميتة إلى الأندلس وبادر ملكها فرناندو الثالث بغزو الأراضى الإسلامية. وكانت معظم القواعد والحصون المتاخمة لقشتالة دون دفاع يذكر، فافتتح عدداً من الحصون واستولى على مدينة أُبَّدة فى سنة 1232 م (631 هـ). وفى أوائل سنة 1233 م سار فرناندو لغزو قرطبة عاصة الخلافة القديمة، وكانت أثناء الحرب الأهلية قد انضوت تحت لواء ابن هود ونادت بطاعته، وهاجم القشتاليون قصبتها الشرقية بشدة، وضربوا

خريطة: الأنْدلس بَعْد الانْهيار، مملكة غرناطة والممالك النصرانية الإسْبانية فى القرن الرابع عشر.

حولها الحصار، وكان ابن هود يضع خططه يومئذ لغزو بلنسية وقد وصله عندئذ صريخ أميرها زيان حينما هاجمه خايمى ملك أراجون، فلم يشأ إنجاد المدينة المحصورة بالرغم من مسيره إليها، خصوصاً وقد علم أن النصارى هاجموها بقوات كبيرة، فترك قرطبة لمصيرها، ودافع أهل قرطبة عن مدينتهم أعظم دفاع، واشتبكوا مع النصارى خارج المدينة وفى داخلها فى عدة معارك دموية شديدة، ولكن هذه البسالة لم تغن شيئاً، وسقطت عاصمة الأندلس القديمة، ودخلها القشتاليون فى 29 يونيه سنة 1236 م (23 شوال سنة 633 هـ) ورفعوا الصليب فى الحال فوق مسجدها الجامع تنويها بظفر النصرانية، وكان سقوط قرطبة نذيراً بما انتهت إليه الأندلس من بالغ الضعف والفوضى. ولما اشتدت الحرب الأهلية بين المسلمين فى شرقى الأندلس، بعث فرناندو الثالث ولده ألفونسو إلى مرسية، واستولى عليها صلحا فى سنة 1243 م (640 هـ). ثم التفت إلى إمارة غرناطة الناشئة التى أخذت تنمو ويشتد ساعدها فى ظل ابن الأحمر فانتزع منها حصن أرجونة وعدة حصون أخرى، ووصلت قواته إلى أحواز غرناطة، ثم أرسل جيشه لمحاصرة جيَّان فى العام التالى (سنة 1245 م)، وشعر ابن الأحمر أنه عاجز عن صد هذا السيل الجارف، فاضطر إلى عقد الصلح والانضواء تحت حماية ملك قشتالة حسبما فصلنا من قبل، وبلغ فرناندو الثالث بذلك ذروة القوة والسلطان، وأضحت الأندلس الجنوبية كلها تحت حمايته ورهن مشيئته. وأخذ فرناندو فى الوقت نفسه يتأهب لافتتاح إشبيلية أعظم قواعد الأندلس، وفى سنة 1247 م (644 هـ) بث قواته فى أحواز إشبيلية فاستولت على معظم الحصون القريبة منها، وسير فرناندو فى الوقت نفسه أسطولا فى مياه الوادى الكبير لكى يحول دون وصول الأمداد والمؤن إلى المدينة من ناحية البحر؛ وكان يتولى الدفاع عن إشبيلية نفر من الزعماء البواسل. وأبدى المسلمون إصراراً وجلداً فى الدفاع عن مدينتهم، ولكن النصارى أحكموا حصارها، واستمر الحصار طول الشتاء، ثم حشد فرناندو فى العام التالى حولها قوات جديدة، وسارع إلى نجدته كثير من المتطوعة النصارى من أراجون والبرتغال ومنهم كثير من الأحبار والرهبان، واضطر ابن الأحمر صاحب غرناطة إلى معاونة حليفه وحاميه فرناندو ببعض قواته، وذلك كله حسبما فصلناه من قبل. وفى النهاية اضطرت الحاضرة

الإسلامية الكبيرة إلى التسليم، ودخلها النصارى فى 23 ديسمبر سنة 1248 (أوائل رمضان سنة 646 هـ)، وفى الحال حولوا مسجدها الجامع إلى كنيسة جرياً على سنتهم، وبذلك وقعت معظم القواعد الإسلامية الكبرى فى يد النصارى، ولاح شبح الفناء للأندلس واضحا منذراً. وتوفى فرناندو الثالث فى مايو سنة 1252 م، بعد أن حكم قشتالة خمسة وثلاثين عاما، ودفن فى إشبيلية آخر فتوحه، وقد غدت منذ افتتاحها عاصمة لقشتالة مكان طليطلة، وقد أسبغت عليه فيما بعد صفة القداسة، فسمى بسان فرناندو (القديس فرناندو) وذلك تنويها بما تم على يديه من ظفر عظيم للنصرانية. ... وأما مملكة أراجون فقد تخلفت حينا عن قرينتها قشتالة فى مناهضة المسلمين، وكان ملكها بيدرو الثانى، الذى خلف أباه ألفونسو على العرش فى سنة 1196 م، أميراً وافر الشجاعة والفروسة، ولكنه شغل بتنظيم شئون مملكته الداخلية ومقاومة سلطان الأشراف، ثم حج إلى رومة ليتلقى تاجه من يد البابا. ولما عاد إلى أراجون شغل حينا بمحاربة الألبيين وغيرهم من الملاحدة فى جنوب فرنسا، وتوفى قتيلا فى إحدى المعارك (سنة 1224 م). فخلفه ولده خايمى (يعقوب) طفلا بالرغم من معارضة عميه سانشو وفرناندو، وثارت من جراء ذلك فى أراجون حرب أهلية استمرت عدة أعوام، ولكنها انتهت بفوز خايمى وحزبه على الثوار، فعاد إلى الجلوس على العرش دون منازع وذلك فى سنة 1227 م. وما كاد خايمى (¬1) يستقر فى عرشه، حتى اعتزم أن ينزل ميدان الحرب ضد المسلمين، وأن يحاول الفوز بنصيبه من الأراضى الأندلسية، فبدأ بغزو الجزائر الشرقية (جزائر البليار) القريبة من شواطىء أراجون، وسير إليها فى سنة 1229 م (626 هـ) حملة بحرية قوية. وكانت ميورقة وباقى الجزائر الشرقية يومئذ تابعة لإمارة بلنسية التى يسيطر عليها الأمير أبو جميل زيان بن مدافع بن مردنيش، ويحكمها من قبله أبو يحيى بن يحيى أو محمد بن على بن موسى وفق رواية أخرى، فنزل النصارى إلى الجزيرة، ولكنهم لقوا داخلها مقاومة عنيفة، ودافع المسلمون ¬_______ (¬1) خايمى وبالإسبانية Jaime، تكتب أحياناً فى الرواية العربية " جايمس" (ابن الخطيب: الإحاطة ج 1 ص 548 و 559 و 572، واللمحة البدرية ص 83 و 107). ورأيناها فى كثير من الوثائق العربية المحفوظة بمحفوظات أراجون تكتب هكذا: دون جيمى، دون جقمى، دون جاقمة.

عن جزيرتهم بمنتهى الشدة والبسالة، ولكنهم اضطروا فى النهاية إلى التسليم (صفر سنة 627 هـ). ومع ذلك فقد استمرت المقاومة فى شُعَب الجزيرة بعد ذلك حينا، واضطر خايمى أن يعود إليها مرتين حتى أتم إخضاعها فى سنة 1233 م، وسلمت منورقة وهى ثانية الجزائر للنصارى بعد ذلك ببضع سنين (¬1). وما كاد ملك أراجون يستولى على جزيرة ميورقة حتى وجه عنايته إلى فتح بلنسية، وسار إلى غزوها فى جيش ضخم فى سنة 1238 م، (رمضان سنة 635 هـ) واستطاع أن ينتزع الحصون الواقعة حولها تباعا. وكانت بلنسية قد سادها الاضطراب والفوضى من جراء الحرب الأهلية، ومع ذلك فقد تأهبت بقيادة أميرها أبى جميل زيان لمقاومة النصارى، وطوق النصارى المدينة من البر والبحر، وبعث الأمير أبو جميل وزيره وكاتبه ابن الأبَّار القضاعى إلى أمير إفريقية (تونس) أبى زكريا الحفصى يستغيث به، وألقى ابن الأبار بين يديه قصيدته الشهيرة التى مطلعها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وبادر الأمير أبو زكريا بإغاثة بلنسية، وبعث إليهم بعض الأمداد والمؤن فى عدة سفن، ولكنها لم توفق إلى الاتصال بالمدينة المحصورة، واستمر الحصار أشهراً واشتد الكرب بالمسلمين، وضاعف النصارى هجماتهم حتى اضطرت المدينة المحصورة فى النهاية إلى التسليم بشرط أن يؤمّن أهلها فى النفس والمال، وأن يغادرها من شاء منهم، وكان سقوط بلنسية فى يد النصارى فى 28 سبتمبر سنة 1238 م (17 صفر سنة 636 هـ). وعلى أثر سقوط بلنسية تابع خايمى غزواته لباقى الأراضى الإسلامية المجاورة لها، واستولى على دانية ولقنت فى سنة 1244 م (641 هـ). ثم استولى على شاطبة وأوريولة فى سنة 1246 م (آخر سنة 644 هـ). وقرر خايمى أن يجلى جميع السكان المسلمين عن الأراضى التى تم افتتاحها، فهرعت منهم جموع غفيرة إلى مملكة غرناطة حتى ضاقت بسكانها، وهاجر الكثير منهم إلى إفريقية، ¬_______ (¬1) تناولنا فتح الأرجونيين للجزائر الشرقية تفصيلا فى "عصر المرابطين والموحدين" القسم الثانى ص 402 - 409.

وأخذت القواعد والثغور الإسلامية القديمة تتحول تباعا إلى مدن نصرانية، وأخذت الكثرة المسلمة تتحول بسرعة إلى أقلية من المدجنين، تعيش فى ظل الحكم الإسبانى فى ذلة وخضوع. وعنى خايمى بعد ذلك بإصلاح الشئون الداخلية، وتمت فى عهده عدة إصلاحات تشريعية خطيرة. ووضع مشروعا لتقسيم المملكة بعد وفاته بين أولاده الأربعة، ولكنه لم يتحقق لوفاة أكبر أولاده ألفونسو، ولما أثاره من اضطراب فى أنحاء المملكة. وتوفى خايمى بعد حكم طويل حافل فى سنة 1274 م، وقد أسبغت عليه فتوحاته فى الأراضى الإسلامية لقب "الفاتح".

الفصل السادس مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين

الفصل السادس مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين ولاية محمد الفقيه. تربص النصارى بالأندلس. بنو مرين ومبدأ أمرهم. القتال بينهم وبين الموحدين. ولاية أبى يحيى المرينى. ولاية أبى يوسف يعقوب. انهيار دولة الموحدين. استغاثة الأندلس ببنى مرين. استجابة السلطان أبى يوسف لصريخ الأندلس. إرساله حملة إلى الأندلس ثم عبوره إليها. موقف بنى أشقيلولة. غزو أبى يوسف لبسائط الفرنتيرة. موقعة إستجة وغزوات أبى يوسف. عوده إلى المغرب. توجس ابن الأحمر وعتابه لأبى يوسف. عبور أبى يوسف إلى الأندلس للمرة الثانية. توغله فى أراضى النصارى. اللقاء بينه وبين ابن الأحمر. استيلاء ابن الأحمر على مالقة. تفاهمه مع ملك قشتالة. انتصار المغاربة فى البحر. زحفهم على مربلة. القتال بينهم وبين ابن الأحمر. توجس أبى يوسف من العواقب. عود التفاهم بينه وبين ابن الأحمر. أثر غرناطة وبنى مرين فى شئون قشتالة. ألفونسو العالم ملك قشتالة. ثورة ولده سانشو عليه. التجاؤه إلى السلطان أبى يوسف المنصور. عبور المنصور لنصرته وغزوه لأراضى قشتالة. تفاهم ابن الأحمر مع سانشو. عود التفاهم بين ابن الأحمر والمنصور. توجس ابن الأحمر من المغاربة. عبور المنصور إلى الأندلس للمرة الرابعة. غزواته فى أرض النصارى. سانشو ملك قشتالة يذعن للصلح. خطة مشيخة الغزاة. وفاة المنصور وولاية ولده أبى يعقوب. خروج أبى الحسن بن أشقيلولة فى وادى آش. استرداد ابن الأحمر لوادى آش. إغارة ملك قشتالة على أراضى الأندلس. سير الجيوش المغربية إلى الأندلس. هزيمة المغاربة فى البحر. عبور السلطان أبى يعقوب إلى الأندلس. غزوه لأراضى النصارى. توجس ابن الأحمر من نيات أبى يعقوب وتفاهمه مع ملك قشتالة. انتزاع سانشو لطريف من المغاربة. نكثه لعهوده لابن الأحمر. سعيه للتفاهم مع أبى يعقوب وعبوره إلى المغرب. معاهدة تحالف بين غرناطة وأراجون. وفاة ابن الأحمر وخلاله. ولاية محمد الملقب بالمخلوع. غلبة وزيره ابن الحكيم عليه. اضطراب العلائق بين محمد والسلطان أبى يعقوب. استيلاء محمد على سبتة. مصرع أبى يعقوب. زحف عثمان بن أبى العلاء على المغرب. ولاية السلطان أبى ثابت لعرش المغرب. مسيره إلى الشمال ووفاته. ولاية السلطان أبى الربيع. هزيمة الأندلسيين ومقتل عثمان. الثورة فى غرناطة. اضطراب الأحوال فى عهد نصر. غزو القشتاليين لأرض الأندلس. مشروع فرناندو لغزو جبل طارق. حصار ألمرية وهزيمة النصارى. سقوط جبل طارق. الصلح بين ملك غرناطة وبنى مرين. مصانعة نصر لملك قشتالة. تعهده بأداء الجزية. الثورة فى غرناطة. هزيمة نصر وعزله. لما توفى محمد بن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة. خلفه فى الملك ولده وولى عهده أبو عبد الله محمد بن محمد بن يوسف الملقب بالفقيه لعلمه وتقواه. وكان مولده بغرناطة سنة 533 هـ (1235 م). وهو الذى رتب رسوم الملك للدولة النصرية،

ووضع ألقاب خدمتها، ونظم دواوينها وجبايتها، وخلع عليها بذلك صفتها الملوكية الزاهية. وكان يتمتع بكثير من الخلال الحسنة، من قوة العزم، وبعد الهمة وسعة الأفق، والبراعة السياسية. وكان عالماً أديبا يقرض الشعر، ويؤثر مجالس العلماء، والأدباء (¬1). ولأول عهده نشط ملك قشتالة ألفونسو العاشر الملقب بالعالم أو الحكيم إلى محاربة المسلمين، وكان مثل أبيه فرناندو الثالث، يرى أن دولة الإسلام بالأندلس قد دنت نهايتها، ويتربص الفرصة بالمملكة الإسلامية الفتية، ويحاول أن يعمل كأبيه للقضاء عليها قبل استفحال أمرها. ولم يكن ملك غرناطة بغافل عن الخطر الذى يتهدده من مشاريع قشتالة. وكان محمد بن الأحمر قد أوصى ولده بالحرص على محالفة بنى مَرِين، ملوك العُدوة والاستنجاد بهم كلما لاح شبح الخطر الداهم (¬2). وكان بنو مَرِين وهم الذين استولوا على ملك الموحدين بعد ذهاب دولتهم، يومئذ فى عنفوان قوتهم، وكانت مملكتهم الفتية، تشغل فى نظر الأندلس ونظر اسبانيا النصرانية، نفس الفراغ الذى تركه ذهاب دولة المرابطين ثم دولة الموحدين، وكان من الطبيعى أن تؤدى هذه الدولة الجديدة فى ميدان السياسة والحرب نحو الجزيرة الإسبانية، نفس الدور الذى أدته المملكتان المغربيتان الذاهبتان. وبنو مَرِين بطن من بطون قبيلة زناتة البربرية الشهيرة، التى ينتمى إليها عدة من القبائل التى لعبت أدواراً بارزة فى تاريخ المغرب، مثل مغراوة ومغيلة ومديونة وجراوة وعبد الواد وغيرهم. ومع ذلك فإن بنى مرين يرجعون نسبتهم إلى العرب المضرية، وذلك بالانتساب إلى بر بن قيس عيلان بن مضر بن نزار. وجدهم الأعلى جرماط بن مرين بن ورتاجى بن ماخوخ (¬3). وكانت القبائل المرينية فى بداية أمرها من العشائر البدوية المتنقلة، تجول فى صحارى المغرب الأوسط وهضابه وتسير نحو المغرب الأقصى أيام الصيف. وفى فاتحة القرن السابع الهجرى، نشبت الحرب بينهم وبين بنى عبد الواد، فتوغلوا فى هضاب المغرب، ونزلوا بوادى ملوية الواقع بين المغرب والصحراء وأقاموا هنالك حينا. وكانت قوى الموحدين قد تضعضعت منذ موقعة العقاب (609 هـ) (¬4)، وسرت إلى دولتهم عوامل ¬_______ (¬1) الإحاطة (1956) ج 1 ص 565. (¬2) الذخيرة السنية ص 163؛ وابن خلدون ج 7 ص 191. (¬3) الذخيرة السنية ص 10 و 11 و 16. (¬4) الذخيرة السنية ص 52 و 53؛ والاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى ج 2 ص 3 و 5.

التفكك والانحلال. ولما توفى ملكهم الناصر، وهو المهزوم فى موقعة العقاب، سنة 610 هـ، ولى بعده ولده يوسف المستنصر، وكان فتى حدثاً ضعيف الهمة والخلال، فانكب على لهوه وساءت أمور المملكة وسرت إليها الفوضى. ففى تلك الآونة التى بدأ فيها ملك الموحدين يهتز فى يد القدر، نفذ بنو مرين إلى المغرب، وتوغلوا فى جنباته، واشتبكوا مع الموحدين لأول مرة فى سنة 613 هـ، إذ حاول الملك المستنصر أن يقضى عليهم، فأرسل جيوشه لقتالهم ولكنها هزمت، ووصل بنو مرين إلى أحواز فاس؛ وكان أمير بنى مرين يومئذ أبو محمد عبد الحق بن خالد ابن محيو، ولكنه قتل فى بعض المواقع فى سنة 614 هـ، فخلفه فى الإمارة ولده أبو سعيد عثمان، واستمر يقود قومه فى ميدان النضال ضد الموحدين (¬1). وفى سنة 639 هـ (1241 م) سير الرشيد خليفة الموحدين جيشاً لقتال بنى مرين فهزم الموحدون هزيمة شديدة، واستولى المرينيون على معسكرهم. وتوفى الرشيد فى العام التالى. فخلفه فى الملك أخوه أبو الحسن السعيد، واعتزم أن يضاعف الجهد للقضاء على بنى مرين، فسير لقتالهم فى سنة 642 هـ (1244 م) جيشاً ضخماً ونشبت بين الموحدين وبين بنى مرين موقعة هائلة، هزم فيها بنو مرين وقتل أميرهم أبو معرِّف محمد بن عبد الحق، وكانت ضربة شديدة هدّت من عزائمهم مدى حين. وتولى إمارة بنى مرين بعد مقتل أبى معرف، أخوه أبو بكر بن عبد الحق الملقب بأبى يحيى. وفى عهد اشتد ساعد بنى مرين واستولوا على مكناسة (643 هـ) ثم زحفوا على فاس واستولوا عليها بعد حصار شديد (648 هـ - 1250 م). وكان سقوط فاس حاضرة المغرب القديمة، أعظم ضربة أصابت دولة الموحدين، وكان نذير الإنهيار النهائى. ثم استولوا على سجلماسة ودرعة (655 هـ). ولما توفى أبو يحيى سنة 656 هـ، تولى أخوه أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق من بعده رياسة بنى مرين وجعل مدينة فاس حاضرة ملكه. وفى سنة 657 هـ نشبت الحرب بين بنى مرين وبين الأمير يَغْمُراسن بن زيان ملك المغرب الأوسط وزعيم بنى عبد الواد، فهزم يغمراسن وارتد إلى تلمسان. وفى العام التالى (658 هـ) هاجم النصارى (الإسبان) فى سفنهم ثغر سلا فجأة، وقتلوا وسبوا كثيراً من أهله، فبادر أبو يوسف بإنجاده، وحاصر النصارى بضعة أسابيع حتى جلوا عنه. ثم كانت الموقعة الحاسمة بين الموحدين وبنى مرين، ففى أواخر سنة 667 هـ ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية، ص 93 و 94.

(1269 م) سار الواثق بالله المعروف بأبى دبوس خليفة الموحدين من مراكش لقتال بنى مرين، والتقى الجمعان فى وادى غفّو بين فاس ومراكش، فهزم الموحدون بعد معركة شديدة، وقتل منهم عدد جم فى مقدمتهم الواثق، واستولى أبو يوسف على معسكرهم ومؤنهم وخزائنهم، ثم سار إلى مراكش فدخلها فى التاسع من المحرم لسنة 668 هـ، وتسمى بأمير المسلمين، وبذلك انتهت دولة الموحدين فى المغرب، كما انتهت فى الأندلس، بعد أن عاشت زهاء قرن وثلث قرن، وقامت مكانها دولة بنى مرين تسيطر على أنحاء المغرب الأقصى كله، وتستقبل عهداً جديداً من القوة والسلطان (¬1). إلى تلك الدولة الجديدة الفتية، كانت تتجه أنظار الأندلس كلما لاح لها شبح الخطر الداهم. وقد شاء القدر أن تلعب دولة بنى مرين وريثة المرابطين والموحدين، فى حوادث الأندلس الداخلية والخارجية أعظم دور. ولم تفت مؤسس مملكة غرناطة أهمية التحالف مع بنى مرين والاستنصار بهم، فبعث قبيل وفاته بقليل حسبما رأينا إلى السلطان أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق الملقب بالمنصور يطلب إليه غوث الأندلس وإنجادها. وكان السلطان أبو يوسف حينما وصله صريخ ابن الأحمر فى سنة 670 هـ يسير إلى غزو تلمسان، فلما وقف من الرسل على حال الأندلس وما يهددها من الأخطار، جمع أشياخ القبائل، واتفق الجميع على وجوب إنجاد الأندلس والجهاد فى سبيل الله، وأرسل السلطان إلى الأمير يَغْمُراسن صاحب تلمسان يعرض عليه عقد الصلح، لكى يتمكن من العبور إلى الأندلس، فأبى واقتتل الفريقان على مقربة من وَجْدة، فى شهر رجب سنة 670 هـ (1272 م) فهزم يغمراسن وفر جريحا (¬2)، وعاد أبو يوسف مظفراً إلى المغرب، وهو يعتزم استجابة دعوة الأندلس وإنجادها. على أنه مضى أكثر من عامين، قبل أن تسنح له الفرصة المرجوة. فلما تولى محمد الفقيه، أرسل عقب ولايته بقليل وفداً من أكابر الأندلس إلى ملك ¬_______ (¬1) راجع فى أصل بنى مرين ونشأتهم، الذخيرة السنية ص 10 و 16 و 94 و 99 و 123 و 124؛ والاستقصاء ج 2 ص 13 و 14؛ وابن خلدون ج 7 ص 166 - 180. هذا وقد عثرنا فى مكتبة مدريد الوطنية على قطعة صغيرة من مخطوطة عنوانها " ذكر الياقوتة الحلية فى الذرية السعيدية المرينية المباركة العبد الحقية " وهى فى أربعة عشرة صفحة تتناول نشأة بنى مرين وسيرتهم حتى بداية السلطان أبى يوسف، ولا يخرج ما ورد فيها عما قدمنا خلاصته. (¬2) الذخيرة السنية ص 148؛ والاستقصاء ج 2 ص 16.

المغرب يحمل إليه رسالة استغاثة مؤثرة، فشرحوا له حال الأندلس من الضعف ونقص الأهبة، وتكالب العدو القوى عليها، واستصرخوه للغوث والجهاد ومما جاء فى رسالة ابن الأحمر إلى أبى يوسف بعد الديباجة: مرين جنود الله أكبر عصبة ... فهم فى بنى أعصارهم كالمواسم مشنفة أسماعهم لمدائح ... مسورة إيمانهم بالصوارم "تطول علينا بمعلوم حدك ومشهود جدك، قد جعلك الله رحمة تحيى عيشها بجيوشك السريعة، وخلفك سُلَّما إلى الخير وذريعة، فقد تطاول العدو النصرانى على الإسلام، واهتضم جناحه كل الاهتضام، وقد استخلص قواعدها، ومزق بلدانها، وقتل رجالها وسبى ذراريها ونساءها، وغنم أموالها. وقد جاء بإبراقه وإرعاده، وعدده وإيعاده، وطلب منا أن نسلم له ما بقى بأيدينا من المنابر والصوامع والمحاريب والجوامع، ليقيم بها الصلبان، ويثبت بها الأقسة والرهبان. وقد وطأ الله لك ملكا عظيما شكرك الله على جهادك فى سبيله، وقيامك بحقه، وإجهادك فى نصر دينه وتكميله، ولديك من نية الخير، فابعث باعث بعثك إلى نصر مناره، واقتباس نوره، وعندك من جنود الله من يشترى الجنات بنفسه، فإن شئت الدنيا فالأ، دلس قطوفها دانية، وجناتها عالية، وإن أردت الآخرة بها جهاد لا يفتر، وهذه الجنة ادخرها الله لظلال سيوفكم، واحتمال معروفكم، ونحن نستعين بالله العظيم وبملائكته المسومين، ثم بكم على الكافرين" (¬1). ثم تتابعت رسل ابن الأحمر وبنى أشقيلولة إلى السلطان أبى يوسف، ينوهون بالخطر الداهم الذى يهدد الأندلس، ويلتمسون إليه المبادرة بالإسعاف والإمداد، فاستجاب السلطان أخيراً لدعوتهم، وكتب إلى ابن الأحمر يطمئنه، ويعرب عن عزمه على الجواز إلى الأندلس فى فاتحة سنة أربع وسبعين، ومما جاء فى رسالته: "وإنا لنرجو أن نصلكم بنفوس صلح جهرها وسرها، ونسقى بماء الثلج واليقين غرها، ونقدم عليكم بما يبسط نفوسكم ويسرها، ويطلع لها الفرح من المكاره ويذهب عسرها، فلتطب نفوسكم برحمة الله وعونه، ولتفرحوا بفضل الله وصونه، ونحن قادمون عليكم فى إثر هذا إن شاء الله، ووعدنا بوفاء يعين الله على أعدائه" (¬2). ¬_______ (¬1) راجع هذه الرسالة بأكملها فى الذخيرة السنية ص 159 - 161. (¬2) راجع نص رسالة السلطان أبى يوسف بأكمله فى الذخيرة السنية ص 162 و 163.

وهكذا اعتزم السلطان أبو يوسف أن يؤدى رسالة المغرب التاريخية فى إنجاد الأندلس ونصرتها، وكان بنو مرين فى عنفوان دولتهم يجيشون بنزعة الجهاد الفتية. وخرج السلطان من فاس فى رمضان سنة 673 هـ برسم الجهاد فى الأندلس، وأرسل للمرة الثانية إلى الأمير يَغْمُراسن صاحب تلمسان، يعرض الصلح توحيداً للكلمة وتعضيداً للجهاد. فقبل يغمراسن وتم الصلح. وبادر السلطان فجهز ولده أبا زيان (¬1) فى خمسة آلاف مقاتل، فعبر البحر من قصر المجاز (قصر مصمودة) إلى الأندلس، ونزل بثغر طريف فى شهر ذى الحجة سنة 673 هـ (1275 م)، ونفذ إلى أرض النصارى حتى شَريش، وعاث فيها وعاد مثقلا بالسبى والغنائم، وقدَّم إليه ابن هشام وزير ابن الأحمر ثغر الجزيرة فنزل فيه، وجاز ابن هشام إلى العدوة فلقى السلطان أبا يوسف فى معسكره على مقربة من طنجة. وكان السلطان قد استكمل أهبته، فعبر من قصر المجاز إلى الأندلس فى صفر سنة 674 هـ (يوليه 1275 م)، فى جيش كثيف من البربر، داعيا إلى الجهاد على سنة أسلافه المرابطين والموحدين. وكان أبو يوسف قد اشترط على ابن الأحمر حينما استنجد به، أن ينزل له عن بعض الثغور والقواعد الساحلية، لتنزل بها جنوده فى الذهاب والإياب. فنزل له عن رندة وطريف والجزيرة، ونزل أبو يوسف بجيشه فى طريف، وهرع ابن الأحمر وبنو أشقيلولة إلى لقائه، واهتزت الأندلس كلها لعبور ملك المغرب. ولكن ابن الأحمر ما لبث أن غادره مغضبا لما رأى من تدخله فى شئون الأندلس بصورة مريبة. ذلك أن بنى أشقيلولة أصهار بنى الأحمر، وفى مقدمتهم محمد بن أشقيلولة زعيم الأسرة وزوج أخت محمد بن الأحمر، وأخوه أبو الحسن زوج ابنته، كانوا يجيشون نحو عرش غرناطة بأطماع خفية. وكان أبو محمد ممتنعاً بمالقة مغاضبا لملك غرناطة حسبما قدمنا. فلما عبر أبو يوسف إلى الأندلس، سار إليه وانضوى تحت لوائه، ولم يفلح أبو يوسف فى التوفيق بين ابن الأحمر وبين أصهاره، وخشى ابن الأحمر عاقبة هذا التحالف بين أصهاره وبين أبى يوسف، فارتد إلى غرناطة حذرا متوجسا. ونفذ السلطان أبو يوسف بجيشه إلى بسائط الفرنتيره (¬2) وكانت فى يد النصارى ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 164، ولكن ابن خلدون يقول إن السلطان بعث الجند مع ولده منديل (ج 7 ص 119) ومنديل حفيد السلطان أبى يوسف. (¬2) الفرنتيره La Frontera هى السهل الواقع فى غربى مثلث إسبانيا الجنوبى (الجزيرة) ويمتد من قادس جنوباً حتى طرف الغار.

وعاث فيها. تم توغل غازيا، ينتسف الضياع والمروج ويسبى السكان، حتى وصل إلى حصن المقورة وأبدة على مقربة من شرقى قرطبة. وعندئذ عول القشتاليون على لقائه دفاعا عن أراضيهم. وخرج القشتاليون فى جيش ضخم، تقدره الرواية الإسلامية بنحو تسعين ألف مقاتل (¬1)، وعلى رأسهم قائدهم الأشهر صهر ملك قشتالة الدون نونيو دى لارا، الذى تسميه الرواية الإسلامية "دونونه أو دننه أو ذنونه". وكان أبو يوسف قد ارتد عندئذ بجيشه إلى ظاهر إستجة، ومعه حشد عظيم من الغنائم والأسرى، فأغلقت المدينة أبوابها، واستعدت للقتال، ووضع أبو يوسف الغنائم فى ناحية تحت إمرة حرس خاص حتى لا تعيق حركاته، وعقد لولده أبى يعقوب على مقدمته، وخطب جنده وحثىعلى الجهاد والموت فى سبهلي الله. ثم تاقدم لملاقاة النصارى، ومعه بعض قوات الأندلس برياسة بنى أشقيلولة. ووقع اللقاء بين المسلمين والنصارى، على مقربة من إستجة جنوب غربى قرطبة، فى اليوم الخامس عشر من شهر ربيع الأول سنة 674 هـ (9 سبتمبر 1275 م)، فنشبت بين الفريقين معركة سريعة هائلة، هزم النصارى على أثرها هزيمة شديدة، وقتل قائدهم الدون نونيو دى لارا وعدة كبيرة منهم (¬2). وكان نصراً عظيما أعاد إلى الأذهان، ذكريات موقعة الزلاَّقة وموقعة الأرك، وكان أول نصر باهر يحرزه المسلمون على النصارى، منذ موقعة العقاب، ومنذ انهيار الدولة الإسلامية بالأندلس، وسقوط قواعدها العظيمة. وتبالغ الرواية الإسلامية فى تقدير خسائر النصارى، فتقول إنه قتل منهم فى الموقعة ثمانية عشر ألفاً، جمعت رؤوسهم وأذَّن عليها المؤذن لصلاة العصر، هذا فى حين أنه وفقاً لقولها أيضاً، لم يقتل من المسلمين سوى أربعة وعشرين رجلا (¬3). وبعث السلطان أبو يوسف برأس دون نونيو إلى ابن الأحمر، فقيل إنه بعثها بدوره إلى ملك قشتالة مضمخة بالطيب، مصانعة له وتوددا إليه. وكتب أبو يوسف إلى العُدوة رسالة يشرح فيها حوادث الموقعة، وما انتهت إليه من نصر باهر، فقرئت على المنابر، وكتب رسالة مماثلة إلى ابن الأحمر، فرد عليه بالشكر والدعاء. ورفع ¬_______ (¬1) الذخيرة السنية ص 169 و 170. (¬2) ابن خلدون ج 7 ص 191؛ واللمحة البدرية ص 44؛ والإحاطة ج 1 ص 573؛ والذخيرة السنية ص 170 - 172. (¬3) الذخيرة السنية ص 173.

ابن أشقيلولة إلى أمير المسلمين أبى يوسف، قصيدة يهنئه فيها بالنصر جاء فيها: هبت بنصركم الرياح الأربع ... وسرت بسعدكم النجوم الطلع وأتت لنصركم الملائك سيفا ... حتى أضاق بها الفضاء الأوسع واستبشر الفلك الأثير تيقنا ... أن الأمور إلى مرادك ترجع وأمدك الرحمن بالفتح الذى ... ملأ البسيطة نوره المتشعشع ولبث أبو يوسف بالجزيرة الخضراء بضعة أسابيع، قسمت فيها الغنائم واستراحت الجند. ثم خرج للمرة الثانية فى جمادى الأولى سنة 674 هـ، وتوغل غازيا فى أراضى قشتالة حتى وصل إلى أحواز إشبيلية؛ فأغلقت المدينة أبوابها. وعاث أبو يوسف فى تلك الأنحاء، ثم سار إلى شَريش فضرب حولها الحصار، فخرج إليه زعماء المدينة ورهبانها وطلبوا إليه الأمان والصلح، فأجابهم إلى طلبهم وعاد إلى قواعده مثقلا بالغنائم والسبى. وقضى بضعة أسابيع أخرى بالجزيرة الخضراء، ثم عبر البحر إلى المغرب فى أواخر شهر رجب 674 هـ، بعد أن قضى بالأندلس زهاء خمسة أشهر. على أن هذا النصر الباهر، الذى أحرزه السلطان أبو يوسف المرينى على النصارى، لم يحدث أثره المنشود فى بلاط الأندلس. ذلك أن محمد بن الأحمر، جنح إلى الارتياب فى نيات ملك المغرب، وخصوصاً مذ أسبغ السلطان حمايته على بنى أشقيلولة، وغيرهم من الخوارج على ملك غرناطة، ومثلت بذهنه مأساة الطوائف وغدر المرابطين بهم (¬1). وبعث ابن الأحمر إلى السلطان قبيل مغادرته الجزيرة، يعاتبه على تصرفه فى حقه بقصائد مؤثرة يستعطفه فيها ويستنصره، والسلطان يجيبه عنها بقصائد مثلها. ومن ذلك قصيدة من نظم أبى عمران بن المرابط كاتب ابن الأحمر هذا مطلعها: هل من معينى فى الهوى أو منجدى ... من متهم فى الأرض أو من منجد هذا الهوى داع فهل من مسعف ... بإجابة وإنابة أو مسعد ومنها فى الاستغاثة: أفلا تذوب قلوبكم إخواننا ... مما دهانا من ردًى أو من ردى أفلا تراعون الأذمة بيننا ... من حرمة ومحبة وتودد أكذا يعيث الروم فى إخوانكم ... وسيوفكم للثار لم تتقلد ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 198 و 367.

يا حسرتى لحمية الإسلام قد ... خمدت وكانت من قبل ذا تتوقد أبنى مرين أنتم جيراننا ... وأحق من فى صرخة بهم ابتدى أبنى مرين والقبائل كلها ... فى المغرب الأدنى لنا والأبعد كتب الجهاد عليكم فتبادروا ... منه إلى القرض الأحق الأوكد أنتم جيوش الله ملىء فضائه ... تأسون للدين الغريب المفرد (¬1). وفى أوائل سنة 676 هـ توفى أبو محمد بن أشقيلولة صاحب مالقة، فعبر ولده محمد إلى المغرب ونزل عنها للسلطان، فبعث إليها السلطان حاكما من قبله، فزاد ذلك فى توجس ابن الأحمر، وأرسل وزيره أبا سلطان عزيز الدانى فى بعض قواته إلى مالقة، ليحاول الاستيلاء عليها، فلم يوفق. ولم تمض أشهر قلائل على ذلك حتى عبر السلطان أبو يوسف المنصور البحر إلى الأندلس للمرة الثانية فى سنة 677 هـ (1278 م)، ونزل بمالقة فاحتفل به أهلها، ثم توغل بجيشه فى أرض النصارى يعيث فيها، ومعه بنو أشقيلولة فى جندهم، حتى أحواز إشبيلية. واجتنب القشتاليون لقاءه. ثم دعا ابن الأحمر إلى لقائه، فوافاه عند قرطبة والريب يملأ نفسه، وتبادل الملكان عبارات العتاب والتعاطف، ولكن ابن الأحمر لم تطمئن نفسه، وعاد السلطان إلى المغرب دون أن تصفو القلوب. وزاد توجس ابن الأحمر لحوادث مالقة وانحيازها إلى السلطان، وجال بخاطره أن التفاهم مع ملك قشتالة خير وأبقى. وفى أواخر سنة 677 هـ استطاع ابن الأحمر أن يستولى أخيراً على مالقة. وذلك بإغراء صاحبها بالنزول عنها، والاستعاضة بالمنكَّب وشلوبانية (¬2). ثم سعى إلى التفاهم مع ملك قشتالة والتحالف معه، على منع السلطان المنصور من العبور إلى الأندلس. ونزلت القوات القشتالية بالفعل فى الجزيرة. وكاتب ابن الأحمر أيضاً الأمير يَغْمُراسن ملك المغرب الأوسط، وخصم السلطان المنصور، يسأله العون والتحالف. وعلم المنصور بذلك فأراد العبور توا إلى ¬_______ (¬1) نقل إلينا ابن خلدون هذه القصيدة بأكملها (ج 7 ص 198 - 200) وفيها كثير من المعانى التى وردت فى مرثية أبى البقاء الرندى، كما أشار إلى ردود السلطان أبى يوسف إشارة عابرة (ص 200). (¬2) المنكب، وبالإسبانية Almunecar، وشلوبانية وبالإسبانية Salobrena ثغران صغيران من ثغور مملكة غرناطة القديمة، يقع كلاهما جنوبى غرناطة على البحر الأبيض المتوسط وتفصلهما عن بعضهما مسافة صغيرة.

الأندلس، ولكن عاقته حوادث المغرب حينا. وفى أوائل سنة 678 هـ (1279 م) بعث ولده الأمير أبا يعقوب إلى الأندلس فى أسطول ضخم، ونشبت بينه وبين أسطول النصارى المرابط شرق المضيق معركة هائلة، هزم النصارى على أثرها واستولى المسلمون على سفنهم، ونزلوا بالجزيرة، فغادرها النصارى فى الحال. وأراد الأمير أبو يعقوب أن يتبع نصره، بعقد الصلح مع ملك قشتالة والتحالف معه على قتال ابن الأحمر ومهاجمة غرناطة، فأنكر عليه أبوه السلطان ذلك، ثم زحف جند المغرب على ثغر مربلَّة، وهو من أملاك ابن الأحمر تريد الاستيلاء عليه، فامتنع عليهم. وانتهز القشتاليون تلك الفرصة، فزحفوا على غرناطة ومعهم بنو أشقيلولة، فلقيهم ابن الأحمر وردهم على أعقابهم (679 هـ). بيد أنه بالرغم من هذا النصر المؤقت أخذ يشعر بدقة موقفه، وخطورة القوى التى يواجهها، سواء من جانب القشتاليين، أو من جانب الجيوش المغربية، التى استدعيت فى الأصل لتكون له سنداً وغوثاً، فانقلبت إلى مناوأته وقتاله. ومن جهة أخرى فقد كان السلطان المنصور يخشى عاقبة هذا التصرف على مصير المسلمين؛ وعلى ذلك فقد بعث إلى ابن الأحمر فى وجوب عقد المودة والتفاهم، فلقى لديه مثل رغبته، وبادر السلطان إلى عقد أواصر الصلح والتحالف بين المسلمين، على أن ينزل ابن الأحمر عن مالقة للسلطان المنصور، لتكون له قاعدة للعبور والغزو. وصفا جو العلائق على أثر ذلك بين ابن الأحمر وبنى مرين، وشغل السلطان المنصور حينا بمحاربة الخوارج عليه. ... ولم يمض قليل على ذلك، حتى عادت شئون الأندلس تستغرق اهتمام المنصور؛ وكانت شئون الأندلس قد غدت فى الواقع عنصراً بارزا فى سياسة بنى مرين، وكانت مملكة غرناطة حتى فى ذلك الوقت الذى انكمشت فيه الدولة الإسلامية فى الأندلس، تلعب دورها فى شئون اسبانيا النصرانية كلما اضطربت فيها الحوادث. ولما سطع نجم الدولة المرينية فيما وراء البحر، اتجه إليها اهتمام النصارى، وكانت كلما وقعت فى قشتالة حرب أهلية، لجأ هذا الفريق أو ذاك إلى مؤازرة غرناطة أو بنى مرين، على غرار ما كان يحدث فى الماضى. ومن ذلك ما حدث فى سنة 669 هـ (1270 م) من خروج الإنفانت فيليب على أخيه ألفونسو العاشر مع جماعة من النبلاء، والتجائهم إلى السلطان المنصور فى طلب العون واستجابته

صورة: الملك ألفونسو العالم

لدعوتهم، واتخاذهم غرناطة قاعدة لجنودهم. وكادت تنشب من جراء ذلك حرب بين المسلمين والنصارى، لولا تدخل فيولا ملكة قشتالة، واسترضائها للخوارج بمختلف المنح. ولابد لنا أن نذكر هنا أن ألفونسو العاشر ملك قشتالة هذا، هو ألفونسو العالم أو الحكيم El Sabio، وكانت له صلات وثيقة بعلماء الأندلس، ومنهم تلقى الكثير وتأثر بمناهجهم فى التفكير والدرس. وقد وضع ألفونسو جداوله الفلكية الشهيرة المسماة بالجداول "الألفونسية"، على يد جماعة من العلماء المسلمين واليهود صورة: الملك ألفونسو العالم والنصارى، كما وضع تاريخاً عنوانه Cronica General de Espana " تاريخ اسبانيا العام" وقد اعتمد فيه على مصادر عربية كثيرة. ومع أنه لا يخلو من كثير من الأساطير والروايات المغرقة، فإنه يعتبر من أهم مصادر التاريخ الإسبانى فى العصور الوسطى. وكان ألفونسو العاشر يحب جيرانه المسلمين، ويقدر علمهم ورفيع ثقافتهم، وكان هذا من أسباب السخط عليه فى مملكته. وكان من جراء اشتغاله بالعلوم والآداب، فى عصر لا تنهض الممالك فيه إلا بالحرب والسياسة، أن اضطربت شئون المملكة.

وفى سنة 1282 م (أوائل 681 هـ) ثار عليه ولده سانشو وآزره معظم النبلاء، واستطاع أن ينتزع العرش لنفسه. فاتجه أبوه الملك المخلوع إلى السلطان أبى يوسف المنصور، وأرسل إليه بالمغرب وفدا من الأحبار يستمد منه الغوث والعون ضد ولده. فاستجاب السلطان لصريخه، وعبر البحر فى قواته إلى الأندلس فى ربيع الثانى سنة 681 هـ، وهرع ألفونسو إلى لقائه بمحلته بالجزيرة على مقربة من رندة، مستجيراً به، ملتمساً لنصرته، وقدم إليه تاجه رهنا لمعونته. فأمده السلطان بمائة ألف من الذهب، ليستعين بها على حشد الجند. قال ابن خلدون، وقد رأى هذا التاج ببلاط بنى مرين أيام أن كان فى خدمتهم: "وبقى بيدهم فخراً للأعقاب لهذا العهد" (¬1). وغزا أبو يوسف أراضى قشتالة وحاصر قرطبة، ثم زحف على طليطلة، وعاث فى نواحيها، ووصل فى زحفه إلى حصن مجريط (¬2). وتحاشى ابن الأحمر فى البداية لقاء السلطان لفتور العلائق بينهما، ولتوجسه من محالفته لألفونسو، ورأى من جانبه أن يتفاهم مع سانشو ملك قشتالة الجديد، وزحف على المنكَّب وهى من الثغور التى تحتلها قوات المغرب، فغضب السلطان وارتد لقتاله. وكادت تنشب بين الملكين المسلمين فتنة مستطيرة، لولا أن خشى ابن الأحمر العاقبة، وعاد إلى التفاهم مع المنصور، وصفا الجو بينهما نوعا. وعاث المنصور فى أراضى قشتالة مرة أخرى، وغص جيشه بالسبى والغنائم، ثم عاد إلى المغرب بعد أن ولّى على الجزيرة حاكما من قبله. واستمرت الحرب الأهلية أثناء ذلك فى قشتالة بين الإبن والأب، ولبث هذا النضال الدموى زهاء عامين، حتى توفى ألفونسو العاشر طريداً مهزوما فى سنة 1284 م (683 هـ)، فكان لوفاته وقع عميق فى غرناطة والمغرب، وأرسل كل من الملكين المسلمين عزاءه فى الملك العالم المنكود إلى بلاط قشتالة. وكان موقف المملكتين الإسلاميتين غريباً إزاء حوادث قشتالة، إذ كان ملك المغرب يؤازر الملك المخلوع، وكان ملك غرناطة بالرغم من عطفه على ألفونسو العاشر، يؤازر ولده الخارج عليه. والحقيقة أن ابن الأحمر كان يشهد تقاطر الجيوش البربرية إلى ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 205؛ والإحاطة ج 1 ص 572؛ واللمحة البدرية ص 43؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 61. (¬2) كانت محلة مجريط الإسلامية الحصينة تشغل موقعاً يقع بجوار موقع العاصمة الإسبانية الحديثة مدريد.

الجزيرة الخضراء بعين الجزع، ويتوجس شراً من وجودهم بها، وقد كانوا يحتلون معاقلها وثغورها، ويظاهرون الخوارج عليه فى مالقة والمنكب وغيرهما من القواعد الجنوبية، وكان يتوقع أسوأ العواقب من تدخل ملك المغرب فى شئون الأندلس على هذا النحو، وكان مثل المرابطين ومأساة الطوائف عبرة خالدة. تساوره دائماً، وتذكى جزعه. على أن موت ألفونسو العاشر، وانتهاء الحرب الأهلية فى قشتالة، خفف من هذا التوتر بين المملكتين. وكان ابن الأحمر يذكر فى الوقت نفسه، غدر ملك قشتالة، وخطر النصارى على مملكته، فيجنح بعد التأمل إلى إيثار التفاهم مع ملك المسلمين. وفى صفر سنة 684 هـ (1285 م) عبر السلطان المنصور إلى الأندلس للمرة الرابعة، وزحف على أراضى النصارى، وغزا مدينة شَريش؛ وسار ولده أبو يعقوب إلى أحواز إشبيلية فعاث فيها. ثم زحف المنصور على قرمونة والوادى الكبير، وخرب جنده بسائط إشبيلية ولبلة وإستجة والفرنتيره. وسُرّ ابن الأحمر لاجتياح أراضى قشتالة على هذا النحو، وبعث إلى السلطان مددا من غرناطة، وجاءت الأساطيل المغربية، فطاردت أساطيل العدو فى مياه المضيق واحتلته، ورأى سانشو ملك قشتالة تفاقم الأمر وعقم المقاومة، فجنح إلى طلب السلم، وبعث إلى السلطان وفداً من الأحبار يطلب الصلح، ويفوض السلطان فى اشتراط ما يراه، فاستجاب السلطان لرغبتهم، واشترط عليهم مسالمة المسلمين كافة، وأن يمتنع النصارى عن كل اعتداء على الأندلس، وعلى أراضى المسلمين ومرافقهم، وأن ترفع الضريبة عن التجار المسلمين بدار الحرب (بلاد الأعداء)، وأن تنبذ قشتالة سياسة الدس بين الأمراء المسلمين، فقبل النصارى جميع الشروط المطلوبة، وتعهدوا بتنفيذها. وقدم سانشو بنفسه إلى معسكر السلطان، فاستقبله المنصور بحفاوة، وقدم إليه طائفة من الهدايا، وتعهد سانشو بتحقيق شروط الصلح كاملة. وسأله السلطان أن يرسل إليه قدراً من الكتب العربية، التى استولى عليها النصارى من القواعد الأندلسية، فأرسل إليه "ثلاثة عشر حملا" منها، وأرسلها السلطان إلى فاس، فكانت نواة المكتبة السلطانية. واتخذ المنصور أهباته الأخيرة نحو شئون الأندلس، وندب ابنه الأمير أبا زيان للنظر على الثغور الأندلسية، وأوصاه بألا يتدخل فى شئون ابن الأحمر. وكان من آثار التفاهم بين ابن الأحمر والمنصور، أن أفسح ابن الأحمر لقرابة السلطان من بنى مرين النازحين إلى الأندلس مجال

السلطان والنفوذ فى بلاطه. وكان عدة من هؤلاء من خاصة الفرسان ومشاهير الغزاة، فأسند ابن الأحمر إليهم رياسة الجند فى منصب عرف فى الخطط الغرناطية "بمشيخة الغزاة"، ويحتله بالأخص رئيس من بنى العلاء المرينيين يسمى "شيخ الغزاة"، وتولى بنو العلاء قيادة الجيوش الأندلسية عصراً، وكانت لهم فى ميدان الحرب والجهاد مواقف مشكورة (¬1). ولابد لنا أن نذكر كلمة عن أصل مشيخة الغزاة هذه، التى لبثت عصراً أهم المناصب العسكرية فى مملكة غرناطة، ولبثت فى الوقت نفسه دهراً وقفاً على القادة من بنى مرين. وذلك أنه لما اتجه بنو الأحمر إلى الاستنجاد بإخوانهم فيما وراء البحر، ملوك بنى مرين، جريا على سنة الأندلس القديمة منذ عهد المرابطين، استجاب لندائهم عاهل بنى مرين السلطان أبو يوسف بن عبد الحق، وعبرت إلى الأندلس النجدات المرينية الأولى بقيادة أبى معرف محمد بن إدريس بن عبد الحق وأخيه عامر، وهما من خاصة قرابة السلطان، وانتزعت مدينة شريش من النصارى، وذلك حسبما تقدم ذكره. وكان السلطان أبو يوسف يخشى من انتقاض فريق من القرابة وأبناء العمومة، تجديداً للخصومة القديمة بين فرعى بنى مرين الملكيين، وهما بنو عسكر وبنو حمامة، فلم يجد خيراً من إرسال من يخشى بأسهم من هؤلاء إلى الأندلس باسم الجهاد، وكان ابن الأحمر يستقبلهم بترحاب ومودة، فاجتمع لديه عدة من أولاد بنى عبد الحق؛ وكان ابن الأحمر يستقبلهم بترحاب ومودة، فاجتمع المجاهدين من زناتة، وبنى مرين. وكان أول من عقد له القيادة منهم، موسى ابن رحُّو، ثم عقد لأخيه عبد الحق، ثم لغيرهما من القرابة (¬2) وكان أول من استعملهم لقيادة الغزاة على هذا النحو السلطان محمد بن الأحمر الملقب بالفقيه. تم توالى عبور هؤلاء القادة إلى الأندلس. وكان معظمهم من قرابة السلطان والخارجين عليه. وكان فى مقدمة من نزح إلى شبه الجزيرة، أبو العلاء ورحُّو ابنا عبد الحق، وأولاد أبى يحيى بن عبد الحق وأولاد عثمان بن عبد الحق. واستقروا جميعاً بالأندلس فى كنف سلطان غرناطة، وكانوا يرجعون فى رياستهم إلى كبيرهم عبد الله بن أبى العلاء. وعقد له ابن الأحمر محمد الفقيه على جند زناتة إلى أن هلك فى إحدى الغزوات ضد النصارى وذلك فى سنة 693 هـ، ثم عقد ابن الأحمر، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 209 و 210؛ ونفح الطيب ج 2 ص 639. (¬2) ابن خلدون فى كتاب العبر ج 7 ص 367 و 368.

السلطان أبو عبد الله المخلوع، القيادة لأخيه عثمان بن أبى العلاء على حامية مالقة وغربيها، وكانت لنظر الرئيس أبى سعيد فرج بن إسماعيل. فلبث فى منصبه إلى أن وقع الخلاف بين سلطان غرناطة وسلطان المغرب أبى يوسف المرينى، وقام عثمان بن أبى العلاء فى ذلك بدور كبير، سوف نأتى على تفاصيله فى موضعه (¬1). وقفل السلطان المنصور راجعاً إلى الجزيرة ليستجم ثم يعود إلى المغرب، ولكن لم تمض أشهر قلائل حتى أدركه المرض، وتوفى بالجزيرة فى المحرم سنة 685 هـ (مارس سنة 1285 م)، بعد حياة حافلة بصنوف الجهاد المستمر، سواء بالمغرب أو الأندلس. وكان السلطان أبو يوسف المنصور من أعظم ملوك المغرب قاطبة، وكان يعيد بشغفه بالجهاد، ووفرة جيوشه وأهبته الحربية، ذكرى أسلافه العظام، من أمثال يوسف بن تاشفين، وعبد المؤمن، ويعقوب المنصور. وقد وصفه مؤرخ معاصر فيما يلى: "أبيض اللون، تام القد، معتدل الجسم، حسن الوجه، واسع المنكبين، كامل اللحية، معتدلها، أشيب، كأن لحيته من بياضها قطعة ثلج، سمح الوجه، كريم اللقاء، شديد الصفح، كثير العفو، حليما، متواضعا شفيعاً كريماً، سمحاً، جواداً، مظفراً، منصور الراية" (¬2). ... فخلفه على عرش المغرب ولده الأمير أبو يعقوب، وكان مثل أبيه معنياً بشئون الأندلس خبيراً بها. واستمرت علائق بلاط غرناطة وبنى مرين أعواماً أخرى على حالها من المودة والصفاء، وزادت توطيداً حينما قبل سلطان المغرب، أن ينزل لابن الأحمر طوعاً عن وادى آش. وذلك أن محمداً الفقيه كان قد عين صهره أبا إسحاق ابن أبى الحسن بن أشقيلولة حاكماً على قُمارش ووادى آش، فلما توفى أبو إسحاق سنة 682 هـ استرد ابن الأحمر قمارش، وخرج عليه أبو الحسن ولد أبى إسحاق فى وادى آش، وتحالف أولا مع قشتالة، فلما عقد السلم بين المسلمين والنصارى، أعلن أبو الحسن انضواءه تحت لواء ملك المغرب، وأغضى ابن الأحمر حيناً عن تصرفه. فلما اتصلت وشائج المودة من جديد، بينه وبين السلطان أبى يعقوب، سأله التنازل عن وادى آش، فأجابه إلى سؤله، ورحل عنها الثائر أبو الحسن إلى المغرب ¬_______ (¬1) كتاب العبر ج 7 ص 370 - 372. (¬2) نقلنا هذا الوصف من المخطوط المعنون: "الياقوتة الحلية " الذى سبقت الإشارة إليه.

ملتجئاً إلى بلاط فاس. وبذا استطاع ابن الأحمر أن يبسط سلطانه على الأندلس كلها (¬1). وفى أوائل سنة 690 هـ (1291 م) أغار سانشو ملك قشتالة على الثغور الأندلسية ناكثاً لعهده، فأرسل السلطان أبو يعقوب إلى قائده على الثغور أن يغزو شريش وأرض النصارى، فزحف عليها وعاث فيها. وأعلن أبو يعقوب الجهاد، وتقاطرت بعوث المجاهدين إلى الأندلس، فبعث سانشو أسطوله إلى مياه المضيق ليحول دون وصول الأمداد، فبعث السلطان أسطوله لمهاجمة السفن القشتالية، ونشبت بين المسلمين والنصارى معركة بحرية هزم فيها المسلمون (أغسطس سنة 1291 م). ولكن هذه الهزيمة لم تثن ملك المغرب عن عزمه، فبعث أسطولا آخر لمقاتلة النصارى، وانسحب النصارى هذه المرة. وعبر السل طان أبو يعقوب إلى الأندلس فى قواته فى رمضان سنة 690 هـ، واقتحم أرض النصارى، وغزا شَريش ووصل فى زحفه حتى أحواز إشبيلية وعاث فيها، ثم عاد إلى الجزيرة، وارتد عائداً إلى المغرب فى أوائل سنة 691 هـ. وتوجس ملك قشتالة من مشاريع سلطان المغرب، فسعى إلى محالفة ابن الأحمر وحذره من نيات المغاربة، واستيلائهم على الثغور الأندلسية، ولاسيما ثغر طريف مدخل الجزيرة، وتفاهم الملكان على انتزاع هذا الثغر من المغاربة، واشترط ابن الأحمر أن تسلم إليه طريف عقب انتزاعها. وسير سانشو أسطوله إلى مياه المضيق ليحاصر طريف من ناحية البحر، وليحول دون وصول الأمداد إليها. وعسكر ابن الأحمر فى قواته بمالقة على مقربة منها، يعاون النصارى بالأمداد والمؤن، وصمدت حامية طريف أربعة أشهر، ولكنها اضطرت فى النهاية إلى التسليم للنصارى (سبتمبر سنة 1292 م). وهنا طالب ابن الأحمر سانشو بتسليمها فأبى وأعرض عنه، مع أنه نزل له مقابلها عن عدد من الحصون الهامة؛ فأدرك ملك غرناطة عندئذ خطأه فى الركون إلى وعود ملك قشتالة، وفى مغاضبة ملك المغرب حليفه الطبيعى، وسنده المخلص فى رد عدوان النصارى. وعاد ابن الأحمر يخطب ود بنى مرين مرة أخرى، وأوفد ابن عمه الرئيس أبا سعيد فرج بن إسماعيل ووزيره أبا سلطان عزيز الدانى على رأس وفد من كبراء الأندلس، إلى السلطان أبى يعقوب فى طلب المودة، وتجديد العهد، والاعتذار عن مسلكه فى شأن طريف، فأكرم السلطان وفادتهم، وأجابهم إلى طلب الصلح، ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 212 و 213.

ولما عاد الوفد إلى غرناطة، سُر ابن الأحمر من كرم السلطان ونبل مسلكه، واعتزم الرحلة للقائه بنفسه، وتأكيد المودة والاعتذار، فعبر البحر إلى العدوة فى أواخر سنة 692 هـ (1292 م) ومعه طائفة من الهدايا الفخمة، ونزل بطنجة حيث استقبله بعض أبناء السلطان، ثم جاء السلطان بنفسه إلى طنجة، وتلقاه بمنتهى الإكرام والحفاوة، ونزل له ابن الأحمر عن الجزيرة ورندة وأراضى الغربية، وعدة من الحصون كانت من قبل فى طاعة ملك المغرب. وعاد ابن الأحمر مغتبطاً بنجاح مهمته؛ وأرسل السلطان معه حملة لغزو طريف بقيادة وزيره عمر بن السعود، فحاصرتها حيناً ولكنها لم تظفر بافتتاحها (¬1). وكان لمحمد الفقيه، بالرغم من سمته العلمية، وقائع طيبة فى ميدان الجهاد ضد النصارى. ففى المحرم سنة 695 هـ (أواخر 1295 م) على أثر وفاة سانشو ملك قشتالة، زحف جيشه على أراضى قشتالة، وغزا منطقة جيَّان، ونازل مدينة قيجاطة (¬2) واستولى عليها، وعلى عدة من الحصون التابعة لها، وأسكن بها المسلمين. وفى صيف سنة 699 هـ (1299 م)، غزا أراضى قشتالة مرة أخرى، وزحف على مدينة القبذاق الواقعة جنوب غربى جيان، ودخل قصبتها وتملكها، وأسكن بها المسلمين (¬3). واستمر محمد بن محمد بن الأحمر أو محمد الفقيه فى حكم غرناطة أعواماً أخرى، وهو ثابت العهد مقيم على صداقة بنى مرين. ومما هو جدير بالذكر أنه قبيل وفاته بقليل عقد معاهدة صلح وتحالف مع ملك أراجون خايمى الثانى ضد قشتالة، وذلك تجديداً وتعديلا لمعاهدة صلح سابقة عقدت بينهما فى سنة 695 هـ (1299 م). وقد نص فى هذه المعاهدة الجديدة على عقد "صلح ثابت وصحبة صادقة" وأن يلتزم كل من الفريقين عدم الإضرار بالآخر على يد أحد من رعاياه، وأن تكون أراجون معادية لأعداء غرناطة سواء من المسلمين أو قشتالة، وأن يفتح بلد كل من الفريقين لمن يقصده من تجار البلد الآخر مؤمنين فى أنفسهم وأموالهم، وأخيراً يتعهد ملك غرناطة بمعاونة أراجون ضد ملك قشتالة، وألا يعقد معه صلحاً إلا ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 217. (¬2) مدينة قيجاطة هى بالإسبانية Queaja وتقع شمال شرقى مدينة جيان، وجنوب شرقى مدينة أبدة. والقبذاق هى بالإسبانية Alcaudete. (¬3) الإحاطة فى أخبار غرناطة ج 1 ص 569.

صورة وثيقة التحالف والصلح المعقودة بين محمد بن الأحمر (محمد الثانى) ملك غرناطة وخايمى الثانى ملك أراجون فى ربيع الثانى سنة 701 هـ (ديسمبر 1301) ومحفوظة بدار محفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 148.

بموافقة حليفه، ويتعهد ملك أراجون لسلطان غرناطة بمثل ما تقدم، كما يتعهد السلطان بمعاونة حليفه بفرسان من عنده فى أرض مرسية إذا احتاج إلى هذا العون، وألا يعترض سلطان غرناطة على ما يأخذه ملك أراجون من أراضى قشتالة، إلا المواضع التى كانت لغرناطة، فهذه ترد إليها. وقد وقعت هذه المعاهدة فى آخر ربيع الثانى سنة 701 هـ (31 ديسمبر سنة 1301 م) (¬1)؛ ولم يمض على عقدها بضعة أشهر حتى توفى السلطان فى شعبان سنة 701 هـ (مايو سنة 1302 م) بعد أن حكم أكثر من ثلاثين عاماً، وقد زاد ملك بنى الأحمر فى عهده توطداً واستقراراً، بالرغم مما توالى فيه من الأحداث الخطوب. وكان وزيره فى أواخر عهده الكاتب والشاعر الكبير أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم اللخمى وهو من مشايخ رندة، وكان من قبل من كتابه فى ديوان الإنشاء، وكان رجلا وافر العزم قوى الشكيمة، ولقب بذى الوزارتين لجمعه بين الكتابة والوزارة، وكان لحزمه وقوة نفسه أكبر أثر فى استقرار الأمور فى هذا العهد (¬2). - 2 - وخلف محمداً الفقيه ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالمخلوع، وكان ضريراً، وكان ذا نباهة وعزم، عالماً شاعراً يؤثر مجالس العلماء والشعراء، ويصغى إليهم ويجزل صلاتهم، محباً للإصلاح والإنشاء. وكان بين منشآته المسجد الأعظم بالحمراء، فهو الذى أمر ببنائه على أبدع طراز، وزوده بالعمد والنقوش والثريات الفخمة؛ ولكنه لم يحسن تدبير شئون الملك والسياسة، وغلب عليه كاتبه ووزيره ووزير أبيه من قبل أبو عبد الله محمد بن الحكيم اللخمى، فاستبد بالأمر دونه وحجر عليه، فاضطربت الأمور، وأخذت عوامل الانتقاض تجتمع وتبدو فى الأفق. وفى عهده القصير، اضطربت علائق مملكة غرناطة وبنى مرين مرة أخرى. والواقع أنه حاول فى بداية عهده، أن يعمل على إحكام المودة بينه وبين بنى مرين، ¬_______ (¬1) حصلنا على صور فتوغرافية لأصل هذه الوثيقة وسائر الوثائق الأخرى التى تتضمن معاهدات أو مراسلات تبودلت بين ملوك غرناطة وملوك أراجون من دار المحفوظات ببرشلونة المسماة "محفوظات التاج الأرجونى" Archivo de la Corana de Aragon، وتحفظ هذه الوثيقة بها برقم 148. ومن جهة أخرى فقد نشر نصها فى مجموعة الوثائق الدبلوماسية التى أصدرها: Alarcon و R. O. de Linares بعنوان: Los Documentos Arabes diplomaticos del Archivo de la Corona de Aragon (No. 3) . (¬2) يترجم له ابن الخطيب بإفاضة فى الإحاطة ج 2 ص 278 وما بعدها (طبعة قديمة).

فأرسل وزير أبيه أبا سلطان عزيز الدانى ووزيره ابن الحكيم إلى سلطان المغرب، ليجددا عهد المودة والصداقة، فوفدا عليه وهو بمعسكره محاصراً لتلمسان، فأكرم وفادتهما وطلب إليهما إمداده ببعض جند الأندلس الخبراء فى منازلة الحصون، فأرسلت إليه قوة منهم أدت مهمتها أحسن أداء. ولاح أن أواصر المودة أضحت أشد ما يكون توثقاً بين الفريقين، ولكن ابن الأحمر عرض له فجأة أن يعدل عن محالفة سلطان المغرب، وأن يعود إلى محالفة ملك قشتالة، فغضب السلطان أيو يعقوب لذلك، ورد جند الأندلس (703 هـ). وبدأ ابن الأحمر أعمال العدوان، بأن أوعز إلى عمه وصهره الرئيس أبى سعيد فرج بن إسماعيل صاحب مالقة، أن يحرض أهل سبتة فى الضفة الأخرى من البحر، على خلع طاعة السلطان، واستعد ابن الأحمر فى الوقت نفسه لمحاربة السلطان، إذا عنَّ له أن يعبر إلى الأندلس، وجهز الرئيس أبو سعيد حملة بحرية فى مياه مالقة بحجة مدافعة النصارى، ثم سيرها فجأة إلى المغرب، وذلك فى شوال سنة 705 هـ (1306 م). وكانت الحملة بقيادة عثمان بن أبى العلاء المرينى. فاستولت على سبتة، وجاء الرئيس أبو سعيد فاستبد بأمرها، وأعلن انضواءها تحت لواء ابن الأحمر، وقبض على ابن العزفى حاكمها من قبل السلطان وآله، وأرسل إلى غرناطة. ووقف السلطان أبو يعقوب على هذه الحوادث وهو تحت أسوار تلمسان، فوجد لذلك الغدر، وبعث حملة بقيادة ولده أبى سالم إلى سبتة فحاصرها حيناً، ولكنه أخفق فى الاستيلاء عليها وارتد أدراجه، وخرج فى إثره عثمان بن أبى العلاء فى جند الأندلس، وعاث فى أحواز سبتة وما جاورها (سنة 706 هـ). وكان لتطور الحوادث على هذا النحو أسوأ وقع فى نفس السلطان أبى يعقوب، فاعتزم أن يسير بنفسه إلى استرداد سبتة، ولكن حدث بينما كان يجد فى الأهبة أن اغتاله كبير الخصيان، فى مؤامرة دبرها الخصيان للتخلص منه خوفاً من أن يبطش بهم، فتوفى قتيلا فى ذى القعدة سنة 706 هـ (أبريل سنة 1307 م)؛ ونشبت عقب مصرع السلطان حرب أهلية حول العرش بين ولديه أبى ثابت وأبى سالم، هزم فيها أبو سالم وقتل، واستقر أبو ثابت على العرش. وفى ذلك الحين كانه عثمان بن أبى العلاء المرينى، يتوغل بجنده فى شمال المغرب، وكان هذا الجندى الجرىء يتجه بأطماعه نحو عرش المغرب، ويعتمد فى تحقيق مشروعه على أنه سليل بنى مرين. ولما توغل بجنده جنوبا، دعا لنفسه بالملك

واستولى على بعض الحصون، وأيدته بعض القبائل، وهزم عساكر السلطان أبى يعقوب حينما تصدت لوقفه وانتهز فرصة مصرع السلطان ونشوب الحرب الأهلية بين ولديه، فزاد إقداما وتوغلا واستفحل أمره، ولاح الخطر يهدد ملك بنى مرين. وما كاد السلطان أبو ثابت يستقر فى عرش أبيه، حتى اعتزم أمره للقضاء على تلك الحركة الخطيرة، واسترداد سبتة، فسار إلى الشمال على رأس جيش ضخم فى شهر ذى الحجة سنة 707 هـ، ولما شعر عثمان بن أبى العلاء بوفرة قوته وأهبته، بادر بالفرار مع جنده خشية لقائه، وزحف السلطان على الحصون الخارجة عليه فأثخن فيها واستولى عليها، ثم سار إلى طنجة؛ وامتنع عثمان بن أبى العلاء بقواته فى سبتة، فسار إليها السلطان وضرب حولها الحصار الصارم، وأمر ببناء بلدة تيطاوين (تطوان) لنزول عسكره، ولكنه مرض أثناء ذلك وتوفى فى صفر سنة 708 هـ (يوليه سنة 1308 م) (¬1). فخلفه فى الملك أخوه السلطان سليمان أبو الربيع، وارتد بالجيش إلى فاس تاركا سبتة لمصيرها. فخرج فى أثره عثمان بن أبى العلاء فى قواته، ونشبت بين الفريقين معركة هزم فيها عثمان، وقتل من الأندلسيين عدد جم، وخشى عثمان العاقبة فعاد مع آله إلى الأندلس ولحق بغرناطة، وتابع السلطان أبو الربيع سيره إلى فاس واستقام له الأمر. ولم تمض على ذلك أشهر قلائل حتى وقعت بالأندلس حوادث هامة. ذلك أن عوامل الإنتقاض التى لبثت بضعة أعوام تعمل عملها فى ظل محمد المخلوع، تمخضت فى النهاية عن نشوب الثورة. وكان مدبرها ومثير ضرامها أخوه أبو الجيوش نصر بن محمد الفقيه، ومن ورائه رهط من أكابر الدولة، سئموا نظام الطغيان الذى فرضه محمد المخلوع ووزيره ابن الحكيم. واضطرمت الثورة فى يوم عيد الفطر سنة 708 هـ (أوائل سنة 1309 م). ووثب الخوارج بالوزير ابن الحكيم فقتلوه، واعتقلوا السلطان محمداً، وأرغموه على التنازل عن العرش. وتربع أخوه نصر مكانه فى الملك، ونفى السلطان المخلوع إلى حصن المنكَّب، حيث قضى خمسة أعوام فى أصفاد الأسر، ثم أعيد بعد ذلك مريضاً إلى غرناطة حيث توفى فى سنة 713 هـ (¬2). ووقف سلطان المغرب على حوادث الأندلس؛ وبلغه أن أهل سبتة قد سئموا ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 237. (¬2) الإحاطة ج 1 ص 552 - 564، واللمحة البدرية ص 48 - 54.

نير الأندلسيين، فبعث إليها حملة بقيادة تاشفين بن يعقوب، فلما وصلت إليها ثار أهل البلد، وطردوا منها جند ابن الأحمر وعماله، ودخلتها فى الحال جند المغرب واستولوا عليها، وذلك فى شهر صفر سنة 709 هـ (يوليه 1309 م). واغتبط السلطان لانتهاء هذه المغامرة التى شغلت بنى مرين بضعة أعوام. وكان سلطان غرناطة الجديد يوم جلوسه فتى فى الثالثة والعشرين من عمره، وكان ولوعاً بالأبهة والمظاهر الملوكية. وكان فى الوقت نفسه أديباً عالماً بارعاً فى الرياضة والفلك، وقد وضع جداول فلكية قيمة. ولكنه لم يحسن السيرة، ولم يوفق فى تدبير الأمور. وسرعان ما سخط عليه الشعب كما سخط على أخيه من قبل. فاضطربت الأحوال، وتوالت الأزمات، وكانت حوادث سبتة نذيراً بتفاقم التوتر بين بلاط غرناطة وبلاط فاس. ومن جهة أخرى فقد ساءت العلائق بين غرناطة وقشتالة، وانتهز القشتاليون كعادتهم فرصة اضطراب الأحوال فى غرناطة، فغزوا أرض المسلمين فى أوائل سنة 709 هـ (1309 م)، ووضع فرناندو الرابع ملك قشتالة مشروعا جريئاً للاستيلاء على جبل طارق. وكانت الأمداد المغربية قد انقطعت منذ استولى النصارى على طريف، وشغل بنو مرين بالحوادث، والثورات الداخلية، وساءت علائقهم ببنى الأحمر. ورأى فرناندو الرابع أن الفرصة سانحة ليضرب ضربته المفاجئة، فغزا الجزيرة الخضراء، وبعث أسطوله لحصار جبل طارق من البحر، وأوعز فى الوقت نفسه إلى خايمى ملك أراجون أن يحاصر ثغر ألمرية لكى يشغل قوات الأندلس فاستجاب لتحريضه، وذلك بالرغم من معاهدة التحالف والصداقة التى كانت تربطه بسلطان غرناطة. وبدأ حصار ألمرية وجبل طارق فى وقت واحد فى أوائل سنة 709 هـ، وبذل النصارى للاستيلاء على ألمرية جهوداً فادحة، ونصبوا على أسوارها الآلات الضخمة، وحفروا فى أسفل السور نفقاً واسعاً لدخولها، فلقيهم المسلمون تحت الأرض وردوهم بخسارة فادحة؛ ونشبت على مقربة من ألمرية معركة بين جند الأندلس بقيادة عثمان بن أبى العلاء وجند أراجون، فهزم النصارى واضطروا إلى رفع الحصار، ونجت ألمرية من خطر السقوط (¬1). ولكن ثغر جبل طارق كان أسوأ طالعا. فقد شدد النصارى حوله الحصار من البر والبحر، وبالرغم من هزيمتهم أمام المسلمين على مقربة من جبل طارق، فقد لبثوا على حصاره بضعة أشهر حتى ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 240؛ واللمحة البدرية ص 62.

أضنى الحصار المسلمين وأرغموا على التسليم. وسقط الثغر المنيع فى يد النصارى فى أواخر سنة 709 هـ (مارس سنة 1310 م) فكان لسقوطه وقع عميق فى الأندلس والمغرب معا؛ فقد كان باب الأندلس من الجنوب، وكان صلة الوصل المباشر بين المملكتين الإسلاميتين. وأدرك ابن الأحمر على أثر هذه النكبة، فداحة الخطأ الذى ارتكبه بمجافاة بنى مرين، فبادر بإرسال رسله إلى السلطان أبى الربيع يبدى أسفه على ما سلف، ويسأله الصفح والصلح؛ فأجابه السلطان إلى طلبه، ونزل ابن الأحمر للسلطان عن الجزيرة ورندة وحصونها ترضية له وترغيباً فى الجهاد، واقترن بأخت السلطان توثيقاً لوشائج المودة، وأرسل السلطان إليه المدد والأموال، وعادت علائق التفاهم والتحالف بين غرناطة وفاس إلى سابق عهدها. على أن هذا التحسن فى علائق المملكتين الإسلاميتين، لم يثن النصارى عن مشاريعهم تجاه غرناطة. ذلك أن الجيوش المغربية لم تعد تعبر إلى الجزيرة بكثرة. وكانت أحوال المغرب تعوق بنى مرين عن استئناف الجهاد فى الأندلس على نطاق واسع، وكانت أحوال غرناطة، من جهة أخرى تشجع النصارى على التحرش بها والإغارة على أراضيها. ولما رأى السلطان نصر تفاقم الأمور واشتداد بأس النصارى، لم ير وسيلة لاجتناب الخطر الذى يهدده سوى مصانعة فرناندو الرابع ملك قشتالة والتعهد له بأداء الجزية. وكان ذلك مما زاد فى سوء سيرته وفى سخط الشعب عليه. ولم تلبث أعراض الثورة أن ظهرت فى الجنوب حيث أعلن الرئيس أبو سعيد فرج بن إسماعيل النصرى صاحب مالقة وابن عم أبى السلطان، الخروج والعصيان. ورشح الخوارج للملك مكان نصر، أبا الوليد اسماعيل وهو حفيد لإسماعيل أخى محمد بن الأحمر رأس الأسرة النصرية. ولم يمض سوى قليل حتى استطاع أبو سعيد وشيعته التغلب على ألمرية وبلّش وغيرهما من القواعد الجنوبية. وفى أوائل سنة 712 هـ (1313 م) سار فى قواته إلى غرناطة، وهرع السلطان نصر إلى لقائه فكانت الهزيمة على نصر، فلجأ إلى غرناطة؛ ولكنه لم يلبث أن أذعن واضطر إلى التنازل عن العرش، وسار بأهله إلى وادى آش، وتولى حكمها حتى توفى سنة 722 هـ (1322 م) (¬1). ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 393 و 394؛ واللمحة البدرية ص 57 - 63.

الفصل السابع مملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية

الفصل السابع مملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية ولاية السلطان أبى الوليد اسماعيل. زحف القشتاليين على غرناطة. هزيمتهم ومقتل أمرائهم. سوء الأحوال فى قشتالة. تجديد الصلح بين غرناطة وأراجون. غزوات المسلمين فى أراضى النصارى. مقتل السلطان إسماعيل وخلاله. ولاية ولده أبى عبد الله محمد. بطشه بوزيره ابن المحروق. الخلاف بينه وبين شيوخ الغزاة. الحاجب أبو النعيم رضوان. استنجاد ملك غرناطة بملك المغرب. أبو الحسن يرسل الأمداد مع ولده. غزو الأندلسيين للجزيرة الخضراء. حصارهم لجبل طارق واسترداده من النصارى. المؤامرة على السلطان ومصرعه. السلطان أبو الحجاج يوسف. نكبته لبنى العلاء. الحاجب رضوان وخلاله. استئثاره بالسلطة. نفيه وعوده إلى الوزارة. الوزير ابن الجياب. بداية ظهور ابن الخطيب. تحرش القشتاليين بالمسلمين. قدوم الأمداد من المغرب. هزيمة المغاربة ومقتل قائدهم. عبور السلطان أبى الحسن إلى الأندلس. موقعة سالادو وهزيمة المسلمين. سقوط طريف والجزيرة الخضراء فى يد النصارى. مسير السلطان أبى الحسن للمرة الثانية. هزيمته فى البر والبحر. تبادل المكاتبة والسفارة بين أبى الحسن وسلطان مصر. تجديد الصلح مع أراجون. الوباء الكبير. عود القشتاليين إلى الغزو. حصارهم لجبل طارق. تفشى الوباء بين النصارى ومصرع ملك قشتالة. نجاة جبل طارق. أقوال ابن الخطيب. وصف ابن بطوطة لحوادث الأندلس وأحوالها. مصرع السلطان أبى الحجاج يوسف. وصف ابن الخطيب للحادث. خلال يوسف. استعراض للعلائق بين بنى الأحمر وبنى مرين. جلس السلطان أبو الوليد اسماعيل على عرش غرناطة فى شوال سنة 713 هـ (1314 م)، وامتاز عصره بتوطد الملك، واستقرار الأمور، وإحياء عهد الجهاد. وفى أوائل عهده غزا القشتاليون كعادتهم بسائط غرناطة واستولوا على عدة من القواعد والحصون، وهزموا المسلمين هزيمة شديدة فى وادى فرتونة (716 هـ). ولما رأى القشتاليون نجاح غزوتهم اعتزموا منازلة الجزيرة الخضراء والاستيلاء عليها ليحولوا دون وصول الأمداد إلى المسلمين من عدوة المغرب. ولكن السلطان إسماعيل بادر إلى تحصينها وجهز الأساطيل لحمايتها من البحر، فعدل القشتاليون عن مشروعهم، وعولوا على مهاجمة الحاضرة الإسلامية ذاتها. وبادر ابن الأحمر بطلب الغوث والإمداد من السلطان أبى سعيد سلطان المغرب، فنكل عن معاونته،

وطالب بتسليم عثمان بن أبى العلاء لما كان منه فى حق بنى مرين، فأبى ابن الأحمر خشية العواقب؛ وزحف القشتاليون على غرناطة بجيش ضخم، يقوده الدون بيدرو (دون بطره) والدون خوان الوصيان على ألفونسو الحادى عشر ملك قشتالة، ومعهما عدة من الأمراء القشتاليين، وفرقة من المتطوعة الإنجليز بقيادة أمير إنجليزى، فبادر المسلمون إلى لقائهم فى هضبة إلبيرة على مقربة من غرناطة. وكان الجيش الغرناطى لا يجاوز ستة أو سبعة آلاف جندى منهم نحو ألف وخمسمائة فارس، ولكنهم صفوة المقاتلة المسلمين، وكان قائده شيخ الغزاة أبو سعيد عثمان بن أبى العلاء، جنديا جريئاً وافر العزم والبسالة، فلم ترعه كثرة الجيش المهاجم، وعول فى الحال على لقائه فى معركة حاسمة. وفى 20 من ربيع الثانى سنة 718 هـ (مايو سنة 1318 م) التقى فرسان الأندلس بطلائع النصارى وردوهم بخسارة فادحة. ثم زحف أبو سعيد فى نخبة من جنده، ونشبت بين الفريقين موقعة شديدة، كانت الدائرة فيها على القشتاليين، فمزقوا شر ممزق، وقتل منهم عدد جم، بينهم دون بيدرو ودون خوان، ورهط كبير من الأمراء والنبلاء والأحبار، وغرق منهم عند الفرار فى نهر شنيل عدة كبيرة، وأسر منهم بضعة آلاف، واستمر القتال والأسر فيهم ثلاثة أيام. وخرج أهل غرناطة فرحين مستبشرين، يجمعون الأسلاب والأسرى، وظفر المسلمون بغنائم عظيمة، منها مقادير كبيرة من الذهب والفضة. وكان على العموم نصراً مشهوداً أعاد ذكرى الجهاد المجيد. وكان معظم الفضل فى إحرازه يرجع إلى الجند المغاربة وإلى شيوخهم بنى العلاء الذين تزعموا الجيوش الأندلسية، وتولوا قيادتها فى تلك الفترة حسبما أسلفنا. ويعلل ابن خلدون ظهور القادة والجند المغاربة فى ميدان الجهاد بقرب عهدهم بالتقشف والبداوة. ووضع المسلمون جثة الدون بيدرو فى تابوت من ذهب على سور الحمراء تنويهاً بالنصر، وتخليداً لذكرى الموقعة (¬1). والواقع أن مملكة قشتالة كانت فى أوائل القرن الرابع عشر فى حالة سيئة، وقد نفدت مواردها من الرجال والأمول، بسبب الحروب والثورات المتواصلة، والمرض والقحط، وكان إسراف البلاط وبذخ الخلائل، واختلاس الموظفين، ومطالب رجال الدين، وجشع الأشراف، تستنفد الأموال العامة، وكانت ¬_______ (¬1) راجع فى تفاصيل هذه الموقعة الشهيرة، ابن خلدون ج 4 ص 172، وج 7 ص 250؛ والإحاطة ج 1 ص 397؛ والمقرى فى نفح الطيب ج 1 ص 210.

صورة معاهدة الصلح التى عقدت بين السلطان أبى الوليد اسماعيل بن فرج بن نصر ملك غرناطة، وخايمى الثانى ملك أراجون فى ربيع الثانى سنة 721 هـ (مايو 1321 م) وهى محفوظة بدار محفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 151.

الإدارة المالية فى يد اليهود ورجال الكنيسة وكلاهما يناوىء الآخر، ويعمل على إحباط مساعيه؛ وكانت الوصايات المتعاقبة، وما تعمد إليه من اغتصاب الأموال، وسوء استعمال السلطة، وفساد القضاء، وتطاول الخلائل الملكية، وسحق الحقوق العامة والخاصة، وتفشى الجريمة، تثير غضب الشعب وسخطه؛ وكان اللون الصليبى للحروب الإسبانية فى ذلك العصر يوطد نفوذ جماعات الفرسان الدينية العديدة، وهى التى كانت فى الواقع توجه مصاير الحرب والسياسة، بيد أنها كانت تخفى تحت ستار الدين رذائل كثيرة من الفجور والجشع والارتشاء وغيرها (¬1). وفى سنة 721 هـ (1321 م) جدد السلطان إسماعيل معاهدة الصلح مع ملك أراجون خايمى الثانى وذلك تحقيقاً لرغبته؛ ونص فى المعاهدة الجديدة على أن يعقد بين الفريقين صلح ثابت لمدة خمسة أعوام، تؤمن خلالها أرض المسلمين بالأندلس وأرض أراجون تأميناً تاماً براً وبحراً، وأن تباح التجارة لرعايا كل من الفريقين فى أرض الآخر، وأن يتعهد كل من الملكين بمعاداة من يعادى الآخر، وأن لا يأوى له عدواً أو يحميه، وأن تكون سفن كل فريق وشواطئه ومراسيه آمنة، وأن يسرح كل فريق من يؤسر فى البحر من رعايا الفريق الآخر. وتضمنت المعاهدة أيضاً نصاً خاصاً بتعهد ملك أراجون بألا يمنع خروج المدجّنين من أراضيه إلى أرض المسلمين بأهلهم وأولادهم وأموالهم، وهو نص يلفت النظر، إذ كان المدجنون فى هذا العصر يؤلفون أقليات كبيرة فى بلنسية ومرسية وشاطبة وغيرها من القواعد الشرقية، وكان ملوك أراجون يحرصون على بقائهم وعدم هجرتهم لأسباب اقتصادية وعمرانية (¬2). وعلى أثر موقعة إلبيرة تعاقبت غزوات المسلمين فى أراضى النصارى وعادت الدولة الإسلامية الفتية تجوز عهداً من القوة بعد أن لاح أنها شارفت طور الفناء. ففى سنة 724 هـ (1324 م) زحف السلطان إسماعيل على مدينة بيَّاسة الحصينة وحاصرها بشدة، وأطلق المسلمون عليها الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع حتى سلمت. وفى رجب من العام التالى (725 هـ) سار اسماعيل إلى مرتش واستولى عليها عنوة، وكانت أعظم غزواته، وامتلأت أيدى المسلمين بالسبى والغنائم. ثم عاد السلطان إلى غرناطة مكللا بغار النصر. بيد أنه لم تمض على عوده ¬_______ (¬1) راجع: Scott: ibid ; V. II. p. 476-78 (¬2) Archivo de la Corona de Aragon, No. 151

ثلاثة أيام حتى قتل بباب قصره غيلة، وكان قاتله ابن عمه محمد بن إسماعيل صاحب الجزيرة، وقد حقد عليه لأنه انتزع منه جارية رائعة الحسن، ظفر بها فى موقعة مرتش، وبعث بها إلى حريمه بالقصر. ولما عاتبه محمد رده بجفاء وأنذره بمغادرة البلاط، فتربص به وطعنه بخنجره وهو بين وزرائه وحشمه، فحمل جريحاً حيث توفى على الأثر، وكان مصرعه فى السادس والعشرين من رجب سنة 725 هـ (يونيه سنة 1325 م). وكان السلطان إسماعيل يتمتع بخلال باهرة، وكان يشتد فى إخماد البدع وإقامة الحدود. وفى عهده حرمت المسكرات وطورد الفساد الأخلاقى، وحرم جلوس الفتيات فى ولائم الرجال، وعومل اليهود بشىء من الشدة، وألزموا أن يتخذوا لهم شعاراً خاصاً بهم، وهو عبارة عن العمائم الصفراء (¬1). فخلفه ولده أبو عبد الله محمد وهو فتى يافع لم يجاوز الحادية عشرة من عمره، وكانت أمه نصرانية تدعى علوة، وأخذ له البيعة وزير أبيه أبو الحسن بن مسعود، وقام بكفالته بضعة أشهر حتى توفى، ثم خلفه فى الوزارة وكيل أبيه محمد بن أحمد ابن المحروق، فاستبد بالأمور واستأثر بكل سلطة؛ فحقد عليه السلطان الفتى وكان رغم حداثته مقداما قوى النفس، ولم يلبث أن بطش بوزيره المتغلب عليه، فقتل بأمره فى المحرم سنة 729 هـ. وكان من أوائل أعماله تجديد معاهدة الصداقة مع أراجون، وكان ملكها خايمى الثانى قد أوفد إليه سفيره يطلب إليه تجديد معاهدة الصلح والصداقة التى عقدت بينه وبين أبيه، وانقضى أجلها المحدد بانقضاء أعوامها الخمسة، فوافق السلطان على تجديدها بسائر نصوصها وشروطها، ووقعت المعاهدة الجديدة فى جمادى الثانية سنة 726 هـ (مايو سنة 1326 م) (¬2). ولأول عهده نشب الخلاف بينه وبين شيوخ الغزاة المغاربة، وعلى رأسهم عثمان بن أبى العلاء، وامتنعوا ببعض الثغور الجنوبية ولاسيما ألمرية، وانضم إليهم عم السلطان، محمد بن فرج بن إسماعيل، فقاموا بدعوته، ونشبت بين الفريقين عدة مواقع محلية، كان النصر فيها سجالا بينهما. وانتهز القشتاليون كعادتهم تلك ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 395 - 410؛ واللمحة البدرية ص 71 - 74. (¬2) Archivo de la Corona de Aragon, No. 148

الفرصة، فأثخنوا فى الأراضى الإسلامية، واستولوا على ثغر بيره وعدة من الحصون (¬1). ولما تفاقم عيث النصارى آثر السلطان التفاهم مع الخوارج عليه، وعقدت بينهما الهدنة على أن يستقروا بوادى آش باسمه وتحت طاعته. وتولى تدبير الأمور بعد مقتل ابن المحروق، الحاجب أبو النعيم رضوان النصرى، فهدأت الفتنة واستقرت الأمور نوعاً. ولكن ابن الأحمر كان يتوجس شراً من اضطراب الأحوال فى مملكته ومن تربص النصارى بها، ورأى أن يتجه بصريحه إلى بنى مرين مرة أخرى، وكانت العلائق يومئذ على صفائها بين غرناطة وفاس. وكان بنو مرين حينما شغلوا بشئونهم الداخلية قد تركوا الجزيرة وحصونها لابن الأحمر (سنة 712 هـ)، فلما اشتدت وطأة النصارى على غرناطة، عاد ابن الأحمر فنزل عن الجزيرة إلى ملك المغرب السلطان أبى سعيد (سنة 729 هـ)، لتكون رهينة ومنزلا للأمداد المرجوة من وراء البحر؛ ولكن النصارى استولوا على معظم حصونها، وأضحى طريق الجواز ولاسيما بعد ضياع جبل طارق عسيراً محفوفاً بالمخاطر. وعبر ابن الأحمر البحر فى أواخر سنة 732 هـ إلى عدوة المغرب، وقصد إلى فاس مستنجداً بملك المغرب، السلطان أبى الحسن على بن عثمان بن أبى يعقوب المرينى، فاستقبله السلطان بمنتهى الحفاوة، وشرح له ابن الأحمر ما انتهت إليه شئون الأندلس، وما ترتب على سقوط جبل طارق من قطع صلة الوصل بين المملكتين، ورجاه الغوث والعون. والواقع أن استيلاء النصارى على جبل طارق فى سنة 709 هـ (1310 م) كان أعظم نكبة منيت بها الأندلس منذ سقوط قواعدها الكبرى. وقد شعرت حكومة غرناطة بفداحة النكبة، وازداد منذ وقوعها توجسها من المستقبل. ولقد أتيح لنا أن نزور هذه الصخرة الهائلة، وأن نشهد مبلغ روعتها ومنعتها. وكان المسلمون قد جددوا تحصيناتها فى منتصف القرن السادس الهجرى حينما عبر إليها خليفة الموحدين عبد المؤمن بن على (555 هـ)، وأسماها جبل الفتح، وأمر بتجديد حصنها الذى ما يزال قائماً حتى اليوم فوق الصخرة من ناحيتها الشمالية. وكان سلطان غرناطة يتوق إلى استرداد هذا المعقل المنيع درع مملكته من الجنوب. وكان السلطان أبو الحسن مشغوفاً بالجهاد واستئناف ما تصرم من أسبابه. وكان فوق اضطرامه بعاطفة الجهاد، يرى خطر اسبانيا النصرانية يلوح داهماً ليس على الأندلس فقط، ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 544. وبيره Vera بلدة حصينة تقع فى شمال شرقى ولاية ألمرية على مقربة من البحر.

صورة وثيقة عقدت بين السلطان أبى عبد الله محمد بن إسماعيل وخايمى الثانى ملك أراجون بتجديد معاهدة الصلح التى عقدت بين والده وخايمى فى سنة 721 هـ، مؤرخة فى جمادى الثانية سنة 726 هـ (1326 م) ومحفوظة بدار محفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 154.

بل وعلى المغرب أيضاً. ذلك لأن الأندلس أخذت تبدو من ذلك الحين جناح المغرب، وخطه الدفاعى الأول من الشمال، ولابد من تأمين هذا الخط والسهر على سلامته، وذلك بدعم قوة الأندلس وتأييدها، ورد خطر النصارى عنها. ومن ثم فقد استجاب أبو الحسن لدعوة ابن الأحمر وبعث معه الأمداد بقيادة ولده أبى مالك، لمنازلة جبل طارق وافتتاحها، وتلاحقت فى أثرهم السفن تحمل المدد والعُدد والمؤن. وحشد ابن الأحمر قواته، وزحف على الجزيرة واستولى عليها. وطوق المسلمون جبل طارق من البر والبحر، ورابط أسطول المغرب فى مياه المضيق ليحول دون وصول الأمداد إلى النصارى، وهرع ملك قشتالة (ألفونسو الحادى عشر) فى قوة من الفرسان لإنجاد الحامية المحصورة، فبادر ابن الأحمر إلى مهاجمة النصارى، وهزمهم أمام جبل طارق تجاه البرزخ الإسبانى. وكان أكبر الفضل فى إحراز هذا النصر راجعاً إلى همة الحاجب رضوان النصرى وإقدامه وبراعته. ثم شدد المسلمون الحصار على الثغر، وقطعوا كل صلاته من البر والبحر، فلم تمض بضعة أسابيع حتى ساءت حال الحامية النصرانية، واضطرت إلى التسليم قبل مقدم الجيش القشتالى. وبذلك استعاد المسلمون الثغر المنيع فى أواخر سنة 733 هـ (1333 م) بعد أن لبث فى حوزة النصارى أربعة وعشرين عاماً، وكان أكبر الفضل فى استرداده راجعاً إلى معاونة السلطان أبى الحسن فى البر والبحر. ولما رابط المسلمون والنصارى فى الميدان وجهاً لوجه، ورأى ملك قشتالة أنه لا أمل فى كسب معركة انتهت فعلا بظفر المسلمين، آثر الصلح، وانتهى الأمر بعقد الهدنة بين الملكين (¬1). واعتزم السلطان محمد بن اسماعيل (ابن الأحمر) العودة بجنده إلى غرناطة، ولكنه ما كاد يغادر جبل طارق فى اليوم التالى عائداً إلى عاصمة ملكه، حتى اغتاله فى الطريق جماعة من المتآمرين بتحريض بنى أبى العلاء، (ذى الحجة سنة 733 هـ). وكان أولئك القواد المغاربة وعلى رأسهم شيخهم عثمان ابن أبى العلاء قد استفحل أمرهم فى الدولة، وأخذوا ينازعون السلطان فى أمر تصرفاته، ولما توفى شيخ الغزاة عثمان ابن أبى العلاء فى سنة 729 هـ عين مكانه فى المشيخة ولده أبو ثابت عامر، فاستمر يمارس سلطان أبيه ونفوذه، وتدخله فى شئون الدولة، وكان يؤازره إخوته إدريس، ومنصور، وسلطان. وبدأ ابن الأحمر ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 540 - 552؛ واللمحة البدرية ص 77 - 82؛ وابن خلدون ج 7 ص 255.

يتبرم بتدخلهم واستبدادهم، وكان حينما عبر السلطان أبو الحسن قد خاطبه فى شأنهم وفى سبيل الخلاص منهم، واستراب بنو العلاء منه وتوجسوا شراً، فاتمروا به للتخلص منه قبل أن يبطش بهم، ولحق به المتآمرون حين عوده واغتالوه طعناً بالرماح، وتركت جثته فى العراء حيناً حتى نقلت بعد ذلك إلى مالقة ودفنت بها (¬1). - 2 - وولى العرش من بعده أخوه أبو الحجاج يوسف بن أبى الوليد إسماعيل، وهو فتى فى السادسة عشرة. وكان من أعظم ملوك بنى نصر وأبعدهم همة وأرفعهم خلالا. وكان عالماً شاعراً يحمى الآداب والفنون، وهو الذى أضاف إلى قصر الحمراء أعظم منشآته وأروعها. وما كاد يتبوأ العرش حتى عنى بتتبع بنى أبى العلاء قتلة أخيه، وتجريدهم من وظائفهم وتمزيق عصبتهم والقبض على شيوخهم، وكان ذلك فى الوقت نفسه تحقيقاً لرغبة السلطان أبى الحسن. ثم نفاهم فى السفن إلى تونس، وانتهت بذلك رياستهم بالأندلس، بعد أن طالت زهاء نصف قرن، ولما نزلوا على سلطان تونس أبى يحيى الحفصى، طالب السلطان أبو الحسن بتسليمهم فأرسلهم إليه أبو يحيى ولكن مع طلب الشفاعة فيهم، فعفا عنهم أبو الحسن، وأكرم مثواهم مدى حين، ولكنه عاد فقبض عليهم بتهمة التآمر عليه، وأودعهم ظلام السجن (¬2). وعهد السلطان أبو الحجاج بمشيخة الغزاة، بعد سحق بنى أبى العلاء على النحو المتقدم، إلى زعيم آخر من قرابة بنى مرين هو يحيى بن عمر بن رحّو، فاضطلع بها على خير وجه، ولبث مضطلعاً بها طول عصر أبى الحجاج. وقام بتدبير الأمور للسلطان أبى الحجاج وزير أخيه الحاجب أبو النعيم رضران، وكان هذا الوزير القوى الذى لعب فى تاريخ غرناطة دوراً ذا شأن، من أصل نصرانى قشتالى أو قطلونى، وسبى طفلا فى بعض المواقع، فأخذ إلى الدار السلطانية، ونشأ فى بلاط السلطان أبى الوليد إسماعيل (¬3). وظهرت نجابته وصفاته الممتازة، فعهد إليه بتربية ولده أبى عبد الله محمد. ولما تولى محمد الملك بعد أبيه تولى وزارته الحاجب رضوان، فأظهر فى تدبير الشئون كفاية ممتازة، وقاد بعض ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 7 ص 263 و 264 و 372. (¬2) ابن خلدون ج 7 ص 264. (¬3) الإحاطة ج 1 ص 515.

الغزوات الناجحة إلى أرض النصارى، فغزا فى سنة 732 هـ أراضى قشتالة شرقاً حتى لورقة ومرسية وعاث فيها، وفى العام التالى غزا مدينة باغة واستولى عليها (¬1). ولما تولى الملك السلطان يوسف وقع الإجماع على اختياره للوزارة، واستقرت الأمور فى عهده وساد الأمن والرخاء. وينوه ابن الخطيب - وهو معاصر الحاجب وصديقه - بصفاته ومواهبه ويسميه " حسنة الدولة النصرية، وفخر مواليها". ويصفه فيما يلى: "وكان أصيل الرأى رصين العقل، كثير التجمل، عظيم الصبر، قليل الخوف فى العيهات، ثابت القدم فى الأزمات، ميمون النقيبة، عزيز النفس عالى الهمة، بادى الحشمة، آية فى العفة، مثلا فى النزاهة". وكان من أعظم مآثره انشاء مدرسة (جامعة) غرناطة الشهيرة. فأقام لها صرحا فخما، ووقف عليها أوقافا جليلة وغدت غير بعيد من أعظم مناهل العلم فى الأندلس والمغرب (¬2)، وأمر ببناء السور الأعظم حول ربض البيازين، وأنشأ عدداً كبيراً من الأبراج الدفاعية، وأصلح كثيراً من الحصون الداخلية؛ ولكنه كسائر المتغلبين على السلطان، استبد بالأمر واستأثر بكل سلطة. فلما شعر السلطان يوسف باشتداد وطأته، وكثرت السعايات فى حقه، نكبه وأمر باعتقاله ونفيه إلى ألمرية، وذلك فى رجب سنة 740 هـ. ولكنه اضطر إلى أن يعيده إلى الوزارة بعد ذلك ببضعة أشهر، حينما شعر بالفراغ الذى أحدثه تنحيه عن تدبير الشئون، فاستمر فى منصبه حتى نهاية عهده (¬3). وكان من بين وزراء السلطان يوسف، الكاتب والشاعر الكبير الرئيس أبو الحسن علىّ بن الجياب؛ وقد تقلب فى ديوان الإنشاء حتى ظفر برياسته. وكان من زملائه وأعوانه فى ديوان الإنشاء عبد الله بن الخطيب والد لسان الدين. ولما توفى عبد الله خلفه فى خدمة القصر ولده لسان الدين، وغدا أميناً لابن الجياب. فلما توفى ابن الجياب سنة 749 هـ فى الوباء الكبير خلفه فى الوزارة، وبزغ نجم مجده من ذلك الحين. وفى عهد السلطان يوسف كثرت غزوات النصارى لأراضى المسلمين، وكان ألفونسو الحادى عشر تحدوه نحو المملكة الإسلامية أطماع عظيمة. ولما شعر يوسف ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 548 و 549. (¬2) كانت مدرسة غرناطة تقوم إزاء المسجد الجامع وراء القيسرية. وقد أقيمت كتدرائية غرناطة مكان المسجد الجامع، ولبثت المدرسة قائمة حتى القرن الثامن عشر، ثم هدمت وأقيم مكانها بناء آخر، ولم يبق منها إلا بعض أبهائها القديمة. ونقلت معظم زخارفها ونقوشها إلى متحف غرناطة. (¬3) راجع الإحاطة ج 1 ص 518 وما بعدها.

باشتداد وطأة القشتاليين، وضعف وسائله فى الدفاع، أرسل يستنجد بالسلطان أبى الحسن علىّ بن عثمان ملك المغرب، فأرسل الأمداد للمرة الثانية إلى الأندلس مع ولده الأمير أبى مالك، فاخترق سهول الجزيرة الخضراء معلناً الجهاد. وتوجست اسبانيا النصرانية من مقدم الجيوش المغربية شراً، واعتزمت أن تواجه الغزاة فى قواها المتحدة، فسار أسطول مشترك من سفن قشتالة وأراجون والبرتغال، إلى مياه جبل طارق، بقيادة الدون جوفرى تنوريو ليمنع الأمداد عن جيوش المغرب، وبارك البابا الحملة، وسارت قوى اسبانيا المتحدة للقاء المسلمين. وكان أبو مالك فى تلك الأثناء قد زحف إلى أراضى النصارى، واجتاح سهل بجانة (¬1) وحصل على غنائم لا تحصى؛ وهنا فاجأه الإسبان قبل أن يستطيع الارتداد إلى أراضى المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة دموية هزم فيها المسلمون هزيمة شديدة وقتل أبو مالك، وكان ذلك فى أواسط سنة 740 هـ (1339 م). وعندئذ عوّل السلطان أبو الحسن على العبور بنفسه إلى الأندلس، ليثأر لتلك الهزيمة المؤلمة، فجهز الجيوش والأساطيل الضخمة، وبلغ أسطول المغرب يومئذ مائة وأربعين سفينة منها عدد كبير من السفن الحربية، وجاز السلطان البحر إلى الأندلس فى أوائل المحرم سنة 741 هـ (يوليه سنة 1340 م) ونزل بسهل طريف ولحق به السلطان يوسف فى قوات الأندلس. وكانت الجيوش الإسبانية قد نفذت يومئذ إلى أعماق مملكة غرناطة، ووصلت إلى بسائط الجزيرة الخضراء، ورابط الأسطول النصرانى فى مياه المضيق بين المغرب والأندلس، ليمنع قدوم الأمداد والمؤن، وضرب النصارى الحصار حول ثغر طريف وتغلبوا على حاميته، ومضت أشهر قبل أن يقع اللقاء الحاسم بين الفريقين؛ فشحت الأقوات بين المسلمين، ووهنت قواهم. وكان الجيش الإسلامى يرابط عندئذ فى السهل الواقع شمال غربى طريف على مقربة من نهر "سالادو" الصغير الذى يصب فى المحيط الأطلنطى عند بلدة كونيل التى تبعد قليلا عن رأس طرف الغار. وفى يوم 30 أكتوبر سنة 1340 (جمادى الأولى سنة 741 هـ) نشبت بين الفريقين معركة عامة على ضفاف نهر سالادو، وتولى السلطان أبة الحسن قيادة جيشه بنفسه، وتولى السلطان يوسف قيادة فرسان الأندلس، ويقال إن الأندلسيين كانت لديهم فى تلك الموقعة آلات تشبه المدافع، وهى الآلات التى تطورت فيما بعد وكانت تسمى "بالأنفاط". ¬_______ (¬1) وهو بالإسبانية Pechina

وتقدم ألفونسو الحادى عشر بجيشه لمهاجمة المغاربة، فصد فى البداية بقوة، واشتبك فرسان الأندلس مع جيش البرتغال. ولكن حدث عندئذ أن تسللت حامية طريف النصرانية من الجنوب وانقضت على مؤخرة الجيش الإسلامى، فدب الخلل إلى صفوفه، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة سالت فيها الدماء غزيرة، وقتل من المسلمين عدد جم، وسقط معسكر سلطان المغرب الخاص فى يد النصارى وفيه حريمه وحشمه وبعض أولاده، فذبحوا جميعاً على الأثر بوحشية مروعة، وانتثرت قوات المسلمين وبددت؛ وفر السلطان أبو الحسن، واستطاع أن يعبر إلى المغرب مع فلوله؛ وارتد السلطان يوسف إلى غرناطة، وكانت محنة عظيمة لم يشهد المسلمون مثلها منذ موقعة "العقاب" (¬1) وكان لها أعمق وقع فى المغرب والأندلس (¬2). وانتهز ملك قشتالة فرصة ظفره وضعف المسلمين، فغزا قلعة بنى سعيد أو قلعة يحصب من أحواز غرناطة واستولى عليها بعد حصار قصير (742 هـ) (¬3). وكان ملك المغرب فى أثناء ذلك يضطرم ظمأً للانتقام، ويحشد قواته من جديد. ولما كملت أهبته أرسل أساطيله إلى مياه المضيق، وسار بالجيش إلى سبتة، وبادر ملك قشتالة من جانبه بإرسال أسطوله للقاء المسلمين، ونشبت بين الفريقين معركة بحرية هزم فيها المسلمون ومزق أسطولهم (743 هـ - 1342 م). وحاصر النصارى ثغر الجزيرة الخضراء، وسار السلطان يوسف فى جيشه لإنجاد الثغر المحصور، وكان جيشه مجهزاً بالآلات القاذفة الجديدة التى تشبه المدافع، ولكنه لم يفلح واضطر المسلمون إلى التسليم، وبذلك أضحى الثغران الجنوبيان المشرفان على مضيق ¬_______ (¬1) هى الموقعة التى نشبت بين الموحدين والنصارى فى الأندلس على مقربة من أبدة فى سنة 609 هـ (1212 م) وفيها هزم الموحدون هزيمة شديدة. وتسمى موقعة العقاب وبالإسبانية Las Navas de Tolosa وقد سبقت الإشارة إليها. (¬2) راجع ابن خلدون ج 7 ص 261 و 262، والاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى ج 2 ص 65 و 66، واللمحة البدرية ص 92 و 93. ويوجد فى متحف كتدرائية مدينة طليطلة علمان كبيران من أعلام السلطان أبى الحسن كانا ضمن غنائم النصارى فى هذه الموقعة، وقد نقشت عليها آيات قرآنية وأدعية واسم السلطان أبى الحسن. (¬3) قلعة يحصب أو قلعة بنى سعيد هى بلدة حصينة تقع شمال غرناطة، وجنوب غربى جيان. وسميت قلعة بنى سعيد لأنها كانت منزل أسرة بنى سعيد الكتاب والمؤرخين أصحاب كتاب " المغرب". ومكانها اليوم بلدة Alcala la Real ( القلعة الملكية) الإسبانية.

جبل طارق وهما الجزيرة وطريف فى أيدى النصارى، ولم يبق فى يد المسلمين سوى جبل طارق تؤدى مهمة الوصل بين المغرب والأندلس. وكانت هذه الأحداث الخطيرة التى وقعت بالأندلس بين النصارى والسلطان أبى الحسن، موضوعاً لمكاتبات سياسية، بين بلاط مراكش وبلاط القاهرة. وكان ثمة بين ملوك مصر والمغرب منذ قيام دولة بنى مرين سفارات ومكاتبات ودية متصلة. ففى سنة 739 هـ أرسل السلطان أبو الحسن إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون ملك مصر والشام، سفارة من بعض أكابر دولته، وبرفقتهم والدة أخت السلطان الأميرة الحرة تريد الحج، ومعهم هدية فخمة من عتاق الخيل ونفيس المتاع والحلى قدرت بأكثر من مائة ألف دينار، ومصحف كتبه السلطان بيده، وزين بماء الذهب ووضع فى إطار فخم من الأبنوس والصندل، ليودع فى الحرم الشريف، فاستقبلهم الملك الناصر بالقاهرة أعظم استقبال وجهزهم بكل ما يلزم، وأرسل إلى ملك المغرب هدية جليلة (¬1). ثم عاد السلطان أبو الحسن، فكتب على أثر هزائمه أمام النصارى فى البر والبحر، إلى سلطان مصر الملك الصالح بن الملك الناصر بن قلاوون، كتاباً ينوه بما كان بينه وبين والد السلطان من رسائل الود، ويبسط له ما وقع من استغاثة أهل الأندلس به وإعداده الأساطيل لقتال النصارى، ثم مفاجأة النصارى لسفنه فى البحر بأساطيل قوية، وزحفهم على الجزيرة الخضراء ومحاولة إنجادها عبثاً، ومعاونته لصاحب الأندلس بالمال والرجال، واستطالة الحرب ونفاد الأقوات، واضطراره إلى عقد الصلح مع النصارى على تسليم الجزيرة، وما فتحه الله من أخذ جبل طارق قبل ذلك، وأنه ما زال يتأهب للجهاد بعد عوده. وقد كتب هذا الكتاب فى صفر سنة 745 هـ (1344 م). ورد ملك مصر على كتاب ملك المغرب، فى رمضان سنة 745 هـ، بكتاب رقيق يبدى فيه أسفه على سقوط الجزيرة الخضراء، ويعزيه عن فقد أسطوله وما نزل به من هزائم، ويقول إن الحرب سجال، وإن فى سلامته الكفاية، وإن الله قد يمن عليه بالظفر مرة أخرى، ويبدى اغتباطه لاستيلاء السلطان على ثغر جبل طارق (¬2). ¬_______ (¬1) المقريزى فى السلوك فى دول الملوك ج 2 ص 447 و 448، ويصف المقريزى الأميرة الحرة بابنة السلطان؛ وابن خلدون ج 7 ص 264. (¬2) لم ينقل إلينا القلقشندى فى صبح الأعشى نص هذين الكتابين. ولكن نقلهما إلينا المقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 539 - 546.

ولم يخل عصر السلطان أبى الحجاج يوسف من عقد العلائق الدبلوماسية مع الدول النصرانية. وكان عقدها بالأخص مع مملكة أراجون التى كانت أقرب إلى مسالمة مملكة غرناطة من زميلتها مملكة قشتالة. ففى سنة 735 هـ (1335 م) أرسل السلطان سفيره القائد أبا الحسن بن كُماشه إلى ألفونسو الرابع ملك أراجون ليطلب تجديد معاهدة الصلح المعقودة بين المملكتين، فأجابه إلى ذلك وجددت المعاهدة. وفى أواخر سنة 745 هـ (1345 م) عقد السلطان يوسف مع بيدرو الرابع ملك أراجون، معاهدة صلح ومهادنة جديدة، فى البر والبحر، لمدة عشرة أعوام على يد سفيره القائد المذكور، وطلب إلى السلطان أبى الحسن المرينى، ملك المغرب، أن يوافق على هذا الصلح فوافق عليه، وأبرمه من جانبه، بنفس الشروط ولنفس المدة التى يسرى فيها، وذلك حسبما يدل عليه عهد الموافقة التى أصدره بتاريخ صفر سنة 746 هـ (يونيه 1345 م) (¬1). وهنا طافت بالأندلس واسبانيا تلك النكبة المروعة التى عصفت بالمشرق والمغرب معا، ونعنى بذلك الوباء الكبير الذى اجتاح سائر الأمم الإسلامية وحوض البحر الأبيض المتوسط فى سنة 749 هـ - 750 هـ (1348 م). وكان بدء ظهوره على على ما يرجح فى إيطاليا فى ربيع هذا العام، وحمل من الأندلس كثيراً من سكانها، وفى مقدمتهم عدة من رجالها البارزين من الكبراء والعلماء. وقد وصف لنا الوزير ابن الخطيب تلك المحنة التى كان معاصراً لها مشاهد عيان لروعها وفتكها فى رسالة عنوانها: "مُقنعة السائل عن المرض الهائل"، وكذلك وصف لنا عصف الوباء بثغر ألمرية شاعر ألمرية الكبير ابن خاتمة فى رسالة عنوانها "تحصيل غرض القاصد فى تفصيل المرض الوافد" (¬2). ولبث ملك قشتالة أعواماً أخرى على خطته من إرهاق المملكة الإسلامية والعيث فيها، والمسلمون يدافعون جهد استطاعتهم، وأمراء المغرب مشغولون عن نجدتهم بما أصابهم من هزائم متوالية، وما شجر بينهم من خلاف. وفى سنة 750 هـ (1349 م) غزا النصارى سهول الجزيرة الخضراء مرة أخرى، وكان ملك قشتالة يرمى بهذه الغزوة إلى غاية هامة هى الاستيلاء على جبل طارق. وكان هذا ¬_______ (¬1) Archivo de la Corona de Aragon No. 52 ; Alarcon y Santon ; Documentos Arabes Diplomaticos, Nos. 41, 56, & 96. (¬2) توجد هاتان الرسالتان ضمن مجموعة خطية تحفظ بمكتبة الإسكوريال برقم 1785 وقد نشرت رسالة ابن الخطيب مع ترجمتها الألمانية فى مجلة أكاديمية العلوم البافارية (سنة 1863).

صورة رسالة من السلطان يوسف أبى الحجاج إلى دون المنشة (ألفونسو) ملك أراجون يشكره فيها على حسن لقائه لسفيره، ويقرر تجديد الصلح المعقود بينهما، مؤرخة فى ذى الحجة سنة 735 هـ (يوليه 1335 م) ومحفوظة بمحفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 138.

الثغر ما يزال منذ عصور أمنع ثغور المسلمين وأشدها مراسا. فلما رأى النصارى استحالة أخذه عنوة، ضربوا حوله الحصار الصارم، وكانت تدافع عنه حامية مغربية قوية، ورابط ملك غرناطة بجيشه فى مؤخرة النصارى؛ واستمر حصار جبل طارق زهاء عام كامل والمسلمون صامدون كالصخرة التى يدافعون عنها، وقد عيل صبر الغزاة ودب الوهن إلى نفوسهم. ثم فشا الوباء فى الجيش النصرانى وهلك ملك قشتالة فى مقدمة من هلك من جنده، فكان ذلك نذيراً بخلاص الثغر المنيع والمدافعين عنه، واضطر النصارى إلى رفع الحصار (751 هـ - 1350 م). وأنقذ المسلمون بذلك من كارثة فادحة، وأبدى المسلمون بهذه المناسبة ضروبا موثرة من تسامح الفروسة، فتركوا موكب الملك المتوفى، يخترق طريقه إلى إشبيلية دون تعرض، وارتدى كثير من أكابرهم شارة الحداد مجاملة وتكريما، وخلف ألفونسو على العرش فى الحال ولده بيدرو (بطره) الملقب بالقاسى (¬1). ووصف ابن الخطيب كاتب الأندلس وشاعرها، وقد كان يومئذ من كتاب السلطان يوسف، هذه الأحداث الخطيرة فى رسالة بعث بها السلطان إلى ملك المغرب، وفيها يشير إلى مهاجمة العدو لجبل طارق وطمعه فى الاستيلاء على الأندلس ويقول: "وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب وانبهام الأبواب، والأمور التى لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب، وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظنون فى هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمة الكافرة، والبحور الزاخرة والمرام البعيد" ثم يصف كيف تداركت رحمة الله الأندلس بعد ذلك فهزم العدو ولم يبلغ مراما (¬2). وكان لحصار جبل طارق، ومصرع ملك قشتالة تحت أسواره، صدى عميق فى المغرب وفى أنحاء العالم الإسلامى. ويشير الرحالة الأشهر ابن بطوطة الطنجى الذى زار الأندلس بعد ذلك بقليل فى رحلته إلى تلك الحوادث، وإلى ما كان يتصوره ملك قشتالة، من أنه أضحى على وشك الاستيلاء على ما بقى من بلاد الأندلس، فأخذه الله من حيث لم يحتسب ومات بالوباء، وقد كان من أشد الناس خوفاً منه، ثم يصف لنا أهمية جبل طارق الدفاعية وما بذله السلطان أبو الحسن عقب استرداده من جهود فادحة لتحصينه، وتجديد أسواره وحصونه، وإنشائه لدار الصناعة، وما قام به ولده السلطان أبو عنان بعد ذلك من تجديد تحصيناته، وشحنه ¬_______ (¬1) ابن خلدون ج 4 ص 183. (¬2) راجع هذه الرسالة فى نفح الطيب ج 2 ص 570 و 571.

صورة وثيقة اعتماد صادرة من السلطان يوسف أبى الحجاج إلى وزيره القائد ابن كماشة الذى أرسله سفيراً إلى بيدرو الرابع (دون بطره) ملك أراجون ليقوم بعقد الصلح بينه وبين السلطان أبى الحسن المرينى ملك المغرب مؤرخة فى شعبان سنة 745 هـ (ديسمبر 1344 م) ومحفوظة بمحفوظات التاج الأرجونى ببرشلونة برقم 45.

بالعُدد والأقوات. ويصف لنا ابن بطوطة بعد ذلك ثغور الأندلس وقواعدها الأخرى التى طاف بها يومئذ، مثل رندة ومربلة ومالقة وبلش، وما شاهده فيها من الخيرات والصناعات الفريدة، ولاسيما صناعة الخزف بمالقة، ثم يعرج على غرناطة وينعتها بعروس الأندلس، ويصف لنا رياضها وبساتينها الغراء، ويشير إلى ملكها فى عهد دخوله إياها، وهو السلطان أبو الحجاج يوسف، ولم يوفق يومئذ إلى لتائه لمرض ألمّ به. وتدلى أوصاف ابن بطوطة بأن الأندلس كانت يومئذ، بالرغم من توالى غارات النصارى عليها وعيثهم فى ربوعها، بلاداً زاهرة نضرة، تزخر بالخيرات والنعم، وتموج بالملايين من سكانها النشطين الأذكياء، وصناعاتها الممتازة، وتحتشد فيها جمهرة كبيرة من العلماء والفقهاء والكتاب والشعراء مما يدل على أنها كانت فى هذا العصر تجوز أيضاً نهضة أدبية زاهرة (¬1). ولا غرو فقد كان هذا العصر هو الذى سطع فيه نجم ابن الخطيب أعظم كتاب الأندلس وشعرائها فى المائة الثامنة، وبلغ فيه الشعر والترسل يومئذ ذروة الروعة والبهاء. واستمر أبو الحجاج يوسف فى الحكم بضعة أعوام أخرى، ساد فيها السلام والأمن، ولكنه ما لبث أن قتل غيلة أثناء صلاته بالمسجد الأعظم فى يوم عيد الفطر سنة 755 هـ (أكتوبر سنة 1354 م)، قتله مخبول لم يفصح عن بواعثه وأغراضه، فمزق وأحرق بالنار على الأثر (¬2). وكان مقتله وهو فى السابعة والثلاثين فى عنفوان فتوته ومجده. ويصف لنا ابن الخطيب، وقد كان من شهود هذا المنظر المؤسى، مقتل السلطان، فى قوله من رسالة بعث بها إلى السلطان أبى عنان ملك المغرب" ولم يرعه وقد اطمأنت بذكر الله تعالى القلوب، وخلصت الرغبات إلى فضله المطلوب، إلا شقىّ قيضه الله تعالى لسعادته، غير معروف ولا منسوب، وخبيث لم يكن بمعتبر ولا محسوب، تخلل الصفوف المعقودة، وتجاوز الأبواب المسدودة، وخاض الجموع المحشودة، ولا تدل العين عليه شارة ولا بزة، ولا تحمل على الحذر من مثله أنفة ولا عزة، وإنما هو خبيث ممرور وكلب عقور، وآلة مصرفة لينفذ بها قدر مقدور، فلما طعنه وأثبته وأعلق به شرك الحين، فما أفلته حتى قبض عليه من الخلصان الأولياء، من خير ضميره وأحكم تقريره، فلم يجب عند الاستفهام ¬_______ (¬1) راجع رحلة ابن بطوطة (مصر) ج 2 ص 183 - 188. (¬2) اللمحة البدرية ص 97.

صورة وثيقة صادرة من السلطان أبى الحسن المرينى ملك المغرب بالموافقة على الصلح الذى عقده باسمه سلطان غرناطة يوسف أبو الحجاج مع بيدرو الرابع (دون بطره) ملك أراجون مؤرخة فى صفر سنة 746 هـ (يونيه 1345 م) ومحفوظة بمحفوظات التاج الأرجونى برقم 52.

جواباً يعقل ولا عثر على شىء عنه ينقل، لطفاً من الله أفاد براءة الذمم، وتعاورته للحين أيدى التمزيق. وأتبع شلوه بالتحريق" (¬1). ودفن السلطان الشهيد فى مقبرة الحمراء إلى جانب آبائه مبكياً عليه من شعبه بدموع غزيرة. وكان السلطان يوسف فى الواقع أعظم ملوك غرناطة همة وعزماً، وأبدعهم خلالا، وكان فوق فروسته ونجدته عالماً أديباً، شغوفاً بالعمارة وإقامة الصروح الباذخة، وهو الذى شيد البرج الأعظم بقصر الحمراء، وأنشأ به أفخم أجنحته وأبدعها، وهو الذى أسبغ على هذا الصرح العظيم بمنشآته وزخارفه، بهاءه وروعته التى ما زال يحتفظ بلمحة منها. وفى عصره زهت العلوم والآداب، وذاعت شهرة العلماء المسلمين، ولا سيما فى الفلك والكيمياء. وهكذا لبث بلاط غرناطة حقبة يقف من دولة بنى مرين مواقف متناقضة، ويتردد بين سياسة التحالف والقطيعة، وبين الثقة والتوجس؛ وليس من شك فى أن بنى مرين كانوا عضداً قيما لمملكة غرناطة الناشئة، وقد أدوا لها فى ميدان الجهاد وفى مقاتلة النصارى خدمات جليلة، وبذلوا فى ذلك السبيل تضحيات جمة، وأعادوا بانتصارهم على النصارى فى غير موقعة حاسمة، ذكريات الزلاّقة والأرك؛ ولولا غوث بنى مرين، واشتغال مملكة قشتالة بحوادثها الداخلية غير مرة، لما اشتد ساعد بنى الأحمر، وسطعت دولتهم خلال هذه الفترة المليئة بالحوادث الجسام، واستطالت أيام الإسلام بالأندلس زهاء مائة عام أخرى. وقد كان من سوء الطالع ألا يدرك بلاط غرناطة خطر الخلاف، مع الحليف الطبيعى الذى رتبه القدر فيما وراء البحر، لإنجاد الأندلس عند الخطر الداهم، وأن يجنح من آن لآخر إلى مخاصمة هذا الحليف ومحاربته، كما حدث حينما استولى ابن الأحمر على سبتة. كذلك لم تخل سياسة بنى مرين إزاء مملكة غرناطة أحياناً، من الالتواء وبث الشكوك فى نفوس أمراء بنى نصر، بما كانت تجنح إليه من مداخلة الخوارج عليهم. وهكذا كانت قوى الإسلام تبدد فى معارك أهلية، وقد كان حرباً أن تتضافر على مغالبة العدو المشترك. على أن الدولة المرينية ذاتها، تدخل منذ وفاة السلطان أبى الحسن فى سنة 752 هـ (1351 م) فى دور انحلالها، وتنحدر ألى غمر الحرب الأهلية، وتشغل بشئونها الداخلية، وتفقد غرناطة بذلك، العضد ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 565.

الوحيد، الذى كانت تدخره وقت الشدائد. وقد استمرت العلائق بين غرناطة وبنى مرين عصراً آخر، ولكنها غدت غير بعيد علائق بلاط، تغلب عليها دسائس القصور، وانقطعت الجيوش المغربية عن العبور إلى الأندلس لمقاتلة النصارى، كما كانت تفعل أيام أبى يوسف وأبى يعقوب وأبى الحسن، ولم تعبر بعد ذلك سوى مرة واحدة لمعاونة الخوارج فى جبل طارق ضد ملك غرناطة حسبما يجىء؛ وتركت غرناطة من ذلك الحين إلى مصيرها داخل الجزيرة الإسبانية، تغالب قوى النصرانية بمفردها، وقدر استطاعتها، وكان ملاذها الأخير فى اختلاف كلمة النصارى، وانشغالهم بذلك الخلاف عن محاربتها.

الفصل الثامن الأندلس بين المد والجزر

الفصْل الثامِن الأندلس بين المدّ والجزر ولاية محمد الغنى بالله. وزيره ابن الخطيب. سفارته إلى السلطان أبى عنان. ثورة حاكم جبل طارق المرينى. الثورة فى غرناطة. مقتل الحاجب رضوان. عزل الغنى بالله وفراره. ولاية أخيه إسماعيل. جواز الغنى بالله وابن الخطيب إلى المغرب. ترحيب ملك المغرب بهما. قصيدة ابن الخطيب. ابن الخطيب وابن خلدون. مصرع سلطان المغرب وتغلب الوزير عمر على الدولة. الثورة فى غرناطة ومقتل السلطان اسماعيل. عبور الغنى بالله وابن الخطيب إلى الأندلس. استرداد الغنى بالله العرش. زيارة ابن خلدون للأندلس وسفارته إلى بلاط قشتالة. الحرب الأهلية فى قشتالة. موقعة نجارا. موقعة مونتيل. مصرع بيدرو ملك قشتالة وولاية أخيه الكونت هنرى. رواية ابن الخطيب عن هذه الحوادث. وزارة ابن الخطيب الثانية. استئثاره بالسلطة وجنوحه إلى الاستبداد. تقلص نفوذه وفراره إلى المغرب. اتهامه بالزندقة ومقتله. بعد نظره السياسى. شعوره بمصير الأندلس. جهود الغنى بالله الإنشائية. توطد الصداقة بينه وبين بلاد مصر. معاهدة صداقة بينه وبين أراجون. سيادة السلام والأمن فى عصره. غزواته فى أرض النصارى. وفاته وولاية يوسف الثانى. وزيره خالد. عقد السلم بين الأندلس وقشتالة. ثورة محمد ولد يوسف. وفاة يوسف وولاية ولده محمد. اعتقاله لأخيه يوسف. الوزير ابن زمرك ومصرعه. الحرب بين المسلمين والنصارى. استنجاد الأندلس بملوك المغرب. غزو النصارى لأحواز رندة. غزو المسلمين لأراضى قشتالة. الهدنة بين الفريقين. وفاة محمد. تنظيم العلائق الدولية بين غرناطة وأراجون. ولاية يوسف الثالث. نقض القشتاليين للهدنة. زحفهم على أراضى غرناطة. سقوط أنتقيرة وهزيمة المسلمين. تجديد الهدنة. ثورة جبل طارق وإخمادها. السلم بين المسلمين والنصارى. حفلات الفروسية الأندلسية. وفاة السلطان يوسف وولاية ولده محمد الأيسر. صرامته وتكبره. الوزير يوسف بن سراج. بنو سراج وأصلهم. تعاقب الفتن فى غرناطة. غزوات النصارى. نشوب الثورة وسقوط الأيسر. ولاية محمد الزغير. خلاله وصفاته. مطاردته لبنى سراج. التجاؤهم إلى بلاط قشتالة. السعى لإعادة الأيسر. زحفه على غرناطة ودخوله الحمراء. مصرع الزغير وولاية الأيسر الثانية. الحرب بين الأيسر والنصارى. الفتن والدسائس حول غرناطة. قيام يوسف بن المول بمعاونة النصارى. عهده بالخضوع لملك قشتالة. تغلبه على الأيسر وانتزاعه العرش. وفاته وولاية الأيسر الثالثة. الحرب بين المسلمين والنصارى. مهاجمة النصارى لجبل طارق وهزيمتهم. تطور الحوادث فى غرناطة. ثورة محمد الأحنف وولايته. الأمير ابن إسماعيل وسعيه لانتزاع العرش. تدخل النصارى ودسائسهم. الحرب الأهلية فى غرناطة. هزيمة الأحنف وولاية ابن اسماعيل. تضارب الرواية فى شأن ولاية العرش. خلال ابن اسماعيل وصفاته. الخلاف بينه وبين قشتالة. غزو القشتاليين لغرناطة. سقوط جبل طارق. انحلال دولة بنى مرين وقيام دولة بنى وطاس. قصور المغرب عن إنجاد الأندلس. خضوع سلطان غرناطة لقشتالة. الصراع بين العرش والأسر الكبيرة. تفكك المملكة الإسلامية. ولاية السلطان سعد. الخلاف بينه وبين ولده أبى الحسن. رواية رحالة مصرى عن هذه الحوادث. فتح الترك لقسطنطينية وصداه فى اسبانيا. إحياء النزعة الصليبية.

لم تمض ساعات قلائل على مصرع السلطان يوسف أبى الحجاج فى صبيحة يوم عيد الفطر سنة 755 هـ، حتى خلفه فى الملك ولده محمد الملقب بالغنى بالله؛ وكان حَدَثاً يافعاً، فاستأثر بشئون الدولة حاجبه ومولى أبيه من قبل أبو النعيم رضوان. وكانت غرناطة بعد ما توالى عليها من الخطوب والأزمات فى أواخر عهد أبيه يوسف، قد تنفست الصعداء نوعاً منذ وفاة ملك قشتالة. وكان من بين كتابه ثم وزرائه لسان الدين بن الخطيب، مؤرخ الدولة النصرية وأعظم كتاب الأندلس وشعرائها يومئذ. وكان هذا المفكر البارع، أحد رجلين عظيمين شغلا يومئذ فى الغرب الإسلامى، مركز الصدارة فى التفكير والكتابة، هما ابن خلدون وابن الخطيب. وكان مولد ابن الخطيب فى لَوْشة (¬1) من أعمال غرناطة فى سنة 713 هـ (1313 م)، ودرس اللغة والأدب والطب والفلسفة، وبرز فى النثر والنظم (¬2)، وخدم الدولة منذ حداثته، فتولى ديوان الكتابة للسلطان أبى الحجاج، ثم انتقل إلى خدمة ولده محمد، فلم يلبث أن نال ثقته ورقاه إلى مرتبة الوزارة، وأوفده بعد ولايته بقليل على رأس وفد من كبراء الأندلس سفيراً من قبله، إلى ملك المغرب السلطان أبى عنان المرينى (أواخر سنة 755 هـ) يستنصره على مغالبة طاغية قشتالة، وليؤكد بينهما عهد الصداقة والمودة، جرياً على سنة أسلافه من ملوك بنى الأحمر، فاستقبله السلطان بحفارة، وأنشد بين يديه قصيدة هذا مطلعها: خليفة الله ساعدَ القدرُ ... عُلاك ما لاح فى الدجى قمرُ ودافعتْ عنك كفُّ قدرته ... ما ليس يستطيع دفْعَه البشرُ فتأثر السلطان لقصيدته، ووعد بإجابة سائر مطالبه؛ وهكذا أدى ابن الخطيب سفارته بنجاح، وكان له فيما تلا من حوادث الأندلس أعظم نصيب (¬3). وفى أواخر سنة 756 هـ (أواخر سنة 1355 م)، حاول حاكم جبل طارق المرينى عيسى بن الحسن بن أبى منديل أن يثير ضرام الثورة، وكانت محاولة خطيرة ربما أفسحت للنصارى ثغرة يضربون منها الأندلس وجحافل المغرب، والآن أهل جبل طارق نكلوا عن مؤازرة الثائر، وأخمدت ثورته فى المهد، وقبض ¬_______ (¬1) لوشة وبالإسبانية Loja تقع على مسافة خمسة وخمسين كيلومتراً من غربى غرناطة، وهى اليوم بلدة متواضعة، وقد كانت أيام الدولة الإسلامية بلدة زاهرة. (¬2) سنعود إلى ترجمة ابن الخطيب واستعراض حياته الأدبية بإفاضة فى الكتاب الرابع. (¬3) راجع الإحاطة (المقدمة ص 37)؛ ونفح الطيب ج 3 ص 52؛ وابن خلدون ج 7 ص 373.

عليه وعلى ولده. وأرسلا مصفدين إلى المغرب فقضى بإعدامهما؛ وأرسل السلطان أبو عنان إلى جبل طارق ولده أبا بكر السعيد ومعه قوة من الفرسان، لحماية الثغر وتجديد تحصيناته (¬1). وفى أوائل عهد السلطان محمد، شغلت قشتالة بحروبها الداخلية، فأمنت غرناطة شر العدوان مدى حين. ولكن الحوادث الداخلية كانت تؤذن بتطورات جديدة. ففى رمضان سنة 760 هـ (1359 م) نشبت فى غرناطة ثورة فقد فيها الغنى بالله ملكه. وكان أخوه إسماعيل المعتقل فى بعض أبراج الحمراء، تؤازره جماعة من الزعماء، وفى مقدمتهم صهره الرئيس عبد الله، وتدعو له سرًّا، وتترقب الفرص للوثوب بمحمد؛ وكانت أمه المقيمة بالقصر تؤيد مشاريعه بالسعى والبذل الوفير، وكان السلطان محمد قد تحول بولده إلى سكنى قصر جنة العريف الواقع شمال شرقى الحمراء، فانتهز المتآمرون ذات مساء فرصة ابتعاده عن دار الملك، وهاجموا حصن الحمراء (28 رمضان سنة 760 هـ)، ونفذوا إلى قصر الحاجب رضوان وقتلوه بين أهله وولده، ونادوا بإسماعيل أخى السلطان ملكاً مكانه. وشعر محمد بعقم المدافعة، ففر إلى وادى آش. وحاول ابن الخطيب مصانعة السلطان الجديد، فاستبقاه فى الوزارة لمدى قصير. ثم ارتاب فى نياته وأمر باعتقاله ومصادرة أمواله، وكذلك أمر السلطان الجديد بعزل شيخ الغزاة يحيى بن عمر ابن رحّو من منصبه والقبض عليه، وعين مكانه فى مشيخة الغزاة، إدريس ابن عثمان بن أبى العلاء، وكان وقت نكبة أسرته، قد فر إلى أراجون واحتمى بملكها، فاستدعاه السلطان الجديد، وأسند إليه منصب أسرته القديم. وكانت تربط السلطان المخلوع علائق مودة وصداقة بملك المغرب، السلطان أبى سالم ولد السلطان أبى الحسن. وكان أبو سالم قد لجأ إليه حينما تغلب عليه أخوه السلطان أبو عنان ونفاه إلى الأندلس فأكرم محمد مثواه. ولما وقعت الفتنة وخلع محمد، رعى له أبو سالم عهد الصداقة والوفاء، وأرسل إلى غرناطة سفيراً يسعى لدى حكومتها، فى إجازة السلطان المخلوع ووزيره المعتقل إلى المغرب، فنجح السفير فى مهمته، وعاد إلى المغرب ومعه محمد والوزير ابن الخطيب (المحرم سنة 761 هـ). واستقبلهما أبو سالم فى فاس أجمل استقبال، واحتفل بقدومهما فى يوم مشهود، وأنشده ابن الخطيب يومئذ قصيدة رائعة، يدعوه فيها لنصرة ¬_______ (¬1) رحلة ابن بطوطة ج 2 ص 184.

سلطانه وغوثه، هذا مطلعها: سلا هل لديها من مخبرة ذكرُ ... وهل أعشب الوادى ونمَّ به الزهر وهل باكَرَ الوسمى داراً على اللوى ... عفت آيها إلا التوهُّم والذكر بلادى التى عاطيتُ مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر وجوى الذى ربى جناحى وكره ... فها أنا ذا ما لى جناح ولا وكر ومنها: قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر وأنت الذى تُدعى إذا دهم الردى ... وأنت الذى ترجى إذا أخلف القطر ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بيالمرين جاءه العز والنصر فكان لإنشاده أعظم وقع فى النفوس، وتأثر السلطان لدعوته وندائه أيما تأثر (¬1). ولبث السلطان المخلوع فى بلاط فاس حيناً، وتوثقت بينه وبين المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون، وهو يومئذ من أكابر رجال الدولة المرينية، روابط المحبة والصداقة، وعقدت أيضاً بين المؤرخ وبين قرينه ابن الخطيب أواصر صداقة نمت وتوثقت فيما بعد. وكان كلا المفكرين العظيمين يقدر مواهب صاحبه ويحله أسمى مقام، وكان كلاهما أستاذ عصره وقطره فى التفكير والكتابة. وكان محمد ابن الأحمر يؤمل أن يسترد ملكه المنزوع بمعاونة بيدرو الثانى (بطره) ملك قشتالة تنفيذاً للاتفاق الذى عقد بينهما، ولكنه لم يفعل شيئاً لتحقيق هذا الأمل. والواقع أن ملك قشتالة كان مشغولا بشئون مملكته وما يسودها من اضطراب، فآثر أن يعقد السلم مع سلطان غرناطة الجديد. وفى أثناء ذلك حدث انقلاب لقى فيه السلطان أبو سالم مصرعه، واستبد بالدولة الوزير عمر بن عبد الله، فسعى لديه ابن الأحمر ليعاونه على استرداد ملكه، فاستجاب إليه الوزير، وما زال محمد يدبر أمره بمعاونته، حتى تهيأت الفرصة بوقوع الثورة فى غرناطة، ومقتل منافسه السلطان إسماعيل، على يد المتغلب عليه الرئيس أبى سعيد؛ فجاز إلى الأندلس ونزل بمالقة، ثم سار إلى رندة، وكانت عندئذ من أملاك بنى مرين، وقد نزل له عنها الوزير عمر بن عبد الله، وسار منها فى صحبه وعصبته إلى غرناطة فاستولى عليها، وفر الرئيس أبو سعيد إلى ملك قشتالة، واسترد محمد ملكه (جمادى الآخرة ¬_______ (¬1) الإحاطة، المقدمة ص 38 - 43؛ واللمحة البدرية ص 108؛ وابن خلدون ج 7 ص 306 وما بعدها؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 194 و 195.

سنة 763 هـ - 1361 م) وما لبث أن لحق به وزيره ابن الخطيب استجابة لدعوته، وعاد إلى سابق مكانته ونفوذه. وكان فى مقدمة ما فعله الغنى بالله أن قبض على إدريس بن أبى العلاء وقرابته من الغزاة، وأودعوا السجن، ومحا خطة مشيخة الغزاة من بنى مرين، وأسندها لابنه وولى عهده الأمير يوسف، فلبث مضطلعا بها زهاء ثلاثة أعوام. وكان علىّ بن بدر الدين بن موسى بن رحُو، مقدما على الغزاة فى منطقة وادى آش، وكان حينما فقد الغنى بالله ملكه، قد صحبه فى منفاه. ولما عاد إلى الأندلس، عاد معه. فلما فكر الغنى بالله فى إحياء مشيخة الغزاة، وبحث عمن يسندها إليه، وقع اختياره على علىّ بن بدر الدين هذا، فعينه فيها (767 هـ)، ولكنه ما لبث أن توفى بعد عام فقط من تقلده إياها، فعندئذ قرر الغنى بالله أن يمحو هذه الخطة نهائياً من خطط مملكته، وصار أمر الغزاة والمجاهدين إلى السلطان مباشرة، وعنى بشئونهم بنفسه، وخص القرابة المضطلعين بها بعطفه وتكرمته. وانتهت بذلك رياسة بنى مرين لهذه الخطة الهامة من خطط، مملكة غرناطة بعد أن اضطلعوا بها زهاء قرن (¬1). ووفد المؤرخ ابن خلدون بعد ذلك بقليل على غرناطة، فاحتفى به السلطان وأكرم مثواه، وأرسله سفيراً عنه إلى بيدرو ملك قشتالة ليوثق أواصر الصداقة بينهما (765 هـ - 1363 م)، فقصد ابن خلدون إلى بلاط إشبيلية ومعه هدية فخمة، وأدى سفارته ببراعة، وحظى بعطف ملك قشتالة وإعجابه. وهو يعرض لنا حوادث هذه السفارة فى "التعريف" بتفصيل شائق، ويقول لنا إنه عاين آثار أسرته بإشبيلية، وقد كانت منزل بنى خلدون أيام الدولة الإسلامية، وفيها سطع نجمهم حيناً، وإن ملك قشتالة وقف على تاريخ أسرته، وعرفه به وبمكانته طبيب يهودى فى بلاطه يدعى إبراهيم بن زرور، وكان قد تعرف به فى مجلس السلطان أبى عنان من قبل، ثم يقول لنا إن ملك قشتالة عرض عليه عندئذ أن يبقى فى خدمته، وأن يسعى لدى زعماء دولته ليرد إليه تراث أسرته بإشبيلية، ولكنه أبى. ولما اعتزم ابن خلدون العودة بعد أن أتم مهمته، وهبه ملك قشتالة "بغلة فارهة بمركب ثقيل ولجام ذهبيين" فأهداهما إلى السلطان. وسُرّ السلطان لنجاحه وأقطعه قرية إلبيرة بمرج غرناطة، وعاش فى بلاط السلطان فترة أخرى، معززاً مكرماً (¬2). ¬_______ (¬1) راجع كتاب العبر ج 7 ص 377 - 379. (¬2) راجع تفاصيل هذه السفارة فى ابن خلدون، فى "التعريف " أو ترجمته لحياته فى =

ولم يمض قليل على ذلك حتى شغلت قشتالة مدى حين بمنازعاتها وحروبها الداخلية، وتمتعت غرناطة خلال ذلك بهدنة قصيرة؛ وكان بيدرو ملك قشتالة (دون بطره) الملقب بالقاسى، الذى خلف أباه ألفونسو الحادى عشر فى سنة 1350 م قد غلا فى استبداده وقسوته، حتى أنه لم يحجم عن قتل زوجته الملكة بلانش دى بوربون أخت ملك فرنسا بالسم، ليتزوج من خليلته، فسخط عليه الأمراء والأشراف لما نالهم من عسفه، وخرج عليه أخوه غير الشرعى الكونت هنرى دى تراستمارا، ولد إلينورا دى كزمان، وفر إلى فرنسا، وتحالف مع ملكها شارل الخامس، على أن يجمع له جيشاً من المرتزقة يقوده إلى قشتالة؛ وأشرف على تنفيذ المشروع الدوق دى جسكلان زعيم الفروسية الفرنسية يومئذ. وقاد هنرى جيشه إلى قشتالة (1366 م)، فلم يَقْوَ بيدرو على مقاومته لاشتداد السخط عليه، وتخلى الشعب عنه، وفر إلى ولاية جويين الفرنسية فيما وراء البرنيه، واستغاث بالأمير إدوارد ولىّ عهد انجلترا، وقد كان يحكم هذه الأنحاء المحتلة من فرنسا باسم أبيه، فاستجاب الأمير الإنجليزى لدعوته، وسار معه إلى قشتالة فى قواته، واستطاع الكونت هنرى بمعاونة شعبه، ومعاونة ملك أراجون، أن يحشد جيشاً عظيما. والتقى الفريقان فى "نجارا " فى الثالث من ابريل سنة 1367، فهزم الكونت هنرى بالرغم من وفرة جموعه، وقتل عدد كبير من جيشه، واسترد بيدرو عرشه. ولكنه لم يف بوعده إلى الأمير الإنجليزى، ولم يؤد إليه الجزية المشترطة، فسخط عليه وارتد بقواته إلى الشمال. وعندئذ عادت الثورة إلى الاضطرام فى قشتالة، ووثب الشعب ببيدرو مرة أخرى، وعاد أخوه الكونت هنرى فغزا قشتالة فى أنصاره، ونشبت بين الفريقين فى "مونتيل" موقعة أخرى هزم فيها بيدرو وقتل، وجلس أخوه مكانه فى العرش (سنة 1368 م) (¬1). وكان بين قوات الملك القتيل فرقة من حلفائه المسلمين. تعاونه وتذود عنه. وقد كان وراء هذه الحرب الأهلية، فيما يبدو خطة نصرانية موضوعة للقضاء على المملكة الإسلامية بالأندلس. ولدينا ما يلقى الضياء على ذلك فى رسالة الوزير ابن الخطيب، بعث بها فى تلك الآونة، على لسان سلطانه الغنى بالله، إلى سلطان ¬_______ = كتاب العبر ج 7 ص 412، والتعريف (طبعة لجنة التأليف والترجمة) ص 84 و 85؛ والإحاطة ج 2 ص 15 (طبعة قديمة). (¬1) David Hume: History of England (1848) V. II. p. 202-205.

تلمسان الأمير أبى حمّو عبد الرحمن بن موسى، ففى هذه الرسالة التى وردت على بلاط تلمسان فى شهر رمضان سنة 767 هـ (يونيه سنة 1366 م)، والتى وجهها بلاط غرناطة بطلب المعاونة والإنجاد، يقول لنا ابن الخطيب، إن كبير دين النصرانية (يريد البابا)، لما أعيته الحيلة فى جمع كلمة النصرانية فى قشتالة، حرك من النصارى جموعاً عظيمة لتعين القند (الكونت) على أخيه، فإذا انتصر واستقل بالملك، تحالف النصارى الإسبان جميعاً ضد المسلمين؛ وقسم البابا تراث المملكة الإسلامية (الأندلس) بين قشتالة وأراجون، فتختص منها أراجون بما يلى الشاطىء الشرقى الجنوبى حتى ألمرية، وتختص قشتالة بالباقى، وتجتمع الأساطيل النصرانية فتحتل الساحل الجنوبى، وتقطع ما بين المغرب والأندلس، ويقوم النصارى بالعيث فى أراضى المسلمين، وإتلاف سائر الغلات والأقوات. ويتوجه بلاط غرناطة بعد شرح هذه الخطة إلى أمير تلمسان بطلب الغوث والإنجاد. وقد استجاب أبو حمو إلى هذا النداء، وبعث إلى الأندلس بالأموال، والسفن المشحونة بالخيل والسلاح والأقوات. واستوجبت هذه الأريحية توجيه رسالة أخرى من سلطان غرناطة إلى الأمير أبى حمو معرباً فيها عن خالص الشكر والعرفان (¬1). تلك هى الخطة التى يقول لنا ابن الخطيب فى رسالته، إنها وضعت عندئذ للقضاء على مملكة غرناطة. ولكنها خطة لم يكن لها أى حظ من التنفيذ، وكانت مملكة غرناطة دائماً يقظة على أهبة الذود والدفاع. وقد فصل لنا ابن الخطيب حوادث الحرب الأهلية فى قشتالة فى تلك الفترة، وقد كان معاصراً لها وقريباً من مسرحها. وروايته تدل على حسن اطلاعه، ودقة فهمه لسير الحوادث، فهو يقول لنا مثلا بعد أن أشار إلى ثورة الكونت هنرى على أخيه واستيلائه على العرش: "ولما توسد له الأمر تحرك لاستئصال شأفة المخلوع، فأجلى عن غليسية فى البحر، واستقر وراء دروب قشتالة، وانتبذ عن الخطة القشتالية، ولجأ إلى ابن صاحب الأنتكيرة (انجلترا) وهو المعروف ببرقسين، وبين أرضه وبين قشتالة ثمانية أيام، فقبله ولد السلطان المذكور بأول ما تلقاه من تلك الأرض، وسفر ¬_______ (¬1) وردت رسالة ابن الخطيب فى كتاب "بغية الرواد فى ذكر الملوك من بنى عبد الواد" تأليف الوزير يحيى بن خلدون (طبع الجزائر 1910) ج 2 ص 170 - 174، ووردت به الرسالة الثانية، وهى أيضاً من إنشاء ابن الخطيب، فى ص 174 - 181.

بينه وبين أبيه، فأنكر الأب استئذانه إياه والمراجعة فى نصره، حمية له وامتعاضاً منه. وحال هذه الأمة غريبة فى الحماية الممزوجة بالوفاء، والرقة والاستهانة بالنفوس فى سبيل الحمية، عادة العرب الأول، وأخبارهم فى القتال غريبة ... وبعد انقضاء سبعة عشر يوما، كان رجوعه ورجوع الرئيس المذكور معه، مصاحباً بأمراء كثيرين من أخدانه، وبعد أن تسلموا مالا كثيراً ... وكان اللقاء بين الفريقين يوم السبت سادس أبريل العجمى بموافقة شعبان من عام ثمانية وستين (ابريل 1367 م). وكان هذا الجمع الإفرنجى آتين من الأرض الكبيرة (فرنسا) وكان على مقدم القوم الدك (الدوق) أخو البرنس ( Prince of Wales) ، وكان فى مقدمة القند (الكونت) المستأثر بملك قشتالة أخوه شانجه (سانشو) ... الخ". ثم يحدثنا بعد ذلك عن هزيمة " القند " وفراره إلى فرنسا، واستمرار الفتنة بينهم إلى وقت كتابة روايته (¬1). تولى ابن الخطيب وزارة الغنى بالله للمرة الثانية، وهو متمتع بأقصى مراتب العطف والثقة، واستأثر فى البلاط وفى الدولة بكل نفوذ وسلطة، وقضى على نفوذ منافسه الوحيد فى السلطة وهو شيخ الغزاة عثمان بن يحيى، وما زال بالسلطان حتى نكبه، فخلا له الجو وتبوأ ذروة القوة والسلطان. وكان من معاونيه فى الوزارة تلميذه الكاتب والشاعر الكبير أبو عبد الله بن زَمْرَك، وقد تولى كتابة السر فى كنفه وتحت رعايته. والظاهر أن اجتماع السلطان والنفوذ فى يد ابن الخطيب على هذا النحو كان سبباً فى انحرافه عن جادة الاعتدال والروية، فجنح إلى الاستبداد واتباع الهوى، وبث حوله معتركا من البغضاء والخصومة، وكثرت فى حقه السعاية والوشاية، واتهمه خصومه بالإلحاد والزندقة، لما ورد فى بعض كتاباته. وشعر ابن الخطيب فى النهاية أن السعاية قد بدأت تحدث أثرها، وأن عطف مليكه قد فتر، وخشى العاقبة على نفسه، فعوّل على مغادرة الأندلس، وسار إلى الثغور الغربية فى نفر من خاصته بحجة تفقدها، فلما وصل إلى جبل طارق عبر البحر فجأة إلى سبتة (773 هـ) وتفاهم سابق بينه وبين ملك المغرب السلطان عبد العزيز المرينى، وكانت تربطه به مودة وثيقة. وهكذا غادر ابن الخطيب الوطن والأهل والسلطان، بعد أن تربع فى الوزارة للمرة الثانية زهاء عشرة أعوام. وخلفه فى الوزارة تلميذه ابن زَمْرك، وكان قد انقلب عليه فى أواخر أيامه، وغدا من خصومه ومن أشدهم سعياً إلى نكبته. ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 2 ص 24 - 26.

وقضى ابن الخطيب فى منفاه زهاء ثلاثة أعوام، واستقر فى فاس معززاً مكرماً، ولكن السلطان عبد العزيز ما لبث أن توفى، وساءت الأمور فى عهد ولده الطفل الملك السعيد، ووقع انقلاب انتهى بجلوس السلطان أحمد بن أبى سالم على العرش، وهو صديق الغنى بالله وحليفه. وكان بلاط غرناطة وخصوم ابن الخطيب فى الأندلس يجدّون فى ملاحقته ومطاردته، فسعوا عندئذ لدى بلاط فاس فى القبض عليه واتهامه بالزندقة، وكلل مسعاهم آخر الأمر بالنجاح، واعتقل ابن الخطيب وأفتى بعض الفقهاء المتعصبين بوجوب قتله تنفيذاً لحكم الدين، ودس عليه الوزير سليمان بن داود بعض الأوغاد، فقتلوه فى سجنه، وذلك فى أوائل سنة 776 هـ (أواخر 1374 م). وهكذا ذهب الكاتب والشاعر الكبير ضحية الغدر السياسى والتعصب الشائن (¬1). وكان ابن الخطيب سياسياً بعيد النظر، وكان يرى فى حوادث الأندلس شبح المستقبل الرهيب واضحاً، ويستشف بنافذ بصيرته ما وراء الحجب، من نهاية محتومة لهذا الوطن الذى مزقته الأهواء وأضنته الفتنة، وكان يرى هذا المصير المحزن قبل وقوعه بأكثر من قرن، ويهيب بقومه وإخوانه المسلمين فيما وراء البحر أن يبادروا إلى غوثه ونصرته، وله فى ذلك رسائل ونداءات عديدة مؤثرة تفيض قوة وبلاغة، فى الحث على اليقظة، والذود عن الدين والوطن، والنذير بما يهددهم ويهدد دينهم ووطنهم، من خطر المحو والفناء، إذا تقاعسوا أو تخاذلوا وافترقت كلمتهم (¬2). وأبلغ من ذلك كله فى الدلالة على شعور ابن الخطيب بخطر الفناء الذى ينتظر الأندلس، ما وجهه فى وصيته إلى أولاده من النصح، بعدم الإسراف فى اقتناء العقارات بالأندلس إذ يقول لهم: "ومن رزق منكم مالا بهذا الوطن القلق المهاد الذى لا يصلح لغير الجهاد، فلا يستهلكه أجمع فى العقار، فيصبح عرضة للمذلة والاحتقار، وساعياً لنفسه أن يتغلب العدو على بلده فى الافتضاح والافتقار، ومعوقا عن الانتقال ¬_______ (¬1) تناولنا هذه الحوادث بالتفصيل عند كلامنا عن حياة ابن الخطيب فى الكتاب الرابع. وراجع ابن خلدون ج 7 ص 340 و 341. هذا وقد دوّن ابن الخطيب ما شهده فى منفاه فى المغرب لأول مرة من الحوادث فى كتاب سماه " نفاضة الجراب فى علالة الإغتراب". ومنه نسخة مخطوطة فى مكتبة الإسكوريال تحفظ برقم 1755 الغزيرى. (¬2) نقل إلينا المقرى فى نفح الطيب وأزهار الرياض كثيراً من هذه الرسائل. وراجع الإحاطة ج 2 ص 31 - 39.

أمام النواب الثقال، وإذا كان رزق العبد على المولى فالإجمال فى الطلب أولى" (¬1). وسلك الغنى بالله فى حكمه مسلك القوة والحزم، واشتهر بصرامته وعدله، وعنى بمشاريع الإنشاء والعمران، فأمر ببناء المارستان الأعظم (المستشفى) فى غرناطة، وأنفق عليه أموالا عظيمة، وعنى بتحصين الثغور وعمل على بث روح الجهاد والحمية فى النفوس، للدفاع عن الدين والوطن، وكان داعيته فى ذلك وسفيره إلى جمهور الأمة، وزيره القوى البليغ ابن الخطيب، فعمل على إذكاء الشعور ببراعة، واستمرت رسائله وخطبه المؤثرة فى ذلك تترى أينما كان، بالأندلس أو المغرب، حتى نهاية حياته. وفى أواخر سنة 767 هـ (1366 م) نظم بعض الزعماء الخوارج مؤامرة لخلع السلطان وإقامة بعض قرابته مكانه. وهاجم الخوارج قلعة الحمراء فمزقتهم الجند وقبض على زعيمهم، وزاد فشل المؤامرة مركز السلطان توطدا. وفى عصر الغنى بالله توثقت أواصر الصداقة والمودة بين بلاط غرناطة وبلاط القاهرة، واتصلت بينهما السفارة والمكاتبة. ومما وقفنا عليه من ذلك رسالة بعث بها "أمير المسلمين" بالأندلس محمد بن يوسف بن اسماعيل الغنى لله، إلى سلطان مصر الأشرف شعبان، وهى من إنشاء وزيره ابن الخطيب. وفيها يعرب سلطان غرناطة عن اغتباطه بتلقى رسالة سلطان مصر، ويشيد بموقف غرناطة كمركز للجهاد، وتعرضها الدائم لمهاجمة العدو، ويتقدم إلى السلطان الأشرف بالتهنئة على ما أحرزت جنوده من نصر حاسم على الفرنج، فى موقعة الإسكندرية فى سنة 767 هـ (1365 م) (¬2)، وأنه مما يزيد فى غبطتهم أن هذا الحادث لابد أن يذكى شعور الإشفاق والعطف على الأندلس، التى يدهمها الأعداء بشرهم من البر والبحر بلا انقطاع (¬3). وفيما يختص بالعلائق الدبلوماسية، فقد عقد الغنى بالله بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن صديقه أبى فارس عبد العزيز سلطان المغرب، مع بيدرو الرابع ¬_______ (¬1) نقل إلينا المقرى فى نفح الطيب وصية ابن الخطيب كاملة، وهى من أبدع الوصايا الأبوية السياسية (بولاق ج 4 ص 817 وما بعدها)، وكذلك فى أزهار الرياض ج 1 ص 32 وما بعدها. (¬2) هاجمت حملة من الفرنج بقيادة لوسنيان ملك قبرص ثغر الإسكندرية فى صفر سنة 767 هـ، واحتل الفرنج الإسكندرية أياماً، ولكنهم هزموا وطوردوا بعد معارك عديدة. (¬3) يراجع نص هذه الرسالة بأكمله فى صبح الأعشى ج 8 ص 107 - 115، وهى نموذج بارز من أسلوب ابن الخطيب السياسى.

ملك أراجون معاهدة صلح وصداقة لمدة ثلاثة أعوام من تاريخ عقدها وهو شهر رجب سنة 768 هـ (مارس 1367 م)، وفيها يتعهد كل من الفريقين بأن يمتنع رعاياه عن الإضرار بالفريق الآخر فى البر والبحر فى السر أو الجهر، وأن يكون لرعايا كل فريق حق التجول والمتاجرة بأرض الفريق الآخر، والمرور فى البر والبحر، دون اعتراض أو مغارم غير عادية، وأن تطلق أراجون حرية الهجرة للمدجّنين، وأن يمتنع كل فرق عن معاونة أعداء الفريق الآخر (¬1). واستطال حكم الغنى بالله حتى سنة 793 هـ (1391 م) وساد الأمن والسلام فى عصره، وشغلت قشتالة عن محاربة المسلمين بحوادثها الداخلية وحروبها الأهلية، وغلب التهادن فى تلك الفترة بين غرناطة وقشتالة، واستطاعت السياسة الغرناطية أن تنتهز فرصة الحوادث الداخلية فى المملكة النصرانية، وأن تمد يد التحالف والحماية غير مرة لملك قشتالة المخلوع بيدرو القاسى، إذكاء للحرب الأهلية بين النصارى. ولم يخل عصر الغنى بالله من مواطن الجهاد واستئناف الصراع مع القشتاليين. وكانت القوات القشتالية، قد تسربت من أطراف ولاية إشبيلية الجنوبية، إلى أحواز رندة الشرقية، واحتلت فيها موقعين حصينين من أراضى المسلمين هما برغة وجيرة (¬2)، واستطاعت بذلك أن تقطع الطريق بين رندة ومالقة، ففى شعبان سنة 767 هـ (1366 م)، زحف المسلمون على هذين المعقلين من الشمال والجنوب واحتلوهما بعد قتال شديد. وفى الوقت نفسه استؤنفت حركة الغزو لأراضى النصارى، ففى شعبان سنة 768 هـ (1367 م)، زحف الغنى بالله فى قواته على أراضى ولاية إشبيلية، وغزا مدينة أطريرة الواقعة جنوب شرقى إشبيلية، وافتتح حصن أشر من معاقلها، واستولى على كثير من الغنائم والسبى، وعاث فى أحواز إشبيلية ذاتها، وهى يومئذ عاصمة قشتالة. وفى أواخر هذا العام سار الغنى بالله فى قوة كبيرة إلى مدينة جيّان، وحاصرها بشدة، واقتحمها بعد معارك شديدة، واستولى المسلمون على سائر ما فيها من الأموال والسلاح والنعم، وأسروا جموعاً كثيرة، ولكنهم لم يحتلوها، لصعوبة الدفاع عنها، وتعذر الاحتفاظ بها، وهى ¬_______ (¬1) Archivo de la Corona de Aragon, No. 152. (¬2) برغة هى Burgo الحديثة، وهى تقع على مقربة من شرقى رندة، وجيرة Guera، وتقع فى جنوب شرقى رندة.

واقعة فى قلب أراضى العدو. وكان ذلك فى أواخر شهر المحرم سنة 769 هـ (سبتمبر 1367 م). ثم اقتحم الغزاة فى طريقهم مدينة باغة، الواقعة على مقربة من جنوب غربى جيان، ونهبوها ودمروها. وفى شهر ربيع الأول من هذا العام، زحف الغنى بالله على مدينة أبّدة، شمال شرقى جيان، وافتتحها عنوة، ودمر صروحها وكنائسها، وأسوارها، وتركها خرابا بلقعا، وعاد إلى غرناطة مكللا بغار الظفر (¬1). وفى أواخر سنة 769 هـ، سار الغنى بالله جنوبا إلى الجزيرة الخضراء، وحاصرها، وأرغم النصارى على إخلائها بعد قتال مرير، وبذا عاد الثغر القديم فترة أخرى إلى أيدى المسلمين. ثم رأى المسلمون أن يهدموا حصونها وصروحها ومعالمها، حتى لا تعود سليمة إلى أيدى النصارى، فهدمت وغدت قاعاً صفصفاً. وفى ربيع سنة 771 هـ (1370 م) زحف المسلمون ثانية على أحواز إشبيلية، وحاصروا مدينة قرمونة الحصينة، مدى حين، واقتحموا مُرْشانة الواقعة فى جنوب شرقى قرمونة. وهكذا ظهرت المملكة الإسلامية فى تلك الفترة بمظهر من القوة لم تعرفه منذ بعيد، وكان عصر الغنى بالله عصراً ذهبياً مليئاً بالسؤدد والرخاء والدعة، لم تشهده الأمة الأندلسية منذ عصور. - 2 - ولما توفى الغنى بالله سنة 793 هـ (1391 م) خلفه ولده يوسف أبو الحجاج (يوسف الثانى)، وقام بأمر دولته خالد مولى أبيه، فاستبد بالأمر وقتل إخوة يوسف الثلاثة سعداً ومحمداً ونصراً فى محبسهم، ثم سخط يوسف على وزيره وقتله، لما نمى إليه من أنه يحاول اغتياله بالسم بالتفاهم مع طبيبه يحيى بن الصائغ اليهودى، وزج الطبيب إلى السجن ثم قتل بعد ذلك (¬2). واستأثر يوسف بالسلطة، وكتب إلى ملك قشتالة فى طلب المهادنة والسلم، وأطلق سراح عدد من الفرسان النصارى الذين أسروا فى بعض المعارك السابقة، وأرسلهم مكرمين إلى بلاط إشبيلية، فاستجاب ملك قشتالة إلى دعوته وعقد السلم بين المملكتين. ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 2 ص 54 - 58؛ والاستقصاء ج 2 ص 132؛ وقد وصف ابن الخطيب هاتين الغزوتين، وكان من مرافقى الحملة، فى رسالتين بعث بهما عن لسان سلطانه إلى السلطان عبد العزيز المرينى ملك المغرب، وقد وردتا فى كتابه " ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب " مخطوط بالإسكوريال (رقم 1825 الغزيرى) - اللوحات 37 - 44. (¬2) الاستقصاء ج 2 ص 142.

وحاول محمد ولد السلطان يوسف الثورة ضد أبيه، إذ كان يؤثر أخاه الأكبر يوسف بمحبته وثقته، وقد اختاره لولاية عهده، وزحف بالفعل فى أنصاره على الحمراء، ولكن المحاولة فشلت، وتفرق الثوار حين برز إليهم سفير المغرب وقد كان وقتئذ بالقصر، وأنّبهم على مسلكهم، وأنصحهم بالتزام الهدوء والاتحاد ضد النصارى (¬1). وقام المسلمون فى عهد يوسف بالإغارة على أراضى النصارى فى أحواز مرسية ولورقة، وعاث الفرسان النصارى من جانبهم فى فحص غرناطة (المرج) La Vega فردهم المسلمون وأوقعوا بهم هزيمة شديدة. ثم عاد الفريقان إلى التهادن والسلم. وتوفى السلطان يوسف فى أوائل سنة 797 هـ (1394 م) بعد حكم قصير لم يدم سوى ثلاثة أعوام وبضعة أشهر. وقيل إنه توفى مسموما على أثر مكيدة دبرها سلطان المغرب أبو العباس المرينى لإهلاكه، وذلك بأن أرسل إليه هدايا بينها معطف جميل منقوع فى السم، فلبسه يوسف ومسّه أثناء ركوبه وهو عرقان، فسرى إليه السم وتوفى، وهى رواية تحمل طابع الخيال المغرق (¬2). وخلف يوسف ولده محمد بعد أن دبر أمره مع الزعماء ورجال الدولة لإقصاء أخيه الأكبر يوسف عن العرش، ثم قبض على أخيه يوسف وزجه إلى قلعة شلوبانية الحصينة على مقربة من ثغر المنكَّب، وشدد فى الحجر عليه حتى يأمن منازعته إياه على الملك. وكان محمد وافر العنف والجرأة بعيد الأطماع، بيد أنه كان فى الوقت نفسه أميراً موهوباً، رفيع الخلال، فياض العزم والشجاعة. ولأول ولايته استدعى الوزير أبا عبد الله بن زَمْرك لحجابته. وكان هذا الوزير الطاغية قد حلف أستاذه ابن الخطيب فى وزارة الغنى بالله مدى أعوام طويلة، فلما اشتد عيثه واستبداده نكبه الغنى بالله ونفاه من الحضرة؛ ولم يمكث فى الوزارة هذه المرة سوى أشهر قلائل أساء فيها السيرة وكثر خصومه، وفى أواخر سنة 797 هـ (1395 م) دهمه جماعة من المتآمرين بمنزله وقتلوه وآله (¬3). وسعى السلطان محمد إلى تجديد صلات المودة والتهادن بين غرناطة وقشتالة، ¬_______ (¬1) Condé: Historia de la Dominacion de los Arabes en Espana ; V. III. p. 169. (¬2) Condé: ibid ; V. III. p. 171.؛ وراجع الاستقصاء حيث يردد هذه الرواية نقلا عن مصدر إسبانى آخر، ج 2 ص 142. (¬3) نفح الطيب ج 4 ص 286 و 290، وقد عرضنا إلى حياة الوزير ابن زمرك وآثاره الأدبية تفصيلا فى الكتاب الخامس.

وعقدت الهدنة فعلا بين الفريقين. بيد أنه لم يمض قليل على ذلك حتى أغار القشتاليون على بسائط غرناطة وعاثوا فيها، فحشد محمد قواته وغزا ولاية الغرب (¬1) وخربها، واستولى على حصن أيامونتى (¬2)، وعاد مثقلا بالغنائم والسبى. وانتقم النصارى بالعود إلى غزو أراضى غرناطة. وكان هنرى الثالث ملك قشتالة تحدوه نحو مملكة غرناطة أطماع عظيمة، وكان يجدّ فى الأهبة للحرب ويجهز الجيوش والأساطيل، وكان محمد من جانبه يتأهب للدفاع، ويراسل ملوك العدوة لإنجاده، وبعث ملك تونس وأمير تلمسان بالفعل إلى المسلمين نجدة من الوحدات البحرية، ولكنها هزمت ومزقت تجاه جبل طارق. ثم عقد بين الفريقين اتفاق هدنة وتحكيم لتقدير الأضرار لمدة عامين (6 أكتوبر سنة 1406 م) (¬3). ولكن هنرى الثالث توفى بعد ذلك بقليل (أواخر سنة 1406 م) وخلفه على عرش قشتالة ولده خوان (يوحنا) طفلا تحت وصاية أمه وعمه فرناندو. ولم يحترم الوصىّ الجديد أحكام الهدنة المعقودة، بل عمد إلى تنفيذ مشاريع قشتالة بمنتهى القوة والعزم، فسار إلى غزو أراضى المسلمين، واستولى على حصن الصخرة على مقربة من رندة، واقتحم حصن باغة (¬4)، وعاث فى تلك الأنحاء واسترد حصن أيامونتى من المسلمين. وبادر محمد من جانبه بغزو أراضى قشتالة من ناحية الشرق وعاث فى ولاية جيان، فاضطر فرناندو أن يسير إلى الشرق لإنجاد النصارى، واستمرت المعارك بين الفريقين حينا، ثم انتهت بعقد الهدنة وبينهما لمدة ثمانية أشهر (أوائل سنة 1408 م). ولما عاد محمد إلى غرناطة اشتد به المرض ولم يلبث أن توفى وذلك فى سنة 811 هـ (1408 م). على أنه فى الوقت الذى كانت الحرب تضطرم فيه بين غرناطة وقشتالة على هذا النحو بلا انقطاع، كانت غرناطة ترتبط بمملكة أراجون منافسة قشتالة وخصيمتها أحياناً، بصلات المودة والصادقة. ففى ربيع الأول سنة 808 هـ الموافق سبتمبر سنة 1405 م، عقدت بين السلطان محمد وبين مرتين ملك أراجون وولده مرتين ملك صقلية، معاهدة صداقة وتحالف، توضح لنا نصوصها الدقيقة الشاملة ¬_______ (¬1) غربى الأندلس وهى بالإفرنجية Algarve محرفة عن كلمة الغرب. (¬2) أيامونتى Ayamonte مدينة صغيرة تقع على المحيط الأطلنطى، وهى بلد الحدود بين إسبانيا والبرتغال. (¬3) Archivo General de Simancas: P.R. 11-1، ولدينا صورة فتوغرافية من نصها القشتالى وفى ذيلها توقيع بالعربية لمندوب سلطان غرناطة. (¬4) وهى بالإسبانية Priego.

مجمل المسائل التى كانت فى هذا العصر، تشغل المسلمين والنصارى فى شبه الجزيرة الإسبانية. وتنص هذه المعاهدة على أن يعقد بين الدولتين "صلح ثابت" لمدة خمسة أعوام من تاريخ عقدها، وأنه يحق لرعايا كل من الفريقين أن يتردد على أراضى الفريق الآخر، آمنين فى أنفسهم وأموالهم للتجارة والبيع والشراء، وأنه متى احتاج ملك أراجون أو ملك صقلية إلى معاونة على أعدائهما، فإن سلطان غرناطة ينجدهما بأربعمائة أو خمسمائة فارس على أن يتكفلا هما بنفقاتهم، وذلك بشرط أن لا يكون هذا العدو صديقاً لمملكة غرناطة، وأن يعامل الملكان سلطان غرناطة بالمثل فيقوما بإعانته بأربعة أو خمسة سفن مشحونة بالرجال والسلاح، على أن يتكفل هو بنفقاتها، وعلى ألا يكون هذا العدو صديقاً لمملكة أراجون، وألا يساعد أحد من الفريقين الثوار الذين يخرجون على الفريق الآخر بأى نوع من أنواع المساعدة. ونصّت فيما يتعلق بالمسائل البحرية، على أنه يسمح لسفن كل من الفريقين أن ترسو فى موانىء الفريق الآخر، وأن تزاول البيع والشراء آمنة، وأن تتلقى سائر أوجه الإعانة المشروعة، وألا تتعرض سفينة لأحد الفريقين للسفن الراسية فى موانىء الآخر، وأن يسمح للسفن التى تصاب بعطب من جراء العواصف أو غيرها، وتكون تابعة لأحد الفريقين، أن تصلح فى موانىء الآخر، وتُعان على ذلك، وأنه إذا استولى عدو على سفينة تابعة لأحد الفريقين، وقصدت مياه الطرف الآخر، فإنه لا يسمح لها بأن تبيع شيئاً من حمولتها فيه، وكذلك يكون الحكم فيما يتعلق بالأشخاص أو السلع المأخوذة من أحد الطرفين. ونصت فيما يتعلق بتسريح الرعايا، على أنه إذا انتزع أحد الطرفين من عدوه مدينة أو موضعاً ما، وكان فيه أحد من رعايا الطرف الآخر، فإنه يسرح فى الحال مؤمناً فى نفسه وماله، ويكون الحكم كذلك فيما يتعلق بالسفن التى يستولى عليها أحد الطرفين من عدوه؛ وأنه إذا كان لدى أحد الطرفين أسرى من رعايا الطرف الآخر، فإنه يفك أسرهم لقاء دفع مائة دينار ذهبا عن الشخص الواحد، فإذا كان الأسير ملكاً لأحد من رعايا أى الطرفين، فإنه يسمح بافتكاك أسره نظير دفع الثمن الذى اشترى به، ويلتزم كل من الفريقين بألا يخفى أو يغيب أحداً من الأسرى؛ وأنه إذا دخل مجاورون تابعون لأحد الطرفين فى أرض الآخر واحتملوا منها أسرى أو بضائع، فإنها تطلب ممن تستقر لديه، ويأمر قائد الموضع الذى

به الأسرى والبضائع بردها لمن أخذت منهم، وبالبحث عن الفاعلين ومعاقبتهم (¬1). ولما توفى محمد خلفه فى الملك أخوه يوسف (الثالث)، وكان سجينا طوال حكمه بقلعة شلوبانية كما قدمنا. ودخل يوسف غرناطة فى حفل فخم، واستقبله الشعب بحماسة. وكان يتمتع بخلال حسنة، ويعلق عليه الشعب آمالا كبيرة. وكان أول ما عنى به أن سعى إلى تجديد الهدنة مع قشتالة، فاستجاب بلاط قشتالة إلى دعوته فى البداية وعقدت الهدنة بين الفريقين لمدة عامين. ولكنه لما سعى بعد مضى العامين إلى تجديدها أبى القشتاليون، وطلبوا إليه الخضوع لقشتالة إذا شاء استمرار السلم، وأنذروه بإعلان الحرب، فرفض وأخذ فى الأهبة للقتال. وكان ملك قشتالة يومئذ خوان الثانى تحت وصاية أمه وعمه فرناندو، فما كادت تنتهى الهدنة حتى زحف النصارى على أرض غرناطة بقيادة فرناندو الوصى، وضربوا الحصار حول مدينة أنتقيرة فى شمال غربى مالقة، فهرع يوسف إلى لقاء الغزاة، وحاولت حامية أنتقيرة أن تحطم الحصار، وأنزلت بالمحاصرين خسائر فادحة، ثم نشبت بين المسلمين النصارى معركة كبيرة بجوار أنتقيرة، وبذل المسلمون لإنقاذ المدينة المحصورة جهوداً رائعة، ولكنهم هزموا أخيراً واضطرت المدينة الباسلة إلى التسليم، فدخلها النصارى (سنة 1412 م) وأسبغ على فاتحها فرناندو من ذلك الحين لقب "صاحب أنتقيرة". وعاث النصارى بعد ذلك فى أراضى المسلمين. وأخيراً رأى السلطان يوسف أن يسعى إلى عقد الهدنة مع قشتالة حقنا لدماء المسلمين، واجتنابا لاستمرار هذه المعارك المخربة، فارتضى بلاط قشتالة وعقد السلم بين الفريقين، على أن يطلق ملك غرناطة سراح بضع مئات من الأسرى النصارى دون فدية. وفى عهد يوسف ثار أهل جبل طارق، ودعوا ملك المغرب أبا سعيد المرينى إلى احتلال الثغر. لاعتقادهم أنه أقدر على حمايتهم من غارات النصارى، فبعث إليهم أبو سعيد أخاه عبد الله فى الجند تخلصاً منه، ولكن ابن الأحمرما كاد يقف على هذه المؤامرة حتى أرسل المدد إلى حاكم جبل طارق، واستطاع الغرناطيون أن يهزموا المغاربة فى موقعة حاسمة، وأسر زعيمهم عبد الله، فأكرم ابن الأحمر وفادته، ثم رده إلى المغرب، وزوده بالمال وبعض الجند ليناهض أخاه، ¬_______ (¬1) Archivo de la Corona de Aragon ; No. 173.

فهرعت القبائل لتأييده، واستطاع أن ينتزع الملك لنفسه من أخيه (¬1). ولما عقدت الهدنة بين مملكتى قشتالة وغرناطة، أخذت أواصر السلم تتوثق بينهما، وسادت بين بلاط غرناطة وبلاط اشبيلية علائق المودة والاحترام المتبادل، ولم تشهد غرناطة من قبل عهداً كعهد يوسف ساد فيه الوئام بين الأمتين الخصيمتين. وكانت غرناطة يومئذ تغص بالفرسان والأشراف النصارى، تجتذبهم خلال أميرها وبهاء بلاطها وفروستها. وكانت حفلات المبارزات الرائعة تعقد بين الفرسان المسلمين والنصارى فى أعظم ساحات المدينة، وتجرى طبقاً لأرفع رسوم الفروسية الإسلامية، ويشهدها أجمل وأشرف العقائل المسلمات سافرات، وتبدو غرناطة فى تلك الأيام المشهودة فى أروع الحلل وأبدع الزينات (¬2). وكانت الأمة الأندلسية تتمتع يومئذ فى ظل ملكها الرشيد العادل بنعم الرخاء والسكينة والأمن، ولكنها كانت تنحدر فى نفس الوقت فى ظل هذا السلم الخلب والترف الناعم، إلى نوع من الانحلال الخطر الذى يعصف بمنعتها وأهباتها الدفاعية. وتوفى السلطان يوسف فى سنة 820 هـ (1417 م) بعد حكم دام نحو تسعة أعوام، وكان أميراً راجح العقل، بارع السياسة، عظيم الفروسية والنجدة، محباً لشعبه، فكان حكمه التقصير صفحة زاهية فى تاريخ مملكة غرناطة. - 3 - وتوالى على عرش غرناطة بعد السلطان يوسف عدة من الأمراء الضعاف، أولهم ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالأيسر. وكان أميراً صارما سيىء الخلال، متعاليا على أهل دولته، بعيداً عن الاتصال بشعبه، لا يكاد يبدو فى أية مناسبة عامة، وكان وزيره يوسف بن سراج واسطته الوحيدة للاتصال بشعبه وكبراء دولته. وكان هذا الوزير النابه، وهو يومئذ زعيم أعظم وأشرف بيوت غرناطة، يعمل ببراعته ورقّة خلاله، لتلطيف حدة السخط العام على مليكه. بيد أنه كان يحاول أمراً صعباً. ولابد لنا أن نقول كلمة فى التعريف ببنى سراج، وهم الذين يقترن اسمهم منذ الآن بحوادث مملكة غرناطة، والذين غدت سيرتهم فيما بعد مستقى خصبا للقصص المغرق. فهم بنو سراج من أعرق الأسر الأندلسية العربية، ويرجع أصلهم حسبما يشير ¬_______ (¬1) السلاوى فى الاستقصاء ج 2 ص 148. (¬2) Condé: ibid ; V. III. p. 197 & 198. وكذلك Lafuente Alcantra ; Historia de Granada (1906) V. III. p. 46.

المقرى إلى مَذْحج وطىء من البطون العربية العريقة، التى وفد بنوها إلى الأندلس منذ الفتح، وكان منزلهم بقرطبة وقبلى مرسية، بيد أنهم لم يظهروا على مسرح الحوادث فى تاريخ الأندلس إلا فى مرحلته الأخيرة أعنى فى تاريخ غرناطة، وقد كانوا بغرناطة من أعظم سادتها، وكانوا أندادا للعرش والسلاطين (¬1). ومنذ عهد السلطان الأيسر نرى بنى سراج فى طليعة القادة والزعماء، الذين يأخذون فى سير الحوادث بأعظم نصيب. وقد كان حكم السلطان الأيسر، بداية سلسلة من الاضطرابات والقلائل المتعاقبة. وفى عهده ساءت الأحوال، واشتد سخط الشعب ولم تُجد محاولات الوزير ابن سراج لتهدئة الأمور. وقامت ثورات متعاقبة، فقد فيها الأيسر عرشه ثم استرده غير مرة، وكان بلاط قشتالة يشجع هذه الإنقلابات ويؤازرها، وكان الزعماء الثائرون يتطلعون دائماً إلى عون قشتالة ووحيها. وسنرى فيما يلى كيف كانت دسائس قشتالة ومؤامراتها حول عرش غرناطة فى تلك الفترة، من أعظم العوامل فى انحلال المملكة الإسلامية والتعجيل بسقوطها. وفى خلال حكم الأيسر المضطرب، كان النصارى يتربصون الفرص لغزو مملكة غرناطة، فزحفوا عليها فى سنة 831 هـ (1428 م) وتوغلوا فى أرجائها، وعاثوا فى بسائط وادى آش، فزادت الأمور فى غرناطة اضطرابا، وازداد الشعب على الأيسر سخطاً، لأنه فوق غطرسته وتعاليه، لم يفلح فى رد العدو عن أرض الوطن؛ وسرعان ما انفجر بركان الثورة وزحف الثوار على الحمراء، ونادوا بولاية الأمير محمد بن محمد بن يوسف الثالث، وهو ابن أخى الأيسر. وفى رواية أنه ولده، ومحمد هذا هو الملقب "بالزغير". وفر الأيسر فى أهله ونفر من خاصته، وركب البحر إلى تونس مستظلا بحماية سلطانها أبى فارس الحفصى. وجلس محمد " الزغير " أو أبو عبد الله الصغير، حسبما يسمى فى بعض الوثائق الرسمية (¬2). ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 1 ص 138 حيث يشير إلى أصل بنى سراج إشارة عابرة. وقد ذكر البعض أن بنى سراج ينتمون إلى يوسف السراج، وأن السراج هذا هو وزير السلطان الأيسر. ولكن إشارة المقرى الصريحة إلى الاسم والمنبت تنفى هذا التحريف فى الاسم. ويشغل بنو سراج فى الأساطير الإسبانية التى كتبت عقب سقوط غرناطة فراغاً كبيراً، مما يدل على ما كان لهم فى غرناطة من عظيم الشأن. وسنعود إلى ذكر هذه القصص والأساطير فيما بعد. وراجع المستشرق سيبولد فى Encyc. de l'Islam. تحت كلمة Abencerrages (¬2) راجع كتاب "وثائق عربية غرناطية" للمستشرق الغرناطى لويس سيكودى لوثينا، وقد وردت فى الوثيقة رقم 19 (ص 40) إشارة إلى " دنانير من ضرب السلطان أبى عبد الله =

على عرش غرناطة. وكان أميراً بارع الخلال، وافر الفروسية، يعشق الآداب والفنون، وكان يحاول اكتساب محبة الشعب، بفيض من الحفلات ومباريات الفروسة، ولكنه لم يوفق إلى إخماد الدسائس والفتن المستمرة. وكان بنو سراج ألد خصومه وأشدهم مراسا، فمال عليهم وطاردهم وعوّل على سحقهم، واستئصال نفوذهم القوى المتغلغل فى أنحاء المملكة، وغادر يوسف بن سراج غرناطة مع عدد كبير من السادة والفرسان من أفراد أسرته، تفاديا لانتقام "الزغير" وبطشه، وسار أولا إلى ولاية مرسية ثم سار إلى إشبيلية ملتجئاً إلى حماية ملك قشتالة خوان الثانى، فرحب بهم وأكرم وفادتهم. واتفق يوسف بن سراج مع ملك قشتالة على العمل لرد السلطان الأيسر إلى العرش. واستدعى الأيسر من تونس فلبى الدعوة، وزوده السلطان أبو فارس بفرقة من الفرسان، وهدايا ثمينة لملك قشتالة، ونزل الأيسر فى عصبته فى ثغر ألمرية، حيث استقبله الشعب بحفاوة، ونودى به ملكا. ونمى الخبر إلى الزغير، فأرسل بعض قواته لمقاتلة الأيسر والقبض عليه، ولكن معظم جنده انضموا إلى الأيسر، وسار الأيسر بعد ذلك إلى وادى آش حيث يحتشد أنصاره، ثم زحف على غرناطة فى قوة كبيرة، ورأى محمد الزغير أنصاره ينفضون من حوله تباعا، بيد أنه امتنع فى عصبته القليلة بقلعة الحمراء، معتزما الدفاع عن ملكه. ودخل الأيسر غرناطة، واستقبل بحماسة وأعلن ملكاً، وحاصر الحمراء بشدة فسلمها إليه أنصار الزغير، وفى رواية أن الأيسر قبض على الزغير وقطع رأسه، وقبض على أولاده وأهله، وفى رواية أخرى أنه قبض عليه، واعتقله هو وأخاه الأمير أبا الحسن على بن يوسف فى قلعة شلوبانية الحصينة وهى سجن الدولة الرسمى فى عهد بنى نصر. وهكذا انتهت مغامرة الزغير على هذا النحو المؤسى بعد أن حكم عامين وبضعة أشهر (سنة 1430 م) (¬1). ونظم السلطان الأيسر الأمور، وأعاد يوسف بن سراج إلى الوزارة، ¬_______ = الصغير". والواقع أنه "زغير" هى النطق العامى الأندلسى لكلمة "صغير": Dozy: Supp. aux Dict. Arabes Vol. I. p. 595 وذكر كوندى أن الزغير معناها السكير: Condé ibid. V. III. p. 182. (¬1) Lafuente Alcantra: ibid ; V. III. p. 121 & 122 ; Condé ; ibid.; V. III. p. 184 & 185. وراجع أيضاً مقال الاستاذ سيكودى لوثينا المعنون Las Campanas de Castilla contra Granda en el amo 1431 المنشور فى مجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد (المجلد الرابع) ص 80.

صورة رسالة وجهها السلطان أبو عبد الله الأيسر إلى قادة وأشياخ حصن قمارش بوجوب اليقظة والحرص على الدفاع عنه مؤرخة فى شعبان سنة 831 هـ (1428 م)، وأوردها المستشرق ريميرو فى رسالته Documentos Arabes de la Corte Nazari، منقولة من مجموعة هرناندو دى ثافرا H. de Zafra

وأرسل إلى ملك قشتالة خوان الثانى فى تجديد الهدنة، فبعث إليه سفيره كونثالث دى لونا واشترط لتجديدها أن يؤدى الأيسر ما أنفقه بلاط قشتالة فى سبيل استرداد عرشه، وأن يؤدى فوق ذلك جزية سنوية ضخمة اعترافاً منه بطاعة قشتالة، وأن يفرج عن سائر الأسرى النصارى الموجودين ببلاده، فرفض الأيسر وهدد ملك قشتالة بالحرب. وبعث خوان الثانى كذلك سفراءه ومعهم هدايا نفيسة إلى أبى فارس الحفصى سلطان تونس، وإلى سلطان فاس عبد الحق بن عثمان المرينى يرجو كلا منهما أن يبتعد عن التدخل فى شئون غرناطة، فوعد كلاهما بتحقيق رغبته. وما كادت تنتهى الفتنة الداخلية التى كانت يومئذ ناشئة فى قشتالة، حتى أغار القشتاليون فى قواتهم من قرطبة وجيان وإستجه على أراضى المسلمين، وقصدوا إلى أحواز رندة، فهرع الأيسر إلى لقائهم، واستطاع أن يردهم فى البداية، ولكن ملك قشتالة قدم بعدئذ بنفسه فى قوات كبيرة، وزحف على حصن اللوز وأرشدونة، وعاث فى تلك المنطقة، ثم عاد إلى قرطبة ومعه كثير من السبى والغنائم (1431 م). وفى أثناء ذلك عاد الأيسر إلى غرناطة، متوجسا من سير الحوادث فيها: وكانت الفتن الداخلية قد عادت تنذر بانقلابات جديدة، وغدا عرش غرناطة مرة أخرى يضطرب فى يد القدر؛ وانقسمت المملكة الإسلامية شيعاً وأحزابا متنافسة متخاصمة، وألفى النصارى فرصتهم السانحة لإذكاء الفتنة، وبسط سيادتهم على مملكة يسودها الضعف والتفرق. وكان خصوم الأيسر قد التفوا حول أمير ينتمى إلى بيت الملك عن طريق أمه، هو أبو الحجاج يوسف بن المول. وكانت أمه ابنة للسلطان محمد بن يوسف بن الغنى بالله، وأبوه ابن المول من وزراء الدولة النصرية. ودبرت مؤامرة جديدة لخلع الأيسر. وكان يوسف أميراً قويا، وافر الثراء والهيبة، وكان ملك قشتالة، خوان الثانى، يعسكر يومئذ بجيشه على مقربة من غرناطة، يتتبع سير الحوادث، ويرقب الفرص. فقصد إليه يوسف، وطلب إليه العون على انتزاع العرش لنفسه، وتعهد بأن يحكم باسمه وتحت طاعته، فلبى ملك قشتالة دعوته، وعقد معه يوسف وثيقة بالخضوع، يقرر فيها أنه من أتباع ملك قشتالة وخدامه، وأنه إذا حصل على الملك، فإنه يتعهد بتحرير جميع الأسرى النصارى، وبأن يدفع لملك قشتالة جزية سنوية قدرها عشرون ألف دينار من الذهب، وأن يعاونه بألف وخمسمائة فارس لمحاربة أعدائه سواء أكانوا نصارى أو مسلمين،

صورة للجانب الأيسر من معاهدة التحالف والخضوع التى عقدت بين يوسف بن المول (يوسف الرابع) وخوان الثانى ملك قشتالة، وفوقه بضعة أسطر من النص القشتالى للمعاهدة. وهى مؤرخة فى جمادى الأولى سنة 835 هـ (يناير 1432 م) ومحفوظة بدار المحفوظات العامة Archivo General de Simancas برقم P, R. 11-124

وأن يحضر جلسات مجلس الكورتس (مجلس النواب القشتالى) بنفسه إن كان منعقداً جنوب طليطلة أو بإنابة أحد من أبنائه أو ذوى قرابته إن كان منعقداً داخل قشتالة. وتعهد ملك قشتالة من جانبه بأن يعقد الصلح مع يوسف طوال أيام حكمه وأيام أبنائه، وبأن يعاونه على محاربة أعدائه من المسلمين والنصارى، وألا يحمى من يلتجىء إليه من أعدائه. ووقع مشروع هذه المعاهدة بين الفريقين فى السابع من المحرم سنة 835 هـ (16 سبتمبر سنة 1431 م) ونفّذت على الأثر، إذ أرسل ملك قشتالة، جنده فغزت مرج غرناطة، وسار الأيسر على رأس قواته والتقى بالنصارى فى بسائط إلبيرة، ونشبت بين الفريقين موقعة شديدة، ارتد الأيسر على أثرها منهزماً إلى غرناطة. أما يوسف فقد استطاع بمؤازرة النصارى أن يستولى على عدة قواعد اعترفت بطاعته، مثل رندة ولوشة وحصن اللوز وغيرها. وأعلن ملك قشتالة انحيازه إلى يوسف ونُودى به ملكا، وسار يوسف بعد ذلك فى قواته إلى غرناطة فلقيته جنود الأيسر بقيادة الوزير ابن سراج فهزم ابن سراج وقتل، ودخلت جنود يوسف العاصمة، ونادت بطاعته معظم الجهات، وانفض الأشراف من حول الأيسر بعد أن رأوا خسران قضيته، فاعتزم الأيسر أمره وحمل أمواله وغادر غرناطة فى أسرته ونفر من خاصته، وقصد إلى مالقة التى بقيت على طاعته، ودخل يوسف بن المول الحمراء ظافراً وتربع على العرش، وذلك فى أول يناير سنة 1432 م. وكان أول ما فعله يوسف أن جدد لملك قشتالة عهد الخضوع، فوقعه باعتباره سلطان غرناطة فى 22 جمادى الأولى من نفس العام (27 يناير سنة 1432 م) (¬1). وبيد أن حكمه لم يطل إذ كان شيخاً مريضاً، فتوفى بعد ستة أشهر لم يفعل خلالها شيئاً سوى اعترافه بطاعة ملك قشتالة، وهو ما كانت تسعى إليه قشتالة دائما مذ قامت مملكة غرناطة. ومن المدهش أن نجد تماثلا غريبا بين نصوص المعاهدة التى عقدها محمد ابن الأحمر مؤسس مملكة غرناطة بالخضوع لفرناندو الثالث، وبين عهد الخضوع الذى وقعه يوسف بن المول، والذى قطعت به قشتالة أكبر خطوة فى سبيل تحقيق ¬_______ (¬1) Archivo General de Simancas ; P.R. 11-129. وقد حصلنا على صورة فتوغرافية لهذه الوثيقة بنسختيها العربية والقشتالية، ونشرنا النصين فى بحث ظهر فى صحيفة المعهد المصرى للدراسات الإسلامية بمدريد (المجلد الثانى - 1954).

أمنيتها القديمة. والواقع أن هذا العهد المؤلم كان أشنع ما انتهت إليه الخلافات الداخلية والحروب الأهلية فى مملكة غرناطة فى تلك الفترة الدقيقة من حياتها. وعلى أثر وفاة السلطان يوسف، اتفقت الأحزاب كلها على رد الأمر للسلطان الأيسر، فجلس على العرش للمرة الثالثة، وبادر بالسعى إلى عقد السلم مع ملك قشتالة، فعقدت الهدنة بين الفريقين لمدة عام، ولكن القشتاليين ما لبثوا بالرغم من عقدها أن أغاروا على أراضى غرناطة الشرقية، فردهم المسلمون بقيادة الوزير ابن عبد البر زعيم بنى سراج، ثم هزموهم ثانية عند مدينة أرشدونة، وقتل وأسر منهم عدد كبير (838 هـ - 1434 م). وفى العام التالى سار السلطان الأيسر لقتال القشتاليين، فى أحواز غرناطة ووادى آش، وهزمهم غير مرة، ثم عاد النصارى فأغاروا على بسطة ووادى آش، واحتلوا بعض الحصون والقرى المجاورة، وزحفت قوة كبيرة من النصارى بقيادة حاكم لبلة، على ثغر جبل طارق، ولكن أهل الثغر باغتوا النصارى وهزموهم، وقتل قائدهم وكثير منهم (840 هـ - 1436 م). ثم نشبت بعد ذلك بين المسلمين والنصارى موقعة أخرى على مقربة من كازورلا، أصيب الفريقان فيها بخسائر فادحة، وانتهت بنصر المسلمين، ولكن قائدهم الفارس ابن سراج وهو ولد الوزير السابق، سقط قتيلا فى الموقعة، فحزنت غرناطة لفقده، ,قد كان يخلب الشعب الغرناطى بظرفه وبارع فروسته (¬1). وهكذا استمر الصراع بضعة أعوام سجالا بين المسلمين والنصارى. ولما رأى النصارى كثرة خسائرهم وعقم محاولاتهم، لجأوا إلى السكينة حينا. وأرسل السلطان الأيسر فى أواخر عهده إلى مصر سفارة يرجو فيها سلطان مصر الإنجاد والغوث لما رآه من اشتداد وطأة النصارى على أراضى مملكته. وقد انتهت إلينا رواية مخطوطة مبتورة عن قصة هذه السفارة (¬2)، كما أشارت إليها التواريخ المصرية. وهذه أول مرة تتجه فيها مملكة غرناطة إلى الاستنجاد بمصر، وقد كانت حتى ذلك الحين تتجه دائماً إلى ملوك العدوة. وقد رأينا كيف لبث بنو مرين عصراً ملاذ ¬_______ (¬1) Lafuente Alcantra: ibid: V. III. p. 147-150. (¬2) عثر بهذه الأوراق المخطوطة صديقى الأستاذ الدكتور عبد العزيز الأهوانى فى بعض محفوظات مكتبة مدريد الوطنية؛ ونشر نصها ضمن بحث عنوانه "سفارة سياسية من غرناطة إلى القاهرة فى القرن التاسع الهجرى" وذلك بمجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة (المجلد السادس عشر. الجزء الأول ص 95 - 121).

غرناطة، وساعدها الأيمن حين الخطر الداهم. ولكن الدولة المرينية، كانت قد دخلت يومئذ فى دور انحلالها، وخبت قواها التى انسابت مرارا إلى شبه الجزيرة، ومن ثم فقد وجه سلطان غرناطة صريخه إلى مصر. وتضع الروايات المصرية تاريخ هذه السفارة فى رجب سنة 844 هـ، وهو يوافق شهر ديسمبر سنة 1440 م. ولكنها تضطرب فى ذكر اسم سلطان غرناطة، فيسميه المقريزى "الغالب بالله عبد الله بن محمد بن أبى الجيوش نصر"، ويسميه السخاوى "عبد الله ابن محمد بن نصر" (¬1). وفى رأينا أن المرجح أن هذه السفارة صدرت عن السلطان أبى عبد الله محمد بن يوسف أى السلطان الأيسر، لأنه حكم حتى أوائل سنة 1441 م. وهناك احتمال بأن يكون مرسلها هو خلفه الثائر عليه السلطان محمد بن نصر بن محمد الغنى بالله وهو المعروف بالأحنف حسبما نذكر بعد، ولعل خبر هذا الانقلاب لم يكن قد وصل إلى مصر حين وصل السفراء الغرناطيون إلى القاهرة، وقد كان وصولهم إليها فى نفس التاريخ الذى وقع فيه هذا الانقلاب بغرناطة، وهو مما يرجح كون السلطان الأيسر هو مرسل هذه السفارة. وعلى أى حال فقد وصل السفراء الغرناطيون وعددهم أربعة، كما يستفاد من الرواية المخطوطة المشار إليها، فى شهر رجب سنة 844 هـ، وقدموا كتاب سلطانهم إلى سلطان مصر، الظاهر جقمق، وفيه يطلب الإنجاد من مصر. وقد رد سلطان مصر بأنه سوف يبعث إلى "ابن عثمان" أعنى إلى سلطان قسطنطينية، بأن ينجد الأندلس، ولما أكد السفراء الغرناطيون أنهم يتوجهون بصريخهم إلى مصر، اعتذر السلطان بأن بُعد الشقة يحول دون إرسال الجند إلى الأندلس، فطلب السفراء عندئذ أن تساهم مصر فى المعونة بالمال والعدة، فوعدهم السلطان بذلك. وقدم السفراء الغرناطيون إلى السلطان هدية أندلسية من الفخار المالقى والأنجبار الغرناطى، ومن ثياب الخز الأندلسية، فاستحسنها السلطان، وفرقها بين مماليكه وحشمه وأهله. ولسنا نعرف شيئاً عن نتيجة هذه السفارة ولا عن موعد عودة السفراء الأندلسيين إلى غرناطة، لأن الرواية المخطوطة تنتهى بوصف رحلة هؤلاء السفراء إلى الحجاز مع ركب الحاج لقضاء الفريضة، وتقف عند وصف كاتبها للبقاع المقدسة، بيد أننا نرجح أنها لم تسفر عن أية نتائج عملية. ¬_______ (¬1) الأول فى كتاب "السلوك فى دول الملوك". والثانى فى كتاب "الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع".

ولكن حوادث غرناطة كانت عندئذ تنذر بتطورات جديدة مزعجة. ذلك أن السلطان الأيسر بالرغم من حسن بلائه ضد النصارى لم يحسن السيرة فى الداخل، ولم ينجح فى اجتذاب شعبه، وكان فريق من خصومه من السادة الفرسان يلوذ بحماية ملك قشتالة، وعلى رأسهم الأمير يوسف بن أحمد حفيد السلطان يوسف الثانى، وابن عم الأيسر، وهو المعروف فى التواريخ القشتالية "بابن إسماعيل" وذلك لأن نسبه ينتهى إلى السلطان أبى الوليد إسماعيل الذى تولى العرش سنة 712 هـ. وكان ثمة فريق آخر من الزعماء الناقمين فى ألمرية يناصر الأمير محمداً بن نصر بن محمد الغنى بالله وهو المعروف بالأحنف. وكان الأحنف قد نجح فى دخول غرناطة سراً مع نفر كبير من أنصاره، وأخذ يعمل على إذكاء الفتنة. فلما آنس سنوح الفرصة، ثار فى عصبته واستولى على الحمراء والحصون المجاورة لها، وقبض على الأيسر وآله وزجهم إلى السجن، ونادى بنفسه ملكا، وذلك فى أوائل سنة 1441 أو أوائل سنة 1442 م، حسبما تدل على ذلك وثيقة عربية، هى عبارة عن خطاب موجه منه إلى ملك قشتالة فى شهر ذى القعدة سنة 846 هـ (مارس 1443 م). يشير فيه إلى بعض المشاكل القائمة بين البلدين، ويطالب بإطلاق سراح سفيره المعتقل فى قشتالة (¬1). ولكن الفتنة لم تهدأ ولم تستقر الأمور. وكان يعارض ولاية الأحنف فريق قوى من الزعماء والشعب، ويتزعم هذا الفريق المعارض الوزير ابن عبد البر زعيم بنى سراج. وكان يقيم فى حصن مونتى فريو فى شمال غربى غرناطة، ويؤيد ولاية الأمير يوسف (ابن إسماعيل) المقيم فى بلاط قشتالة. ولم يمض قليل حتى سار هذا الأمير من إشبيلية إلى غرناطة ومعه سرية من الفرسان النصارى أمده بها ملك قشتالة. والظاهر أن ابن إسماعيل استطاع التغلب عندئذ على الأحنف، واحتل الحمراء، وحكم مدى أشهر قلائل. ولكن الأحنف عاد فتغلب عليه واسترد عرشه (أوائل سنة 1446 م). ورد السلطان الأحنف من جانبه بأن غزا أراضى قشتالة وهاجم قلعة بنى موريل وقلعة ابن سلامة، وقتل من فيهما من النصارى (1446 م) وسير الوقت نفسه جزءاً من قواته لمقاتلة خصمه ابن إسماعيل، وانتهز الأحنف فرصة الخلاف القائم يومئذ بين أراجون وقشتالة، فأرسل إلى ملك أراجون يعرض ¬_______ (¬1) نشر نص هذا الخطاب مع صورته الفتوغرافية فى كتاب نبذة العصر فى أخبار ملوك بنى نصر (المنشور بعناية معهد فرانكو بتطوان) ص 76 - 78.

محالفته ضد قشتالة، ونفذ هذا الحلف بأن غزا الأحنف أرض النصارى من ناحية أراضى مرسية، والتقى بالقشتاليين قرب جنجالة وهزمهم هزيمة شديدة (1450 م) ثم عادت قواته تكرر الإغارة والعيث فى أرض النصارى وتشغل قواتهم. وكان ابن إسماعيل يقيم أثناء ذلك فى حصن مونتى فريو، وقد أقرت بطاعته بعض البلاد والحصون المجاورة. وهكذا اتسع نطاق النضال، وعصفت الحرب الأهلية من جهة، وغزوات النصارى من جهة أخرى بقوى غرناطة. وكان السلطان الأحنف بالرغم من عزمه وقوة نفسه، يثير غضب الشعب بطغيانه وقسوته وعنفه، وكانت معظم الأسر الكبيرة تعمل لإسقاطه، لما لقيت من بطشه وعدوانه، وهكذا تهيأ الجو لانقلاب جديد. وهنا يحيق الغموض بولاية العرش الغرناطى ويختلف القول فى شأنها. والرواية الإسلامية مقلة فى هذا الشأن، ولم يصلنا منها عن حوادث هذه الفترة المضطربة من تاريخ غرناطة سوى القليل، ومن ثم فإن جل اعتمادنا هنا على الروايات القشتالية. وفى بعض هذه الروايات أن ملك قشتالة عاد بعد أن سوى خلافه مع أراجون إلى التدخل فى شئون غرناطة، فزود ابن إسماعيل ببعض قواته، وسار الأحنف لقتال منافسه، ونشبت بين الفريقين فى ظاهر غرناطة معركة شديدة، انتهت بهزيمة الأحنف وفراره؛ ودخل ابن إسماعيل غرناطة، وجلس على العرش، وكان ذلك فى سنة 1454 م. وفى بعض الروايات الأخرى أن السلطان الأحنف استمر فى الحكم حتى سنة 1458 م. ثم خلفه فى الحكم الأمير سعد بن محمد حفيد السلطان يوسف الثانى، واستمر فى الحكم أربعة أعوام. ثم عزل فى سنة 1462 م، وأعيد السلطان يوسف الخامس (ابن إسماعيل)، وحكم حتى أواخر سنة 1463 م (¬1). ْوكان السلطان ابن إسماعيل أميراً عاقلا حازما عادلا، محبا للإصلاح والأعمال الإنشائية، فعكف على ضبط الأمور وتوطيد الأمن، وإقامة الأبنية وتحصين القواعد والثغور. وكان فارسا بارعا يشترك بنفسه أحيانا فى مباريات الفروسة. ولأول عهده أرسل إلى ملك قشتالة خوان الثانى يؤكد طاعته، وساد السلم لفترة قصيرة بين المسلمين والنصارى. ولكن خوان الثانى توفى بعد أشهر قلائل، وخلفه ولده هنرى الرابع، وأبى ابن اسماعيل أن يعترف بحماية ملك قشتالة ¬_______ (¬1) Condé: ibid ; V. III. p. 201 & 202.: وراجع أيضاً Seco de Lucena: Una Rectificacion a la Historia de los ultimos Nasries (Al-Andalus Vol. XVII, Fasc. 1) .

الجديد، محاولا بذلك أن يكتسب الشعب إلى جانبه، وأن يوطد مركزه؛ وسير بعض قواته فى نفس الوقت فأغارت على الأراضى القشتالية، وأصر ملك قشتالة من جانبه على وجوب خضوع ملك غرناطة وطاعته، واعتزم أن يتابع الضغط على المملكة الإسلامية الصغيرة دون هوادة، فسار إلى أراضى غرناطة فى جيش ضخم وعاث فيها، وانتسف المروج والضياع، وقتل وسبى من أهلها جموعا كبيرة، ولقيه المسلمون فى قوات صغيرة أنزلت بجيشه خسائر كبيرة. وعاد القشتاليون فى العام التالى إلى عيثهم فى أراضى المسلمين، وغزا المسلمون من جانبهم منطقة جيّان وأوقعوا هنالك بالنصارى، واستمرت هذه المعارك كدى حين سجالا بين الفريقين. وكان النصارى قد استولوا فى تلك الفترة المضطربة من حياة المملكة الإسلامية، على عدة من القواعد والثغور الإسلامية، بعضها اختيارا بتنازل سلاطين غرناطة والبعض الآخر بالفتح. وكانت أعظم ضربة أصابت مملكة غرناطة فى عهد السلطان ابن إسماعيل، سقوط ثغر جبل طارق فى يد النصارى. ففى سنة 1462 م (867 هـ) سارت إليه قوة من القشتاليين بقيادة الدوق مدينا سيدونيا، واستولت عليه بطريق المفاجأة. وكان سقوط هذا الثغر المنيع فى يد النصارى، أول خطوة ناجعة فى سبيل قطع علائق مملكة غرناطة بعدوة المغرب، والحول دون قدوم الأمداد إليها من وراء البحر. على أن خطر الفورات الإسلامية القوية فيما وراء البحر، كان قد خبا منذ بعيد، وأخذت دولة بنى مرين القوية تجوز مرحلة الإنحلال والسقوط، وكان آخر ملوكهم السلطان عبد الحق، قد خلف أباه السلطان أبا سعيد المرينى فى سنة 823 هـ (1415 م). وفى عصره ساد الاضطراب والتفكك فى أنحاء المملكة، واستبد وزيره يحيى بن يحيى الوطّاسى بالدولة. وكان بنو وطّاس ينتمون إلى بطن من بطون بنى مرين، وينافسونهم فى طلب الرياسة والملك، فلما اشتدت وطأتهم على السلطان عبد الحق، بطش بهم وقتل معظم رؤسائهم، وفى مقدمتهم وزيره يحيى، ونجا البعض منهم وتفرقوا فى مختلف الأنحاء. وأسلم عبد الحق زمام دولته إلى اليهود فبغوا وعاثوا فى الدولة؛ وغضب الشعب على مليكه، واضطرمت الثورة، وعزل عبد الحق وقتل (869 هـ - 1464 م)، وانتهت بمصرعه دولة بنى مرين بعد أن عاشت زهاء مائتى عام؛ واستولى على تراث بنى مرين وملكهم، بنو وطّاس خصومهم القدماء، واستطاع زعيمهم محمد الشيخ أن يستولى على فاس فى سنة

876 هـ (1471 م) (¬1) وبذا قامت بالمغرب دولة فتية جديدة، بيد أنها لم تكن من المنعة والقوة بحيث تستطيع الإقدام على عبور البحر إلى الأندلس، فى سبيل الجهاد والنجدة، أسوة بما كانت تعمله دولة بنى مرين القوية الشامخة. وهكذا كانت الأمة الأندلسية تشعر بأنها أضحت فريدة، فى مواجهة عدوها القوى، دون حليف ولا ناصر. ولم ير سلطان غرناطة بعد أن أضناه النضال، بدأً من قبول ما فرضه عليه ملك قشتالة من الاعتراف بسلطانه، وتأدية الجزية اغتناماً للمهادنة والسلم. وكانت مملكة غرناطة تجوز فى هذه الآونة العصيبة ذاتها مرحلة من الاضطراب الداخلى، وكان من أهم أسباب هذا الاضطراب الخطر، اضطرام المنافسة بين العرش وبين الأسر النبيلة القوية، مثل بنى سراج وبنى أضحى وبنى الثغرى وغيرهم (¬2)، واضطرام المنافسة فيما بين هذه الأسر القوية ذاتها، وغلبة نفوذ النساء فى البلاط. وكان من أثر ذلك أن حدثت فى سنة 1462 م فتنة خطيرة من جراء محاولة السلطان ابن إسماعيل أن يقضى على نفوذ بنى سراج أقوى هذه الأسر وأعرقها. وهكذا كانت نذر التفكك تعمل عملها المشئوم (¬3). ومع أن غرناطة تمتعت بمزايا الهدنة الخادعة التى عقدتها مع قشتالة لمدى قصير، فقد كان من الواضح أن المملكة الإسلامية كانت تنحدر سراعاً إلى مصيرها الخطر، وتواجه شبح الإنحلال الأخير. ¬_______ (¬1) راجع الإستقصاء ج 2 ص 148 و 150 و 151 و 160. (¬2) بنو أضحى أو بنو ضحى من سادة غرناطة، وقد ذكرهم ابن الخطيب فى الإحاطة مع من ذكر من الأسر الغرناطية، ولكنا لم نعثر فى الرواية الإسلامية على أية إشارة تلقى ضوءاً على أصل بنى الثغرى وهم الذين يسمون فى الرواية النصرانية ( Zegris) . ويقول المستشرق الإسبانى جاينجوس مترجم نفح الطيب إن التسمية الفرنجية هى تحريف لكلمة الثغريين وهم الذين نرحوا من أراجون أو الثغر الأعلى (مملكة سرقسطة) إلى غرناطة بعد سقوطه فى يد النصارى ( Mohammedan Dynastics in Spain ; V. II. p. 541 & Alhambra ; Intr. p. 15 Note) . وقد كانت كلمة الثغرى فيما يبدو صفة أو لقبا لكثير من الأسر النازحة من الثغر الأعلى (أراجون) إلى مختلف أنحاء الأندلس ولا سيما منذ القرن السادس الهجرى. ولهذا نجد عدداً من الزعماء يحمل هذا اللقب (راجع الحلة السيراء لابن الأبار ص 217 و 218). على أن هذا التعليل لا يكشف لنا لقب هذه الأسرة الغرناطية الحقيقى وإنما ينصرف إلى الصفة والشهرة. وهنالك ما يدل على أن آل الثغرى كانوا من البربر ومن قبيلة غمارة؛ وقد كانت لهم كما سنرى مواقف مشهودة فى حرب غرناطة الأخيرة. (¬3) يرى المستشرق جاينجوس أن منافسات بنى سراج وبنى الثغرى، كانت من أهم أسباب التعجيل بسقوط غرناطة Gayangos ; ibid; V. I. p. 315

ولم يمض قليل على ذلك حتى وقع انقلاب جديد فى ولاية العرش الغرناطى. ذلك أن الأمير سعداً عاد فهاجم الحمراء مع أنصاره وانتزع العرش لنفسه (1463 م) وفر ابن إسماعيل وخصوم السلطان الجديد. وهنا تلقى الرواية الإسلامية بعض مصرى زار المغرب والأندلس فى هذه الفترة، هو عبد الباسط بن خليل الحنفى، دونها فى مؤلفه المسمى "كتاب الروض الباسم فى حوادث العمر والتراجم" (¬1)؛ وهو يحدثنا عن بعض أخبار الأندلس التى سمعها أثناء زيارته للمغرب ثم بعد ذلك أثناء زيارته لغرناطة (سنة 870 هـ)، ويروى لنا ما وقف عليه من الحوادث فى سنى 867 - 870 هـ، ثم يستطرد فيما بعد فيروى لنا ما سمعه من أخبار الأندلس حتى سنة 887 هـ (1482 م). ويقول لنا الرحالة المصرى إن سلطان الأندلس فى سنة 867 هـ (1462 - 1463 م) كان سعد بن محمد بن يوسف المستعين بالله المعروف بابن الأحمر، وإنه ما كاد يجلس على العرش حتى ثار عليه ولده أبو الحسن بتحريض بنى سراج وأخرجه عن غرناطة وامتلكها؛ فسار سعد إلى مالقة، وحكم أبو الحسن مكانه. وفى العام التالى أعنى سنة 868 هـ، لما اشتد ضغط النصارى على الأندلس، عاد أبو الحسن فعقد الصلح مع أبيه، وأطلق سراحه، واختار سعد الإقامة فى ألمرية فلم يعترض ولده، ولم يلبث أن توفى فى أواخر هذا العام، وعندئذ خلص العرش لأبى الحسن. ولكن حدثت بعد ذلك منازعات حول ولاية العرش بين أبى الحسن، وأخيه أبى الحجاج يوسف، ولم ينته هذا النزاع إلا بوفاة يوسف بعد ذلك بقليل. ويذكر لنا الرحالة أنه قابل السلطان أبا الحسن بحمراء غرناطة فى أواخر جمادى الأولى سنة 870 هـ (يناير سنة 1466 م) (¬2). ¬_______ (¬1) تحفظ نسخة مخطوطة وحيدة من هذا الكتاب بمكتبة الفاتيكان الرسولية برقمى 739 & 728 Borg.، وهى فى مجلدين، الأول يقع فى 259 ورقة كبيرة، والثانى فى 66 ورقة. وترد أخبار الأندلس مبعثرة فى حوليات المجلدين المتوالية. (¬2) نقل العلامة المستشرق الأستاذ G. della Vida ما ورد فى كتاب عبد الباسط عن أخبار الأندلس، ونشره مجتمعاً فى مقال عنوانه: Il Regno de Granata nel 1463-66 nei recordi di un viagiattero egiziano وذلك بمجلة الأندلس ( Al-Andalus Vol. I - 1933 - Fasc. II)

وهذه النبذ القليلة التى يقدمها إلينا الرحالة المصرى، تلقى ضوءاً حسناً على حوادث مملكة غرناطة فى تلك الفترة الدقيقة من حياتها. ... وفى حوادث مملكة غرناطة استولى محمد الفاتح عاهل الترك العثمانيين على قسطنطينية (سنة 1453 م) وانهار هذا الصرح المنيع، الذى كان يحمى أوربا النصرانية من جهة الشرق، من غزوات الإسلام، وانساب تيار الفتح العثمانى إلى جنوب شرقى أوربا، يكتسح فى طريقه كل مقاومة، وروعت أوربا النصرانية لهذا الخطر الجديد الذى يهدد حريتها وسلامها، وأخذت النزعة الصليبية تضطرم من جديد بقوة مضاعفة. وتردد هذا الصدى فى اسبانيا النصرانية، حيث كانت مملكة غرناطة ما تزال بالرغم من صغرها وضعفها، تمثل صولة الإسلام القديمة فى اسبانيا وقد تغدو فى الغرب نواة لهذا الخطر الإسلامى الداهم، الذى بدت طلائعه فى الشرق على يد الغزاة الترك، ومن ثم فقد كان طبيعياً أن تجيش اسبانيا النصرانية بفورة صليبية جديدة، وأن يذكى هذا الخطر الجديد، اهتمامها بالقضاء على مملكة غرناطة. وبالرغم مما كانت تجوزه مملكة غرناطة يومئذ من فتن داخلية، وما كان يفت فى قواها من عوامل الإنحلال السياسى والاجتماعى، فقد كانت تعتبر دائماً فى نظر اسبانيا النصرانية عدواً داخلياً له خطره. وكان أشد ما تخشاه اسبانيا النصرانية أن تغدو غرناطة قاعدة لفورة جديدة من الغزو الإسلامى تنساب من وراء البحر، كما حدث فى الحقبة الأخيرة غير مرة. والحقيقة أن حياة هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، قد استطالت أكثر مما كانت تقدره اسبانيا النصرانية. وكانت مملكة قشتالة فى تلك الآونة بالذات تشغل بمنازعاتها الداخلية، ومضى زهاء ربع قرن آخر قبل أن تتحد اسبانيا النصرانية فى مملكة قوية موحدة. وقد كانت خلال الأحداث التى توالت عليها فى تلك الفترة، تجيش دائماً بنزعتها الصليبية المأثورة. فلما تحققت الوحدة واستقرت الأحوال واجتمعت الموارد، أخذت فرصة القضاء الأخير على المملكة الإسلامية الصغيرة، تبدو لخصيمتها القوية اسبانيا النصرانية، فى الأفق قوية سانحة.

الفصل التاسع تاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون

الفصْل التاسِع تاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون ألفونسو العاشر ملك قشتالة. مشاريعه نحو مملكة غرناطة. الحرب الأهلية فى قشتالة. ولاية سانشو الباسل. الخلاف بينه وبين النبلاء. عقد الهدنة بين غرناطة وقشتالة. ولاية فرناندو الرابع ووصاية أمه. اضطراب الأحوال فى قشتالة. توطد مركز فرناندو. غزو القشتاليين لأراضى الأندلس. استيلاؤهم على جبل طارق. ولاية ألفونسو الحادى عشر والوصاية عليه. زحف القشتاليين على غرناطة. هزيمتهم ومقتل زعمائهم. طغيان ألفونسو وعيثه. عبور سلطان المغرب إلى الأندلس. هزيمة المسلمين. غزو القشتاليين للجزيرة الخضراء. حصار جبل طارق وفشل النصارى. ولاية بيدرو القاسى. طغيانه وعنفه. الحرب الأهلية فى قشتالة. انتصار الكونت هنرى وارتقاؤه للعرش. ازدهار قشتالة فى عهده. ولاية خوان الأول. الخلاف بينه وبين البرتغاليين. مصرعه وولاية ولده هنرى الثالث. توطد السلام والأمن فى عهده. ولاية خوان الثانى والوصاية عليه. ضعفه ولهوه. فرناندو الوصى يُدعى لولاية عرش أراجون. الصراع بين خوان والأشراف. التهادن بين قشتالة وغرناطة. ولاية هنرى الرابع. اضطراب الأحوال فى عصره. استيلاء القشتاليين على جبل طارق. بيدرو الثالث ملك أراجون. النزاع حول عرش نابل. افتتاحه لصقلية. ألفونسو الثالث. ضغط النبلاء عليه. خايمى الثانى. الاستقرار فى عهده. ألفونسو الرابع. طغيان النبلاء وامتيازاتهم. بيدرو الرابع. الحرب الأهلية بين العرش والنبلاء. استيلاء بيدرو على الجزائر الشرقية. استرداده لصقلية. ولاية خوان الأول. ولاية مرتين الأول. الصداقة بين أراجون وغرناطة. وفاة مرتين وجلوس فرناندو صاحب أنتقيرة على العرش. حكمه المطلق. ولده ألفونسو الخامس. افتتاحه لمملكة نابل. أخوه خوان يحكم أراجون. ازدهار مملكة نابل. ولاية خوان الثانى لعرش أراجون. الحرب الأهلية فى أراجون. الحرب بين أراجون وفرنسا. وفاته وولاية ولده فرناندو. عود إلى تاريخ قشتالة. النزاع حول العرش بعد وفاة هنرى الرابع. أخته الأميرة إيسابيلا. قصة زواجها من فرناندو الأرجونى. معارضة أخيها هنرى. موافقتها على هذا الزواج. شروط الزواج وعقده. إعلان ولاية إيسابيلا عقب وفاة أخيها. خوانا ابنة الملك هنرى. مشروع زواجها من ملك البرتغال. غزو ملك البرتغال لقشتالة. ارتداده وفشل مشروعه. ارتقاء فرناندو عرش أراجون. اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون. اسبانيا النصرانية الموحدة. فرناندو الكاثوليكى وصفاته وخلاله. إيسابيلا الكاثوليكية وصفاتها وخلالها. انحلال مملكة غرناطة. عزم فرناندو وايسابيلا على القضاء عليها. 1 - قشتالة لما توفى فرناندو الثالث ملك قشتالة فى شهر مايو سنة 1252 م، خلفه فى الملك ولده ألفونسو العاشر الملقب بالعالم أو الحكيم El Sabio لشغفه بالعلوم والآداب

حسبما أشرنا من قبل. وشغل ألفونسو بالشئون والإصلاحات الداخلية، ولاسيما الإصلاحات التشريعية. وكان المجتمع الإسبانى فى هذا العصر يشعر بحاجة شديدة إلى تشريعات تتفق مع تطوراته، وتقضى على ما كان يعتوره من شذوذ فى تكوينه، وتحدّ من طغيان الأشراف والسادة، وتلطّف من حدة التنافس والبغضاء بين الطوائف. وقد رأينا أن خايمى الفاتح ملك أراجون كان فى الوقت نفسه يضطلع فى مملكته بمثل هذا الدور الإصلاحى الهام. وكان ألفونسو تحدوه أطماع إمبراطورية ضخمة، إذ كان يطمح إلى تاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وذلك بسبب انحداره من أم ألمانية من آل هوهنشتاوفن هى ابنة الإمبراطور فيليب، وقد أنفق فى سبيل هذا المشروع الخيالى أموالا طائلة، واضطر لحاجته إلى المال أن يصدر نقداً زائفاً، وأن يتخذ إجراءات، كان لها أسوأ الأثر فى سير الأحوال الاقتصادية. وكان ألفونسو بالرغم من اشتغاله بالشئون الداخلية، يجرى على خطة أسلافه فى متابعة غزو الأراضى الإسلامية. وفى أوائل عهده استطاع أن ينتزع مدينة قادس من سكانها المسلمين، بمعاونة حليفه ابن الأحمر صاحب غرناطة. بيد أن أمير غرناطة محمداً الفقيه، لما شعر بعد ذلك بما يدبره ملك قشتالة من خطط للقضاء على المملكة الإسلامية، عبر البحر إلى المغرب يطلب الغوث والعون، من السلطان أبى يوسف يعقوب المنصور. وقد رأينا فيما تقدم كيف استجاب المنصور إلى صريخ الأندلس، وعبر البحر إلى اسبانيا غير مرة وأثخن فى جيوش قشتالة. وفى أواخر عهد ألفونسو العاشر ساءت الأحوال فى قشتالة، وثار الأشراف على العرش، لمحاولته أن يقضى على سلطانهم وامتيازاتهم. ثم خرج على ألفونسو ولده سانشو مناديا بحقه فى العرش، وكونه أولى من ولد أخيه المتوفى المرشح لولاية العهد. واضطرمت فى قشتالة حرب أهلية خسر فيها ألفونسو عرشه، والتجأ إلى السلطان أبى يوسف فأمده بالمال والجند حسبما فصلنا ذلك فى موضعه. واستمرت الحرب الأهلية بين ألفونسو وولده سانشو، حتى توفى ألفونسو فى سنة 1284 م فى إشبيلية، منبوذاً مهزوما، وبذلك انتهت الحرب الأهلية فى قشتالة. واستمر ولده سانشو الملقب بالباسل El Bravo على عرش قشتالة مدى حين بلا منازع، ولكنه لم يلبث أن اختلف مع النبلاء الذين آزروه ضد أبيه من قبل، ومع إخوته الأصاغر، وكذلك مع أبناء أخيه الأكبر فرناندو الذى توفى قبل وفاة أبيه، وثارت حول عرش قشتالة من جديد منازعات واضطرابات لا نهاية

لها. وعمد سانشو إلى الدس والغيلة للتخلص من خصومه، وأبدى فى مطاردتهم قسوة متناهية. وفى تلك الفترة التى اضطربت فيها شئون قشتالة، آثر سانشو أن يستجيب إلى عقد السلم مع مملكة غرناطة، وكان ابن الأحمر من جانبه يتوق إلى عقد مثل هذه الهدنة مع قشتالة، لما كان يساوره من جزع من جراء تدخل سلطان المغرب أبى يوسف المنصور فى شئون الأندلس، بصورة خشى معها على سلطانه حسبما فصلنا ذلك فى موضعه، وعلى ذلك تمتعت غرناطة ببضعة أعوام من السكينة والسلام. ولما توفى سانشو فى سنة 1296 م، خلفه ولده فرناندو الرابع طفلا فى السادسة من عمره، وتولت الوصاية عليه أمه ماريا دى مولينا، وبالرغم مما أبدته أمه من الشجاعة فى الذود عن العرش وعن الملك الطفل، ومن براعة فى تصريف الشئون، فقد كان عهده عهد اضطراب وفوضى، وعاد النبلاء والمتنافسون فى طلب العرش إلى تدبير الثورات المتعاقبة، واضطر الملك الطفل وأمه إلى الفرار من إشبيلية، والالتجاء إلى حماية أهل آبلة الذين آزروه واستقبلوه بترحاب وحماسة. ولما بلغ فرناندو أشده، استطاع أن يعود إلى عرشه بمؤازرة أصدقائه وأنصاره، ولكنه أبدى قصوراً وعجزاً فى تسيير الشئون، كما أبدى عقوقاً ونكراناً لأمه، التى كفلته وحمته فى طفولته. وفى عهد فرناندو ساءت العلائق بين قشتالة ومملكة غرناطة، وعاد النصارى إلى غزو أراضى المسلمين. وكان من أعظم الحوادث فى هذا العهد، استيلاء القشتاليين على ثغر جبل طارق، وذلك فى سنة 709 هـ (1310 م). ولما توفى فرناندو خلفه على العرش ولده الطفل ألفونسو (الحادى عشر)، ولما يبلغ الحول من عمره، وتولى الوصاية عليه الدون بيدرو والدون خوان وهما زعيما النبلاء. وبالرغم مما كان يسود قشتالة يومئذ من ضروب الاضطراب والفوضى، فقد اعتزم رهط الأمراء والنبلاء المضى فى غزو الأراضى الإسلامية، وعاث الجند القشتاليون فى بسائط غرناطة، واستولوا على عدة من الحصون، وهزموا المسلمين فى موقعة شديدة (1317 م). وكان ذلك فى بداية عصر السلطان أبى الوليد إسماعيل. وبعد ذلك بعامين زحف الجند القشتاليون، بقيادة الدون بيدرو والدون خوان الوصيين وعدد كبير من الأمراء، على العاصمة الأندلسية ذاتها، والتقى المسلمون والنصارى على مقربة من غرناطة، وكانت موقعة هائلة كتب فيها النصر للمسلمين وقتل الدون بيدرو والدون خوان ومعظم الأمراء القشتاليين (1319 م).

وانتهز المسلمون هذه الفرصة، فقاموا بعدة غزوات ناجحة فى أراضى قشتالة. واستولوا على بعض القواعد والحصون حسبما فصلنا ذلك فى موضعه. وفى خلال ذلك تفاقمت الأمور فى قشتالة واشتد النزاع بين النبلاء، واستمرت هذه الحال طوال عهد الوصاية. ولما بلغ الملك الطفل أشده، وتولى أمور الملك بنفسه، أخذت تتكشف صفاته المثيرة شيئاً فشيئاً. وبالرغم مما أبداه من مقدرة فى ضبط المملكة وتسيير الشئون، وما قام به من الإصلاحات الإدارية والقضائية، لتوطيد النظم التى يقوم عليها المجتمع القشتالى، فقد كان يلجأ إلى أشد أساليب العنف والقمع، وكان القتل وسيلته المثلى لحماية العرش وصون الدولة، وقد زهق على يديه كثير من الأمراء والنبلاء والزعماء، دون إجراءات ودون محاكمة، حتى لُقِّب من أجل ذلك "بالمنتقم". وكان البلاط القشتالى فى عهده مرتعا للفجور والإثم. وكانت الملكة الشرعية الأميرة ماريا البرتغالية تعيش منبوذة فى عزلة مطبقة، وتسيطر على القصر والدولة خليلة الملك إليونورا دى كزمان، وقد رزق منها ألفونسو بعدة أبناء غير شرعيين. وهكذا كانت قشتالة تجوز يومئذ عهداً من الإرهاب، والانحلال السياسى والاجتماعى. ومع ذلك فقد كان ألفونسو الحادى عشر ملكا قوى البأس والعزم. وكان يضطرم نحو المملكة الإسلامية بمشاريع خطرة. وكانت غرناطة شعوراً منها بالخطر الذى يحدق بها. قد استغاثت بجارتها القوية وراء البحر مرة أخرى، وبعث السلطان أبو الحسن المرينى جيوشه لنجدة الأندلس، واجتمعت جيوش الممالك النصرانية، قشتالة وأراجون للقاء الجيوش المغربية وهزمتها فى موقعة دموية فى سنة 1339 م؛ فاعتزم السلطان أبو الحسن أن يثأر لنفسه من تلك الهزيمة، وجاز البحر بنفسه إلى الأندلس فى أسطول وجيش عظيمين، واجتمعت الجيوش النصرانية بقيادة ألفونسو الحادى عشر، والتقت بجيوش الأندلس والمغرب على ضفاف نهر سالادو فى الجزيرة الخضراء، ونشبت بين الفريقين موقعة حاسمة هزم فيها المسلمون شر هزيمة وسقط معسكر سلطان المغرب ومخيمه فى يد النصارى حسبما فصلنا فى موضعه، وكان ذلك فى 30 أكتوبر سنة 1340 م (جمادى الأولى سنة 741 هـ)، واستولى النصارى على طريف والجزيرة الخضراء. واستمرت غزوات النصارى لأراضى غرناطة بضعة أعوام أخرى. وفى سنة

1349 م زحف القشتاليون على سهول الجزيرة الخضراء. وكان ثغر جبل طارق الذى استولى عليه النصارى مدى حين قد عاد إلى المسلمين، واعتزم ملك قشتالة أن يحاول استرداده، فضرب حوله الحصار الصارم، واستمر الحصار زهاء عام، والمسلمون داخل الصخرة صامدين، وملك غرناطة يرابط بجيشه من وراء النصارى. ثم فشا الوباء فى جيش النصارى، وهلك منه عدد جم، وكان ملك قشتالة فى مقدمة الضحايا، فاضطر النصارى إلى رفع الحصار، وأنقذ جبل طارق بما يشبه المعجزة (سنة 1350 م). وهكذا توفى ألفونسو الحادى عشر ملك قشتالة فى إبان قوته ومجده، ولما يبلغ الثامنة والثلاثين من عمره، فخلفه ولده بيدرو الثانى الملقب بالقاسى الذى تعرِّفه الرواية الإسلامية "بدون بطره". وبيدرو شهير فى الرواية الإسلامية أولا لأنه هو الملك الذى أوفد إليه المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون سفيراً من قبل ملك غرناطة، ووصف لنا فى التعريف سفارته لديه وإقامته فى قشتالة (¬1). وثانيا لأنه معاصر للوزير ابن الخطيب مؤرخ غرناطة، وقد تناول أخباره فى تاريخه بتفصيل ووضوح. ولجأ بيدرو الثانى إلى نفس الأساليب الدموية التى لجأ إليها أبوه فى توطيد سلطانه، فأسرف فى قتل خصومه، وبسط على قشتالة حكم إرهاب مروع، وقيل إنه لجأ إلى قتل زوجه الشرعية بلانش دى بوربون بالسم ليتزوج من خليلته، وعهد بإدارة حكومته إلى رهط من اليهود ارتيابا منه فى أبناء وطنه، وأنشأ له حرساً من المدجَّنين. ونشب الخلاف بينه وبين إخوته غير الشرعيين أبناء إلينورا دى كزمان، ولاسيما كبيرهم الكونت هنرى دى تراستمارا. وانحاز الأشراف إليهم، واضطرمت قشتالة مدى أعوام بثورات داخلية، ثم استحالت إلى حرب أهلية ضروس، واستطاع الكونت هنرى أن يحصل على معاونة ملك فرنسا، وأن ينتزع لنفسه عرش قشتالة، وفر بيدرو واستغاث بالأمير أدوارد ولى عهد انجلترا المعروف بالأمير الأسود، فأمده بجنده واستطاع أن يسترد عرشه مدى حين. ولكن أخاه الكونت هنرى عاد إلى محاربته فهزم وقتل فى موقعة مونتيل فى سنة 1368 م. وقد عرضنا إلى هذه الحوادث بالتفصيل فى حديثنا عن عصر السلطان محمد الغنى بالله. وقد كانت تربطه ببيدرو الثانى معاهدة صداقة وتحالف، وكانت ¬_______ (¬1) راجع كتاب العبر ج 7 ص 306 وما بعدها.

غرناطة إلى جانبه فى محنته، وكان لهذه الحوادث صدى خاص فى الرواية الإسلامية عرض إليه ابن الخطيب فى كتابه "الإحاطة" على نحو ما قدمنا. وعلى أثر موقعة مونتيل استقر الكونت هنرى دى تراستمارا مكان أخيه على العرش (1368 م)، وبدأ بذلك ثبت جديد من ملوك قشتالة. وفى عهده استتب الهدوء والنظام فى قشتالة، وأقبل الأشراف على تأييده، وكان للمدن التى آزرته فى جنوده لنيل العرش امتيازات خاصة، وكذلك ازدهر البرلمان القشتالى (الكورتيس) واشتد ساعده، ولكنه لم يوفق إلى الحد من طغيان العرش. وأبدى الكونت هنرى فى تسيير الشئون الداخلية مقدرة، وأصاب نجاحا يذكر، واستطاع فى ميدان الشئون الخارجية أن يرغم البرتغال على عقد الصلح، وأن يهزم حملة بحرية فى مياه لاروشل. وكان حكمه على العموم فترة رخاء وأمن. وفى عهده انتهزت مملكة غرناطة فرصة اشتغال قشتالة بشئونها الداخلية فنظمت قواها، وأغارت غير مرة على أراضى قشتالة فى غزوات ناجحة، حسبما أشرنا إلى ذلك فى موضعه. ولما توفى الكونت هنرى فى سنة 1379 م، خلفه على العرش ولده خوان (يوحنا) الأول. وكان الأمير جون أوف جونت ولد إدوارد الثالث ملك انجلترا قد تزوج كبرى بنات بيدرو الثانى، وأخذ يطالب باسمها بعرش قشتالة، وكادت تضطرم من أجل ذلك حرب أهلية جديدة، ولكن خوان الأول استطاع أن يجتنب هذا الخطر بالتفاهم مع الأمير جون، والاتفاق معه على أن يقترن ولده بالأميرة كونستانس كبرى بنات الأمير الإنجليزى، وتم بذلك الزواج اتحاد فرعى ألفونسو الحادى عشر، وزوال خطر الحرب الأهلية المترتب على خصومتهما حول العرش، وحاول خوان الأول من جهة أخرى أن يطالب بعرش البرتغال عقب وفاة ملكها فرناندو سنة 1383 م باسم زوجه الأميرة بياتريس، وهى الإبنة الوحيدة للملك المتوفى، وثارت من جراء ذلك بين قشتالة والبرتغال حرب هزم فيها القشتاليون فى موقعة "الخبرونا" فى سنة 1385 م، واضطر ملك قشتالة أن ينزل عن دعواه. وتوفى خوان الأول قتيلا على أثر سقوطه عن جواده (أكتوبر سنة 1390 م) فخلفه على عرش قشتالة ولده هنرى (إنريكى) الثالث حدثا. وكان سقيما عليلا، ولم يطل أمد حكمه حينما بلغ الرشد سوى أعوام قلائل. بيد أنه استطاع فى حكمه القصير أن يوطد النظام والأمن داخل مملكته، وأن يقضى على شغب الأشراف،

وأن يسترد منهم كل الإقطاعات التى انتزعوها من العرش إبان طفولته. وفى عهده نشبت الحرب حيناً بين المسلمين والنصارى، وانتهت بعقد الهدنة بين الفريقين، ثم توفى شابا فى أواخر سنة 1406 م. فخلفه ولده خوان الثانى طفلا فى نحو الثانية من عمره، ووضع تحت وصاية أمه الملكة كونستانس الإنجليزية، وعمه الأمير فرناندو الذى يعرف بفرناندو صاحب أنتقيرة، نظراً لاستيلائه على هذه القاعدة من المسلمين فى سنة 1412 م. وطال حكم خوان الثانى زهاء نصف قرن، وكان أميراً ضعيف الرأى والعزم سيئ الخلال، يعشق اللهو وينفق أوقاته فى حفلات الصيد والفروسة وقرض الشعر، وكان عمه الوصى فرناندو فى الأعوام الأولى من طفولته، يقبض على زمام الأمور بحزم وبصيرة. بيد أنه دعى منذ سنة 1412 م إلى تبوىء عرش أراجون بقرار من الكورتيس، فترك قشتالة لمصيرها. وما كاد خوان الثانى يبلغ أشده، حتى بدأ النضال بينه وبين الأشراف من أجل السلطة وفرض الضرائب، وشغلت قشتالة مدى حين بأمر هذا النضال. وفوض الملك شئون الدولة إلى وزيره وصفيه ألبارو دى لونا، فاستأثر بكل سلطة، واستطاع أن يوطد نفوذ العرش، وأن يحقق النظام والأمن. فلما اقترن خوان بزوجه الثانية إيسابيلا البرتغالية، عملت على تحريره من نفوذ وزيره القوى، وما زالت به حتى أسقطه وأقصاه. ويقال إن هذا التصرف الغادر نغص عليه حياته فى أعوامه الأخيرة. وتوفى خوان الثانى فى يوليه سنة 1454 م فى بلد الوليد، وقد رزق من زواجه الثانى بابنته إيسابيلا وهى التى تبوأت العرش فيما بعد، وعرفت بإيسابيلا الكاثوليكية، وكان لها أعظم شأن فى تاريخ اسبانيا النصرانية. وفى معظم عصره ساد نوع من السلام والتهادن بين غرناطة وقشتالة، وكانت حفلات الفروسية الأندلسية الشهيرة تجمع بين الأشراف والسادة من الفريقين، فى جو من التعاطف والمودة. ولكن غرناطة ما لبثت أن شغلت بثوراتها الداخلية التى تعاقبت حول العرش فى عصر السلطان الأيسر وخلفائه. وكان بلاط قشتالة يلعب عندئذ دوره المأثور، فى إذكاء عوامل الخلاف بين المتنافسين من أمراء غرناطة، وتغليب البعض على الآخر، والتمهيد بذلك لإضعاف مملكة غرناطة والقضاء عليها. وخلف خوان الثانى ولده هنرى (إنريكى) الرابع، وكان كأبيه أميرا ضعيفاً

2 - أراجون

منحل الخلال، حتى أنه لقب "بالعاجز". وكان عصره عصر ركود وفوضى، ومع ذلك فإن قشتالة لم تقعد فى عهده عن المضى فى غزو الأراضى الإسلامية، وإرهاق مملكة غرناطة، التى اضطربت شئونها وسادتها الخلافات الداخلية، واضطر ملك غرناطة السلطان ابن إسماعيل أن يتعهد بتأدية الجزية لقشتالة. وكان من أعظم الحوادث فى عصر هنرى الرابع استيلاء القشتاليين نهائيا على ثغر جبل طارق (1462 م) حسبما ذكرنا فى موضعه. وتوفى الملك هنرى فى سنة 1474 م. وعلى أثر وفاته عارض النبلاء فى جلوس ابنته الوحيدة خوانا على العرش لما يحيط بنسبتها إليه من الريب. وهنا تقدمت أخته الأميرة إيسابيلا مطالبة بعرش قشتالة. وكانت قد تزوجت فى سنة 1469 م من ابن عمها الأمير فرناندو الأرجونى، وذلك والرغم من معارضة أخيها الملك هنرى، وكان لهذا الزواج أثر بعيد المدى فى سير التاريخ الإسبانى حسبما نفصل بعد. 2 - أراجون لما توفى خايمى الأول أو خايمى الفاتح ملك أراجون فى سنة 1274 م، خلفه على العرش ولده بيدرو الثالث. وتبدأ منذ عهد هذا الملك صفحة جديدة فى تاريخ أراجون، حيث يمتد سلطان العرش الأرجونى واسبانيا النصرانية فيما وراء البحر، إلى صقلية وجنوبى إيطاليا (مملكة نابل). وذلك أن بيدرو الثالث تزوج الأميرة كونستانس إبنة مانفرد دوق بنفونتوم وصاحب مملكة نابل وصقلية باعتباره سليل بيت هوهنشتاوفن الإمبراطورى. وكان البابا يريد التخلص من سلطان أولئك الأمراء الألمان، فدعا شارل دانجو ولد ملك فرنسا إلى اعتلاء عرش نابل، فاستجاب شارل إلى الدعوة وغزا نابل وقتل صاحبها مانفرد. وهنا تقدم بيدرو الثالث مطالبا بعرش نابل باسم زوجه، ونشب بين الحزب الأرجونى وبين حزب شارل دانجو نزاع طويل الأمد. وفى النهاية استطاع بيدرو أن يغزو صقلية وأن ينتزعها من يد الفرنسيين، وأسبغ عليه هذا الفتح لقب "الأكبر". ولما حاول الفرنسيون غزو قطلونية تأييداً لشارل دانجو، ردهم بيبدرو وأخفقت المحاولة. وكان افتتاح صقلية أول خطوة فى بسط السيادة الإسبانية على جنوبى إيطاليا فيما بعد. ولما توفى بيدرو الثالث فى سنة 1285 م، كانت سيادة أراجون تمتد فضلا عن صقلية إلى بعض أنحاء بروفانس فى جنوبى فرنسا.

وخلفه على العرش ولده ألفونسو الثالث، وكان ضعيفاً سيىء الخلال، ولم يطل أمد حكمه سوى بضعة أعوام. وفى عهده اشتدت وطأة النبلاء وكثرت مطالبهم، وعجز ألفونسو عن مقاومتهم، وكان تخاذل العرش أمام طغيان الأشراف على هذا النحو، سبباً فى اضطراب الأمور فى مملكة أراجون. وتوفى ألفونسو الثالث سنة 1291 م دون عقب لأنه لم يتزوج، فخلفه على عرش أراجون أخوه الأصغر خايمى الثانى، وكان يتولى عرش صقلية منذ وفاة أبيه فى سنة 1285 م حتى وفاة أخيه الأكبر. ورأى خايمى أن يوفق بين أراجون وبين مملكة نابل، فتزوج من بلانكا ابنة شارل دانجو، وساد السلم حينا بين أراجون وفرنسا. واستطال حكم خايمى حتى سنة 1327 م، وكان عهده إصلاح واستقرار. ثم خلفه فى الملك ولده ألفونسو الرابع، فحكم زهاء تسعة أعوام، وكان أميراً ضعيفاً. وفى عهده زاد طغيان النبلاء ولاسيما فى أراجون وبلنسية، واشتد إرهاقهم للعرش حتى انتهوا بإرغام ألفونسو على إصدار المرسوم المعروف بمرسوم الإتحاد، وفيه يعترف العرش لهم بأنه لا تجوز معاقبتهم فيما يتعلق بالنفس أو المال إلا بحكم القانون، وأن يكون لهم حق اختيار القاضى الأكبر الذى يصدر أحكامه مستقلا عن مصادقة العرش، وأن يقوموا بالدفاع المسلح عن أنفسهم حيثما شعروا بما يهددهم. وكان فى صدور هذا المرسوم افتئات لم يسبق له مثيل على سلطات العرش. وكان بيدرو الرابع الذى خلف أباه ألفونسو على العرش سنة 1336 م، أميراً قوياً وافر العزم. وكان يتوق إلى كبح جماح أولئك النبلاء الذين طال طغيانهم، وإلغاء ذلك المرسوم الذى أرغم أبوه على إصداره. ولكن النبلاء تمسكوا بموقفهم، وتأهبوا للدفاع عن امتيازاتهم، واضطرمت أراجون بحرب أهلية بين العرش والنبلاء وانتهت بفوز بيدرو الرابع على النبلاء الخوارج فى موقعة آبلة سنة 1348 م. وأمعن بيدرو بعد ذلك فى مطاردة خصومه وقتلهم، وأرغم النبلاء على التنازل عن مرسوم الإتحاد، وقام بنفسه بتمزيقه أمام مجلس النواب فى سرقسطة، وبلغ من تلفهه على تمزيقه أن جرح يده بخنجره، وصاح عندئذ بأن الدم الملكى حقيق بأن يجرى فى سبيل إبطال مثل هذه الوثيقة، وعرف من جراء ذلك "بصاحب الخنجر". على أن بيدرو كان حكيما فى ظفره، فقد ترك للنبلاء الحق فى أن يحاكموا بمقتضى القانون، وأن تكفل حمايتهم من الأحكام التعسفية، وأكد احترامه لاستقلال القضاء، وترك للمدن حق الإعراب عن رأيها. وفى العام التالى (1349 م)

استطاع بيدرو الرابع أن ينتزع الجزائر الشرقية (البليار) من ابن عمه خايمى الثالث، بعد أن هزم وقتل فى موقعة دموية، وأعيدت الجزائر الشرقية إلى مملكة أراجون مرة أخرى، وكان خايمى الفاتح قد تركها بمقتضى وصيته لخايمى أحد أولاده، وقامت بها مملكة مستقلة مدى حين. ونشبت الخصومة بعد ذلك بين بيدرو ملك أراجون، وبيدرو القاسى ملك قشتالة، وانحاز ملك أراجون إلى الكونت هنرى دى تراستمارا المطالب بعرش قشتالة، واستمر يعاونه بالمال والجند، حتى انتهى أخيراً بالتغلب على أخيه بيدرو القاسى، والجلوس على عرش قشتالة سنة 1369 م حسبما فصلنا من قبل. وظفر بيدرو كذلك باسترداد صقلية فى سنة 1377 م، ولكنه منح حكمها لابنه مرتين، وزوج بيدرو ابنته إلينور لخوان الأول ملك قشتالة، فكان ذلك فيما بعد سبباً فى انتقال عرش أراجون إلى بيت قشتالة الملكى حينما انقرض عقبه من الذكور. وتوفى بيدرو سنة 1387 م، وأراجون أوفر ما تكون قوة، واستقراراً فخلفه ولده خوان (يوحنا) الأول. وكان أميراً ضعيف الخلال والعزم، يعشق الأدب والشعر وتضجره مهام الملك، ولم يطل أمد حكمه سوى بضعة أعوام، إذ توفى فى حادث سقوطه عن جواده سنة 1395 م. فخلفه أخوه الأصغر مرتين الأول. وكان حكمه عهد هدوء واستقرار. ومنح عرش صقلية لولده مرتين. وفى عهده سادت علائق المودة والصداقة بين أراجون وغرناطة، وعقدت بين المملكتين معاهدة صداقة وتحالف (سنة 1405 م). ولما توفى مرتين فى سنة 1410 م دون عقب، ثارت حول وراثة عرش أراجون مشكلة دقيقة، وتولى مجلس الكورتيس (البرلمان) حكم البلاد، واستمر مدى عامين فى مباحثات ومناقشات مستمرة حول مسألة العرش، وفى النهاية أصدر قراره باختيار الأمير فرناندو القشتالى ولد خوان الأول ملك قشتالة، والمعروف بفرناندو صاحب أنتقيرة، للجلوس على عرش أراجون، وذلك باعتباره ولد الملكة إلينور ابنة بيدرو الرابع ملك أراجون وأخت الملك مرتين، فلبى فرناندو الدعوة وتخلى عن وصايته لابن أخيه خوان الثانى ملك قشتالة، وجلس على عرش أراجون سنة 1412 م، وبدأ بذلك ثبت جديد من ملوك أراجون. ولم يطل أمد حكم الملك فرناندو سوى أربعة أعوام، وكان أميراً قوى الخلال ذا مقدرة وفطنة فى تصريف الشئون، ولكنه كان يضطرم بروح السلطان

المطلق التى ألفها فى قشتالة، ويتبرم بالحدود والقيود التى وضعها الدستور الأرجونى للحد من سلطان العرش. والواقع أن الحريات الدستورية كانت فى أراجون، أرسخ وأكثر نضوجا منها فى قشتالة، وكان ذلك يرجع إلى طبيعة الشعب الأرجونى، وشدة مراسه، وتعلقه بمبادىء الحرية، وهى صفات لم تكن تروق فى تلك العصور لملوكية رجعية، تحرص على سلطانها المطلق. ولما توفى فرناندو الأول فى سة 1416 م، خلفه على عرش أراجون، ولده ألفونسو الخامس المعروف بألفونسو " الشهم " El Magnanimo، على أن ْألفونسو الخامس لا يكاد يمثل فى تاريخ أراجون، وإنما يمثل بالأخص فى تاريخ إيطاليا ومملكة نابل. وقد ورث ألفونسو عرش صقلية مع عرش أراجون، واستطاع بعد حوادث وخطوب جمة أن يفتتح مملكة نابل وأن يجلس على عرشها (1442 م). واستقر ألفونسو فى نابل، وترك حكم أراجون والأراضى التابعة لها لأخيه خوان (يوحنا)، يحكمها باسمه ومن قبله. وبسط ألفونسو على نابل وصقلية حكمه الفخم، وسطع بلاطه بين القصور الإيطالية، وكان نصيراً للعلوم والآداب والفنون، يأخذ فى تعضيدها بقسط وافر، شأن معاصريه من الأمراء والبابوات الذين ساهموا فى بعث النهضة، وسطعوا فى عصر الإحياء (الرينصانص). ولما توفى فى سنة 1458 م، دون عقب شرعى، ترك مملكة نابل لولده غير الشرعى فرناندو، وجلس أخوه خوان على عرش أراجون باسم خوان الثانى. وكان خوان الثانى أميراً وافر العزم والمقدرة، ولكنه كان فى الوقت نفسه طاغية خطر الأهواء والأساليب. وشغل خوان عن شئون أراجون الداخلية، بكفاحه فى سبيل الحصول على عرش نافارا، باعتباره زوجا ووريثا لملكتها بلانش، وكذلك شغلته ثورة ولده الأمير كارلوس المعروف بأمير فيانا مدى حين، وكان ينافس أباه فى الحصول على عرش نافارا ويرى أنه أحق منه بميراث أمه. وحاول خوان بتحريض زوجه الثانية جنه هنريكيز أن يحرم ولده من نيابة العرش، فثار إلى جانبه فريق من الشعب الأرجونى، ونشبت بين الأب والإبن عدة وقائع انتهت بوفاة الإبن فى سنة 1461 م. وقيل إنه توفى مسموماً بيد زوج أبيه. وكذلك ثار الشعب القطلونى معلناً استقلاله. وشغل خوان بضعة أعوام حتى استطاع أن يخمد هذه الثورة الخطيرة (1472 م). وكذلك نشبت الحرب بين أراجون وفرنسا، من أجل ولاية روسيّون الفرنسية، وهزم خوان غير مرة. على أن

3 - اسبانيا النصرانية المتحدة

أعظم مهمة شغلت خوان فى أواخر عهده، هى السعى إلى تزويج ولده فرناندو من زوجه الثانية، بالأميرة (إيسابيل) القشتالية (¬1)، وقد كلل سعيه بالنجاح فى تحقيق هذا المشروع الخطير الذى كان إيذاناً باتحاد أراجون وقشتالة فى مملكة اسبانية موحدة. واستطال حكم خوان الثانى حتى سنة 1479 م، وقد بلغ الثمانين من عمره وكف بصره، فترك العرش لولده فرناندو، الذى قدر له أن يضطلع مع زوجه إيسابيلا، بأعظم دور فى العمل لإنشاء اسبانيا الكبرى. 3 - اسبانيا النصرانية المتحدة لما توفى هنرى الرابع ملك قشتالة فى سنة 1474 م، ثارت حول وراثة العرش مشكلة دقيقة. ذلك أن الملك هنرى لم يترك سوى ابنة طفلة هى خوانا (جنه). وكانت مع ذلك يشك فى نسبتها إليه، وتنسب أبوتها إلى صديقه وصفيه الدوق بلتران دى لاكويفا، ومن ثم كان اسمها الذائع خوانا بلترانيخا. وكان يناصرها فريق صغير من النبلاء. بيد أن الأميرة إيسابيلا أخت الملك هنرى، كانت بالعكس تتمتع بعطف الشعب القشتالى، ويناصر وراثتها للعرش فريق كبير من النبلاء، وكان أخوها هنرى قد اعترف بحقها فى العرش، وأيدها الكورتيس (مجلس النواب) فى ذلك، عقب وفاة أخيها ألفونسو فى سنة 1468 م، ومن ثم فقد كان حقها فى وراثة العرش أمراً واضحاً. وكانت الملكة إيسابيلا قد تزوجت قبل وفاة أخيها ببضعة أعوام، بابن عمها الأمير فرناندو الأرجونى ولد الملك خوان الثانى. ولهذا الزواج الذى مهد لتوحيد اسبانيا النصرانية قصة طريفة. فقد كانت الأميرة إيسابيلا مذ كبرت مطمح الأنظار لما يؤهلها لعرش قشتالة من الاحتمالات القوية. وكان خوان الثانى ملك أراجون يتوق إلى خطبتها لابنه فرناندو لما يربط أسرتى قشتالة وأراجون من أواصر القربى الوثيقة، ويقرّب سبل الإتحاد بين الفريقين. وكان فرناندو أول المتقدمين لخطبة الأميرة، ولكن أخاها الملك هنرى لم يكن راضياً عن ترشيحه؛ وكان ينافسه فى خطبتها عدة من الأمراء والنبلاء منهم كبير فرسان قلعة رباح، وقد وافق أخوها ¬_______ (¬1) هى فى التواريخ القشتالية "دونيا إيسابيل" أى السيدة إيسابيل Dona Isabel، أو Ysabel. ولكنا نؤثر تسميتها بإيسابيلا تمشياً مع التواريخ الغربية.

صورة: الملكة إيسابيلا الكاثوليكية عن الصورة المحفوظة بمتحف سان تلمو بإشبيلية.

الملك هنرى على زواجه منها، ولكنه توفى قبل إتمامه؛ وكذلك خطبها ألفونسو ملك البرتغال وأمراء آخرون، ولكن إيسابيلا رغبت عنهم جميعا، وآثرت بعد إمعان النظر أن تستجيب إلى دعوة ابن عمها فرناندو الأرجونى، لنفس البواعث التى دعت إلى تقدمه إليها، ولأنه يجمع بينهما من الجد بيت ملكى واحد. ووُضعت شروط الزواج بين الفريقين سراً نظراً لمعارضة الملك هنرى، وفيها يتعهد فرناندو بأن يحترم قوانين قشتالة وتقاليدها، وأن يجعل مقر إقامته فيها، وألا يغادرها دون إذن إيسابيلا، وألا يجرى أى قرارات أو تعيينات فى المملكة دون إذنها، وتعهد بالأخص بأن يتابع الحرب ضد المسلمين. وفى أكتوبر سنة 1469 عقد الزواج فى مدينة بلد الوليد Valladolid، حيث كانت تقيم الأميرة، فى حفل خاص لم يشهده سوى قليل من الأصدقاء، وأخطرت الأميرة أخاها بعقد الزواج، بكتاب تشرح فيه البواعث التى حدت بها إلى إتمامه. وهكذا حققت أمنية ملك أراجون، وأثبتت الحوادث التالية بُعد نظره، وخطورة مشروعه. وأُعلنت إيسابيلا عقب وفاة أخيها ملكة لقشتالة وليون، فى شقوبية (¬1) حيث كانت تقيم، وذلك فى ديسمبر سنة 1474 م، وحذت مدن أخرى حذو شقوبية، ولكن الأمر لم يكن هيناً، ذلك أنه كان ثمة فريق من النبلاء يناصر الأميرة خوانا ابنة الملك المتوفى، وكان زوجها فرناندو يطمح فوق ذلك إلى انتزاع العرش لنفسه، باعتباره آخر عقب من الذكور لبيت قشتالة الملكى؛ ولكن إيسابيلا تمسكت بحقها، وانتهى الأمر بينهما بالاتفاق على مزاولة الملك المشترك، تعتبر فيه إيسابيلا ملكة أصلية لقشتالة، لها الرأى الأول فى الجليل من الشئون، ويجرى القضاء وتُسَك العملة باسميهما. وكان خصوم إيسابيلا فى ذلك الحين وعلى رأسهم مطران طليطلة، قد تفاهموا مع ملك البرتغال ألفونسو الخامس، على تأييد سعيهم فى تنصيب خوانا ملكة وهى ابنة أخته، وعلى الاقتران بها. وفى مايو سنة 1475 م غزا ملك البرتغال قشتالة بقواته، واخترق هضابها الشمالية حتى مدينة سمورة، وبادر فرناندو وإيسابيلا بالسير فى قواتهما إلى لقائه، واشتبك الفريقان على مقربة من تورو بجوار سمورة، فارتد القشتاليون فى البداية، ولكن ألفونسو لم يبادر إلى الاستفادة من تفوقه، وطال الصراع بين الفريقين بضعة أشهر، وفى النهاية رجحت كفة القشتاليين، واضطر ملك البرتغال أن يرتد أدراجه (فبراير سنة 1476 م). ¬_______ (¬1) هى بالإسبانية Segovia.

صورة: الملك فرناندو الخامس (الكاثوليكى) عن الصورة المحفوظة بمتحف سان تلمو بإشبيلية.

وهكذا انتصر فرناندو وإيسابيلا على خصومهما، واستقرا معا على عرش قشتالة بلا منازع. وفى سنة 1479 ارتقى فرناندو عرش أراجون على أثر وفاة أبيه خوان الثانى، وبذلك اتحدت المملكتان الإسبانيتان فى ظل عرش واحد، بعد أن فرقت بينهما المنافسات والخطوب أحقاباً، واجتمعت كلمة اسبانيا النصرانية بعد أن طال افتراقها؛ وبدأت اسبانيا فى ظل فرناندو وإيسابيلا، أو فى ظل الملكين الكاثوليكيين حسبما لُقبا بعد، عصراً من القوة والعظمة والسؤدد، لم تشهده فى تاريخها من قبل، وهو بحق فاتحة عصرها الذهبى. وكان فرناندو الخامس أو فرناندو الكاثوليكى من أعظم ملوك اسبانيا النصرانية وأوفرهم عزماً وهمة؛ وكان يتمتع بمقدرة فائقة، سواء فى الإدارة أو فى ميادين الحرب والسياسة. بيد أن هذا الجانب الحسن من خلاله، كانت تغشاه صفات سيئة، فقد كان فرناندو أميراً لا وازع له، يجنح فى سياسته إلى الغدر، ومجانبة الوفاء، وكان رجل الفرصة السانحة، يلتمس إلى تحقيق أطماعه العظيمة أى الوسائل، مهما كانت تجانب المبادىء الأخلاقية المقررة، أو مقتضيات الفروسة والوفاء. وسوف نرى كيف تتجلى هذه الخلال البغيضة فى تصرفاته وأساليبه فى معاملة الأمة الأندلسية المغلوبة. وكانت زوجه الملكة إيسابيلا تتمتع أيضاً بكثير من الذكاء والعزم. وكانت تثير برقتها وتواضعها واحتشامها، حب الشعب القشتالى وإعجابه. بيد أنها كانت تجيش بنزعة دينية عميقة، تذهب أحياناً مذهب التعصب المضطرم، وكانت تقع تحت تأثير الأحبار المتعصبين، وتنزل عند تحريضهم وتوجيههم؛ وكان مشروع غزو مملكة غرناطة والقضاء على الأمة الأندلسية، يذكى فى نفس هذه الملكة الورعة التى تنعت أيضاً "بالكاثوليكية"، أشنع ضروب التعصب، ويحملها على مؤازرة ديوان التحقيق الإسبانى (¬1)، وإقرار كل ما جنح إلى ارتكابه باسم الدين، من الأعمال والجرائم المثيرة. وفى الوقت الذى جلس فيه فرناندو وإيسابيلا على عرش اسبانيا القوية الموحدة، كانت مملكة غرناطة تدخل بعد سلسلة طويلة من الحروب الأهلية فى مرحلة النزع الأخيرة. وكان يجلس على عرشها وقتئذ السلطان على أبو الحسن، ولد السلطان ¬_______ (¬1) نريد هنا بديوان التحقيق ( Inquisition) Inquisicion المحاكم المعروفة خطأ باسم "محاكم التفتيش".

سعد المستعين بالله. وكانت مملكتا قشتالة وأراجون قد شغلتا مدى حين بطائفة من الإضطرابات والحروب الداخلية، المتعلقة بوراثة العرش وغيرها، مما سبق أن فصلناه فى مواضعه، فلم تسعفهما الفرص للاستمرار فى محاربة المسلمين. ولكن عهد الفتنة والخصومات الداخلية انتهى بجلوس فرناندو وإيسابيلا على عرش المملكة الإسبانية المتحدة. وكان شهر الحرب على مملكة غرناطة، من أهم الأغراض القومية المشتركة التى تعاهد الملكان على الاضطلاع بها، ومن ثم فإنه ما كادت تستقر شئون قشتالة الداخلية، حتى أخذ الملكان "الكاثوليكيان" يستعدان لمحاربة المسلمين بكل ما أوتيا من قوة وعزم. وهنا نقف فى سرد تاريخ اسبانيا النصرانية، لنعود إلى استئناف حديثنا عن مملكة غرناطة والمأساة الأندلسية.

الكتاب الثانى نهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م

الكتاب الثانى نهاية دولة الإسلام فى الأندلس 868 - 897: 1463 - 1492 م.

الفصل الأول الأندلس على شفا المنحدر

الفصل الأوّل الأندلس على شفا المنحدر انحلال مملكة غرناطة. ابن الخطيب وشعوره بمصير الأندلس. تشاؤم ابن خلدون. مملكة غرناطة وعون بنى مرين. تربص اسبانيا النصرانية. ولاية السلطان أبى الحسن. أسرة بنيغش. استرداده لبعض الحصون. خروج أخيه أبى عبد الله الزغل عليه. عقد الصلح بينهما. اتحاد اسبانيا النصرانية. العلائق بين غرناطة وقشتالة. فرناندو يطالب بالجزية. أبو الحسن يغزو أرض النصارى. استيلاؤه على قلعة الصخرة. طغيانه وانحرافه. زوجه عائشة الحرة والخلاف حول اسمها. اقترانه بثريا النصرانية. الزواج المختلط وأثره فى انحلال المجتمع الأندلسى. التنافس بين الملكة الشرعية وثريا. اعتقال الأميرة عائشة وولديها. انقسام الزعماء والقادة. استئثار ثريا بالسلطة. سعيها لسحق أبى عبد الله ولد عائشة. فرار الأميرة عائشة وولديها. ظهور دعوتهم فى وادى آش. الحرب بين المسلمين والنصارى. مهاجمة النصارى لمدينة الحامة واستيلاؤهم عليها. فشل أبى الحسن فى إنقاذها. مهاجمة فرناندو لمدينة لوشة. إنجادها وهزيمة النصارى. الثورة فى غرناطة. فر ار أبى الحسن إلى مالقة. جلوس ولده أبى عبد الله على العرش. مسير النصارى إلى مالقة. هزيمتهم الفادحة. خروج أبى عبد الله إلى الغزو. هزيمة المسلمين عند حصن اللسانة. أسر النصارى لأبى عبد الله واقتياده إلى قرطبة. الاضطراب فى غرناطة. نزول أبى الحسن عن العرش لأخيه أبى عبد الله الزغل. السعى إلى افتداء أبى عبد الله. خطة ملكى قشتالة فى استغلاله. معاهدة سرية بين الملكين وأبى عبد الله. تسريح أبى عبد الله والخلاف حوله. ضعف أبى عبد الله. زحف النصارى على رندة واستيلاؤهم عليها. هزيمتهم أمام حصن موكلين. الحرب الأهلية فى غرناطة. ظهور أبى عبد الله فى المنطقة الشرقية. دعوته إلى الصلح مع النصارى. مهاجمة النصارى للوشه واستيلاؤهم عليها. ما يقال عن اشتراك أبى عبد الله فى الدفاع عنها. سقوط الحصون الإسلامية فى يد النصارى. الأنفاط التى استعملت فى حرب عبد الله وعمه الزغل. إمداد فرناندو لأبى عبد الله. مسير فرناندو إلى بلش مالقة. إسراع الزغل إلى إنجادها. سقوطها فى يد النصارى. تأييد غرناطة لأبى عبد الله. ارتداد الزغل إلى وادى آش. انقسام مملكة غرناطة. - 1 - وهكذا كانت شمس الأندلس تؤذن بالغروب، وكانت تغرب فى الواقع بخطى وئيدة، ولكن مؤكدة. ولم يك ثمة شك فى أن هذه المملكة الإسلامية الصغيرة، التى يسودها الخلاف والتفرق، وتعصف بوحدتها ومنعتها الحروب الداخلية، كانت تنتحر ببطىء، وأن هذه الأمة الأندلسية، التى أخذت تنكمش فى مدنها وثغورها القليلة، كانت

تنظر إلى المستقبل بعين التوجس والجزع، وأن هذه الحياة الباهرة الساطعة التى كانت تحياها بين آن وآخر، كلما تربع على العرش أمير قوى رفيع الخلال، لم تكن إلا سويعات النعماء الأخيرة، فى حياة أمة عظيمة تالدة. وقد كان هذا الشعور يخالج رجالات الأندلس منذ بعيد، حتى قبل أن تتفاقم الأمور، وتغدو مملكة غرناطة ألعوبة فى يد بلاط قشتالة، وكانوا يستشفون من وراء ذلك خطر الفناء المحقق، وكان ابن الخطيب وزير الأندلس ومفكرها الكبير، أشدهم شعوراً بذلك الخطر الداهم، وقد استشعر به قبل وقوعه بأكثر من قرن، فعكف يهيب بقومه وإخوانه المسلمين فيما وراء البحر، ويستنفرهم إلى الجهاد. ومما يخاطبهم به قوله: "أيها الناس رحمكم الله، إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دهم العدو قصمه الله ساحتهم، ورام الكفر خذله الله استباحتهم، وزحفت أحزاب الطواغيت عليهم، ومد الصليب ذراعه إليهم، وأيديكم بعزة الله أقوى، وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهو دينكم فانصروه، وجواركم القريب فلا تخفروه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه. الجهاد االجهاد، فقد تعين، الجار الجار، قد قرر الشرع حقه وبيّن، الله الله فى الإسلام، الله الله فى أمة محمد عليه السلام، الله الله فى المساجد المعمورة بذكر الله، الله الله فى وطن الجهاد فى سبيل الله، فقد استغاث الدين فأغيثوه، قد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه، أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة، أعانكم الله عند الشدائد. جددوا عوائد الخير يصل الله لكم جميع العوائد ... أدركوا رمق الدين قبل أن يفوت، بادروا عليل الإسلام قبل أن يموت ... " (¬1). ويشير ابن الخطيب فى إحدى رسائله إلى السلطان أبى سالم المرينى ملك المغرب إلى ما تعانيه الأندلس من المحن والأخطار، وينوه باتحاد الملوك النصارى على محاربتها والقضاء عليها فى قوله: "فاعلموا أننا فى هذه الأيام ندافع من العدو تياراً، ونكابر بحراً زخاراً، ونتوقع إلا أن وقى الله تعالى خطوباً كبارا، ونمد اليد إلى الله تعالى انتصاراً، ونلجأ إليه اضطراراً، ونستمد دعاء المسلمين بكل قطر، استعداداً به واستطهاراً" (¬2). ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 4 ص 411؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 64؛ وابن الخطيب يتوجه هنا بندائه إلى أهل العدوة وملوكهم من بنى مرين. (¬2) نفح الطيب ج 2 ص 571.

ثم يقول فى رسالة أخرى، مشيراً إلى ما يهدد الأندلس من جراء ذلك من خطر الفناء المحقق: "وقد قرَّت يا مولاى عين العبد بما رأت فى هذا الوطن المراكشى، من وفور حشودكم، وكثرة جنودكم، وترادف أموالكم، وعددكم، زادكم الله من فضله. ولاشك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلِكم، وأعرضتم عن ذلك الوطن، استولت عليه يد عدوه" (¬1). وإلى جانب رسائله المنثورة، كان ابن الخطيب، يوجه إلى المسلمين بالمغرب قصائد مؤثره فى الاستنفار للجهاد وإغاثة الأندلس، وإليك نموذج من هذه القصائد: إخواننا لا تنسوا الفضل والعطفا ... فقد كاد نور الله بالكفر أن يطفا وإذ بلغ الماء الزبا فتداركوا ... فقد بسط الدين الحنيف لكم كفَّا تحكم فى سكان أندلس العدا ... فلهفاً على الإسلام ما بينهم لهفا وقد مزجت أفواهها بدمائها ... فإن ظمئت لا رىَّ إلا الردى صرفا أنوماً وإغفاءً على سنة الكرى ... وما نام طرف فى حماها ولا أغفا أحاط بنا الأعداء من كل جانب ... فلا وزرا عنهم وحسدا ولا لهفا ثغور غدت مثل الثغور ضواحكا ... أقام عليها الكفر يرشفها رشفا ومنها: وسيلتنا الإسلام وهو أخوة ... من الملأ الأعلى تقربنا زلفا أخوفاً وقد لذنا بجاه من ارتضى ... وذلاًّ وقد عذنا بعز من استعفا فهل ناصر مستبصر فى يقينه ... يحير من استعدا ويكفى من استكفا ومنتجز فينا من الله وعده ... فلا نكث فى وعد الإله ولا خلفا وهل بائع فينا من الله نفسه ... فلا مشتر أولى من الله أو أوفى أفى الله شك بعد ما وضح الهدى ... وكيف لضوء الصبح فى الأفق أن يخفا وكيف يعيث الكفر فينا ودوننا ... قبائل منكم تعجز الحصر والوصفا غيوث نوال كلما سئلوا الندى ... ليوث نزال كلما حضروا الزحفا فقوموا برسم الحق فقد عفا ... وهبوا لنصر الدين فينا فقد أشفا (¬2). ويبدى المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون، تشاؤمه وتوجسه، من مصير ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 3 ص 331، وأزهار الرياض ج 1 ص 66. (¬2) نقلنا هذه القصيدة من ديوان ابن الخطيب المخطوط المحفوظ بمكتبة جامع القرويين بفاس المسمى " الصيب والجهام، والماضى والكهام".

الأندلس فى أكثر من موطن، وهو الخبير بتقلبات الدول ومصايرها، وكان قد زار غرناطة وأقام بها مدى حين، ودرس أحوالها وشئونها (¬1). وقد رأينا فيما تقدم كيف كانت مملكة غرناطة، جرياً منها على السياسة الأندلسية المأثورة منذ أيام المرابطين والموحدين، تتجه كلما لاح لها شبح الخطر الداهم من عدوها القوى، ببصرها إلى جارتها المسلمة القوية فيما وراء البحر، أعنى دولة بنى مرين. وكانت صولة الإسلام فى الضفة الأخرى من البحر، تروع اسبانيا النصرانية، وترد عدوانها عن الأندلس بين آونة وأخرى. ولكن صريخ بنى الأحمر إلى ملوك العدوة، لم يكن دائماً بعيداً عن التوجس والريب، ولم يستجب بنو مرين دائماً إلى صريخ الأندلس المحتضرة، وكانت لهم أحياناً مطامع ومشاريع فى الأندلس وقواعدها الجنوبية، تزهد فى غوثهم ونصرتهم. وكانت اسبانيا النصرانية كلما آنست تصرّم العلائق بين الدولتين الشقيقتين، انقضت على الأندلس فاقتطعت منها أرضاً جديدة. ولما أشرفت دولة بنى مرين على الانهيار، وشغلت عُدْوة المغرب بالفتن الداخلية، خبا أمل الأمة الأندلسية، فى تلقى الغوث والإمداد من تلك الناحية، واضطرت مملكة غرناطة أن تعتمد فى الذود عن حياتها، على قواها ومواردها المحدودة، وعلى ما يمكن أن تفيده من تطور الحوادث فى اسبانيا النصرانية. ولم تأت فاتحة النصف الأخير من القرن التاسع الهجرى (الخامس عشر الميلادى)، حتى غدت غرناطة وقد انتزعت معظم أطرافها من الغرب والجنوب، وأحاطت بها قوى النصرانية من كل صوب، تدبر عدتها الأخيرة للقضاء عليها. - 2 - لما توفى السلطان سعد بن محمد بن يوسف النصرى فى أواخر سنة 868 هـ (1463 م) كان ولده الأكبر علىّ أبو الحسن الملقب بالغالب بالله (¬2) متربعاً على عرش غرناطة قبل ذلك بأكثر من عام، وكان أبو الحسن يومئذ فتى فى نحو الثلاثين من عمره، لأنه ولد قبل سنة 840 هـ، حسبما يحدثنا الرحالة المصرى الذى سبقت الإشارة إليها (¬3). بيد أنه لم يستخلص الملك لنفسه إلا بعد نضال عنيف بينه وبين منافسيه، وعلى رأسهم أخواه يوسف أبو الحجاج والسيد أبو عبد الله محمد ¬_______ (¬1) راجع ابن خلدون ج 4 ص 178، وج 7 ص 379. (¬2) راجع نفح الطيب ج 2 ص 607. (¬3) راجع ما نقله الأستاذ دللافيدا فى مجلة ( Al-Andalus V. I. 1933 Fasc. -II) .

المعروف "بالزغل"، وقد توفى يوسف قبل بعيد، وبقى "الزغل" ليخوض حياة حافلة بالأحداث والمحن. وكان أبو الحسن أميراً وافر الشجاعة والعزم، ويعشق الحرب والجهاد، وكانت له أيام أبيه غزوات موفقة فى أرض النصارى. وما كاد يستقر فى عرشه، حتى أبدى همة فائقة فى تحصين المملكة، وتنظيم شئونها، وبث فيها روحاً جديدة من القوة والطمأنينة، واستطاع أن يسترد عدة من الحصون والقواعد التى استولى عليها النصارى. وتولى وزارته، وزير أبيه من قبل، القائد أبو القاسم بن رضوان بنّيغش (¬1). وكان هذا الوزير، مثل سلفه الحاجب رضوان النصرى، سليل أسرة نصرانية، وأسر جده فى بعض المعارك، ورُبى فى كنف الدار السلطانية، وتبوأت أسرته بين الأسر الغرناطية مكانة رفيعة، واشتركت فى كثير من حوادث غرناطة السياسية، وتولت الوزارة. وفى أوائل حكمه خرج عليه أخوه أبو عبد الله "الزغل" (¬2) وكان يومئذ والياً لمالقة، وكان يضارعه فى الشجاعة والجرأة وحب النضال. ولجأ الزغل إلى عون ملك قشتالة هنرى الرابع يستنصره على أخيه، ولقيه فى محلته فى ظاهر أرشدونة، سنة 874 هـ (1469 م) فوعده بالعون والتأييد. وبادر السلطان أبو الحسن من جانبه بالإغارة على أراضى قشتالة (1470 م). ثم عاد فى العام التالى فغزاها مرة أخرى، وانتزع من النصارى بعض المواقع التى استولوا عليها. وشغل أبو الحسن فى الأعوام الثلاثة التالية بمحاربة أخيه أبى عبد الله الزغل، الثائر عليه. وكان النضال سجالا بينهما. وشغل أبو الحسن بذلك عن غزو أرض النصارى. وشغل القشتاليون أنفسهم بما نشب بينهم من الخلاف الداخلى، وذلك حتى وفاة ملكهم هنرى الرابع فى سنة 1474 م. وفى تلك الأثناء خرجت مالقة عن طاعة أبى الحسن، حيث ثار بها القائد محمد الفرطوسى، وانضم إليه كثير من القواد والأجناد، فسار أبو الحسن إلى مالقة وحاصرها غير مرة، ولكنه لم يفلح فى إخماد الثورة، واستدعى القواد الثائرون أخاه أبا عبد الله محمد بن سعد (الزغل)، وكان يومئذ بقشتالة، وأعلنوه ملكاً عليهم، وانقسمت المملكة بذلك إلى شطرين متخاصمين (¬3). ¬_______ (¬1) تشغل أسرة بنيغش - وهو تحريف لاسمها الإسبانى Los Venegas - فى التواريخ القشتالية حيزاً ملحوظاً. وقد عاد بعض أفرادها إلى النصرانية عقب سقوط غرناطة، وأحرزت أسرتهم فيما بعد مكانة كبيرة بين الأرستقراطية الإسبانية، ونبغ فيها عدد من القادة ورجال الدين. (¬2) الزغل وزغل أعنى الشجاع أو الباسل والمصدر "زغلة". وسنرى فيما بعد كيف ينطبق هذا المعنى على سيرة الزغل وصفاته أتم الانطباق. راجع دوزى Supp. aux Dict. arabes. V. II. p. 594 (¬3) كتاب مرآة المحاسن لمؤلفه العربى الفاسى (طبع فاس 1324 هـ) ص 142.

صورة مرسوم صادر من سلطان غرناطة علىّ الغالب بالله (أبى الحسن) إلى رسول الملكين الكاثوليكيين فرناندو وإيسابيلا يقرر فيه قبول التحكيم فيما وقع من أعمال العدوان المتبادلة بين غرناطة وقشتالة، مؤرخ فى 12 شوال سنة 882 هـ (19 يناير 1478 م)، ومختوم بخاتمه الملكى، ومحفوظ بدار المحفوظات العامة ( Archivo general de Simancas, No. P. R. II.4)

ولما تفاقم النزاع بين أبى الحسن وأخيه أبى عبد الله، ولم يحسم بينهما السيف ووضحت لهما العواقب الخطيرة التى يمكن أن تترتب على هذه الحرب الأهلية، جنح الفريقان إلى الروية وآثرا الصلح والتهادن، فعقدت الهدنة بين الأخوين، على أن تحترم الحالة القائمة، فيبقى أبو عبد الله الزغل على استقلاله بمالقة وأحوازها، ويستقر أبو الحسن فى عرش غرناطة وما إليها، وعقدت فى نفس الوقت هدنة مؤقتة بين المسلمين والنصارى. وفى هذه الآونة التى أخذت فيها عوامل التفرق تمزق أوصال المملكة الإسلامية الصغيرة، كانت اسبانيا النصرانية تخطو خطوتها الأخيرة نحو الاتحاد النهائى، وذلك باقتران فرناندو ولد خوان الثانى ملك أراجون بإيسابيلا أخت هنرى الرابع ملك قشتالة، ثم إعلانهما ملكين لقشتالة فى سنة 1479، وتبوىء فرناندو بعد ذلك عرش أراجون حسبما فصلنا. وهكذا اتحدت المملكتان الإسبانيتان القديمتان بعد أحقاب طويلة من الخلاف والحروب الأهلية، وأصبحت اسبانيا النصرانية قوة عظيمة موحدة، وكان تفرقها من قبل يتيح للأندلس فترات من السلام والأمن، ولكن الأندلس وقد صارت إلى ما صارت إليه من الانحلال والضعف، أضحت تواجه أعظم قوة واجهتها فى تاريخها. وحاول السلطان أبو الحسن أن يجدد الهدنة مع القشتاليين، ليتفرغ لأعمال التحصين والإنشاء، وكان يلوح فى البداية أن العلائق بين الفريقين تسير نحو التفاهم والسلم. وهناك ما يدل فى الواقع على أنه كان يقوم يومئذ بين مملكة غرناطة، وبين قشتالة، صلح ثابت حسبما يؤيد ذلك اتفاق عقداه يومئذ على إجراء التحكيم فيما وقع من كل منهما على أراضى الآخر من ضروب العدوان التى ترتب عليها القتل والأسر والحرق، سواء فى البر أو البحر. وقد انتهت إلينا وثيقة تحتوى النصين العربى والقشتالى لهذا الاتفاق الذى عقد بين السلطان أبى الحسن وبين فرناندو وإيسابيلا ملكى قشتالة وأراجون، وهى مؤرخة فى شوال سنة 882 هـ (يناير سنة 1478 م) (¬1). وعلى هذا فقد أرسل السلطان أبو الحسن فى أوائل سنة 883 هـ (1478 م) إلى ملك قشتالة يطلب تجديد الهدنة القائمة بينهما. وكان فرناندو وإيسابيلا يقيمان يومئذ فى إشبيلية، فوافقا على ما طلبه أبو الحسن، ولكن ¬_______ (¬1) Archivo general de Simancas ; P. R. 11-4، وفيها يوصف فرناندو وإيسابيلا بما يأتى: "السلطان المعظم الكبير الشهير الأصيل دون هرندة، والسلطانة الكبيرة الشهيرة دونيى قشبيل".

بشرط أن تعترف مملكة غرناطة بطاعتهما، وأن تؤدى إلى قشتالة نفس الجزية من المال والأسرى التى كان يؤديها السلاطين السالفون. وأرسلا بالفعل سفيراً إلى السلطان أبى الحسن، يطالبه بعهد الطاعة وتأدية الجزية، فرفض أبو الحسن طلب الملكين النصرانيين بإباء، وأنذر السفير القشتالى بأنه ليس لديه سوى الحرب والكفاح. ولم يمض سوى قليل حتى أغار القشتاليون على حصن بللنقة (فيلا لونجا) واستولوا عليه، وعاثوا فى أحواز رندة، ورد أبو الحسن على ذلك بإعلان الحرب على قشتالة، وزحف تواً على بلدة "الصخرة" Zahara وهى قاعدة حصينة تقع على حدود الأندلس الغربية فى شمال غربى مدينة رندة، وكان قد انتزعها القشتاليون منذ عهد قريب، فباغتها أبو الحسن، واستولى عليها عنوة، وقتل حاميتها، وسبى سكانها (ديسمبر سنة 1481 م). وبالرغم مما أحرزه أبو الحسن من الظفر فى تلك المعركة الأولى، وبالرغم مما بثه هذا الظفر فى طوائف الشعب من الغبطة والحماسة، فقد اعتبر بعض العقلاء تصرفه اعتداء لا مبرر له، وتوجسوا شراً من عواقبه، وتقول الرواية القشتالية إن فقيهاً زاهداً شيخاً عُرف بنبوءاته، كان بين الوفود التى ذهبت غداة هذا الانتصار إلى قصر الحمراء، وأنه صاح فى وجه السلطان قائلا: "ويل لنا. لقد دنت ساعتك يا غرناطة، ولسوف تسقط أنقاض الصخرة فوق رؤوسنا: وقد حلت نهاية دولة الإسلام بالأندلس" (¬1)، على أن هذا الظفر المؤقت كان له أعظم الأثر فى إحياء قوى الشعب المعنوية، ولاح لإسبانيا النصرانية يومئذ أن الأندلس المحتضرة تكاد تبدأ حياة جديدة من القوة. ولكن هذا البعث الخلب لم يطل أمده. ذلك لأن أبا الحسن لم يلبث أن ركن إلى الدعة، وأطلق العنان لأهوائه وملاذه، وبذر حوله بذور السخط والغضب، بما ارتكبه فى حق الأكابر والقادة من صنوف العسف والشدة، وما أساء إلى شئون الدولة والرعية، وما أثقل به كاهلهم من صنوف المغارم، وما أغرق فيه من ضروب اللهو والعبث، وكان وزيره أبو القاسم بنِّيغش يجاريه فى أهوائه وعسفه، ويتظاهر أمام الشعب بغير ذلك. وهكذا عادت عوامل الفساد والانحلال والتفرق الخالدة، تعمل عملها الهادم، وتحدث آثارها الخطرة (¬2). ... ¬_______ (¬1) Lafuente Alcantra: ibid ; V. III. p. 202-206 وكذلك Condé;ibid ; V. III. p. 210&211 (¬2) راجع كتاب " أخبار العصر فى انقضاء دولة بنى نصر" (ص 3)، وهو الرواية الإسلامية =

وكان السلطان أبو الحسن قد اقترن بابنة عمه السلطان الأيسر (¬1). ولا تفصح الرواية الإسلامية لنا عن اسم تلك الأميرة، التى تمثل فى تاريخ المأساة الأندلسية مثولا قوياً، والتى تحيط الرواية شخصيتها بكثير من الأخبار والسير المشجية. فلم يذكره صاحب أخبار العصر، ولم يذكره المقرى الذى نقل روايته، ولم تذكره الروايات القشتالية المعاصرة. ولكن مؤرخاً قشتالياً، كتب روايته بعد ذلك بنحو قرن، يذكر لنا أن اسمها عائشة. بل وأكثر من ذلك فهو ينقل إلينا صورة رسمية للمعاهدة السرية، التى أصدرها الملكان الكاثوليكيان عند تسليم غرناطة، لأبى عبد الله ولد السلطان أبى الحسن، والتى نتحدث عنها بعد، وفيها يذكر صراحة اسم "الملكة عائشة والدته" أى والدة أبى عبد الله (¬2). وقد جرت سائر التواريخ اللاحقة بعد ذلك، على تسميتها بهذا الاسم، ولكن بعض البحوث الحديثة تحاول على ضوء بعض الوثائق الغرناطية أن تقرر لنا أن تسمية هذه السلطانة باسم عائشة، ¬_______ = الوحيدة التى انتهت إلينا عن حوادث سقوط غرناطة وما تلاها من تنصير المسلمين. وسيكون منذ الآن مرجعنا فى كثير من حوادث هذه الفترة. ويقع هذا الكتاب فى ست وخمسين صفحة فقط، وقد وضعه مؤلف مجهول لم يذكر اسمه، ولكنه يذكر فى نهايته أنه كتبه فى جمادى الآخرة سنة 947 هـ أعنى بعد سقوط غرناطة بخمسين عاماً، فروايته معاصرة تقريباً. ويدل وصفه للحوادث على أنه شهدها فتى بل وفى روايته ما يدل على أنه اشترك فى بعض الوقائع الحربية التى وقعت قبل سقوط غرناطة بين المسلمين والنصارى وأنه كان من أنجاد الفرسان (ص 17 طبعة ميللر). ولابد أيضاً أنه تلقى كثيراً من تفاصيل الحوادث، من أفواه الشيخة الذين شاهدوها. ويبدو أيضاً أن المؤلف من أشراف غرناطة الذين بقوا فيها وأرغموا على التنصر، ولكنهم بقوا مسلمين فى سرائرهم، وأنه خشى أن يبوح باسمه لأنه يندب حظ الإسلام، ويندد بغدر النصارى وفظائعهم. وقد نشر المستشرق الألمانى م. ى. ميلر هذا الكتاب عن النسخة الخطية الوحيدة التى كانت محفوظة بالإسكوريال وضاعت فيما بعد (جوتنجن سنة 1863) مقرونة بترجمة ألمانية تحت عنوان "أيام غرناطة الأخيرة" Die leteten Zeiten von Granada. ثم نشر معهد فرانكو بتطوان (بعناية الأستاذ ألفريد البستانى) طبعة جديدة من هذا الكتاب عن مخطوطة أخرى بها بعض زيادات عن نزوح الأندلسيين من الأندلس بعد التنصير بعنوان: "نبذة العصر فى أخبار ملوك بنى نصر " وقرنت هذه الطبعة بترجمة اسبانية بقلم المستشرق الأب كارلوس كيروس (العرايش سنة 1940). (¬1) أخبار العصر: ميللر ص 6 - وطبعة تطوان ص 5. (¬2) هو المؤرخ Luis del Marmol Carvajal فى كتابه عن ثورة الموريسكيين المسمى: Historia del Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada, (Lib. I; Capit.XII & XIX)

هى تسمية خاطئة، وأن اسمها الحقيقى هو فاطمة، وأنها لم تكن ابنة السلطان الأيسر وإنما كانت ابنة للسلطان الأحنف (¬1). بيد أننا وقد درسنا نصوص هذه الوثائق الجديدة، لا نراها قاطعة فى تقرير اسم السلطانة المذكورة، ولا نرى من جهة أخرى، سبباً يحملنا على الشك فى رواية صاحب أخبار العصر، وهى أنها كانت ابنه للسلطان الأيسر. وصاحب هذه الرواية مسلم معاصر، كانت لديه سائر وسائل التحقيق والتثبت. وكذلك فإن المؤرخ القشتالى الذى يسميها بعائشة، قد عاش قريباً من ذلك العصر، واتصل بشيوخ الموريسكيين أو الأندلسيين المتنصرين بغرناطة، ومن المرجح المعقول أن يكون هؤلاء على علم بحقيقة إسم هذه السلطانة، التى عاصرها آباؤهم وكانت والدة لآخر ملوكهم. وهذا كله إلى الوثيقة التى يورد لنا هذا المؤرخ نصها، وفيها القول القطع بأن والدة أبى عبد الله كانت تسمى عائشة. ومن ثم فإننا على ضوء ما تقدم، نميل إلى الاعتقاد بأن اسم عائشة هو الاسم الحقيقى، لزوجة السلطان أبى الحسن ووالدة أبى عبد الله. وتحتل شخصية عائشة الحرة فى حوادث سقوط غرناطة مكانة بارزة. وليس ثمة فى تاريخ تلك الفترة الأخيرة من المأساة الأندلسية شخصية تثير من الإعجاب والاحترام، ومن الأسى والشجن، قدر ما يثير ذكر هذه الأميرة النبيلة الساحرة، التى تذكرنا خلالها البديعة، ومواقفها الباهرة، وشجاعتها المثلى إبان الخطوب المدلهمة، بما نقرأه فى أساطير البطولة القديمة من روائع السير والمواقف. ¬_______ (¬1) نشر صديقى المستشرق الغرناطى الأستاذ Seco de Lucena فى مجلة الأندلس بحثاً عنوانه "السلطانة والدة أبى عبد الله" La Sultana Madre de Boabdil (Al-Andalus Vol XII, Fasc. II - 1947) أورد فيه نص وثيقتين عربيتين، الأولى عقد بيع ملكى مؤرخ فى سنة 852 هـ (1448 م). والثانية أيضاً عقد بيع مؤرخ فى سنة 897 هـ (1492 م)، ومنهما تتضح الوقائع الآتية: أن السلطان محمد الأحنف كان له فضلا عن ابنته الكبرى أم الفتح، ابنتان أخريان من زوجة أخرى هما عائشة وفاطمة، وأن إحداهن وهى فاطمة تزوجت من سلطان، وأن قرية الصخيرة التى ورثتها أم الفتح، انتقلت بعد ذلك إلى أختها السلطانة فاطمة، وأن هذه الأخيرة عاصرت تسليم غرناطة، وأنه فى 30 أكتوبر سنة 1492 م أعنى بعد سقوط غرناطة باعت السيدة فاطمة المذكورة، وتوصف فى الوثيقة المشار إليها "بالسيدة الحرة" قرية الصخيرة المذكورة إلى فارس نصرانى، بمبلغ ألفى وخمسمائة ريال من الفضة، وحرر العقد بالنيابة عنها وكيل شئونها المسمى القائد محمد بن مقاتل. ويرى الأستاذ دى لوسينا أن هذا النص قاطع، فى أن السلطانة والدة أبى عبد الله، كانت تسمى "فاطمة" وليس عائشة، وأنها وفقاً لنسبها المُدوّن بالنص كانت ابنة للسلطان الأحنف.

والواقع أن حياة السلطانة "الحرة"، تبدو لنا خلال الحوادث والخطوب، كأنها صفحة من القصص المشجى، أكثر مما تبدو كصفحة من التاريخ الحق، وهذا اللون القصصى لا يرجع فقط إلى كونها أميرة أو امرأة، تشترك فى تدبير الملك، وتدبير الشئون والحوادث، ولكن يرجع بالأخص إلى شخصيتها القوية، وإلى سمو روحها ورفيع مثلها، وإلى جنانها الجرىء يواجه كل خطر، ويسمو فوق كل خطب ومصاب. والرواية القشتالية ذاتها -وهى تسميها عائشة حسبما قدمنا- لا تضن عليها بالتنويه والتقدير، وهى التى تسبغ على شخصيتها وحياتها كثيراً من هذا اللون القصصى المشجى. كانت عائشة "الحرة" ملكة غرناطة فى ظل ملك يحتضر، ومجد يشع بضوئه الأخير ليخبو ويغيض. وقد رزقت من زوجها السلطان أبى الحسن بولدين هما: أبو عبد الله محمد وأبو الحجاج يوسف. وكانت روح العزم والتفاؤل، التى سرت فى بداية هذا العهد إلى غرناطة، تذكى بقية من الأمل فى إنقاذ هذا الملك التالد. وكانت عائشة ترى من الطبيعى أن يؤول الملك إلى ولدها، ولكن حدث بعد ذلك ما يهدد هذا الأمل المشروع. ذلك أن السلطان أبا الحسن ركن فى أواخر أيامه إلى حياة الدعة، واسترسل فى أهوائه وملاذه، واقترن للمرة الثانية بفتاة نصرانية رائعة الحسن، تعرّفها الرواية الإسلامية باسم "ثريا" الرومية، وتقول الرواية الإسبانية إن ثريا هذه واسمها النصرانى إيسابيلا، وتعرفها الرواية أيضاً باسم "زريدة"، كانت ابنة عظيم من عظماء اسبانيا وهو القائد "سانشو خمنيس دى سوليس" وأنها أخذت أسيرة فى بعض المعارك، وهى صبية فتية، وألحقت وصيفة بقصر الحمراء فاعتنقت الإسلام، وتسمت باسم ثريا أو كوكب الصباح، فهام بها السلطان أبو الحسن، ولم يلبث أن تزوجها، واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة، التى عرفت عندئذ "بالحرة" تمييزاً لها من الجارية الرومية، أو إشادة بطهرها ورفيع خلالها (¬1). ويقول لنا المؤرخ المعاصر هرناندو دى بايثا، إن السلطان أبى الحسن ¬_______ (¬1) راجع Irving: Conquest of Granada حيث يورد أقوال الرواية الإسبانية عن شخصية ثريا (الفصل التاسع). ويقول كوندى إن ثريا كانت ابنة حاكم مرتش النصرانى ( Condé; ibid, V. III. p. 242) . ولكن الرواية العربية تكتفى بالقول بأن ثريا كانت جارية رومية (المقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 608، وأخبار العصر فى انقضاء دولة بنى نصر طبعة ميللر ص 6) ويتفق برسكوت مع الرواية العربية فيقول إن ثريا كانت جارية يونانية، أى رومية. راجع History of Ferdinand and Isabella, p. 219

كان يقيم يومئذ مع زوجه الفتية الحسناء فى جناح الحمراء الكبير أو قصر قمارش، وذلك بينما كانت تقيم الحرة وأولادها فى جناح بهو السباع (¬1). ولم يكن اقتران الأمير بفتاة نصرانية بدعة، ولكنه تقليد قديم فى قصور الأندلس. وقد ولد بعض خلفاء الأندلس وأمرائها العظام من أمهات من النصارى، مثل عبد الرحمن الناصر وحفيده هشام المؤيد، وكذلك ولد بعض الأمراء من بنى نصر ملوك غرناطة من أمهات من النصارى مثل السلطان محمد بن اسماعيل النصرى (¬2). ولم يكن الزواج المختلط نادراً فى المجتمع الأندلسى الرفيع، ولاسيما منذ أيام الطوائف، وكان كثير من الأكابر والأشراف يتزوجون بفتيات من النصارى سواء كن من السبايا أم من الأحرار. ولم يكن العكس نادراً أيضاً. فمنذ توالى سقوط القواعد والثغور الأندلسية فى أيدى النصارى، كثر الزواج بين المدجنين وبين النصارى، وفقد المدجّنون بمضى الزمن دينهم ولغتهم، واندمجوا فى المجتمع النصرانى. ونرى بين زعماء شرقى الأندلس بعض أمراء يرجعون إلى أصل نصرانى، مثل محمد بن سعد المعروف بابن مردنيش ملك بلنسية ومرسية، وقد كان يتكلم القشتالية، ويلبس الثياب القشتالية، ويتقلد السلاح القشتالى، وكان معظم ضباطه وجنده من النصارى، وكان الإسبان يعرفونه بالملك "دون لوبى" (¬3). ولم يكن ثمة ريب فى خطورة الآثار الاجتماعية، التى يحدثها مثل هذا ْالامتزاج الوثيق، وقد كانت فيما بعد من أهم العوامل التى أدت إلى انحلال المجتمع الإسلامى، وانحلال عصبية الدولة الإسلامية. كذلك لم يكن ثمة ريب فى أن هذه الآثار الهدامة، كانت أعمق وقعاً وأشد خطراً وقت الإنحلال العام. وكان السلطان أبو الحسن قد شاخ يومئذ وأثقلته السنون، وغدا أداة سهلة فى يد زوجه الفتية الحسناء. وكانت ثريا فضلا عن حسنها الرائع، فتاة كثيرة الدهاء والأطماع، وكان وجود هذه الأميرة الأجنبية فى قصر غرناطة، واسئثارها بالسلطان والنفوذ فى هذه الظروف العصيبة، التى تجوزها المملكة الإسلامية، ¬_______ (¬1) كتب هرناندو دى باينا Hernando de Baeza هذه الرواية المعاصرة بعنوان Las Cosas de Granada " شئون غرناطة"، ونشرها المستشرق ميللر مع كتاب أخبار العصر (ص 65). (¬2) الإحاطة ج 1 ص 546. (¬3) راجع الإحاطة ج 2 ص 82؛ وكتابى عصر المرابطين والموحدين القسم الأول ص 366 وكذلك A. P. Ibars: Valencia Arabe و Dozy: Recherches (1881) V. I. p. 365 (Valencia 1901) p. 516.

عاملا جديداً فى إذكاء عوامل الخصومة والتنافس الخطرة. وكانت ثريا فى الواقع تتطلع إلى أبعد من السيطرة على الملك الشيخ. ذلك أنها أنجبت من الأمير أبى الحسن كخصيمتها عائشة ولدين، هما سعد ونصر، وكانت ترجو أن يكون الملك لأحدهما. وقد بذلت كل ما استطاعت من صنوف الدس والإغراء لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق فى الملك، وكان أكبرهما أبو عبد الله محمد ولى العهد المرشح للعرش، وكان أشراف غرناطة يؤثرون ترشيح سليل بيت الملك، على عقب الجارية النصرانية. ولكن ثريا لم تيأس ولم تفتر همتها، فما زالت بأبى الحسن حتى نزل عند تحريضها ورغبتها، وأقصى عائشة وولديها عن كل عطف ورعاية، ثم ضاعفت ثريا سعيها ودسها حتى أمر السلطان باعتقالها، وزجت عائشة مع ولديها إلى برج قمارش، أمنع أبراج الحمراء، وشدد فى الحجر عليهم، وعوملوا بمنتهى الشدة والقسوة. فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وكان نذير الاضطراب والخلاف فى المجتمع الغرناطى. وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين، فريق يؤيد الأميرة الشرعية وولديها، وفريق يؤيد السلطان وحظيته. واستأثر الفريق الأخير بالنفوذ مدى حين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتد السخط على أبى الحسن وحظيته التى أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ. وذهبت ثريا فى طغيانها إلى أبعد حد، فحرضت الملك الشيخ على إزهاق ولده أبى عبد الله عثرة آمالها. وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة، فلم تستسلم إلى قدرها الجائر، بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وفى مقدمتهم بنو سراج أقوى أسر غرناطة، وأخذت تدبر معهم وسائل الفرار والمقاومة؛ ولم يغفر السلطان أبو الحسن لبنى سراج هذا الموقف قط. ويقال إنه عمد فيما بعد إلى تدبير إهلاكهم فى إحدى أبهاء الحمراء. ولما وقفت الأميرة عائشة من أصدقائها على نية أبى الحسن قررت أن تبادر بالعمل، وأن تغادر قصر الحمراء مع ولديها بأية وسيلة. وفى ليلة من ليالى جمادى الثانية سنة 887 هـ (1482 م) استطاعت الأميرة أن تفر مع ولديها محمد ويوسف بمعاونة بعض الأصدقاء المخلصين. والرواية

الإسلامية تشير إلى فرار الأميرين فقط دون أمهما (¬1). ولكن الرواية القشتالية تحدثنا عن فرارها مع ولديها. وتقدم إلينا عن هذا الفرار صوراً شائقة، فنقول إن بعض الخدم المخلصين، كان ينتظر مع الجياد على مقربة من الحمراء على ضفة النهر (نهر حدرُّه) مما يلى برج قمارش، وإن الأميرة استعانت بأغطية الفراش على الهبوط من نوافذ البرج الشاهق فى جوف الليل (¬2)، وأنها هبطت بعد أن أدلت ولديها، ثم اختفى الجميع تحت جنح الظلام. وهكذا استطاعت هذه الأميرة الباسلة أن تفر من معتقلها فى إقدام وجرأة يخلقان بأبطال الرجال، واختفى الفارون حيناً حتى قويت دعوتهم وانضم إليهم كثير من أهل غرناطة، وكان اسم عائشة ورفيع خلالها، وقصة فرارها الجرىء، تثير أيما عطف وإعجاب. وظهر ولدها الأمير الفتى أبو عبد الله محمدق فى وادى آش حيث مجمع عصبته وأنصاره، وكان السلطان أبو الحسن وقت فرار الأميرة وولديها بعيداً عن غرناطة، يدافع النصارى عن أسوار لوشة، وكانت الحوادث تسير بسرعة مؤذنة باضطرام عاصفة جديدة. - 3 - وكان ملك قشتالة يرقب الحوادث فى مملكة غرناطة بمنتهى الاهتمام. فلما اضطرمت نار الحرب الأهلية بين المسلمين، ولاحت الفرصة للغزو سانحة، قرر بدء الحرب ضد غرناطة. وكان يضطرم سخطاً لاستيلاء المسلمين على قلعة الصخرة بالرغم من قيام الهدنة، وعجزه عن استرداد هذه القاعدة الهامة، فسيّر حملة قوية إلى الأندلس سارت منحرفة من جهة الغرب. ورأى القواد القشتاليون أن يبدأوا بمهاجمة ألحامَّة (الحمة) التى فى قلب الأندلس جنوب غربى غرناطة، وذلك لما بلغهم من ضعف وسائل الدفاع عنها، ولأن الاستيلاء عليها يمكنهم من تهديد غرناطة ومالقة معاً. وكانت ألحامة مدينة غنية، ولها شهرة قديمة بحماماتها الشهيرة التى كانت مجتمع ملوك غرناطة وأمرائها. ونجحت الخطة واستطاع النصارى مفاجأة ألحامة والاستيلاء على قلعتها تحت جنح الظلام، ثم استولوا على المدينة بالرغم من مقاومة أهلها الباسلة، وأمعنوا فى المسلمين قتلا وأسراً وسبياً (المحرم سنة 887 - ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 12؛ ونفح الطيب ج 2 ص 609. (¬2) L. del Marmol: ibid; I. Cap. XII. وقد كتب روايته بعد هذه الحوادث بنحو قرن حسبما قدمنا.

فبراير سنة 1482). وهرع السلطان أبو الحسن فى قواته لإنقاذ الحامة واستردادها وحاصرها بشدة، ولكنه لم يستطع اقتحامها، ولم يلبث أن اضطر إلى مغادرتها حينما علم أن ملك قشتالة يتقدم لإنجادها فى جيش قوى ضخم (¬1). ولم تمض أشهر قلائل حتى زحف ملك قشتالة إلى ومدينة لَوْشة (¬2) الواقعة على نهر شنيل فى شمال غربى ألحامة وعلى مقربة منها وحاصرها، ودافعت عنها حاميتها أروع دفاع بقيادة قائدها الأمير الشيخ، على العطار، وكان رغم شيخوخته من أشجع وأبرع فرسان غرناطة فى ذلك العصر (¬3). وسار أبو الحسن فى قواته مسرعاً لإنجاد لوشة وانتهى الأمر بأن رُد النصارى بخسارة فادحة فى الرجال والعدد (جمادى الأولى 887 - يوليه 1482). وكان مما استولى عليه المسلمون من النصارى، بعض "الأنفاط" التى تستعمل لحصار المدن، والتى سنتحدث عنها فيما بعد (¬4). وما كاد أبو الحسن يعود إلى عاصمة ملكه حتى تجهم الجو من حوله. وكانت سياسته الداخلية قد أثارت حوله كثيراً من السخط، بالرغم مما أحرز من نجاح، وسرعان ما نشبت الثورة فى غرناطة، وغلبت دعوة الأمير الفتى أبى عبد الله، ولم يستطع أبو الحسن وصحبه مواجهة العاصفة؛ ففر الملك الشيخ إلى مالقة، وكان بها أخوه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد، المعروف "بالزغل" أى الشجاع الباسل، يدفع عنها جيشاً جراراً سيّره ملك قشتالة لافتتاحها. وجلس أبو عبد الله محمد (¬5) مكان أبيه على عرش غرناطة (أواخر سنة 887 هـ). وأطاعته غرناطة ووادى آش، وأعمالها. وبقيت مالقة وغرب الأندلس على طاعة أبيه، وكان أبو عبد الله يومئذ فتى فى نحو الخامسة والعشرين (¬6). ... ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 6 و 9؛ وكذلك: Prescott: ibid ; p. 206-210 (¬2) هى بالإسبانية Loja وهى بلد الوزير ابن الخطيب. (¬3) تنوه الرواية القشتالية ببطولة هذا القائد المسلم وتعرِّفه باسم " Ailatar". راجع رواية Hernando de Baeza، السالفة الذكر، المنشورة بعناية المستشرق ميللر ضمن كتاب أخبار العصر (ص 78). (¬4) أخبار العصر ص 11. (¬5) يعرف السلطان أبو عبد الله فى الرواية القشتالية والإفرنجية بوجه عام باسم Boabdil محرفاً عن "أبى عبد الله". وتورد الوثائق القشتالية الرسمية المتعلقة بسقوط غرناطة اسمه على النحو الآتى: Muley Baaudili-Baudili- Beaudili ويورد مارمول اسمه مصححاً: Abi Abdili, Abi Adbala, Abdilehi (¬6) يشير المؤرخ المصرى عبد الباسط بن خليل فى روايته التى سبقت الإشارة إليها إلى هذا =

وكان فرناندو الخامس عقب هزيمته أمام لَوْشه، قد سير جنده إلى مالقة لافتتاحها. وكانت مالقة أعظم الثغور الباقية بيد المسلمين. وكان النصارى يتوقون للاستيلاء عليها لإتمام تطويق الأندلس من الجنوب، ولكن المسلمين كانوا على أتم أهبة للدفاع عن هذا الثغر المنيع. واشتبك المسلمون والنصارى فى عدة مواقع دموية فى الهضاب الواقعة فيما بين مالقة وبلِّش ( Velez) ، فهزم النصارى فى كل مكان وردوا بخسائر فادحة، وخرج الأمير محمد بن سعد "الزغل" فى قواته من مالقة ولقى النصارى على مقربة منها، ونشبت بين الفريقين معركة شديدة هزم فيها النصارى هزيمة ساحقة، وقتل وأسر منهم عدة آلاف بينهم كثير من الزعماء والأكابر (صفر 888 - مارس 1483) (¬1). وتعرف هذه الموقعة "بالشرقية" لوقوعها فى المنطقة المسماة بذلك فى شرقى مالقة. وكان منظم هذا الدفاع الباهر كله الأمير أبو عبد الله "الزغل". وكان لانتصار المسلمين أعظم وقع فى جنبات الأندلس؛ فانتعشت الآمال وسرت الحماسة فى كل مكان، وهبت على غرناطة ريح جديدة من الاستبشار والنصر. واعتزم ملك غرناطة الفتى أبو عبد الله محمد، أن يحذو حذو عمه الباسل فى الجهاد والغزو، وأن ينتهز فرصة اضطراب النصارى عقب الهزيمة، فخرج فى قواته فى شهر ربيع الأول سنة 888 (ابريل سنة 1483) متجهاً نحو قرطبة، شمال غربى غرناطة، واجتاح فى طريقه عدداً من الحصون والضياع، وهزم النصارى فى عدة معارك محلية. ثم ارتد مثقلا بالغنائم فى طريق العودة، فأدركه النصارى فى ظاهر قلعة اللّسانة ( Lucena) (¬2) وكان يزمع حصارها. ونشبت بين الجيشين معركة هائلة ارتد فيها المسلمون إلى ضفاف نهر شنيل، وقتل وأسر كثير من قادتهم وفرسانهم، وكان بين الأسرى السلطان أبو عبد الله محمد نفسه (¬3)، عرفه الجند النصارى بين الأسرى أو عرّفهم بنفسه خشية الاعتداء عليه، فأخذوه إلى قائدهم الكونت دى كابرا (قبره) فاستقبله بحفاوة وأدب، وأنزله بإحدى ¬_______ = الانقلاب؛ ويندد بسلوك سلاطين غرناطة فى الوثوب بعضهم على بعض بقوله: "وهو غالب عادتهم بتلك البلاد مع الآباء والأولاد بل والأجداد ": ( Al-Andalus ; Vol. I. 1933 ; Fasc. 2) (¬1) أخبار العصر ص 13. (¬2) هى بلدة صغيرة حصينة تقع اليوم فى نطاق ولاية قرطبة، جنوب شرقى مدينة قرطبة. (¬3) أخبار العصر ص 14. ويشير عبد الباسط بن خليل المصرى فى حولياته إلى هذه الموقعة ويصفها، "بالكائنة العظمى، والداهية الطما".

الحصون الغربية تحت حراسة قوية. وأخطر فى الحال ملكى قشتالة بالنبأ السعيد، فأمر فرناندو أن يؤتى بالأسير الملكى إلى قرطبة، وأن يستقبل استقبال الأمراء؛ فأخذ أبو عبد الله وأصحابه إلى قرطبة فى حرس قوى، واحتشد أهل قرطبة لرؤية موكب الملك المسلم، وكان أبو عبد الله يرتدى ثوباً من القطيفة السوداء، ويمتطى حصاناً أسود عليه سرج ثمين، وكان وجهه يشع كآبة، وأخذ الملك الأسير أولا إلى دار الأسقف المواجه للمسجد الجامع، ثم أخذ بعد ذلك إلى أحد القلاع الحصينة، وعومل هناك بإكرام وحفاوة، وأقام فى أسره مكتئباً ينتظر يوم الخلاص. وعاد المسلمون إلى غرناطة دون ملكهم، وقد مزقتهم الهزيمة وفتت فى عزائمهم، فارتاعت العاصمة لهذه النكبة واضطرب الشعب، وساد الوجوم قصر الحمراء، وسرى الحزن والأسى إلى حرم الأمير وقرابته، ولم يحتفظ فيها بهدوئه وسكينته سوى أمه الأميرة عائشة. واجتمع الكبراء والقادة وقرروا استدعاء أبى الحسن السلطان المخلوع ليجلس على العرش مكان ولده الأسير. ولكن أبا الحسن كان قد هدمه الإعياء والمرض وفقد بصره، ولم يستطع أن يضطلع بأعباء الحكم طويلا، فنزل عن العرش لأخيه محمد أبى عبد الله "الزغل" حاكم مالقة، وارتد إلى المنكَّب فأقام بها حيناً حتى توفى (890 هـ - 1485 م). وجلس "الزغل" على العرش يدبر شئون المملكة، وينظم الدفاع عن أطرافها. أما السلطان أبو عبد الله محمد فلبث يرسف فى أسره عند النصارى. وأدرك ملكا قشتالة فى الحال ما للأمير الأسير من الأهمية، وأخذا يدبران أفضل الوسائل للاستعانة به فى تحقيق مآربهما فى مملكة غرناطة، وبعد إمعان البحث والتدبير رؤى أن يُفرج عن الملك الأسير لقاء أفضل الشروط التى يمكن الحصول عليها، لأن هذا الإفراج من شأنه أن يزيد فى اضطرام الحرب الأهلية بين المسلمين، وأن يعاون بذلك فى إضعاف قواهم والتمهيد لسحقهم. وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش جهده لافتداء ولده، لا بباعث الحب له والشفقة عليه، ولكن لكى يحصل فى يده ويأمن شره ومنافسته، وعرض على فرناندو نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة، وأن يطلق عدداً من أكابر النصارى المأسورين عنده، فأبى فرناندو وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين. وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهوداً آخر لإنقاذ ولدها بمؤازرة الحزب الذى يناصره، وأرسلت إلى ملك قشتالة، سفارة على رأسها الوزير ابن كماشة، ليفاوض فى الإفراج عن الأسير

مقابل الشروط التى يرضاها، وانتهت المفاوضات بين الفريقين بعقد معاهدة سرية تتلخص نصوصها فيما يلى: أن يعترف أبو عبد الله بطاعة الملك فرناندو وزوجه الملكة إيسابيلا، وأن يدفع لهما جزية سنوية قدرها إثنا عشر ألف دوبلا من الذهب، وأن يفرج فى الحال عن أربعمائة، من أسرى النصارى الموجودين فى غرناطة، يختارهم ملكهم، ثم يطلق بعد ذلك فى كل عام، سبعين أسيراً لمدة خمسة أعوام، وأن يقدم أبو عبد الله ولده الأكبر رهينة مع عدد آخر من أبناء الأمراء والأكابر ضماناً بحسن وفائه. وتعهد الملكان الكاثوليكيان من جانبهما، بالإفراج عن أبى عبد الله فوراً، وألا يكلف فى حكمه بأى أمر يخالف الشريعة الإسلامية، وأن يعاوناه فى افتتاح المدن الثائرة عليه فى مملكة غرناطة، وهذه المدن متى تم فتحها، تغدو واقعة تحت طاعة ملك قشتالة، وأن تستمر هذه الهدنة لمدة عامين، من تاريخ الإفراج عن السلطان الأسير (¬1). وتختلف الرواية فى تاريخ الإفراج عن أبى عبد الله، فتقول بعض الروايات المعاصرة، إنه أفرج عنه لأشهر قلائل من أسره، فى أوائل سبتمبر سنة 1483، ولكن هناك رواية أخرى، تقول بأن أبا عبد الله استمر فى الأسر أكثر من عامين، وأنه لم يفرج عنه إلا فى أواخر سنة 1485 أو أوائل سنة 1486 (¬2)، وهذه رواية يؤيدها صاحب أخبار العصر، إذ يقول لنا إن العدو أطلق سراح أبى عبد الله فى أوا خر سنة 890 هـ (1485 م)، عقب انتصار المسلمين على النصارى فى موقعة موكلين (¬3)، هذا فضلا عن أنه يذكر لنا أن أبا عبد الله، قد أسر مرة أخرى فى موقعة لوشة حسبما يجىء، وأنه لم يفرج عنه إلا فى أواخر سنة 891 هـ (1486 م) (¬4). وعلى أى حال فقد أفرج عن أبى عبد الله، بعد أن أخذ عليه ملكا قشتالة سائر العهود والمواثيق، التى تكفل تحقيق سياستهما فى القضاء على مملكة غرناطة، وبعد أن أتى بالرهائن المشترط تسليمهم. وسار أبو عبد الله وصحبه الذين قدموا ¬_______ (¬1) أورد العلامة المستشرق M. Gaspar y Remiro فى كتابه Documentos Arabes de Corte Nazari de Granada خلاصة وافية لنصوص هذه المعاهدة السرية بالاستناد إلى المؤرخين القشتاليين المعاصرين (ص 21 و 22). (¬2) Gaspar y Remiro ; ibid ; p. 27. (¬3) أخبار العصر ص 18. (¬4) أخبار العصر ص 21 و 22.

لمرافقته، ومعه سَريَّة من الجند القشتاليين، إلى بعض الحصون الشرقية النائية، التى قامت بدعوته (¬1). ولم يك ثمة شك فى أن عقد هذه المعاهدة كان خطوة كبيرة فى سبيل القضاء على مملكة غرناطة. وقد وضع فرناندو برنامجه المحكم لكى يستغل أسر ملك غرناطة، ويستعين به على تنفيذ برنامجه المدمر. وكان أبو عبد الله أميراً ضعيف العزم والإرادة قليل الحزم والخبرة، ولم يكن يتمتع بشىء من تلك الخلال الباهرة التى امتاز بها أسلافه وأجداده العظام من بنى الأحمر. وكان الملك والحكم غايته يبتغيها بأى الأثمان والوسائل. وقد ألفى ملك قشتالة القوى فى ذلك الأمير الضعيف الطموح، أداة صالحة يوجهها كيفما شاء، فاتخذه وسيلة لبث دعوته بين أنصاره ومؤيديه فى غرناطة وغيرها، وليقنع المسلمين بأن الصلح مع ملك قشتالة خير وأبقى. وسير ملك قشتالة فى نفس الوقت قواته فى أنحاء مملكة غرناطة، لكى تنتزع أثناء الاضطراب العام، كل ما يمكن انتزاعه. من القواعد والحصون الإسلامية. وزحف القشتاليون على منطقة الغربية (غربى ولاية مالقة) فى أوائل سنة 890 هـ، واستولوا على حصن قرطبة، وحصن ذكوين وعدة حصون أخرى تقع شمال غربى مالقة، فى منتصف الطريق بينها وبين رندة، وبذلك عزلت مدينة رندة، وأصبح الطريق ممهداً للاستيلاء عليها. وعلى أثر ذلك زحف القشتاليون على رندة وهى معقل الأندلس فى قاصية الغرب وهاجموها، وضربوها بالأنفاط حتى هدمت أسوارها، وكانت حاميتها بقيادة حامد الثغرى زعيم قبيلة غمارة، ولم يستطع أهل رندة أن يثبتوا طويلا لعدم استعدادها للدفاع، ولبعدهم عن العاصمة، ويأسهم من تلقى الأمداد السريعة، فطلبوا الأمان، وغادروا المدينة بأمتعتهم؛ واستولى القشتاليون على رندة فى جمادى الأولى سنة 890 هـ (ابريل سنة 1485 م). ثم استولوا بعد ذلك على سائر الأماكن والحصون الواقعة فى تلك المنطقة. وكان سقوط هذه المدينة الأندلسية التالدة ضربة شديدة للمسلمين، وبسقوطها انهارت كل وسيلة للدفاع عن منطقة الغربية، وأصبح القشتاليون بذلك يهددون ثغر مالقة من الغرب (¬2). وحاول القشتاليون بعد ذلك مهاجمة حصن مُكْلين الواقع شمال غربى غرناطة، وكان به الأمير أبو عبد الله الزغل فى قوة من الغرناطيين ليصلح أسواره ويتم تحصينه ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 18. (¬2) أخبار العصر ص 15.

صورة: أبو عبد الله محمد سلطان غرناطة (وآخر ملوك الأندلس) عن الصورة المحفوظة بمتحف Casa de los Tiros. ( دار الرماية) بغرناطة. والمظنون أنها الصورة التى رسمت له أثناء إقامته أسيراً فى قرطبة يدل على ذلك السلسلة الرمزية التى طوق بها عنقه.

ونشبت بين الفريقين معركة شديدة، وكان القشتاليون بقيادة الكونت دى قبره ْالظافر فى موقعة اللسَّانة، وكادت الدائرة تدور فى البداية على المسلمين، ولكنهم بذلوا جهد المستميت بقيادة أميرهم الباسل، وانتهت المعركة بأن رد النصارى بخسائر فادحة فى الرجال والعُدد (شعبان سنة 890 هـ - يوليه 1485 م)، وعاد الأمير وجنده إلى غرناطة فرحين مستبشرين (¬1). ولكن كان من سوء الطالع، أنه لم يمض قليل على ذلك، حتى نشبت فى غرناطة حرب أهلية جديدة. وكان الملكان الكاثوليكيان قد أطلقا سراح أبى عبد الله فى تلك الآونة بالذات، بعد أن وقع على معاهدة الخضوع والطاعة حسبما تقدم. والواقع أن الحرب الأهلية، كانت تضطرم فى الأندلس خلال أسر أبى عبد الله، وكان الزغل، بعد أن تربع على عرش غرناطة، يحاول استخلاص الأندلس كلها لنفسه. وكان الأمير يوسف أبو الحجاج شقيق أبى عبد الله، قد استقر فى ألمرية يحاول منازعة عمه الزغل. فسار الزغل إلى ألمرية، وثار بها أنصاره، وغلبوا على خصومهم، وفتحوا له أبواب المدينة، وقتل يوسف أثناء ذلك. ويقال إن قتله كان يوحى من أبيه أبى الحسن أو عمه الزغل. وما كاد الزغل يعود إلى غرناطة، حتى اضطرمت الفتنة من جديد. وكان أبو عبد الله حينما أطلق سراحه، قد سار إلى بعض الحصون الشرقية، فقامت بدعوته، ثم سار إلى منطقة بَلِّش (¬2) فى شرقى بسطة، وأعلن نفسه ملكاً، وأخذ يبث دعوته، ويشيد بمزايا الصلح المعقود مع ملكى قشتالة، وأنه يضمن للمسلمين الاستقرار والسلم، وأنه يطبق فى سائر الأنحاء التى تدخل فى طاعته. وكان من الواضح أن اضطرام الفتنة فى غرناطة، فى هذا الوقت بالذات، لم يكن بعيداً عن وحى أبى عبد الله وحزبه، وقام أهل ربض البيّازين، وهو حىّ غرناطة الشعبى، الواقع فى شمالها الشرقى تجاه مدينة الحمراء، بدعوة أبى عبد الله. وكان أهل البيّازين دائماً، عنصراً من عناصر الإضطراب والشغب، وكان لهم دائماً ضلع بارز فى كل ثورة وفتنة (¬3)، وشغل ملك غرناطة أبو عبد الله الزغل، بإخماد ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 17. (¬2) المقصود هنا بمنطقة بلش بلدتا بلج أو بالاسبانية " بلش الحسناء " Vélez Rubio و " بلش البيضاء " Vélez Blanco، وكلتاهما تقع على مقربة من الأخرى فى شمال شرقى مدينة بسطة. (¬3) أخبار العصر ص 18؛ ونفح الطيب ج 2 ص 611، وكذلك: Gaspar y Remiro ibid ; p. 23, 24 & 30. ويسمى ربض البيازين بالإسبانية Albaicin، وهو ما يزال قائماً فى موقعه القديم، ومحتفظاً بكثير من معالمه القديمة

هذه الفتنة الجديدة، عن مقاتلة النصارى. وبذلك تحقق الغرض الذى يرمى إليه ملكا قشتالة. وكان ذلك فى أوائل سنة 891 هـ (أوائل 1486 م). واشتدت الفتنة، ونصب الزغل على البيازين المجانيق والأنفاط، ودافع أهل البيازين عن أنفسهم دفاعاً شديداً، وكان أبو عبد الله خلال ذلك يبعث رسله إليهم، ويعدهم بمقدمه. وطالت هذه الفتنة أكثر من شهرين، ثم بدأت المفاوضة بين أبى عبد الله وبين عمه الزغل (ملك غرناطة) فى عقد الصلح، وارتضى أبو عبد الله أن ينزل عن دعواه فى العرش، وأن يدخل فى طاعة عمه (¬1). وفى رواية أخرى أنهما اتفقا على تقسيم المملكة إلى قسمين، فيختص الزغل بحكم غرناطة ومالقة وألمرية وبلش مالقة والمنكب، ويختص أبو عبد الله بحكم الأنحاء الشرقية (¬2). وعلى أى حال فقد انتهز ملك قشتالة، فرصة هذه الفتنة، للزحف على مدينة لوشة. وهنا تتفق الروايات الإسلامية والقشتالية، على أن أبا عبد الله، حينما علم بتهديد النصارى للوشة، سار إليها وتحصن بها، مع نخبة من أنجاد الفرسان. وهاجم النصارى مدينة لوشة للمرة الثانية، وشددوا الحصار عليها، وسلطوا على أسوارها الأنفاط والعدد، وأبدى المسلمون بسالة فائقة، فى الدفاع عن مدينتهم. وتقول الرواية القشتالية إن أبا عبد الله بذل فى هذا الدفاع مجهوداً عظيما، وإنه جرح أثناء ذلك (¬3). ولكنا لم نعثر على ما يؤيد ذلك فى الرواية الإسلامية. ويكتفى صاحب "أخبار العصر" بالقول بأن أبا عبد الله كان فى لوشة وقت حصارها (¬4) ويزيد المقرى على ذلك بأن أهل غرناطة أذاعوا بأن أبا عبد الله ما جاء إلى لوشة إلا ليسلمها لملك قشتالة، ويجعلها فداء له (¬5). وعلى أى حال فإن بسالة المسلمين، فى الدفاع عن لوشة، لم تغن شيئاً أمام القوة القاهرة، وفتك الأنفاط والعدد الثقيلة، فاضطروا إلى التسليم، وذلك بالشروط الآتية: ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 19. (¬2) Gaspar y Remiro ; ibid, p. 24 (¬3) Gaspar y Remiro: ibid, p. 32: Irving: Conquest of Granada Ch. XXXIV ; Lafuente Alcantra: ibid, V. II. p. 280 (¬4) أخبار العصر ص 19. (¬5) نفح الطيب ج 2 ص 611

أن يؤمن أهل لوشة الذين يرغبون مغادرتها فى أنفسهم، وفيما يستطيعون حمله من أموالهم، وأن يسمح لمن شاء منهم، أن يعيش فى قشتالة أو أراجون أو بلنسية بذلك (¬1)، وأن تسلم المدينة إلى ملك قشتالة مع سائر الأسرى النصارى. ودخل القشتاليون لوشة، فى 26 جمادى الأولى سنة 891 هـ (مايو سنة 1486)، وسار معظم أهلها إلى غرناطة، بأمتعتهم وخيلهم وسلاحهم. وأما فيما يتعلق بأبى عبد الله، فتقول لنا الرواية القشتالية، إن موقفه فى الدفاع عن لوشة، اعتبر منافياً لتعهداته للملكين الكاثوليكيين، ونكراناً لحسن الصنيعة، ومع ذلك فقد ارتضيا الصفح عنه، وأن يسمح له بالاحتفاظ بلقب ملك غرناطة، وأن يمنح لقب "صاحب وادى آش" إذا استطاع أن يستولى عليها؛ وإذا أراد أن يلتجىء إلى قشتالة، فإنه يسمح له أن يعيش هنالك آمناً على نفسه، وإن شاء العبور إلى المغرب، أمده ملك قشتالة بوسائل الانتقال (¬2). على أننا نرى على ضوء الرواية الإسلامية، أن موقف أبى عبد الله من حوادث لوشة، كان موقفاً مريبا. والواقع أنه كان يبذل جل جهده للدعوة إلى قضيته، وإلى مقاومة عمه ونزعه عن العرش. وكان يمزج الدعوة لنفسه بالدعوة لملك قشتالة، ويشيد بمزايا الصلح المعقود معه. ولم يكن خافياً أنه يستظل بمظاهرة النصارى وتأييدهم، وأنه غدا آلة فى يد ملك قشتالة يعمل بوحيه وتوجيهه. ولما غادر ملك قشتالة مدينة لوشة أخذ معه أبى عبد الله إما أسيراً، حسبما يقول صاحب أخبار العصر، أو أنه سار معه ليستمد عونه فى تنفيذ خطته للاستيلاء على عرش غرناطة، وهى خطة يؤيدها ملك قشتالة ويشجعها، لأنها تخدم أغراضه ومطامعه فى القضاء على تلك المملكة الصغيرة التى مزقتها الحرب الأهلية. ولم يغفل فرناندو تلك الفرصة الذهبية لانتزاع ما يمكن انتزاعه من أراضى مملكة غرناطة. فبينما الحرب الأهلية تضطرم فى العاصمة وحولها، إذ سار النصارى إلى حصن أليورة الواقع شمال غربى غرناطة وحاصروه وضربوه "بالأنفاط" حتى اضطروا أهله إلى التسليم والخروج عنه؛ ثم ساروا إلى حصن مكلين الواقع شمال شرقى إليورة وهاجموه ونشبت بينهم وبين المدافعين عنه معركة عنيفة انتهت ¬_______ (¬1) ان اختيار أراجون وبلنسية بالذات لإيواء المسلمين المهاجرين من القواعد المفتوحة، يرجع إلى أنه كان يوجد عندئذ فى أراجون وفى بلنسية بالأخص مجتمع كبير من المدجنين، أو المسلمين القدماء الذين بقوا تحت حكم الاسبان. (¬2) Gaspar y Remiro: ibid, p. 32

بتحطيم أسواره بفعل "الأنفاط" واستيلائهم عليه، وخروج أهله عنه إلى غرناطة (¬1) ثم استولى النصارى بعد ذلك على حصن قلنبيرة الواقع شرقى مكلين بالأمان (¬2)، إذ رأى أهله ما نزل بغيرهم ففضلوا التسليم دون قتال، واستولوا بعده على سلسلة أخرى من القلاع والحصون التى تحمى مشارف غرناطة، وأصلحوها وشحنوها بالرجال والمؤن، لتؤدى دورها فيما بعد من التضييق على العاصمة وتهديدها (¬3). وهنا نقف قليلا لنتساءل عن حقيقة هذه "الأنفاط" التى توالى ذكرها فى سير هذه المعارك، التى اضطرمت بالأخص فى لوشة وفى رندة وفى الحصون المجاورة، والتى كانت فيما يبدو عمدة النصارى فى التفوق على المسلمين، فى تحطيم هذه الحصون القوية. ولقد أشارت الرواية الإسلامية عن سقوط غرناطة، وهى رواية صاحب "أخبار العصر" وهى التى كتبها بعد وقوع هذه الأحداث بنحو نصف قرن فقط وكان شاهداً لها ومشتركاً فيها، إلى تلك "الأنفاط" فى عدة مواضع ثم وصفها لنا فيما يأتى: "وكان له (أى لملك قشتالة) أنفاط يرمى بها صخور من نار، فتصعد فى الهواء، وتنزل على الموضع، وهى تشتعل ناراً، فتهلك كل من نزلت عليه وتحرقه، فكان تلك من جملة ما كان يخذل فى أهل المواضع التى كان ينزل بها" (¬4). ونحن نعرف أن مسلمى المشرق كانوا منذ أيام الحروب الصليبية، يحذقون استعمال الرمى بالنار والأنفاط، وأن هذه النار كانت ترمى من آلات قاذفة تعرف بالحراقات، على حصون العدو ومعسكراته وسفنه فى البحر فتفتك بها. وقد لعبت هذه النار دوراً هاماً فى الحروب الصليبية، وألفت فيها مصر سلاحاً منيعاً لرد عدوان الصليبيين وتمزيق حملاتهم. والظاهر أن هذا السلاح الذى استأثر به المسلمون مدى حين فى المشرق، قد عرفه مسلمو إفريقية والأندلس منذ منتصف القرن السابع الهجرى، واستعملوه فى محاربة أعدائهم نصارى اسبانيا. ففى حصار لبلة (655 هـ - 1257 م) استعمل الموحدون من فوق الأسوار لدفع جيوش ألفونسو العاشر ملك ¬_______ (¬1) ما تزال أنقاض هذا الحصن قائمة فى مكانها. وقد زرناه وشاهدنا أثر الأنفاط فى هدم بعض أبراجه وأسواره. (¬2) حصن إليوره أو بلدة إليوره هى بالإسبانية Illora؛ وموكلين أو مكلين هى بالإسبانية Moclin؛ وقلنبيرة هى Colomera، وهى اليوم من بلاد منطقة غرناطة الشمالية الغربية. (¬3) أخبار العصر ص 22. (¬4) أخبار العصر ص 22

قشتالة، آلات تقذف حجارة ومواد ملتهبة يصحبها دوى كالرعد (¬1). وقد كان استعمال هذه النار أو الأنفاط الفتاكة يتطور بلا ريب مع العصور. ومنذ منتصف القرن الثامن الهجرى (الرابع عشر الميلادى) نرى مسلمى الأندلس يستعملون لمقاتلة النصارى آلات تقذف اللهب والحجارة، ويصحبها دوىّ مخيف (¬2). وظهرت براعة الأندلسيين فى استعمال هذه الآلات فى عدة مواقع. ففى حصار بياسة فى سنة 724 هـ (1324 م) فى عهد السلطان أبى الوليد اسماعيل، أطلق المسلمون على المدينة الحديد والنار من آلات قاذفة تشبه المدافع، واستعملت مثل هذه الآلات فى موقعة وادى لكه (ريو سليتو) سنة 1340 م (740 هـ)، وفى الدفاع عن الجزيرة سنة 1342 م (742 هـ) وذلك فى عصر السلطان أبى الحجاج يوسف. والظاهر من وصف هذه الآلات أنها كانت نوعاً من المدافع الساذجة التى تُحشى بالحديد والحجارة وبعض المواد الملتهبة، التى كانت فيما مضى عماد الحراقات أو الأنفاط الشرقية. وليس بعيداً أن يكون مسلمو الأندلس قد وقفوا فى هذا العصر أيضاً إلى العثور على سرّ البارود، قبل أن يقف على سره القس الألمانى برتولد شفارتز فى منتصف القرن الرابع عشر (¬3). ومن المرجح أن النصارى الإسبان قد نقلوا سر الأنفاط عن مسلمى الأندلس، وحذقوا فى استعمالها مع الزمن. ولما غلب الضعف على مملكة غرناطة تضاءلت أهباتها الدفاعية، ونقصت مواردها من السلاح والذخيرة، خصوصاً بعد أن فقدت معظم قواعدها الصناعية. بيد أنه من المحقق أن المسلمين كانوا يستعملون الأنفاط أيضاً فى محاربة أعدائهم وإن يك ذلك، نسبة صغيرة تتفق مع ضآلة مواردهم. أما القشتاليون فقد كانت لديهم "الأنفاط" بكثرة، وكانت السلاح المفضل فى مهاجمة القواعد والحصون الإسلامية. وهنالك أيضا ما يدل على أن هذه الأنفاط التى كان يستعملها القشتاليون لم تكن سوى المدفع فى صورته البدائية، فالرواية الغربية تحدثنا عن اهتمام ملك قشتالة بصنع "المدافع" لمحاربة المسلمين، وتقول لنا إن هذه المدافع كانت ¬_______ (¬1) راجع كتابى عصر المرابطين والموحدين القسم الثانى ص 497. (¬2) راجع كتابى "مواقف حاسمة فى تاريخ الإسلام" الطبعة الرابعة ص 128 و 129. (¬3) ولدينا رواية موريسكية هى رواية ابن غانم الموريسكى الأندلسى مؤلف كتاب "العز والمنافع للمجاهدين بالمدافع"، الذى سوف يأتى ذكره فى موضعه: وهو يقول لنا إن اختراع البارود وقع فى سنة 768 هـ (1366 م)، ومن الواضح أن هذا التاريخ المتأخر لا يتفق مع ما قدمناه من شواهد وحوادث تاريخية تدل على أن البارود قد اخترع قبل ذلك بنحو نصف قرن

تصنع فى مدينة وشقه، وإن كميات عظيمة من القنابل الخاصة بها كانت تصنع فى "جبال قسنطينة" (¬1). وتحدثنا الرواية الإسلامية المعاصرة عن "البارود" وتقول لنا إن النصارى حينما نشبت الثورة فى ربض البيازين، أمدوا فريقاً من الثوار "بالرجال والأنفاط والبارود" (¬2) إذكاء منهم للفتنة بين المسلمين. وهكذا نرى أن الأنفاط التى تنوه الرواية الإسلامية بفتكها بحصون المسلمين وصفوفهم فى معارك غرناطة، إنما هى المدافع بذاتها، وأن تفوّق القشتاليين فى استعمال هذا السلاح، كان له أعظم الأثر فى التعجيل بإخضاع مملكة غرناطة والقضاء عليها. ... ولنعد إلى قصة الحرب الأهلية فى غرناطة. فقد أثار أهل البيازين كما قدمنا بتحريض من دعاة أبى عبد الله وأمه الأميرة عائشة. والتف معظم الشعب الغرناطى حول أميره أبى عبد الله الزغل، واستمرت المعارك سجالا بين الفريقين مدى أشهر. وفى أثناء ذلك استولى النصارى على لوشة وعلى كثير من الحصون الشمالية الغربية. وسار أبو عبد الله بعد سقوط لوشة مع ملك قشتالة، ولم يمض سوى قليل حتى عاد إلى الأنحاء الشرقية، إلى منطقة بلش، وأخذ يدبر خططه. وفى أوائل شوال سنة 891 هـ (سبتمبر 1486) غادر أبو عبد الله محمد الأنحاء الشرقية، وظهر فجأة فى ربض البيازين، واجتمع حوله أنصاره من الثوار، وأذاع أنه عقد الصلح مع النصارى، وأمده فرناندو حليفه بالرجال والعدد والذخائر والمؤن ومنها الأنفاط (¬3)، فزادت الفتنة اضطراماً. وشدد أبو عبد الله الزغل الضغط على أهل البيازين، وبينما هو على وشك تمزيقهم وإبادتهم، إذ بلغه أن ملك قشتالة قد سير قواته إلى مدينة بلش مالقة Vélez Malaga، وذلك فى ربيع الثانى سنة 892 هـ (مارس 1487) (¬4). وكان طبيعياً أن ينتهز فرناندو الخامس فرصة اشتغال المسلمين بفتنتهم القاضية. وكانت بَلِّش حصن مالقة، وسقوطها يعرض مالقة لأشد الأخطار. وأدرك مولاى الزغل فى الحال أهمية بلش فهرع إليها فى بعض قواته، وترك البعض الآخر لقتال أبى عبد الله وأهل البيازين. ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته، واستبسال أهل ¬_______ (¬1) Sierra Constantina راجع: Prescott ; ibid; p. 223 (¬2) راجع أخبار العصر ص 24. (¬3) Gaspar y Remiro: ibid ; p. 42 (¬4) أخبار العصر ص 22 - 24؛ ونفح الطيب ج 2 ص 612

بلش فى الدفاع عن مدينتهم لم تغن شيئاً، وسقطت بلش مالقة فى يد النصارى فى جمادى الأولى سنة 892 هـ (ابريل سنة 1487) وعاد الزغل بجنده ميمماً صوب غرناطة. ولكنه علم أثناء مسيره أن غرناطة قامت أثناء غيابه بدعوة أبى عبد الله، وأنه دخلها وتبوأ العرش مكانه (5 جمادى الأولى - 28 أبريل). وكان أهل غرناطة يحبون الزغل، ويقدرون بطولته ووطنيته، واستبساله فى مقاومة النصارى، ولكنهم تحولوا عنه إلى تأييد أبى عبد الله لمحالفته للنصارى، وأملهم بذلك في اتقاء عدوانهم على أرباضهم وقراهم، وصون أنفسهم ومصالحهم. وهكذا أيقن الزغل عبث المحاولة، وارتد بصحبه إلى وادى آش، وامتنع فيها بقواته، وبذلك انقسمت مملكة غرناطة الصغيرة إلى شطرين يتربص كل منهما بالآخر: غرناطة وأعمالها ويحكمها أبو عبد الله محمد ابن السلطان أبى الحسن، ووادى آش وأعمالها ويحكمها عمه الأمير محمد بن سعد (أبو عبد الله الزغل). وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة، من تمزيق البقية من دولة الإسلام بالأندلس، تمهيداً للقضاء عليها

الفصل الثانى بداية النهاية

الفصل الثانى بداية النهاية أبو عبد الله محمد يرقى العرش للمرة الثانية. تمزق المملكة الإسلامية. خطط ملك قشتالة للقضاء عليها. زحف النصارى على مالقة وحصارها. سعى الزغل إلى إنقاذها. استغاثته بملوك الإسلام. بسالة المسلمين فى الدفاع عنها. شدة الحصار وأهواله. تسليمها للنصارى. نكث فرناندو بوعوده. استغاثة الأندلس بمصر. تتبع مصر لحوادث الأندلس. صدى محنة الأندلس فى الشرق. رواية عن خطة مصر وتركيا لإنقاذ الأندلس. سفارة الأندلس إلى مصر. رواية ابن إياس عنها. مصر تلجأ إلى الوسائل الدبلوماسية. سفارة مصر إلى البابا وملك نابل وملكى اسبانيا. رد فرناندو وسفارته إلى ملك مصر. أثر سقوط مالقة. استيلاء النصارى على الأنحاء الشرقية. عهد فرناندو لأهل أشكر. حصار المنكب. تسليمها وعهد النصارى لأهلها. زحف فرناندو على مدينة بسطة. بسالة المسلمين فى الدفاع عنها. حصارها وتسليمها. عهد النصارى ليحيى النيار زعيم بسطة وألمرية. الشروط التى منحت له. تسليم ألمرية وشروط التسليم. يأس مولاى الزغل وخضوعه لفرناندو. دخول النصارى وادى آش. نزول الزغل عن حقوقه. الشروط التى منحت له. جوازه إلى المغرب. رواية عن سلوك الزغل. تبوأ أبو عبد الله محمد بن السلطان علىّ أبى الحسن عرش غرناطة للمرة الثانية، عقب عوده من الأسر بنحو عام، ولكنه لم يكن يحكم تلك المرة سوى مملكة صغيرة، وكان المفروض فوق ذلك أنه يحكمها باسم ملك قشتالة وتحت وحمايته، وكانت الخطوب والفتن التى توالت على مملكة غرناطة قد مزقتها، ولم يبق منها بيد المسلمين سوى بضع مدن وقواعد متناثرة، مختلفة الرأى والكلمة، ينضوى بعضها تحت لوائه وتشمل الأنحاء الشمالية الغربية، وينضوى البعض الآخر تحت لواء عمه محمد ابن سعد (الزغل)، وتشمل الأنحاء الشرقية والجنوبية. وكان واضحاً أن مصير المملكة الإسلامية أصبح يهتز فى يد القدر، بعد أن نفذت جيوش النصرانية إلى قلبها، واستولت على كثير من قواعدها وحصونها الداخلية، مثل الحامة ورندة ولوشة وبلش مالقة وغيرها. وكان ملك قشتالة يحرص على المضى فى تحقيق خططه لسحق البقية الباقية من دولة الإسلام فى الأندلس قبل أن يعود إليها اتحاد الكلمة، فيبعث إليها روحاً جديدة من العزم والمقاومة. وكان من الطبيعى أن يؤثر البدء بغزو القواعد الشرقية والجنوبية التى يسيطر عليها مولاى الزغل، لأن الزغل

لم يكن يدين بطاعته، وكان يبدى فى مقاومته عزماً لا يلين ولا يخبو، ولأنه من جهة أخرى كان يرتبط بأمير غرناطة بصلح يمتد إلى عامين، وقد أراد أن يسبغ على عهوده مسحة غادرة من الوفاء، وأخيراً لأنه كان يريد أن يعزل غرناطة وأن يطوّقها من كل صوب، قبل أن يسدد إليها الضربة الأخيرة. وقد رأينا كيف سقطت قاعدة بَلِّش حصن مالقة من الشرق فى يد النصارى، بعد دفاع عنيف، فى جمادى الأولى سنة 892 هـ (مايو 1487 م). وعلى أثر سقوطها غادرها معظم أهلها، وتفرقوا فى أنحاء الأندلس الأخرى الباقية بيد المسلمين، وجاز كثير منهم إلى عدوة المغرب، واستولى النصارى على جميع الحصون والقرى المجاورة ومنها حصن قمارش وحصن مونتميور، واستطاعوا بذلك أن يشرفوا على مالقة من كل صوب. وكانت مالقة ما تزال أمنع ثغور الأندلس، وقد أضحت بعد سقوط جبل طارق عقد صلتها الأخيرة بعدوة المغرب، وكان فرناندو يحرص على أن يقطع كل وسيلة ناجعة لقدوم الأمداد من إفريقية وقت الصراع الأخير. وكان الاستيلاء على مالقة يحقق هذه الغاية. ومن ثم فإنه ما كاد النصارى يظفرون بالاستيلاء على بلش والحصون المجاورة، حتى زحفوا على مالقة وطوقوها من البر والبحر بقوات كثيفة، وذلك فى جمادى الثانية سنة 892 هـ (يونيه 1487 م) وامتنع المسلمون داخل مدينتهم، وكانت تموج بالمدافعين وعلى رأسهم نخبة مختارة من أكابر الفرسان، ومعهم بعض الأنفاط والعدد الثقيلة. وكانت مالقة تدين بالطاعة للأمير محمد بن سعد (الزغل) صاحب وادى آش، ولكنه لم يستطع أن يسير إلى إنجادها بقواته خوفاً من غدر ابن أخيه أمير غرناطة، فترك مالقة إلى مصيرها وهو يذوب تحسراً وأسى. ولكنه فكّر فى وسيلة أخيرة لعلها تجدى فى إنقاذ الأندلس من خطر الفناء الداهم، هى أن تستغيث بملوك الإسلام لآخر مرة، فأرسل رسلا إلى أمراء إفريقية وإلى سلطان مصر الأشرف قايتباى. ولم يكن من المنتظر إزاء بعد المسافة أن تصبر مالقة على ضغط النصارى حتى يأتيها المدد المنشود، وكان يتولى الدفاع عن الثغر المحصور جند غمارة وزعيمهم حامد الثغرى. وأبدى المسلمون فى الدفاع عن ثغرهم أروع ضروب البسالة والجلد، وحاولوا غير مرة تحطيم الحصار المضروب عليهم، وفتكوا بالنصارى فى بضع مواقع محلية، ومع ذلك فقد ثابر النصارى على ضغطهم وتشديد نطاقهم، حتى قطعت كل علاقة للمدينة المحصورة مع الخارج، ومنعت عنها سائر الأمداد والأقوات، وعانى المسلمون

داخل مدينتهم أهوال الحصار المروع، واستنفدوا كل ما وصلت إليه أيديهم من الأقوات، وأكلوا الجلود وأوراق الشجر، وفتك بهم الجوع والإعياء والمرض، ومات كثيرون من أنجاد فرسانهم، ولم يجدوا فى النهاية لهم ملاذاً سوى التسليم على أن يُؤمَّنُوا فى أنفسهم وأموالهم. وهكذا سقطت مالقة بعد دفاع مجيد استطال ثلاثة أشهر فى أيدى النصارى، وذلك فى أواخر شعبان سنة 892 هـ (أغسطس 1487 م). ولم يحافظ فرناندو على ما بذله لأهلها من عهود لتأمين النفس والمال، وأصدر قراراً ملكياً باعتبار أهلها المسلمين رقيقاً يجب عليهم افتداء أنفسهم ومتاعهم، ويفرض على كل مسلم أو مسلمة مهما كان السن والظروف، الأحرار منهم والعبيد الذين فى خدمتهم، فدية للنفس والمتاع، قدرها ثلاثون دوبلا من الذهب الوازن اثنين وعشرين قيراطاً، أو ما يوازى هذا القدر من الذهب والفضة واللآلى والحلى والحرير، وأنه يسمح لمن أدوا هذه الفدية، إذا شاءوا، بالعبور إلى المغرب وتقدم السفن لنقلهم، وأنه لا يسمح للمسلمين ذكوراً أو إناثاً بالعيش أو الإقامة فى مملكة غرناطة، ولكن يسمح لهم أن يعيشوا أحراراً آمنين فى أية ناحية من نواحى قشتالة، وأنه لا يتمتع بهذه المنح بنو الثغرى وزوجاتهم وأولادهم، وبعض أفراد أشار إليهم القرار (¬1). ودخل النصارى المدينة دخول الفاتحين، وعاثوا فيها وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال والمتاع، وفر من استطاع من المسلمين إلى غرناطة أو وادى آش أو جاز إلى العدوة. وكان هذا التصرف نموذجاً لما يضمره ملك النصارى نحو معاملة المسلمين المغلوبين، ولما تنطوى عليه سياسته من نكث للوعود والعهود. وتقول الرواية الإسلامية المعاصرة فى وصف محنة أهل مالقة "وكان مصابهم مصاباً عظيماً تحزن له القلوب وتذهل له النفوس، وتبكى لمصابهم العيون" (¬2). - 2 - ولنعد الآن إلى قصة السفارات التى أوفدها أبو عبد الله الزغل إلى ملوك إفريقيه ومصر وقسطنطينية يستغيث بهم، ويلتمس نصرتهم. والتجاء الأندلس إلى ملوك العدوة فى طلب الغوث والنجدة أمر طبيعى وتقليد أندلسى قديم، أشرنا إليه مراراً فيما تقدم. ولكن دول المغرب كانت يومئذ يسودها الضعف والتفرق، ولم يكن ¬_______ (¬1) هذا ما ورد ضمن وثيقة محفوظة بدار المحفوظات الإسبانية العامة Archivo General de Simancas; P. R. 11-5 (¬2) أخبار العصر ص 27 و 28

فى استطاعتها أن تهرع إلى إنجاد الأندلس، كما فعلت فى الماضى غير مرة. ولم يلب نداء مولاى الزغل سوى شراذم ضئيلة من المجاهدين المتطوعين، جازت البحر إلى الأندلس، واشتركت فى نضالها الأخير. وأما استغاثة الأندلس بمصر فلم تقع إلا فى عهد متأخر، وذلك حينما ضعف أمر بنى مرين ملوك العدوة الأقوياء، وانقطعوا عن العبور إلى الأندلس، وشغلوا بأمر الدفاع عن أنفسهم. وقد ذكرنا فيما تقدم قصة السفارة الأندلسية التى بعث بها السلطان أبو عبد الله الأيسر إلى سلطان مصر الظاهر جقمق فى سنة 844 هـ (1440 م)، وكيف أنها لم تسفر عن أية نتائج عملية. على أنه لم يكن ثمة ريب فى أن الحوادث الأندلسية المفجعة، كانت قد ذاعت يومئذ فى أنحاء العالم الإسلامى، واهتز لمصابها أمراء الإسلام قاطبة. وكان صداها يتردد فى بلاط القاهرة وغيره من قصور المشرق، وكان أمراء الأندلس وزعماؤها مذ لاح لهم شبح الخطر الداهم، يتجهون بأبصارهم إلى دول المغرب والمشرق معاً، وكانت كتبهم ونداءاتهم فى تلك الآونة العصيبة تترى على فاس والقاهرة وقسطنطينية. وفى صحف العصر ما يدل على أن مصر كانت بنوع خاص، تتبع حوادث الأندلس باهتمام وجزع، فإن ابن إياس مؤرخ مصر فى ذلك العصر لم يفته أن يدون فى حولياته هذه الحوادث تباعاً، فنراه يقول فى حوادث ذى الحجة سنة 886 هـ (1481 م)، ما يأتى: "وفيه جاءت الأخبار من بلاد الغرب أن أبا عبد الله محمد بن أبى الحسن علىّ بن سعد ابن الأحمر قد ثار على أبيه الغالب بالله صاحب غرناطة وملكها من أبيه، وجرت بينهما أمور يطول شرحها، وآل الأمر بعد ذلك إلى خروج الأندلس عن المسلمين، وملكها الفرنج والأمر لله فى ذلك". وفى حوادث رجب سنة 890 هـ (1485 م). "وفى رجب جاءت الأخبار بوفاة ملك الأندلس صاحب غرناطة، وهو الغالب بالله أبو الحسن". وفى حوادث جمادى الآخرة سنة 891 هـ (1486 م) "إن صاحب غرناطة (أبا عبد الله) توجه إلى عمه يسأله أن يرسل له نجدة تعينه على قتال صاحب قشتالة، وان الفتن هناك قائمة والأمر لله" (¬1). وهكذا كانت حوادث الأندلس تتردد رغم بعد المسافة وصعوبة المواصلة فى مصر، ويدونها مؤرخ مصر المعاصر، وإن كان فى إيرادها تنقصه الدقة والوضوح. وكانت مصر ترتبط يومئذ مع ثغور الأندلس ولاسيما مالقة وألمرية بعلائق ¬_______ (¬1) راجع ابن إياس: تاريخ مصر (بولاق) ج 2 ص 216 و 230 و 237

تجارية وثيقة. وكان لمصر هبتها المتالدة بين الدول النصرانية منذ الحروب الصليبية وبالأخص لأنها تحكم البقاع النصرانية المقدسة، وبين رعاياها ملايين من النصارى. ولم يكن غريباً فى تلك الآونة أن تفكر الأندلس إبان محنتها القاسية مرة أخرى، فى الإستغاثة بمصر بعد أن رأت قصور الدول المغربية عن إنجادها. وكان من الطبيعى أن تهتم دول الإسلام من أقصاها إلى أقصاها بمصير الأمة الأندلسية، وأن تفكر فى التماس السبيل إلى غوثها إن استطاعت إلى ذلك سبيلا. ولا تشير المصادر الإسلامية إلى فكرة أو سياسة معينة، وضعتها أو اعتزمتها الدول الإسلامية لتحقيق هذه الغاية، ولكنها تشير فقط إلى سفارة أندلسية وفدت على بلاط مصر. على أن المصادر الغربية تشير بالعكس إلى أن خطة كهذه قد وضعت ونظمت. وخلاصة ما تقوله فى ذلك هو أن المشرق كله اهتز لحوادث الأندلس، وسقوط قواعدها السريع فى يد النصارى، وأن بايزيد الثانى سلطان الترك والأشرف قايتباى سلطان مصر، تهادنا مؤقتاً بالرغم مما كان بينهما من خصومات مضطرمة وحروب دموية، وعقدا محالفة لإنجاد الأندلس وإنقاذ دولة الإسلام فيها، ووضعا لذلك خطة مشتركة خلاصتها أن يرسل بايزيد الثانى أسطولا قوياً لغزو جزيرة صقلية التى كانت يومئذ من أملاك اسبانيا، ليشغل بذلك اهتمام فرناندو وإيسابيلا، وأن تبعث سريات كبيرة من الجند من مصر وإفريقية، تجوز البحر إلى الأندلس، لتنجد جيوشها وقواعدها (¬1). ومن الصعب أن نعتقد بأن مثل هذه الخطة الموحدة، يمكن أن يتفق عليها بين مصر وقسطنطينية فى مثل الظروف التى كانت تجوزها علائق البلدين يومئذ؛ فقد كانت علائق جفاء وقطيعة، وكان الترك يتربصون بمصر ويطمحون إلى غزوها، وكانت مصر تخشى العدوان ويسودها التوجس والحذر، وكان انفصام العلائق بين تركيا ومصر على هذا النحو أبعد من أن يسمح بعقد مثل هذا التحالف بينهما. وكل ما يمكن قوله فى هذا الشأن هو أن فكرة إنجاد الأندلس كانت تلقى فى بلاط القاهرة وقسطنطينية نفس العطف، وإن لم يتفاهما فى ذلك على خطة موحدة. وعلى أى حال فمن المحقق الذى لا ريب فيه أن مصر قد تلقت استغاثة الأندلس، ووضعت خطة دبلوماسية خاصة لإسعافها وإنجادها. وقد وصلت سفارة الأندلس إلى مصر فى أواخر سنة 892 هـ (نوفمبر سنة 1487 م). ويصف ابن إياس هذه ¬_______ (¬1) راجع: Irving: Conquest of Granada p. 172

السفارة فيما يأتى: "وفى ذى القعدة (سنة 892 هـ) جاء قاصد من عند ملك الغرب صاحب الأندلس، وعلى يده مكاتبة من مرسله تتضمن أن السلطان يرسل له تجريدة تعينه على قتال الفرنج، فإنهم أشرفوا على أخذ غرناطة وهو فى المحاصرة معهم. فلما سمع السلطان ذلك، اقتضى رأيه أن يبعث إلى القسوس الدين بالقمامة التى بالقدس بأن يرسلوا كتاباً على يد قسيس من أعيانهم، إلى ملك الفرنج صاحب نابل، بأن يكاتب صاحب إشبيلية بأن يحل عن أهل مدينة غرناطة ويرحل عنهم، وإلا يشوش السلطان على أهل القمامة، ويقبض على أعيانهم، ويمنع جميع طوائف الفرنج من الدخول إلى القمامه ويهدمها، فأرسلوا قاصدهم وعلى يده كتاب إلى صاحب نابل، كما أشار السلطان، فلم يفد ذلك شيئاً ومَلَكَ الفرنج مدينة غرناطة فيما بعد" (¬1). وفى رواية ابن إياس شيىء من اللبس. ذلك أن حصار النصارى الأخير لغرناطة، لم يبدأ إلا فى مارس سنة 1491 الموافق جمادى الثانية سنة 896 هـ، فالأمر لم يكن متعلقاً إذاً بإنقاذ غرناطة. وكانت جيوش فرناندو وإيسابيلا منذ بداية سنة 892 هـ تتدفق حسبما رأينا على أراضى مولاى الزغل لكى تنتزع منه الثغور الجنوبية. وقد استولت على بَلِّش مالقة فى جمادى الأولى من هذا العام (مايو 1487)، ثم زحفت توا على مالقة، وضربت حولها الحصار فى جمادى الثانية (يونيه سنة 1487 م). وقد وصل صريخ الأندلس إلى مصر فى أواخر سنة 892 هـ، وذلك بعد أن سقطت مالقة فى يد النصارى بنحو ثلاثة أشهر. وإذاً فمن الواضح أن هذا الصريخ كان متعلقاً بإنقاذ مالقة، وأنه كان صادراً من مولاى الزغل بطل الأندلس والمدافع عنها يومئذ، والمشفق عليها من السقوط، ولم يصدر من صاحب غرناطة وهو ابن أخيه أبو عبد الله محمد، وقد كان يومئذ يعيش آمناً فى ظل الهدنة الغادرة التى عقدها مع النصارى. ولم يكن من الميسور على مصر أن تلبى نداء الأندلس بطريقة فعالة، فترسل إليها الأمداد أو المساعدات المادية على ما بينهما من بُعد الشقة، وعلى ما كان يشغل مصر يومئذ من الحوادث الداخلية، وتوجسها من عدوان الترك على حدودها الشمالية. ولكن مصر حاولت مع ذلك أن تعاون الأندلس بطريق الدبلوماسية، والضغط السياسى. وسلك بلاط القاهرة فى ذلك خطة تدلى بذكائه وحزمه، وتدلى بالأخص بوقوفه على مجرى الشئون الخارجية، وتطور العلائق الدبلوماسية فى هذا العصر. ¬_______ (¬1) تاريخ مصر ج 2 ص 246

ذلك أن سلطان مصر الملك الأشرف، أجاب عن سفارة الأندلس بتوجيه سفارة مصرية إلى البابا وملوك النصرانية. واختار لأدائها راهبين من رعاياه النصارى، أحدهما القس أنطونيو ميلان رئيس دير القديس فرنسيس فى بيت المقدس، وعهد إليهما بكتب إلى البابا وهو يومئذ إنوصان الثامن، وإلى ملك نابل (نابولى) فرناندو الأول، وإلى فرناندو وإيسابيلا ملكى قشتالة وأراجون. وفى هذه الكتب يعاتب سلطان مصر ملوك النصارى على ما ينزل بأبناء دينه المسلمين فى مملكة غرناطة، وعلى توالى الإعتداء عليهم، وغزو أراضيهم، وسفك دمائهم، فى حين أن رعاياه النصارى فى مصر وبيت المقدس، وهم ملايين، يتمتعون بجميع الحريات، والحمايات، آمنين على أنفسهم وعقائدهم وأملاكهم. ولهذا فهو يطلب إلى ملكى قشتالة وأراجون الكف عن هذا الاعتداء، والرحيل عن أراضى المسلمين، وعدم التعرض لهم، ورد ما أخذ من أراضيهم، ويطلب إلى البابا وملك نابل أن يتدخلا لدى ملكى قشتالة وأراجون، لردهما عن إيذاء المسلمين والبطش بهم، هذا وإلا فإن ملك مصر سوف يضطر إزاء هذا العدوان، أن يتبع نحو رعاياه النصارى سياسة التنكيل والقصاص، ويبطش بكبار الأحبار فى بيت المقدس، ويمنع دخول النصارى كافة إلى الأراضى المقدسة، بل ويهدم قبر المسيح ذاته وكل الأديار والمعابد والآثار النصرانية المقدسة (¬1). وغادر القس أنطونيو ميلان وزميله الديار المصرية، لتأدية سفارة مصر إلى ملوك النصرانية. ولسنا نعرف موعد هذا الرحيل بالضبط، ولكن السفيرين وصلا إلى اسبانيا فى خريف سنة 1489 م، أعنى لنحو عام ونصف من وصول صريخ الأندلس إلى القاهرة. وكانت مالقة قد سقطت فى يد النصارى منذ عامين واستولوا على طائفة أخرى من الحصون والقواعد، ثم تحولوا بعد ذلك إلى بسطة حسبما يجىء، وضرب فرناندو حولها الحصار. وهنالك أمام أسوار بسطة وفد القس أنطونيو ميلان وزميله إلى معسكر النصارى فى أواخر سنة 1489 م، فاستقبلهما فرناندو بحفاوة وترحاب، واستلم كتاب السلطان، واستمع إلى رسالتهما بعناية. وكان السفيران قد عرجا فى طريقهما على رومة ونابل أولا، وقدّما كتب السلطان إلى البابا ¬_______ (¬1) ابن إياس فى تاريخ مصر ج 3 ص 246 و Prescott: Ferdinand and Isabella p. 272 و Irving: ibid. p. 227. وظاهر أن فى رواية ابن إياس عن تأليف سفارة مصر بعض النقص، ولكن ملخصه لمحتويات الكتب السلطانية فى منتهى الدقة

إنوصان الثامن وإلى ملك نابل، فكتب البابا إلى فرناندو وإيسابيلا يسألهما عما يجيب به على مطالب السلطان ووعيده، وكتب ملك نابل (فرناندو الأول) إليهما يستفهم عن سير الحرب الأندلسية، ويلومهما على اضطهاد المسلمين، وينصح بالكف عنه حتى لا يتعرض نصارى المشرق إلى قصاص السلطان. ويرجع تدخل ملك نابل على هذا النحو، إلى خلاف بينه وبين ملك أراجون على حقوق عرش نابل، وإلى تخوفه من أن يرتد فرناندو إلى محاربته متى تم ظفره بفتح الأندلس. ثم زار القسان أيضاً مدينة جيان حيث كانت الملكة إيسابيلا، وأبلغاها موضوع سفارتهما ولقيا منها نفس الحفاوة والترحاب (¬1). ولم ير فرناندو وإيسابيلا فى مطالب السلطان ووعيده ما يحملهما على تغيير خطتهما، فى الوقت الذى أخذت فيه قواعد الأندلس الباقية تسقط تباعاً فى أيديهما واقترب فيه أجل الظفر النهائى؛ ولكنهما رأيا مع ذلك إجابة السلطان، فكتبا إليه فى أدب ومجاملة، "أنهما لا يفرقان فى المعاملة بين رعاياهما المسلمين والنصارى، ولكنهما لا يستطيعان صبراً على ترك أرض الآباء والأجداد فى يد الأجانب، وأن المسلمين إذا شاءوا حياة فى ظل حكمهما راضين مخلصين، فإنهم سوف يلقون منهما نفس ما يلقاه الرعايا الآخرون من الرعاية"، وبذا ارتد القسان إلى المشرق يحملان جواب الملكين إلى السلطان، ومعهما طائفة من التحف والهدايا. ولسنا نعرف ماذا كان مصير هذه الرسالة، ولكنا نرجع أنها وصلت إلى بلاط القاهرة، وإن كنا لا نلمس لها أثراً فى حوادث هذا العصر. وليس فى تصرفات حكومة مصر يومئذ ما يدل على أن السلطان نفّذ وعيده، باتخاذ إجراءات معينة ضد النصارى أو ضد الآثار النصرانية المقدسة. والواقع أن بلاط القاهرة كان يشغل عندئذ بحركات بايزيد الثانى، وصد غاراته المتكررة على الحدود الشمالية. وكان الاضطراب من جهة أخرى يسود شئون مصر الداخلية، ومن ثم فإنه يبدو أن محاولة مصر إنقاذ الأندلس قد وقفت عند هذا الحد. ولم تتعد قيام مصر بمظاهرة دولية تقوم على استغلال الظروف والمؤثرات الدينية. وهكذا فشلت هذه المحاولة الدبلوماسية الفطنة التى بذلتها مصر، وتركت الأندلس إلى قضائها المحتوم. - 3 - وكان سقوط مالقة أمنع الثغور الأندلسية فى يد النصارى ضربة أليمة للمملكة ¬_______ (¬1) Irving: ibid ; p. 258 ; Prescott: ibid ; p. 278

الإسلامية الممزقة، يحرمها من كثير من ضروب الإمداد والغوث التى كانت تأتيها من وراء البحر، وكان واضحاً أن ملك قشتالة يرمى إلى قطع هذه الأمداد بكل الوسائل. ولم يكن باقياً بعد ضياع جبل طارق ومالقة، بيد المسلمين من الثغور سوى ألمرية والمنكب، وإليهما كانت تفد جموع المتطوعة والمجاهدين، بالرغم من بعدهما عن شواطىء العدوة، وكان لابد من الاستيلاء عليهما، قبل أن تقطع كل صلة للأندلس نهائياً بعدوة المغرب وشمال إفريقية. وقضى فرناندو قبل تنفيذ هذه الخطة زهاء عام، يعمل على تطهير منطقة مالقة، والاستيلاء على ما بقى من الحصون الشرقية والغربية، حتى استولى عليها جميعاً ولم يبق منها بيد المسلمين شىء. وفى ربيع سنة 1488 م (893 هـ) زحف فرناندو على أطراف مملكة غرناطة الشرقية، وكانت لبعدها عن العاصمة، أقل استعداداً للدفاع، وانتهت هذه الحملة باستيلاء النصارى على بيرة، والبلشين وأشكر (¬1) وغيرها من القواعد الشمالية الشرقية، وذلك بالرغم من كون أهلها كانوا داخلين فى الصلح المعقود مع أبى عبد الله، وكان على ملك قشتالة لو أنه أوفى بعهوده، أن يتركهم حتى ينتهى أمد الصلح المذكور (¬2). وقد عثرنا على نص العهد الذى أصدره الملكان الكاثوليكيان لأهل أشكر، وهو نموذج للعهود التى صدرت لباقى البلاد المفتوحة فى هذه المنطقة، وفيه يتعهد الملكان، بقبول أهل أشكر بين رعاياهما وتحت حمايتهما، وأن لا يؤخذ شىء من أمتعتهم أو يصيبهم أى مكروه، وألا يدفعوا من الضرائب إلا ما كانوا يؤدونه لملوكهم المسلمين، وألا يرغموا على محاربة إخوانهم مسلمى غرناطة، وأن يسمح لهم باستبقاء زعمائهم وفقهائهم، وعوائدهم وشريعتهم، وأنه يحق لهم الإقامة فى أى جزء من أراضى مملكة قشتالة، كما يحق لهم العبور إلى المغرب أحراراً ودون أى قيد، وأن يعامل السكان جميعاً ذكوراً أو إناثاً، بالرفق والكرامة وألا يغصبهم أحد فى دورهم، أو يسىء إليهم أو يتلف شيئاً من أمتعتهم أو محاصيلهم، وألا يعاشر نصرانى مسلمة، أو مسلم نصرانية، ومن فعل ذلك يعاقب بالموت وتصادر أملاكه، وأن يدفع الكراء العادل لمن يطلب منهم للعمل فى بناء حصن ¬_______ (¬1) بيرة وبالإسبانية Vera تقع شمال شرقى ألمرية على مقربة من البحر المتوسط، والبلشان هما بلج أو " بلش الحسناء " Velez Rubio، و " بلش البيضاء " Velez Blanco، وهما تقعان شمالى شرقى مدينة بسطة Baza، وأشكر هى بالإسبانية Huescar تقع شمال غربى البلشين. (¬2) Gaspar y Remiro: ibid ; p. 43

المدينة (¬1). وسنرى فيما يلى من الحوادث أن الملكين الكاثوليكيين، يغدقان أمثال هذه العهود لسائر البلاد المفتوحة، ولكن دون أية نية صادقة فى الوفاء بها. وفى الوقت الذى اقتربت فيه القوات القشتالية، من مدينة بسطة، أمنع قاعدة فى ولايات غرناطة الشرقية، لتضرب حولها الحصار، سار فرناندو فى بعض قواته إلى ثغر المنكب (¬2)، الواقع فى منتصف المسافة بين مالقة وألمرية، وحاصره، وكان يدافع عنه القائد محمد بن الحاج. ومع أنه لم يك ثمة شك فى النتيجة المحتومة، فقد دافع المسلمون عن ثغرهم، واعتصموا به نحو ثلاثة أشهر، وكبدوا القشتاليين بعض الخسائر. ثم وقعت المفاوضة فى التسليم، وأصدر الملكان الكاثوليكيان للقائد ابن الحاج ومعاونه الفقيه أبى عبد الله الزليخى، عهداً خلاصته، أنه إذا سلم القصبة وكل حصونها فى ظرف تسعة أيام، فإنه يقبل هو وولده وصحبه وقرباه، كما يقبل الوزراء والقواد والفقهاء وسائر أهل المنكب بين رعايا قشتالة، وأنهم يتركون آمنين فى ديارهم وأنفسهم وأموالهم، ويحتكمون إلى شريعتهم، وتترك لهم مساجدهم وصوامعهم، ولا يؤخذ منهم خيلهم أو سلاحهم إلا طلقات البارود، وأنه إذا تم التسليم فى الموعد المذكور، فإنه تقدم إلى القائد المذكور هبة قدرها ثلاثة آلاف دوبلا قشتاليا، وأنه إذا شاء العبور إلى المغرب مع ولده وأسرته، فإنه تقدم إليه سفينة حسنة للجواز فيها مع سائر متاعه دون كراء أو مغرم، وأنه لا تمس أملاك الأهالى، ولهم بيعها أو قبض ريعها إذا عبروا إلى المغرب، وهكذا سلم ثغر المنكب إلى القشتاليين، فى شهر ديسمبر سنة 1489 (المحرم سنة 895 هـ). ولم يبق للمسلمين من الثغور سوى ألمرية، التى طوقها العدو فى نفس الوقت بقواته، وأصبحت تحت رحمته وشيكة التسليم. ولما تم قطع علائق الأندلس على هذا النحو مع عدوة المغرب وشمال إفريقية، بدأ فرناندو فى تنفيذ خطته النهائية للقضاء على ما بقى فى الداخل من المملكة الإسلامية وكانت مملكة غرناطة قد انقسمت كما رأينا إلى شطرين، الأنحاء الشرقية وتشمل وادى آش وأعمالها ويحكمها الأمير محمد بن سعد أبو عبد الله الزغل، والأنحاء الغربية ¬_______ (¬1) تحفظ هذه الوثيقة ببلدية "أشكر" Archivo del Ayuntamiento de Huescar. وقد نقلناها عن مجموعة: Documentos Inéditos para la Historia de Espana Vol. III, p. 170-173 (¬2) وهى بالإسبانية Almunecar

وتشمل مدينة غرناطة وأعمالها، ويحكمها الأمير أبو عبد الله محمد بن على. فقرر فرناندو أن يبدأ بإتمام الاستيلاء على الأنحاء الشرقية، وأن يقضى أولا على سلطان أبى عبد الله الزغل لما كان يخشاه من عزمه وشديد بأسه، فما كاد ينتهى من إخضاع ثغر المنكب وتطويق ثغر ألمرية حتى قرر تضييق الخناق على مدينة بسطة، وكانت قواته تطوقها حسبما تقدم، وكانت الملكة إيسابيلا مع حاشيتها فى جيان على مقربة من الجيش الفاتح، وكانت بسطة أهم القواعد الشرقية التى يسيطر عليها مولاى الزغل بعد وادى آش مقر حكمه، ولم يستطع الزغل أن يغادر معقله فى وادى آش للدفاع عن بسطة، خشية أن يهاجمه ابن أخيه أبو عبد الله فى غيبته، فأرسل إليها حامية مختارة من أنجاد الفرسان بقيادة صهره الأمير يحيى النيار الذى تعرفه التواريخ القشتالية "بسيدى يحيى". وحاول القشتاليون الإطباق على بسطة ومحاصرتها فردهم المسلمون عن أسوارها غير مرة، ونشبت بين الفريقين خارج الأسوار عدة معارك حامية منى فيها النصارى بخسائر فادحة؛ ومع أن النصارى بدأوا هجومهم على بسطة فى شهر رجب سنة 894 هـ (يونيه سنة 1489 م) فإنهم لم يستطيعوا تطويقها ومحاصرتها بصورة فعالة إلا بعد ذلك بثلاثة أشهر، وهنا امتنع المسلمون داخل المدينة بعد أن أثخنوا فى عدوهم غير مرة، واستنفدوا أقواتهم المدخرة. وضيق النصارى الحصار على بسطة مدى ثلاثة أشهر أخرى، حتى ضاق أهلها بالحصار ذرعاً، وقلّت الأقوات واشتد الكرب، ولما رآى المسلمون أنه لم يبق فى الدفاع ثمة أمل، وقد نفدت المؤن، وفتك الجوع والمرض بالعامة، اعتزموا مفاوضة القشتاليين فى التسليم، الرغم مما أبداه زعيمهم يحيى النيار فى البداية من براعة فى تنظيم الدفاع عن بسطة وألمرية، وبالرغم مما أبداه من بسالة فى المعارك التى نشبت مع القشتاليين، فإنه رأى فى النهاية أن يترك هذا الصراع اليائس، وأن يفوز من المعركة بأحسن ما يستطاع لنفسه وذويه. وقد حصلنا على نص الوثيقة التى عقدها القائد يحيى مع مندوب الملك فرناندو، الدون جوتيرى دى كارديناس، وهى تعرض لنا بمحتوياتها المثيرة، صورة من ذلك الدرك المؤلم الذى يدفع اليأس إليه أولئك القادة الذين يغدون بعد حياة حافلة بالإخلاص والبسالة، تحت إغراء العدو وهباته، خونة مارقين مرتدين. وقد حررت هذه الوثيقة فى المعسكر الملكى قرب مدينة ألمرية فى 25 ديسمبر سنة 1489، وفيها يؤكد فرناندو للقائد يحيى النيار زعيم بسطة وألمرية، بأنه

سوف يستقبله تحت حمايته هو وولده وأبناء عمه، وينزلهم فى داره، ويعاملهم بما يليق بهم معاملة أشراف مملكته، ويدافع عنهم وعن أملاكهم وأتباعهم، ثم يقول ملك قشتالة مخاطباً يحيى: وأنه إذا صحت عزيمتكم حقاً على اعتناق النصرانية، وعلى أن تخدمنى وتعاوننى برجالك، فإنى سوف أكتم ذلك طول مدة الفتح، حتى لا يتقول عليك رجالك، ولهذا فإنك تستقبل التعميد المقدس سراً فى غرفتى، حتى لا يعرفه المسلمون إلا بعد تسليم وادى آش. "وأن الكروم والقرى والحصون التى تؤول إليك بالميراث عن والدك أمير ألمرية، أهبها لك لتملكها وتتصرف فيها كما تشاء، وعهدى لك بذلك أنا والملكة زوجى. "وأنه لن تدفع أنت وابنك وأبناء عمك وأعقابك وحشمك، أى مغرم أو جزية فى سائر مملكتى إلى الأبد. "وأنه تشريفاً لشخصك يسمح لك بأن يصحبك عشرون فارساً مسلحون يكل ما يرغبون، وأن تتجول بهم حيث شئت فى أنحاء مملكتى، ويتمتع ولدك بمثل ذلك. "وأنه إذا تنازل صهرك ملك وادى آش عن نصف الملاحات التى أهبها إليه، فإنى أهبك دخلا قدره خمسمائة وخمسون ألف مرافيدى فى ملاحات دلاية، وفضلا عن ذلك، فإنه إذا تم تسليم وادى آش فى الموعد المتفق عليه، فإنى مكافأة لك على جهودك فى خدمتى لدى ملك وادى آش وغيره من القادة، أهبك عشرة آلاف ريال، وأقدم لك سائر البراءات اللازمة بما تقدم" (¬1). وتعهد الملكان الكاثوليكيان فى نفس الوقت لأهل بسطة، بإقرار ما طلبوا من الشروط، وفى مقدمتها أن يُؤَمَّنوا فى النفس والمال، وأن يحتفظوا بدينهم وشريعتهم وعوائدهم. وهكذا سلمت بسطة، ودخلها النصارى فى العاشر من محرم سنة 895 هـ (أوائل ديسمبر سنة 1489 م) وغادرها معظم أهلها إلى وادى آش، حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم وأموالهم، وهرعت جميع الحصون والمحلات القريبة إلى التسليم والدخول فى طاعة ملك النصارى، وسلمت ألمرية بعد ذلك بقليل فى فبراير سنة 1490 م (ربيع الأول سنة 895 هـ)، ومنحت للتسليم شروطاً خلاصتها ¬_______ (¬1) Archivo General de Simancas ; P. R. 11-11

أن يحتفظ المسلمون بدينهم وشريعتهم وأموالهم، وأن تخفف عنهم أعباء الضرائب، وألا يولى عليهم يهودى، وألا يدخل نصرانى فى "الجماعة"، وأن يختار الأولاد الذين يولدون من أمهات من النصارى لأنفسهم، الدين الذى يريدون عند البلوغ، وغير ذلك من المنح المغرية الخادعة التى بذلت لسائر البلاد المفتوحة. وهكذا بسط فرناندو سلطانه على قواعد الأندلس الشرقية كلها من البحر إلى الشمال، ولم يبق خارجاً عن طاعته، سوى مدينة وادى آش مقر مولاى الزغل. ولم تمض أسابيع قلائل على ذلك، حتى أثمرت خيانة يحيى النيار ثمرتها، لدى صهره أبى عبد الله الزغل، فسارع بدوره إلى الانضواء تحت لواء ملك النصارى، وكان الزغل منذ التجأ إلى وادى آش، يرقب سير الحوادث بجزع، ويرى قواعد الأندلس تسقط بالتعاقب، ودون أن ينجدها منجد، ويرى أمل الإنقاذ يخبو تباعاً. فلما سقطت بسطة آخر القواعد التى يسيطر عليها، واتجه النصارى نحو وادى آش معقله الوحيد الباقى، ورأى بالرغم من شجاعته وبسالته أنه يغالب المستحيل، وأن جيوش النصرانية تحيط به من كل صوب، اعتزم أمره، وسار إلى معسكر ملك النصارى يعرض عليه طاعته، والانضواء تحت لوائه، فأجابه فرناندو إلى مطالبه، وبايعه الزغل وسائر قادته بالخضوع والطاعة؛ ودخل النصارى مدينة وادى آش فى أوائل صفر سنة 895 هـ (30 ديسمبر سنة 1489). وعقد الزغل مع ملكى قشتالة معاهدة سرية على نمط المعاهدة التى عقدها صهره يحيى، ونص فيها على طائفة من المنح والإمتيازات، خلاصتها أن يستقر الزغل سيداً فى مدينة أنْدَرَش وما إليها، وأن يكون له ألفا تابع من بنى وطنه، وأن يمنح معاشا سنويا كبيراً، وأن يمنح دخل نصف ملاحات بلدة الملاحة، وأن يرسل فى استحضار أبنائه الأمراء من غرناطة نظراً لخصومته مع ملكها، وأن تكون جميع أملاكه وأملاك ذويه فى غرناطة حرة من كل حق ومغرم، وأن تكون هذه العهود ملزمة لملك قشتالة ولعقبهما من بعدهما، وأخيراً أن يوافق البابا على هذه العهود (¬1). بيد أنه لم يمض قليل على ذلك حتى شعر مولاى الزغل أنه يستحيل عليه الاستمرار فى ذلك الوضع المهين، فنزل لفرناندو عن حقوقه وامتيازاته لقاء مبلغ ضخم، وجاز البحر إلى المغرب، ونزل فى وهران أولا ثم انتقل إلى ¬_______ (¬1) Archivo General de Simancas, P.R. 11-12. وراجع أيضاً: Gaspar y Remiro: ibid ; p. 48

تلمسان، واستقر يقضى بها بقية حياته فى غمر من الحسرات والندم، ولبث عقبه هنالك عصوراً يعرفون ببنى سلطان الأندلس، وجاز معه كثيرون من الكبراء الذين أيقنوا أن نهاية الإسلام بالأندلس قد غدت قضاء محتوماً (¬1). وقد نقل إلينا صاحب أخبار العصر رواية مفادها أن تسليم مولاى الزغل لملك قشتالة كانت نوعاً من الخيانة المقصودة، وأنه تنازل هو وقواده عن البلاد التى كانت تحت أيديهم طوعاً مقابل قبض ثمنها، وذلك لكى ينتقم الزغل من ولد أخيه الأمير أبى عبد الله محمد بن على صاحب غرناطة، فتصبح بعد خضوع سائر أنحاء الأندلس وحيدة تحت رحمة النصارى، وترغم على التسليم إليهم، وينتهى بذلك إمارة أميرها وحكمه (¬2)، وهى رواية لا تتفق فى نظرنا مع ما أثر عن مولاى الزغل من ضروب العزم والبسالة والشهامة والغيرة الإسلامية، التى رأيناها ماثلة خلال هذه الحوادث المؤسية، وإنما استسلم الزغل وخضع، وحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، نزولا على حكم ظروف قاهرة لم ير إلى مغالبتها سبيلا. ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 31؛ ونفح الطيب ج 2 ص 613 و 614. وراجع rescott:ibid; p.285 (¬2) أخبار العصر ص 32

الفصل الثالث الصراع الأخير

الفصل الثالث الصراع الأخير تجديد الصلح بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله. مطالبة الملكين بتسليم غرناطة. ثورة أبى عبد الله. الحماسة فى غرناطة. غزو فرناندو لبسائط غرناطة. رد المسلمين للنصارى. خروج أبى عبد الله للغزو. المعارك بين المسلمين والنصارى. محاولة أبى عبد الله استرداد المنكب. حوادث وادى آش. فرناندو يعلن الأمان. هجرة المسلمين من القواعد الذاهبة. تأهب فرناندو لافتتاح غرناطة. زحفه عليها. عيث النصارى فى المروج. محاصرة النصارى لغرناطة. فرناندو ينشىء أمامها مدينة شنتفى. موقف غرناطة وأحوالها. بسالتها فى الدفاع. موسى بن أبى الغسان فارس غرناطة. يثير حماسة الشعب. يقود الفرسان ويزعج النصارى. تنظيم الدفاع داخل المدينة. اشتداد الحصار وانقطاع الأمداد. تقرير حاكم المدينة. تصميم موسى على الدفاع. فرناندو يزحف على المدينة. خروج المسلمين للقائه. هزيمة المسلمين وارتدادهم. أهوال الحصار. اجتماع السلطان والقادة. تقرير التسليم. اعتراض موسى. ندب الوزير أبى القاسم عبد الملك للمفاوضة. رواية عن التسليم. وثيقة تؤيد هذه الرواية. موقف أبى عبد الله والقادة. مفاوضات التسليم. شروط التسليم وضماناته. معاهدة سرية بضمان حقوق أبى عبد الله وتقرير مصيره. حلف الملكين باحترام الشروط. توقيع وثيقة التسليم. ارتياب موسى ونذيره. إذعان أبى عبد الله والجماعة. أقوال موسى ونبوءته. مغادرته لغرناطة. مصيره الغامض. الحزن واليأس فى غرناطة. التعجيل بإجراءات التسليم. إرسال الرهائن إلى فرناندو. دخول القشتاليين غرناطة. يرفعون الصليب فوق الحمراء. رواية عربية معاصرة عن دخول فرناندو غرناطة. أهبة أبى عبد الله لمغادرة عاصمة ملكه. المناظر المؤسية والركب الباكى. قصيدة شوقى فى وصفها. اللقاء بين أبى عبد الله وفرناندو. "زفرة العربى الأخيرة". رثاء الأندلس. لم يبق على ملكى قشتالة وأراجون، فرناندو وإيسابيلا، بعد أن دانت لهما سائر الثغور والقواعد الأندلسية الجنوبية والشرقية، لإتمام خطتهما فى القضاء على دولة الإسلام بالأندلس، سوى الاستيلاء على غرناطة آخر القواعد الباقية بيد المسلمين؛ ولم تكن غرناطة يومئذ مملكة أو دولة، بل كانت رمزا فقط للمملكة الإسلامية الذاهبة، وكانت واسطة عقد تصرمت سائر حياته، وكانت كالمصباح المرتجف يخبو ضوؤه سراعاً، فلم يكن يقتضى إطفاؤه سوى الضربة الأخيرة. وقد رأى فرناندو وإيسابيلا أن الوقت قد حان لتسديد هذه الضربة، عقب استسلام مولاى الزغل وسقوط وادى آش وبسطة وألمرية. ونحن نعرف أنه على أثر سقوط مدينة لَوْشة فى يد النصارى فى شهر مايو سنة 1486، وحصول

أبى عبد الله فى أيدى الملكين الكاثوليكيين للمرة الثانية، عقد أبو عبد الله معهما معاهدة صلح جديدة لمدة عامين، تطبق فى غرناطة والبلاد التى تدخل فى طاعة أبى عبد الله. وفى ظل هذا الصلح المسموم دخل أبو عبد الله غرناطة، واسترد العرش ومن ورائه تأييد فرناندو وعونه. ومن الواضح أن فرناندو قد اقتضى فى نصوص هذا الصلح، ثمن هذا التأييد والعون. والظاهر أن هذا الصلح قد تجدد لمدة عامين آخرين، حسبما تدل على ذلك وثيقة صادرة عن أبى عبد الله نفسه فى المحرم سنة 895 هـ (ديسمبر سنة 1489)، وهى عبارة عن خطاب موجه منه إلى قادة وأشياخ بلدة أجيجر، وفيه ينوه أبو عبد الله بهذا "الصلح السعيد" المعقود لعامين، ويدعو إلى الدخول فيه، وينعى على معارضيه مواقفهم، التى انتهت بسقوط بسطة "التى أفجعت المسلمين وفلت غرب الدين" (¬1). وبالرغم من أننا لا نعرف نصوص هذا الصلح مفصلة، فإن بعض الروايات القشتالية تذكر لنا أن أبا عبد الله، قد تعهد فى هذا الصلح، بأن يسلم مدينة غرناطة للملكين الكاثوليكيين، متى تم تسليم بسطة وألمرية ووادى آش (¬2). وعلى أى حال ففى فاتحة سنة 1490 م (أوائل صفر 895 هـ) أرسل الملكان الكاثوليكيان إلى السلطان أبى عبد الله، سفارة على يد فارسين، هما كونثالو فرنانديث قائد حصن إليورة، ومرتين ألاركون قائد حصن موكلين، ليخاطباه فى موضوع التسليم (¬3). وتقول الرواية الإسلامية المعاصرة، إن ملك قشتالة لم يطلب تسليم غرناطة ذاتها، ولكنه اكتفى بأن طلب إلى أبى عبد الله تسليم مدينة الحمراء أو قصور الحمراء مقر الملك والحكم، وأن يبقى مقيما فى غرناطة، فى طاعته وتحت حمايته، أسوة بما فعلته سائر نواحى الأندلس (¬4)، أو أن يقطعه أية مدينة أخرى من مدن الأندلس يختار الإقامة فيها، وأن يمده بمال جزيل (¬5). ¬_______ (¬1) نشر هذه الوثيقة الأستاذ جسبار ريميرو فى كتابه الذى سبقت الإشارة إليه Documentos Arabes de la Corte Nazari de Granada وقد استخرجها مع وثائق أخرى صادرة عن أبى عبد الله من مجموعة فرناندو دى ثافرا سكرتير الملكين الكاثوليكيين. (¬2) Prescott: Ferdinand and Isabella, p. 284 (¬3) راجع رواية Hernando de Baeza القشتالية المنشورة بعناية المستشرق ميللر ضمن أخبار العصر (ص 92). (¬4) أخبار العصر ص 33. (¬5) نفح الطيب ج 2 ص 614

فماذا كان جواب أبى عبد الله؟ لقد كان فى سابق مواقفه، وممالأته لملك قشتالة، ومحالفته إياه ودخوله فى طاعته، وما يدين له به من تغلبه على عمه ومنافسه الزغل، وجلوسه على العرش، ما يحمل الملكين الكاثوليكيين، على توقع استسلامه وخضوعه. ولكن حدث عكس ما توقعه الملكان. ولدينا وثيقة توضح لنا موقف أبى عبد الله فى هذه المناسبة، هى عبارة عن خطاب صادر منه إلى الملكين الكاثوليكيين، يشير فيه إلى قدوم "القائد غنضال والقائد مرتين" بكتبهما إليه، وأنه يرسل إليهما خديمه، القائد أبا القاسم المليح، ليحدثهما فى هذا الموضوع. وبالرغم من اللهجة المهذبة، المقرونة بعبارات الخضوع والطاعة، التى اختتمت بها الرسالة، فقد كان جواب أبى عبد الله للملكين الكاثوليكيين، رفضا لما طلباه. وتاريخ هذه الرسالة هو 29 صفر سنة 895 هـ (22 يناير سنة 1490) (¬1). والظاهر أن رسول أبى عبد الله لم ينجح فى مهمته، وعاد إلى مليكه يخبره بإصرار الملكين الكاثوليكيين على طلبهما. وهنا تقول الرواية القشتالية، إن أبا عبد الله اشتدت دهشته، لإصرار الملكين الكاثوليكيين، واعتزم أن يشهر عليهما الحرب، لولا أن نصحه بعض الأكابر بالروية والتريث. وعلى ذلك فقد أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف بن كُماشه، ومعه تاجر كبير من سراة غرناطة، له علائق طيبة مع النصارى، يدعى ابراهيم القيسى، إلى الملكين الكاثوليكيين فى إشبيلية، لإقناعهما بالعدول عن مطلبهما، ولكنهما عادا خائبين. وعلى ذلك فقد استؤنفت الحرب بين المسلمين والنصارى (¬2). وهنا نقف قليلا لنتأمل هذا الموقف الجديد، من جانب أبى عبد الله. أجل كانت الخطوب والمحن التى جازتها الأندلس فى هذه الأعوام المليئة بالحوادث، قد جعلت من أبى عبد الله رجلا آخر، وكان هذا الأمير الضعيف يرقب سير الحوادث جزعا، ويستشف من ورائها القدر المحتوم، وكان قد تخلص بانسحاب عمه من الميدان من منافسه القوى، ولكنه فقد فى الوقت نفسه أقوى عضد يمكن الاعتماد عليه فى الدفاع والمقاومة؛ وكانت سائر قواعد الأندلس الأخرى قد غدت نهائياً من أملاك مملكة قشتالة، وعين لها حكام من النصارى، وتدجن من بقى من أهلها أو غدوا مدجَّنين Mudéjares يدينون بطاعة ملك النصارى. ¬_______ (¬1) نشرت هذه الرسالة ضمن المجموعة التى نشرها الأستاذ جسبار ريميرو فى كتابه السالف الذكر. (¬2) راجع رواية Hernando de Baeza المنشورة فى أخبار العصر (ص 93)

وذاعت بها الدعوة النصرانية، وارتد كثير من المسلمين حرصاً على أوطانهم ومصالحهم أو اتقاء الريب والمطاردة، ولكن كثيراً منهم ممن أشفقوا على أنفسهم ودينهم، جازوا البحر إلى المغرب، وهرعت جموع غفيرة أخرى منهم إلى غرناطة معقل الإسلام الوحيد الباقى، حتى غدت الحاضرة تموج بسكانها الجدد، وحتى أصبحت تضم بين أسوارها وأرباضها أكثر من أربعمائة ألف نفس. وكانت موجة عامة من اليأس والنقمة تغمر هذه الألوف، التى أوذيت الأوطان والأنفس والولد والمال، دون أن تجنى ذنباً أو جريرة، وكانت فكرة التسليم للعدو الباغى أو مهادنته، تلقى استنكاراً عاماً. ولم يكن أبو عبد الله يجهل هذا الاتجاه العام، فلما وفد إليه سفيرا ملكى قشتالة فى طلب التسليم، ثارت نفسه لهذا الغدر والتجنى، وأدرك وربما لأول مرة، فداحة الخطأ الذى ارتكبه فى محالفة هذا الملك الغادر، ومعاونته على بنى وطنه ودينه؛ ولما أصر فرناندو على تجنيه جمع أبو عبد الله الكبراء والقادة فأجمعوا على رفض ما طلبه الملكان النصرانيان، وأعلنوا عزمهم الراسخ على الدفاع حتى الموت عن وطنهم ودينهم (¬1)، وأبلغ أبو عبد الله ملك قشتالة بأنه لم يعد له القول والفصل فى هذا الأمر، وأن الشعب الغرناطى يأبى كل تسليم أو مهادنة، ويصمم على المقاومة والدفاع (¬2). هكذا كان جواب أبى عبد الله لملكى قشتالة، وهكذا حمل الأمير الضعيف بعزم شعبه، من الاستكانة والمهادنة إلى التحدى والمقاومة. وهنا يبدو لنا أبو عبد الله شخصية أخرى تنزع عنها صفات الخور والاستسلام والخضوع الذى يدنو إلى الخيانة، لتتشح بثوب من العزة والكرامة، والحمية الدينية والوطنية. أجل دوّت غرناطة بصيحة الحرب والجهاد، وخرجت سريات من الجند المسلمين، لتعيث فى الأراضى النصرانية القريبة. وفى ربيع سنة 1490 م (895 هـ) خرج ملك قشتالة فى قواته وهو يضطرم سخطاً، وزحف على بسائط غرناطة فعاث فيها، وانتسف الزروع واستاق الماشية، وخرب الضياع والقرى، ووصل فى عيثه وتخريبه حتى أسوار الحاضرة ذاتها، وبرز المسلمون لقتاله وعلى رأسهم أميرهم أبو عبد الله، ووقعت بين الفريقين فى ظاهر غرناطة، عدة ملاحم دموية ارتحل النصارى على أثرها، ولم يستطيعوا الدنو من المدينة (رجب 895 هـ - يوليه 1490 م). ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 34؛ ونفح الطيب ج 2 ص 614. (¬2) Prescott: ibid ; p. 290

صورة خطاب مرسل من السلطان أبى عبد الله محمد إلى قائد وأشياخ بلدة أجيجر يدعوهم فيه إلى طاعته والدخول فى الصلح الذى عقده مع الملك فرناندو الكاثوليكى، مؤرخ فى المحرم سنة 895 هـ (ديسمبر 1489 م)، ومحفوظة بمحفوظات بلدية غرناطة

وعمد فرناندو حين العودة إلى تحصين بعض الحصون القريبة من غرناطة، مثل برج الملاحة وبرج رومة وغيرهما، وشحنها بالرجال والعدد استعداداً للمعارك القادمة. وعلى أثر ارتحال القشتاليين، خرج أبو عبد الله فى قواته يحاول استرداد بعض الحصون والمراكز القريبة، فاستولى على قرية البذول عنوة، ثم استولى على غيرها من القرى، ودبت فى المسلمين فى تلك الأنحاء روح جديدة، وثار أهل البشرّات (البشرّة) وما حولها على حكامهم النصارى، وثار أهل وادى آش فى الوقت نفسه واضطرموا لما رأوه من وثبة أبى عبد الله وعزمه بنزعة جديدة إلى المقاومة، وبعثوا إليه يطلبون عونه. وسار أبو عبد الله فى قواته يريد حصن أندَرَش (¬1) لما علمه من ثورة المسلمين هنالك، وكان عمه الأمير محمد بن سعد (الزغل) لا يزال به، فلما سمع بمقدمه خرج مع صحبه إلى ألمرية، وبقى بها إلى أن جاز البحر إلى المغرب كما قدمنا، واستولى أبو عبد الله على أندرش وغيرها من المحلات والحصون القريبة منها (¬2)، ورتب بها حاميات من المسلمين للدفاع عنها (شعبان 895 هـ). واستمرت هذه المعارك المحلية مدى حين سجالا بين المسلمين والنصارى، فاسترد النصارى حصن أندرش لأسابيع قليلة من فقده، وغادره الفرسان المسلمون إذ كانوا قلة لم تستطع للعدو دفعاً. وفى شهر رمضان سنة 895 هـ (أغسطس 1490) خرج أبو عبد الله فى قواته إلى قرية همدان القريبة (¬3)، فافتتحها واخترق المسلمون أبراجها الكثيفة، وكانوا يخشون أن تمتنع عليهم لحصانتها، واغتنموا منها مقادير وفيرة من الذخائر والأطعمة، وأسروا من حاميتها نحو مائتين، وعاد المسلمون إلى غرناطة فرحين ظافرين، وغمرت الحاضرة المسلمة موجة من البشر والتفاؤل وفى أواخر رمضان خرج أبو عبد الله فى قواته يريد افتتاح ثغر المنكّب، وإعادة الصلة بين الأندلس وشواطىء المغرب، وهى صلة يعلق عليها المسلمون أهمية خاصة، ويعتبرونها من أبواب الغوث والإنقاذ، واستولى أبو عبد الله فى طريقه على حصن شلوبانية (¬4) الواقع شرقى المنكب بعد قتال عنيف؛ وعلم النصارى بمحاولة ¬_______ (¬1) تقع أندرش Andarax جنوب شرقى غرناطة على مقربة من البحر الأبيض المتوسط. (¬2) أخبار العصر ص 36 و 37. (¬3) تقع قرية همدان Alhendin، جنوب غربى غرناطة على قيد بضعة كيلومترات منها. وتراجع مواقع هذه الأماكن جميعا فى خريطة مملكة غرناطة المفصلة التى أثبتت فى أول الكتاب. (¬4) وبالإسبانية Salobrena، وقد سبق التعريف بها

أبى عبد الله، فهرعت حاميات بلِّش ومالقة إلى المنكب لإنجادها. ورأى أبو عبد الله أنه لا يستطيع مهاجمتها، وترامت إليه الأنباء بأن ملك قشتالة قد عاد بجنده إلى مرج غرناطة يعيث فيه فساداً وتخريباً، فارتد أدراجه. وكان فرناندو قد هاله ما حدث من الاضطراب والتصدع فى المناطق الفتوحة، فاعتزم السير من قرطبة بجيشه إلى تلك الأنحاء. والواقع أن بوادر الانتقاض والثورة كانت قد اشتدت فى وادى آش وما حولها من الضياع والقرى، وأخذ ظفر المسلمين فى تلك المعارك المحلية يذكى عزم الثوار ويشجعهم؛ وخشى النصارى عواقب هذه الحركة، فضاعفوا قوى الحاميات فى تلك الأنحاء، واحتالوا على أهل وادى آش فأخرجوا معظمهم من المدينة إلى السهول المجاورة (¬1). واستجاب أبو عبد الله إلى نداء أهل وادى آش وعاونهم بالرجال والدواب على نقل أمتعتهم وأموالهم، وعلى الرحيل بالأهل والولد إلى غرناطة، ونقل من تلك القرى والضياع مقادير وافرة من الحبوب والأطعمة وغيرها. وما كادت جموع المسلمين ترتد راجعة إلى غرناطة، حتى ظهر فرناندو بجيشه أمام وادى آش، ورأى أن يأخذ الأمر باللين والرفق، فأذاع الأمان لمن عاد إلى وطنه، وأذن لمن شاء بالرحيل، وغادر المسلمون وادى آش وأعمالها. وحدث مثل ذلك فى ألمرية وبسطة، فترك المسلمون بيوتهم وأوطانهم حاملين ما استطاعوا من أمتعتهم وأموالهم، وسارت منهم جموع غفيرة إلى غرناطة، وجازت جموع أخرى البحر إلى المغرب، وأقفرت تلك الأنحاء من معظم سكانها المسلمين، وبعث إليها ملك قشتالة بجموع من النصارى لتعميرها، وانتهز أبو عبد الله فرصة هذا الاضطراب، فاستولى على حصن أندَرَش للمرة الثانية، واستولى على عدد آخر من الحصون الهامة (¬2). وهنا أيقن ملك قشتالة أنه لابد لاستتاب الأمور فى المناطق الإسلامية المفتوحة، من الاستيلاء على غرناطة، التى مازالت تثير بمثلها وصلابتها روح الثورة فى تلك الأوطان المغلوبة على أمرها، فقضى الشتاء كله (سنة 1490) فى الاستعداد والأهبة. وفى أوائل سنة 1491 خرج فرناندو فى قواته معتزماً أن يقاتل الحاضرة الإسلامية حتى ترغم على التسليم. ويقدر بعض المؤرخين هذا ¬_______ (¬1) Lafuente Alcantra: ibid ; V. III. p. 53 (¬2) أخبار العصر ص 38 - 48؛ ونفح الطيب ج 2 ص 614. وراجع أيضاً: Prescott ibid; p. 290 & 291، ويوجد فرق يسير فى التفاصيل بين الروايتين الإسلامية والنصرانية

الجيش الذى أُعد لافتتاح غرناطة بخمسين ألف مقاتل من الفرسان والمشاة، ويقدره البعض الآخر بثمانين ألفاً (¬1)، وزود فرناندو جيشه بالمدافع والعدد الضخمة، والذخائر والأقوات الوفيرة. وأشرف ملك قشتالة بجيشه على فحص غرناطة La Vega الواقع جنوب غربى الحاضرة الإسلامية، فى اليوم الثالث والعشرين من ابريل سنة 1491 م (12 جمادى الثانية سنة 896 هـ) وعسكر على ضفاف نهر شَنيل، على قيد فرسخين من غرناطة، فى ظاهر قرية تسمى "عتقة". وأرسل فى الحال بعض جنده إلى حقول البشرّات القريبة التى تمد غرناطة بالمؤن فأتلفوا زروعها، وهدموا قراها، وأمعنوا فى أهلها قتلا وأسراً، وحولوا المرج الأخضر إلى بسيط من القفر الموحش، وقطعوا بذلك عن غرناطة مورداً من أهم مواردها (¬2). وضرب فرناندو حول الحاضرة الإسلامية الحصار الصارم، وصمم على متابعته حتى تفتح أو تستسلم، وقرر تأكيداً لهذا العزم أن ينشىء لجيشه فى المكان الذى عسكر فيه، مدينة مسوّرة تقيه برد الشتاء إذا ما حل، وتم بناء هذه المدينة الجديدة فى ثلاثة أشهر، وأسمتها الملكة إيسابيلا (سانتا فيه) Santa Fé وبالعربية (شنتفى) أو الإيمان المقدس، وذلك تنويهاً بالمغزى الدينى لهذه الحرب الصليبية، وما زالت هذه المدينة التاريخية تقوم حتى اليوم، فى المكان الذى أنشئت فيه على قيد مسافة قريبة من جنوب غربى غرناطة. ويصفها المؤرخ الإسبانى بأنها (المدينة الإسبانية الوحيدة التى لم تطأها قط قدم مسلم (¬3). - 2 - وهكذا بدأ الفصل الأخير فى الصراع بين النصرانية والإسلام فى اسبانيا؛ ولم يك ثمة شك فى نتيجة هذا الصراع، الذى أعدت له اسبانيا النصرانية عدتها الحاسمة، ومهدت له جميع الوسائل والسبل. بلد إسلامى وحيد هو البقية الباقية من دولة عظيمة تالدة، يحيط به العدو كالموج الزاخر من كل ناحية، مزوداً بالعُدد والمؤن الموفورة، وقد قطعت كل موارده وصلاته مع الخارج. وكان هذا موقف غرناطة آخر الحواضر الإسلامية بالأندلس فى صيف سنة 1491 م. على ¬_______ (¬1) Prescott: ibid ; p. 291 (¬2) أخبار العصر ص 44 و Prescott: ibid ; p. 294 (¬3) Prescott: ibid ; p. 295

أن غرناطة لم تكن مع ذلك غنما سهلا، فقد كانت منيعة بموقعها وظروفها، تحميها من الشرق آكام جبل شُلير (سيرّا نفادا) الشامخة، وتحميها من الجنوب أعنى من الجانب المواجه للمعسكر النصرانى، أسوار وأبراج فى منتهى الكثافة والمناعة. وكانت غرناطة تموج يومئذ بالوافدين إليها من مختلف القواعد الإسلامية الذاهبة، وتضم بين أسوارها من السكان أكثر من أربعمائة ألف نفس، ومع أن هذا العدد الضخم من الأنفس كان عبئاً ثقيلا على مواردها المحدودة، فقد كان من بينهم على الأقل زهاء عشرين ألفاً من الصفوة المختارة من الفروسة الأندلسية، التى ألفت ملاذها الأخير فى العاصمة المحصورة. ومن جهة أخرى فقد كانت الحاضرة الإسلامية منذ بعيد تلمح شبح الخطر الداهم يتربص بها دائماً، وكانت تعيش فى أهبة دائمة لمواجهته، وتجمع ما استطاعت من الأقوات والمؤن. فلما دهمها الحصار كانت على أهبة تامة لدفاع طويل الأمد. كانت غرناطة تستشعر قدرها المحتوم، ولكنها لم ترد أن تستسلم إلى هذا القدر القاهر، قبل أن تستنفد فى اجتنابه كل وسيلة بشرية، ومن ثم كان دفاعها من أمجد ما عُرف فى تاريخ المدن المحصورة والقواعد الذاهبة، ولم يكن هذا الدفاع قاصراً على تحمل ويلات الحصار مدى أشهر، بل كان يتعداه إلى ضروب رائعة من الإقدام والبسالة، فقد خرج المسلمون خلال الحصار، لقتال العدو المحاصر مراراً عديدة، يهاجمونه ويثخنون فى محلاته، ويفسدون عليه خططه وتدابيره. وتشير الرواية الإسلامية كما تشير الرواية النصرانية إلى هذه المعارك الأخيرة التى وقعت فى بسائط غرناطة بين المسلمين والنصارى (¬1). وتنوه الرواية النصرانية بما كان يبديه الفرسان المسلمون من الشجاعة والإقدام والبراعة، أولئك الأنجاد البواسل هم البقية الباقية من الفروسة الأندلسية، التى لبثت قروناً زهرة الفروسية فى العصور الوسطى. وكان روح الفروسة المسلمة فى تلك الآونة العصيبة فارس رفيع المنبت والخلال، وافر العزم والبراعة، هو موسى بن أبى الغسان (¬2) وهو سليل إحدى ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 45؛ وكذلك: Irving: ibid ; p. 293 & foll (¬2) لم نعثر فى المصادر العربية التى بين أيدينا على ذكر لموسى أو أعماله؛ ومرجعنا فى ذلك هو المؤرخ الإسبانى كوندى ( Condé: ibid ; V. III. p. 254) ، ويقول كوندى إنه نقل روايته عن مصادر عربية؛ ولكنه كعادته لم يذكر لنا هذه المصادر. وأشار الوزير محمد بن عبد الوهاب الغسانى فى رحلته إلى من يدعى " موسى أخى السلطان حسن المتغلب عليه بغرناطة" (رحلة الوزير =

الأسر العريقة التى تتصل ببيت الملك، وأحد هذه الأصول العربية القديمة التى عرفت برائع فروستها، وعميق بغضها للنصارى، والتى كانت ترى الموت خيراً ألف مرة من أن يصبح الوطن العزيز مهاداً للكفر. ولم يكن بين أنجاد غرناطة يومئذ من هو أبرع من موسى فى الطعان والفروسية، وكان مذ تبوأ أبو عبد الله محمد عرش غرناطة، ينقم منه استكانته وخضوعه لملك النصارى، ويعمل بكل ما وسع لإذكاء روح الحماسة والجهاد، وتنظيم الفروسة الغرناطية وتدريبها، وقيادة السرايا إلى أراضى العدو، ومفاجأة حصونه وحامياته فى الأنحاء المجاورة. ولما بعث فرناندو الخامس إلى أبى عبد الله يطلب تسليم الحمراء، كان موسى من أشد المعارضين فى إجابة هذا المطلب المهين، وكان لعزمه وحماسته أكبر أثر فى تطور الموقف، وحمل الأمير والشعب على اعتزام الجهاد، والدفاع إلى آخر رمق، وكان قوله المأثور يومئذ: "ليعلم ملك النصارى أن العربى قد ولد للجواد والرمح، فإذا طمح إلى سيوفنا فليكسبها، وليكسبها غالية. أما أنا فخير لى قبر تحت أنقاض غرناطة، فى المكان الذى أموت مدافعاً عنه، من أفخم قصور نغنمها بالخضوع لأعداء الدين". وهكذا دوّت غرناطة بصيحة الحرب. ولما أشرف ملك قشتالة بجموعه على مرج غرناطة، كان موسى معبود الجند والشعب، وكان زعيم الفروسة المسلمة يقودها كلما سنحت الفرصة إلى الحصون والقلاع النصرانية المجاورة فيثخن فيها، وكانت عوداته الظافرة تثير فى الشعب أيما حماسة، وكان فرناندو يرسل جنده لإتلاف المزارع والحقول المجاورة، فكان موسى ينظم السرايا لإزعاج قواته، وقطع مواصلاته وانتزاع مؤنه، ولكن جيوش النصارى ما لبثت أن ملأت فحص شنيل ( La Vega) وطوّقت غرناطة، وشددت فى حصارها، واضطر المسلمون إلى الامتناع بمدينتهم صابرين جلدين. وقسم الدفاع عن المدينة بين ¬_______ = المنشورة بعناية معهد فرانكو ص 13). ولكن الرواية الإسلامية المعاصرة لا تذكر لنا أن السلطان أبا الحسن كان له أخ يسمى بهذا الاسم. وعلى أى حال فإن قصة موسى تشغل حيزاً كبيراً فى الروايات الإسبانية التى كتبت عن فتح غرناطة. ومن أشهرها رواية القس أنطونيو أجابيدا Antonio Agapida، المخطوطة المحفوظة بمكتبة الإسكوريال، وهى التى اتخذها واشنطون إيرفنج أساسا لكتابه Conquest of Granada. وقد وردت خلال هذه الرواية كثير من الأقوال والروايات المشجية المتعلقة بحوادث سقوط غرناطة. ونحن ننقل هنا أقوال الرواية القشتالية عن موسى وفروسيته لا على أنها محققة من الناحية التاريخية، ولكن لأنها تقدم لنا صوراً رائعة لدفاع المسلمين عن دينهم ووطنهم وأخر قواعدهم

زعماء الجيش والأسر، فتولى موسى قيادة الفرسان يعاونه نعيم بن رضوان ومحمد ابن زائدة. وتولى آل الثغرى حراسة الأسوار، وتولى زعماء القصبة والحمراء حماية الحصون. ولم تكن المعارك الجريئة التى كان يخوضها المسلمون خارج الأسوار من آن لآخر، سوى عنوان أخير لفروستهم وبسالتهم ولكنها لم تكن لتغنى شيئاً، أمام ضغط العدو وتفوقه وتصميمه. ذلك أن ملك قشتالة لم يترك وسيلة لإحكام الحصار وإرهاق المدينة المحصورة، وإرغامها على التسليم؛ فقطع جميع علائقها مع الخارج سواء من البر أو البحر، ورابطت السفن الإسبانية فى مضيق جبل طارق، وعلى مقربة من الثغور الجنوبية، لتحول دون وصول أية أمداد من إفريقية. والواقع أنه لم يكن ثمة أمام الغرناطيين أى أمل فى الغوث والإنقاذ من هذه الناحية. ذلك أن معظم ثغور المغرب الشمالية والغربية، ومنها سبتة وطنجة، كانت قد سقطت فى أيدى البرتغاليين، وكانت دولة بنى وطَّاس التى قامت يومئذ فى المغرب الأقصى ما تزال ضعيفة فى بدايتها، وكانت أبعد عن التفكير فى القيام بأى عمل حربى خطير ضد النصارى. هذا إلى أن إمارات المغرب الواقعة فى الضفة الأخرى، كانت كلها فى حالة ضعف وتفكك وكانت تخشى بأس قوة اسبانيا البحرية وتسعى إلى كسب صداقتها وحمايتها. وعلى ذلك فقد كان حصار غرناطة محكماً من البر والبحر، ولم يبق أمامها سوى طريق البشرّات الجنوبية من ناحية جبل شُلير (سيرّا نفادا) تجلب منها بعض الأقوات والمؤن بصعوبة (¬1). ولبثت المدينة المحصورة تعانى مصائب الحصار صابرة جلدة، حتى دخل الشتاء، وغصت هذه الوهاد والشعب بالثلوج، واشتد الجوع والبلاء بالمحصورين. عندئذ تقدم حاكم المدينة أبو القاسم عبد الملك ذات يوم إلى مجلس الحكم، وقرر أن المؤن الباقية لا تكفى إلا لأمد قصير، وأن اليأس قد دب إلى قلوب الجند والعامة، وأن الاستمرار فى الدفاع عبث لا يجدى (¬2). ولكن موسى ابن أبى الغسان اعترض كعادته بشدة، وقرر أن الدفاع ممكن وواجب، وبث بادرة جديدة من الحماسة فى الرؤساء والقادة. فاستسلم السلطان أبو عبد الله محمد إلى تلك الروح، وسلم إلى القادة أمر الدفاع، وتولى موسى كعادته قيادة الفرسان؛ وكان فى مقدمة مساعديه فارسان من أنجاد العصر هما نعيم بن رضوان ومحمد بن زائدة. ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 46. (¬2) Lafuente Alcantara: ibid ; V. III. p. 67

ثم أمر بفتح الأبواب، وأعد فرسانه أمامها ليل نهار، فإذا اقتربت سَرِية من النصارى دهمها الفرسان المسلمون، وأثخنوا فيها، ومزقت على هذا النحو صفوف من النصارى. وكان موسى يقول لفرسانه "لم يبق لنا سوى الأرض التى نقف عليها فإذا فقدناها فقدنا الإسم والوطن". وأخير اً رأى ملك قشتالة أن يزحف بقواته على أسوار المدينة، فخرج المسلمون إلى لقائه وعلى رأسهم أبو عبد الله وموسى، ونشبت بين الفريقين فى فحص غرناطة عدة معارك دموية، وكان الفرسان المسلمون وعلى رأسهم موسى روح المعركة وقوامها، وكان أبو عبد الله يقود الحرس الملكى، وكان القتال رائعاً خضب فيه كل شبر من الأرض بدماء الفريقين، ولكن المشاة المسلمين كانوا ضعافا لا يعتمد عليهم فمزقوا بسرعة، وتبعهم فرسان الحرس الملكى إلى أبواب المدينة وعلى رأسهم أبو عبد الله، وعبثاً حاول موسى أن يجمع شمل الجند، وأن يدعوهم للذود عن أوطانهم ونسائهم وكل ما هو مقدس لديهم، وألفى نفسه وحيداً فى الميدان مع فرسانه المخلصين، وقد تضاءل عددهم وأثخن الباقون منهم جراحاً. فاضطر عندئذ أن يرتد إلى المدينة وهو يرتجف غضباً وبأساً. وهنا أوصد المسلمون أبواب المدينة وامتنعوا بأسوارها جزعين مكتئبين، يرون شبح النهاية المحتومة ماثلا، فلم تبق سوى أيام أو أسابيع قلائل، حتى يصبح سقوط الوطن العزيز فى يد العدو أمراً واقعاً، وحتى تصبح أنفسهم وأموالهم وحرياتهم ودينهم رهناً فى يد القدر. وكان قد مضى على حصار غرناطة مذ بدأ الربيع حتى دخول الشتاء زهاء سبعة أشهر، والمسلمون يغالبون أهوال الحصار، وتتفاقم محنتهم شيئاً فشيئاً. فلما جاءت خاتمة المعارك مبددة لكل أمل فى الإنقاذ، واشتد فتك الجوع والحرمان والمرض، ودب اليأس إلى قلوب الناس جميعاً، لم يبق مناص من إعادة النظر فى الموقف. فدعا أبو عبد الله مجلساً من كبار الجند والفقهاء والأعيان، فاجتمعوا فى بهو الحمراء الكبير (بهو قمارش)، والبأس باد فى وجوههم، وشرح لهم أبو القاسم عبد الملك كيف وصل الخطب إلى ذروته، فهلكت أنجاد الفرسان، وخبت قوى الدفاع، ونضبت الأقوات والمؤن، واشتد البلاء بالناس، وغاض كل أمل فى تلقى الأمداد من عدوة المغرب. وصرح "الجماعة" بأن الشعب لا يقوى بعد على تحمل ويلات الدفاع، وأنه لم يبق سوى التسليم أو الموت

واتفق الجميع على وجوب التسليم (¬1). ولم يرتفع بالاعتراض سوى صوت واحد هو صوت موسى بن أبى غسان، فقد حاول كعادته أن يبث بكلماته الملتهبة قبساً أخيراً من الحماسة؛ وكان مما قال: "لم تنضب كل مواردنا بعد، فما زال لنا مورد هائل للقوة كثيراً ما أدى المعجزات: ذلك هو يأسنا، فلنعمل على إثارة الشعب، ولنضع السلاح فى يده، ولنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه لخير لى أن أحصى بين الذين ماتوا دفاعاً عن غرناطة، من أن أحصى بين الذين شهدوا تسليمها". على أن كلماته لم تؤثر فى هذه المرة، فقد كان يخاطب رجالا نضب الأمل فى قلوبهم، وغاضت كل حماسة، ووصلوا إلى حالة من اليأس لا تنجع فيها البطولة، ولا يحسب للأبطال حساب، بل يعلو نصح الشيوخ ويغلب. وهكذا حدث فإن السلطان أبو عبد الله فوض الأمر للجماعة، واتفق الجماعة من خاصة وعامة على مفاوضة ملك قشتالة فى التسليم، واختير الوزير القائد أبو القاسم عبد الملك للقيام بتلك المهمة؛ وكان ذلك فى أكتوبر سنة 1491 م (أواخر سنة 896 هـ). وهنا يسدل الستار على تلك المناظر الرائعة المؤثرة، التى تقدمها الرواية لنا عن بسالة المسلمين فى الدفاع عن مدينتهم، وعلى ذلك الموقف الباهر الذى اتخذه أبو عبد الله مدى حين، واتشح فيه بثوب البطل المدافع عن ملكه وأمته ودينه، وتبرز لنا طائفة من الحقائق المؤلمة التى تضم أولئك الزعماء والقادة، الذين جنحوا فى النهاية إلى المساومة بحقوق أمتهم، واستغلالها لمآربهم الخاصة. يقول لنا صاحب أخبار العصر، إن كثيراً من الناس زعموا أن أمير غرناطة ووزيره وقواده كان قد تقدم الكلام بينهم وبين ملك قشتالة سراً فى تسليم غرناطة ولم يجرأوا على المجاهرة بعزمهم خشية انتقاض الشعب، وأنهم لبثوا حينا يلاطفون الشعب ويملقونه، حتى ألفوا السبيل ممهداً للعمل برضاء الشعب وموافقته، ويستشهد أصحاب هذه الرواية بما حدث من انقطاع المعارك بين المسلمين والنصارى حيناً قبل بدء المفاوضة فى التسليم. وتزيد الرواية على ذلك بأن القواد المسلمين الذين اضطلعوا بهذه المفاوضة تلقوا تحفاً وأموالا جزيلة من ملك قشتالة (¬2). وقد كنا نميل فى البداية إلى الارتياب فى صحة هذه الرواية وتأبى أن نعتقد ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 48 و 49؛ ونفح الطيب ج 2 ص 615. (¬2) أخبار العصر ص 48 و 49؛ ونفح الطيب ج 2 ص 615

فى صحة هذه الوقائع المشينة المنسوبة إلى زعماء غرناطة، وهم الذين تشيد الرواية النصرانية ذاتها بحماستهم وشجاعتهم وبسالتهم، فى الذود عن وطنهم ومدينتهم. بيد أننا وقفنا بعد ذلك على ما يؤيد صحة الرواية الإسلامية ودقتها فيما تشير إليه من حقائق مؤلمة. ذلك أنه فى نفس الوقت الذى اتجه فيه رأى الجماعة إلى المفاوضة فى التسليم، كانت تبذل فى الخفاء مساع أخرى لتحقيق ما يمكن تحقيقه من الضمانات والمغانم الخاصة لأبى عبد الله وأفراد أسرته ووزرائه، وكان الملكان الكاثوليكيان يرميان إلى استخلاص غرناطة بأى ثمن غير الحرب، ولا يدخران وسعاً فى بذل أية تضحية أو منحة لإغراء الزعماء والقادة لتذليل هذه المهمة. وهكذا كللت هذه المساعى الخفية بالنجاح، وفى نفس الوقت الذى عقدت فيه معاهدة التسليم، عقدت معاهدة سرية أخرى يمنح فيها أبو عبد الله وأفراد أسرته ووزراؤه منحاً خاصة بين ضياع وأموال نقدية وحقوق مالية وغيرها. وقد أبقيت هذه المعاهدة فى طى الكتمان، ولم يقف عليها سوى نفر من الخاصة. وهذا هو ما يشير إليه صاحب أخبار العصر. وهنالك فوق ذلك ما يدل على أن أبا عبد الله وكثيراً من الوزراء والقادة، قد حاولوا مذ تجهمت الحوادث، وبدأ حصار غرناطة، التصرف فى أملاكهم، وباع أبو عبد الله عن يد وكيله القائد أبى القاسم بن سودة حديقته المعروفة بجنة عصام، خارج غرناطة، وذلك فى جمادى الأولى سنة 896 هـ (أوائل أبريل 1491 م). وباع بعض وزراء وفرسان آخرين أملاكهم فى نفس هذه المنطقة، وفى نفس هذا التاريخ، وباع الوزير عبد الله بن أبى الفرج قرية يملكها فى ضاحية المدينة، فى أواخر المحرم سنة 897 هـ (أواخر نوفمبر 1491 م) (¬1). على أنه يبدو من التعسف والمبالغة مع تقرير هذه الحقائق المؤلة، أن نلجأ إلى اتهام أبى عبد الله ووزرائه بالخيانة المقصودة؛ ففى غمار المحنة الطاحنة التى كان يعانيها الشعب والقادة، وإزاء الظروف القاهرة التى لم يكن من حكمها محيص، وفى اللحظة التى انقطع فيها كل أمل فى الغوث والإنقاذ، لم يك ثمة سبيل سوى الموت أو مفاوضة العدو الظافر. وقد اختار زعماء غرناطة هذا السبيل الأخير، ولو أنهم ¬_______ (¬1) راجع كتاب "وثائق عربية غرناطية" الذى سبقت الإشارة إليه، الوثيقة رقم 65 (ص 111)، والوثيقة رقم 73 (ص 121). والوثائق رقم 74 و 75 و 76، و 77 (ص 122 - 125)

اختاروا الموت تحت أنقاض مدينتهم دفاعاً عنها، لأحرزوا لذكراهم الخلود وإعجاب التاريخ، ولكن يبدو أنه لم يكن ثمة من موقف الشعب الغرناطى ويأسه وتبرمه بما أصابه من ويلات الحصار، ما يشجع على المضى فى دفاع لا يجدى. وتلقى الرواية القشتالية ذاتها ضوءاً على الظروف التى حملت أبا عبد الله ووزراءه على السعى إلى مفاوضة ملك قشتالة، فيقول لنا مارمول الذى كتب روايته بعد ذلك بنحو سبعين عاماً ما يأتى: "ولما رأى الزغيبى (أبو عبد الله) أن مدينة غرناطة لا تستطيع دفاعاً، ولا تأمل الغوث والإمداد، ونزولا على رغبة السواد الأعظم من الشعب، الذى لم يعد يصبر على هذا الأمر الفادح، أرسل يطلب الهدنة من الملكين الكاثوليكيين لكى يستطيع خلالها أن يتفاهم على شروط الصلح التى يمكن التسليم بمقتضاها" (¬1)، ويقول لافونتى ألقنطرة: "اشتدت وطأة الجوع على المحصورين، وأصبحت الجماهير الصاخبة تجوب أنحاء المدينة تنذر الأغنياء بالويل، وتبعث الرجفة إلى أبى عبد الله وأعوانه. وإزاء هذا التهديد دعا الأمير مجلسا من الزعماء والقادة، وطلب إليهم البحث فيما يمكن عمله لتجنب الأخطار التى تهدد المدينة فى الداخل والخارج. وقال الشيوخ والفقهاء إنه لم يبق سبيل سوى التسليم أو الموت، وأشار أهل الرأى بأن يقوم أبو القاسم بإذن من أبى عبد الله بمفاوضة النصارى" (¬2). والخلاصة أنه لا مجال هنا للتحدث عن الخيانة فى وصف ذلك الموقف المريب الذى وقفه أبو عبد الله ووزراؤه، وحاولوا أن يحققوا لأنفسهم فيه مغانم خاصة؛ ولكنا نستطيع أن نتحدث عن الأثرة والخور والضعف الإنسانى، والتعلق بأسباب السلامة، وانتهاز الفرص. - 3 - سار القائد أبو القاسم عبد الملك، مندوب أبى عبد الله إلى معسكر الملكين الكاثوليكيين ليؤدى مهمته الأليمة. وقد اضطلع هذا القائد، فضلا عن المفاوضة فى تسليم غرناطة، بالمفاوضة فى سائر الاتفاقات اللاحقة التى عقدت بين أبى عبد الله، وبين ملكى قشتالة، ونرى اسمه مذكوراً فى معظم الوثائق القشتالية الغرناطية التى أبرمت فى هذه الفترة، باعتباره دائماً مندوب أبى عبد الله المفوض. ¬_______ (¬1) Luis del Marmol: ibid ; Lib. I., Cap. XIX (¬2) Lafuente Alcantara: ibid ; V. III. p. 97

ولم نعثر على تفاصيل تختص بشخصية هذا الوزير أو نشأته، ولكن الذى يبدو لنا من مواقفه وتصرفاته أنه كان سياسياً عملياً يؤمن إيماناً قوياً بسياسة التسليم والخضوع للنصارى، وانتهازيا يرى انتهاز الفرص بأى الأثمان (¬1). واستقبل فرناندو مندوب ملك غرناطة بحفاوة. وندب لمفاوضته أمينه فرناندو دى ثافرا، وقائده جونزالفو دى كُردبا، وكان خبيراً بالشئون الإسلامية، عارفاً باللغة العربية، وجرت المفاوضات بين الفريقين بمنتهى التكتم، أحياناً فى غرناطة وأحياناً فى قرية جرليانة (¬2) القريبة الواقعة جنوب شرقى سانتافيه. ويبدو من الخطابات التى تبودلت بين أبى عبد الله وبين الملكين الكاثوليكيين فى تلك الفترة الدقيقة من حياة الأمة الأندلسية، أن حديث المفاوضة قد بدأ بين الفريقين فى أوائل سبتمبر سنة 1491، وأن القائد أبا القاسم بن عبد الملك كان يعاونه فى المفاوضة الوزير يوسف بن كُماشه، وقد كان مثله من خاصة أبى عبد الله ومن أنصار سياسة التسليم، وأن أبا عبد الله طلب فى خطاب أرسله إلى الملكين الكاثوليكيين أن تكون المفاوضات سرية حتى تتحقق غايتها المرجوة، وذلك خشية من انتقاض الشعب الغرناطى ونزعاته؛ هذا إلى أن الوزيرين الغرناطيين كتباً إلى الملكين الكاثوليكيين خطاباً يؤكدان فيه إخلاصهما وولاءهما، واستعدادهما لخدمتهما حتى تتحقق رغباتهما كاملة، وفى ذلك كله ما يلقى ضوءاً واضحاً على الموقف المريب الذى وقفه أبو عبد الله ووزراؤه من مسألة التسليم (¬3). واستمرت المفاوضات بضعة أسابيع، وانتهى الفريقان إلى وضع معاهدة للتسليم وافق عليها الملكان، ووقعت فى اليوم الخامس والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1491 م (21 محرم سنة 897 هـ). وقد تضمنت هذه الوثيقة الشهيرة، التى قررت مصير آخر القواعد الأندلسية ومصير الأمة الأندلسية، شروطاً عديدة بلغت ستة وخمسين مادة. وقد لخصت ¬_______ (¬1) يذكر اسم أبى القاسم عبد الملك فى الوثائق القشتالية محرفاً: أبو القاسم عبد المليح أو أبو القاسم المليخ، وهو الأكثر شيوعاً: Bulcacia Bulcasem el Muléh. ومن الغريب أن هذا التحريف غلب فيما بعد على كتابة اسمه بالعربية، فتراه يكتب فى بعض الوثائق أبو القاسم المليخ. (¬2) هى اليوم قرية Churiana، وهى من ضواحى غرناطة. (¬3) تحفظ الصور القشتالية لهذه الخطابات ضمن مجموعة فرناندو دى ثافرا ببلدية غرناطة، وقد نشرها العلامة Garrido Atienza فى مجموعة الوثائق الخاصة بتسليم غرناطة المسماة: Las Capitulaciones para la Entrega de Granada (Granada 1910) p. 200-217

لنا الرواية الإسلامية معظم محتوياتها مع شىء من التحريف (¬1) ولكنا ننقل الآن ولأول مرة، إلى العربية، محتويات هذه المعاهدة عن نصوصها القشتالية الرسمية فى توسع وإفاضة. وإليك مضمون هذه المحتويات: أن يتعهد ملك غرناطة، والقادة، والفقهاء والوزراء والعلماء، وكافة الناس، سواء فى غرناطة والبيّازين وأرباضهما، بأن يسلموا طواعية واختياراً، وذلك فى ظرف ستين يوماً تبدأ من تاريخ هذه المعاهدة، قلاع الحمراء والحصن، وأبوابها وأبراجها، وأبواب غرناطة والبيازين، إلى الملكين الكاثوليكيين، أو إلى من يندبانه من رجالهما، على ألا يسمح لنصرانى أن يصعد إلى الأسوار القائمة بين القصبة والبيازين، حتى لا يكشف أحوال المسلمين، وأن يعاقب من يفعل ذلك. وضماناً لسلامة هذا التسليم، يقدم الملك المذكور مولاى أبو عبد الله والقادة المذكورون، إلى جلالتيهما، قبل تسلّم الحمراء بيوم واحد، خمسمائة شخص صحبة الوزير ابن كماشه، من أبناء وإخوة زعماء غرناطة والبيازين، ليكونوا رهائن فى يديهما لمدة عشرة أيام، تُصلح خلالها الحمراء. وفى نهاية هذا الأجل يرد أولئك الرهائن أحراراً. وأن يقبل جلالتهما، ملك غرناطة وسائر القادة والزعماء، وسكان غرناطة والبشرّات وغيرهما من الأراضى، رعايا وأتباعا تحت حمايتهما ورعايتهما (1). وأنه حينما يرسل جلالتهما رجالهما لتسلم الحمراء المذكورة، فعليهم أن يدخلوا من باب العشار ومن باب نجدة، ومن طريق الحقول الخارجية، وألا يسيروا إليها من داخل المدينة، حينما يأتون لتسلمها وقت التسليم (2). وأنه متى تم تسليم الحمراء والحصن، يرد إلى الملك المذكور مولاى أبى عبد الله ولده المأخوذ رهينة لديهما، وكذلك يرد سائر الرهائن المسلمين الذين معه، وسائر حشمه الذين لم يعتنقوا النصرانية (3). ويتعهد جلالتهما، وخلفاؤهما إلى الأبد، بأن يترك الملك المذكور أبو عبد الله والقادة، والوزراء، والعلماء، والفقهاء، والفرسان، وسائر الشعب، تحت حكم شريعتهم، وألا يؤمروا بترك شىء من مساجدهم وصوامعهم، وأن تترك لهذه المساجد مواردها كما هى، وأن يقضى بينهم وفق شريعتهم وعلى يد قضاتهم، وأن يحتفظوا بتقاليدهم وعوائدهم (4). ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 48 و 50، ونفح الطيب ج 2 ص 615 و 616

وألا يؤخذ منهم خيلهم أو سلاحهم الآن أو فيما بعد، سوى المدافع الكبيرة والصغيرة فإنها تسلم (5). وأنه يحق لسائر سكان غرناطة والبيازين وغيرهما، الذين يريدون العبور إلى المغرب، أن يبيعوا أموالهم المنقولة لمن شاءوا، وأنه يحق للملكين شراءها بمالهما الخاص (6). وأنه يحق للسكان المذكورين أن يعبروا إلى المغرب، أو يذهبوا أحراراً إلى أية ناحية أخرى، حاملين أمتعتهم وسلعهم، وحليهم من الذهب والفضة وغيرها. ويلتزم الملكان بأن يجهزا فى بحر ستين يوماً من تاريخه، عشر سفن فى موانيهما يعبر فيها الذين يريدون الذهاب إلى المغرب. وأن يقدما خلال الأعوام الثلاثة التالية السفن، لمن شاء العبور، وتبقى السفن خلال هذه المدة تحت طلب الراغبين فيه، ولا يقتضى منهم خلال هذه المدة أى أجر أو مغرم، وأنه يحق العبور لمن يشاء بعد ذلك، نظير دفع مبلغ "دوبل" واحد عن كل شخص، وأنه يحق لمن لم يتمكن من بيع أملاكه، أن يوكل لإدارتها، وأن يقتضى ريعها حيثما كان (7). وألا يرغم أحد من المسلمين أو أعقابهم، الآن أو فيما بعد، على تقلد شارة خاصة بهم (8). وأن ينزل الملكان، للملك أبى عبد الله المذكور، ولسكان غرناطة والبيازين وأرباضهما، لمدة ثلاث سنوات تبدأ من تاريخه، عن سائر الحقوق التى يجب عليهم أداؤها عن دورهم ومواشيهم (9). وأنه يجب على الملك أبى عبد الله، وسكان غرناطة والبيازين وأرباضهما والبشرّات وأراضيها، أن يسلموا وقت تسليم المدينة طواعية ودون أية فدية، سائر الأسرى النصارى الذين تحت أيديهم (10). وأنه لا يسمح لنصرانى، أن يدخل مكاناً لعبادة المسلمين دون ترخيص، ويعاقب من يفعل ذلك (12). وألا يولى على المسلمين مباشر يهودى، أو يمنح أية سلطة أو ولاية عليهم (13). وأن يعامل الملك أبو عبد الله المذكور، وسائر السكان المسلمين، برفق وكرامة، وأن يحتفظوا بعوائدهم وتقاليدهم، وأن يؤدى للفقهاء حقوقهم المأثورة وفقاً للقواعد المرعية (14). وأنه إذا قام نزاع بين المسلمين، فصل فيه وفقاً لأحكام شريعتهم، وتولاه قضاتهم (15)

وألا يكلفوا بإيواء ضيف أو تؤخذ منهم ثياب أو دواجن أو أطعمة أو ماشية أو غيرها دون إرادتهم (16). وأنه إذا دخل نصرانى منزل مسلم قهراً عنه، عوقب على فعله (17). وأنه فيما يتعلق بشئون الميراث، يحتفظ المسلمون بنظمهم، ويحتكمون إلى فقهائهم وفقاً لسنن المسلمين (18). وأنه يحق لسائر سكان غرناطة والبشرات وغيرهما الداخلين فى هذا العهد، الذين يعلنون الولاء لجلالتهما، فى ظرف ثلاثين يوماً من التسليم، أن يتمتعوا بالإعفاءات الممنوحة، مدى السنوات الثلاث (19). وأن يبقى دخل الجوامع والهيئات الدينية أو أية أشياء أخرى مرصودة على الخير، وكذا دخل المدارس، متروكاً لنظر الفقهاء، وألا يتدخل جلالتهما بأية صورة، فى شأن هذه الصدقات أو يأمران بأخذها فى أى وقت (20). وأنه لا يؤخذ أى مسلم بذنب ارتكبه شخص آخر، فلا يؤخذ والد بذنب ولده أو ولد بذنب والده، أو أخ بذنب أخ، أو ولد عم بذنب ولد عم، ولا يعاقب إلا من ارتكب الجرم (21). وأنه إذا كان مسلم أسيراً، وفر إلى مدينة غرناطة أو البيازين أو أرباضهما أو غيرهما، فإنه يعتبر حراً، ولا يسمح لأحد بمطاردته إلا إن كان من العبيد أو من الجزائر (24). وألا يدفع المسلمون من الضرائب أكثر مما كانوا يدفعون لملوكهم المسلمين (25). وأنه يحق لسكان غرناطة والبيازين والبشرات وغيرهما، ممن عبروا إلى المغرب، أن يعودوا خلال الأعوام الثلاثة التالية، وأن يتمتعوا بكل ما يحتويه هذا الاتفاق (26). كما يحق لمن عبر منهم إلى المغرب، ولم ترضه الإقامة هنالك، أن يعود خلال الأعوام الثلاثة، وأن يتمتع بكل ما فى هذا الاتفاق (28). وأنه يحق لتجار غرناطة وأرباضها والبشرات وسائر أراضيها، أن يتعاملوا فى سلعهم آمنين، عابرين إلى المغرب وعائدين، كما يحق لهم دخول سائر النواحى التابعة لجلالتيهما، وألا يدفعوا من الضرائب سوى التى يدفعها النصارى (29). وأنه إذا كان أحد من النصارى -ذكراً أو أنثى- اعتنق الإسلام، فلا يحق لإنسان أن يهدده أو يؤذيه بأية صورة، ومن فعل ذلك يعاقب (30)

وأنه إذا كان مسلم قد تزوج بنصرانية واعتنقت الإسلام، فلا ترغم على العودة إلى النصرانية، بل تسأل فى ذلك أمام المسلمين والنصارى، وألا يرغم أولاد "الروميات" ذكوراً أو إناثاً، على اعتناق النصرانية (31). وأنه لا يرغم مسلم أو مسلمة قط على اعتناق النصرانية (32). وأنه إذا شاءت مسلمة متزوجة أو أرملة أو بكر اعتناق النصرانية بدافع الحب، فلا يقبل ذلك منها، حتى تسأل وتوعظ وفقاً للقانون؛ وإذا كانت قد استولت خلسة على حلىّ أو غيرها من دار أهلها أو أى شىء آخر، فإنها ترد لصاحبها، وتتخذ الإجراءات ضد المسئول (33). وألا يطلب الملكان، أو يسمحا بأن يُطلب إلى الملك المذكور مولاى أبى عبد الله، أو خدمه أو أحد من أهل غرناطة أو البيازين وأرباضهما والبشرات وغيرهما، من الداخلة فى هذا العهد، بأن يردوا ما أخذوه أيام الحرب من النصارى أو المدجّنين، من الخيل أو الماشية أو الثياب أو الفضة أو الذهب أو غيرها، أو من الأشياء الموروثة، ولا يحق لأحد يعلم بشىء من ذلك أن يطالب به (34). وألا يُطلب إلى أى مسلم، يكون قد هدد أو جرح أو قتل أسيراً أو أسيرة نصرانية، ليس أو ليست فى حوزته، رده أو ردها الآن أو فيما بعد (35). وألا يدفع عن الأملاك والأراضى السلطانية، بعد انتهاء السنوات الثلاث الحرة، من الضرائب إلا وفقاً لقيمتها، وعلى مثل الأراضى العادية (36). وأن يطبق ذلك أيضاً على أملاك الفرسان والقادة المسلمين، فلا يدفع عنها أكثر مما يدفع عن الأملاك العادية (37). وأن يتمتع اليهود من أهل غرناطة والبيازين وأرباضهما، والأراضى التابعة لها، بما فى هذا العهد من الامتيازات، وأن يسمح لهم بالعبور إلى المغرب خلال ثلاثة أشهر، تبدأ من يوم 18 ديسمبر (38). وأن يكون الحكام والقواد والقضاة، الذين يعينون لغرناطة والبيازين والأراضى التابعة لهما، ممن يعاملون الناس بالكرامة والحسنى، ويحافظون على الإمتيازات الممنوحة، فإذا أخل أحدهم بالواجب، عوقب وأحل مكانه من يتصرف بالحق (39). وأنه لا يحق للملكين أو لأعقابهما إلى الأبد، أن يسألوا الملك المذكور أبى عبد الله، أو أحداً من المسلمين المذكورين بأية صورة، عن أى شىء يكونوا

قد عملوه، حتى حلول يوم تسليم الحمراء المذكورة، وهى فترة الستين يوماً المنصوص عليها (40). وأنه لا يُولى عليهم أحد من الفرسان أو القادة أو الخدم، الذين كانوا تابعين لملك وادى آش (¬1) (41). وأنه إذا وقع نزاع بين نصرانى أو نصرانية ومسلم أو مسلمة، فإنه ينظر أمام قاضى نصرانى وآخر مسلم، حتى لا يتظلم أحد مما يقضى به (42). وأن يقوم الملكان بالإفراج عن الأسرى المسلمين ذكوراً وإناثاً، من أهل غرناطة والبيازين وأرباضهما وأراضيهما، إفراجاً حراً دون أية نفقة من فدية أو غيرها، وأن يكون الإفراج عمن كان من هؤلاء الأسرى بالأندلس فى ظرف خمسة الأشهر التالية، وأما الأسرى الذين بقشتالة فيفرج عنهم خلال الثمانية أشهر التالية. وبعد يومين من تسليم الأسرى النصارى لجلالتيهما يفرج عن مائتين من الأسرى المسلمين، منهم مائة من الرهائن ومائة أخرى (44). وأنه إذا دخلت أية محلة من نواحى البشرات فى طاعة جلالتيهما، فإنها يجب أن تسلم إليهما كل الأسرى النصارى ذكوراً وإناثاً، فى ظرف خمسة عشر يوماً من تاريخ الانضمام، وذلك دون أية نفقة (46). وأن تعطى الضمانات للسفن المغربية الراسية الآن فى مملكة غرناطة، لكى تسافر فى أمان، على ألا تكون حاملة أى أسير نصرانى، وألا يحدث لها أحد ضرراً أو إتلافا، وألا يؤخذ منها شىء، ولا ضمان لمن تحمل منها أسرى من النصارى، ويحق لجلالتيهما إرسال من يقوم بتفتيشها لذلك الغرض (47). وألا يُدعى أو يؤخذ أحد من المسلمين للحرب رغم إرادته، وإذا شاء جلالتاهما استدعاء الفرسان، الذين لهم خيول وسلاح، للعمل فى نواحى الأندلس فيجب أن يدفع لهم الأجر من يوم الرحيل حتى يوم العودة (48). وأنه يجب على كل من عليه دين أو تعهد، أن يؤديه لصاحب الحق، ولا يحق لهم التحرر من هذه الحقوق (52). وأن يكون المأمورون القضائيون الذين يعينون لمحاكم المسلمين، مسلمين، الآن وإلى الأبد (53). ¬_______ (¬1) المقصود هنا هو مولاى الزغل

وأن يكون المتولون لوظائف الحسبة الخاصة بالمسلمين، أيضاً مسلمين، وألا يتولاها نصرانى الآن وفى أى وقت (54). وأن يقوم الملكان فى اليوم الذى تسلم إليهما فيه الحمراء والحصن والأبواب كما تقدم، بإصدار مراسيم الإمتيازات، للملك أبى عبد الله وللمدينة المذكورة، ممهورة بتوقيعهما، ومختومة بخاتمهما الرصاص ذى الأهداب الحريرية، وأن يصدق عليها ولدهما الأمير، والكردينال المحترم دسبينا، ورؤساء الهيئات الدينية، والعظماء والدوقات والمركيزون والكونتات والرؤساء، حتى تكون ثابتة وصحيحة الآن، وفى كل وقت (56 ثافرا) (43 سيمانقا). وقد ذيلت المعاهدة، بنبذة خلاصتها، أن ملكى قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما الملكى، القيام بكل ما يحتويه هذا الههد من النصوص، ويوقعانه باسميهما ويمهرانه بخاتميهما، وعليها تاريخ تحريرها وهو يوم 25 نوفمبر سنة 1491 (¬1). ثم ذيلت بعد ذلك، وبتاريخ لاحق هو يوم 30 ديسمبر سنة 1492، أعنى بعد تسليم غرناطة بعام، بتوكيد جديد يأمر فيه الملكان ولدهما الأمير، وسائر عظماء المملكة بالمحافظة على محتويات هذا العهد، وألا يعمل ضده شىء، أو ينقض منه شىء، الآن وإلى الأبد، وأنهما يؤكدان ويقسمان بدينهما وشرفهما الملكى بأن يحافظا، ويأمران بالمحافظة على كل ما يحتويه بندا بندا إلى الأبد، وقد ذيل هذا التوكيد بتوقيع الملكين، وتوقيع ولدهما وجمع كبير من الأمراء والأحبار والأشراف والعظماء (¬2). ... وفى نفس اليوم الذى وقعت فيه معاهدة تسليم غرناطة، وهو يوم 25 نوفمبر ¬_______ (¬1) رجحنا فى ترجمة وتلخيص نصوص معاهدة التسليم إلى الوثيقتين الرسميتين اللتين تضمنتا نصوص هذه المعاهدة، وهما أولا، الوثيقة المحفوظة بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا Archivo general de Simancas، وتحمل رقم P. R. 11-207 ضمن مجموعة ( Capitulaciones con Moros y Caballeros de Castilla) . وهى تملأ إحدى عشرة لوحة كبيرة ومحررة بالقشتالية القديمة ولدينا منها صورة فتوغرافية. وثانيا، الوثيقة المعروفة بوثيقة فرناندو دى ثافرا، أمين الملكين الكاثوليكيين وتحفظ بجموعة دى ثافرا ببلدية غرناطة، وقد نشرت ضن مجموعة وثائق تسليم غرناطة: Las Capitulaciones para la Entrega de Granada, por Miguel Garrido Atienza (Granada 1910) p. 269-295 (¬2) راجع مجموعة وثائق تسليم غرناطة السالفة الذكر (ص 289 و 290)

سنة 1491 م، وفى نفس المكان الذى وقعت فيه، وهو المعسكر الملكى بمرج غرناطة، أبرمت معاهدة أخرى أو ملحق سرى للمعاهدة الأولى، يتضمن الحقوق والإمتيازات والمنح، التى تعطى للسلطان أبى عبد الله، ولأفراد أسرته وحاشيته، وذلك متى نفذ تعهداته التى تضمنتها المعاهدة من تسليم غرناطة والحمراء، وحصونها. وتتلخص هذه الحقوق والامتيازات والمنح فيما يأتى: أن يمنح الملكان الكاثوليكيان لأبى عبد الله ولأولاده وأحفاده وورثته إلى الأبد، حق الملكية الأبدية، فيما يملكانه من محلات وضياع فى بلاد برجة، ودلاية ومرشانة، ولوشار، وأندرش، وأجيجر، وأرجبة، وبضعة بلاد أخرى مجاورة، وكل ما يخصها من الضرائب وحقوق الريع، وما بها من الدور والأماكن والقلاع والأبراج، لتكون كلها له ولأولاده وأعقابه وورثته بحق الملكية الأبدية، يتمتع بكل ريعها وعشورها وحقوقها، وأن يتولى القضاء فى النواحى المذكورة باعتباره سيدها، وباعتباره فى الوقت نفسه تابعاً وخاضعاً لجلالتيهما، وله حق بيع الأعيان المذكورة ورهنها، وأن يفعل بها ما يشاء ومتى شاء، وأنه متى أراد بيعها، فإنه يعرض ذلك أولا على جلالتيهما فإذا لم يريدا شراءها، فله أن يبيعها لمن شاء. وأن يحتفظ جلالتهما بقلعة أدرة، وسائر القلاع الواقعة على الشاطىء. وأن يعطى جلالتهما إلى الملك المذكور مولاى أبى عبد الله، هبة قدرها ثلاثون ألف جنيه قشتالى من الذهب (كاستيليانو)، يبعثان بها إليه، عقب تسليم الحمراء، وقلاع غرناطة الأخرى التى يجب تسليمها، وذلك فى الموعد المحدد. وأن يهب جلالتهما للملك المذكور، كل الأراضى والرَّحى والحدائق، والمزارع التى كان يملكها أيام أبيه السلطان أبى الحسن، سواء فى غرناطة أو فى البشرات، لتكون ملكاً له ولأولاده ولعقبه وورثته، ملكية أبدية، وله أن يبيعها أو يرهنها وأن يتصرف فيها كيفما شاء. وأن يهب جلالتهما أيضاً، إلى الملكات والدته وأخواته وزوجته، وإلى زوجة أبى الحسن، كل الحدائق والمزارع والأراضى والطواحين والحمامات، التى يملكنها فى غرناطة والبشرات، تكون ملكاً لهن ولأعقابهن إلى الأبد، ولهن بيعها ورهنها والتمتع بها وفقاً لما تقدم

وأن تكون سائر الأراضى الخاصة بالملك المذكور والملكات المذكورات، وزوجة مولاى أبى الحسن، معفاة من الضرائب والحقوق الآن وإلى الأبد. وألا يطلب جلالتهما أو أعقابهما إلى ملك غرناطة أو حشمه أو خدمه رد ما أخذوه فى أيامهم سواء من النصارى أو المسلمين من الأموال والأراضى. وأنه إذا شاء الملك المذكور أبو عبد الله، والملكات المذكورات، وزوجة مولاى أبى الحسن وأولادهم وأحفادهم وأعقابهم، وقوادهم وخدمهم وأهل دارهم، وفرسانهم وغيرهم، صغاراً وكباراً، العبور إلى المغرب، فإن جلالتهما يجهزان الآن أو فى أى وقت سفينتين لعبور الأشخاص المذكورين، متى شاءوا، تحملهم وكل أمتعتهم وماشيتهم وسلاحهم، وذلك دون أية أجر أو نفقة. وأنه إذا لم يتمكن الملك المذكور وأولاده وأحفاده وأعقابه، والملكات المذكورات، وزوجة مولاى أبى الحسن. والقواد والحشم والخدم، وقت عبورهم إلى المغرب، من بيع أملاكهم المشار إليها، فإن لهم أن يوكلوا من شاءوا لقبض ريعها، وإرساله حيث شاءوا دون أى قيد أو مغرم. وأنه يحق للملك المذكور متى شاء، أن يرسل من يرى، من خدمه أو قادته إلى المغرب بسلع أو غيرها من إيراداته، وذلك دون قيد أو مغرم. وأنه يحق للملك المذكور، متى خرج من غرناطة، أن يسكن أو يقيم متى شاء، فى الأراضى التى أقطعت له، وأن يخرج هو وخدمه وقواده وعلماؤه وقضاته وفرسانه، الذين يريدون الخروج معه، بخيلهم وماشيتهم متقلدين أسلحتهم، وكذلك نساؤهم وخدمهم، وألا يؤخذ منهم شىء سوى المدافع، وألا يفرض عليهم الآن أو فى أى وقت، وضع علامة خاصة فى ثيابهم أو بأية صورة، وأن يتمتعوا بسائر الإمتيازات المقررة فى عهد تسليم غرناطة. وأنه فى اليوم الذى يتم فيه تسليم الحمراء وحصونها، يصدر جلالتهما المراسيم اللازمة بالمنح المذكورة، موقعة ومختومة، ومصدق عليها من ابنهما الأمير والكردينال وسائر العظماء (¬1). ... تلك هى الشروط التى وضعت لتسليم آخر القواعد الأندلسية، وتلك هى ¬_______ (¬1) تحفظ النسخة القشتالية لهذه المعاهدة السرية التى عقدت بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا Archivo general de Simancas وتحمل رقم P. R. Leg. II. Fol. 206 وقد حصلنا منها على صورة فتوغرافية

الصفحة الأخيرة من معاهدة التسليم التى أصدرها الملكان الكاثوليكيان لأبى عبد الله وأهل غرناطة، مؤرخة فى 25 نوفمبر سنة 1491 م (21 محرم 897 هـ)، وعليها توقيعا فرناندو وإيسابيلا، وتوقيع سكرتيرهما فرناندو دى ثافرا، وختم مملكة قشتالة. والأصل محفوظ بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا ويحمل رقم P. R. 11-207

الإمتيازات والمنح التى منحت لآخر ملوك الأندلس. فأما فيما يتعلق بغرناطة ومصاير الأمة المغلوبة، فقد كانت هذه الشروط المسهبة، والتى اشتملت على سائر الضمانات المتعلقة بتأمين النفس والمال، وسائر الحقوق المادية، وصون الدين والشعائر، والكرامة الشخصية، أفضل ما يمكن الحصول عليه فى مثل هذه المحنة، لو أخلص العدو الظافر فى عهوده. ولكن هذه العهود لم تكن فى الواقع، حسبما أيدت الحوادث فيما بعد، سوى ستار الغدر والخيانة، وقد نقضت هذه الشروط الخلابة كلها لأعوام قلائل من تسليم غرناطة، ولم يتردد المؤرخ الغربى نفسه فى أن يصفها " بأنها أفضل مادة لتقدير مدى الغدر الإسبانى فيما تلا من العصور" (¬1). وقد بذل فرناندو ما بذل من عهود وضمانات وامتيازات لأهل غرناطة، بعد ما لقيت جيوشه من الصعاب، وما منيت به من الخسائر الفادحة، أمام أسوار مالقة وبسطة، ولأنه كان يعلم أن الحاضرة الأندلسية الأخيرة، تموج بعشرات الألوف من المدافعين، وأنه يقتضى لأخذها عنوة بذل جهود مضنية، وتحمّل تضحيات عظيمة، وقد لجأ فرناندو، إلى جانب إرهاق غرناطة بالحصار الصارم، إلى البذل والرشوة لإغراء الزعماء والقادة، وعلى رأسهم أبو عبد الله، وذلك لكى يصل إلى تحقيق غايته المنشودة بطريق سلمية مأمونة، وجاءت نصوص المعاهدة السرية مؤيدة لما أشارت إليه الرواية الإسلامية المعاصرة، من ريب وشكوك تحيط بموقف أبى عبد الله ووزرائه وقادته. وعاد أبو القاسم عبد الملك والوزير ابن كماشة يحملان شروط التسليم، وصحبهما فرناندو دى ثافرا أمين ملك قشتالة ومبعوثه، وأدخل سراً إلى قصر الحمراء، وجمع أبو عبد الله الفقهاء وأكابر الجماعة فى بهو الحمراء الكبير (بهو قمارش)، وبعد مناقشات طويلة عاصفة، تمت الموافقة على المعاهدة، وحملها دى ثافرا ممهورة بتوقيع أبى عبد الله إلى معسكر ملك قشتالة. وقد انتهت إلينا عن هذه الجلسة الحاسمة فى تاريخ الأمة الأندلسية، وعن موقف فارس غرناطة موسى بن أبى الغسان، رواية قشتالية مؤثرة، قد تصطبغ بلون الأسطورة، ومع ذلك فإنها تنم عن روح الانتقاض والسخط، التى كانت تضطرم بها بعض النفوس الأبية الكريمة التى كانت ترى الموت خيراً من التسليم لأعداء الوطن والدين. ¬_______ (¬1) Prescott: ibid ; p. 296

تقول الرواية المذكورة، إنه حينما اجتمع الزعماء فى بهو الحمراء الكبير، ليوقعوا عهد التسليم، وليحكموا على دولتهم بالذهاب، وعلى أمتهم بالفناء والمحو، عندئذ لم يملك كثير منهم نفسه من البكاء والعويل. ولكن موسى لبث وحده صامتاً عابساً وقال: "أتركوا العويل للنساء والأطفال، فنحن رجال لنا قلوب لم تخلق لإرسال الدمع ولكن لتقطر الدماء، وإنى لأرى روح الشعب قد خبت حتى ليستحيل علينا أن ننقذ غرناطة، ولكن ما زال ثمة بديل للنفوس النبيلة. ذلك هو موت مجيد، فلنمت دفاعاً عن حرياتنا وانتقاماً لمصائب غرناطة، وسوف تحتضن أمنا الغبراء أبناءها أحراراً من أغلال الفاتح وعسفه، ولئن لم يظفر أحدنا بقبر يستر رفاته، فإنه لن يعدم سماء تغطيه، وحاشا الله أن يقال إن أشراف غرناطة خافوا أن يموتوا دفاعاً عنها" (¬1). ثم صمت موسى، وساد المجلس سكون الموت، وسرح أبو عبد الله البصر حوله، فإذا اليأس ماثل فى تلك الوجوه التى أضناها الألم، وإذا كل عزم قد غاض فى تلك القلوب الكسيرة الدامية. عندئذ صاح " الله أكبر لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ولا راد لقضاء الله. تالله لقد كتب علىّ أن أكون شقياً، وأن يذهب الملك على يدى". وصاحت الجماعة على أثره " الله أكبر ولا راد لقضاء الله"، وكرروا جميعاً أنها إرادة الله ولتكن، وأنه لا مفر من قضائه ولا مهرب، وأن شروط ملك النصارى أفضل ما يمكن الحصول عليه. فلما رأى موسى أن اعتراضه عبث لا يجدى وأن الجماعة قد أخذت فعلا فى توقيع صك التسليم، نهض مغضباً وصاح: "لا تخدعوا أنفسكم، ولا تظنوا أن النصارى سيوفون بعهدهم، ولا تركنوا إلى شهامة ملكهم. إن الموت أقل ما نخشى، فأمامنا نهب مدننا وتدميرها، وتدنيس مساجدنا، وتخريب بيوتنا، وهتك نسائنا وبناتنا، وأمامنا الجور الفاحش، والتعصب الوحشى، والسياط والأغلال، وأمامنا السجون والأنطاع والمحارق. هذا ما سوف نعانى من مصائب وعسف، وهذا ما سوف تراه على الأقل تلك النفوس الوضيعة، التى تخشى الآن الموت الشريف. أما أنا فوالله لن أراه". ثم غادر المجلس واخترق بهو الأسود (كورة السباع) عابساً حزيناً، وجاز إلى أبهاء الحمراء الخارجية، دون أن يرمق أحداً أو يفوه بكلمة، ثم ذهب إلى داره وغطى نفسه بسلاحه، واقتعد غارب جواده المحبوب، واخترق ¬_______ (¬1) Condé ; ibid: V. III. p. 256 & 257

شوارع غرناطة، حتى غادرها من باب إلبيرة، ولم يره إنسان أو يسمع به بعد ذلك قط. هذا ما تقوله الرواية القشتالية عن نهاية موسى بن أبى الغسان (¬1). ولكن مؤرخاً اسبانياً قديماً هو القس أنطونيو أجابيدا يحاول أن يلقى ضياء على مصيره، فيقول إن سَرية من الفرسان النصارى تبلغ نحو الخمسة عشر، التقت فى ذلك المساء بعينه، على ضفة نهر " شنيل " بفارس مسلم قد دججه السلاح من رأسه إلى قدمه، وكان مغلقاً خوذته شاهراً رمحه، وكان جواده غارقاً مثله فى رداء من الصلب. فلما رأوه مقبلا عليهم طلبوا إليه أن يقف وأن يعرف بنفسه، فلم يجب الفارس المسلم، ولكنه وثب إلى وسطهم وطعن أحدهم برمحه وانتزعه عن سرجه فألقاه إلى الأرض، ثم انقض على الباقين يثخن فيهم طعاناً، وكانت ضرباته ثائرة قاتلة، وكأنه لم يشعر بما أثخنه من جراح، ولم يرد إلا أن يقتل وأن يسيل الدم، وكأنه إنما يقاتل للانتقام فقط، وكأنما يتوق إلى أن يقتل دون أن يعيش لينعم بظفره. وهكذا لبث يبطش بالفرسان النصارى حتى أفنى معظمهم، غير أنه أصيب فى النهاية بجرح خطر، ثم سقط جواده من تحته بطعنة أخرى، فسقط إلى الأرض، ولكنه ركع على ركبتيه واستل خنجره، وأخذ يناضل عن نفسه. فلما رأى أن قواه قد نضبت، ولم يرد أن يقع أسيراً فى يد خصومه، ارتد إلى ما ورائه بوثبة أخيرة، وألقى بنفسه إلى مياه النهر، فابتلعته لفوره، ودفعه سلاحه الثقيل إلى الأعماق. يقول الراوية المذكور، إن هذا الفارس الملثم هو موسى بن أبى الغسان، وإن بعض العرب المتنصرين فى المعسكر الإسبانى، عرفوا جواده المقتول، وهى رواية لا بأس بها، غير أن الحقيقة لم تعرف قط (¬2). - 4 - وما كادت أنباء الموافقة على عهد التسليم تذاع حتى عم الحزن ربوع غرناطة، وتسربت فى الوقت نفسه بعض أنباء غامضة عن المعاهدة السرية، وعما حققه أبو عبد الله ووزراؤه لأنفسهم من المغانم الخاصة، وسرى الهمس بين العامة، واضطرم سواد الشعب يأساً وسخطاً على قادته، ولا سيما أبى عبد الله الذى اعتبر ¬_______ (¬1) هذه هى رواية كوندى فيما نقل عن مصادر عربية غير معروفة Condé; ibid. V. III. p. 257 (¬2) راجع هذه الرواية فى: Irving: Conquest of Granada ; Ch. 97

مصدر كل مصائبه ومحنه، وتعالى النداء بوجوب الدفاع عن المدينة حتى آخر نسمة. وحدثت حركة انتقاض، خشى أبو عبد الله والقادة، أن تقضى على خططهم وتدابيرهم، ولكنها انهارت قبل أن تنتظم، وأضحى كل يفكر فى مصيره. واستقبل المسلمون عهود ملك قشتالة فى تردد وتوجس، والشك يساورهم فى إخلاص أعدائهم، وإزاء ذلك أعلن الملكان الكاثوليكيان، فى يوم 29 نوفمبر مع قسم رسمى بالله، أن جميع المسلمين سيكون لهم مطلق الحرية فى العمل فى أراضيهم أو حيث شاءوا، وأن يحتفظوا بشعائر دينهم ومساجدهم كما كانوا، وأن يسمح لمن شاء منهم بالهجرة إلى المغرب. ولكن الإيمان والعهود لم تكن حسبما تقدم، عند ملكى قشتالة، سوى ذريعة الخيانة والغدر، ووسيلة لتحقيق المآرب بطريق الخديعة الشائنة. وقد كانت هذه أبرز صفات فرناندو الكاثوليكى، فهو لم يتردد قط فى أن يعمل لتحقيق غاياته بأى الوسائل، أو أن يقطع أى عهد أو يقدم أى تأكيد، دون أن ينوى قط الوفاء بما تعهد. ولكن الشعب الغرناطى استمر فى وجومه وتوجسه ويأسه، ولم تهدأ الخواطر المضطرمة، وكان أبو عبد الله والقادة يخشون تفاقم الأحوال، وإفلات الأمر من أيديهم، فاعتزموا العمل على التعجيل بالتسليم، حرصاً على سلامة المدينة وسلامة الزعماء، وألا ينتظروا مرور الستين يوماً التى نصت عليها المعاهدة. وفى يوم 20 ديسمبر أرسل أبو عبد الله وزيره يوسف بن كماشه إلى فرناندو مع خمسمائة من الرهائن من الوجوه والأعيان، تنفيذاً لنص المعاهدة، وليعرب له عن حسن نية مليكه واستعداده، كما حمل إليه هدية تتألف من سيف ملوكى وجوادين عربيين مسرجين بعدد ثمينة. واتفق مع ملك قشتالة على تسليم المدينة فى الثانى من يناير سنة 1492 م (الثانى من ربيع الأول 897 هـ) أى لتسع وثلاثين يوماً فقط من توقيع عهد التسليم (¬1). ¬_______ (¬1) تخلط معظم الروايات الإسلامية بين تاريخ توقيع المسلمين عهد تسليم غرناطة، وبين تاريخ استيلاء النصارى الفعلى عليها. وهى تضع هذا التاريخ فى الثانى من ربيع الأول سنة 897 هـ (2 يناير سنة 1492) (أخبار العصر ص 50؛ ونفح الطيب ج 2 ص 615؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 65). والواقع أن عهد التسليم وقع كما رأينا فى 25 نوفمبر سنة 1491 م (21 محرم سنة 897 هـ) وهو يعتبر تاريخ سقوط غرناطة الرسمى فى يد النصارى، وذلك بعد تخلى المسلمين عن الدفاع عنها؛ ولم نجد بين الروايات الإسلامية سوى رواية واحدة هى رواية الوادى آشى تتفق مع الرواية النصرانية فى هذا التفريق فهو يقول إن استيلاء النصارى على غرناطة وقع فى المحرم سنة 897 هـ، وهو تاريخ توقيع عهد التسليم (راجع أزهار الرياض ج 1 ص 61)

وقد وصلت إلينا روايات عديدة عن حوادث هذا اليوم المؤسى ومناظره -يوم احتلال القشتاليين لمدينة غرناطة، آخر الحواضر الإسلامية بالأندلس-، والرواية الغالبة التى يتفق عليها معظم المؤرخين الإسبان تقدم إلينا التفاصيل الآتية عن حوادث هذا اليوم المشهود. ففى صباح هذا اليوم، كان المعسكر النصرانى فى شنتفى يموج بالضجيج والابتهاج. وكانت الأوامر قد صدرت، والأهبة قد اتخذت لاحتلال المدينة. وكان قد اتفق بين أبى عبد الله والملك فرناندو أن تطلق من الحمراء ثلاثة مدافع تكون إيذاناً بالاستعداد للتسليم. ولم يشأ فرناندو أن يسير إلى الحاضرة الإسلامية بنفسه، قبل التحقق من خضوعها التام، واستتباب الأمن والسلامة فيها. فأرسل إليها قوة من ثلاثة آلاف جندى وسرية من الفرسان، وعلى رأسها الكردينال بيدرو دى مندوسا مطران اسبانيا الأكبر. وكان من المتفق عليه أيضاً بين فرناندو وأبى عبد الله ألا يخترق الجيش النصرانى شوارع المدينة، بل يسير تواً إلى قصبة الحمراء، حتى لا يقع حادث أو شغب. ومن ثم فقد اخترق الجند القشتاليون الفحص إلى ضاحية أرميليا Armilla ( أرملة) الواقعة جنوبى غرناطة، ثم عبروا نهر شنيل، واتجهوا تواً إلى قصر الحمراء من ناحية التل المسمى "تل الرَّحى" Questa de los Molinos، الواقع غربى المدينة وجنوبى غربى الحمراء. وسار الملك فرناندو فى الوقت نفسه فى قوة أخرى، ورابط على ضفة شنيل، ومن حوله أكابر الفرسان والخاصة فى ثيابهم الزاهية، حتى يمهد الكردينال الطريق لمقدم الركب الملكى. وانتظرت الملكة إيسابيلا فى سرية أخرى من الفرسان فى أرميليا، على قيد مسافة قريبة. ووصل الجند القشتاليون إلى مدينة غرناطة من هذه الطريق المنحرفة نحو الظهر، وكانت أبواب الحمراء قد فتحت وأخليت أبهاؤها استعداداً للساعة الحاسمة. وهنا تختلف الرواية، فيقال إن الذى استقبل الكردينال مندوسا وصحبه هو الوزير ابن كماشه، الذى ندب للقيام بتلك المهمة المؤلمة، وسلم الحرس المسلمون السلاح والأبراج. وكان يسود المدينة كلها، ويسود القصبة والقصر، وما إليه، سكون الموت. وفى رواية أخرى أن أبا عبد الله قد شهد بنفسه تسليم الحمراء، وأنه حينما تقدم القشتاليون من تل الرَّحى صاعدين نحو الحمراء، تقدم أبو عبد الله من

مخطط: غرناطة الإسلامية

باب الطباق السبع راجلا، يتبعه خمسون من فرسانه وحشمه. فلما عرف الكردينال أبا عبد الله، ترجل عن جواده، وتقدم إلى لقائه، وحياه باحترام وحفاوة، ثم ابتعد الرجلان قليلا، وتحدثا برهة على انفراد. ثم قال أبو عبد الله بصوت مسموع: (¬1) "هيا يا سيدى، فى هذه الساعة الطيبة، وتسلم هذه القصور -قصورى- باسم الملكين العظيمين اللذين أراد لهما الله القادر أن يستوليا عليها، لفضائلهما، وزلات المسلمين". فوجه الكردينال إلى أبى عبد الله بعض عبارات المواساة، ودعاه لأن يقيم فى خيمته فى المعسكر اللكى طيلة الوقت الذى يمكثه فى شنتفى، فقبل أبو عبد الله شاكراً. ثم سار فى فرسانه وحشمه للقاء الملك الكاثوليكى. وتم تسليم القصور الملكية والأبراج على يد الوزير ابن كماشه، الذى ندبه أبو عبد الله للقيام بهذه المهمة. وما كاد الكردينال وصحبه يجوزون إلى داخل القصر الإسلامى المنيف، حتى رفعوا فوق برجه الأعلى، وهو المسمى برج الحراسة Torre de la Vela صليباً فضياً كبيراً، هو الذى كان يحمله الملك فرناندو خلال حرب غرناطة، كما رفعوا إلى جانبه علم قشتالة وعلم القديس ياقب، وأعلن المنادى من فوق البرج بصوت جهورى ثلاثا أن غرناطة أصبحت ملكاً للملكين الكاثوليكيين وأطلقت المدافع تدوى فى الفضاء. ثم انطلقت فرقة الرهبان الملكية ترتل صلاة "الحمد لله" Te Deum laudamus، على أنغام الموسيقى. وهكذا كان كل هنالك يؤكد الصفة الصليبية العميقة لهذه الحرب التى شهرتها اسبانيا النصرانية على الأمة الأندلسية، وعلى الإسلام فى اسبانيا. وفى أثناء ذلك كان أبو عبد الله، فى طريقه إلى لقاء الملك الكاثوليكى. وكان فرناندو يرابط كما قدمنا على ضفة نهر شنيل، على مقربة من المسجد، الذى حُوّل فيما بعد إلى كنيسة "سان سبستيان". وهنالك لقى أبو عبد الله عدوه الظافر، وسلمه مفاتيح الحمراء. وسوف نصف منظر هذا اللقاء المؤثر فيما بعد. وكذلك قدم أبو عبد الله خاتمه الذهبى، الذى كان يوقع به على الأوامر الرسمية، إلى الكونت دى تندليا الذى عين محافظاً للمدينة. وسار فى صحبه بعد ذلك فى طريق شنتفى، يتبعه أهله، أمه وزوجته وأخواته، وكانه موكباً مؤسياً. وعرج فى طريقه على محلة الملكة إيسابيلا فى أرميليا. فاستقبلته ¬_______ (¬1) المفروض أن أبا عبد الله كان يتحدث بالقشتالية، وهى لغة كان يجيد التكلم بها

وأسرته برقة ومجاملة، وحاولت تخفيف آلامه، وسلمته ولده الصغير الذى كان ضمن رهائن التسليم. وهنا تعود الرواية فتختلف اختلافاً بيناً. فيقول البعض إن الملكين الكاثوليكيين دخلا قصر الحمراء فى نفس اليوم. وينفى البعض الآخر ذلك، ومنهم صاحب " أخبار العصر"، ويقول إنهما لم يدخلاه إلا بعد ذلك ببضعة أيام. تقول الرواية الأولى، إن الملكة إيسابيلا، سارت على أثر استقبالها لأبى عبد الله، وانضمت بصحبها إلى الملك فرناندو، ثم سار الإثنان إلى الحمراء، بينما انتشر القشتاليون فى الساحة المجاورة. ودخل الملكان من "باب الشريعة"، حيث استقبلهما الكردينال مندوسا والوزير ابن كماشه، وأعطى مفاتيح الحمراء إلى الدون ديجو دى مندوسا الذى عين حاكما للمدينة. وبعد أن تجول الملكان قليلا فى القصر، وشهدا جماله وروعته، عادا إلى شنتفى. وبقى الكونت دى تندليا فى الحمراء مع حامية قوية من خمسمائة جندى. ثم عاد الملكان فزارا الحمراء زيارتهما الرسمية فى يوم 6 يناير، وسارا فى موكب فخم من الأمراء والكبر اء وأشراف العقائل، ودخلا غرناطة من باب إلبيرة، ثم جازا إلى الحمراء من طريق مرتفع غمارة، ودخلا قصر الحمراء وجلسا فى بهو قمارش أو المشور (¬1) حيث كان يجلس الملوك المسلمون فى نفس المكان على عرشهم، على عرش أعده الكونت دى تندليا، وهنالك أقبل أشراف قشتالة للتهنئة، وكذلك بعض الفرسان المسلمين، الذين أتوا ليقدموا شعائر التحية والتجلة لسادتهم الجدد. وفى خلال ذلك كان الملكان الكاثوليكيان، قد أفرجا عن رهائن المسلمين الخمسمائة، وفى مقدمتها ولد أبى عبد الله، وأفرج المسلمون من جانبهم عن الأسرى النصارى، وعددهم نحو سبعمائة أسير رجالا ونساء. وتعهد القشتاليون من جانبهم، أن يطلقوا سراح الأسرى المسلمين فى سائر مملكة قشتالة، فى ظرف خمسة أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين بالأندلس، وثمانية أشهر بالنسبة للأسرى الموجودين فى بقية أراضى قشتالة. تلك خلاصة الرواية القشتالية عن تسليم غرناطة ومدينة الحمراء للملكين الكاثوليكيين. بيد أن هنالك رواية أخرى لشاهد عيان، كتبها فارس فرنسى كان يقاتل فى صفوف الجيش القشتالى، وشهد بنفسه حفلات التسليم، ونشرت ¬_______ (¬1) وهو المسمى أيضاً بهو السفراء، وسوف نعود إلى وصفه عند الكلام على قصر الحمراء

روايته فى القرن السادس عشر ضمن مؤلف عنوانه La Mar de las Historias " بحر التواريخ". وهذه خلاصتها: أن الذى أوفده الملكان الكاثوليكيان لاستلام الحمراء فى يوم 2 يناير، هو الأستاذ الأعظم رئيس جمعية شنت ياقب، جوتيرى دى كارديناس، وليس الكاردينال مندوسا حسبما تروى التواريخ القشتالية. وأنه تسلم القصر والأبراج وأخرج منها الحرس المسلمين، ووضع بها الحرس النصارى، وأنه رفع الصليب الكبير فوق برج الحراسة ثلاث مرات، والمسلمون من أسفل يصعدون الزفرات ويذرفون الدموع، ثم لوح بعده ذلك بعلم شنت ياقب ثلاث مرات، ونُصب إلى جانب الصليب، وصاح المنادى بعد ذلك: القديس يعقوب ثلاثاً. قشتالة ثلاثاً. غرناطة لسيدنا الدون فرناندو ودونيا إيسابيل ثلاثاً. وأن الملك فرناندو لما رأى الصليب، وهو فى جنده من أسفل، ترجل وجثا على ركبتيه، وجثا الجند جميعاً شكراً لله. ثم أطلقت المدافع ابتهاجاً. وفى اليوم التالى الثالث من يناير، سار الكردينال مندوسا والكونت دى تندليا، الذى عين محافظاً للحمراء، إلى قصبة الحمراء فى نحو ألف فارس وألفى راجل، وسلم إليه الأستاذ الأعظم مفاتيح القصر والحصن. وفى اليوم الثامن من يناير، سار الملكان الكاثوليكيان إلى غرناطة، فى موكب حافل من الأمراء والأكابر والأحبار والأشراف، وتسلم الملكان مدينة الحمراء بصفة رسمية. وأقيم القداس فى الجامع الأعظم، وحول الجامع منذ ذلك اليوم إلى كتدرائية غرناطة. وفى ذلك اليوم أقيمت مأدبة عظيمة فى قصر الحمراء، ومدت الموائد الحافلة فى أبهاء القصر العظيمة، وجلس إليها الملكان والأمراء والعظماء، وكانت مأدبة رائعة. ويستخلص من هذه الرواية، التى يؤيدها مؤرخون آخرون، أن أبا عبد الله لم يستقبل الملكين الكاثوليكيين ولا مندوبيهما وقت التسليم، ولم تقع بينه وبين الكردينال ولا بين الملكين، الأحاديث التى سبقت الإشارة إليها. وإلى جانب ذلك يرى بعض النقدة المحدثين، أن أبا عبد الله حينما خرج للقاء الملكين الكاثوليكيين، قد فعل ذلك وهو فى صحبه وحشمه فقط دون أهله، وأنه خرج يومئذ من داره الملكية الخاصة بحىّ البيازين، ولم يخرج من قصر الحمراء، وأنه كان يعيش فى هذه الدار مع أهله وولده مذ عاد من الأسر،

حتى أعلن الخلاف والحرب على الملكين الكاثوليكيين (¬1)، وأنه كان يشعر وهو فى هذه الدار، أنه بين أنصاره ومؤيديه، وأخيراً أنه كان قد أمر بإخلاء قصر الحمراء، وندب من يقوم بمهمة التسليم فى اليوم الثانى من يناير. وفى هذا اليوم خرج فى نفر من صحبه، ليقدم إلى الملكين الكاثوليكيين شعائر التحية والخضوع، ثم عاد إلى داره فبقى بها أياماً، حتى سويت مسألة مصيره مع الملكين الكاثوليكيين. على أنه يبدو لنا من تتبع حوادث حصار غرناطة، وما تلاه من مفاوضات على التسليم، أن الرواية الراجحة فى هذا الشأن، هو أن أبا عبد الله، حتى مع افتراض أنه لم يشهد رسوم التسليم، ولم يقم بها بنفسه " كان يقيم بقصر الحمراء، يحيط به وزراؤه وقواده طيلة هذه الأحداث الخطيرة، أو على الأقل مذ بدأت مفاوضات التسليم بينه وبين الملكين الكاثوليكيين، ومذ أبرمت بينهما معاهدة التسليم، حتى يوم الحسم النهائى الذى تم فيه ذلك التسليم، وأنه خرج فى ذلك اليوم المشهود من الحمراء للقاء عدوه الظافر. ومن المعقول أن تكون الحمراء قد أخليت قبل ذلك استعداداً لتسليمها لسادتها الجدد، وذلك حسبما يشير إليه صاحب "أخبار العصر" (¬2). هذا وتلقى الرواية الإسلامية المعاصرة ضوءاً على دخول ملك قشتالة مدينة غرناطة، وتصفه على النحو الآتى: "فلما كان اليوم الثانى لربيع الأول عام سبعة وتسعين وثمانمائة (2 يناير سنة 1492) أقبل ملك الروم بجيوشه حتى قرب من البلد، وبعث جناحاً من جيشه فدخلوا مدينة الحمراء، وأقام هو ببقية الجيوش خارج البلد، لأنه كان يخاف من الغدر، وكان طلب من أهل البلد حين وقع الإتفاق على ما ذكر، رهوناً من أهل البلد ليطمئن بذلك، فأعطوه خمسمائة رجل منهم، وأقعدهم بمحلته. فلما اطمأن من أهل البلد، ولم ير منهم غدراً، سرح جنوده لدخول البلد والحمراء، فدخل منهم خلق كثير وبقى هو خارج البلد، وأشحن الحمراء بكثير من الدقيق والطعام والعدة، وترك فيها قائداً من قواده، وانصرف راجعاً إلى محلته .. ثم إن ملك الروم ¬_______ (¬1) راجع فى روايات تسليم غرناطة: Lafuente Alcantara (y citaciones) ; ibid, V. III p. 72 & 73; Marmol: Historia del Rebelion y Castigo de los Moriscos del Reino de Granada, Lib. I. Cap. XX ; Gaspar y Remiro: Entrada de los Reyes Catolicos en Granada al Tiempo de su Rendicion (Revista del Centro de Estudios historicos de Granada y su Reino - Ano I., Num. I, p. 7 - 24) (¬2) أخبار العصر ص 50

سرح الناس الذين كانوا عنده مرتهنين، ومُؤمّنين فى أموالهم وأنفسهم مكرمين. وأقبل فى جيوشه حين أطمأن، فدخل مدينة الحمراء فى بعض خواصه، وبقى الجند خارج البلد، وبقى يتنزه فى الحمراء فى القصور والمنارة المشيدة إلى آخر النهار، ثم خرج بجنوده وصار إلى محلته. فمن غد أخذ فى بناء الحمراء وتشييدها، وتحصينها وإصلاح شأنها، وفتح طرقها، وهو مع ذلك يتردد إلى الحمراء بالنهار ويرجع بالليل لمحلته، فلم يزل كذلك إلى أن اطمأنت نفسه من غدر المسلمين، فحينئذ دخل البلد، ودار فيه فى نفر من قومه وحشمه ... " (¬1). ... وهكذا اختتمت المأساة الأندلسية، واستولى القشتاليون على غرناطة آخر الحواضر الإسلامية فى اسبانيا، وخفق علم النصرانية ظافراً فوق صرح الإسلام المغلوب، وانتهت بذلك دولة الإسلام بالأندلس، وطويت إلى الأبد تلك الصفحة المجيدة المؤثرة من تاريخ الإسلام، وقُضى على الحضارة الأندلسية الباهرة، وآدابها وعلومها وفنونها، وكل ذلك التراث الشامخ، بالفناء والمحو. شهد المسلمون احتلال العدو الظافر لحاضرتهم ودار ملكهم، وموطن آبائهم وأجدادهم، وقلوبهم تتفطر حزناً وأسى. على أن هذه المناظر المحزنة، كانت تحجب مأساة أليمة أخرى؛ تلك هى مأساة الملك التعس أبى عبد الله آخر ملوك بنى الأحمر وآخر ملوك الإسلام بالأندلس. فقد تقرر مصيره، وبينت حقوقه وامتيازاته وفقاً للمعاهدة السرية التى عقدت يينه وبين الملكين الكاثوليكيين. وقد نصت المعاهدة المذكورة على أن يقطع أبو عبد الله طائفة من الأراضى والضياع فى برجة ودلاية وأندرش وأجيجر وأرجبة ولوشار وبضعة بلاد أخرى من أعمال منطقة البشرّات، وهذه البلاد يقع بعضها فى جنوب غربى ولاية ألمرية، والبعض الآخر قبالتها فى جنوب شرقى ولاية غرناطة، وأن يحكم أبو عبد الله فى هذه المنطقة باسم ملك قشتالة وتحت حمايته، ويتمتع بدخلها وسائر غلاتها وحقوقها. وقد حددت إقامته، أو اختار هو الإقامة فى إحداها وهى بلدة أندَرَش الواقعة على النهر الأخضر شمالى ثغر أدرة الصغير. ولما اقترب اليوم المروع -يوم التسليم- قام أبو عبد الله باتخاذ أهبته للرحيل مع أهله وحشمه وخاصته. وفى صباح اليوم الثانى من يناير سنة 1492 م، فى الوقت ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 50 و 51

الذى اقترب فيه النصارى من أسوار غرناطة، كان أبو عبد الله قد غادر قصره وموطن عزه ومجد آبائه إلى الأبد، فى مناظر تثير الأسى والشجن. وهنالك روايتان، فهل خرج أبو عبد الله عندئذ لآخر مرة من الحمراء مع أهله وحشمه وأمتعته؟ أم هل خرج بمفرده فى صحبه من الحمراء للقاء الملكين الكاثوليكيين، ثم لحق به بعد ذلك ركب أهله وأمتعته؟ وهل سار تواً إلى طريق البشرّات حيث تعين محل إقامته، أم عرج على المعسكر القشتالى الملكى فى شنتفى فلبث فيه مع أهله أياماً، ثم سار بعد ذلك إلى البشرات؟ أما الرواية الأولى، وهى أكثر الروايات ذيوعاً لدى المؤرخين القشتاليين، فتجرى على النحو الآتى: فى فجر اليوم الثانى من يناير، وهو اليوم الذى حدد لتسليم الحمراء، كان رنين البكاء يتردد فى غرف قصر الحمراء وأبهائه، وكانت الحاشية منهمكة فى حزم أمتعة الملك المخلوع وآله، وقد ساد الوجوم كل محيا، واحتبست الزفرات فى الصدور. وما كادت تباشير الصبح تبدو، حتى غادر القصر، ركب قاتم مؤثر هو ركب الملك المنفى، يحمل أمواله وأمتعته، ومن ورائه أهله وصحبه القلائل، وحوله كوكبة من الفرسان المخلصين. وكانت أمه الأميرة عائشة تمتطى صهوة جوادها، يشع الحزن من محياها الوقور، وكان باقى السيدات من آله وحشمه، يرسلن الزفرات العميقة والدموع السخينة. واخترق الركب غرناطة فى صمت البكور وستره؛ وحين بلغ الباب الذى سيغادر منه المدينة إلى الأبد، ضج الحراس بالبكاء لرؤية ذلك المنظر المؤلم، ثم اتجه الركب صوب نهر شنيل فى طريق البشرات. وليس أبلغ فى وصف هذه المناظر المؤسية من قول شوقى طيب الله ثراه: (¬1). مشت الحادثات فى غرف الحمـ ... راء مشى النعش فى دار عرس هتكت عزة الحجاب وفضت ... سدة الباب من سمير وأنس عرصات تخلت الخيل عنها ... واستراحت من احتراس وعس ومغارة على الليالى وضاء ... لم تجد للعشى تكرار مس ... آخر العهد بالجزيرة كانت ... بعد عرك من الزمان وضرس فنراها تقول راية جيش ... باد بالأمس يين أمر وحس ¬_______ (¬1) من قصيدته السينية الأندلسية الشهيرة، التى ينحو فيها نحو البحترى فى سينيته

ومفاتيحها مقاليد ملك ... باعها الوارث المضيع ببخس خرج القوم فى كتائب صم ... عن حفاظ كموكب الدفن خرس ركبوا بالبحار نعشا ... وكانت تحت أبائهم هى العرش أمس ... وأما أبو عبد الله، فقد اتجه إلى وجهة أخرى ليتجرع كأسه المرة إلى الثمالة، وكان قد تقرر اللقاء فى صباح ذلك اليوم بينه وبين ملك قشتالة، فخرج من باب مدينة الحمراء المسمى باب الطباق السبع Siete Suelos، فى طريقه إلى لقاء عدوه الظافر، وسيده الجديد، فى نفر من الفرسان والخاصة. فاستقبله فرناندو بترحاب وحفاوة فى محلته على ضفة نهر شنيل. وتصف لنا الرواية القشتالية هذا المنظر المؤثر فتقول إن أبا عبد الله حين لمح فرناندو هَمَّ بترك جواده، ولكن فرناندو بادر بمنعه وعانقه بعطف ومودة، فقبّل أبو عبد الله ذراعه اليمنى إيماءة الخضوع. ثم قدّم إليه مفتاحى البابين الرئيسيين للحمراء قائلا: "إنهما مفتاحى هذه الجنة، وهما الأثر الأخير لدولة المسلمين فى اسبانيا، وقد أصبحت أيها الملك سيد تراثنا وديارنا وأشخاصنا. هكذا قضى الله، فكن فى ظفرك رحيما عادلا". وتضيف الرواية القشتالية إلى ذلك أن فرناندو تناول المفتاحين قائلا: "لا تشك فى وعودنا، ولا تعوزنك الثقة خلال المحنة، وسوف تعوض لك صداقتنا ما سلبه القدر منك" (¬1). بيد أن مؤرخاً قشتالياً عاش قريباً من ذلك العصر، يقدم إلينا رواية أخرى ربما كانت أقرب إلى الصحة والمعقول، وهى أن مفاتيح الحمراء قدمها القائد ابن كماشه مأمور التسليم إلى الملك فرناندو حينما وصل إلى الباب الرئيسى، وأن فرناندو ناولها بدوره إلى قائده لوبث دى مندوسا (كونت تندليا) الذى عينه حاكماً عسكرياً لغرناطة (¬2). وسار أبو عبد الله بعد ذلك صحبة فرناندو، إلى حيث كانت الملكة إيسابيلا فى ضاحية أرمليا، فقدم إليها تحياته وطاعته. ثم ارتد إلى طريق البشرّات ليلحق بأسرته وخاصته. وهنا تقول الرواية القشتاية إن أبا عبد الله ¬_______ (¬1) تردد معظم التواريخ القشتالية اللاحقة وصف هذا المنظر الذى يصطبغ بلون الأسطورة. وقد خلدته ريشة المصور الإسبانى فى أكثر من لوحة شهيرة تعرض فى المتاحف الإسبانية، وحفرته يد الفنان فى داخل كنيسة طليطلة العظمى. راجع فى ذلك: L. Alcantara: ibid ; V. III. p. 73 (¬2) Luis del Marmol: Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada, Lib. I, Cap. XX

أشرف أثناء مسيره فى شعب تل البذول (بادول) على منظر غرناطة، فوقف يسرح بصره لآخر مرة فى هاتيك الربوع العزيزة التى ترعرع فيها، وشهدت مواطن عزه وسلطانه، فانهمر فى الحال دمعه، وأجهش بالبكاء. فصاحت به أمه عائشة؛ "أجل فلتبك كالنساء، ملكاً لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال". وتعرف الرواية الإسبانية تلك الأكمة التى كانت مسرحاً لذلك المنظر المحزن باسم شعرى مؤثر هو "زفرة العربى الأخيرة" El ultimo Suspiro del Moro، وما تزال قائمة معروفة حتى اليوم، يعينها سكان تلك المنطقة للسائح المتجول. ثم تقول الرواية أيضاً إن باب الحمراء الذى خرج منه أبو عبد الله لآخر مرة، وهو باب الطباق السبع قد سد عقب خروجه برجاء منه إلى ملك قشتالة، وبنى مكانه، حتى لا يجوزه من بعده إنسان (¬1). وما زالت الرواية تعين لنا مكان هذا الباب بين الأطلال الدارسة. وهو يقع فى طرف الهضبة فى الجنوب الشرقى منها على مقربة من "برج الماء". وقد رأيناه، وقد سد فراغه حقيقة بالبناء. وأما الرواية الأخرى، وهى الأقل ذيوعاً، فخلاصتها أن أبا عبد الله خرج من الحمراء فى صبيحة يوم التسليم بمفرده وفى نفر من صحبه إلى لقاء الملكين الكاثوليكيين وخرج بعد ذلك ركب أهله وأمتعته من الدار الملكية بحىّ البيازين ليلتقى به بعد انتهاء مهمته، وأنه لم يسر بعد ذلك تواً إلى البشرّات، بل سار بأهله وأمتعته إلى المعسكر القشتالى فى شنتفى، فقضى به أياماً، حتى سويت المسائل المتعلقة بمصيره، ثم سار الجميع بعد ذلك إلى أندرش التى اختارها أبو عبد الله مستقراً ومقاماً. ... وقد كان لمحنة الأندلس المؤلمة ونهايتها المحزنة، وقع عميق فى جنبات العالم الإسلامى، ولاسيما فى أمم المغرب، فى الضفة الأخرى من البحر. غير أن هذه المحنة الغامرة لم تثر وحى الشعر، كما أثاره من قبل سقوط الثغور والقواعد الأندلسية، أيام أن كان للدولة الإسلامية بقيو من القوة والأمل. ذلك أن دولة الشعر الأندلسى كانت قد انهارت منذ بعيد، وتحطمت الأقلام، وعقدت المحنة الغامرة كل لسان. ومع ذلك فقد صدرت فى رثاء الأندلس نفثات قوية مؤثرة تهز أوتار القلوب، معظمها من الضفة الأخرى من البحر من شعراء المغرب. ومن أشهر المراثى التى نظمت فى رثاء الأندلس عقب المحنة بقليل، رثاء طويل ¬_______ (¬1) Marmol:ibid ; Lib. I ; Cap. XX ; L. Alcantara; ibid; V. III. p. 80

مؤثر لشاعر أندلسى مجهول، يبدو أنه عاصر حوادث المحنة من بدايتها حتى نهايتها. وإليك مقتطفات من تلك المرثية المشجية التى رتبت وفقاً للوقائع والتواريخ: أحقاً خبا من جو رندة نورها ... وقد كسفت بعد الشموس بدورها وقد أظلمت أرجاؤها وتزلزلت ... منازلها ذات العسلا وقصورها فيا ساكنى تلك الديار كريمة ... سقى عهدكم مزن يصوب نميرها أحقاً أخلائى القضاء أبادكم ... ودارت عليكم بالصروف دهورها فقتل وأسر لا يفادى وفرقة ... لدى عرصات الحشر يأتى سفيرها ... فواحسرتا كم من مساجد حولت ... وكانت إلى البيت الحرام شطورها وواأسفا كم من صوامع أوحشت ... وقد كان معتاد الأذان يزورها فمحرابها يشكو لمنبرها الجوى ... وآياتها تشكو الفراق وسورها وكم طفلة حسناء فيها مصونة ... إذا أسفرت يسبى العقول سفورها فأضحت بأيدى الكافرين رهينة ... وقد هتكت بالرغم منها ستورها (¬1) وكم فيهم من مهجة ذات ضجة ... ترد لو انضمت عليها قبورها لها روعة من وقعة البين دائم ... أساها وعين لا يكف هديرها وكم من صغير فى حجر أمه ... فأكبادها حراء لفح هجيرها وكم من صغير بدل الدهر دينه ... وهل يتبع الشيطان إلا صغيرها ... لأندلس ارتجت لها وتضعضعت ... وحق لديها محوها ودثورها منازلها مصدورة وبطاحها ... مدائنها موتورة وثغورها تهانمها مفجوعة ونجودها ... وأحجارها مصدوعة وصخورها وقد لبست ثوب الحداد ومزقت ... ملابس حسن كان بزهو حبورها فأحياؤها تبدى الأسى وجمادها ... يكاد لفرط الحزن يبدو ضميرها فمالقة الحسناء ثكلى أسيفة ... قد استفرغت ذبحاً وقتلا حجورها وجزت نواصيها وشلت يمينها ... وبدل الويل المبين سرورها ¬_______ (¬1) يكرر الشاعر فى هذه الأبيات نفس المعانى التى وردت فى مرثية أبى الطيب الرندى الشهيرة

وقد كانت الغربية الجنن التى ... تقيها فأضحى جنة الحرب سورها وبلِّش قطعت رجلها بيمينها ... ومن سريان الداء بان قطورها وضحت على تلك الثنيات حجرها ... فأقفر مغناها وطاشت حجورها وبالله إن جئت المنكَّب فاعتبر ... فقد خف ناديها وجف نضيرها ألا ولتقف ركب الأسى بمعالم ... قد ارتج باديها وضج حضورها بدار العلا حيث الصفات كأنها ... من الخلد والمأوى غدت تستطيرها محل قرار الملك غرناطة التى ... هى الحضرة العليا زهتها زهورها ترى الأسى أعلامها وهى خُشَّع ... ومنبرها مستعير وسريرها ومأمومها ساهى الحجى وإمامها ... وزائرها فى مأتم ومزورها وبَسْطة ذات البسط ما شعرت بما ... دهاها وأنى يستقيم شعورها وما أنس لا أنس المريَّة إنها ... قتيلة أوجال أزيل عذارها منازل آبائى الكرام ومنشىء ... وأولى أوطان غذانى خيرها (¬1). ثم يشير الشاعر بعد هذا الترتيب التاريخى لسقوط قواعد الأندلس، إلى محاولة الإسبان تنصير المسلمين لأول مرة، وما ترتب على ذلك من قيام الثورة فى بعض الجهات: وجاءت إلى استئصال شأفة ديننا ... جيوش كموج هبت دبورها علامات أخذ ما لنا قبل بها ... جنايات أخذ قد جناها مثيرها فلا تنمحى إلا بمحو أصولها ... ولا تتجلى حتى تخط أصورها معاشر أهل الدين هبوا لصعقة ... وصاعقة وارى الجسوم ظهورها أصابت منار الدين فانهد ركنه ... وزعزع من أكنافه مستطيرها إلا واستعدوا للجهاد عزائماً ... يلوح على ليل الوغى مستنيرها بأنفس صدق موقنات بأنها ... إلى الله من تحت السيوف مصيرها تروم إلى دار السلام عرائساً ... على الله فى ذاك النعيم مهورها (¬2). ¬_______ (¬1) يبدو من هذا البيت أن الشاعر كان من أهل ألمرية ونشأ بها. (¬2) نشر هذه المرثية وهى فى أكثر من مائة بيت أحد أدباء الجزائر، مقرونة بترجمة فرنسية تحت عنوان: Une Elégie andalouse sur la guerre de Grenade وذكر الناشر وهو صويلح محمد، أنه نقلها عن مخطوط محفوظ بمكتبة الجزائر ومؤرخ فى شعبان سنة 897 هـ (يونيه سنة 1492 م) أعنى بعد سقوط غرناطة ببضعة أشهر. والظاهر أنه حينما وضعت هذه القصيدة كان الإسبان قد بدأوا محاولتهم الأولى لتنصير المسلمين

هذا وقد صدرت عن أدباء المغرب، فى الضفة الأخرى من البحر، طائفة كبيرة من المراثى البليغة، فى نعى الأندلس والإشادة بفضائلها، وفداحة الخطب فيها. وكان شعراء المغرب لقربهم من مسرح الحوادث، ووقوفهم على كثير من الأخبار والسير المفجعة عن إخوانهم بالأندلس، أشد من غيرهم تأثراً بالمحنة، وأكثرهم إفاضة فى ندب ويلاتها (¬1). ¬_______ (¬1) نقل إلينا المقرى فى أزهار الرياض بعض هذه المراثى المغربية، ومن ذلك قصيدة أبى العباس أحمد بن محمد الصنهاجى المشهور بالدقون (ج 1 ص 104 وما بعدها)

الفصل الرابع ختام المأساة

الفصل الرابع ختام المأساة وقع محنة الأندلس فى العالم الإسلامى. سفارة فرناندو إلى بلاط مصر. موضوع هذه السفارة حسبما دونها بيترو مارتيرى. صدى المأساة فى المغرب. مسير أبى عبد الله إلى أندرش وحياته فيها. خطة الملكين الكاثوليكيين لإبعاده عن الأندلس. الاتفاق على بيع حقوقه وجوازه إلى المغرب. نص قبول أبى عبد الله. جوازه إلى فاس والتجاؤه إلى ملكها. دفاع أبى عبد الله المسمى بالروض العاطر الأنفاس. الوزير العقيلى كاتب هذا الدفاع. بعض ما ورد فى الدفاع من المنظوم. بعض ما ورد فيه من المنثور. اعتذار أبى عبد الله ودفعه لتهمة التفريط والخيانة. استعراض لموقفه وتصرفاته. معترك الفتنة الذى أودى بمملكة غرناطة. تبعة أبى عبد الله. حياته بمدينة فاس. وفاته وعقبه. حمراء غرناطة. تاريخها وأوصافها. ما بقى من أبنيتها وأبهائها. تشويه الإسبان لجمالها الأثرى. روعتها وتراثها القصصى. تغدو مسرحاً لحوادث غرناطة. ما يدور حولها من الأساطير. الأساطير الغرامية. أصل هذه الأساطير ومغزاها. قصيدة شوقى فى رثاء الحمراء. لم يكن سقوط غرناطة فى يد النصارى حادثاً فجائياً، بل كان بالعكس نتيجة طبيعية، لما تقدمه من الحوادث الأندلسية، وكان خاتمة محتومة لاستشهاد طويل الأمد. ومع ذلك فقد كان لسقوط غرناطة أو بعبارة أخرى لانتهاء دولة الإسلام فى الأندلس، وقع عميق فى الضفة الأخرى من البحر، فى أمم المغرب التى لبثت عصوراً ترتبط بالأندلس بأوثق الروابط، وفى سائر أنحاء العالم الإسلامى. وكان للحادث أيضاً وقعه العميق فى سائر الأمم النصرانية؛ فقد ابتهجت له أيما ابتهاج، واعتبرته من بعض الوجوه عوضاً لسقوط قسطنطينية فى قبضة الإسلام قبل ذلك بأربعين عاماً. وخلدت ذكرى الحادث فى رومة بإقامة قداس أعظم، واستمر ابتهاج الشعب أياماً. ورجت سائر قصور أوربا بالنبأ، وأقامت لإحيائه الحفلات الدينية والمدنية، منوهة بفضل فرناندو وإيسابيلا فى تحقيق هذه الأمنية العظيمة (¬1). وقد كانت الأندلس تثير منذ البداية جزع الأمم الإسلامية وعطفها. ولكن الأمم الإسلامية لم تستطع أن تبذل أى مجهود عملى لإنقاذ الأندلس من قدرها المحتوم، ¬_______ (¬1) Prescott: Ferd. & Isabella p. 299 والهامش

ولم يتحقق من جهة أخرى ما كانت ترجوه مصر بتدخلها السياسى لدى ملوك النصرانية من أثر ملطف فى سير الحوادث الأندلسية. وقد كانت مصر بالرغم من بعدها تتبع أحوال الأندلس باهتمام خاص، لم ينتقص منه سوى اضطراب شئونها الداخلية فى ذلك الحين. ولما استولى النصارى على غرناطة، وحققت بذلك أمنية اسبانيا التاريخية كاملة شاملة، لم ينس ملك قشتالة ما جاء فى سفارة سلطان مصر من وعيد بأنه ينكل برعاياه النصارى، ولم يقنع بالخطاب الذى وجهه إليه على يد سفيريه الراهبين. فلما استقرت الأمور وخضعت سائر الأراضى الإسلامية، رأى فرناندو أن يسعى إلى إقناع سلطان مصر، بما يلقاه مسلمو الأندلس من الرعاية والرفق فى ظل الحكم الجديد، فأوفد إلى بلاط القاهرة سفارة جديدة. وكان سفيره إلى السلطان هو بيترو مارتيرى دى أنجلريا، وهو حبر نابه، وكاتب ومؤرخ كبير، وكان من مستشارى الملك. ندبه فرناندو لهذه السفارة فى أغسطس سنة 1501، وزوده بالكتب والوثائق اللازمة. ووصل مارتيرى إلى الإسكندرية بعد رحلة بحرية شاقة عن طريق إيطاليا واليونان فى أواخر شهر ديسمبر، ثم وصل إلى القاهرة فى آخر يناير، وكان سلطان مصر فى ذلك الحين الملك الأشرف جان بلاط، فاستقبل سفير الملكين الكاثوليكيين عقب وصوله برفق ورعاية، ولكن نقلت إليه على أثر ذلك أقاويل كثيرة من بعض الأشراف والمغاربة والأندلسيين المنفيين، الذين استنكروا مسلكه وتكريمه لسفير ملك استولى على أراضى المسلمين فى الأندلس، وهو الآن يسومهم الخسف والعذاب. فبعث إلى السفير يرجوه الانصراف من حيث أتى خوفاً من سوء العواقب، ولكن مارتيرى بعث إلى السلطان يشرح له خطورة الأمر، ويصف عظمة مليكيه، وروعة سلطانهما الباذخ الذى يمتد حتى أواسط البحر الأبيض المتوسط، وكونهما يستطيعان الانتقام والإضرار بمن يسىء إليهما. فعاد السلطان واستقبله فى مقابلة سرية خاصة استمرت من الصباح إلى الظهر. وكان ذاك فى السادس من فبراير سنة 1502 (شعبان سنة 907 هـ)، وألقى مارتيرى بين يديه خطاباً ضافياً فند فيه ما ينسب لمليكه من الاستيلاء ظلماً على غرناطة، واضطهاده للمسلمين، وقهرهم على التنصير؛ وبين مارتيرى حق سيده فى الفتح، وكونه يحكم مئات الألوف من الرعايا المسلمين الذين يعيشون فى بلنسية وأراجون، وهم جميعاً يتمتعون بشعائرهم أحراراً، واستطاع بكياسته وبراعته، أن يقنع السلطان بصدق رسالته، وحسن نيات مليكيه، وقدم إلى

السلطان شهادات من حكام الثغور المغربية، تفيد بأن المسلمين المهاجرين إلى المغرب يصلون إلى الشواطىء مع نسائهم وأولادهم فى أمن وسلام، ويلقون من مندوبى الملكين كل رفق ورعاية (¬1)، واستطاع فوق ذلك بذلاقته أن يقنع السلطان بأن يجيب مطالبه فى إعفاء نصارى بيت المقدس من طائفة من المغارم والفروض. ويصف لنا مارتيرى قصر السلطان بأنه يقوم على ربوة، على نمط قصر الفاتيكان فى رومة، وقصر الحمراء فى غرناطة؛ ويصف السلطان بأنه رجل فى نحو الخمسين من عمره، ذو لحية كعادة أهل البلاد، ولكن صغيرة نحيلة، وهو مهيب الطلعة ذو وجه عبل أسمر، وهيئة حوشية نوعاً، وعينين صغيرتين غائرتين؛ وحركاته ثقيلة، وقوامه فوق المتوسط حسبما يبدو من جلسته، وهو يرتدى ثوباً لا يختلف كثيراً عما يسميه أهل غرناطة "بالجبة". ويورد مارتيرى أثناء وصف حوادث سفارته نبذة طويلة عن تاريخ مصر الإسلامية، ووصفاً ضافياً للقاهرة والنيل والأهرام، ووصفه قوىّ شائق (¬2). وهكذا كان الصدى الأليم الذى أثارته حوادث الأندلس فى الأمم الإسلامية يخبو شيئاً فشيئاً. ولم تمض أعوام قلائل حتى أسدل عليها فى المشرق حجاب من النسيان ولكن ذكرى الأندلس وحوادثها، لبثت حية قوية فى عدوة المغرب عصوراً أخرى. ذلك أن المأساة الأندلسية لم تنته بسقوط غرناطة، بل كان عليها أن تجوز ثمة فصولا مفجعة أخرى، قبل أن تصل إلى نهايتها. وكانت هذه الفواجع أول ما تلقى صداها العميق فى الضفة الأخرى من البحر، حيث كانت العدوة دائما ملاذ الضحايا الأخير. - 2 - ولنبدأ الحديث عن مصير الملك المنكود أبى عبد الله محمد بن علىّ آخر ملوك الأندلس، فقد غادر غرناطة، ساعة استيلاء النصارى عليها، وسار مع آله وصحبه وحشمه إلى منطقة البشرّات، واستقر هنالك فى بلدة أنْدَرَش، وهى إحدى ¬_______ (¬1) Marmol: ibid ; Lib. I. Cap. XXVI (¬2) بيتر ومارتيرى دى أنجلريا Pietro Martiri de Angleria إيطالى النشأة، ولد سنة 1455 وتوفى سنة 1525. وكان حبراً وكاتباً كبيراً. شهد حرب غرناطة الأخيرة إلى جانب فرناندو. وكتب عن سفارته إلى مصر باللاتينية كتاباً خاصاً عنوانه Legatio Babylonico، وقد ترجم إلى الإسبانية بعنوان Una Embajada de los Reyes Catolicos a Egipto ( سفارة من الملكين الكاثوليكيين إلى مصر) وقد نقلنا منه ملخص هذه السفارة حسبما تقدم. ولمارتيرى مؤلفات أخرى فى تاريخ اسبانيا فى ذلك العصر

البلاد التى أقطعت له فى تلك المنطقة، ليقيم فيها فى ظل ملك قشتالة وتحت حمايته، وصحبه إلى وطنه الجديد، كثير من الفرسان والسادة والفقهاء، وفى مقدمتهم وزيراه يوسف بن كماشه، وأبو القاسم عبد الملك (المليخ)، وكانا ألصق الناس به، وأقربهم إلى ثقته. وكانت أسرة السلطان المنفى تتألف من والدته السلطانة عائشة، وأخته عائشة، وزوجه مريم (أو مريمة) وولده الصغير (¬1). أما أخوه الأصغر يوسف فكان قد قتل فى ألمرية أيام الفتنة بتحريض أبيه السلطان أبى الحسن حسبما قدمنا. وكان أبو عبد الله عندئذ، فتى فى نحو الثلاثين من عمره. وبالرغم من أننا لا نعرف بالضبط تاريخ مولده، فإن صديقه المؤرخ القشتالى هرناندو دى بايثا، يقول لنا إنه كان فى نحو العشرين، يوم استطاع الفرار من سجن أبيه السلطان أبى الحسن فى سنة 1482 (887 هـ)، وبذلك يكون سنه وقت تسليم غرناطة نحو الثلاثين (¬2). وقد تركت لنا الرواية القشتالية المعاصرة أيضاً، وصفاً لشخص أبى عبد الله، خلاصته أنه كان ممشوق القد، حسن الطلعة، شاحب اللون، له عينان سوداوان نجلاوان، ولحية قوية (¬3). وعاش أبو عبد الله وآله وصحبه، فى تلك المملكة الصغيرة الذليلة حيناً، ¬_______ (¬1) تشير بعض الوثائق المعقودة بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله إلى "أخواته" مما يدل على أنه كانت له أكثر من أخت. والمرجح أن عائشة كانت كبراهن. (¬2) راجع رواية Hernando de Baeza القشتالية المنشورة ضمن كتاب أخبار العصر ص 63. (¬3) Lafuente Alcantara: ibid, V. III. p. 74. وقد انتهت إلينا عن أبى عبد الله صورتان اسبانيتان، كانت تحفظ إحداهما من قبل، بمتحف قصر جنة العريف قبل إلغائه، وفيها يبدو أبو عبد الله بوجه وسيم ولون جميل وشعر كثيف أصفر ولحية مفروقة. ويرتدى ثوباً أصفر، يظلله حرير أسود، وعلى رأسه قلنسوة عالية. وقد نقلت هذه الصورة فيما بعد إلى إيطاليا، وأضحت ملكاً لبعض الأسر الخاصة. والصورة الثانية تحفظ اليوم بمتحف غرناطة المسمى Casa de los Tiros والمعروف أنها رسمت لأبى عبد الله حينما كان فى أسر الملكين الكاثوليكيين، عقب موقعة اللسانة، وهى عبارة عن لوحة صغيرة الحجم، وفيها يبدو أبو عبد الله فتى فى عنفوانه، بوجه عريض وأنف منسق، وعينين خضراوين، ونظرات حادة، تغشاها الكآبة، وشعر كستنى غزير، ولحية صغيرة مفروقة. وقد رسمت حول عنقه حلقة رمزية لوقوعه فى الأسر. وقد شهدنا هذه الصورة، أثناء وجودنا بغرناطة، ونقلنا عنها صورة فتوغرافية هى التى نشرناها من قبل (فى ص 207)

صورة: أبو عبد الله محمد آخر ملوك الأندلس عن الصورة التى كانت محفوظة من قبل بمتحف جنة العريف بغرناطة

وأنشأ له فى أندرش بلاطاً صغيراً. وتقول لنا الرواية القشتالية، إنه كان يعيش هنالك فى ترف ورغد، وإنه كان يعشق الصيد ويقضى فيه كثيراً من أوقاته، ويجوب أطراف مملكته الصغيرة فوق جواده (¬1). وكان فرناندو وإيسابيلا، بالرغم من انتصارهما الشامل، وقضائهما الأخير على المملكة الأندلسية، قد لبثا يتوجسان فى أعماق نفسيهما، من بقاء السلطان المخلوع فى الأراضى الإسبانية، ويخشيان أن يكون مثار القلاقل والفتن، ويتوقان إلى إبعاده وحاشيته عنها، مبالغة فى الحيطة، واتقاء لكل خطر، وكان يفرضان على أبى عبد الله رقابة صارمة، ويتلقيان أدق التقارير والأنباء، عن حركاته وسكناته، وكانت عينهما الساهرة على رقابته، الوزيران الماكران يوسف بن كماشه وأبو القاسم عبد الملك (¬2). ولم يمض على إقامة أبى عبد الله فى أندرش زهاء عام، حتى بدأ الملكان الكاثوليكيان يسعيان سرًّا، فى تحقيق غايتهما الأخيرة، وكان سبيلهما إلى ذلك أيضاً ابن كماشه وأبا القاسم. ففى مارس سنة 1493 وقعت مفاوضات جديدة بين الوزيرين، وبين فرناندو دى ثافرا أمين الملكين الكاثوليكيين، فى شأن مغادرة أبى عبد الله الأراضى الإسبانية، والعبور إلى المغرب. ويقال إن أبا عبد الله لم يأذن لوزيريه فى إجراء هذه المفاوضات، ولم يعلم بأمرها حتى تمخضت عن مشروع جديد، يقرر فيه أبو عبد الله بتنازله عن جميع حقوقه وأملاكه، نظير ثمن معين، ويتعهد بالعبور إلى المغرب. ويقال إن الملك المنكود، حينما عرض عليه ابن كماشة هذا الاتفاق، ثار لعقده، وكاد يبطش بوزيره، ولكنه عاد فاستمع إلى شرح الوزير ونصحه، بأن البقاء فى أرض العدو، وفى ظل العبودية والهوان، لم يبق له محل، وأنه ليس مكفول السلامة والطمأنينة، وأن العبور إلى أرض الإسلام خير وأبقى. هذا ولعل أبو عبد الله نفسه قد أدرك، كما أدرك عمه مولاى الزغل من قبل، أن تلك الحياة الذليلة التى فرضت عليه، لا تخلق به ولا تجمل، وأنه يستحيل عليه البقاء فى هذا الوضع المؤلم، كتابع لملك قشتالة. وعلى أى حال فقد اقتنع أبو عبد الله، بوجهة نظر وزيره. ولكنه أرسل أمينه ومدير شئونه أبا القاسم عبد الملك (المليخ)، ليسعى إلى تعديل الاتفاق لمصلحته. وبعد مفاوضات جديدة، وضع الاتفاق النهائى، الذى قبله السلطان ¬_______ (¬1) Lafuente Alcantara: ibid; V. III. p. 80 (¬2) Lafuente Alcantara: ibid; V. III. p. 81

المخلوع. وخلاصته أنه يتعهد بالعبور إلى المغرب، فى موعد أقصاه نهاية شهر أكتوبر سنة 1493، وأنه يتنازل عن سائر ضياعه، فى أندرش ولوشار وبرشينا وغيرها، وكذلك عن أملاكه الأخرى بغرناطة، بالبيع للملكين الكاثوليكيين، وذلك نظير ثمن إجمالى قدره واحد وعشرون ألف جنيه قشتالى (كاستليانو) من الذهب الحر، أو الدوقات المضروبة، من الذهب الخالص. كما يتنازل أبو عبد الله عن اختصاصه المدنى والجنائى. ويحمل إليه المال قبل رحيله بثمانية أيام، ويقدم إليه الملكان عربتين لحمل متاعه، وسفناً ينتقل عليها مع صحبه، إلى المغرب، ويتضمن الاتفاق نصوصاً أخرى ببيع الأميرات لأملاكهن، إلى الملكين الكاثوليكيين، وكذلك ببيع الوزير ابن كماشه والوزير أبى القاسم كل لأملاكه، نظير مقادير من المال، وبنفس الشروط. تلك خلاصة الإتفاق الأخير، الذى عقد بين الملكين الكاثوليكيين، وبين آخر ملوك الأندلس، للتنازل عن سائر حقوقه وحقوق آله وصحبه، ومغادرته لأرض الوطن القديم، بصورة نهائية. ويحمل هذا الاتفاق، تاريخ 15 ابريل سنة 1493، وتملأ نسخته القشتالية عشر صفحات كبيرة. وهو يمتاز دون سائر الوثائق القشتالية الأخرى، التى تتعلق بهذه الفترة، بأنة يحمل فى ذيله موافقة أبى عبد الله والعربية ممهورة بتوقيعه وخاتمه، وإلى القارىء نص هذه الموافقة، التى تدل ألفاظها ومعانيها بكثير من العبر المؤلمة: (¬1) "الحمد لله إلى السلطان والسلطانة أضيافى، أنا الأمير محمد بن على بن نصر خديمكم، وصلتنى من مقامكم العلى، العقيد وفيها جميع الفصول، الذى عقدها عنى وبكم التقديم، من خديمى القائد أبو القاسم المليخ، ووصلت بخط يدكم الكريمة عليها، وبطابعكم العزيز، كيف هيت مذكورة بهذا الذى هى تصلكم. وإنى نوفى ونحلف أنى رضيت بها، بكلام الوفا مثل خديم جيد. وترى هذا خط يدى وطابعى أرقيته عليها، لتظهر صحة قولى. ووصلت بتاريخ الثالث والعشرين من شهر رمضان المعظم عام ثمانية وتسعون وثمانمائة. أنا كاتبه محمد بن على بن نصر ¬_______ (¬1) حصلنا على صورة فتوغرافية لهذه الوثيقة، وهى تحفظ بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا Archivo general de Simancas برقم P. R. 11 - 3، وتعرض الصفحة الأخيرة، التى تضمنت خط أبى عبد الله، فى قاعة المعرض بدار المحفوظات، كما تعرض صورة مكبرة من موافقة أبى عبد الله، بمتحف مدريد الحربى مقرونة بترجمة قشتالية

رضيت وقبلت جميع ما فى هذا المكتوب الثابت، وتقبل بيدى، إلى أضيافى السلطان والسلطانة مدَّ لى هنا كما". وهكذا اعتزم أبو عبد الله أمره، وعول فى النهاية على مغادرة الوطن المغلوب وتوفيت زوجته أثناء ذلك، فلم يحل الرزء دون مضيه، فى اتخاذ أهبة الرحيل. وفى أوائل شهر أكتوبر سنة 1493، غادر أبو عبد الله الوطن القديم، فى غمر من الحسرات والأسى، وجاز البحر إلى المغرب، بأسرته وأمواله وحشمه، من ثغر أدرة الصغيرة الواقع جنوبى برجة، فى سفينة كبيرة أعدت لجوازه، وعبر فى نفس الوقت من ثغر المنكب؛ عدد كبير من الوزراء والقادة والأكابر، من صحبه ممن آثروا الرحيل، وبلغ جميع الذين عبروا مع الملك المخلوع ألفاً ومائة وثلاثين شخصاً (¬1). ونزل أبو عبد الله أولا فى مليلة ثم قصد إلى فاس واستقر بها (¬2). وتقدم إلى ملكها السلطان أبى عبد الله محمد الشيخ، زعيم بنى وَطّاس (¬3) الذين خلفوا بنى مرين فى الملك، مستجيراً به، مستظلاً بلوائه ورعايته، معتذراً عما أصاب الإسلام فى الأندلس على يده، متبرئا مما نسب إليه من إثم وتفريط فى حق الوطن والدين. وهذا الدفاع الشهير الذى يقدمه إلينا أبو عبد الله عن موقفه وتصرفه، هو قطعة رائعة من الفصاحة السياسية والبيان الساحر، وهو يدل فى روحه وقوته وروعته، على فداحة التبعة التى شعر آخر ملوك الأندلس أنه يحملها أمام الله والتاريخ، وأمام الأمم الإسلامية والأجيال القادمة كلها، وعلى أن هذا الأمير المنكود لم يرد أن ينحدر إلى غمر النسيان والعدم، محكوماً عليه دون أن يبسط للتاريخ قضيته، فيصدر حكمه فيها على ضوء أقواله ودفاعه. وقد كتب هذا الدفاع الشهير، الفريد فى التاريخ الإسلامى، على لسان أبى عبد الله ¬_______ (¬1) Lafuente Alcantara: ibid, V. III. p. 81. ويقول صاحب أخبار العصر إن الذين رحلوا مع أبى عبد الله بلغوا نحو سبعمائة فقط (طبعة تطوان ص 47). (¬2) أزهار الرياض ج 1 ص 67 و 71. (¬3) هم بطن من بطون بنى مرين. وقد ظهروا فى بداية أمرهم بتولى الوزارة، ونشأت بينهم وبين بنى مرين فيما بعد خصومة ومنافسة. وقام كبيرهم ومؤسس دولتهم أبو عبد الله محمد الشيخ بن زكريا أولا فى ثغر آصيلا، واستفحل أمره ثم زحف على فاس واستولى عليها فى سنة 876 هـ (1472 م) ثم غلب على سائر الجهات والقبائل المحيطة بها، وقامت فوق أنقاض ملك بنى مرين دولة مغربية جديدة

صورة: ذيل المعاهدة النهائية التى عقدت بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله بتاريخ 15 ابريل سنة 1493 م وفيها يتعهد ببيع أملاكه ومغادرة اسبانيا نهائياً. وقد ذيل عليها أبو عبد الله بخطه بالقبول، وبصمها بخاتمه وذلك بتاريخ 23 رمضان سنة 898 هـ (7 أغسطس سنة 1493). والأصل محفوظ بدار المحفوظات العامة فى سيمانقا برقم P. R. 11-3

وزيره وكاتبه، محمد بن عبد الله العربى العقيلى، فى رسالة مستفيضة قوية مؤثرة، موجهة إلى ملك فاس، وجعل لها عنواناً شعرياً مشجياً هو: "الروض العاطر الأنفاس فى التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس". وقد كان العقيلى من أعلام البلاغة فى هذا العصر. ولما عول أبو عبد الله على الرحيل إلى المغرب جاز العقيلى البحر مع أميره، وجازت قبل سقوط غرناطة وبعده إلى المغرب جمهرة كبيرة من أقطاب العلم والأدب، هم البقية الباقية من مجتمع الأندلس الفكرى (¬1). وللعقيلى آثار فى النظم والنثر، تبدو لروعتها كأنها نفثات أخيرة، لآداب الأندلس المحتضرة، وكان دفاع أبى عبد الله من أبدعها وأروعها. ونقل إلينا المقرى مؤرخ الأندلس هذا الدفاع الشهير بنصه فى مؤلفه الجامع "نفح الطيب"، وكذلك فى كتابه "أزهار الرياض" (¬2). وقد قدم له كاتبه بعد الديباجة بقصيدة رائعة جاء فى مطلعها: مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعيا لما مثله يرعى الذمم بك استجرنا وأنت نعم الجار لمن ... جار الزمان عليه جور منتقم حتى غدا ملكه بالرغم مستلباً ... وأفظع الخطب ما يأتى على الرغم حكم من الله حتم لا مرد له ... وهل مرد لحكم منه منحتم وهى الليالى وقاك الله صولتها ... تصول حتى على الآساد فى الأجم كنا ملوكاً لنا فى أرضنا دول ... نمنا بها تحت أفنان من النعم فأيقظتنا سهام للردى صُيبٌ ... يُرمى بأفجع حف من بهن رُمى فلا تنم تحت ظل الملك نومتنا ... وأى ملك بظل الملك لم ينم يبكى عليه الذى كان يعرفه ... بأدمع مزجت أموالها بدم ومنها فى التوسل والاعتذار وهو لب موضوعها: وصل أواصر قد كانت لنا اشتبكت ... فالملك بين ملوك الأرض كالرحم وابسط لنا الخلق المرجو باسطه ... واعطف ولا تنحرف واعذر ولا تلم لا تأخذنا بأقوال الوشاة ولم ... نذنب ولو كثرت أقوال ذى الوخم فما أطقنا دفاعاً للقضاء وما ... أرادت أنفسنا ما حل من نقم ¬_______ (¬1) راجع أزهار الرياض ج 1 ص 71. (¬2) نفح الطيب ج 2 ص 617 - 628، وأزهار الرياض ج 1 ص 72 - 102

ولا ركوباً بإزعاج لسابحة ... فى زاخر بأكنف الموج ملتطم والمرء ما لم يعنه الله أضيع من ... طفل تشكى بفقد الأم فى اليتم وكل ما كان غير الله يحرسه ... فإن محروسه لحم على وضم ... ولا تعاتب على أشياء قد قدرت ... وخط مسطورها فى اللوح بالقلم وعدِّ عما مضى إذ لا ارتجاع له ... وعُد أحرارنا فى جُملة الخدم إيه حنانيك يابن الأكرمين على ... ضيف ألم بفاس غير محتشم فأنت أنت ولولا أنت ما نهضت ... بنا إليها خطا الوخادة الرسم رحماك يا راحماً ينمى إلى رُحما ... فى النفس والأهل والأتباع والحشم فكم مواقف صدق فى الجهاد لنا ... والخيل عالكة الأشداق للجم والسيف يخضب بالمحمرّ من علق ... ما ابيضّ من سبل واسود من لمم ولا ترى صدر عضب غير منقصف ... ولا ترى متن لدن غير منحطم حتى دهينا بدهيا لا اقتدار بها ... سوى على الصون للأطفال والحرم ... تالله ما أضمرت غشا ضمائرنا ... ولا طوت صحة منها على سقم لكن طلبنا من الأمر الذى طلبت ... ولاتنا قبلنا فى الأعصر الدهم فخاننا عنده الجدُّ الخئون ومن ... تقعد به نكبات الدهر لم يقم فاسود ما اخضر من عيش دهته عِداً ... بالأسمر اللدن أو الأبيض الخذِم وشتت البين شملا كان منتظماً ... والبين أقطع للموصول من جلَم قرب مبنى شديد قد أناخ به ... ركب البلا فقرته أدمع الدِّيم قمنا لديه أصَيلانا نسائله ... أعيا جوابا وما بالربع من أرم وما ظننا بأن نبقى إلى زمن ... نرى به غرر الأحباب كالحُمم لكن رضاً بالقضا الجارى وإن طويت ... منا الضلوع على برج من الألم لبيك يا من دعانا نحو حضرته ... دعاء ابراهِمَ الحجاج للحرم وأعط الأمن الذى رصت قواعده ... على أساس وفاء غير منهدم خليفة الله وافاك العبيد فكن ... فى كل فضل وطَوْل عند ظنهم وبين أسلافنا ما قد علمت به ... من اعتقاد بحكم الإرث مقتسم وأنت منهم كأصل مطلع غصنا ... أو كالشراك الذى قد قدّ من أدم

وقد خطوت خطاهم فى مآثرهم ... فلم يُذمُّوا إذن فيها ولم تُذم وهى طويلة فى أكثر من مائة بيت، وفيها يعطف الشاعر بعد ذلك على مديح ملوك فاس، وجهادهم فى الأندلس، والإشادة بعلائقهم القديمة مع بنى الأحمر ملوك غرناطة، ومما يقول فى ذلك: أهل الحفيظة يوم الروع يحفظهم ... من عصمة الله ما يربى على العِصم بأس تطير شرار منه محرقة ... لكل مدَّرع بالحزم محتزم هم بطائفة التثليث قد فتكوا ... كمثل ما يفتك السرحان بالغنم وإن يلثِّمهم يوم الوغى رهج ... أنسوْك ما ذكروه من ذوى اللُّسم تضىء آراؤهم فى كل معضلة ... إضاءة السُّرج فى داج من الظلم هذا ولو من حياء ذاب محتشم ... لذاب منهم حياء كل محتشم طابت مدائحهم إذ طابت انفسهم ... فاشتقت النسمات اسما من النَّسم وفى مديح السلطان القائم أبى عبد الله الوطاسى قوله: أنسى الخلائف فى حلم وفى شرف ... وفى سخاء وفى علم وفى فهم فجاز معتمداً منهم ومعتضداً ... وامتاز عن قائم منهم ومعتصم وناصر الدين فى الإقبال فاق وفى ... محبة العلم أزرى بابنه الحكم أفعال أعدائه معتلة أبداً ... متى يرم جزمها بالحذف تنجزم ويلى هذه القصيدة الطويلة دفاع أبى عبد الله المنثور، فى أسلوب يفيض قوة وبياناً، وفيه يشير أبو عبد الله إلى حوادث الأندلس، ويعتذر عن محنته، ويعترف بخطئه فى عبارات مؤثرة، ويقول بعد الديباجة موجهاً خطابه إلى سلطان فاس: "هذا مقام العائذ بمقامكم، المتعلق بأسباب ذمامكم، المترجى لعواطف قلوبكم، وعوارف إنعامكم، المقبل الأرض تحت أقدامكم، المتلجلج اللسان عند محاولة مفاتحة كلامكم. وماذا الذى يقول من وجهه خَجِل، وفؤاده وجل، وقضيته المقضية عن التنصل والاعتذار تجل. بيد أنى أقول لكم ما أقوله لربى، واجترائى عليه أكثر، واجترامى إليه أكبر: اللهم لا برىء فأعتذر، ولا قوى فأنتصر، لكنى مستقيل مستنيل، مستعتب مستغفر، وما أبرىء نفسى إن النفس لأمارة بالسوء". "على أنى لا أنكر عيوبى، فأنا معدن العيوب، ولا أجحد ذنوبى فأنا جبل الذنوب، إلى الله أشكو عُجرى وبُجرى وسقطاتى وغلطاتى ... "

بيد أنه يدفع عن نفسه تهم التفريط والزيغ والخيانة ويقول: "فمثلى كان يفعل أمثالها، ويحمل من الأوزار المضاعفة أحمالها، ويهلك نفسه ويحيط أعمالها، عياذاً بالله من خسران الدين، وإيثار الجاحدين والمعتدين، قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين. وايم الله لو علمت شعرة فى فودى تميل إلى تلك الجهة لقلعتها، بل لقطفت ما تحت عمامتى من هامتى وقطعتها. غير أن الرعاع فى كل وقت وأوان، للملك أعداء وعليه أحزاب وأعوان ... وأكثر ما تسمعه الكذب، وطبع جمهور الخلق إلا من عصمه الله إليه منجذب، ولقد قذفنا من الأباطيل بأحجار، ورمينا بما لا يرمى به الكفار، فضلا عن الفجار، وجرى من الأمر المنقول على لسان زيد وعمرو، ما لكم منه حفظ الجبار ... أكثر المكثرون، وجهد فى تعثيرنا المتعثرون، ورمونا عن قوس واحدة، ونظمونا فى سلك الملاحدة. أكفراً أيضاً كفراً، غفراً اللهم غفراً. وهل زدنا على أن طلبنا حقنا ممن رام محقه ومحقنا، فطاردنا فى سبيله عُداة كانوا لنا غائظين، فانفتق علينا فتق لم يمكنا له رتق، وما كنا للغيب حافظين". ثم يقول أبو عبد الله، لئن كان قد نزل به القضاء فثلَّ عرشه، ونُكس لواؤه، ومُلِك مثواه، فهو مِثْل من سواه فى ذلك. ولئن كان مروعاً مصير غرناطة ومصير ملكها وأنجادها، فإنها لم تنفرد بين قواعد الإسلام بذلك المصير المحزن، ألم يقتحم التتار بغداد، عروس الإسلام ومثوى الخلافة، ومهد العلوم، ويستبيحوا ذمارها وحُرَمها، ويسحقوا الخلافة وكل معالمها ورسومها؟ وماذا كانت تستطيع غرناطة إزاء قدر محتوم، وقضاء لا مرد له؟ " والقضاء لا يرد ولا يصد، ولا يغالب ولا يطالب، والدائرات تدور، ولابد من نقص وكمال للبدور، والعبد مطيع لا مطاع، وليس يطاع إلا المستطاع، وللخالق القدير جلت قدرته، فى خليقته علم الغيب، للأذهان عن مداه انقطاع". ثم يعطف إلى التجائه إلى ساحة السلطان بقوله: "وأبيها لقد أرهقتنا إرهاقاً، وجرعتنا من صاب الأوصاب كأساً دهاقاً، ولم نفزع إلى غير بابكم المنيع الجناب، المتفتح حين سدت الأبواب، ولم نلبس غير لباس نعمائكم، حين خلعنا ما ألبسنا الملك من الأثواب. وإلى أمه يلجأ الطفل لجأ اللهفان، وعند الشدائد تمتاز السيوف من الأجفان، ووجه الله تعالى يبقى، وكل من عليها فان". ويشير أبو عبد الله إلى رفضه لما عرضه عليه ملك اسبانيا، من الإقامة فى كنفه

وتحت حمايته فيقول: "ولقد عرض علينا صاحب قشتالة مواضع معتبرة خير فيها، وأعطى من أمانه، المؤكد فيه خطه وإيمانه، ما يقنع النفوس ويكفيها، فلم نر ونحن من سلالة الأحمر مجاورة الصُّفر، ولا سوغ لنا الإيمان، الإقامة بين، ظهرانى الكفر ما وجدنا عن ذلك مندوحة ولو شاسعة، وأمنّا من المطالب للشاغب، حمة شر لنا لاسعة". ثم يشير إلى أنه تلقى كذلك دعوات كريمة من المشرق للذهاب والإقامة، ولكنه آثر الجواز إلى المغرب، دار آبائه من قبل، وملاذهم دائماً عند النوائب، ولم يرتض سوى الانضواء إلا لذلك الجناب، أعنى سلاطين المغرب، الذين أوصى آباؤه وأجداده بالانضواء إليهم، وقت الخطر الداهم. ويختم أبو عبد الله دفاعه برثاء مؤثر لملكه ومصيره فيقول: "ثم عزاء حسناً وصبراً جميلا، عن أرض أورثها من شاء من عباده، معقباً لهم ومديلا، سادلا عليهم من ستور الإملاء الطويلة سدولا، "سنة الله التى قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا"، فليطر طائر الوسواس المرفرف مطيراً، كان ذلك فى الكتاب مسطوراً، ولم نستطع عن مورده صدوراً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً". ويعود أبو عبد الله بعد هذا الدفاع المستفيض المؤثر، إلى الإشادة بخلال سلاطين فاس ومآثرهم، ويقرر أنه يضع نفسه تحت حماية السلطان ورعايته منتظماً فى سلك أوليائه، مستشرفاً بخدمة عليائه"، ليقضى بقية عمره فى كنفه مصوناً من المخاطر والضيم. ... تلك خلاصة الدفاع الشهير الذى تركته آخر ملوك الأندلس للخلف من بعده. وهو دفاع حار مؤثر يذكرنا بتلك الإعتذارات الشهيرة (أبولوجيا)، التى لجأ إليها الأقدمون فى ظروف مختلفة، لتبرير بعض المواقف والآراء. وفيه يقف أبو عبد الله موقف المذنب البرىء معاً، فهو لا يتنصل من جميع الأخطاء، ولكنه يتنصل من تبعة ما حدث، ويصور نفسه قبل كل شىء ضحية القدر، ويدفع عن نفسه بالأخص تهمة التفريط والخيانة والزيغ. فإلى أى حد تتفق هذه الصورة مع الحقيقة، ومع منطق الحوادث والظروف التى وقعت فيها المأساة؟ لقد تبوأ أبو عبد الله عرش غرناطة لأول مرة وهو فتى فى الحادية والعشرين، ثم عاد إلى تبوئه بعد ذلك بعدة أعوام، وكان جلوسه فى كل مرة نتيجة حرب أهلية مخربة

طاحنة. وقد نشأ هذا الأمير الضعيف فى بلاط منحل، يضطرم بصنوف الدس والخصومة، ولم تهيئه تربيته وصفاته للاضطلاع بمهام الملك الخطيرة، ولاسيما فى مثل تلك الظروف الدقيقة، التى كانت تجوزها مملكة محتضرة. أجل كانت الأندلس تسير إلى قدرها المحتوم، قبل المأساة ببعيد، ولم يك شك فى مصير غرناطة، بعد أن سقطت جميع القواعد الأندلسية الأخرى فى يد العدو القوى الظافر؛ ولكن ليس من شك أيضاً فى أن الأواخر من ملوك غرناطة، يحملون كثيراً من التبعة، فى التعجيل بوقوع المأساة. فنحن نراهم يجنحون إلى الدعة والخمول، ويتركون شئون الدفاع عن المملكة، ويجنحون إلى حروب أهلية يمزق فيها بعضهم بعضاً، والعدو من ورائهم متربص ومتوثب يرقب الفرص. وقد كان هذا شأن مملكة غرناطة وشأن بنى الأحمر، ولاسيما منذ أوائل القرن التاسع الهجرى أو أوائل القرن الرابع عشر الميلادى. ومنذ عهد الأمير على أبى الحسن، تبلغ الحرب الأهلية ذروتها الخطرة، ويغدو مصير المملكة الإسلامية رهين رحمة القدر، وقد شاء القدر أن يكون السلطان أبو الحسن، وأخوه الأمير محمد بن سعد المعروف بالزغل، وولده أبو عبد الله محمد أبطال المأساة الأخيرة، حملتهم نفس الأطماع والأهواء الخطرة، فانحدروا إلى معترك الحرب الأهلية، وشغلتهم الحرب الأهلية طول الوقت عن أن يقدروا حقائق الموقف، وأن يستشعروا الخطر الداهم، وأن يستجمعوا قواهم المشتركة لمواجهة العدو المشترك، وانحدر أبو عبد الله إلى أخطر ما فى هذه المعركة المميتة من وسائل الإغراء والتفوق، فجنح إلى مخالفة العدو الخالد، ولم يحجم عن أن يستعدى ملك النصارى على أبيه وعمه، كى ينتزع الملك لنفسه، فلما ظفر بعرش غرناطة بمؤازرة ملك قشتالة، لم يكن سوى صنيعته وأسير وحيه. وكان عمه الزغل قد بسط سلطانه على الأنحاء الشرقية والجنوبية، فلم يحجم عن مهاجمته فى نفس الوقت الذى هاجمه فيه ملك النصارى لينتزع منه ما تحت يده، وكان الزغل فى الواقع بطل المعركة الأخيرة، وقد أبدى فى مقاومة العدو بسالة رائعة خلدتها سير العصر؛ ولم يشعر أبو عبد الله بفداحة خطئه، إلا حينما تحول إليه حليفه الغادر ملك قشتالة بجيشه الضخم، ليحاصر غرناطة ويضربها الضربة الأخيرة، وكانت قوى غرناطة ومواردها قد بددت فى حروب أهلية عقيمة، فلم يغن دفاعها شيئاً أمام القوة القاهرة والقدر المحتوم، فكانت النكبة، وكانت الخاتمة المؤسية

ولم يكن موقف أبى عبد الله خلال تلك اللحظات الحاسمة فى مصيره ومصير أمته، سوى موقف الأمير الضعيف المتخاذل، الذى يسعى إلى سلامة نفسه وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ذلك التراث العريض الذى أصبح وشيك الزوال، وهو موقف لم يكن بلا شك مشرفاً، ولا متفقاً مع مقتضيات البسالة والتضحية والشهامة. أليس لنا بعد ذلك أن نحكم على آخر ملوك الأندلس؟ إن أبا عبد الله يحمل أمام الله والتاريخ تبعة لا ريب فيها. بيد أنه من الحق أيضاً أن نقول إنها ليست تبعة الخيانة المقصودة أو الجريمة العمد، بل هى تبعة "التفريط"، والتخاذل، والخطأ، وعدم التبصر فى العواقب. على أن أبا عبد الله، مع ما يستحقه من لوم التاريخ وإدانته على النحو المتقدم، يستحق فى نظرنا تقديراً خاصاً، لما وفق إليه من الاحتفاظ بدينه ودين آبائه وأجداده. والواقع أن فداحة المحنة التى نزلت به، وظروف الإغراء التى كانت تحيط به، والتى حملت بعض أكابر الزعماء والقادة المسلمين على التنصر، حسبما نوضح بعد، وسعى الملكين الكاثوليكيين المتعصبين إلى تنصير من يمكن تنصيره من الزعماء المسلمين بكل الوسائل: هذه الظروف كلها كانت خليقة بأن تحمل أبى عبد الله على الاستجابة إلى دواعى التحريض والإغراء فتزل قدمه إلى الدرك السحيق الذى انحدر إليه بعض قادته ووزرائه، ولكنه استطاع أن يخرج من هذه الغمار معتصما بدينه المتين، وهو ما يشير إليه بحرارة فى دفاعه المتقدم. ... استقر أبو عبد الله بعد جوازه إلى فاس فى ظل بنى وَطَّاس، وشيد بها قصوراً على طراز الأندلس، رآها وتجول فيها المقرى مؤرخ الأندلس بعد ذلك بنحو قرن وربع (1027 هـ - 1618 م) (¬1). ويروى أنه لما نزل أبو عبد الله وصحبه مدينة فاس، أصابت الناس بها شدة عظيمة من الجوع والغلاء والوباء، حتى غادرها كثير من أهلها، ورجع بعض الأندلسيين إلى بلادهم، وتقاعس كثير منهم عن الجواز إلى المغرب خوف الشدة والفاقة (¬2). وعاش الملك المخلوع فى منفاه طويلا يجرع كأسه المرة حتى الثمالة، ويتقلب فى غمر الحسرات والذكريات المفجعة، ويشهد خلال هذه الفترة المؤلمة، جهود السياسة الإسبانية فى سحق ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 617. (¬2) أزهار الرياض ج 1 ص 68

الإسلام بالأندلس، وسحق مدنيته وكل رسومه وآثاره، ويشهد يد الفناء والمحو، تعمل لاستئصال هذا الشعب الأندلسى النبيل التالد، من الأرض التى لبث يرعاها ثمانية قرون، وينثر فى أرجائها فيض عبقريته. وتختلف الرواية فى تاريخ وفاة أبى عبد الله اختلافاً بيناً. فيقول لنا المقرى فى "نفح الطيب"، إنه توفى بفاس سنة أربعين وتسعمائة (1534 م) وإنه "دفن بإزاء المصلى خارج باب الشريعة" (¬1). ثم يعود فى "أزهار الرياض " فيقول إنه توفى بفاس فى سنة أربعة وعشرين وتسعمائة (1518 م) (¬2). وتذكر لنا الرواية القشتالية القريبة من ذلك العصر أن أبا عبد الله توفى قتيلا فى موقعة أبى عقبة الشهيرة التى نشبت بين السلطان أحمد أبى العباس الوطاسى حفيد أبى عبد الله محمد الوطاسى، وبين خصومه السعديين الأشراف الخوارج عليه، واشترك فيها أبو عبد الله محارباً إلى جانب أصدقائه وحماته الوطاسيين. وقد حدثت هذه الموقعة فى سنة 943 هـ (1536 م) وهزم فيها بنو وطاس هزيمة شديدة (¬3)، فإذا صحت هذه الرواية (¬4)، فإن أبا عبد الله يكون قد توفى فى نحو الخامسة والسبعين من عمره. بيد أننا نرجح رواية المقرى الأولى، وهى أن أبا عبد الله توفى بقصره فى فاس سنة 940 هـ. أما روايته الثانية، وهى أنه توفى فى سنة 924 هـ، فالمرجح أنها تحريف رقمى للأولى. وترك أبو عبد الله ولدين هما أحمد ويوسف، واستمر عقبه متصلا معروفاً بفاس مدى أحقاب، ولكنهم انحدروا قبل بعيد إلى هاوية البؤس والفاقة. ويذكر لنا المقرى أنه رآهم وتتبع أخبارهم حتى سنة 1037 هـ (1628 م)، وأنهم كانوا معدمين يعيشون من أموال الصدقات (¬5). ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 617؛ ويتابع السلاوى المقرى فى روايته (الإستقصاء ج 2 ص 168). (¬2) أزهار الرياض ج 2 ص 168. (¬3) الإستقصاء ج 2 ص 177. (¬4) هذه هى رواية Luis del Marmol فى كتابه: Rebelion y Castigo de los Moriscos Lib. I. Cap. XXI، ويعلق هذا المؤرخ على هذه الرواية قائلا: "ومن سخرية القدر أن يموت هذا الملك دفاعا عن مملكة أخرى، بينما هو لم يجرؤ أن يموت دفاعا عن مملكته". وينقل هذه الرواية عنه كثير من المؤرخين الإسبان والبرتغاليين. راجع Lafuente Alcantara; ibid; V. III. p. 84. وينقل صاحب الإستقصاء هذه الرواية عن مؤرخ برتغالى (ج 2 ص 168). وينقلها واشنطن ايرفنج فى الملحق الخاص بأبى عبد الله فى آخر كتابه: Conquest of Granada (¬5) نفح الطيب ج 2 ص 617

ولم نعثر على تاريخ وفاة الأميرة الباسلة عائشة الحرة والدة أبى عبد الله، ولابد أنها توفيت قبله بمدة طويلة. ويعرف أبو عبد الله محمد آخر ملوك الأندلس بأبى عبد الله، الغالب بالله وهى شعار سائر ملوك غرناطة، ويعرف فى الرواية الإسبانية، بمحمد الحادى عشر، وبالملك الصغير El Rey Chico، تمييزاً له من عمه أبى عبد الله الزغل، ويلقب أيضاً بالزغيبى ومعناها المنكود أو عاثر الجد، تنويهاً بأحداث حياته المؤسية. ربما أصاب الإسلام على يديه من الخطوب والمحن (¬1). - 3 - ولابد لنا قبل أن نختتم الكلام على تلك الصفحة المؤسية من تاريخ الأندلس، أن نتحدث عن ذلك الصرح الخالد الذى مازال رمزاً حياً لتلك المأساة المفجعة، التى اختتمت بين جدرانه الصامتة، واقترنت باسمه إلى الأبد، ونعنى بذلك حمراء غرناطة، ذلك الصرح الذى يمثل فى تاريخ الأندلس عصراً بأسره، وحضارة بأسرها، والذى ما يزال يثير بجلاله وروعته، كثيراً من المواقف والذكريات الخالدة. لبثت حمراء غرناطة زهاء قرنين عنواناً لمجد الإسلام ودولته، وملاذاً ساطعاً للحضارة الأندلسية، التى كانت أنوارها الباهرة تشع فى أرجاء أوربا، خلال حلك العصور الوسطى، فلما أشرفت الدولة الإسلامية على الفناء، غدت حمراء غرناطة قبرها الأخير، وطوت بين جدرانها صفحتها المجيدة. وما زالت الحمراء وساحاتها الشاسعة، وأبهاؤها الفخمة، وأبراجها الشامخة، منذ أكثر من أربعة قرون عنواناً للمجد الذاهب، وشاهداً صامتاً لجليل الحوادث والذكريات. وتاريخ الحمراء هو تاريخ الصروح والهياكل العظيمة، التى تتبوأ مقامها الراسخ فى تاريخ الدول التى شادتها، والعصور التى شهدتها، فهو جزء لا ينفصل من تاريخ الأندلس، كما أن قصر الفاتيكان جزء لا ينفصل من تاريخ البابوية. وما تاريخ الحمراء وسير بناتها وسادتها، إلا تاريخ مملكة غرناطة، وما الحمراء ذاتها، وما تعرضه من روعة فى الصنع والإنشاء، وما تحوى من بدائع الفن والزخرف، إلا صفحة جامعة من تاريخ الحضارة الأندلسية، فالسائح المتأمل فى جنبات هذا ¬_______ (¬1) الزغيبى مصغر "زغبى"، ومعناها فى لغة أهل غرناطة: المنكود أو التعيس. ومعناها وفقاً لمارمول "التعس الصغير" "الرجل المسكين" Le petit Malheureux: Le pauvre Homme ( راجع دوزى. Supp. aux Dict. arabes p. 594)

الصرح الخالد، لا يسعه إلا أن يرتد بذهنه إلى الماضى البعيد، فيذكر قصة أمة مجيدة، كانت سيدة هذه الأرض والمهاد، وحضارة زاهرة كانت تفيض على هذه الأرض والمهاد، عظمة ونعماء ونوراً. وللحمراء تاريخ قديم يرجع إلى القرن الرابع الهجرى (العاشر الميلادى) أيام الدولة الإسلامية الكبرى. وقد كانت يومئذ قلعة متواضعة. وتتحدث الرواية الأندلسية المعاصرة عن قلعة بنيت على ضفة نهر حدرُّه El Darro اليسرى، تسمى قلعة الحمراء، وتذكرها بالأخص أيام الحروب الأهلية التى اضطرمت فى منطقة غرناطة، بين المولدين والبطون العربية، ومما قاله شاعر من شعراء ذلك العصر هو عبد الله العبلى، فى الإشارة إلى فتن غرناطة وإلى قلعة الحمراء: منازلهم منهم قفار بلاقع ... تجارى إلسَّفا فيها الرياحُ الزعازع وفى القلعة الحمراء تبديد جمعهم ... وفيها عليهم تستدير الوقائع كما جدَّلت آباءهم فى خلائها ... أسنتها والمرهفاتُ القواطع ولما تولى باديس بن حبُّوس زعيم البربر حكم غرناطة، واتخذها قاعدة لملكه فى أوائل القرن الخامس الهجرى، أنشأ سوراً ضخماً حول التل الذى تقع عليه القلعة المذكورة، وأنشأ فى داخله قصبة (قلعة) اتخذها مقاماً له، ومركزاً لحكومته، وسميت بالقلعة الحمراء، تجديداً لاسمها القديم. ثم زيد فى القلعة، واتسع نطاقها بمضى الزمن، وغدت حصن غرناطة وقصبتها أو بعبارة أخرى معقلها الرئيسى. ولما غلب محمد بن الأحمر على غرناطة فى سنة 635 هـ (1238 م)، أنشأ فوق هذا الموقع القديم، وداخل الأسوار، حصنه أو قصره الذى أطلق عليه اسم الحمراء، وجلب له الماء من نهر حدرُّه، واتخذه قاعدة للملك، وأنشأ فيه عدة أبراج منيعة منها البرج الكبير المسمى برج الحراسة Torre de la Vela، والبرج المقابل له، وأنشأ له سوراً ضخماً يمتد حتى مستوى الهضبة. والظاهر أنه بنى مسكنه فى الجنوب الغربى من الحصن، أعنى فى نفس المكان الذى يقوم عليه قصر الإمبراطور شرلكان. ومن المرجح أن اسم الحمراء يرجع إلى قيام قصر ابن الأحمر فوق أطلال قلعة الحمراء القديمة، وليس إلى تسميته باسمه. وقد ذكر البعض أن إطلاق اسم الحمراء على صرح غرناطة الملكى يرجع إلى احمرار أبراجه الشاهقة، أو إلى لون الآجر الأحمر الذى بنيت به الأسوار الخارجية. وقيل أيضاً إن التسمية ترجع إلى لون المشاعل الحمراء التى كان يجرى البناء ليلا على ضوئها. ولكنا نؤثر الأخذ

بالتعليل الأول فهو أقوى وأرجح. وما زالت ثمة بجوار قصر الحمراء أطلال القلعة القديمة تحمل إلى اليوم اسم "قلعة الأبراج الحمراء" Castillo de Torres bermejas وهو ما يؤيد صحة هذا التعليل لاسم "الحمراء" (¬1). واستمر فى البناء من بعد محمد بن الأحمر، ولده محمد الفقيه الملقب بالغالب بالله، فأنشأ الحصن والقصر الملكى فى أواخر القرن السابع الهجرى، وأنشأ حفيده محمد إلى جانب القصر فى الجنوب الشرقى منه، مسجداً بديعاً افتن فى ترقيشه وزخرفته (¬2) فى المكان الذى تحتله اليوم كنيسة سانتا ماريا، التى بنيت فى القرن السابع عشر؛ ولم يبق اليوم من آثار مسجد الحمراء سوى مصباح برونزى فخم محفوظ بمتحف مدريد الوطنى. وقد بنيت معظم أجنحة الحمراء الملكية فى القرن الرابع عشر فى عهد السلطان أبى الوليد إسماعيل، وولده يوسف أبى الحجاج، وابنه محمد الغنى بالله. ولسنا نعرف شيئاً محققاً عن المهندسين أو الفنانين الذين قاموا على إنشائها. وتدين الحمراء بفخامتها الرائعة إلى السلطان يوسف أبى الحجاج، الملك الشاعر والفنان الموهوب، فقد زاد فى القصر زيادة كبيرة، وأكمل بهو قمارش الضخم، والبرج الشاهق الذى يعلوه، وأسبغ عليه روائع الفن والزخرف، وأنشأ العقد الشاهق الذى يكون مدخل القصر الرئيسى، وهو المسمى "باب الشريعة" وهو يحمل فوق عقده، اسمه وتاريخ إنشائه (749 هـ - 1348 م). وكان اسم الحمراء يطلق على هذه المجموعة الملكية الفخمة كلها. وتقع أبنية الحمراء فوق هضبة مرتفعة يبلغ طولها 736 متراً وعرضها نحو مائتى متر، وتشغل نحو خمسة وثلاثين فداناً. ويحيط بالحمراء سور ضخم يتخلله ثلاثة عشر برجاً، بقى منها إلى اليوم عدة، منها برج قمارش وهو أعظمها، وبرج السلاح، وبرج المتزين، وبرج العقائل، وبرج الأسيرة وغيرها (¬3). ويجرى ¬_______ (¬1) راجع المغرب فى حلى المغرب لابن سعيد ج 2 ص 125، ومقدمة المستشرق جاينجوس لأطلس "الحمراء" Alhambra الذى تقدمت الإشارة إليه، ص 5 الهامش وص 7 و 8. وراجع أيضاً المستشرق سيبولد فى Ency. de l'Islam تحت كلمة Alhambra. (¬2) اللمحة البدرية ص 50. وراجع الإحاطة فى أخبار غرناطة ج 1 ص 554 و 555. (¬3) وهى بالإسبانية على التوالى: ' T. de las Armas' 'Torre de Comares T. de la Cautiva' 'T. de las Damas' 'T. del Peinador وفيما عدا برج قمارش، فإن هذه الأسماء كلها من تسمية الإسبان

خريطة مدينة الحمراء وقصر جنة العريف

نهر حدرُّه فى الوادى الواقع فى غربها، وقد جف اليوم مجراه وغطى معظمه. وموقع الحمراء ذو جمال طبيعى نادر، فهى تشرف من الشمال والغرب إشرافاً شاملا على المدينة وعلى فحص غرناطة La Vega، وتشرف من الشرق والجنوب على آكام جبال سيرّا نفادا (جبل شُلير). ولم يبق اليوم من قلعة الحمراء التى كانت تشغل منحدر الهضبة فى الشمال الغربى، سوى أسوارها الخارجية وأبراجها. وأما القصر الملكى فقد بقيت معظم أجزائه. ويعتبر قصر الحمراء من أبدع الآثار الإسلامية التى أبقت عليها حوادث الزمن، وليس له مثيل فى الحسن والروعة من حيث عمده الرخامية الرائعة، وعقوده، وسقوفه ذات الزخرف البديع، ويغمره الضوء والهواء بوفرة، ويبدو فى مجموعه فى منتهى الظرف والإناقة. ويقع إلى جنوب الهضبة وشرقها بستان عظيم من صنع الإسبان، تتخلله طرق حديثة صاعدة، وقد كان مكانه أيام المسلمين الساحة المعروفة بالسبيكة، وهو يغص أيام الربيع والصيف بالبلابل، ويتخلله خرير الماء المتدفق عن عدد كبير من الجداول والنوافير، وكان يجاور الحمراء أيام المسلمين حدائق منزرعة وأشجار البرتقال والورود والريحان. ويُدخل إلى هضبة الحمراء من بابها الرئيسى المسمى "باب الرمان" Puerta de Granadas وهو من صنع الإسبان، وقد بنى أيام الإمبراطور شرلكان، وهو عبارة عن عقد حجرى ضخم، نصبت فى أعلاه ثلاث رمانات صخرية على هيئة مثلث. ثم تسير فى طريق صاعدة حتى "باب الشريعة" وهو مدخل الحمراء، وهو عقد ضخم يبلغ ارتفاعه خمسة عشر متراً. ويفضى باب الشريعة إلى مجاز معقود، ثم إلى درب صغير صاعد، ينتهى إلى ميدان أطلق عليه الإسبان اسم "ميدان الأجباب" Plaza de los Aljibis ومنه ترى لأول مرة مجموعة الصروح والأماكن الأثرية التى تضمها قصبة الحمراء. فإلى يمينك ترى القصر الذى أنشأه الإمبراطور شرلكان جنوبى قصر الحمراء، وعلى موقع بعض أجزائه، وإلى يسارك ترى الساحة التى يطلق عليها اسم القصبة أو الحصن، وفى نهايتها البرج الضخم المسمى "برج الحراسة" Torre de la Vela وهو يشرف عالياً على مرج غرناطة كله، وهذا البرج هو الذى اختاره الإسبان عند دخولهم غرناطة لرفع الصليب، وما يزال هذا الصليب الذى وضع يوم دخول الإسبان قائماً فى مكانه، وهو صليب خشبى كبير وضع عى الزاوية الشمالية الغربية

صورة: غرناطة: منظر عام لمدينة الحمراء وقد ظهرت من ورائها جبال سيرا نفادا محللة بالثلوج

1 - قصر قمارش

وأمامك ترى جانباً من قصر الحمراء، وهو الذى يسميه الإسبان "القصر العربى" Palacio Arabe. ويمكن أن نقسم أبنية قصر الحمراء إلى مجموعتين أو جناحين كبيرين، الأول قصر قمارش، الذى يضم البهو المسمى بهذا الإسم وبرجه الشاهق، وقد كان هذا الجناح هو المقام الرسمى لملوك غرناطة، وسمى بقصر قمارش نسبة إلى البهو الفخم الذى يقع تحت برج قمارش، والذى كان يعقد فيه السلطان مجالسه الرسمية، وكان به مجلس العرش. والثانى قصر السباع، وهو الذى يتوسطه بهو الأسود أو بهو السباع ونافورته الشهيرة. 1 - قصر قمارش والجناح الأول هو أول ما يرى الزائر، تتقدمه الساحة المعروفة "بفناء البركة" Patio de Al-Berca، أو فناء الريحان، وهى عبارة عن فناء كبير مستطيل مكشوف، تتوسطه بركة من الماء تظللها أشجار الريحان. ويفضى فناء الريحان من ناحيته الشمالية، إلى بهو صغير به قبلة زينت بنقوش بديعة، ويفضى هذا البهو الصغير بدوره إلى أعظم وأفخم أبهاء الحمراء، وهو بهو قمارش، أو بهو السفراء Salon de Embajadores كما يسميه الإسبان. وبهو قمارش، هو عبارة عن بهو مستطيل، طوله ثمانية عشر متراً وعرضه أحد عشر، تعلوه قبة خشبية شاهقة يبلغ ارتفاعها ثلاثة وعشرون متراً، وقد حفرت زخارفها على شكل النجوم، وزخرفت جدرانها على نفس الطراز، وفى هذا البهو كان يعقد مجلس العرش، ولهذا سمى أيضاً بالمشور. ويعلو بهو قمارش، البرج المسمى بهذا الاسم وهو برج شاهق فى مثل مساحته. وقد بدأ بإنشاء بهو قمارش، السلطان أبو اليد إسماعيل، فى أوائل القرن الثامن للهجرة (أوائل الرابع عشر الميلادى) وأكمله ولده السلطان يوسف أبو الحجاج. وأروع ما فيه زخارف قبته التى احتفظت بنقوشها الأصلية؛ أما نقوش الجدران، فإنها مع جمالها ليست إلا تجديداً مقلداً لنقوشها القديمة، قام بها الفنانون الإسبان. وقد وردت فيها العبارة الآتية مكررة "عز لمولانا السلطان أبى الحجاج"، وتخللها فى سائر جوانبها شعار بنى نصر المشهور، وهو "ولا غالب إلا الله"

صورة: الحمراء: من زخارف بهو السفراء (بهو قمارش)

2 - قصر السباع

ويفضى بهو البركة من ناحيته اليمنى إلى فناء سفلى يعرف بفناء السرو، وقد زرعت فيه بالفعل بعض أشجار السرو. وليس لهذا الفناء أهمية أثرية تذكر، وهو من صنع الإسبان، وإلى جانبه يقع جناح الحمامات السلطانية. وتقع شرقى فناء البركة، قاعة الأختين Sala de las dos Hermanas، وقد سميت بهذا الاسم لأن أرضها تحتوى على قطعتين متساويتين من الرخام، فريدتين فى ضخامة الحجم. 2 - قصر السباع وتفضى قاعة الأختين من بابها الجنوبى، إلى أجمل وأشهر أجنحة الحمراء، ونعنى بهو السباع، أو بهو الأسود وما إليه. ويعتبر فناء السباع أو كورة السباع Patio de los Leones، أجمل وأرشق أبهاء الحمراء. وقد قام بإنشائه السلطان محمد الغنى بالله، الذى حكم من سنة 1354 - 1391 م، وما زال اسمه ماثلا فى مواضع كثيرة من هذا الجناح. وهو عبارة عن فناء مستطيل مكشوف، طوله خمسة وثلاثون متراً، وعرضه عشرون، تحيط به من الجوانب الأربع مشرفيات أو أروقة ذات عقود، تحملها مائة وأربعة وعشرون عموداً من الرخام الأبيض، صغيرة الحجم، متناهية فى الجمال والرشاقة، وعليها أربع قباب مضلعة، تقع كل واحدة منها وسط ضلع من أضلاع المستطيل. وفى وسط الفناء نافورة الأسود الشهيرة، وهى عبارة عن نافورة ماء، يحمل حوضها المرمرى المستدير الضخم، اثنا عشر أسداً على شكل دائرة، وقد نقشت فوق دائرة هذا الحوض اثنتى عشر بيتا من قصيدة ابن زمرك الشهيرة فى وصف الحمراء، أمام كل أسد بيت منها، وهذا مطلعها: تبارك من أعطى الإمام محمدا ... مغانىَ زانت بالجمال المغانيا وإلا فهذا الروض فيه بدايع ... أبى الله أن يلقى لها الحسن ثانيا وفى منتصف الناحية الجنوبية من بهو السباع، يوجد مدخل قاعة بنى سراج Sala de los Abencerrajes، وهو اسم الأسرة الغرناطية الشهيرة، التى لعبت دوراً كبيراً فى حوادث غرناطة الأخيرة. وهى عبارة عن مستطيل طوله اثنا عشر متراً وعرضه ثمانية، وفوقه قبة عالية مضلعة، وفى وسطه حوض نافورة مرمرى

صورة: نافورة الأسود ومن ورائها الشرفة الوسطى لبهو الأسود

مستدير، وفى قاعه بقع داكنة ثابتة، تزعم الأسطورة أنها آثار من دماء بنى سراج، الذين دبر لهم السلطان كميناً، واستدرجهم إلى الحمراء، ودبر مقتلهم فى هذه القاعة واحداً بعد الآخر. وفى الناحية الشرقية لفناء الأسود، يوجد مدخل القاعة التى تسمى قاعة الملوك Sala de los Reyes أو قاعة العدل، وبها ثلاث عقود أو حنايا، رسمت فى سقف الحنية الوسطى منها، صور عشرة فرسان مسلمين، يلبسون العمائم ويجلسون على وسائد، وهيئاتهم تشع بالوقار والعزة، ويقول بعض الباحثين إن هذه هى صور ملوك غرناطة العشرة، الذين سبقوا أبى عبد الله فى تولى العرش. وفى شمال فناء الأسود يقع البهو المسمى "منظرة اللندراخا" Mirador de Lindaraja. ويوجد بين قاعة الأختين وبين منظرة اللندرخا، باب يفضى إلى ساحة مستطيلة لم تكن من أبنية الحمراء الأصلية، ولكنها أنشئت أيام الإمبراطور شرلكان. ويتصل بهذه الساحة رواق ضيق يفضى إلى متزين الملكة Peinador de la Reina، وهو عبارة عن بهو صغير منخفض، وقد أنشىء فى القرن السادس عشر، ورسمت على جدرانه صور وزخارف نصرانية من طراز عصر الأحياء. تلك هى محتويات قصر الحمراء، ولا يتسع المقام هنا لننقل إلى القارىء، ما نقش على جدرانه، وما فى قبابه من النقوش والقصائد العديدة. ولكن الذى يلفت النظر بنوع خاص، أن شعار بنى نصر وهو "ولا غالب إلا الله"، قد نقش فى كل ركن من أركانه، وكل ناحية من نواحيه. وتكرار هذا الشعار على هذا النحو يبعث إلى النفوس شعور النبؤة والنذير، ويذكرها بالمأساة الخالدة، التى توالت حوادثها بين هذه الجدران الصامتة، التى يكاد الأسى يرتسم على زخارفها العربية ونقوشها الإسلامية (¬1). وهناك على مقربة من قصر الحمراء، يقع أثر أندلسى آخر هو قصر جنة العريف El Generalife، وهو يقوم على ربوة مستقلة عالية، تقع فى ركن منعزل فى شمال شرقى الهضبة، ويشرف من ربوته العالية على صروح قصبة الحمراء، وتبدو من ورائه آكام جبال سيرّا نفادا الشامخة (جبل الثلج). وهو عبارة عن صرح صغير أنيق المنظر، قد اختلطت أوضاعه العربية السفلى، بما أنشأه الملوك ¬_______ (¬1) يجد القارىء وصفاً ضافياً لقصر الحمراء ومنشآته، ونقوشه، فى كتابى "الآثار الأندلسية الباقية". الطبعة الثانية ص 184 - 214

الإسبان فوقها من أبنية دخيلة، وتجوز إليه من مدخل بسيط متواضع، يفضى إلى ساحة فسيحة، قد أقيم على جانبها رواقان ضيقان طويلان، وفى وسطها بركة ماء، وقد غرست حولها الرياحين والزهور الساحرة. وقد كان قصر جنة العريف فيما يبدو مصيفاً أو متنزهاً لسلاطين غرناطة، يؤمونه للاستجمام والراحة، والاستمتاع بجمال موقعه، وروعة المناظر الطبيعية التى تحيط به. ... صورة: واجهة قصر جنة العريف ... ولم ينج هذا الأثر الإسلامى العظيم، عنوان الحضارة الأندلسية الباهرة، من يد العدوان والتشويه المنظم. فقد كان مثل بناته المغلوبين ضحية السياسة الإسبانية الغاشمة، وقد عمل الإسبان منذ سقوط غرناطة على محو جمال الحمراء الرائع بأعمال تخريب وتشويه متتالية، فمسخوا الزخارف والنقوش أو محوها، ونقلوا الأثاث والرياش أو أتلفوه، وبنى الإمبراطور شرلكان فى سنة 1526 م إلى جانب الحمراء فى الجنوب الغربى منها قصراً جديداً، وهدم معظم القصر الشتوى القديم ليفسح مكاناً للقصر الجديد. وعمل فيليب الخامس (1700 - 1746) على مسخ طراز الغرف العربى، واستبداله بالطراز الإيطالى؛ وأتم تشويه القصر بإقامة حواجز

سدت المنافذ والطرق بين مختلف الأجنحة. وعلى الجملة فقد تركت الحكومات الإسبانية المتعاقبة هذا الأثر الإسلامى العظيم فى زوايا الإهمال، وأسلمته إلى يد العفاء والتخريب، ولم تعن بإصلاحه وترميمه فى العصور الأولى إلا مرة واحدة، فى أواسط القرن السادس عشر. وفى سنة 1590 وقع بالحمراء حريق تسبب عن انفجار مصنع بارود مجاور، فأصابها بأضرار كبيرة. ومنذ القرن السابع عشر تغلب مظاهر الخراب على الحمراء، ويسودها النسيان والوحشة. وفى سنة 1802 م -أيام الغزو النابليونى- نسف الفرنسيون بعض أبراجها ولم ينج القصر إلا بأعجوبة. وفى أواسط القرن التاسع عشر، أفاقت الحكومة الإسبانية من سباتها الطويل، وعنيت بإصلاح الحمراء وترميمها، واستمر الترميم والإصلاح فيها زهاء نصف قرن، وتبدو الحمراء اليوم فى ثوبها المجدد، وقد جددت الزخارف والنقوش القديمة فى معظم الأبهاء، وفقاً لأوضاعها ونصوصها القديمة، ولكن تتخللها أخطاء المطابقة والنقل فى مواطن كثيرة. ولكن الحمراء مازالت بالرغم من كل ما أصابها من ضروب التشويه والإهمال، تعتبر أعظم الآثار الأندلسية الباقية، كما تعتبر نموذج للفن الأندلسى فى تطوره النهائى، بعد تحرره من أثر الفن البيزنطى. وهى اليوم علم على غرناطة تشتهر بها عاصمة الأندلس القديمة فى سائر الآفاق، ويهرع إليها الرواد من كل صوب ليصعدوا إلى هضبة الحمراء، ويقضون لحظات فى تأمل صرحها الرائع (¬1). ... وقد لبثت الحمراء بأبراجها المنيعة، وأجنحتها الملوكية البديعة، زهاء قرنين مقاماً فخماً لملوك غرناطة، وحصناً أميناً يعتصمون به وقت الخطر والأزمات العامة، حتى شهدت فى النهاية ذهاب ملكهم، كما شهدت من قبل عظمتهم وسلطانهم. وإلى جانب الحوادث التاريخية التى كانت الحمراء مسرحها، والتى فصلناها فى مواضعها، تتبوأ القصة والأسطورة فى تاريخ الحمراء مكاناً كبيراً، وتقدم للقصصى مادة شائقة مؤثرة. ويرجع معظم هذا القصص إلى الفترة الأخيرة من حياة مملكة غرناطة، وإلى حوادث مصرعها النهائى، وقد كانت الحمراء كما رأينا مسرح كثير من حوادث المأساة، وكانت بالأخص مسرح فصلها الختامى. ¬_______ (¬1) هذا وقد رجعنا فى كتابة هذا الفصل أيضاً إلى كتاب Alhambra المنشور بعناية السنيور M. Gomez - Moreno فى سلسلة El Arte en Espana

أجل إن للحمراء إلى جانب تاريخها الحافل، تراثها من القصص والأساطير، وهو تراث يمتزج أحياناً بالتاريخ الحق، ويجنح أحياناً إلى الأسطورة الشائقة. بيد أنه يثير الشجن دائما، وينفث الإعجاب والسحر. ذلك أنه مستمد من الحوادث والذكريات العظيمة، التى ترتبط بتاريخ غرناطة، ومن الروايات المؤثرة التى ذاعت عن مصرعها، وعن بسالة فروستها، حين المعركة الحاسمة، وعن خلال مجتمعها، ومخاوفه وهواجسه وآماله. وإذا كان المؤرخ لا يجد فى هذا التراث دائماً، مادة وثيقة يستطيع الوقوف بها، فإنه يجد على الأقل صوراً مؤثرة مما تسبغه الروايات المعاصرة، على تلك الحوادث العظيمة، من ألوان الروع والشجن والأسى. وفى هذه الحوادث المشجية يغلب التاريخ على الرواية والقصة. ولكن توجد إلى جانب ذلك طائفة من الأساطير الشائقة، التى أحاطت بها الرواية الإسبانية قصة الحمراء، وقصة أبهائها وأبراجها. وأول ما يروى فى ذلك أن منشىء قصر الحمراء السلطان محمد الغالب بالله (ابن الأحمر) (671 - 701 هـ) كان ساحراً، وأنه استعان بالسحر والشياطين فى إنشاء الحصن والقصر، ومن ثم استطاعت الجدران والأبراج المنيعة أن تغالب فعل الحوادث والعواصف والزلازل حتى يومنا، دون أن تتصدع أو تنهار. والسر فى ذلك يرجع إلى الطلاسم والتعاويذ السحرية التى تحمى البناء من كل شر. وتقول الأسطورة إن الحمراء لن تنهدم أو تسقط إلا حين يميل اللسان المثبت فى أسفل البرج الخارجى، ويصل إلى موضع القفل، فعندئذ تنهار الحمراء دفعة واحدة، وتنكشف جميع الكنوز التى أودعها المسلمون فى أعماقها. وعلى ذكر هذه الكنوز تقول الأسطورة إن المسلمين عندما سقطت غرناطة فى أيدى النصارى، كانوا يعتقدون أن سقوطها حادث مؤقت، وأن دولة المسلمين فى الأندلس لن تلبث أن تعود قوية عزيزة، وأن بعدهم عن أوطانهم لن يطول، ولذلك عمدوا إلى إخفاء ذخائرهم وحليهم وأموالهم فى أعماق الحمراء، فى جوانب متعددة منها، وأنهم لجأوا فى حفظها وحمايتها إلى السحر، فرصدوا لحفظها الطلاسم والأسماء. وقد يبدو حراسها أحياناً فى صور مردة أو وحوش، أو فرسان مسلمين مدججين بالسلاح، يسهرون عليها أبد الدهر جامدين لا يغمض لهم طرف. وليس فى الحمراء برج أو بهو أو قاعة، إلا اقترن ذكرها بقصة هذه الكنوز الخفية؛ وكانت الأسطورة تضطرم من عصر إلى آخر، ولاسيما فى جنوبى اسبانيا،

كلما كشفت المباحث الأثرية فى أنحاء الحمراء أو حولها، عن بعض النقود والتحف الإسلامية. وتقدم إلينا الرواية بعض الأساطير المروعة عن "بهو السباع" والبهو الذى يقابله وهو المسمى بهو بنى سراج. فأما بهو السباع فتزعم الرواية أنه كان مسرحاً دموياً لمصرع بعض أبناء السلطان أبى الحسن. وأما بهو بنى سراج فتقول الرواية إنه كان مسرحاً لمصرع بنى سراج أعرق الأسر الغرناطية وأوفرها جاهاً وفروسة، وكانت فى أواخر عهد السلطان أبى الحسن قد انتظمت إلى جانب خصومه، وأمعنت فى مناوأته، فقرر إهلاكهم (¬1). وقيل إن عميدهم محمد بن سراج، وهو من أكابر الفرسان والسادة، هام بحب أميرة من البيت المالك، فوجد عليه السلطان وقرر سحق الأسرة كلها، ودبر كميناً لإهلاكهم، فدعا أكابرهم ذات مساء إلى حفل أقامه، وأدخلوا واحداً بعد واحد بترتيب معين، من باب البهو المذكور، وكلما دخل أحدهم بادره القتلة ونحروه على حافة الحوض الرخامى الواقع وسطها، حتى أعدموا جميعاً، وفقدت الأسرة كل أنجادها. وسمى المكان من ذلك الحين "بهو بنى سراج". وما زالت ثمة بقع داكنة فى قاع الحوض الذى سالت فيه دماء القتلى تقول الرواية إنها بقع من دمائهم، وإنها لن تمحى قط، وتزيد الأسطورة على ذلك أنه ما زالت تسمع فى ذلك البهو فى بعض الليالى أنات خافتة، وقعقعة سلاح، وأنه حدث أكثر من مرة أى رأى حراس الحمراء فى جوف الليل، بعض الجند المسلمين، وقد لمعت أثوابهم الزاهية وأسلحتهم البراقة، يقطعون البهو جيئة وذهاباً (¬2). وهناك طائفة كبيرة من الأساطير الغرامية، تروى عن الملوك والسادة الذين ¬_______ (¬1) راجع رواية هرناندو دى بايثا المنشورة ضمن " أخبار العصر " ص 66. (¬2) يلاحظ أن الرواية الإسلامية لا تحدثنا عن هذه المأساة بشىء. ولكن الرواية والأغانى الإسبانية تكثر الحديث عنها. ويشير الوزير محمد بن عبد الوهاب الغسانى سفير ملك المغرب إلى ملك اسبانيا فى أواخر القرن السابع عشر إلى تلك الأسطورة فى رحلته نقلا عن التواريخ الإسبانية (راجع رحلة الوزير فى افتكاك الأسير ص 24). وقد كانت حوادث هذه المأساة المزعومة وما اقترن بها من الأساطير مستقى خصباً لكتاب القصص. وقد وضع الكاتب الفرنسى شاتوبريان عن بنى سراج قصة عنوانها مغامرات ْآخر بنى سراج ( Aventure du dernier Abencérrages) يحدثنا فيها عن فتى أندلسى هو آخر سليل لبنى سراج، وكانت الأسرة قد نزحت إلى تونس عقب سقوط غرناطة، وعاشت هناك فى فقر وضعة، فاعتزم الفتى أن يحج إلى غرناطه موطن آبائه القديم، وهنالك هام حباً بفتاة اسبانية رائعة الحسن، وهامت بحبه، ولكن اختلاف الدين حال دون زواجهما، فارتد الفتى المسلم إلى الصحراء وانقطع أثره، وعاشت حبيبته فى عزلة محتفظة بحبه وذكراه

سكنوا الحمراء، وعن أبهائها الفخمة وأبراجها القائمة، ويقال إن كثيراً من الأميرات والغيد الحسان الذين استحقوا اللعنة الملكية زجوا إلى أقبيتها أو أبراجها السحيقة وأعدموا فى ظلماتها. ومن ذلك ما تزعمه الأسطورة من أن سلطاناً مستبداً من سلاطين غرناطة سجن بناته الثلاث فى أحد أبراج الحمراء، ولم يك يسمح لهن إلا بالتريض ليلا فى بعض التلال المجاورة بحيث لا يراهن إنسان قط، وأن أولئك الأميرات الثلاث ما زلن يظهرن فى بعض الليالى المقمرة فى هاتيك التلال، يمتطين جيادهن الفخمة، وتسطع حليهن النفيسة تحت أشعة القمر، فإذا حاول إنسان أن يخاطبهن أو يزعجهن، اختفين فى الحال تحت جنح الظلام. وقد ذاعت هذه الأساطير عن الحمراء وعن ملوكها، ودونت عقب سقوط غرناطة، فى بعض التواريخ والقصص المغرق. ومن ذلك كتاب ظهر فى أواخر القرن السادس عشر عنوانه " حروب غرناطة الأهلية " Guerras civiles de Granadas وزعم مؤلفه، وهو اسبانى من أهل مرسية يدعى خينس بيرث دى إيتا Gines Perez de Hita أنه نقله عن مؤلف لكاتب أندلسى يدعى ابن أمين، وهو مزيج من بعض الوقائع التاريخية المحرفة، وكثير من القصص الخرافية، ويدور معظمه حول حوادث غرناطة الأخيرة ومعاركها الأهلية، وأحوال بلاطها وما يقع فيه من مكائد ودسائس سياسية وغرامية، ومنافسات بنى سراج وبنى الثغرى وغيرهم من أنجاد غرناطة. وقد ذاع هذا المؤلف فى اسبانيا ولاسيما فى ريف الأندلس، وترجم إلى لغات عديدة. بيد أنه يبدو من سياقه أنه لا يمكن أن يكون ترجمة لرواية عربية، وكل ما هنالك أنه مزيج من بعض الأساطير النصرانية والشعبية، التى ذاعت فى ذلك العصر عن حوادث غرناطة، وأذكاها خيال الأحبار، والفرسان، وأذكتها بالأخص عوامل دينية وسياسية خاصة. هذا بعض ما يروى من قصص الحمراء وأساطيرها. وإذا كان المؤرخ لا يستطيع أن يقف بهذا التراث المغرق من القصص والأساطير، فإنه يستطيع على الأقل أن يستخرج منه مغزى بليغاً، وهو مغزى ينم فى كثير من الأحيان عما كان للأندلس المسلمة فى اسبانيا وفى الغرب، من عظيم الهيبة والشأن، وما كان لذكريات غرناطة وحمرائها من بالغ الروع والسحر والإجلال (¬1). ... ¬_______ (¬1) جمع الكاتب الأمريكى واشنطون إيرفنج W. Irving طائفة من الأساطير والقصص التى تتعلق بالحمراء وكنوزها وملوكها فى كتابه: Tales of the Alhambra

ورحم الله شوقى إذ يقول فى سينيته الأندلسية الشهيرة فى رثاء الحمراء: لا ترى غير وافدين على التا ... ريخ ساعين فى خشوع ونكس نقلوا الطرف فى نضارة آس ... من نقوش وفى عصارة ورس وقباب من لازورد وتبر ... كالربى الشم بين ظل وشمس وخطوط تكفلت للمعانى ... ولألفاظها بأزين لبس وترى مجلس السباع خلاء ... مقفر القاع من ظباء وخُنس لا " الثريا "ولا جوارى الثريا ... ينزلن فيه أقمار إنس مرمر قامت الأسود عليه ... كلة الظفر لينات المجس تنثر الماء فى الحياض جمانا ... يتنزى على ترائب ملس آخر العهد بالجزيرة كانت ... بعد عرك من الزمان وضرس يا دياراً نزلت كالخلد ظلا ... وجنًى دانياً وسلسال أنس لا تحس العيون فوق رباها ... غير حور حُو المراشف لعس كسيت أفرخى بظلك ريشا ... وربا فى رباك واشتد غرسى هم بنو مصر لا الجميل لديهم ... بمضاع ولا الصنيع بمنسى من لسان على ثنائك وقف ... وجنان على ولائك حبس حسبهم هذه الطلول عظات ... من جديد على الدهور ودرس وإذا فاتك التفات إلى الما ... ضى فقد غاب عنك وجه التأسى

مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

مأساة الموريسكيّين أو العَرَب المتنصِّرين 897 - 1018 هـ: 1492 - 1609 م

الكتاب الثالث مراحل الاضطهاد والتنصير

الكتاب الثالث مراحل الاضطهاد والتنصير

الفصل الأول بدء التحول فى حياة المغلوب

الفصل الأول بدء التحول فى حياة المغلوب نقص الروايات العربية عن المأساة الأندلسية. علة هذا النقص. اهتمام الرواية الإسبانية بالإفاضة فيها. هجرة الأندلسيين إلى المغرب. وإنشاؤهم لمدينة تطوان. بداية عصر الإستعباد. السياسة الإسبانية ومصير المسلمين. أقوال الرواية القشتالية. اتجاه ملكى اسبانيا إلى النكث. تعليق النقد الحديث. بدء الاضطهاد. تحوير المعاهدة. خمنيس يحاول تنصير المسلمين. بعض من تنصر من أكابرهم. إحراق الكتب العربية. تعليق النقد الحديث على هذا العمل. الروايات الإسلامية عن مأساة التنصير. صدى المحنة فى مصر. نفى المسلمين من البرتغال. أمة الموريسكيين أو العرب المتنصرين. قرار مجلس الدولة. الثورة فى بعض النواحى. التنصير المغصوب. نشاط فرناندو وإيسابيلا. إستغاثة المسلمين بملك مصر. سفارة فرناندو إليه. الثورة فى فليا لونجا وهزيمة الإسبان. جنوح فرناندو إلى اللين. أقوال الرواية الإسلامية عن هذه الحوادث. حشد المسلمين والمتنصرين فى أحياء خاصة. تحريم إحراز السلاح عليهم. حظر هجرتهم إلى غرناطة. تحريم بيع الأملاك. لم يكن ظفر اسبانيا النصرانية بالاستيلاء على غرناطة، وسحق دولة الإسلام فى الأندلس، سوى بداية النهاية فى مصير الأمة الأندلسية، ولم يكن فقد السيادة القومية، وفقد الإستقلال والحرية، والذلة السياسية، والاضطهاد الدينى والاجتماعى، وهى المحن التى تنزل بالأمة المغلوبة، سوى لمحة يسيرة مما كتب على الأمة الأندلسية أن تعانيه على يد اسبانيا النصرانية. أجل كان مصير مسلمى الأندلس بعد فقد دولتهم وزوال مملكتهم، من أروع ما عرفت الأمم الكريمة المغلوبة، وكان مأساة من أبلغ مآسى التاريخ. تلك هى مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين، ومن الأسف أن الرواية الإسلامية لم تخص تاريخ الأمة الأندلسية بعد سقوط غرناطة بكثير من عنايتها، ولم ينته إلينا عن تلك المأساة سوى رسائل وشذور يسيرة، بل لم ينته إلينا سوى القليل عن مراحل التاريخ الأندلسى الأخيرة قبل سقوط غرناطة، ولا توجد لدينا عن تلك المرحلة سوى رواية إسلامية واحدة هى كتاب "أخبار العصر فى انقضاء دولة بنى نصر" الذى سبقت الإشارة إليه غير مرة، والذى كتبه فى سنة 947 هـ (1540 م) أعنى بعد سقوط غرناطة بخمسين سنة، كاتب مجهول كان فيما يبدو

من أشراف غرناطة الذين بقوا فيها، وأرغموا على التنصر، ولكنهم بقوا مع ذلك مسلمين فى روحهم وسريرتهم. وقد كانت هذه الرواية أساساً لكل ما كتبه المسلمون المتأخرون عن سقوط غرناطة. ولم تصل إلينا إلى جانب هذه الرواية الوحيدة، سوى رسائل وشذور وقصائد نقلها إلينا المقرى مؤرخ الأندلس فى مؤلفه "أزهار الرياض"، ومعظمها مما كتبه أدباء المغرب عقب وقوع المأساة بقليل. ونستطيع أن نرجع هذا النقص فى الرواية الإسلامية عن حوادث المأساة الأندلسية إلى عاملين: الأول هو أنه فى عصور الإنحلال والسقوط تخمد الحركات الأدبية والفكرية، وتقل العناية بالتدوين التاريخى، كما تقل فى جميع نواحى التفكير والأدب، وأن نظام الطغيان المطبق والاضطهاد المروع، الذى فرض على العرب المتنصرين، كان كفيلا بإخماد كل صوت وتحطيم كل قلم. والثانى وهو ما نرجحه، هو فقد معظم الكتب والوثائق العربية التى وضعت فى هذا الوقت، والتى استطاع المقرى أن ينقل إلينا شذوراً منها، مما يدل على أن بعضها كان موجوداً حتى عصره أعنى فى القرن السابع عشر. ومن الغريب أن صاحب "أخبار العصر" لم يقدم إلينا عن مأساة العرب المتنصرين سوى نبذة يسيرة، مع أنه عاصر معظم حوادثها، وشهدها على الأغلب. ولسنا نجد ما نفسر به هذا الصمت من جانب الرواية الإسلامية الوحيدة، التى انتهت إلينا عن سقوط غرناطة، وما تلاه من الحوادث والخطوب، إلا نظام الإرهاب الشامل، الذى سحق كل متنفس للشعب المغلوب. على أن هذه المرحلة المؤلمة من تاريخ الأمة الأندلسية، تشغل بالعكس فى تاريخ اسبانيا القومى حيزاً كبيراً يمتد زهاء قرن وربع، وتخصه الرواية الإسبانية بكثير من عنايتها. ولكن الرواية الإسبانية تتأثر دائماً بالعوامل القومية والدينية إلى أبعد حد، وتنظر دائماً إلى ذلك الإستشهاد المفجع، الذى فرضته اسبانيا على العرب المتنصرين، وإلى تلك الأعمال المروعة التى كانت ترتكبها محاكم التحقيق (¬1) باسم الدين، وإلى تلك الوسائل البربرية، التى اتخذت لتشريد العرب المتنصرين وإبادتهم، بعين الكبرياء والرضى، وترى فيها دائماً نوعاً من الإنقاذ القومى، وتطهيراً للدين والوطن من آثار الإسلام الأخيرة. وهى تحيط هذه المرحلة من تاريخ اسبانيا، بكثير من القصص والأساطير الحماسية، التى تشيد بظفر اسبانيا ¬_______ (¬1) هى المعروفة خطأ " بمحاكم التفتيش " Inquisition, Inquisicion، وسنعود إلى الكلام عليها

النصرانية، وبما أسبغته العناية الإلهية على خطتها وسياستها، فى إبادة تراث الإسلام والعرب المتنصرين، وفى القضاء إلى الأبد على آثار تلك الدولة الإسلامية المجيدة، التى ازدهرت فى اسبانيا زهاء ثمانية قرون، وعلى حضارتها وآدابها، وكل ذلك التراث العظيم الباهر. على أن الرواية الإسبانية بالرغم من تأثرها العميق بالعوامل القومية والدينية، تعرض علينا حوادث هذا النضال الأخير فى أسلوب مؤثر. وقد لا تضن فى بعض المواطن والمواقف بعطفها، وأحياناً بإعجابها، على تلك الأمة المغلوبة الباسلة، التى لبثت تناضل حتى الرمق الأخير عن كرامتها، وعن تراثها القومى والروحى. - 2 - لبثت السياسة الإسبانية بعد سقوط غرناطة، وبعد أن حققت اسبانيا النصرانية بالقضاء على دولة الإسلام فى الأندلس، أعظم أمانيها القومية، مدى حين تلتزم جانب الرواية والاعتدال. ولما غادر فرناندو وإيسابيلا غرناطة بعد دخولها، أوصيا حاكمها الجديد الكونت تندليا (المركيز دى مونتخار فيما بعد) بالرفق فى معاملة الرعايا الجدد، والعمل على التقريب بين العناصر. وكان من أثر ذلك فى البداية أن رغب الكثيرون فى البقاء، واشتروا الرباع العظيمة من الراحلين بأبخس الأثمان (¬1). وهناك من جهة أخرى ما يدل على أنه ما كاد يتم تسليم غرناطة حتى بدأ أعيان المسلمين فى بيع أملاكهم وضياعهم إلى القادة والأشراف القشتاليين الذين قدموا للتوطن فى المدينة المفتوحة، فمثلا باع القائد أبو عبد الله محمد الينشتى إلى القائد القشتالى أندريس قلدرون حديقته ومنزله بباب الفخارين، وذلك فى جمادى الثانية سنة 897 هـ (مارس 1492 م)، وباعت فاطمة بنت أبى القاسم الأبار إلى نفس القائد القشتالى حديقتها الكائنة بربض باب الفخارين، وذلك فى نفس التاريخ، وباع عدة آخرون من المسلمين أملاكهم فى مرج غرناطة وفى عين الدمع، إلى بعض أعيان القشتاليين، وذلك فى نفس السنة (1492 م) (¬2). واتخذت الأهبة من جهة أخرى لنقل المسلمين الراغبين فى الهجرة إلى المغرب، وهاجر كثير من أشراف غرناطة، وفى مقدمتهم ¬_______ (¬1) أزهار الرياض، ج 1 ص 67. (¬2) راجع: "وثائق عربية غرناطية" الوثائق رقم 181 (ص 130)، ورقم 184 (ص 134) ورقم 85 (ص 135)

بنو سراج وغيرهم من أنجاد غرناطة القدماء، وأقفرت مناطق بأسرها من أعيان المسلمين، ولاسيما منطقة البشرات. وكان تدفق سيل المهاجرين دليلا على أن الشعب المغلوب، لم يكن واثقاً فى ولاء سادته الجدد، وأنه كان ينظر إلى المستقبل بعين التوجس والريب. ويفصل لنا صاحب أخبار العصر بعض حركات الهجرة التى وقعت على أثر سقوط غرناطة، فيقول لنا إن من بقى من المسلمين فى مالقة عبروا البحر إلى باديس وعبر أهل ألمرية إلى تلمسان، وعبر أهل الجزيرة الخضراء إلى طنجة، وعبر أهل رندة وبسطة وحصن موجر وقرية قردوش وحصن مرتيل إلى تطوان وأحوازها، وعبر أهل لوشة وقرية الفخار وبعض أهل غرناطة ومرشانة وأهل البشرَّة إلى أراضى قبيلة غمارة، وعبر أهل بيرة وبرجة وأندرش إلى ما بين طنجة وتطوان، وعبر أهل بلِّش إلى سلا، وخرج كثير من أهل غرناطة إلى بجاية ووهران وقابس وصفاقص وسوسة، وخرج أهل مدينة طريف إلى آسفى وأزمور (¬1). وقد كان ممن هاجر من غرناطة إلى العدوة عقب سقوطها بقليل جماعة من أهلها برياسة زعيم جندى هو أبو الحسن على المنظرى (أو المندرى) وكان من أكابر جند الجيش الغرناطى، فنزلوا فى موقع قرية مرتيل (أو مرتين) الواقع على البحر على مقربة من تطوان، وكانت يومئذ خربة مهجورة، فاستأذن الأندلسيون سلطان فاس، محمداً الشيخ الوطَّاسى، فى تعميرها وسكناها، فأذن لهم، فأقاموا فوق موقعها القديم محلة حصينة بها مسجد وقصبة، وكان ذلك فى سنة 898 هـ (أواخر سنة 1492 م). وفى رواية أخرى أن الأندلسيين الذين عمروا تطوان لأول مرة، وفدوا إلى العدوة قبل سقوط غرناطة ببضعة أعوام فى سنة 888 هـ (1483 م)، وأنهم كانوا نحو ستين أو ثمانين. ثم جاء من بعدهم عقب سقوط غرناطة قوم آخرون، قاموا بتوسيعها وتحصينها، وعلى أى حال فإن المرجح أن هجرة المنظرى وقومه كانت عقب سقوط غرناطة، وأن هذا الفوج من المهاجرين الأندلسيين هو الذى يجب أن يحسب حسابه فى تعمير تطوان وتحصينها. ومن ذلك الحين تغدو تطوان ملاذا لكثير من الأسر الأندلسية التى أرغمت على التنصير، ثم آثرت الهجرة إلى دار الإسلام فراراً من اضطهاد الإسبان ومحاكم التحقيق، وعادت إلى دينها القديم، وما تزال بها أعقابهم إلى اليوم (¬2). ¬_______ (¬1) أخبار العصر (طبعة العرايش) ص 48. (¬2) راجع الإستقصاء للسلاوى (ج 2 ص 162)، ومختصر تاريخ تطوان للسيد محمد داود =

وهكذا أبدى فرناندو وإيسابيلا فى الأعوام الأولى رفقاً وليناً فى معاملة المسلمين، ولاح مدى حين أن اسبانيا النصرانية تنوى أن تحافظ على العهود التى قطعت، وعاش المسلمون بضعة أعوام فى نوع من السكينة والاطمئنان. ولكن السياسة الإسبانية كانت تخشى دائماً ذلك الشعب الذكى النابه، وكانت الكنيسة تجيش دائماً بنزعتها الصليبية القديمة، وتضطرم رغبة فى القضاء على البقية الباقية من الأمة الإسلامية فى اسبانيا؛ وكانت مملكة غرناطة القديمة ما تزال تضم كتلة مسلمة كبيرة، تربطها بثغور المغرب صلات وثيقة، هذا عدا ما كان من جموع المدجّنين فى منطقة بلنسية، وفى منطقة سرقسطة وغيرها من بلاد أراجون، وكان كثير من أولئك المدجنين، إلى ما بعد سقوط غرناطة بأعوام عديدة، يحتفظون بدينهم الإسلامى. وكان وجود هذه الكتلة المسلمة فى قلب اسبانيا النصرانية، شغلا شاغلا للسياسة الإسبانية. والظاهر أن السياسة الإسبانية، لبثت مدى حين مترددة فى انتهاج المسلك الذى تسلكه إزاء المسلمين، وقد كانوا من أهم عوامل النشاط والرخاء والعرفان فى اسبانيا، وكانت براعتهم قدوة فى الزراعة والصناعة والعلوم والفنون، وخلالهم قدوة فى النشاط والمثابرة والزهد والعفة والرفق، وكانوا على الجملة من أفضل ¬_______ = (ص 14 - 17). وقد أتيح لى أن أزور تطوان غير مرة وأن أتجول فى ربوعها القديمة، وهى اليوم تكون القسم الشرقى والشمالى من مدينة تطوان الحديثة، وما تزال بها بقايا المسجد والقصبة المنسوبين لأبى الحسن المنظرى. وقد علمت من صديقى العلامة السيد محمد داود مؤرخ تطوان، أنه ما يزال يوجد بها إلى اليوم كثير من أعقاب الأسر الموريسكية القديمة، ما تزال تحمل أسماءها الموريسكية معربة لا تبغى بها بديلا لأنها عنوان الأرومة الأندلسية. وإليك طائفة من هذه الأسماء نوردها كما تثبت بالعربية، ونورد مقابلها الإسبانى: ملينة ( Molina) . أولاد مرتين ( Martin) . مدينة ( Medina) . مراريش ( Morales) . الطريس ( Las Torres) . صالص ( Salas) . برميخو ( Bermejo) . مرشينة ( Marchina) . قسطيلية ( Castillo) . بايص ( Paez) . الركينة ( Requina) . لوقش ( Lucas) . راغون ( Aragon) . وفى معظم مدن المغرب الأخرى مثل الرباط وسلا والدار البيضاء ومراكش وفاس وغيرها، يوجد أعقاب كثير من الأسر الموريسكية. يحملون حتى اليوم ألقابهم الموريسكية القديمة معربة. وقد أورد لنا صاحب كتاب "مقدمة الفتح من تاريخ رباط الفتح" جملة كبيرة منها، مثل أسر بركاش. وبلافريج. ونكيطو، وملاط. ودنية. والرندة. وملين. ومرينو. واشكلانط. وبلانيو. وإبيرو. ولباريس. وكريسبو. وكيلطو. ومربيش. ورودياس. وبلامينو. وباينة. وبونو. والقسطالى. وفرتون. وقديره. وفلوريش. وغيرها (الكتاب المذكور ص 215)

العناصر الذين يمكن أن تضمهم دولة متمدنة (¬1). ولكن الكنيسة كانت تضطرم حماسة فى سبيل تحقيق مثلها، ولم تكن السياسة الإسبانية فى تلك الفترة من تاريخ اسبانيا سوى أداة لينة فى يد الكنيسة، التى بلغت عندئذ ذروة قوتها ونفوذها. ويصف لنا مؤرخ اسبانى عاش قريباً من ذلك العصر، نيات الكنيسة نحو المسلمين فى قوله: "إنه منذ استولى فرناندو على غرناطة، كان الأحبار يطلبون إليه بإلحاح، أن يعمل على سحق طائفة محمد من اسبانيا، وأن يطلب إلى المسلمين الذين يودون البقاء، إما التنصير، أو بيع أملاكهم والعبور إلى المغرب، وأنه ليس فى ذلك خرق للعهود المقطوعة لهم، بل فيه إنقاذ لأرواحهم، وحفظ لسلام المملكة، لأنه من المستحيل أن يعيش المسلمون فى صفاء وسلام مع النصارى، أو يحافظون على ولائهم للملوك، ما بقوا على الإسلام، وهو يحثهم على مقت النصارى أعداء دينهم" (¬2). ولم تكن هذه السياسة فى الواقع بعيدة عما يخالج ملكى اسبانيا، فرناندو الخامس وزوجه الملكة المتعصبة إيسابيلا الكاثوليكية، من شعور نحو المسلمين، ولم تكن للعهود التى قطعت للمسلمين بتأمينهم فى أنفسهم وأموالهم، واحترام دينهم وشعائرهم، لتحول دون تحقيق أغراض السياسة القومية. ذلك أن فرناندو لم يحجم قط عن أن يقطع العهود والمواثيق متى كانت سبيلا لتحقيق مآربه، وأن يسبغ على رياسته الغادرة ثوب الدين والورع، ولكنه لم يعتبر نفسه قط ملزماً بعهود يقطعها متى أصبحت تعارض سياسته وغاياته. ويعلق النقد الغربى الحديث على ذلك بقوله: "ولو نفدت هذه العهود (العهود التى قطعها لمسلمى غرناطة) بولاء، لتغير مستقبل اسبانيا كل التغيير، ولجمع الامتزاج الرفيق بين الأجناس، ولغاض الإسلام مع الزمن، ولتفوقت المملكة الإسبانية فى فنون الحرب والسلم، وتوطدت قوتها ورخاؤها. ولكن ذلك كان غريباً على روح العصر الذى انقضى، وأفضى التعصب والجشع إلى المطاردة والظلم، وأنزلت الكبرياء القشتالية بالمغلوبين ذلة مروعة، فاتسعت الهوة بين الأجناس على كر الزمن، حتى استعصى الموقف، وأدت إلى علاج كان من جرائه أن تحطم رخاء اسبانيا" (¬3). ¬_______ (¬1) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 7 (¬2) Luis del Marmol: Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada ; Lib. I. Cap. XXII (¬3) Dr. Lea: The Moriscos, p. 22

وأخذت سياسة الإرهاق تجرف فى طريقها كل شىء، ونشط ديوان التحقيق، ( Inquisition) أو الديوان المقدس، يدعمه وحى الكنيسة وتأييد العرش، إلى مزاولة قضائه المدمر. وكانت مهمة هذه المحاكم الكنسية المروعة أن تعمل على حماية الدين (الكثلكة)، ومطاردة الكفر والزيغ بكل ما وسعت، وكان جل ضحاياها فى البداية من اليهود والمسلمين، ثم الموريسكيين أو العرب المتنصرين. وسنعرض فى فصل خاص إلى تاريخ هذه المحاكم وإجراءاتها ووسائلها، التى تنافى كل عدالة وكل قضاء متمدن. وهكذا فإنه لم تمض بضعة أعوام على تسليم غرناطة، حتى بدت نيات السياسة الإسبانية واضحة نحو المسلمين، وكانت الكنيسة تحاول خلال ذلك أن تعمل لتحقيق غايتها أعنى تنصير المسلمين بالوعظ والإقناع، ومختلف وسائل التأثير المادية، ولكن هذه الجهود لم تسفر عن نتائج تذكر، فجنحت الكنيسة عندئذ إلى سياسة العنف والمطاردة، وأذعنت السياسة الإسبانية لوحى الكنيسة، ولم تذكر ما قطعت من عهود مؤكدة للمسلمين باحترام دينهم وشعائرهم. وكان روح هذه السياسة العنيفة حبران كبيران، هما الكردينال خمينس مطران طليطلة، ورأس الكنيسة الإسبانية، والدون ديجو ديسا "المحقق العام" لديوان التحقيق (¬1). وحاولت السياسة الإسبانية من جانبها أن تسبغ على هذه التصرفات ثوب الحق والعدالة، فأخذت فى تحوير العهود والنصوص التى تضمنتها معاهدة التسليم، وتعديلها وتفسيرها بطريق التعسف والتحكم، ثم خرقها نصاً فنصاً، واستلاب الحقوق والضمانات الممنوحة تباعاً، فأغلقت المساجد، وحظر على المسلمين إقامة شعائرهم، وانتهكت عقائدهم وشريعتهم (¬2). وأدرك المسلمون ما ترمى إليه السياسة الكنسية من محو دينهم ولغتهم وشخصيتهم، ودوت فى آذانهم تلك الكلمة الخالدة والنبوءة الصادقة، التى ألقاها إليهم فارس غرناطة يوم اعتزموا التسليم للعدو: "أتعتقدون أن القشتاليين يحفظون عهودهم، وأن يكون لهذا الملك الظافر من الشهامة والكرم ما له من حسن الطالع؟ لشد ما تخطئون. إنهم جميعاً ظمئون إلى دمنا، والموت خير ما تلقون منهم، إن ما ينتظركم شر الإهانات، والانتهاك والرق؛ ¬_______ (¬1) كان المحقق العام General Inquisitor وهو قاضى قضاة الديوان، يمثل يومئذ أعظم السلطات الدينية والقضائية فى اسبانيا. (¬2) أخبار العصر ص 54

ينتظركم نهب منازلكم، واغتصاب نسائكم وبناتكم، وتدنيس مساجدكم، تنتظركم المحارق الملتهبة، لتجعل منكم حطاماً هشيما". وكان فرناندو يخشى فى البداية عواقب التسرع فى تنفيذ هذه السياسة، لأن الأمن لم يكن قد توطد بعد فى المناطق المفتوحة، ولأن المسلمين لم ينزع سلاحهم تماماًؤ، وقد يؤدى الضغط إلى الثورة، فتعود الحرب كما كانت. ولكنه انتهى إلى الخضوع لرأى الكنيسة، واستدعى الكردينال خمينس إلى غرناطة ليعمل على تحقيق مهمة تنصير المسلمين، فوفد عليها فى شهر يوليه سنة 1499 م (905 هـ)، ودعا أسقفها الدون تالافيرا إلى اتخاذ وسائل فعالة لتنصير المسلمين، وأمر بجمع فقهاء المدينة ودعاهم إلى اعتناق النصرانية، وأغدق عليهم التحف والهدايا، فأقبل بعضهم على التنصير، وتبعهم جماعة كبيرة من العامة، واستعمل الوعد والوعيد والبذل والإرغام، فى تنصير بعض أعيان المسلمين. وكان قد اعتنق النصرانية قبيل سقوط غرناطة وبعدها، جماعة من الأمراء والوزراء، وفى مقدمتهم الأميران سعد ونصر، ولدا السلطان أبى الحسن من زوجه النصرانية اليزابيث دى سوليس المعروفة باسم ثريا، فقد تنصرا ومنحا ضياعاً فى أرجبة، وتسمى أحدهما باسم "الدوق فرناندو دى جرانادا" (أى صاحب غرناطة)، وخدم قائداً فى الجيش القشتالى، واشتهر بغيرته فى خدمة العرش، وتسمى الثانى باسم "ديوان خوان دى جرانادا" (¬1). وتنصر سيدى يحيى النيار قائد ألمرية وابن عم مولاى الزغل، عقب تسليمه لألمرية، وتسمى باسم "الدون بيدرو دى جرانادا" وتنصرت زوجه السيدة مريم ابنة الوزير بنيغش، وتنصر ابنه علىّ، باسم "الدون ألونسو دى جرانادا فنيجاس"، وتزوج من دونيا خوانا دى مندوثا وصيفة الملكة. وتنصر الوزير أبو القاسم بن رضوان بنيغش، ومعظم أفراد أسرته، وعادت أسرته تحمل لقبها القشتالى القديم Los Venegas، واشتهرت فى تاريخ اسبانيا الحديث، وأنجبت كثيراً من أكابر القادة والأحبار. ونصر آل الثغرى الذين اشتهروا فى الدفاع عن مالقة وغرناطة قسرا، وسمى عميدهم باسم "جونثالفو فرنانديث ثجرى"، وتنصر الوزير يوسف بن كماشه وانتظم فى سلك الرهبان. وهكذا اجتاحت موجة التنصير كثيراً من الأكابر والعامة معاً. وتمركزت حركة التنصير فى غرناطة بالأخص فى حىّ البيّازين، حيث حول ¬_______ (¬1) Hernando de Baeza: ibid, p. 65

مسجده فى الحال إلى كنيسة سميت باسم "سان سلبادور" (¬1). واحتج بعض أكابر المسلمين على هذه الأعمال، ولكن ذهب احتجاجهم وتمسكهم بالعهود المقطوعة سدى. وثار أهل البيازين وتحصنوا بحيهم، ونددوا بخرق العهود، فبذل الكردينال خمنيس وحاكم المدينة، جهوداً فادحة لإقناعهم بالهدوء والسكينة، وبذلا لهم من التأكيدات والضمانات الكلامية ما شاءوا (¬2). ولم يقف الكردينال خمنيس عند تنظيم هذه الحركة الإرهابية، التى انتهت بتوقيع التنصير المغصوب، على عشرات الألوف من المسلمين، ولكنه قرنها بارتكاب عمل بربرى شائن، هو أنه أمر بجمع كل ما يستطاع جمعه من الكتب العربية من أهالى غرناطة وأرباضها، ونظمت أكداساً هائلة فى ميدان باب الرملة، أعظم ساحات المدينة، ومنها كثير من المصاحف البديعة الزخرف، وآلاف من كتب الآداب والعلوم، وأضرمت النيران فيها جميعاً، ولم يستثن منها سوى ثلاثمائة من كتب الطب والعلوم، حملت إلى الجامعة التى أنشأها فى مدينة ألكالا دى هنارس (¬3)، وذهبت ضحية هذا الإجراء الهمجى عشرات ألوف من الكتب العربية، هى خلاصة ما بقى من تراث التفكير الإسلامى فى الأندلس (¬4). ولسنا نحن فقط الذين نصف عمل خمنيس بالبربرية والهمجية، بل قالها ويقولها مفكرو الغرب أنفسهم، فمثلا يشير العلامة الإيطالى الأب سكيابرللى Schiaparelli فى مقدمة إحدى كتبه إلى "التعصب الكاثوليكى، وثورات خمنيس ¬_______ (¬1) ما تزال كنيسة "سان سلبادور"، تقوم حتى اليوم على موقع مسجد البيازين القديم، وما تزال توجد فى مؤخرتها بعض عقود المسجد القديمة. (¬2) Luis del Marmol: ibid, I. Cap. XXIII (¬3) Alcala de Henares، وتسمى فى الرواية العربية بقلعة عبد السلام أو قلعة النهر لوقوعها على نهر هنارس، أحد أفرع نهر التاجه، وهى تقع فى جنوب غربى وادى الحجارة فى منتصف المسافة بينها وبين مدريد. (¬4) يختلف المؤرخون الإسبان فى تقدير عدد الكتب العربية التى ذهبت ضحية هذا الإجراء، فيقدرها دى روبلس E. de Robles، الذى كتب بعد ذلك بقرن كتاباً عن حياة الكردينال خمنيس، Compenido de la Vida y Hazanas del Cardinal Ximenez، بمليون وخمسة آلاف كتاب. ويقدرها برمندث دى بدراثا B. de Pedraza الذى كتب بعده بقليل، بمائة وخمسة وعشرين ألفاً فى كتابه Historia Eclesiastica de Granada، ويقدرها البعض الآخر بخمسة آلاف فقط، ويقدرها كوندى بثمانين ألفاً، وربما كان تقديره أقرب إلى المعقول. راجع Prescott: Ferd. and Isabella, p. 451 - 53 & notes

صورة: الكردينال خمنيس دى سيسنيروس

البربرية، التى ترتب عليها حرق المصاحف والكتب الإسلامية الأخرى لمسلمى غرناطة، وذلك لكى يتوسل بذلك إلى تنصيرهم". ويقول المؤرخ الأمريكى وليم برسكوت: "إن هذا العمل المحزن لم يقم به همجى جاهل، وإنما حبر مثقف، وقد وقع لا فى ظلام العصور الوسطى، ولكن فى فجر القرن السادس عشر، وفى قلب أمة مستنيرة، تدين إلى أعظم حد بتقدمها إلى خزائن الحكمة العربية ذاتها" (¬1). ثم يشير إلى ما ترتب على هذا العمل بقوله: "لقد غدت الآداب العربية نادرة فى مكتبات نفس البلد الذى نشأت فيه، وإن الدراسات العربية التى كانت من قبل زاهرة فى اسبانيا، حتى فى العصور الأقل لمعاناً، انهارت لأنها عدمت غذاء يؤدها؛ وهكذا كانت النتائج المحزنة للمطاردة الأدبية، التى يراها البعض أشد تقويضاً من تلك التى توجه إلى الحياة ذاتها". على أن هذا العمل الذى يثير غضب النقد الغربى الحديث وزرايته، يجد مع ذلك بين العلماء الإسبان من يبرره بل ويمجده. وقد تولى المستشرق سيمونيت الدفاع عن الكردينال خمنيس، الذى يصفه بأنه أحد أمجاد الكنيسة الإسبانية، فى رسالة عنوانها: "الكردينال خمنيس دى سيسنيروس والمخطوطات العربية الغرناطية" (¬2) يقول فيها، إن ما قام به الكردينال من حرق الكتب أمر لا غبار عليه، إذ هو إعدام للشىء الضار، وهو بالعكس أمر محمود، كما تعدم عناصر العدوى وقت الوباء، وإن الملكين الكاثوليكيين قد أمرا عقب تنصير المسلمين أن تؤخذ منهم كتب الشريعة والدين، لكى تحرق فى سائر مملكة غرناطة، وألا يبقى لديهم سوى الكتب التى لا علاقة لها بالدين الذى نبذوه، وإن تأجيل تنفيذ هذا الأمر حتى عهد الملكة خوانا، كان تسامحاً وتساهلا، وقد استشارت الملكة مجلسها، وأصدرت بتاريخ 20 يونيه سنة 1511 أمراً ملكياً، تلزم فيه جميع السكان الذين تنصروا حديثاً، سواء فى غرناطة أو غيرها من نواحى مملكة غرناطة، أن يسلموا سائر الكتب العربية التى لديهم سواء فى الدين أو الشريعة أو كتب الطب والفلسفة والتاريخ أو غيرها إلى قاضى الجهة، وذلك فى ظرف خمسين يوماً من تاريخ هذا الأمر، ¬_______ (¬1) W. Prescott: ibid , p. 453 & 454 (¬2) F. Javier Simonet: El Cardinal Ximenez de Cisneros y los Manuscritos Arabigo - Granadinos

لكى يفحصها القضاة، وتؤخذ منها كتب الدين والسنة، ويرخص القضاة بعد ذلك بحيازة غيرها. ويدافع سيمونيت عن تصرف الكردينال خمنيس بحماسة، ويقول إن إحراقه للكتب، يمكن أن يقارن بما وقع من أعمال مماثلة خلال الثورات الحديثة، منذ البروتستانتية الإنجليزية والألمانية إلى الثورة الفرنسية، وأنه خلال هذه الثورات، قد أحرق أو أتلف كثير من الآثار الأدبية والفنية فى كثير من البلاد الأوربية، وأنه لا يمكن مقارنة عمل خمنيس، بما وقع من إحراق مكتبة الإسكندرية (المزعوم)، بأمر الخليفة عمر، وأن معظم الكتب العربية قد أخرج من اسبانيا مع الهجرة، ومع من هاجروا من المسلمين من القواعد الأندلسية المختلفة، وأخيراً أن كثيراً منها قد جمع أيام الملك فيليب الثانى وأودع بقصر الإسكوريال (¬1). ذلك هو ملخص رسالة المستشرق سيمونيت فى الدفاع عن تصرف الكردينال خمنيس، وهو دفاع يبدو ركيكاً مصطنعاً إزاء أحكام النقد الغربى المستنير، وتطبعه نزعة تحيز وتعصب واضحة، تبدو فى كل ما كتبه هذا العلامة الإسبانى عن الأمة الأندلسية، وهو لا يمكن مهما أسبغ عليه من المقارنات، أن يزيل أثر هذه الوصمة المشينة من حياة خمينس، أو من التاريخ الإسبانى. ولنعد إلى حديث تنصير المسلمين، فنقول إن ما حدث فى غرناطة، حدث فى باقى البلاد والنواحى الأخرى، فنصر أهل البشرّات وألمرية وبسطة ووادى آش فى العام التالى، أعنى فى سنة 1500 م، وعم التنصير سائر أنحاء مملكة غرناطة. على أن هذه الحركة التى نظمت لتنصير بقية الأمة الأندلسية والتى لم تدخر فيها أساليب الوعود والوعيد والإغراء والإكراه، لم تقع دون قلاقل واضطرابات عديدة حسبما نفصل بعد. وكان الإغراء بالتنصير يتخذ أحياناً، شكل هبات ومنح جماعية لبلدة أو منطقة بأسرها، كما حدث بالنسبة لأهل وادى ألكرين (الإقليم) ولانخرون والبشرّات، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان مرسوماً (فى 30 يوليه سنة 1500) بإبراء سائر أهالى النواحى المذكورة، الذين تنصروا أو يتنصرون، من جميع الحقوق والتعهدات المفروضة على الموريسكيين لصالح العرش، ورفعها عن منازلهم وأراضيهم وسائر أملاكهم المنقولة والثابتة، وهبتهما لهم، وإلغاء ضريبة الرأس ¬_______ (¬1) Simonet: ibid, p. 3, 8, 10, 17, 18, 20 - 27 & 31

المفروضة عليهم لمدة ست سنوات، وإقالتهم من الغرامة التى فرضت عليهم من جراء ثورتهم، وقدرها خمسون ألف دوقية، هذا إلى منح وإبراءات أخرى تضمنها المرسوم المشار إليه (¬1). وصدر كذلك مرسوم مماثل من الملكين الكاثوليكيين فى 30 سبتمبر سنة 1500، إلى "المسلمين" القاطنين بحيهم Moreria بمدينة بسطة، بإقالة الذين تنصروا منهم أو يتنصرون، من جميع الفروض والمغارم التى فرضت على الموريسكيين، وتحريرهم منها سواء بالنسبة لأنفسهم أو منازلهم وأموالهم الثابتة والمنقولة من يوم التنصير، وألا يدخل أحد منازلهم ضد إرادتهم، ومن فعل عوقب بغرامة فادحة، وأن يعفوا من سائر الذنوب التى ارتكبت ضد خدمة العرش، وأن تحترم جميع العقود والمحررات التى كتبت بالعربية، وصادق عليها فقهاؤهم وقضاتهم، وأن يعامل المتنصرون منهم كسائر النصارى الآخرين فى بسطة، ولهم أن ينتقلوا وأن يعيشوا فى أى مكان آخر من أراضى مملكة قشتالة، دون قيد أو عائق، إلى غير ذلك من المنح والامتيازات (¬2). وصدر أخيراً مرسوم بالعفو عن جميع سكان "حىّ المسلمين" Moreria بغرناطة والقرى الملحقة بها، بالنسبة لجميع الذنوب والأخطاء، التى ارتكبت حتى يوم تنصيرهم، وألا يتخذ فى شأنها أى إجراء، سواء ضد أشخاصهم أو أملاكهم (¬3). ولم تقدم الرواية الإسلامية المعاصرة إلينا كثيراً من التفاصيل عن هذه الحوادث والتطورات، ولكنها تكتفى بأن تجمل مأساة تنصير المسلمين فى هذه الكلمات المؤثرة: "ثم بعد ذلك دعاهم (أى ملك قشتالة) إلى التنصير، وأكرمهم عليه وذلك فى سنة أربع وتسعمائة، فدخلوا فى دينهم كرهاً، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق فيها من يقول "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" إلا من يقولها فى قلبه، وفى خفية من الناس، وجعلت النواقيس فى صوامعها بعد الأذان، وفى مساجدها الصور والصلبان، بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين، وكم فيها من الضعفاء والمعذورين، لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل ناراً، ودموعهم تسيل سيلا غزيراً، وينظرون إلى ¬_______ (¬1) يحفظ هذا المرسوم بدار المحفوظات الإسبانية العامة Archivo general de Simancas برقم P. R. 11 - 98، وقد حصلنا منه على صورة فتوغرافية. (¬2) Archivo general de Simancas: P. R. 11 - 107 (¬3) Arch. gen. Leg. 28 ; Fol. 22

أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التى هى أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ولا على زجرهم، ومن فعل ذلك عوقب بأشد العقاب، فيالها من فجيعة ما أمرّها، ومصيبة ما أعظمها، وطامة ما أكبرها". ثم يختتم بقوله: "وانطفأ من الأندلس الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، كان ذلك فى الكتاب مسطورا، وكان أمر الله قدراً مقدورا" (¬1). ونقل إلينا المقرى نبذة من رسالة أخرى، يشير كاتبها إلى تنصير مسلمى الأندلس فيما يلى: "وتعرفنا من غير طريق، وعلى لسان غير فريق، أن قطر الأندلس طرق أهله خطب لم يجد فى سالف الدهر. وذلك أنهم أكرهوا بالقتل إن لم يقع منهم النطق بما يقتضى فى الظاهر الكفر، ولم يقبل منهم الأسر. وكان الابتداء فى ذلك من أهل غرناطة، وخصوصاً أهل واسطتها لقلة الناس، وكونهم من الرعية الدهماء، مع عدم العصبية بسبب اختلاف الأجناس، وعلم النصارى بأن من بقى بها من المسلمين إنما هم أسارى فى أيديهم، وعيال عليهم، وبعد أن انتزعوا منهم الأسلحة والمعاقل، وعتوا فيهم بالخروج والجلاء، فلم يبق من المسلمين طائل، ونقض اللعين طاغية النصارى عهوده، ونشر بمحض الغدر بنوده .... الخ" (¬2). وجاء فى رواية أخرى هذا الوصف لمأساة التنصير؛ "إن طاغية قشتالة وأرغون صدم غرناطة صدمة، وأكره على الكفر من بقى بها من الأمة، بعد أن هيض جناحهم، وركدت رياحهم، وجعل بعد جنده الخاسر على جميع جهات الأندلس ينثال، والطاغية يزدهى فى الكفر ويختال، ودين الإسلام تنثر بالأندلس نجومه، وتطمس معالمه ورسومه؛ فلو رأيتم ما صنع الكفر بالإسلام بالأندلس وأهليه، لكان كل مسلم يندبه ويبكيه، فقد عبث البلاء برسومه، وعفى على أقماره ونجومه، ولو حضرتم من جبر بالقتل على الإسلام، وتوعد بالنكال والمهالك العظام، ومن كان يعذب فى الله بأنواع العذاب، ويدخل به من الشدة فى باب ويخرج من باب، لأنساكم مصرعه، وساءكم مفظعه، وسيوف النصارى ¬_______ (¬1) أخبار العصر ص 54 و 55 و 56. (¬2) أزهار الرياض ج 1 ص 69، 70، 71

إذ ذاك على رؤوس الشرذمة القليلة من المسلمين مسلولة، وأفواه الذاهلين محلولة، وهم يقولون: ليس لأحد بالتنصر إن يمطل، ولا يلبث حيناً ولا يمهل، وهم يكابدون تلك الأهوال، يطلبون لطف الله على كل حال". وقد تردد صدى هذه المحنة التى نزلت بمسلمى الأندلس بسرعة سائر فى جنبات العالم الإسلامى، فنرى ابن إياس مؤرخ مصر، وهو راوية معاصر، يدون فى حوادث صفر سنة 906 هـ (أغسطس سنة 1500 م) أعنى عقب محنة التنصير بأشهر قلاقل ما يأتى: "وفيه جاءت الأخبار من المغرب بأن الفرنج قد استولوا على غرناطة التى هى دار ملك الأندلس، ووضعوا فيها السيف بالمسلمين، وقالوا من دخل ديننا تركناه، ومن لم يدخل قتلناه، فدخل فى دينهم جماعة كثيرة من المغاربة خوفاً على أنفسهم من القتل، ثم ثار عليهم المسلمون ثانياً وانتصفوا عليهم بعض شىء، واستمر الحرب ثائراً بينهم، والأمر لله تعالى فى ذلك" (¬1). أما المسلمون الذين بقوا فى مملكة البرتغال، فقد كان مصيرهم فيما يبدو أفضل من مصير إخوانهم مسلمى الأندلس، فقد قضى العرش البرتغالى بإخراجهم من أراضى المملكة فى سنة 1496 م، والسماح لهم بالعبور إلى المغرب أو إلى حيث شاءوا، ونظراً لما لقوه من صعاب فى اختراق الأراضى الإسبانية، فقد أصدر الملكان الكاثوليكيان، تحقيقاً لرغبة ملك البرتغال، مرسوماً (فى ابريل سنة 1497) يصرح فيه للمسلمين البرتغاليين ونسائهم وأولادهم وخدمهم، أن يخترقوا أراضى مملكة قشتالة، وأن يذهبوا بأموالهم وأمتعتهم إلى البلاد الأخرى، وأن يبقوا فى أراضى قشتالة الوقت الذى يرغبون ثم يغادرونها بأموالهم متى شاءوا، وفقط لا يسمح لهم بحمل الذهب والفضة إلى الخارج، ويُؤمَّنون فى أنفسهم وأموالهم ضد كل اعتداء ولا يؤخذ منهم شىء بلا حق (¬2). ... تلك هى المأساة التى استحالت فيها بقية الأمة الأندلسية بالتنصير المفروض، إلى طائفة جديدة، عرفت من ذلك التاريخ بالموريسكيين Moriscos، أو المسلمين الأصاغر أو العرب المتنصرين (¬3). وقد فرض التنصير على المسلمين فرضاً، ولم تحجم ¬_______ (¬1) ابن إياس (بولاق) ج 2 ص 392. (¬2) Arch. gen. de Simancas, P. R. Leg. 28 Fol. 3 (¬3) Moriscos هى تصغير كلمة Moros، ومعناها المسلمون أو العرب الأصاغر، رمزاً إلى ما انتهت إليه الأمة الأندلسية من السقوط والانحلال

السلطات الكنسية والمدنية، عن اتخاذ أشد وسائل العنف. ولم يستكن المسلمون إلى هذا العنف دون تذمر ودون مقاومة، وسرت إليهم أعراض الثورة ولاسيما فى المناطق الجبلية، حيث كان ما يزال ثمة قبس من الحماسة الدينية. وكانت السياسة الإسبانية تلتمس الوسيلة للتخلص نهائياً من العهود المقطوعة، فألفت فى التذمر والمقاومة سندها، وقرر مجلس الدولة بأن المسلمين أصبحوا خطراً على الدين والدولة، ولاسيما بعد ما تبين من جنوحهم إلى الثورة، ومحاولتهم الاتصال بإخوانهم فى المغرب ومصر وقسطنطينية، وقضى بوجوب اعتناق المسلمين للنصرانية، ونفى المخالفين منهم من الأراضى الإسبانية. وهكذا حاول مجلس الدولة أن يسبغ صفة الحق والعدالة على التنصير المغصوب، وعلى كل ما يتخذ لتحقيقه من إجراءات العسف والإرهاق. وقع هذا القرار على المسلمين وقع الصاعقة، وسرعان ما سرت إليهم الحمية القديمة، فأعلنوا الثورة فى معظم نواحى غرناطة، وفى ربض البيّازين وفى البشرّات واشتد الهياج بالأخص فى بلفيق، وفى أندرش حيث نسف حاكم البلدة مسجدها بالبارود، وفى نيخار وجوبخار وغيرها، واعتزم المسلمون الموت فى سبيل دينهم وحريتهم، ولكنهم كانوا عزلا، وكانت جنود النصرانية صارمة شديدة الوطأة فمزقتهم بلا رأفة؛ وكثر بينهم القتل، وسبيت نساؤهم، وقضى بالموت على مناطق بأسرها، ما عدا الأطفال الذين دون الحادية عشرة، فقد حولوا إلى نصارى. وحمل التعلق بالوطن وخوف الفاقة وهموم الأسرة، كثيراً منهم على الإذعان والتسليم، فقبلوا التنصير المغصوب ملاذاً للنجاة؛ ولجأت الحكومة بعد إخماد الهياج فى غرناطة والبيازين إلى أساليب الرفق، فبعثت بالعمال والقسس فى مختلف الأنحاء، ولم يدخر هؤلاء وسعاً فى اجتذاب المسلمين بالوعيد والوعود، وهكذا ذاع التنصر فى سائر مملكة غرناطة القديمة (¬1). وفى الوقت نفسه اضطر المسلمون المدجّنون فى آبلة وسمورة، وبلاد أخرى فى جلّيقية، إلى اعتناق النصرانية، وكانوا حتى ذلك الوقت يحتفظون بدينهم القديم. ونشط فرناندو إلى إخماد الهياج حيث يقع. وفى الوقت الذى غدا فيه التنصير أمراً محتوماً، وأضحى فرناندو يعتبر نفسه فى حل من عهوده المقطوعة للمسلمين، تقدم إليه ديسا المحقق العام بوجوب إنشاء ديوان للتحقيق فى غرناطة، لكى يعاون على ¬_______ (¬1) Marmol: ibid , I. Cap. XXVII، وكذلك Prescott: ibid ; p. 462

مطاردة الزيغ بوسائله الفعالة. فألفت لجنة ملكية للتحقيق فى حوادث غرناطة، وقبض على كثير من المسلمين بتهمة التحريض، وهرع آلاف أخر منهم إلى اعتناق النصرانية خيفة السجن والمطاردة. وعارض فرناندو وإيسابيلا فى إنشاء ديوان التحقيق فى غرناطة ذاتها، واقترحا أن تحال شئونها إلى اختصاص ديوان التحقيق فى قرطبة، وألا يقدم المسلمون أو الموريسكيون إلى الديوان إلا لتهم خطيرة، ولكن الكنيسة لم تقنع باتخاذ الإجراءات الجزئية، ومضت تعمل لغايتها الشاملة. وكان فرناندو من جهة أخرى لا يزال يتوجس من المسلمين شراً، ويرى فى منطق الكنيسة قوة، وهو أن احتفاظ المسلمين بدينهم يقوى الروابط بينهم وبين إخوانهم فى إفريقية، وأن اسبانيا ما تزال تضم بين جوانحها عدواً يُخشى بأسه، وأن فى تنصير المسلمين أو إخراجهم من اسبانيا، سلام اسبانيا ونقاء دينها. وكانت الكلمة للكنيسة دائماً، ففى 20 يوليه سنة 1501 أصدر فرناندو وإيسابيلا أمراً ملكياً خلاصته "أنه لما كان الله قد اختارهما لتطهير مملكة غرناطة من الكفرة" فإنه يحظر وجود المسلمين فيها، فإذا كان بها بعضهم فإنه يحظر عليهم أن يتصلوا بغيرهم، خوفاً من أن يتأخر تنصيرهم، أو بأولئك الذين نُصِّروا لئلا يفسدوا إيمانهم، ويعاقب المخالفون بالموت أو مصادرة الأموال. وحاول المسلمون فى يأسهم أن يلجأوا إلى معاونة سلطان مصر، فأرسلوا إليه كتبهم يصفون إكراههم على التنصر، ويطلبون إليه أن ينذر ملك اسبانيا بأنه سوف ينكل بالنصارى المقيمين فى مملكته، إذا لم يكف عنهم، فنزل سلطان مصر عند هذه الرغبة، وأرسل إلى فرناندو يخطره بما تقدم؛ وانتهز فرناندو هذه الفرصة فأوفد إلى بلاط القاهرة (سنة 1501) سفارته التى تحدثنا عنها فيما تقدم والتى كان سفيره فيها بيترو مارتيرى الحبر الكاتب والمؤرخ. فأدى مارتيرى سفارته ببراعة، واستطاع أن يقنع السلطان بما يلقاه مسلمو الأندلس من الرعاية، وأن يطمئنه على مصيرهم (¬1). وهكذا خبت آمال المسلمين تباعاً، ولم تصمد الثورة إلا فى المنطقة الجبلية الواقعة بين آكام فليا لونجا وسيرّا فرمليا (الجبال الحمراء) بجوار رندة، حيث احتشدت بعض البطون المغربية، وحيث استطاع الثوار أن يقتحموا شعب الجبال، وأن يفتكوا بعمال الحكومة وجندها. وسير فرناندو إلى تلك المنطقة حملة قوية تحت ¬_______ (¬1) راجع: Prescott: ibid ; p. 287؛ وكذلك Dr. Lea: The Moriscos, p. 36

أمرة قائده الشهير ألونسو دى آجيلار دوق قرطبة، ونفذ الجند الإسبان غلى شعب فليا لونجا، ووقعت الواقعة الحاسمة بين المسلمين والنصارى، فهزم النصارى هزيمة فادحة وقتل منهم عدد جم، وكان قائدهم آجيلار وعدة آخرون من السادة الأكابر، فى مقدمة القتلى (مارس سنة 1501). فكان لهذه النكبة التى نزلت بالجنود الإسبان وقوادهم، أعمق وقع فى البلاط الإسبانى. وهرع فرناندو إلى غرناطة، ورأى بالرغم مما كان يحدوه من عوامل السخط والانتقام، أن يجنح إلى اللين والمسالمة، فأعلن العفو عن الثوار بشرط أن يعتنقوا النصرانية فى ظرف ثلاثة أشهر، أو يغادروا اسبانيا تاركين أملاكهم للدولة، فآثر معظمهم النفى والجواز إلى إفريقية، وهاجرت منهم جموع كبيرة إلى فاس ووهران وبجاية وتونس وطرابلس وغيرها، وقدمت الحكومة الإسبانية السفن اللازمة لنقلهم مغتطبة لرحيلهم (¬1)، إذ كانوا أشد العناصر مراساً وأكثرها نزوعاً إلى الثورة. واستقر الباقون وهم الكثرة الغالبة من المسلمين فى البلاد خاضعين مستسلمين، وقد وصفهم دى بدراثا، وهو مؤرخ من أحبار الكنيسة عاش قريباً من ذلك العصر يقوله: إنهم شعب ذو مبادىء أخلاقية متينة، أشراف فى معاملاتهم وتعاقدهم، ليس بينهم عاطل، وكلهم عامل، يعطفون أشد العطف على فقرائهم (¬2). ولم يفت الرواية الإسلامية أن تشير إلى هذه الصفحة الأخيرة من جهاد المسلمين الباسل فى سبيل دينهم، فقد نقل إلينا المقرى عنها ما يأتى: "وبالجملة فإنهم (أى أهل غرناطة) تنصروا عن آخرهم بادية وحاضرة، وامتنع قوم عن التنصر، واعتزلوا النصارى فلم ينفعهم ذلك، وامتنعت قرى وأماكن كذلك منها بلفيق وأندرش وغيرها، فجمع لهم العدو الجموع واستأصلهم عن آخرهم قتلا وسبياً، إلا ما كان من جبل بلنقة (أى فليا لونجا)، فإن الله تعالى أعانهم على عدوهم، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، مات فيها صاحب قرطبة، وأخرجوا على الأمان إلى فاس بعيالهم وما خف من أموالهم دون الذخائر. ثم بعد هذا كله كان من أظهر التنصير من المسلمين، يعبد الله خفية ويصلى، فشدد عليهم النصارى فى البحث، حتى أنهم أحرقوا منهم كثيراً بسبب ذلك، ومنعوهم من ¬_______ (¬1) Prescott: ibid ; p. 467 (¬2) P. Longas (Cit. B. de Pedraza: Hist. Eclesiastica) : Vida Religiosa de los Moriscos (p. LII)

حمل السكين الصغيرة، فضلا عن غيرها من الحديد، وقاموا فى بعض الجبال على النصارى مراراً، ولم يقبض الله تعالى لهم ناصراً (¬1). ومضت السياسة الإسبانية فى اضطهادها المسلمين والموريسكيين بمختلف الفروض والوسائل. وكان من الإجراءات الشاذة التى اتخذت فى هذا السبيل، تشريع أصدره فرناندو بإلزام المسلمين والموريسكيين فى المدن، بالسكنى فى أحياء خاصة بهم، على نحو ما كان متبعاً نحو اليهود فى العصور الوسطى. ونفذ هذا التشريع فى غرناطة عقب حركة التنصير الشامل، وأفرد بها المسلمين والمتنصرين حيان، أحدهما يضم نحو خمسمائة منزل وهو الحىّ الصغير وهو داخل المدينة، والثانى يضم نحو خمسة آلاف منزل، ويشمل ضاحية البيازين. وكانت الأحياء التى يشغلها المسلمون أو المتنصرون فى المدن الأندلسية تسمى "موريريا" Moreria أو أحياء الموريسكيين، على نحو ما كانت أحياء اليهود الخاصة تسمى "الجيتو" Ghetto. وكانت تفصل بينها وبين أحياء النصارى أسوار كبيرة، وكان عدد المسلمين الذين بقوا فى غرناطة يبلغ فى ذلك الحين نحو أربعين ألفاً (¬2). وصدر فى نفس الوقت فى سبتمبر سنة 1501، قانون يحرم على المسلمين إحراز السلاح علناً أو سراً، وينص على معاقبة المخالفين لأول مرة بالحبس والمصادرة، ثم بالموت بعد ذلك، وهو قانون تكرر صدوره بعد ذلك غير مرة، فى ظروف وعصور مختلفة، وكان يطبق بصرامة بالأخص كلما حدث من الموريسكيين هياج أو مقاومة مسلحة تخشى عواقبها. وكانت السياسة الإسبانية تخشى احتشاد الموريسكيين وتجمعاتهم فى مملكة غرناطة، ولهذا صدر فى فبراير سنة 1515 مرسوم ملكى أعلن فى طليطلة، وفيه يحرم بتاتاً على المسلمين المتنصرين حديثاً، والمدجنين من أى جهة من مملكة قشتالة، ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 616 و 617. وراجع أخبار العصر ص 55. (¬2) Dr. Lea: The Moriscos; p. 31, 151 & 152. ويبدو هذا الالتزام بسكنى المسلمين فى أحياء خاصة فى غرناطة وغيرها من المدن الأندلسية القديمة فى كثير من المراسم الملكية التى صدرت منذ سنة 1500. مثال ذلك المرسوم الصادر بالإعفاء لأهل بسطة، والذى أشرنا إليه من قبل Arch. gen. P. R. 11 - 107، والمرسوم الصادر بالعفو عن سكان " حىّ المسلمين " Moreria فى غرناطة الذى سبقت الإشارة إليه أيضاً (ص 320)

أن يخترقوا أراضى مملكة غرناطة، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة. ونص هذا المرسوم أيضاً بأنه يحرم بتاتاً على المتنصرين حديثاً فى مملكة غرناطة أو فى أية جهة أخرى من المملكة، أن يبيعوا أملاكهم لأى شخص دون ترخيص سابق، ومن فعل عوقب بالموت والمصادرة، وذلك لأنه تبين كما ورد فى المرسوم، أن كثيراً من المسلمين المتنصرين يبيعون أملاكهم، ويحصلون على أثمانها، ثم يعبرون إلى المغرب، وهنالك يعودون إلى الإسلام (¬1). ¬_______ (¬1) Archivo general de Simancas, P. R. Legajo 8, Fol. 120

الفصل الثانى ديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية

الفصل الثانى ديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية أصل الفكرة فى محاكم التحقيق الأولى. إجراءاتها وعقوباتها. التوسع فى اختصاصاتها. قيام محاكم التحقيق فى أراجون. النزعة الصليبية فى اسبانيا. مطاردة اليهود المتنصرين. محاولة البابوية إقامة الديوان فى قشتالة. معارضة فرناندو وإيسابيلا. مساعى الأحبار والقس تركيمادا. موافقة فرناندو وإيسابيلا. صدور المرسوم البابوى بإنشاء ديوان التحقيق فى قشتالة. قيام ديوان التحقيق الإسبانى. بداية نشاطه فى إشبيلية. اتساع نطاق أعماله. إنشاء المجلس الأعلى أو السوبريما. المحقق العام. جهود تركيمادا فى تنظيم الديوان. إجراءات ديوان التحقيق. التبليغ وطرقه وآثاره. الأحبار المقررون. القبض على المتهم. سجون الديوان. المحاكمة وإجراءاتها. الإحالة على التعذيب. أحكام التعذيب. تعليق الدون لورنتى. أنواع التعذيب وإجراءاته. الإستجواب. الدفاع والمرافعات. الأحكام. تنفيذ العقوبة. حكم الإعدام. الأوتو دافى. محاكمة الغائبين والمتوفين. أثر الأحكام. بطش الديوان وحصانة المحققين. موقف العرش. خمنيس وجهوده فى إصلاح الديوان. شارل الخامس وموقفه من الديوان. بدء مطاردة المدجنين والموريسكيين. مهمة محاكم التحقيق. فكرة القضاء على الأمة الأندلسية. ديوان التحقيق يضطلع بهذه المهمة. اضطهاد الموريسكيين وريب الكنيسة فى إخلاصهم. تحرجهم من دينهم الجديد. أقوال الرواية القشتالية. وثيقة عربية تؤيد تمسكهم سراً بدينهم القديم، وتحايلهم على نبذ شعائر النصرانية. السياسة الإسبانية نحو الموريسكيين. إجراءات القمع. ذرائع الإتهام. الشبهات الخطرة. الموريسكيون فى غرناطة وبلنسية. استغاثة الموريسكيين بالسلطان بايزيد الثانى. وثيقة عربية عن أحوالهم وآلامهم. قام ديوان التحقيق ( La Inquisicion) فى مطاردة الموريسكيين بأعظم دور، وترك فى مأساتهم أعمق الأثر، ومن ثم فإنه يجدر بنا أن نتحدث عن تاريخ هذه المحاكم الشهيرة، ونظمها وأعمالها الرهيبة. ويرجع قيام محاكم التحقيق إلى فكرة الرقابة القديمة على العقيدة، والتحقق من سلامتها ونقائها. وقد ظهرت فكرة التحقيق فى أمر العقائد فى الكنيسة الرومانية فى عصر مبكر جداً، وبدىء بتطبيقها منذ أوائل القرن الثالث عشر، فكان البابا يعهد إلى الأساقفة وإلى الآباء الدومنيكيين، فى تعقب المارقين والكفرة ومعاقبتهم. وطبق هذا النظام منذ البداية فى إيطاليا وألمانيا وفرنسا. وكان مندوبو البابوية

يتجولون فى مختلف الأنحاء، لتقصى أخبار الكفرة والقبض عليهم ومعاقبتهم، وكانت تعقد لذلك مجالس كنسية مؤقتة كانت هى النواة الأولى لمحاكم التحقيق، تعمل حيث يوجد الكفرة والملاحدة، ثم تحل متى تمت مهمة مطاردتهم والقضاء عليهم. ثم أنشئت بعد ذلك مراكز ثابتة لمحاكم التحقيق، أقيم معظمها فى أديار الآباء الدومنيكيين والفرنسيسكانيين. ولم تك ثمة فى هذه العصور سجون خاصة أو مراكز خاصة لمحاكم التحقيق، وإنما كان يتخذ من أى مكان صالح مركزاً أو سجناً. وكان الأساقفة يتولون رياسة هذه المحاكم، ولهم سلطة مطلقة. وكانت التحقيقات والمرافعات تجرى بطريقة سرية، وتصدر الأحكام على المتهمين نهائية غير قابلة للطعن. وكان يسمح للنساء والصبية والعبيد بالشهادة ضد المتهم وليس له، ويؤخذ الإعتراف من المتهم بالخديعة والتعذيب. وكان التعذيب يعتبر طبقاً للقوانين الكنسية وسيلة غير مشروعة للاعتراف، ولكن البابوية لم تجد بأساً من إقرار هذه الوسيلة. وكانت السجون التى يستعملها ديوان التحقيق مظلمة رهيبة، يموت فيها الكثيرون من المرض والآلام النفسية. وكان السجناء يصفدون عادة بالأغلال الثقيلة. وكانت العقوبات الرئيسية هى السجن المؤبد والإعدام والمصادرة. وكانت السلطات الدينية والبابوية تحصل على أوفر نصيب من الأموال المصادرة، وتحصل السلطات المدنية أيضاً على نصيبها منها. وألفى ديوان التحقيق ميداناً خصباً لنشاطه فى مطاردة الألبيين (¬1) وغيرهم من الملاحدة الذين ظهروا منذ أوائل القرن الثالث عشر فى جنوب فرنسا. وفى عهد لويس التاسع ملك فرنسا وضع أول قانون ينظم إجراءات هذه المحاكم الكنسية الجديدة. وكان ديوان التحقيق فى تلك العصور يصدر أيضاً أحكامه ضد الكتب المحرمة، ويأمر بإحراقها، ومن ذلك أحكام صدرت بإحراق التلمود وبعض كتب أرسطو وغيرها من كتب الفلسفة فى العهد القديم. ثم اتسع اختصاص محاكم التحقيق بمضى الزمن، فلم تبق مهمتها قاصرة على مطاردة الكفر، والزيغ فى العقيدة، بل تعدته إلى مطاردة السحر والسحرة والعرافة والعرافين، وشبه هؤلاء بالكفرة. وجاء بعد ذلك دور اليهود، فاتهموا بسب النصرانية وأخذت عليهم مزاولة الربا، وتتبعهم ديوان التحقيق بالمطاردة والعقاب. على أن الديوان لم ينس دائماً أن مهمته الأصلية تنحصر فى مطاردة الكفر والزيغ، والمحافظة على سلامة العقيدة الكاثوليكية ونقائها. ¬_______ (¬1) نسبة إلى "ألبى" وهى مدينة بجنوبى فرنسا، وكانت من أهم مراكز هذه الطائفة الملحدة

- 2 - تلك هى الظروف التى قامت فيها محاكم التحقيق الأولى، فى مختلف أنحاء أوربا، فى إيطاليا وألمانيا وفرنسا. ويرجع قيام ديوان التحقيق الإسبانى إلى نفس البواعث الدينية، ولكنه نشأ مع ذلك نشأة مستقلة، وأحاطت بقيامه ظروف خاصة. وقد أنشئت محاكم التحقيق فى مملكة أراجون منذ أوائل القرن الثالث عشر، ووضعت لها فى سنة 1242 م إجراءات جديدة، كان لها فيما بعد أكبر الأثر فى صوغ نظم ديوان التحقيق الإسبانى. وعرف هذا الديوان الأرجونى بالديوان القديم وعكف حيناً على مطاردة طوائف الألبيين، وإخماد دعوتهم فى أراجون، ولم يلبث أن غدا سلطانه، وغدت وسائله وإجراءاته مثار الرهبة والروع. على أن هذه لم تكن سوى بداية محدودة المدى لنشاط ديوان التحقيق الإسبانى. ذلك أن ظروف اسبانيا النصرانية فى ذلك العصر، واضطرام الصراع الأخير بينها وبين اسبانيا المسلمة، ورجحان كفتها فى ميدان الحرب والسياسة، كانت كلها تذكى النزعة الصليبية، التى كانت تجيش بها اسبانيا دائماً. وكانت الأمة الأندلسية قد استحالت منذ القرن الرابع عشر، إلى طوائف كبيرة من المدجنين فى مهاد عزها القديم، فى قشتالة وأراجون، ولم تبق منها سوى بقية أخيرة تحتشد فى مملكة غرناطة الصغيرة، التى كان مصيرها المحتوم يلوح قوياً فى الأفق. وكان تفوّق اسبانيا النصرانية ونصرها المضطرد، يذكى عوامل التعصب الدينى الذى تبثه الكنيسة وترعاه، وتتخذه اسبانيا الظافرة يومئذ شعارها المفضل فى ميدان السياسة. وكانت موجة من التعصب تضطرم فى هذا الوقت بالذات، حول طوائف المتنصرين من اليهود ( Conversos) ؛ وكان أولئك المحدثون فى النصرانية، قد سما شأنهم ووصل كثير منهم إلى المناصب الكنسية الكبيرة، وإلى مجلس الملك، وتبوأوا بأموالهم ونفوذهم مكانة قوية فى الدولة والمجتمع، وكان أحبار الكنيسة ينظرون إليهم بعين الريب، ويعتبرونهم شراً من اليهود الخلص أنفسهم، ويتهمونهم بالإلحاد والزيغ، ومزاولة شعائرهم القديمة سراً. ولما تفاقم الإتهام من حولهم صدر فى سنة 1465 م فى عهد الملك هنرى الرابع ملك قشتالة، أمر ملكى إلى الأساقفة، بالاستقصاء والبحث فى دوائرهم، وتتبع هذا اللون من المروق والزيغ ومعاقبة المارقين، وتلا ذلك موجة من الاضطهاد اتخذت صورة المحاكمات الدينية،

وأحرق عدد من أولئك المتنصرين. ولكن قشتالة التى شغلت يومئذ بمشاكلها الداخلية، لم تعن بأمر المتنصرين ولم تزعجهم. وهنا تدخل البابا سكستوس الرابع، وحاول أن يدخل نظام التحقيق فى قشتالة، فأرسل إليها مبعوثاً بابوياً مزوداً بكل السلطات، للتحقيق والقبض على المارقين ومعاقبتهم. ولكن فرناندو وإيسابيلا وقفا فى وجه هذه المحاولة حرصاً على سلطانهما، وحداّ من سلطة الكنيسة، وأغضت إيسابيلا مدى حين عن تحريض الأحبار، على مطاردة الكبراء المنتمين إلى أصل يهودى إذ كانت تثق بهم وبصادق نياتهم وغيرتهم فى خدمة الدولة والعرش. على أن هذه المقاومة لم تلبث طويلا. ذلك أن كل الظروف كانت تمهد لظفر السياسة الكنسية، فلم تلبث أن غلبت مساعى الأحبار، وقبل الملكان إنشاء ديوان التحقيق فى قشتالة، ليضطلع بمثل المهام الخطيرة التى يضطلع بها فى أراجون. وهنا يقال إن الفضل فى إقناع الملكة إيسابيلا بتحقيق هذه الفكرة يرجع إلى القس توماس دى تُركيمادا رئيس دير الآباء الدومنيكان فى سانتا كروث بشقوبية، وقد كان معترف الملكة وله عليها نفوذ قوى، فقيل إنه استطاع أن يحصل منها قبل اعتلائها العرش، على وعد بأنها متى ظفرت بالملك، فإنها تكرس حياتها لسحق الكفر وحماية الكثلكة، وأنه كان أكثر العاملين على إقناعها بالموافقة على إنشاء ديوان التحقيق. وفى سنة 1478 أرسل فرناندو وإيسابيلا سفيرهما إلى البابا، للحصول على المرسوم البابوى، وصدر المرسوم بالفعل فى نوفمبر من هذا العام بالتصريح بإنشاء ديوان التحقيق فى قشتالة، وتعيين المحققين "لمطاردة الكفر ومحاكمة المارقين"، واتخذت الخطوة الحاسمة لتنفيذ المرسوم فى سبتمبر سنة 1480، حيث ندب المحققون الثلاثة الأول، وأنشئت محكمة التحقيق الأولى فى إشبيلية. وهكذا بدأ ديوان التحقيق الإسبانى نشاطه المروع فى قشتالة. - 3 - وبدأ الديوان أعماله فى إشبيلية بإصدار قرارات يحث فيها كل شخص أن يساعد الديوان، فى البحث عن الملحدين والكفرة، وكل من فى عقيدتهم زيغ، وفى جمع الأدلة على إدانتهم، وفى التبليغ عنهم بأية وسيلة، وانقضت العاصفة بالأخص على اليهود المتنصرين، وكانت منهم طائفة كبيرة فى إشبيلية، فلم يمض عام حتى بلغت ضحاياهم ألوفاً أحرق منهم عدد كبير، وعوقب الكثيرون بالسجن والغرامات الفادحة، والمصادرة والتجريد من الحقوق المدنية

وحاول كثير من المتنصرين النجاة بالفرار إلى ضياع الأشراف، فصدر أمر ملكى بتسليم الهاربين إلى محكمة التحقيق، وهدد الأشراف بفقد وظائفهم والنفى من الكنيسة، إذا تخلوا عن تنفيذ الأمر. وحاول بعض أكابر المتنصرين فى الوقت نفسه تدبير مؤامرة، لمقاومة محكمة التحقيق والفتك بأعضائها، ولكن المؤامرة اكتشفت وقبض على كثير منهم، وقضى بإعدام البعض حرقاً، وبذا سحقت كل مقاومة لنشاط الديوان الجديد. واتسع نشاط الديوان بسرعة، واستصدر الملكان من البابا مرسوماً بتعيين سبعة من "المحققين" الجدد (فبراير سنة 1482)، وأنشئت على أثر ذلك محاكم التحقيق فى قرطبة وجيان وشقوبية وطليطلة وبلد الوليد، وشمل نشاط الديوان سائر أنحاء المملكة الإسبانية (قشتالة وأراجون). وكان فرناندو وإيسابيلا يرميان إلى أن تسبغ الصفة القومية على ديوان التحقيق، وأن يكون سلطانه مستمداً من العرش، أكثر مما هو مستمد من البابوية. ولتحقيق هذه الغاية رؤى أن ينظم الديوان على أسس جديدة. وكان الديوان قد غدا فى الواقع أداة هامة مرهوبة الجانب، ولابد لهذه الأداة من سلطة عليا تقوم بالتوجيه والإرشاد. ومن ثم فقد صدر المرسوم البابوى فى سنة 1483 بإنشاء مجلس أعلى لديوان التحقيق ( Suprema) له اختصاص مطلق فى كل ما يتعلق بشئون الدين، ويتألف من أربعة أعضاء منهم الرئيس، وأطلق على منصب الرئيس منصب "المحقق العام" Inquisitor General، وصدر المرسوم البابوى فى أكتوبر سنة 1483 بتعيين القس توماس دى تركيمادا معترف الملكين، فى هذا المنصب الخطير، وخول فى الوقت نفسه سلطة مطلقة فى وضع دستور جديد للديوان المقدس. وكان تركيمادا حبراً شديد التعصب، وافر البأس والعزم، فبذل فى تنظيم الديوان وتوطيد سلطانه جهوداً عظيمة، وبث إليه روحاً من الصرامة. وكان جل غايته أن يجعل من ديوان التحقيق الإسبانى، أداة قومية تعمل وفقاً لحاجات اسبانيا، وقد وفق فى تحقيق هذه الغاية إلى أبعد حد. وبدىء بوضع دستور الديوان الجديد فى سنة 1485، على يد جمعية من المحققين العامين عقدت فى إشبيلية، ووضعت طائفة من القرارات واللوائح، ثم عقدت بعد ذلك جمعية أخرى فى بلد الوليد سنة 1488 ووضعت عدة لوائح جديدة، وعقدت جمعية ثالثة فى آبلة سنة 1498. وتولى المجلس الأعلى (السوبريما) بعد ذلك صياغة اللوائح وتنقيحها. وكان هذا

التنظيم عظيم الأثر فى تطور ديوان التحقيق الإسبانى. ذلك أنه غدا من ذلك الحين محكمة قومية مستقلة، وغدا سلطة يخافها أعظم العظماء فى اسبانيا، ويرتجف لذكرها الفرد العادى، وأضحى نشاطها الرهيب، وقضاؤها المدمر، عنصراً بارزاً فى التاريخ الإسبانى، يقوم بدوره الفعال فى دفع اسبانيا إلى شفا المنحدر، الذى لبثت تتردى فى غمره زهاء ثلاثة قرون. ولبث تُركيمادا فى منصب المحقق العام حتى توفى فى سنة 1498. وفى عهده اشتد نشاط محاكم التحقيق واتسعت أعمالها، وكان هذا القس المتعصب بالرغم من تقشفه، يعتبر بعد العرش أعظم سلطة فى اسبانيا، ويعيش فى قصور باذخة، وله حرس كبير من الفرسان والمشاة. وكان من جراء شدته وعسفه أن ندب البابا سنة 1494 إلى جانبه خمسة من المحققين العامين، يتمتع كل منهم بنفس سلطته. ولما توفى خلفه فى منصب المحقق العام ديجو ديسا أسقف جيان، واستمر فى منصبه حتى سنة 1507 م. - 4 - ونقدم الآن عرضاً موجزاً لإجراءات ديوان التحقيق. وسنرى أنها بأصولها وتفاصيلها، أبعد ما يكون عن مبادىء المنطق والعدالة، وأشد ما يكون عسفاً وقسوة وهمجية. تبدأ قضايا الديوان أو محاكماته الفرعية، بالتبليغ أو ما يقوم مقامه، كورود عبارة فى قضية منظورة تلقى شبهة على أحد ما. ولا فرق بين أن يكون التبليغ مع شخص معين أو يكون غفلا. ففى الحالة الأولى يدعى المبلغ ويذكر أقواله وشهوده، وتعتبر أقوال المبلغ وشهوده "تحقيقاً تمهيدياً". كذلك يمكن التبليغ بواسطة "الإعتراف" الذى يتلقاه القسس، ولهم أن يبلغوا عما يقعون عليه من حالات الإشتباه فى العقائد، ولا توضح لهم الوقائع التى يُسئلون عنها بل يسئلون بصفة عامة، عما إذا كانوا قد رأوا أو سمعوا شيئاً يناقض الدين الكاثوليكى أو حقوق الديوان. ويقوم الديوان فى الوقت نفسه بإجراء التحريات السرية المحلية عن المبلغ ضده. ثم تعرض نتيجة التحقيق التمهيدى على " الأحبار المقررين " ليقرروا ما إذا كانت الوقائع والأقوال المنسوبة إلى المبلغ ضده تجعله مرتكباً لجريمة الكفر أو تلقى عليه فقط شبهة ارتكابها. وقرارهم يحدد الطريقة التى تتبع فى سير القضية. ويقسم المقررون يمين الكتمان أيضاً، وكان معظم أولئك المقررين من القسس الجهلاء المتعصبين، ومن ثم فقد كانت

أخلاقهم وآراؤهم، بل ذمتهم وشرفهم مثاراً للريب، وكان رأيهم الإدانة دائماً إلا فى أحوال نادرة. وعلى أثر صدور هذا التقرير، يصدر النائب أمره بالقبض على المبلغ ضده وزجه إلى سجن الديوان السرى. وكانت سجون الديوان المخصصة لاعتقال المتهمين بالكفر أو الزيغ، وهى المعروفة بالسجون السرية، غاية فى الشناعة والروعة، تتصل مباشرة بغرف التحقيق والعذاب، عميقة مظلمة رطبة تغص بالحشرات والجرذان. ويصفد المتهمون بالأغلال (¬1). ويقول لورنتى مؤرخ ديوان التحقيق الإسبانى إن أفظع ما فى أمر هذه السجون هو أن من يزج إليها، يسقط فى الحال فى نظر الرأى العام، وتلحقه وصمة لا تلحقه من أى سجن آخر مدنى أو دينى، وفيها يسقط فى غمار حزن لا يوصف وعزلة عميقة دائمة، ولا يعرف إلى أى مدى وصلت قضيته، ولا ينعم بتعزية مدافع عنه. غير أن لورنتى ينفى تصفيد المتهمين بالأغلال الثقيلة فى أرجلهم وأيديهم وأعناقهم، ويقول إن هذا الإجراء لم يكن يتبع إلا فى أحوال نادرة (¬2). ويقول الدكتور لى: "كان القبض الذى يجريه ديوان التحقيق فى ذاته عقوبة خطيرة. ذلك أن أملاك السجين كلها تصادر وتصفى على الفور، وتقطع جميع علائقه بالعالم حتى تنتهى محاكمته. وتستغرق المحاكمة عادة من عام إلى ثلاثة، لا يعرف السجين أو أسرته خلالها شيئاً عن مصيره، وتدفع نفقات سجنه من ثمن أملاكه المصفاة، وكثيراً ما تستغرقه المحاكمة" (¬3). ولا يخطر المتهم بالتهم المنسوبة إليه، ولكنه يمنح عقب القبض عليه ثلاث جلسات فى ثلاثة أيام متوالية، تعرف بجلسات الرأى أو الإنذار، وفيها يطلب إليه أن يقرر الحقيقة، ويوعد بالرأفة إذا قرر وفق ما ينسب إليه، وينذر بالشدة والنكال إذا كذب أو أنكر، لأن "الديوان المقدس" لا يقبض على أحد دون قيام الأدلة الكافية على إدانته، وهى طريقة غادرة محيرة. فإذا اعترف المتهم بما ينسب إليه ولو كان بريئًا، اختصرت الإجراءات وقضى عليه بعقوبة أخف، ولكنه إذا اعترف بأنه كافر مطبق، فإنه ¬_______ (¬1) Dr. Lea: History of the Inquisition of Spain, V. I. Chap. IV (¬2) Don S. A. Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana (1815-1817) وهو مؤلف نقدى ضخم ويمتاز بكون مؤلفه اسبانى، وهو حبر خدم ديوان التحقيق أعواماً طويلة. وكان فى أواخر حياته يشغل فيه منصب السكرتير العام. (¬3) Dr. Lea: The Moriscos of Spain

لا ينجو من عقوبة الموت، مهما كانت الوعود التى بذلت له بالرأفة والعفو. فإذا أبى المتهم الاعتراف بعد الجلسات الثلاث، وضع النائب له قرار الإتهام طبقاً لما ورد فى التحقيق من الوقائع، وذلك مهما كانت الأدلة المقدمة من الركاكة والضعف. بيد أن أفظع ما يحتويه القرار هو إحالة المتهم على التعذيب، وغالباً ما يطلب النائب هذه الإحالة، وذلك بالرغم من اعتراف المتهم بما ينسب إليه، لأنه يفترض دائماً أنه أخفى أو كذب فى اعترافه. وتصدر المحكمة قرار التعذيب مجتمعة بهيئة غرفة مشورة. وكان قرار التعذيب فى العصور الأولى يصدر عقب الاشتباه والقبض فوراً. وقد استعمل التعذيب فى محاكم التحقيق للحصول على الإعتراف، منذ منتصف القرن الثالث عشر. وكان التعذيب فى قشتالة إجراء يسوغه القضاء العادى، وكان يعتبر وسيلة مشروعة لنيل الإعتراف، فلم يكن غريباً أن يدمجه ديوان التحقيق فى دستوره. وقد نوه كثير من المؤرخين بروعة الإجراءات والوسائل التى كانت تلجأ إليها محاكم التحقيق فى توقيع العذاب. ويعلق عليها دون لورنتى بقوله: "لست أقف لأصف ضروب التعذيب التى كان يوقعها ديوان التحقيق على المتهمين، فقد رواها بما تستحق من الدقة كثير من المؤرخين، ولكنى أصرح أن أحداً منهم لا يمكن أن يتهم بالمبالغة فيما روى. ولقد تلوت كثيراً من القضايا، فارتجفت لها اشمئزازاً وروعاً، ولم أر فى "المحققين " الذين التجأوا إلى تلك الوسيلة إلا رجالا بلغ جمودهم حد الوحشية" (¬1). بيد أن مؤرخاً حديثاً لديوان التحقيق هو الدكتور لى يرى فى هذه الأقوال مبالغة، ويقول لنا إن ديوان التحقيق لم يكن فى إجراءاته الخاصة بالتعذيب، أكثر قسوة أو إرهاقاً من القضاء العادى، وأن ديوان التحقيق الرومانى، كان فى إجراءاته أشد قسوة وفظاعة من الديوان الإسبانى (¬2). وكان معظم أنواع التعذيب المعروفة فى العصور الوسطى، تستعمل فى محاكم التحقيق، ومنها تعذيب الماء، وهو عبارة عن توثيق المتهم فوق أداة تشبه السلم وربط ساقيه وذراعيه إليها، مع خفض رأسه إلى أسفل، ثم توضع فى فمه من زلعة جرعات كبيرة، وهو يكاد يختنق، وقد يصل ما يتجرعه إلى عدة لترات. وتعذيب "الجاروكا" وهو عبارة عن ربط يدى المتهم وراء ظهره، وربطه بحبل حول راحتيه وبطنه، ورفعه وخفضه معلقاً، سواء بمفرده أو مع أثقال تربط معه، ¬_______ (¬1) Liorente: ibid. (¬2) Dr. Lea: The History of the Inquisition ; V. III. Ch. VII

وتعذيب الأسياخ المحمية للقدم، والقوالب المحمية للبطن العجز، وسحق العظام بآلات ضاغطة، وتمزيق الأرجل، وفسخ الفك، وغيرها من الوسائل البربرية المثيرة. ولم يك ثمة حدود مرسومة لروعة التعذيب وآلامه. ولما كان التعذيب يعتبر خطراً لا يؤمن عواقبه، نظراً لاختلاف المتهمين فى قوة البنية والاحتمال المادى والعقلى، فإنه لم يك ثمة قواعد معينة تتبع فى إجراء التعذيب، بل كان الأمر يترك لتقدير القضاة وحكمهم وضمائرهم (¬1). ولا يحضر التعذيب سوى الجلاد والأحبار المحققون، والطبيب إذا اقتضى الأمر، ولا يخطر المتهم بأسباب إحالته على التعذيب، ولا يسئل ليقرر وقائع معينة، بل يعذب ليقرر ما شاء، ويمكن الطعن فى القرار بطريق الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما) إلا فى أحوال استثنائية. ولكن الطعن لا يقبل ولا ينظر، حيثما كان القانون صريحاً فى وجوب إجراء التعذيب. وقد يأمر الطبيب بوقف التعذيب إذ رأى حياة المتهم فى خطر، ولكن التعذيب يستأنف متى عاد المتهم إلى رشده أو جف دمه، فإذا اعترف المتهم واعتبر القضاة اعترافه صحيحاً، بمعنى أنه يتضمن عنصر التوبة، كف عن تعذيبه، وإذا استطاع المتهم احتمال العذاب وأصر على الإنكار، لم يفده ذلك شيئاً، لأن القضاة يتخذون غالباً من الوقائع المنسوبة للمتهم أدلة على الإدانة، ويحكم عليه طبقاً لهذا الاعتبار. ويجب أن يؤيد المعترف ما قاله وقت التعذيب، باعتراف حر يقرره فى اليوم التالى، وذلك حتى يؤكد صحة الإعتراف، فإذا أنكر أو غيّر شيئاً أعيد إلى التعذيب. وبعد انتهاء التعذيب يحمل المتهم ممزقاً دامياً إلى قاعة الجلسة، ليجيب عن التهم التى توجه إليه لأول مرة، ويسئل عند تلاوة كل تهمة عن جوابه عنها مباشرة، ثم يسئل عن دفاعه. وكان مبدأ الدفاع أمراً مقرراً من الوجهة النظرية، فإن كان له دفاع، اختارت المحكمة له محامياً من المقيدين فى سجل الديوان للدفاع عنه، وقد يسمح للمتهم باختيار محام من الخارج فى بعض الأحوال الاستثنائية، ويقسم المحامى اليمين بأن يؤدى مهمته بأمانة، وألا يعرقل الإجراءات بسوء نية، وأن يتخلى عن موكله إذا تبين له فى أية مرحلة من مراحل الدعوى، أن الحق ليس فى جانبه. على أن الدفاع لم يكن فى الغالب سوى ضرب من السخرية، ولم يكن عملا مأمون العاقبة، ولم يكن يسمح للمحامى أن يطلع على أوراق القضية الأصلية، أو يتصل المتهم ¬_______ (¬1) Dr. Lea: ibid ; V. III ; p. 22

على انفراد، بل تقدم إليه خلاصة التحقيق مرفقة بقرار الإحالة وقرار الإتهام. وكان المحامى الذى يبدى فى تأدية مهمته غيرة خاصة، يخاطر بأن يقع تحت سخط الديوان. وبعد المرافعة واستجواب المتهم، تحال القضية على الأحبار المقررين ليبدوا فيها رأيهم من جديد. وكانت هذه خطوة حاسمة فى الواقع، لأنها تمهيد إلى الحكم النهائى. ويصدر الأحبار المقررون قرارهم، وقلما كان يختلف عن القرار الأول. فإذا كان الحكم بالإدانة، كان للمتهم فرصة الاستئناف أمام المجلس الأعلى (السوبريما). بيد أنها كانت على الأغلب فرصة عقيمة، إذ قلما كان المجلس الأعلى ينقض حكماً من الأحكام. وكان للمتهم أيضاً أن يلتمس العفو من الكرسى الرسولى. وكانت الخزانة البابوية تغنم من هذه الإلتماسات أموالا طائلة، فكانت فرصة لا يستفيد منها سوى ذوى الغنى الطائل. وقلما كان يصدر حكم البراءة أو "الإقالة"، إذ أن أقل شك فى براءة المتهم براءة مطلقة، كان يوجب اعتباره مذنباً من النوع الخفيف de Levi، وعندئذ تصدر عليه عقوبات تتناسب مع ذنبه، ويقضى عليه أن يتطهر من كل شبهة للكفر وفقاً لإجراءات معينة. وإذا قضى بالبراءة وهو ما يندر وقوعه، أطلق سراح المتهم، وأعطيت له شهادة بطهارته من الذنوب، وهى كل ما يعوض به، عما أصابه فى شخصه وفى شرفه وماله، من ضروب الأذى والألم. وأما إذا قضى بالإدانة، فإن الحكم لا يبلغ إلى المتهم إلا عند التنفيذ، وهو إجراء من أشنع الإجراءات الجنائية التى عرفت، فيؤخذ المتهم من السجن دون أن يدرى مصيره الحقيقى، ويجوز رسوم الإيمان "الأوتودافى" Auto-da-fé وهى الرسوم الدينية التى تسبق التنفيذ، وخلاصتها أن يلبس الثوب المقدس، ويوضع فى عنقه حبل وفى يده شمعة، ويؤخذ إلى الكنيسة ليجوز رسوم التوبة، ثم يؤخذ إلى ساحة التنفيذ، وهنالك يتلى عليه الحكم لأول مرة. وقد يكون الحكم فى حالة المتهم الخطيرة بالسجن المؤبد والمصادرة، أو بالإعدام حرقاً فى حالة "الكفر الصريح"، وقد يكون فى حالة الذنوب الخفيفة، بالسجن لمدة محدودة أو بالغرامة، وهو ما يسمى حكم "التوفيق". وكانت أحكام الإعدام، هى الغالبة فى عصور الديوان الأولى فى قضايا الكفر. وكان التنفيذ يقع فى ساحات المدن الكبيرة، وفى احتفال رسمى يشهده الأحبار والكبراء بأثوابهم الرسمية، وقد يشهده الملك. وكان يقع على الأغلب جملة،

فينفذ حكم الحرق فى عدد من المحكوم عليهم، قد يبلغ العشرات أحياناً، وينتظم الضحايا فى موكب (الأوتودافى) Auto-da-fé التى اشتهرت فى اسبانيا منذ القرن الخامس عشر، والتى كانت بالرغم من كل مناظرها الرهيبة من الحفلات العامة، التى تهرع لشهودها جموع الشعب. ومما يذكر فى ذلك، أن فرناندو الكاثوليكى كان من عشاق هذه المواكب الرهيبة، وكان يسره أن يشهد حفلات الإحراق، وكان يمتدح الأحبار المحققين كلما نظمت حفلة منها (¬1). وكان قضاء محاكم التحقيق بطيئاً، يبث اليأس فى النفوس، وكان الأمر يترك لهوى القضاة فى تحديد مواعيد دعوة المتهم، والسير بإجراءات الدعوى، وكانت الإجراءات والمرافعات تستغرق وقتاً طويلا، وقد تستغرق الأعوام أحياناً، وقد يموت المتهم فى سجنه قبل أن يصدر الحكم فى قضيته. وكان دستور ديوان التحقيق يجيز محاكمة الموتى والغائبين. وتصدر الأحكام فى حقهم وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو تنبش قبورهم وتستخرج رفاتهم، لتحرق فى موكب "الأوتودافى"، وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضى بحرمانهم من تولى الوظائف العامة، وامتهان بعض المهن الخاصة، وبذا يؤخذ الأبرياء بذنب المحكوم عليه (¬2). - 5 - هذا استعراض موجز لإجراءات تلك المحاكم الكنسية الشهيرة، التى سودت بقضائها المروع صحف التاريخ الإسبانى زهاء ثلاثة قرون. وقد بث ديوان التحقيق منذ قيامه بقضائه وأساليبه، حوله جواً من الرهبة والروع. ولما ذاع بطشه وعسفه، عمد كثير من النصارى المحدثين من يهود ومسلمين إلى الفرار، حتى اضطرت الحكومة إلى أن تصدر فى سنة 1502، قراراً يحرم على ربان أية سفينة وأى تاجر، أن ينقل معه نصرانياً محدثاً دون ترخيص خاص، وقبض بهذه الصورة على كثيرين من النصارى المحدثين، فى مختلف الثغور الإسبانية، وأحيلوا إلى محاكم التحقيق. ¬_______ (¬1) Dr. Lea: ibid ; V. I. (¬2) رجعت فى معظم ما ورد عن دستور ديوان التحقيق وإجراءاته، إلى كتابى "ديوان التحقيق والمحاكمات الكبرى" الفصل الأول ص 24 - 32

وكان أعضاء محاكم التحقيق يتمتعون بحصانة خارقة، وسلطان مطلق تنحنى أمامه أية سلطة، وتحمى أشخاصهم وتنفذ أوامرهم بكل وسيلة. وكان من جراء هذه السلطة المطلقة، وهذا التحلل من كل مسئولية، أن ذاع فى هذه المحاكم العسف وسوء استعمال السلطة، والقبض على الأبرياء دون حرج، بل كثيراً ما وجد بين المحققين رجال من طراز إجرامى، لا يتورعون عن ارتكاب الغصب والرشوة وغيرها لملء جيوبهم، وكانت أحكام الغرامة والمصادرة أخصب مورد، لاختلاس المحققين والمأمورين وعمال الديوان وقضاته، وكانت الخزينة الملكية ذاتها تغنم مئات الألوف من هذا المورد، هذا بينما يموت أصحاب هذه الأموال الطائلة فى السجن جوعاً (¬1). وكان يبلغ من عسف الديوان أحياناً أن يبسط حكم الإرهاب فى بعض المناطق، وهذا ما حدث فى قرطبة على يد المحقق العام لوسيرو، الذى يعتبر من أشد المحققين قسوة وإجراماً. ففى عهده ذاعت جرائم النهب واغتصاب البنات والزوجات، وتعالت الصيحة بالشكوى من هذا العدوان الفظيع، الذى يجرى باسم الديوان المقدس، وفى ظله، والذى يصم اسم الديوان والحكومة، واستغاث كبراء قرطبة بالملك، وجرت فى الموضوع تحقيقات طويلة انتهت بالقبض على المحقق العام وعزله (¬2). وكان العرش يعلم بأمر هذه الآثام المثيرة، التى تصم سمعة الديوان والمحققين، ولا يستطيع دفعاً لها، لما بلغه الديوان من السلطان الذى لا يناهضه سلطان آخر، ولأن العرش كان يرى فيه فى الوقت نفسه، أصلح أداة لتنفيذ سياسته فى إبادة الموريسكيين. وفى الوصية التى تركها فرناندو الكاثوليكى عند وفاته فى يناير سنة 1516، لحفيده شارل الخامس (كارلوس كنتو أو شرلكان)، ما يلقى ضياء على هذه الحقائق، ففيها يحث على حماية الكثلكة والكنيسة، واختيار المحققين ذوى الضمائر الذين يخشون الله، لكى يعملوا فى عدل وحزم، لخدمة الله وتوطيد الدين الكاثوليكى، كما يجب أن يضطرموا حماسة لسحق طائفة محمد (¬3). ولما توفى فرناندو، كان المحقق العام هو الكردينال خمنيس مطران طليطلة، الذى أبدى من الحماسة فى مطاردة المسلمين وتنصيرهم، ما سبقت الإشارة إليه، وقد حاول خمنيس أن يطهر قضاء الديوان وسمعته، فعزل كثيراً من المحققين الذين ¬_______ (¬1) Dr. Lea: ibid ; V. I. p. 190-192 (¬2) Dr. Lea: ibid ; V. I. p. 210 (¬3) Dr. Lea: ibid ; cit. Mariana ; V. I. p. 215

لا يُرغب فيهم، ولكنه لم يعش طويلا ليتم برنامجه فى الإصلاح، فعادت المساوىء القديمة أشد ما كانت، وسار الديوان فى قضائه المدمر وأساليبه المثيرة، لا يلوى على شىء. ولما جلس شارل الخامس على العرش كتب إليه مجلس قشتالة يقول: إن سلام المملكة وتوطيد سلطانه، يتوقفان على تأييده لديوان التحقيق. ولم ير شارل بعد فترة من التردد، إلا أن ينزل عند هذا النصح، وأن يفسح الطريق لسلطان الديوان القاهر، وذهبت كل الجهود للحد من عسف الديوان وعبثه سدى، وتوطد سلطان الديوان بقشتالة مدى قرون ثلاثة، كانت فى الواقع أخطر ما فى حياة الشعب الإسبانى (¬1). - 6 - وقد رأينا كيف أنشىء ديوان التحقيق الإسبانى فى الأصل، لمطاردة الكفر وحماية الكثلكة من شبه المروق والزيغ، وكان إنشاؤه فى قشتالة قبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وكان اليهود الذين تمتعوا عصوراً بالحرية والأمن، فى ظل الحكم الإسلامى، أول ضحايا سياسة الإرهاق والمحو التى رسمتها اسبانيا الجديدة. ذلك أنه ما كادت تسقط غرناطة فى أيدى الملكين الكاثوليكيين وما كاد اليهود ينتقلون إلى الحكم الجديد، حتى شهرت عليهم السياسة الإسبانية حربها الصليبية، وأصدر الملكان قرارهما الشهير فى 30 مارس سنة 1492، وهو يقضى بأن يغادر سائر اليهود -الذين لم يتنصروا- من أى سن وظرف، أراضى قشتالة فى ظرف أربعة أشهر من تاريخ القرار، وألا يعودوا إليها قط، ويعاقب المخالفون بالموت والمصادرة، ويجب ألا يقوم أحد من سكان مملكة قشتالة على حماية أو إيواء أى يهودى أو يهودية سراً أو جهراً متى انتهى هذا الأجل، ولليهود أن يبيعوا أملاكهم خلال هذه المدة، وأن يتصرفوا فيها وفق مشيئتهم (¬2). فأذعن كثير من اليهود للتنصير إشفاقاً على الوطن والمال، وهلك كثير منهم فى سجون الديوان المقدس ومحارقه، أو شردوا فى مختلف الأقطار بعد التجريد والحرمان. بل لم ينج المتنصرون منهم، من المطاردة والإرهاق لأقل الشبه حسبما قدمنا. ولقيت طوائف المدجنين من بقايا الأمة الأندلسية، وهى التى بقيت فى بعض مدن قشتالة وأراجون فى ظل الحكم النصرانى، نفس المصير المحزن. وبدأ ديوان التحقيق نشاطه فى قشتالة منذ ¬_______ (¬1) Dr. Lea: ibid ; V. I. p. 250 (¬2) Archivo general de Simancas: P. R. Legajo 28 ; Fol. 6

سنة 1480، قبيل انهيار مملكة غرناطة بقليل، وأقيمت محارقه الأولى فى إشبيلية عاصمة المملكة. فلما سقطت غرناطة، وطويت بسقوطها صفحة الدولة الإسلامية فى الأندلس، ووقع ملايين المسلمين فى قبضة اسبانيا النصرانية، ولما أكره المسلمون على التنصير، واستحالت بقايا الأمة الأندلسية إلى طوائف الموريسكيين، ألفى ديوان التحقيق فى هذا المجتمع النصرانى المحدث أخصب ميدان لنشاطه، وغدت محاكم التحقيق يد الكنيسة القوية فى تحقيق غايتها البعيدة. ذلك أن هذه المحاكم الشهيرة كانت تضطلع بمهمة مزدوجة دينية وسياسية معاً، فكانت تعمل باسم الدين لتحقيق أغراض السياسة، وكان للسياسة الإسبانية بعد ظفرها النهائى بإخضاع الأمة الأندلسية أمنية أخطر وأبعد مدى، هى القضاء على بقايا هذه الأمة المسلمة، وسحق دينها وكل خواصها الجنسية والاجتماعية، وإدماجها فى المجتمع النصرانى. ولم تشأ السياسة الإسبانية، أن تترك تحقيق هذه الغاية لفعل الزمن والتطور التاريخى، بل رأت نزولا على وحى الكنيسة وتوجيهها المباشر، أن تعجل بإجراءات التنصير والقمع، وأن تذهب فى ذلك إلى حدود من الإسراف والغلو، هى التى أسبغت على مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين صبغتها المفجعة، كما أسبغت على السياسة الإسبانية المعاصرة وصمة عار، لم يمحها إلى اليوم كر الأجيال والعصور. وقد اضطلع ديوان التحقيق الإسبانى بأعظم قسط من هذه الإجراءات الهمجية التى أريد بها تنفيذ حكم الإعدام فى أمة بأسرها، وأخضعت غرناطة لقضاء ديوان التحقيق منذ سنة 1499، أعنى مذ أكره المسلمون على التنصير، ولكنها جُعلت من اختصاص محكمة التحقيق فى قرطبة، وهكذا بدأ الديوان المقدس أعماله فى غرناطة، بحماسة يذكيها احتشاد الضحايا من حوله. ولم تغفل الرواية الإسلامية أن تشير إلى محارق ديوان التحقيق، أو إحراق المسلمين بتهمة المروق أو الزيغ، ولم يجد المسلمون الذين آثروا البقاء فى الوطن القديم، وأكرهوا على التنصير واعتناق الدين الجديد، ملاذاً أو عاصماً من الإضطهاد والمطاردة. ذلك أن الموريسكيين أو العرب المتنصرين لبثوا دائماً موضع البغض والريب، وأبت اسبانيا النصرانية بعد أن أرغمتهم على اعتناق دينها، أن تضمهم إلى حظيرتها، وأبت الكنيسة الإسبانية أن تؤمن بإخلاصهم لدينهم الجديد، ولبثت تتوجس من رجعتهم وحنانهم لدينهم القديم، وترى فيهم دائماً منافقين مارقين. وهكذا كانت السياسة الإسبانية، كما كانت الكنيسة الإسبانية، أبعد من أن تقنع بتنصير المسلمين الظاهرى، وإنما كانت

ترمى إلى إبادتهم، ومحو آثارهم ودينهم وحضارتهم، وكل ذكرياتهم. والواقع أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تنصرهم، نزولا على حكم القوة والإرهاب، مخلصين فى سرائرهم لدينهم القديم، ولم تستطع الكنيسة بالرغم من جهودها الفادحة أن تحملهم على الولاء لدين قاسوا فى سبيل اعتناقه ضروباً مروعة من الآلام النفسية والاضطهاد المضنى، وإليك ما يقوله فى ذلك مؤرخ إسبانى كتب قريباً من ذلك العصر، وأدرك الموريسكيين وعاش بينهم حيناً فى غرناطة: " كانوا يشعرون دائماً بالحرج من الدين الجديد، فإذا ذهبوا إلى القداس أيام الآحاد، فذلك فقط من باب مراعاة العرف والنظام، وهم لم يقولوا الحقائق قط خلال الاعتراف. وفى يوم الجمعة يحتجبون ويغتسلون ويقيمون الصلاة فى منازلهم المغلقة، وفى أيام الآحاد يحتجبون ويعملون. وإذا عُمد أطفالهم، عادوا فغسلوهم سراً بالماء الحار، ويسمون أولادهم بأسماء عربية، وفى حفلات الزواج متى عادت العروس من الكنيسة بعد تلقى البركة، تنزع ثيابها النصرانية وترتدى الثياب العربية، ويقيمون حفلاتهم وفقاً للتقاليد العربية" (¬1). وقد انتهت إلينا وثيقة عربية هامة تلقى ضوءاً كبيراً على أحوال الموريسكيين فى ظل التنصير، وتعلقهم بدينهم القديم، وكيف كانوا يتحايلون لمزاولة شعائرهم الإسلامية خفية، ويلتمسون من جهة أخرى سائر الوسائل والأعذار الشرعية التى يمكن أن تبرر مسلكهم، وتشفع لهم لدى ربهم، مما يرغمون على اتباعه من الشعائر النصرانية. وهذه الوثيقة هى عبارة عن رسالة وجهت من أحد فقهاء المغرب إلى جماعة العرب المتنصرين ممن يسميهم "الغرباء" يقدم إليهم بعض النصائح التى يعاون اتباعها على تنفيذ أحكام الإسلام خفية، وبطريق التورية والتستر. وتاريخ هذه الرسالة هو غرة رجب سنة 910 هـ، (28 نوفمبر سنة 1504). وإليك نص هذه الوثيقة: "الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما. إخواننا القابضين على دينهم، كالقابض على الجمر، من أجزل الله ثوابهم، فيما لقوا فى ذاته، وصبروا النفوس والأولاد فى مرضاته، الغرباء القرباء إن شاء الله، من مجاورة نبيه فى الفردوس الأعلى من جناته، وارثو سبيل السلف الصالح، ¬_______ (¬1) Marmol: ibid ; II. Cap. 1

فى تحمل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى التراق، نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعيننا وإياكم على مراعات حقه، بحسن إيمان وصدق، وأن يجعل لنا ولكم من الأمور فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً. بعد السلام عليكم، من كاتبه إليكم، من عبيد الله أصغر عبيده، وأحوجهم إلى عفوه ومزيده، عبيد الله تعالى أحمد ابن بوجمعة المغراوى ثم الوهرانى، كان الله للجميع بلطفه وستره، سائلاً من إخلاصكم وغربتكم حسن الدعاء، بحسن الخاتمة والنجاة من أهوال هذه الدار، والحشر مع الذين أنعم الله عليهم ( F. 2) من الأبرار، ومؤكدًا عليكم في ملازمة دين الإسلام آمرين به من بلغ من أولادكم. إن لم تخافوا دخول شر عليكم من إعلام عدوكم بطويتكم، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، وإن ذاكر الله بين الغافلين كالحىّ بين الموتى؛ فاعلموا أن الأصنام خشب منجور، وحجر جلمود لا يضر ولا ينفع، وأن المُلك الله ما اتخذ الله من ولد، وما كان معه من إله. فاعبدوه، واصطبروا لعبادته، فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء؛ لأن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم، والغسل من الجنابة ولو عومًا في البحور، وإن منعتم فالصلاة قضاء بالليل لحق النهار، وتسقط في الحكم طهارة الماء؛ وعليكم بالتيمم ولو مسحًا بالأيدى للحيطان، فإن لم يمكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها لعدم الماء ( F. 3-1) والصعيد إلا أن يمكنكم الإشارة إليه بالأيدى والوجه إلى تراب طاهر أو حجر أو شجر مما يتيمم به، فاقصدوا بالإيماء، نقله ابن ناجى في شرح الرسالة لقوله عليه السلام: فأتوا منه ما استطعتم. وإن أكرهوكم فى وقت صلاة إلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم فأحرموا بالنية، وانووا صلاتكم المشروعة، وأشيروا لما يشيرون إليه من صنم، ومقصودكم الله، وإن كان لغير القبلة تسقط في حقكم كصلاة الخوف عند الالتحام؛ وإن أجبروكم على شرب خمر، فاشربوه لا بنية استعماله، وإن كلفوا عليكم خنزيرًا فكلوه ناكرين إياه بقلوبكم، ومعتقدين تحريمه، وكذا إن أكرهوكم على محرّم، وإن زوجوكم بناتهم، فجائز لكونهم أهل الكتاب، وإن أكرهوكم ( F. 3-2) على إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه، وأنكم ناكرون لذلك بقلوبكم، ولو وجدتم قوة لغيرتموه. وكذا إن أكرهوكم على رباً أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم، ثم ليس عليكم إلا رؤوس أموالكم، وتتصدقون بالباقى، إن تبتم لله تعالى. وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التورية والإلغاز

فافعلوا، وإلا فكونوا مطمئنى القلوب بالإيمان إن نطقتم بها ناكرين لذلك، وإن قالوا اشتموا محمدًا فإنهم يقولون له مُمَد، فاشتموا مُمَدًا، ناوين أنه الشيطان أو ممد اليهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم، وانووا إسقاط مضاف أى عبد اللاه مريم معبود بحق. وإن قالوا قولوا المسيح ابن الله فقولوها إكراهًا، وانووا بالإضافة للملك كبيت الله لا يلزم أن يسكنه أو يحل به؛ وإن قالوا قولوا مريم زوجة له فانووا بالضمير ابن عمها الذي تزوجها في بنى إسرائيل ثم فارقها قبل البناء. قاله السهيلى في تفسير المبهم من الرجال في القرآن. أو زوجها الله منه بقضائه وقدره. وإن قالوا عيسى توفى بالصلب، فانووا من التوفية والكمال والتشريف من هذه، وإماتته وصلبه وإنشاد ذكره، وإظهار الثناء عليه بين الناس، وأنه استوفاه الله برفعه إلى العلو، وما يعسر عليكم فابعثوا ( F. 4. I) فيه إلينا نرشدكم إن شاء الله على حسب ما تكتبون به، وأنا أسأل الله أن يديل الكره للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهرًا بحول الله من غير محنة ولا وجلة، بل بصدمة الترك الكرام. ونحن نشهد لكم بين يدى الله أنكم صدقتم الله ورضيتم به. ولابد من جوابكم. والسلام عليكم جميعًا. بتاريخ غرة رجب عام عشرة وتسع مائة، عرف الله خيره". "يصل إلى الغرباء إن شاء الله تعالى" (¬1). ومن ثم فقد لبث الموريسكيون، شغلا شاغلا للكنيسة وللسياسة الإسبانية، فهم عنصر بغيض فى المجتمع الإسبانى، وهم خطر على الدولة وعلى الوطن، وهم بالرغم من ردتهم مازالوا خونة مارقين، ومازالوا أعداء للدين فى سريرتهم. وكان يذكى هذا البغض والتحامل ضد الموريسكيين كل تذمر من جانبهم. فلما دفعهم اليأس إلى الثورة فى مفاوز البشرّات، ولما آنست السياسة الإسبانية أن هذه البقية الممزقة من الأمة الأندلسية القديمة، مازالت تجيش برمق من الحياة والكرامة، ¬_______ (¬1) عثرت على هذه الوثيقة خلال بحوثى فى مكتبة الفاتيكان الرسولية برومة. وهى تقع ضمن مجموعة خطية من المخطوطات البورجوانية ( Borgiani) . وقد وصف هذا المخطوط فى فهرس مكتبة الفاتيكان (فهرس دللافيدا) بأنه "المقدمة القرطبية". وفى صفحة عنوانه بأنه "كتاب نزهة المستمعين". وتشغل هذه الوثيقة فى المخطوط المشار إليه أربع صفحات (136 - 139) ومن جهة أخرى فقد عثرت بنص هذه الوثيقة مثبتا فى إحدى مخطوطات الألخميادو المحفوظة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة سافدرا). وتوجد ترجمتها القشتالية فى كتاب: P. Longas: La Vida Religiosa de los Moriscos (p. 305-307)

رأت أن تضاعف إجراءات القمع والمطاردة، ضد هذا الشعب المهيض الأعزل، حتى لا ينبض بالحياة مرة أخرى. وكانت ثورة البشرات نذير فورة جديدة، من هجرة الموريسكيين إلى ما وراء البحر، فجازت منهم إلى إفريقية جموع عظيمة كما قدمنا، ولكن الكثرة الغالبة منهم بقيت فى الوطن القديم، هدفاً للاضطهاد المنظم، والقمع الذريع المدنى والدينى، فإلى جانب الأوامر الملكية بمنع الهجرة، وحظر التصرف فى الأملاك أو حمل السلاح وغيرها من القوانين المقيدة للحقوق والحريات، كان ديوان التحقيق من جانبه، يشدد الوطأة على الموريسكيين، ويرقب كل حركاتهم وسكناتهم، ويغمرهم بشكوكه وريبه، ويتخذ من أقل الأمور والمصادفات ذرائع لاتهامهم بالكفر والزيغ، ومعاقبتهم بأشد العقوبات وأبلغها. وقد نقل إلينا الدون لورنتى مؤرخ ديوان التحقيق الإسبانى، وثيقة من أغرب الوثائق القضائية، تضمنت طائفة من القواعد والأصول التى رأى الديوان المقدس أن يأخذ بها العرب المتنصرين، فى تهمة الكفر والمروق، وإليك ما ورد فى تلك الوثيقة الغربية: "يعتبر الموريسكى أو العربى المتنصر قد عاد إلى الإسلام، إذا امتدح دين محمد، أو قال إن يسوع المسيح ليس إلهاً، وليس إلا رسولا، أو أن صفات العذراء أو اسمها لا تناسب أنه، ويجب على كل نصرانى أن يبلغ عن ذلك، ويجب عليه أيضاً أن يبلغ عما إذا كان قد رأى أو سمع، بأن أحداً من الموريسكيين يباشر بعض العادات الإسلامية، ومنها أن يأكل اللحم فى يوم الجمعة، وهو يعتقد أن ذلك مباح، وأن يحتفل يوم الجمعة بأن يرتدى ثياباً أنظف من ثيابه العادية، أو يستقبل المشرق قائلا بسم الله، أو يوثق أرجل الماشية قبل ذبحها، أو يرفض أكل تلك التى لم تذبح، أو ذبحتها امرأة، أو يختن أولاده أو يسميهم بأسماء عربية، أو يعرب عن رغبته فى اتباع هذه العادة، أو يقول إنه يجب ألا يعتقد إلا فى الله وفى رسوله محمد، أو يقسم بأيمان القرآن، أو يصوم رمضان ويتصدق خلاله، ولا يأكل ولا يشرب إلا عند الغروب، أو يتناول الطعام قبل الفجر (السحور)، أو يمتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر، أو يقوم بالوضوء والصلاة، بأن يوجه وجهه نحو الشرق ويركع ويسجد ويتلو سوراً من القرآن، أو أن يتزوج طبقاً لرسوم الشريعة الإسلامية، أو ينشد الأغانى العربية، أو يقيم حفلات الرقص والموسيقى العربية، أو أن يستعمل النساء الخضاب فى أيديهن أو شعورهن، أو يتبع

قواعد محمد الخمس، أو يملس بيديه على رؤوس أولاده أو غيرهم تنفيذاً لهذه القواعد، أو يغسل الموتى ويكفنهم فى أثواب جديدة، أو يدفنهم فى أرض بكر، أو يغطى قبورهم بالأغصان الخضراء، أو أن يستغيث بمحمد وقت الحاجة منعتاً إياه بالنبى ورسول الله، أو يقول إن الكعبة أول معابد الله، أو يقول إنه لم ينصر إيماناً بالدين المقدس، أو إن آباءه وأجداده قد غنموا رحمة الله لأنهم ماتوا مسلمين ... الخ" (¬1). كانت هذه الشبه وأمثالها، تتخذ ذريعة للتنكيل بالموريسكيين، بالرغم من تنصرهم وانتمائهم إلى دين سادتهم الجدد. ومن الطبيعى أن يكون موقف المسلمين الذين آثروا الاحتفاظ بدينهم أدق وأخطر، وكانت قد بقيت منهم جماعات كبيرة فى غرناطة وبلنسية وغيرها، يعيشون فى غمرة من الجزع الدائم، وكانت محارق ديوان التحقيق تلتهم الكثير من هؤلاء وهؤلاء، لأقل الشبه والوشايات. ولقد كان الإسراف فى مطاردة المسلمين والموريسكيين، نذير السخط فالثورة، ولكن الثورة أخمدت، ولم تعدل السياسة الإسبانية عن مسلكها، وضاعفت محاكم التحقيق إجراءات القمع والتنكيل. وقد انتهت إلينا عن تلك الفترة الدقيقة من تاريخ الموريسكيين وثيقة عربية ذات أهمية خاصة، كتبها فيما يظهر أندلسى متنصر (موريسكى) إلى بايزيد الثانى سلطان الترك العثمانيين، يستغيث به ويستصرخه، لنصرة إخوانه العرب المتنصرين، ويصف له فى شعر ركيك ولكن قوى التعبير، ما تنزله اسبانيا النصرانية برعاياها الجدد، وما يصيب المتنصرين من عسف ديوان التحقيق، ورائع مطاردته وعقوباته. وإليك بعض ما ورد فى تلك القصيدة المؤثرة، فى وصف أنواع الاضطهاد والعسف، التى نزلت بالعرب المتنصرين، وذلك بعد ديباجة نثرية، وديباجة شعرية طويلة فى تحية السلطان بايزيد: فلما دخلنا تحت عقد ذمامهم ... بدا غدرهم فينا بنقض العزيمة وخان عهوداً كان قد غرّنا بها ... ونصرنا كرهاً بعنف وسطوة وكل كتاب كان فى أمر ديننا ... ففى النار ألقوه بهزء وحقرة ولم يتركوا فيها كتاباً لمسلم ... ولا مصحفاً يخلى به للقراءة ومن صام أو صلى ويعلم حاله ... ففى النار يلقوه على كل حالة ¬_______ (¬1) Don Antonio Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana وأيضاً Dr. Lea: The Moriscos ; p. 130-131

ومن لم يجىء منا لموضع كفرهم ... يعاقبه اللباط شر العقوبة ويلطم خديه ويأخذ ماله ... ويجعله فى السجن فى سوء حالة وفى رمضان يفسدون صيامنا ... بأكل وشرب مرة بعد مرة وقد أمرونا أن نسب نبينا ... ولا نذكرنه فى رخاء وشدة وقد سمعوا قوماً يغنون باسمه ... فأدركتهم منهم أليم المضرة وعاقبهم حكامهم وولاتهم ... بضرب وتغريم وسجن وذلة وقد بدلت أسماؤنا وتحولت ... بغير رضا منا وغير إرادة فآها على تبديل دين محمد ... بدين كلاب الروم شر البرية وآهاً على تلك الصوامع علقت ... نواقيسهم بها نظير الشهادة وآها على تلك البلاد وحسنها ... لقد أظلمت بالكفر أعظم ظلمة وصارت لعبادة الصليب معاقلا ... وقد أمنوا فيها وقوع الإغارة وصرنا عبيداً لا أسارى نفتدى ... ولا مسلمين نُطقهم بالشهادة فلو أبصرت عيناك ما صار حالنا ... إليه لجادت بالدموع الغزيرة فياولنا يا بؤس ما قد أصابنا ... من الضر والبلوى وثوب المذلة (¬1). وهذه الأبيات تنم بالرغم من ركاكتها عن دقة مدهشة، فى تتبع أعمال السياسة الإسبانية، لمطاردة العرب المتنصرين، وفى وصف إجراءات محاكم التحقيق وعقوباتها. والظاهر أن صاحبها كان من الكبراء المتصلين بالشئون العامة. والمرجح أن هذه الرسالة وجهت إلى السلطان بايزيد الثانى، عقب ثورة البشرات وما تلاها من إجراءات القمع المشددة ضد العرب المتنصرين، وذلك حوالى سنة 1505، وقد توفى السلطان بايزيد الثانى سنة 1512، فلابد أن تكون الرسالة قد وجهت إليه قبل ذلك. ونحن نعرف أنها لم تكن أول رسالة من نوعها، وجهها مسلمو الأندلس والعرب المتنصرون إلى قصور قسطنطينية ومصر والمغرب، فقد أشرنا فيما تقدم إلى سفارة السلطان أبى عبد الله الأيسر إلى سلطان مصر الملك الظاهر جقمق يستمد عونه، ثم إلى سفارة مولاى الزغل سلطان غرناطة إلى بلاط مصر وبلاط قسطنطينية، يستغيث بهما ويستصرخهما لإنجاده، وإلى ما قام به بلاط مصر من توجيه سفارته إلى فرناندو الخامس، يحذره من المضى فى إرهاق المسلمين، وينذره باضطهاد النصارى الذين ¬_______ (¬1) أورد لنا المقرى فى أزهار الرياض تلك القصيدة بأكملها، وهى طويلة فى نحو مائة بيت (ج 1 ص 109 - 115)

يعيشون فى المملكة المصرية، وما كان من تكرار نذيره إلى ملك اسبانيا، حينما اشتدت وطأة التنصير على مسلمى الأندلس؛ ولكن تدخل مصر وقسطنطينية على هذا النحو لم يغن شيئا، وهذا ما يشير إليه صاحب القصيدة المذكورة فى قوله مخاطباً السلطان بايزيد: وقد بلغ المكتوب منكم إليهم ... فلم يعملوا منه جميعاً بكلمة وما زادهم إلا اعتداء وجرأة ... علينا وإقداماً بكل مساءة وقد بلغت إرسال مصر إليهم ... وما نالهم غدر وهتك حرمة وقالوا لتلك الرسل عنا بأننا ... رضينا بدين الكفر من غير قهرة لقد كذبوا فى قولهم وكلامهم ... علينا بهذا القول أكبر فرية ولكن خوف القتل والحرق ردنا ... نقول كما قالوه من غير نية وقد كانت السياسة الإسبانية تتخذ من هذه الرسائل، التى يوجهها العرب المتنصرون إلى إخوانهم المسلمين فيما وراء البحر، كلما تفاقمت آلامهم ومحنتهم، ذريعة للاشتداد فى مطاردتهم، واعتبارهم خطراً على سلامة الدولة، لأنهم يأتمرون بها مع ملوك الدول الإسلامية أعداء اسبانيا النصرانية

الفصل الثالث ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين

الفصل الثالث ذروة الاضطهاد وثورة الموريسكيين نظرة اسبانيا إلى الموريسكيين. وفاة فرناندو الكاثوليكى وخلاله. سياسة الرفق فى عهد شارل الخامس. عود الاضطهاد. قرار المحكمة الملكية فى ظلامة المسلمين. تعليق المؤرخ كوندى. ثورة المسلمين فى سرقسطة وبلنسية. تنصير المسلمين فى أراجون. القوانين والقرارات المرهقة. مساعى الموريسكيين فى بلنسية وغرناطة. مراسيم جديدة ضد الموريسكيين. تحريم الهجرة إلى الثغور. قرار بالعفو عن الموريسكيين فى مدينة دلكامبو. التردد بين الشدة والرفق فى عهد شارل الخامس. ولده فيليب الثانى. التنصير يعم الموريسكيين. تحريض الكنيسة لفيليب الثانى. تحريم السلاح على الموريسكيين. تحريم استعمال اللغة العربية والثياب والتقاليد العربية. إعلان القانون فى غرناطة. سخط الموريسكيين. فشل السعى إلى التخفيف. اضطراب الخواطر فى غرناطة. العزم على الثورة. خطة ابن فرج لإضرامها. قصيدة عربية فى وصف آلام الموريسكيين. استغاثتهم بأمراء المغرب. نذير الانفجار. محاولة ابن فرج لإثارة غرناطة. ارتداده إلى الهضاب الجنوبية. انتشار الثورة. فتك الموريسكيين بالنصارى. فرناندو دى فالور أو محمد بن أمية سلطان الموريسكيين. الفتك بالنصارى فى منطقة البشرات. أهبة الإسبان لقمع الثورة. مسير المركيز منديخار لمقاتلة الموريسكيين. اتساع نطاق الثورة. هزيمة الموريسكيين وفرار محمد بن أمية. معركة دامية أخرى. الفتك بالموريسكيين فى غرناطة. عود محمد بن أمية. استغاثته بأمراء المغرب وسلطان الترك. تشريد الموريسكيين فى البيازين. مصرع محمد بن أمية. ابن عبو أو مولا عبد الله يخلفه فى الرياسة. غارات الموريسكيين على أحواز غرناطة. تعيين دون خوان قائداً عاماً لغرناطة. مسيره إلى مقاتلة الثوار. المعارك الطاحنة بين الفريقين. الحكومة الإسبانية تجنح إلى اللين. محاولات الإسبان لعقد الصلح. المفاوضات بين الفريقين. خطاب لابن عبو. تصميم مولاى عبد الله على القتال. اجتياح الإسبان للمناطق الثائرة. مرسوم بنفى الموريسكيين إلى الداخل. الحوادث الدموية. قوانين جديدة مرهقة. مصرع مولاى عبد الله. انهيار الثورة الموريسكية. لبث الموريسكيون فى عهد فرناندو الخامس (الكاثوليكى) زهاء عشرين عاماً، يتراوحون بين الرجاء واليأس، ويرزحون تحت غمر المطاردة المنظمة. وكان هذا الشعب المهيض الذى أدخل قسراً فى حظيرة النصرانية، والذى أنكرته مع ذلك اسبانيا سيدته الجديدة، وأنكرته الكنيسة التى عملت على تنصيره، يحاول أن يروض نفسه على حياته الجديدة، وأن يتقبل مصيره المنكود بإباء وجلد. ولكن اسبانيا النصرانية، لبثت ترى فى هذه البقية الباقية من الأمة الأندلسية، عدوها القديم الخالد، وتتصور أن هذا المجتمع المهيض الأعزل، الذى أحكمت أغلالها فى عنقه،

ما يزال مصدر خطر دائم على سلامتها وطمأنينتها، ومن ثم كان هذا الإمعان فى مطاردته وإرهاقه، بمختلف الفروض والقيود والمغارم، وفى انتهاك عواطفه وحرماته، وفى تعذيبه وتشريده، وكان يلوح أن ليس لهذا الإستشهاد الطويل المؤثر من آخر سوى الفناء ذاته. توفى فرناندو الكاثوليكى فى 23 يناير سنة 1516، بعد أن عانت بقية الأمة الأندلسية من غدره وعسفه ما عانت؛ وكانت زوجه الملكة إيسابيلا قد سبقته إلى القبر، قبل ذلك بأحد عشر عاماً، فى 26 نوفمبر سنة 1504، ودفنت تحقيقاً لرغبتها فى غرناطة، فى دير سان فرنسيسكو القائم فوق هضبة الحمراء، ودفن فرناندو إلى جانب زوجه بالحمراء، تحقيقاً لوصيته، ثم نقل رفاتهما فيما بعد إلى كنيسة غرناطة العظمى، التى أقيمت فوق موقع مسجد غرناطة الجامع، فى عهد حفيدهما الإمبراطور شارلكان، وأقيم لهما فيها ضريح رخامى فخم، ما يزال حتى اليوم فى مقدمة مزارات غرناطة النصرانية. وفى دفن فاتحى غرناطة الإسلامية فى حرم جامع غرناطة القديم، مغزى خاص ينطوى على تنويه ظاهر بظفر اسبانيا، وظفر النصرانية على الإسلام. وقد كان الغدر والرياء، أبرز صفات هذا الملك العظيم المظفر، الذى أتيح له القضاء على دولة الإسلام بالأندلس. وقد نوه بهذه الصفة الذميمة أكابر المؤرخين المعاصرين واللاحقين، ومنهم المؤرخون القشتاليون أنفسهم (¬1). ويقول معاصره الفيلسوف السياسى مكيافيللى فى حقه: "إن فرناندو الأرجونى غزا غرناطة فى بداية حكمه، وكان هذا المشروع دعامة سلطانه. وقد استطاع بمال الكنيسة والشعب أن يمد جيوشه، وأن يضع بهذه الحرب أسس البراعة العسكرية التى امتاز بها بعد ذلك، وقد كان دائماً يستعمل الدين ذريعة ليقوم بمشاريع أعظم، وقد كرس نفسه بقسوة تسترها التقوى لإخراج المسلمين من مملكته وتطهيرها منهم، وبمثل هذه الذريعة غزا إفريقية، ثم هبط إلى إيطاليا، ثم هاجم فرنسا ... " (¬2). ¬_______ (¬1) فمثلا يقول المؤرخ ثوريتا Zurita، وهو من أكابر المؤرخين الإسبان فى القرن السادس عشر فى وصفة: "وكان مشهوراً لا بين الأجانب فقط، ولكن بين مواطنيه أيضاً، بأنه لا يحافظ على الصدق، ولا يرعى عهداً قطعه، وأنه كان يفضل دائماً تحقيق صالحه الخاص، على كل ما هو عدل وحق". راجع: Prescott, cit. Zurita (Anales) ; ibid ; p. 697 (note) (¬2) Machiavelli: The Prince (Everyman) , p. 177 & 178

وكانت سياسة فرناندو الكاثوليكى مثال الغدر المثير فى جميع ما تخذه نحو معاملة المسلمين عقب تسليم غرناطة، وما تلاه من حوادث تنصيرهم قسراً، ثم اضطهادهم، ومطاردتهم بأقسى الوسائل، وأشدها إيلاماً لمشاعرهم وأرواحهم. فلما توفى فرناندو، وخلفه حفيده شارل أو كارلوس الخامس (الإمبراطور شارلكان) بعد فترة قصيرة من وصاية الكردينال خمنيس على العرش، تنفس الموريسكيون الصعداء، وهبت عليهم ريح جديدة من الأمل، ورجوا أن يكون العهد الجديد خيراً من سابقه. وأبدى الملك الجديد فى الواقع شيئاً من اللين والتسامح، ... صورة: ضريح فرناندو وإيسابيلا بكنيسة غرناطة العظمى. ... نحو المسلمين والموريسكيين، وجنحت محاكم التحقيق إلى نوع من الاعتدال فى مطاردتهم، وكفت عن التعرض لهم فى أراجون بسعى النبلاء والسادة، الذين يعمل المسلمون فى ضياعهم. ولكن هذه السياسة المعتدلة لم تدم سوى بضعة أعوام، وعادت العناصر الرجعية فى البلاط وفى الكنيسة، فغلبت كلمتها، وصدر مرسوم جديد فى 12 مارس سنة 1524 م يحتم تنصير كل مسلم بقى على دينه، وإخراج كل من أبى النصرانية من اسبانيا، وأن يعاقب كل مسلم أبى التنصير أو الخروج فى المهلة الممنوحة بالرق مدى الحياة، وأن تحوّل جميع المساجد الباقية إلى كنائس. عندئذ استغاث المسلمون بالإمبراطور، والتمسوا عدله وحمايته، على يد وفد

منهم يعثوه إلى مدريد، ليشرح للمليك ظلامتهم وآلامهم (سنة 1526). فندب الإمبراطور محكمة كبرى من النواب والأحبار والقادة وقضاة التحقيق، برياسة المحقق العام لتنظر فى ظلامة المسلمين، ولتقرر بالأخص ما إذا كان التنصير الذى وقع على المسلمين بالإكراه، يعتبر صحيحاً ملزماً، بمعنى أنه يحتم عقاب المخالف بالموت، أم يطبق القرار الجديد عليهم كمسلمين. وقد أصدرت المحكمة قرارها بعد مناقشات طويلة، بأن التنصير الذى وقع على المسلمين صحيح لا تشوبه شائبة، لأنهم سارعوا بقبوله اتقاء لما هو شر منه، فكانوا بذلك أحراراً فى قبوله. ويعلق المؤرخ الغربى النصرانى على ذلك القرار بقوله: "وهكذا اعتبر التنصير الذى فرضه القوى على الضعيف، والظافر على المغلوب، والسيد على العبد، منشئاً لصفة لا يمكن لإرادة معارضة أن تزيلها" (¬1). وعلى أثر ذلك صدر أمر ملكى بأن يرغم سائر المسلمين الذين نصروا كرهاً، على البقاء فى اسبانيا، باعتبارهم نصارى، وأن ينصر كل أولادهم، فإذا ارتدوا عن النصرانية، قضى عليهم بالموت والمصادرة، وقضى الأمر فى الوقت نفسه، بأن تحول جميع المساجد الباقية فى الحال إلى كنائس. فكان لهذه القرارات لدى المسلمين أسوأ وقع، وما لبثت الثورة أن نشبت فى معظم الأنحاء التى يقطنها المسلمون، فى أحواز سرقسطة وفى منطقة بلنسية وغيرها، وأخمدت هذه الثورات المحلية الضئيلة تباعاً. ولكن بلنسية كان لها شأن آخر ذلك أنها كانت تضم حشداً كبيراً من المسلمين، يبلغ زهاء سبعة وعشرين ألف أسرة (¬2)، وكان وقوعها على البحر يمهد للمسلمين سبل الإتصال بإخوانهم فى المغرب، ومن ثم فقد كانت دائماً فى طليعة المناطق الثائرة، وكانت الحكومة الإسبانية تنظر إليها باهتمام خاص، فلما فرض التنصير العام أبدى المسلمون فى بلنسية مقاومة عنيفة، ولجأت جموع كبيرة منهم إلى ضاحية (بنى وزير) Benaguacil، واضطرت الحكومة أن تجرد عليهم قوة كبيرة مزودة بالمدافع، وأرغم المسلمون فى النهاية على التسليم والخضوع، وأرسل إليهم الإمبراطور إعلان الأمان على أن ينصروا، وعدلت عقوبة الرق إلى الغرامة (¬3). ¬_______ (¬1) راجع تاريخ De Marlés الذى وضعه بالاقتباس من تاريخ كوندى: Hist. de la Domination des Arabes (¬2) Espagne ; V. III. p. 389 Liorente ; ibid. (¬3) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 91 & 92

وفى باقى ولايات أراجون، أشفق السادة والنبلاء على مصالحهم وضياعهم من الخراب، إذا اضطهد المسلمون ومزقوا كما حدث فى بلنسية، فأوضحوا للإمبراطور خطأ هذه السياسة، وأكدوا له أن المسلمين فى أراجون جماعة هادئة عاملة ذلولة، لم ترتكب جرماً قط، ولم تبدر منهم خطيئة دينية أو سياسية، ومعظمهم زراع فى أراضى الملك والسادة، ومنهم صناع مهرة، فإخراجهم من أراجون خسارة ... صورة: شارل الخامس (الإمبراطور شارلكان) ... فادحة، ولا داعى لإرغامهم على التنصير، لأن ذلك لا يعنى إخلاصهم للدين الجديد، ومن الخير أن يتركوا فى سلام، ولكن مساعى السادة فى هذا السبيل ذهبت عبثاً، وأصر الإمبراطور على أن يطبق التشريع الجديد على جميع مسلمى أراجون، وأصدر أوامره إلى ديوان التحقيق أن يقوم بتلك المهمة، فأذعن المسلمون إلى التنصير راغمين، وتم بذلك تنصيرهم جميعاً (سنة 1526). وتوالت الأوامر والقوانين المرهقة، فصدر قانون يحظر على الموريسكيين بيع الحرير والذهب والفضة والحلى والأحجار الكريمة، وحتم على كل مسلم بقى على

دينه أن يحمل شارة زرقاء فى قبعته، وحظر عليهم حمل السلاح إطلاقاً، وإلا عوقب المخالفون بالجلد، وأمروا بأن يسجدوا فى الشوارع متى مر كبير الأحبار. وفى بلنسية صدر قرار بأن يغادر المسلمون الأراضى الإسبانية من طريق الشمال، وحظر على السادة أن يبقوهم فى ضياعهم، وإلا عوقبوا بالغرامة الفادحة. فعاد المسلمون فى بلنسية إلى الثورة، وقاوموا جند الحكومة حيناً، ولكن الثورة ما لبثت أن أخمدت، وتقدم المسلمون خاضعين على يد وفد منهم مثل فى البلاط، يعرضون الدخول فى النصرانية، على أن تحقق لهم بعض المطالب والظروف المخففة، فلا يمتد إليهم قضاء ديوان التحقيق مدى أربعين عاماً، لا فى أنفسهم ولا فى أموالهم، وأن يحتفظوا خلال هذه المدة بلغتهم وملابسهم القومية، وبعض حقوقهم فى الزواج والميراث طبقاً لتقاليدهم، وأن ينفق على من كان منهم من الفقهاء من دخل الأراضى التى وقفها المسلمون لأغراض البر، ويرصد الباقى لإنشاء الكنائس الجديدة، وأن يسمح لهم بحمل السلاح وتخفيض الضرائب (¬1). ولكن مجلس الدولة رأى أن يطبق عليهم سائر الأوامر، التى طبقت على الموريسكيين فى غرناطة وغيرها، وأن يسمح لهم بالاحتفاظ بلغتهم وأزيائهم مدى عشرة أعوام فقط، وأن يمنحوا بعض الإمتيازات فيما يتعلق بالزواج ودفع الضرائب. وكانت هذه المنح أفضل ما يمكن نيله فى هذه الظروف، فأقبل المسلمون فى منطقة بلنسية على التنصير أفواجاً، عدا أقلية صغيرة آثرت المضى فى المقاومة، ومزقتها جند الإمبراطور بعد قليل، وألفت محاكم التحقيق غير بعيد، فى مجتمع الموريسكيين فى بلنسية، ميداناً خصباً لنشاطها. وحذا الموريسكيون فى غرناطة حذو إخوانهم فى بلنسية، فسعوا لدى البلاط فى تخفيف الأوامر والقوانين المرهقة التى فرضت عليهم، وانتهزوا فرصة زيارة الإمبراطور لغرناطة (سنة 1526) فقدموا إليه على يد ثلاثة من أكابرهم، هم الدون فرناندو بنجاس والدون ميشيل داراجون وديجو لويز بنشارا، وهم من سلالة أمراء غرناطة الذين نصروا منذ الفتح، مذكرة يشرحون فيها ظلامتهم، وما يعانونه من آلام المطاردة والإرهاق المستمر، ولاسيما من أعمال القسس والقضاء الدينى؛ فندب الإمبراطور لجنة محلية للتحقيق فى أمر الموريسكيين فى سائر أنحاء غرناطة، ثم عرضت نتائج بحثها على مجلس دينى قرر ما يأتى: أن يترك الموريسكيون استعمال لغتهم العربية وثيابهم القومية، وأن يتركوا استعمال الحمامات، ¬_______ (¬1) P. Longas: Vida Religiosa de los Moriscos, p. XLII

وأن تفتح أبواب منازلهم أيام الحفلات وأيام الجمع والسبت، وألا يقيموا رسوم المسلمين أيام الحفلات، وألا يتسمّوا بأسماء عربية. ولكن تنفيذ هذه القرارات أرجىء بأمر الإمبراطور؛ ثم أعيد إصدارها، ثم أرجىء تنفيذها مرة أخرى. وصدرت عدة أوامر ملكية بالعفو عن الموريسكيين فيما تقدم من الذنوب، فإذا عادوا طبقت عليهم أشد القوانين والفروض، فأذعن الموريسيكيون لكل ما فرض عليهم، ولكنهم افتدوا من الإمبراطور بمبلغ طائل من المال، حق ارتداء ملابسهم القومية، وحق الإعفاء من المطاردة إذا اتهموا بالردة (¬1). وكان الإمبراطور شارلكان حينما أصدر قراره بتنصير المسلمين، قد وعد بتحقيق المساواة بينهم وبين النصارى فى الحقوق والواجبات، ولكن هذه المساواة لم تحقق قط، وشعر العرب المتنصرون منذ الساعة الأولى، أنهم مازالوا موضع الريب والإضطهاد، وفرضت عليهم فروض وضرائب كثيرة لا يخضع لها النصارى، وكانت وطأة الحياة تثقل عليهم شيئاً فشيئاً، وتترى ضدهم السعايات والإتهامات، وقد غدوا فى الواقع أشبه بالرقيق منهم بالرعايا الأحرار. ولما شعرت السلطات بميل الموريسكيين إلى الهجرة، وفشت فيهم هذه الرغبة، صدر قرار فى سنة 1541، يحرم عليهم تغيير مساكنهم، كما حرم عليهم النزوح إلى بلنسية، التى كانت دائماً طريقهم المفضل إلى ركوب البحر، ثم صدر قرار بتحريم الهجرة من أى الثغور إلا بترخيص ملكى نظير رسم فادح. وكانت السياسة الإسبانية تخشى دائماً اتصال الموريسكيين بمسلمى المغرب، وكان ديوان التحقيق يسهر على حركة الهجرة ويعمل على قمعها بمنتهى الشدة، ومع ذلك فقد كانت الأنباء تأتى من سفراء اسبانيا فى البندقية وغيرها من الثغور الإيطالية، بأن كثيراً من الموريسكيين الفارين، يمرون بها فى طريقهم إلى إفريقية والشرق الإسلامى (¬2). وخلال هذا الاضطهاد الغامر، كانت السياسة الإسبانية فى بعض الأحيان، تجنح إلى شىء من الرفق، فنرى الإمبراطور فى سنة 1543 يبلغ "المحققين العامين" بأنه تحقيقاً لرغبة مطران طليطلة والمحقق العام، قد أصدر أمره بالعفو عن المسلمين المتنصرين من أهل "مدينة دلكامبو" و "أريفالو" فيما ارتكبوه من ذنوب الكفر والمروق، وأنه يكتفى بأن يطلب إليهم الإعتراف بذنوبهم أمام الديوان ¬_______ (¬1) P. Longas: ibid ; p. XLIII و Dr. Lea: The Moriscos ; p. 214 & 215 (¬2) Dr. Lea: ibid ; p. 187 & 189

(ديوان التحقيق)، ثم ترد إليهم أملاكهم الثابتة والمنقولة التى أخذت منهم إلى الأحياء منهم، ويسمح لهم بتزويج أبنائهم وبناتهم من النصارى الخلص، ولا تصادر المهور التى دفعوها للخزينة بسبب الذنوب التى ارتكبوها، بل تبقى هذه المهور للأولاد الذين يولدون من هذا الزواج، وأن يتمتع بهذا الإمتياز النصرانيات الخلص اللاتى يتزوجن من الموريسكيين، بالنسبة للأملاك التى يقدمها الأزواج الموريسكيون برسم الزواج أو الميراث (¬1). وهكذا لبثت السياسة الإسبانية أيام الإمبراطور شارلكان (1516 - 1555) إزاء الموريسكيين، تتردد بين الإقدام والإحجام، واللين والشدة. بيد أنها كانت على وجه العموم أقل عسفاً وأكثر اعتدالا، منها أيام فرناندو وإيسابيلا. وفى عهده نال الموريسكيون كثيراً من ضروب الإعفاء والتسامح الرفيقة نوعاً، ولكنهم لبثوا فى جميع الأحوال موضع القطيعة والريب، عرضة للإرهاق والمطاردة، ولبثت محاكم التحقيق تجد فيهم دائماً ميدان نشاطها المفضل. - 2 - على أن هذه السياسة المعتدلة نوعاً، لم يتح لها الاستمرار فى عهد ولده وخلفه فيليب الثانى (1555 - 1598). وكان التنصر قد عم الموريسكيين يومئذ، وغاضت منهم كل مظاهر الإسلام والعروبة، ولكن قبساً دفيناً من دين الآباء والأجداد، كان لا يزال يجثم فى قراره هذه النفوس الأبية الكليمة، ولم تنجح اسبانيا النصرانية بسياستها البربرية فى اكتساب شيىء من ولائها المغصوب. وكان الموريسكيون يحتشدون جماعات كبيرة وصغيرة فى غرناطة وفى بسائطها، وفى منطقة البشرّات الجبلية، تتوسطها الحاميات الإسبانية والكنائس، لتسهر الأولى ْعلى حركاتهم، وتسهر الثانية على إيمانهم وضمائرهم، وكانوا يشتغلون بالأخص بالزراعة والتجارة، ولهم صلات تجارية واجتماعية وثيقة بثغور المغرب، وهو ما كانت ترقبه السلطات الإسبانية دائماً بكثير من الحذر والريب. وكانت بقية من التقاليد والمظاهر القديمة، مازالت تربط هذا الشعب الذى زادته المحن والخطوب اتحاداً، وتعلقاً بتراثه القومى والروحى؛ وكانت الكنيسة تحيط هذا الشعب العاق، الذى لم تنجح تعاليمها فى النفاذ إلى أعماق نفسه، بكثير من البغضاء والحقد. فلما تولى فيليب الثانى ألفت فرصتها فى إذكاء عوامل الاضطهاد ¬_______ (¬1) Arch. gen. de Simancas ; P. R. Leg. 28, Fol. 49

والتعصب، التى خبت نوعاً فى عهد أبيه شارل الخامس. وكان هذا الملك المتعصب حبراً فى قرارة نفسه، يخضع لوحى الأحبار والكنيسة، ويرى فى الموريسكيين ما تصوره الكنيسة والسياسة الرجعية، عنصراً بغيضاً خطراً دخيلا على المجتمع الإسبانى، فلم تمض أعوام قلائل على تبوئه الملك، حتى ظهرت بوادر التعصب والتحريض ضد الموريسكيين، فى طائفة من القوانين والفروض المرهقة. وكانت مسألة السلاح فى مقدمة المسائل، التى كانت موضع الاهتمام والتشدد، وقد عنيت السياسة الإسبانية منذ البداية بتجريد الموريسكيين من السلاح، واتخذت أيام فرناندو إجراءات لينة نوعاً، فكان يسمح بحمل أنواع معينة من السلاح المنزلى كالسكين وغيرها، وذلك بترخيص ورسوم معينة. ولكن الحكومة خشيت بعد ذلك عواقب هذا التسامح، فأخذت تشدد فى الترخيص، وجرد المسلمون فى بلنسية من سلاحهم جملة، وقيل لهم حينما أذعنوا للتنصير، أنهم سيعاملون كالنصارى فى سائر الحقوق والواجبات ويرد لهم سلاحهم، ولكن الحكومة لم تف بعهدها. وفى سنة 1545 صدر قرار بمنع حمل السلاح كافة، ولكنه نفذ بشىء من اللين. وفى سنة 1563، فى عهد فيليب الثانى، صدر قانون جديد يحرم حمل السلاح على الموريسكيين، إلا بترخيص من الحاكم العام، وأحيط تنفيذه بمنتهى الشدة، فأثار صدوره سخط الموريسكيين، وكان السلاح ضرورياً للدفاع عن أنفسهم فى محلاتهم المنعزلة النائية، بيد أن قانون تحريم السلاح، لم يكن سوى مقدمة لقانون أقسى وأشد إيلاماً، هو القانون الخاص بتحريم استعمال اللغة العربية، وارتداء الثياب العربية، على الموريسكيين. وقد لبثت اللغة والتقاليد العربية فى الواقع للموريسكيين، أوثق الروابط بماضيهم وتراثهم، وكانت عماد قوتهم المعنوية، ومن ثم كانت عناية السياسة الإسبانية، بالعمل على محوها بطريق التشريع الصارم، والقضاء بذلك على آخر الروابط التى تربط الموريسكيين، بماضيهم وتراثهم القومى. وقد فكر بعض أحبار الكنيسة أن يتعلم القسس الذين يقومون بحركة التنصير اللغة العربية، لكى يستطيعوا إقناع الموريسكيين بلغتهم، والنفاذ إلى أعماق نفوسهم، ولكن فيليب الثانى لم يوافق على هذا الرأى، وآثر أن تعلّم القشتالية لأبناء الموريسكيين منذ طفولتهم؛ وكانت السياسة الإسبانية قد حاولت تنفيذ مشروعها منذ عهد الإمبراطور شارلكان، فصدر فى سنة 1526 قانون يحرم على الموريسكيين التخاطب باللغة العربية وارتداء الثياب العربية، واستعمال الحمامات، وإقامة الحفلات على الطريقة الإسلامية، ولكنه لم ينفذ بشدة،

والتمس الموريسكيون فى بلنسية وغرناطة وقف تنفيذه أربعين عاماً، يحتفظون خلالها بلغتهم وثيابهم القومية، وقرنوا ملتمسهم بمطالب أخرى تتعلق بتطبيق شريعتهم وتقاليدهم، وتخفيف الضرائب عن كاهلهم، وبالرغم من أن مطالبهم لم تجب يومئذ كلها، فإن قانون تحريم اللغة والثياب القومية، أرجىء تنفيذه مرة بعد أخرى، وأجيز للموريسكيين استعمال اللغة والثياب القومية، نظير ضريبة معينة، واستمر هذا المنح سارياً حتى عهد فيليب الثانى، وكان يجمع من هذه الضريبة مبلغ طائل. ولكن فيليب الثانى كان ملكاً شديد التعصب، كثير التأثر بنفوذ الأحبار، وكانت الكنيسة ترى أن بقاء اللغة العربية من أشد العوامل لمنع تغلغل النصرانية فى نفوس الموريسكيين، وأنه لابد من القضاء على ذلك الحاجز الصخرى الذى تتحطم عليه جهود الكنيسة؛ وكانت قد مضت فوق ذلك أربعون عاماً مذ صدر قانون التحريم فى عهد الإمبراطور شارلكان، ولم يبق للموريسكيين بذلك حجة ولا ملتمس، وانتهت الكنيسة كالعادة بإقناع الملك بصواب رأيها، فلم يلبث أن استجاب لتحريضها، وأمر فى مايو سنة 1566 بأن يجدد القانون القديم بتحريم اللغة والثياب العربية، وهكذا حاول بطريق التشريع أن يسدد الضربة الأخيرة للغة الموريسكيين وتقاليدهم العربية، فأصدر هذا القانون الهمجى الذى لم يسمع بصدور مثله فى تاريخ المجتمعات المتمدنة. ويقضى هذا القانون بأن يمنح الموريسكيون ثلاثة أعوام لتعلم اللغة القشتالية، ثم لا يسمح بعد ذلك لأحد أن يتكلم أو يكتب أو يقرأ العربية أو يتخاطب بها، سواء بصفة عامة أو بصفة خاصة، وكل معاملات أو عقود تجرى بالعربية تكون باطلة ولا يعتد بها لدى القضاء أو غيره. ويجب أن تسلم الكتب العربية، من أية مادة فى ظرف ثلاثين يوماً إلى رئيس المجلس الملكى فى غرناطة، لتفحص وتقرأ، ثم يرد غير الممنوع منها إلى أصحابها لتحفظ لديهم مدى الأعوام الثلاثة فقط. وأما الثياب فيمنع أن يصنع منها أى جديد مما كان يستعمل أيام المسلمين، ولا يصنع منها إلا ما كان مطابقاً لأزياء النصارى، وحتى لا يتلف منها ما كان من زى المسلمين فإنه يسمح بارتداء الثياب الحريرية منها لمدة عام، والصوفية لمدة عامين، ثم لا يسمح باستعمالها بعد ذلك. ويحظر التحجب على النساء الموريسكيات وعليهن أن يكشفن وجوههن، وأن يرتدين عند الخروج المعاطف والقبعات على نحو ما تفعل النساء الموريسكيات فى أراجون. ويحظر فى الحفلات إجراء أية رسوم

صورة: الملك فيليب الثانى عن صورة "سانشيث كويليو" المحفوظة بمتحف "البرادو" بمدريد

إسلامية، ويجب أن يجرى كل ما فيها طبقاً لعرف الكنيسة وعرف النصارى، ويجب أن تفتح المنازل أثناء الاحتفال، وكذلك أيام الجمعة وأيام الأعياد، ليستطيع القسس ورجال السلطة أن يروا ما يقع بداخلها من المظاهر والرسوم المحرمة. ويحرم إنشاد الأغانى القومية، ولا يشهر الزمر (الرقص العربى) أو ليالى الطرب بالآلات، أو غيرها من العوائد الموريسكية، ويحرم الخضاب بالحناء. ولا يسمح بالاستحمام فى الحمامات، ويجب أن تهدم سائر الحمامات العامة والخاصة. ويحرم استعمال الأسماء والألقاب العربية، ومن يحملها يجب عليه أن يبادر بتركها. ويجب أخيراً على الموريسكيين الذين يستخدمون العبيد السود أن يقدموا رخصهم باستخدامهم للنظر فيما إذا كان حرياً بأن يسمح لهم باستبقائهم (¬1). هذه هى نصوص ذلك القانون الهمجى الذى أريد به تسديد الضربة القاتلة لبقايا الأمة الأندلسية، وذلك بتجريدها من مقوماتها القومية الأخيرة. وقد فرضت على المخالف عقوبات فادحة، تختلف من السجن إلى النفى والإعدام، وكان إحراز الكتب والأوراق العربية ولاسيما القرآن، يعتبر فى نظر السلطات من أقوى الأدلة على الردة، ويعرض المتهم لأقسى أنواع العذاب والعقاب. أعلن هذا القانون المروع فى غرناطة فى يوم أول يناير سنة 1567، وهو اليوم الذى سقطت فيه غرناطة، واتخذته اسبانيا عيداً قومياً تحتفل به فى كل عام، وأمر ديسا رئيس المجلس الملكى بإذاعته فى غرناطة، وسائر أنحاء مملكتها القديمة، وتولى إذاعته موكب من القضاة شق المدينة، ومن حوله الطبل والزمر، وعلق فى ميدان باب البنود أعظم ميادينها القديمة، وفى سائر ميادينها الأخرى، وفى ربض البيازين، فوقع لدى الموريسكيين وقع الصاعقة، وفاضت قلوبهم الكسيرة سخطاً وأسى ويأساً، وأحيط تنفيذه بمنتهى الشدة، فحطمت الحمامات تباعاً. واجتمع زعماء الموريسكيين وتباحثوا فيما يجب عمله إزاء هذه المحنة الجديدة، وحاولوا أن يسعوا بالضراعة والحسنى لإلغاء هذا القانون أو على الأقل لتخفيف وطأته، ورفعوا احتجاجهم أولا إلى الرئيس ديسا، عن يد رئيس جماعتهم مولاى فرنسيسكو نونيز، فخاطب الرئيس ديسا، وبين له ما فى القانون من شدة وتناقض وخرق للعهود، وطلب إرجاء تنفيذه. ثم قرروا التظلم للعرش. وحمل رسالتهم ¬_______ (¬1) نقلنا نصوص هذا القانون عن مارمول، وقد عاصر صدوره. انظر: Marmol: ibid ; Lib. II. Cap. VI. . وراجع أيضا: P. Longas: ibid ; p. XLV.XLVI

إلى فيليب الثانى، وإلى وزيره الطاغية الكردينال اسبينوسا، سيد اسبانى نبيل من أعيان غرناطة يدعى الدون خوان هنريكس، وكان يعطف على هذا الشعب المنكود، ويرى خطر السياسة التى اتبعت لإبادته، وسار معه إلى مدريد اثنان من أكابرهم هما خوان هرناندث من أعيان غرناطة، وهرناندو الحبقى من أعيان وادى آش، والتمس الوفد إلى الملك إرجاء تنفيذ القانون كما حدث أيام أبيه، وبعث الدون هنريكس بمذكرة إلى جميع أعضاء مجلس الملك يبين فيها ما يترتب على تنفيذ القانون من حرج واضطراب، ولكن مساعيه كلها ذهبت عبثاً، وأجاب الكردينال اسبينوسا، بأن جلالته مصمم على تنفيذ القانون، وأنه أصبح أمراً واقعاً. وكذا عرض المركيز دى مونديخار حاكم غرناطة على الملك اعتراض الموريسكيين، وأوضح له خطورة الموقف، وأن اليأس قد يدفعهم إلى الثورة، وأن الترك، أصبحوا فى شواطىء المغرب على مقربة من اسبانيا، وأن الموريسكيين شعب عدو لا يدين بالولاء، فلم تفد هذه الاعتراضات شيئاً، وقيل إن الموريسكيين شعب جبان، ولا سلاح لديه ولا حصون. وهكذا حملت سياسة العنف والتعصب فى طريقها كل شىء، ونفذت الأحكام الجديدة فى المواعيد التى حددت لها، ولم تبد السلطات فى تنفيذها أى رفق أو مهادنة (¬1). ولم يحظ بلمحة من الرفق سوى الموريسكيون فى بلنسية، وكان زعيمهم وكبير أشرافهم كوزمى بن عامر من المقربين إلى البلاط، فسعى للتخفيف عنهم، وكللت مساعيه بالنجاح فى بعض النواحى، وهو أن يعامل الموريسكيون بالرفق فى حالة الإتهام بالردة، ولا تنزع أملاكهم بتهمة المروق، وذلك على أن يدفعوا إتاوة سنوية قدرها ألفان وخمسمائة مثقال لديوان التحقيق (¬2). وأما فى غرناطة فقد بلغ اليأس بالموريسكيين ذروته، فتهامسوا على المقاومة والثورة، والذود عن أنفسهم إزاء هذا العسف المضنى، أو الموت قبل أن تنطفىء فى قلوبهم وضمائرهم، آخر جذوة من الكرامة والعزة، وقبل أن تقطع آخر صلاتهم بالماضى المجيد والتراث العزيز، وكانت نفوسهم ماتزال تضطرم ببقية من شغف النضال والدفاع عن النفس، وكانوا يرون فى المناطق الجبلية القريبة ملاذاً للثورة، ¬_______ (¬1) Prescott: Philip II of Spain ; V. III. p. 12-29 ; Marmol: ibid ; II. Cap. IX & XIII وكذلك Dr. Lea: The Moriscos p. 150, 151 & 230-240 (¬2) Dr. Lea: ibid ; p. 126

ويؤملون أن يصلوا بالمقاومة إلى إلغاء هذا القانون الهمجى أو تخفيفه. وهنا يبدأ الصراع الأخير بين الموريسكيين واسبانيا النصرانية. ومن الأسف أننا لم نتلق عن هذه المرحلة المؤسية والأخيرة من تاريخ الأمة الأندلسية، شيئاً من الروايات العربية، وهى تقف كما رأينا عند محنة التنصير الأولى عقب سقوط غرناطة، فلابد لنا هنا من أن نرجع إلى الرواية النصرانية دون سواها. سرى إلى الموريسكيين يأس بالغ يذكيه السخط العميق فعولوا على الثورة، مؤثرين الموت على ذلك الإستشهاد المعنوى الهائل. ونبتت فكرة الثورة أولا فى غرناطة حيث يقيم أعيان الموريسكيين، وحيث كانت جمهرة كبيرة منهم تحتشد فى ضاحية "البيازين". وكان زعيم الفكرة ومثير ضرامها موريسكى يدعى فرج بن فرج؛ وكان فرج صباغاً بمهنته، ولكنه حسبما تصفه الرواية القشتالية، كان رجلا جريئاً وافر العزم والحماسة، يضطرم بغضاً للنصارى، ويتوق إلى الانتقام الذريع منهم؛ ولاغرو فقد كان ينتسب إلى بنى سراج، وهم كما رأينا من أشراف غرناطة وفرسانها الأنجاد أيام الدولة الإسلامية. وكان ابن فرج كثير التردد على أنحاء البشرّات، وثيق الصلة بمواطنيه، فاتفق الزعماء على أن يتولى حشد قوة كبيرة منهم، تزحف سراً إلى غرناطة، وتجوز إليها من ضاحية البيازين، ثم تفاجىء حامية الحمراء وتسحقها، وتستولى على المدينة، وحددوا للتنفيذ "يوم الخميس المقدس" من شهر ابريل سنة 1568، إذ يشغل النصارى يومئذ باحتفالاتهم وصلواتهم. ولكن أنباء هذا المشروع الخطير تسربت إلى السلطات منذ البداية، فاتخذت التحوطات لدرئه، وعززت حامية غرناطة وحاميات الثغور، واضطر الموريسكيون إزاء هذه الأهبة، أن يرجئوا مشروعهم إلى فرصة أخرى. ووضع أديب من زعماء الثورة يدعى باسمه المسلم محمد بن محمد بن داود، قصيدة ملتهبة يصف فيها آلام بنى وطنه، ويستمد فيها الغوث والعون من الله ونبيه، فضبطت معه فى ثغر أدرة، وأرسلت إلى البلاط مع ترجمتها القشتالية، وإليك ملخص ما ورد فى هذه القصيدة التى تعتبر كأنها صرخة ألم أخيرة لشعب شهيد: تفتتح القصيدة بحمد الله والثناء عليه والتنويه بقدرته، وخضوع جميع الناس والأشياء لحكمه، ثم يقول أن استمعوا إلى قصة الأندلس المحزنة، وهى تلك الأمة العظيمة، التى غدت اليوم ضعيفة مهيضة، يحيط بها الكفرة من كل صوب، وأضحى أبناؤها كالأغنام الذين لا راعى لهم

وفى كل يوم نسام سوء العذاب، ولا حيلة لنا سوى المصانعة، حتى ينقذنا الموت مما هو شر وأدهى. وقد حكّموا فينا اليهود الذين لا عهد لهم ولا ذمام، وفى كل يوم يبحثون عن ضلالات وأكاذيب وخدع وانتقامات جديدة. ونرغم على مزاولة الشعائر النصرانية وعبادة الصور، وهى مسخ للواحد القهار، ولا يجرؤ أحد على التذمر أو الكلام. وإذا ما قرع الناقوس ألقى القس عظته بصوت أجش، وفيها يشيد بالنبيذ ولحم الخنزير، ثم تنحنى الجماعة أمام الأوثان دون حياء ولا خجل ... ومن عَبَد الله بلغته قضى عليه بالهلاك، ومن ضبط ألقى إلى السجن وعذب ليل نهار حتى يرضخ لباطلهم. ثم يصف وسائل إرهاقهم والتضييق عليهم، من التسجيل والتفتيش وغيرها، وما يفرض عليهم من الضرائب الفادحة، وكيف تؤدى عن الحىّ والميت، والكبير والصغير والغنى والفقير، وكيف يرهقهم القضاة الظلمة، ولا يفلت من ظلمهم كائن، وكيف يلقى بهم فى السجن، ويرغمون على التنصير بالاعتقال والتعذيب، وكيف تهشم أوصال الفرائس، ثم تحمل إلى الميدان لتحرق أمام الجمع الحاشد. وكيف تكدس المظالم على رؤوسهم تكديساً، ويسومهم الخسف أصاغر النصارى، وكل منهم يفتن فى ضروب الإضطهاد. ثم يقول: ولقد علقوا يوم العيد (عيد سقوط غرناطة)، فى ميدان باب البنود، قانوناً جديداً، وأخذوا يدهمون الناس فى نومهم، ويفتحون كل باب، يزمعون تجريدنا من ثيابنا وقديم عاداتنا، ويمزقون الثياب ويحطمون الحمامات. ونحن إذ نيأس من عدل الإنسان نستغيث بالنبى، معتمدين على ثواب الآخرة، وقد حثنا شيوخنا على الصلاة والصوم، وأن نقصد وجه الله، فهو الذى يرحمنا فى نهاية الأمر" (¬1). وضبط فى نفس الوقت مع ابن داود خطاب موجه من أحد زعماء البيازين إلى رؤساء المغرب وإخوانهم فى الدين. وكان هذا الكتاب واحداً من كتب عديدة وجهت خفية، إلى أمراء الثغور فى المغرب، يطلبون إليهم الغوث والعون، فحمل ¬_______ (¬1) أورد مارمول ترجمة قشتالية كاملة لهذه القصيدة ومنها لخصنا ما تقدم. راجع: Marmol: ibid ; III. Cap. IX

الكتاب إلى حاكم غرناطة، وفيه يناشد كاتبه إخوانه بالمغرب، ويستحلفهم الغوث بحق روابط الدين والدم، ويصف ما قرره النصارى "من إرغامهم على ترك اللغة، وتركها فقد للشريعة، وكشف الوجوه الحيية المحتشمة، وفتح الأبواب، وما أنزل بهم من محن السجن والأسر ونهب الأملاك" ويطلب إليهم أن يبلغوا استغاثتهم إلى سلطان المشرق، قاهر أعدائه، ثم يقول: "لقد غمرتنا الهموم وأعداؤنا يحيطون بنا إحاطة النار المهلكة. إن مصائبنا لأعظم من أن تحتمل، ولقد كتبنا إليكم فى ليال تفيض بالعذاب والدمع، وفى قلوبنا قبس من الأمل، إذا كانت ثمة بقية من الأمل فى أعماق الروح المعذب" (¬1)؛ ولكن الحكومات المغربية كانت مشغولة بمشاكلها الداخلية، فلم يلب داعى الغوث سوى جماعة من المتطوعين، الذين نفذوا سراً إلى إخوانهم فى البشرّات، ومنهم كثيرون من البحارة المجاهدين، الذين كانوا حرباً عواناً على الثغور والسفن الإسبانية فى ذلك العصر. واستمر الموريسكيون على عزمهم وأهبتهم، وأرسلت خطابات عديدة من ابن فرج وزملائه إلى مختلف الأنحاء يدعون فيها إخوانهم إلى التأهب وإخطار سائر إخوانهم. وفى شهر ديسمبر سنة 1568 وقع حادث كان نذير الانفجار، إذ اعتدى الموريسكيون على بعض المأمورين والقضاة الإسبانيين فى طريقهم إلى غرناطة، ووثبت جماعة منهم فى نفس الوقت بشرذمة من الجند، كانت تحمل كمية كبيرة من البنادق، ومثّلت بهم جميعاً. وفى الحال سار ابن فرج على رأس مائتين من أتباعه، ونفذ إلى المدينة ليلا، وحاول تحريض مواطنيه فى "البيازين" على نصرته، ولكنهم أبوا أن يشتركوا فى مثل هذه المغامرة الجنونية. ولقد كان موقفهم حرجاً فى الواقع، لأنهم يعيشون إلى جانب النصارى على مقربة من الحامية، وهم أعيان الطائفة ولهم فى غرناطة مصالح عظيمة، يخشون عليها من انتقام الإسبان. بيد أنهم كانوا يؤيدون الثورة: يؤيدونها برعايتهم ونصحهم ومالهم؛ فارتد ابن فرج على أعقابه واجتاز شعب جبل شلير (سيرّا نفادا) إلى الهضاب الجنوبية، فيما بين بلّش وألمرية. فلم تمض بضعة أيام، حتى عم ضرام الثورة جميع الدساكر والقرى الموريسكية فى أنحاء البشرات، وهرعت الجموع المسلحة إلى ابن فرج، ووثب الموررسكيون بالنصارى القاطنين فيما بينهم، ففتكوا بهم ومزقوهم شر تمزيق. ¬_______ (¬1) أورد مارمول أيضاً ترجمة قشتالية كاملة لهذا الخطاب. راجع Marmol: ibid ; III. Cap. IX

- 3 - اندلع لهيب الثورة فى أنحاء الأندلس، ودوت بصيحة الحرب القديمة، وأعلن الموريسكيون استقلالهم، واستعدوا لخوض معركة الحياة أو الموت. وبدأ الزعماء باختيار أمير يلتفون حوله، ويكون رمز مُلْكهم القديم، فوقع اختيارهم على فتى من أهل البيازين يدعى الدون فرناندو دى كردوبا وفالور (¬1). وكان هذا الإسم النصرانى القشتالى، يحجب نسبة عربية إسلامية رفيعة. ذلك أن فرناندو دى فالور كان ينتمى فى الواقع إلى بنى أمية، وكان سليل الملوك والخلفاء، الذى سطعت فى ظلهم الدولة الإسلامية فى الأندلس، زهاء ثلاثة قرون. وكان فتى فى العشرين تنوه الرواية القشتالية المعاصرة بوسامته ونبل طلعته، وكان قبل انتظامه فى سلك الثوار مستشاراً ببلدية غرناطة، ذا مال ووجاهة. وكان الأمير الجديد يعرف خطر المهمة التى انتدب لها، وكان يضطرم حماسة وجرأة وإقداماً. ففى الحال غادر غرناطة سراً إلى الجبال، ولجأ إلى شيعته آل فالور فى قرية برذنار Beznar، فهرعت إليه الوفود، والجموع من كل ناحية، واحتفل الموريسكيون بتتويجه فى التاسع والعشرين من ديسمبر (سنة 1568) فى احتفال بسيط مؤثر، فرشت فيه على الأرض أعلام إسلامية ذات أهلة، فصلى عليها الأمير متجهاً صوب مكة، وقبل أحد أتباعه الأرض رمزاً بالخضوع والطاعة، وأقسم الأمير أن يموت فى سبيل دينه وأمته، وتسمى باسم ملوكى عربى هو محمد بن أمية صاحب الأندلس وغرناطة، واختار عمه المسمى فرناندو الزغوير (الصغير)، واسمه المسلم ابن جوهر قائداً عاماً لجيشه، وقد كان صاحب الفضل الأكبر فى اختياره للرياسة، وانتخب ابن فرج كبيراً للوزراء، ثم بعثه على رأس بعض قواته إلى هضاب البشرّات، ليجمع ما استطاع من أموال الكنائس؛ واتخذ مقامه فى أعماق الجبال فى مواقع منيعة، وبعث رسله فى جميع الأنحاء، يدعون الموريسكيين إلى خلع طاعة النصارى والعود إلى دينهم القديم (¬2). ووقعت نقمة الموريسكيين بادىء ذى بدء، على النصارى المقيمين بين ظهرانيهم فى أنحاء البشرات، ولاسيما القسس وعمال الحكومة، وكان هؤلاء يقيمون فى محلات متفرقة سادة قساة، يعاملون الموريسكيين بمنتهى الصرامة والزراية، وكان ¬_______ (¬1) كردوبا أى قرطبة، وفالور قرية غرناطية تقع على مقربة من أجيجر. (¬2) Marmol: ibid ; IV, Cap. VII

القسس بالأخص سبب بلائهم ومصائبهم، ومن ثم فقد كانوا ضحايا الثورة الأولى. وانقض ابن فرج ورجاله على النصارى فى تلك الأنحاء ومزقوهم تمزيقاً، وقتلوا القسس وعمال الحكومة، ومثلوا بهم أشنع تمثيل؛ وكانت حسبما تقول الروايات القشتالية مذبحة عامة، لم ينج منها حتى النساء والأطفال والشيوخ. وذاعت أنباء المذبحة الهائلة فى غرناطة، فوجم لها الموريسكيون والنصارى معاً، وكل يخشى عواقبها الوخيمة؛ وكان الموريسكيون يخشون أن يبطش النصارى بهم انتقاماً لمواطنيهم، وكان النصارى يخشون أن يزحف جيش الموريسكيين على غرناطة، فتسقط المدينة فى أيديهم، وعندئذ يحل بهم النكال الرائع. بيد أن الرواية القشتالية تنصف هنا محمد بن أمية، فتقول إنه لم يحرض على هذه المذابح، ولم يوافق عليها، بل لقد ثار لها وحاول أن يحول دون وقوعها، وعزل نائبه ابن فرج عن القيادة، فنزل راضياً واندمج فى صفوف المجاهدين. وهنا يختفى ذكره ولا يبدو على مسرح الحوادث بعد (¬1). - 4 - وكانت غرناطة فى أثناء ذلك ترتجف سخطاً وروعاً، وكان حاكمها المركيز دى منديخار يتخذ الأهبة لقمع الثورة منذ الساعة الأولى. بيد أنه لم يكن يقدر مدى الإنفجار الحقيقى، فغصت غرناطة بالجند، ووضع الموريسكيون أهل البيازين تحت الرقابة، رغم احتجاجاتهم وتوكيدهم بأن لا علاقة لهم بالثائرين من مواطنيهم؛ وخرج منديخار من غرناطة بقواته فى 2 يناير سنة 1569، تاركاً حكم المدينة لابنه الكونت تندليا، وعبر جبل شلير (سيرّا نفادا)، وسار توًّا إلى أعماق البشرات حيث يحتشد جيش الثوار. وكانت الثورة الموريسكية فى تلك الأثناء قد عمت أنحاء البشرات الشرقية والجنوبية، واضطرمت فى أجيجر وبرجة وأدرة وأندرش ودلاية ولوشار ومرشانة وشلوبانية وغيرها من البلاد والقرى. واستطاع الموريسكيون أن يتغلبوا بسهولة على معظم الحاميات الإسبانية المتفرقة فى تلك الأنحاء، بل لقد سرت الثورة إلى أطراف مملكة غرناطة القديمة، حيث اندلع لهيبها فى وادى المنصورة فى قراه ودساكره، ولم يتخلف عن الاشتراك فى الثورة سوى رندة ومربلة ومالقة، وكانت بها حاميات اسبانية قوية، ونشبت الثورة ¬_______ (¬1) Prescott: Philip II; V. III. Ch. II. وكذلك؛ Dr. Lea: The Moriscos p. 237

فى معظم أنحاء ألمرية، وهكذا عمت الثورة الموريسكية معظم أنحاء الأندلس، واشتد الأمر بنوع خاص فى بسطة ووادى آش وألمرية (¬1). وكان محمد بن أمية متحصناً بقواته فى آكام بوكيرا الوعرة، وكان الموريسكيون رغم نقص مواردهم وسلاحهم، قد حذقوا حرب الجبال ومفاجآتها، فما كاد الإسبان يقتربون حتى انقضوا عليهم، ونشبت بين الفريقين معركة عنيفة، ارتد الموريسكيون على أثرها إلى سهول بطرنة، وتخلف كثيرون منهم ولاسيما النساء، ففتك الإسبان بهم فتكاً ذريعاً، وحاول منديخار أن يتفاهم مع الثائرين على العفو، وأن يخلدوا إلى السكينة، وبعث إليهم بعض المسالمين من مواطنيهم. وكتب الدون ألونسو فنيجاس (بنيغش) سليل الأسرة الغرناطية القديمة إلى ابن أمية يعاتبه، وأنه قد جانب العقل والحزم فى القيام بهذه الحركة التى تعرضه وتعرض أمته للهلاك، ونصحه بالتوبة والتماس العفو. وكان محمد بن أمية يميل إلى الصلح والتفاهم، وتبودلت بالفعل المكاتبة بينه وبين المركيز دى منديخار فى أمر التسليم، ولكن المتطرفين من أنصاره ولاسيما المتطوعين المغاربة، رفضوا الصلح، فاستؤنفت المعارك، ورجحت كفة الإسبان، وهزم الموريسكيون مرة أخرى، وأعلن المركيز دى منديخار أن الأسرى الموريسكيين يعتبرون رقيقاً، وفرّ محمد بن أمية، وأسرت أمه وزوجه وأخواته. وأصيب الإسبان بهزيمة شديدة فى آكام "جواخاريس" وقتل منهم مائة وخمسون جندياً مع ضباطهم، ولكن الموريسكيين آثروا الارتداد، وقتل الإسبان من تخلف منهم أشنع قتل، وكان ممن تخلف منهم زعيم باسل يدعى " الزمار " أسره الإسبان مع ابنته الصغيرة، وأرسلوه إلى غرناطة حيث عذبوه عذاباً وحشياً إذ نزع لحمه من عظامه حياً، ثم مزقت أشلاؤه. وهكذا كانت أساليب الإسبان ومحاكم التحقيق إزاء العرب المتنصرين. واختفى محمد بن أمية مدى حين فى منزل قريبه "ابن عبو"، وكان من أنجاد الزعماء أيضاً، وطارده الإسبان دون أن يظفروا به. على أن هذه الهزائم لم تنل من عزم الموريسكيين، فقد احتشدوا فى شرقى البشرات فى جموع عظيمة، وأخذوا يهددون ألمرية، فسار إليهم المركيز "لوس فيليس" على رأس جيش آخر، ووقعت بين الفريقين عدة معارك شديدة، قتل فيها كثير من الفريقين، ومزق الموريسكيون، وفتك الإسبان كعادتهم بالأسرى، وقتلوا النساء والأطفال قتلا ذريعاً. ¬_______ (¬1) Marmol: ibid ; IV ; Cap. XXXVI

ووقعت فى نفس الوقت فى غرناطة مذبحة مروعة أخرى، فقد كان فى سجنها العام نحو مائة وخمسين من أعيان الموريسكيين، اعتقلوا رهينة وكفالة بالطاعة، فأذاع الإسبان أن الموريسكيين سيهاجمون غرناطة لإنقاذ السجناء، بمؤازرة مواطنيهم فى البيازين، وعلى ذلك صدر الأمر بإعدام السجناء، فانقض الجند عليهم وذبحوهم فى مناظر مروعة من السفك الأثيم. وكان لهذه الحوادث الأخيرة أثر فى إذكاء الثورة، وكان نذيراً جديداً للموريسكيين بأن الموت فى ساحة الحرب خير مصير يلقون، فسرى إليهم لهب الثورة بأشد من قبل، وطافت بهم صيحة الإنتقام، فانقضوا على الحاميات الإسبانية المبعثرة فى أنحاء البشرّات ومزقوها تمزيقاً، وهزموا قوة إسبانية تصدت لقتالهم، واحتشدت جموعهم مرة أخرى تملأ الهضاب والسهل، وعاد محمد بن أمية ثانية إلى تبوىء عرشه الخطر، والتف حوله الموريسكيون أضعاف ما كانوا، وبعث أخاه عبد الله إلى قسطنطينية بطلب العون من سلطانها، وأرسل فى نفس الوقت إلى أمير الجزائر وإلى سلطان مراكش الشريفى يطلب الإنجاد والغوث، ولكن سلاطين قسطنطينية لم يلبوا ضراعة الموريسكيين بالرغم من تكرارها منذ سقوط غرناطة، وأرسل أمير الجزائر مشجعاً ومعتذراً عن عدم إمكان إرسال السفن، ووعد سلطان مراكش بالمساعدة والغوث، ولكن هذا الصريخ المتكرر من جانب الموريسكيين لم ينتج أثره المنشود، ولم يلبه غير إخوانهم المجاهدين فى إفريقية، فقد استطاعت جموع جريئة مخاطرة، أن تجوز إلى الشواطىء الإسبانية، ومنهم فرقة من الترك المرتزقة، وأن تهرع إلى نصرة المنكوبين. وهكذا عاد النضال إلى أشده، وخشى الإسبان من احتشاد الموريسكيين فى البيازين ضاحية غرناطة، فصدر قرار بتشريدهم فى بعض الأنحاء الشمالية. وكانت مأساة جديدة مزقت فيها هذه الأسر التعسة، وفرق فيها بين الآباء والأبناء والأزواج والزوجات، فى مناظر مؤثرة تذيب القلب، وسار المركيز لوس فيليس فى نفس الوقت إلى مقاتلة الموريسكيين، فى سهول المنصورة على مقربة من أراضى مرسية، ونشبت بينه وبينهم وقائع غير حاسمة، ولم يستطع متابعة القتال لنقص فى الأهبة والمؤن، وكان بينه وبين زميله منديخار خصومة ومنافسة، كانتا سبباً فى اضطراب الخطط المشتركة. واتهم منديخار بالعطف على الموريسكيين فاستدعى إلى مدريد، وأقيل من القيادة، واتخذت مدريد خطوتها الجديدة الحاسمة فى هذا الصراع الذى لا رحمة فيه ولا هوادة

بينما كانت هذه الحوادث والمعارك الدموية تضطرم فى هضاب الأندلس وسهولها وتحمل إليها أعلام الخراب والموت، إذ وقع فى المعسكر الموريسكى حادث خطر، هو مصرع محمد بن أمية. وكان مصرعه نتيجة المؤامرة والخيانة، وكانت عوامل الخلاف والحسد، تحيط هذا العرش بسياج من الأهواء الخطرة. وكان محمد بن أمية يثير بين مواطنيه بظرفه ورقيق شمائله كثيراً من العطف، ولكنه كان يثير بصرامته وبطشه، الحقد فى نفوس نفر من ضباطه. وتقص علينا الرواية القشتالية سيرة مقتله فتقول، إنه كان ثمة ضابط من هؤلاء يدعى ديجو الجوازيل (الوزير) له عشيقة حسناء تسمى زهرة، فانتزعها محمد منه قسراً، فحقد عليه وسعى لإهلاكه بمعاونة خليلته، فزوّر على لسانه خطاباً إلى القائد العام "ابن عبو" يحرضه على التخلص من المرتزقة الترك، وكان ثمة منهم فرقة فى المعسكر الموريسكى، فعلم الترك بأمر الخطاب، واقتحموا المعسكر إلى مقر ابن أمية وقتلوه، بالرغم من احتجاجه وتوكيد براءته، واستقبل الجند الحادث بالسكون. وفى الحال اختار الزعماء ملكاً جديداً هو ابن عبو، واسمه الموريسكى ديجو لوبيث، وهو ابن عم الملك القتيل، فتسمى بمولاى عبد الله محمد، وأعلن ملكاً على الأندلس بنفس الاحتفال المؤثر الذى وصفناه. وكان مولاى عبد الله أكثر فطنة وروية وتدبراً، فحمل الجميع على احترامه، واشتغل مدى حين بتنظيم الجيش، واستقدم السلاح والذخيرة من ثغور المغرب، واستطاع أن يجمع حوله جيشاً مدرباً قوامه زهاء عشرة آلاف، بين مجاهد ومرتزق ومغامر. وفى أواخر أكتوبر سنة 1569 سار مولاى عبد الله بجيشه صوب "أرجبة" وهى مفتاح غرناطة، واستولى عليها بعد حصار قصير، فذاعت شهرته وهرع الموريسكيون فى شرق البشرات إلى إعلان طاعته، وامتدت سلطته جنوباً حتى بسائط رندة ومالقة، وكثرت غارات الموريسكيين على فحص غرناطة La Vega، وقد كان قبل سقوطها ميدان المعارك الفاصلة بين المسلمين والنصارى، وكان فيليب الثانى حينما رأى استفحال الثورة الموريسكية، وعجز القادة المحليين عن قمعها، قد عين أخاه الدون خوان قائداً عاماً لولاية غرناطة؛ ولما رأى الدون خوان اشتداد ساعد الموريسكيين اعتزم أن يسير لمحاربتهم بنفسه، فخرج فى أواخر ديسمبر على رأس جيشه، وسار صوب وادى آش، وحاصر بلدة "جليرا" وهى من أمنع مواقع الموريسكيين، وكان يدافع عنها زهاء ثلاثة آلاف موريسكى، منهم فرقة

تركية، فهاجمها الإسبان عدة مرات وصوبوا إليها نار المدافع بشدة، فسقطت فى أيديهم بعد مواقع هائلة، أبدى فيها الموريسكيون والنساء الموريسكيات أعظم ضروب البسالة، وقتل عدد من الأكابر الإسبان وضباطهم، ودخلها الإسبان دخول الضوارى المفترسة، وقتلوا كل من فيها ولم يفروا من النساء والأطفال، وكانت مذبحة رائعة (فبراير سنة 1570)، وتوغل الدون خوان بعد ذلك فى شعب الجبال حتى سيرون الواقعة على مقربة من بسطة، وكانت هنالك قوة أخرى من الموريسكيين بقيادة زعيم يدعى"الحبقى" تبلغ بضعة آلاف، ففاجأت الإسبان فى سيرون ومزقت بعض سراياهم، وأوقعت الرعب والخلل فى صفوفهم، وقتل منهم عدد كبير، ولم يستطع الدون خوان أن يعيد النظام إلا بصعوبة؛ فجمع شتات جيشه، وطارد الموريسكيين، واستمر فى سيره جنوباً حتى وصل إلى أندرش فى مايو سنة 1570، وهنا رأت الحكومة الإسبانية أن تجنح إلى شىء من اللين، خشية عواقب هذا النضال الرائع، فبعث الدون خوان رسله إلى الزعيم "الحبقى" يفاتحه فى أمر الصلح، وصدر أمر ملكى بالوعد بالعفو عن جميع الموريسكيين الذين يقدمون خضوعهم فى ظرف عشرين يوماً من إعلانه، ولهم أن يقدموا ظلاماتهم، فتبحث بعناية، وكل من رفض الخضوع، ما عدا النساء والأطفال دون الرابعة عشرة، قضى عليه بالموت. فلم يصغ إلى النداء أحد. ذلك أن الموريسكيين أيقنوا نهائياً أن اسبانيا النصرانية لا عهد لها ولا ذمام، وأنها غير أهل للوفاء، فعاد الدون خوان إلى استئناف المطاردة والقتال، وانقض الإسبان على الموريسكيين محاربين ومسالمين، يمعنون فيهم قتلا وأسراً، وسارت قوة بقيادة دون سيزا إلى شمال البشرّات، واشتبكت مع قوات مولاى عبد الله فى معارك غير حاسمة، وسارت مفاوضات الصلح فى نفس الوقت عن طريق الحبقى، وكان مولاى عبد الله قد رأى تجهم الموقف، ورأى أتباعه ومواطنيه يسقطون من حوله تباعاً، والقوة الغاشمة تجتاح فى طريقها كل شىء، فمال إلى الصلح والمسالمة، واستخلاص ما يمكن استخلاصه من برائن القوة القاهرة. وتقدم للوساطة بين الثوار وبين الدون خوان كبير من أهل وادى آش يدعى الدون فرناندو دى براداس، وكانت له صلات طيبة مع زعماء الموريسكيين قبل الثورة. وقد انتهت إلينا فى ذلك وثيقة مؤثرة هى عبارة عن خطاب كتبه مولاى عبد الله إلى دون هرناندو هذا يعرض استعداده للصلح والمفاوضة، وفيه تبدو لغة الموريسكيين العربية فى دور احتضارها، ويبدو أسلوب اللهجة الغرناطية التى انتهى الموريسكيون

صورة: دون خوان

إلى التحدث والكتابة بها بعد نحو ثمانين عاماً من الكبت والمطاردة. وإليك ما ورد فى هذا الخطاب الذى ربما كان آخر وثيقة عربية عثر بها البحث الحديث: 1 - الحمد لله وحدهو قبل الكلم 2 - اسلم الكرمو على من اكرمهو الكرمو سيديا وحبيبى وعز اسر عنديا دن هرنندو ونى نعلم حرمتكم ين 3 - اكن انت تقول يجى عنديا يجى عند أخكم وحببك وتجى مطمن وكل ميجكم فمليا 4 - وذيمتى وكن انت تريد تترطل فذى المبرك مين سُلح كل متعمل تعملو معى ونى 5 - نعمل معك كل مَترِيد بحق وبل غدر وذَهَرلى مين الحبقى بن اشمكِن يعمل 6 - معلمن وتطلعنى على حق وذهر لى ين اشم طلب طلب يرحو وينسو ويسحبو وبعد رعى 7 - ودين انى نعرف حرمتك بهذا شى وحرمتك اعمل الذى يذهر لكم وعمل مَيسُلح بنترر 8 - وبين وعسى يقذيا الله خير بينين وتكن حرمتكم اسَبَبْ فدا شى وعملن فعدلكم يل اش 9 - كن معى من يكتب لى يل كينكن كتبت لكم أكثر وسلموا عليكم ورحمتو الله وبركتو الله 10 - كتِيب الكتب يوم الثليث فشهر وليو فعم .. ... ملاى عبد الله (¬1). وكتب الدون ألونسو دى فنيجاس (بنيغش) أيضاً إلى مولاى عبده الله يحثه على المسالمة، والتنكب عن هذا الطريق الخطر، ورد عليه عبد الله يلقى المسئولية على أولى الأمر، وعلى ما أحدثوه من بدع جعلت الحياة مستحيلة على الشعب الموريسكى (¬2). وجرت المفاوضات بين الزعيم الحبقى قائد قوات الثورة، وبين ¬_______ (¬1) نشر هذا الخطاب وصورته الفتوغرافية التى ننقلها هنا العلامة المستشرق M. Alarcon فى مجموعة بالإسبانية عنوانها: Miscelanco de Estudios y Textos Arabes (Madrid 1915) ; p. 691 وقد وجد هذا الخطاب فى مجموعة المخطوطات الشرقية للمركيز بنيافلور Pena Flor، وتحفظ نسخته العربية فيها برقم 246، وتحفظ ترجمته القشتالية برقم 245. وقد أورد مارمول ترجمته القشتالية فى الكتاب التاسع الفصل التاسع. (¬2) Marmol: ibid ; VIII. Cap. XXVII

صورة خطاب مولاى عبد الله إلى دون هرناندو دى براداس مكتوب بخطه ومذيل بتوقيعه

الدون هرناندو دى براداس، واتفق فى النهاية على أن يتقدم الحبقى إلى الدون خوان بإعلان خضوعه، وطلب العفو لمواطنيه، فيصدر العفو العام عن الموريسكيين، وتكفل الحكومة الإسبانية حمايتها لهم أينما ارتأت مقامهم. وفى ذات مساء سار الحبقى فى سرية من فرسانه إلى معسكر الدون خوان فى أندرش، وقدم له الخضوع وحصل على العفو المنشود. ولكن هذا الصلح لم يرض بالأخص مولاى عبد الله وباقى الزعماء، لأنهم لمحوا فيه نية اسبانيا النصرانية فى نفيهم ونزعهم عن أوطانهم، ففيم كانت الثورة إذاً وفيم كان النضال؟ لقد ثار الموريسكيون لأن اسبانيا أرادت أن تنزعهم لغتهم وتقاليدهم، فكيف بها إذ تعتزم أن تنزعهم ذلك الوطن العزيز، الذى نشأوا فى ظلاله الفيحاء، والذى يضم تاريخهم وكل مجدهم وذكرياتهم؟ أنكر الموريسكيون ذلك الصلح المجحف، وارتاب مولاى عبد الله فى موقف الحبقى، إذ رآه يروج لهذا الصلح بكل قواه، ويدعو إلى الخضوع والطاعة للعدو، فاستقدمه لمعسكره بالحيلة وهنالك أعدم سراً. ووقف الدون خوان على ذلك بعد أسابيع من الانتظار والتريث، وبعث رسوله إلى مولاى عبد الله، فأعلن إليه أنه يترك الموريسكيين أحراراً فى تصرفاتهم. بيد أنه يأبى الخضوع ما بقى فيه رمق ينبض، وأنه يؤثر أن يموت مسلماً مخلصاً لدينه ووطنه، على أن يحصل على مُلْك اسبانيا بأسره. والظاهر أن مولاى عبد الله كانت قد وصلته أمداد من المغرب شدت أزره وقوّت أمله، وعادت الثورة إلى اضطرامها حول رندة، وأرسل مولاى عبد الله أخاه الغالب ليقود الثوار فى تلك الأنحاء، وثارت الحكومة الإسبانية لهذا التحدى، واعتزمت سحق الثوار بما ملكت، فسار الدون خوان فى قواته إلى وادى آش، وسار جيش آخر من غرناطة بقيادة دون ركيصانص إلى شمال البشرّات، وسار جيش ثالث إلى بسائط رندة، واجتاح الإسبان فى طريقهم كل شىء، وأمعنوا فى التقتيل والتخريب، وعبثاً حاولت السرايا الموريسكية أن تقف فى وجه هذا السيل فمزقت تباعاً، وهدم الإسبان الضياع والقرى والمعاقل، وأتلفت الأحراش والحقول، حتى لا يبقى للثائرين مثوى أو مصدر للقوت، وأخذت الثورة تنهار بسرعة، وفر كثير من الموريسكيين إلى إخوانهم فى إفريقية، ولم يبق أمام الإسبان سوى مولاى عبد الله وجيشه الصغير. بيد أن مولاى عبد الله لبث معتصما بأعماق الجبال، يحاذر الظهور أمام هذا السيل الجارف

وفى 28 أكتوبر سنة 1570، أصدر فيليب الثانى قراراً بنفى الموريسكيين من مملكة غرناطة إلى داخل البلاد، ومصادرة أملاكهم العقارية، وترك أملاكهم المنقولة يتصرفون فيها. ويقضى هذا القرار بأن الموريسكيين فى غرناطة والفحص ووادى لكرين (الإقليم) وجبال بونتوفير حتى مالقة، وجبال رندة ومربلة، يؤخذون إلى ولاية قرطبة، ومن هنالك يفرقون فى أراضى ولايتى إسترامادورة وجليقية. والموريكسيون فى وادى آش وبسطة ووادى المنصورة يؤخذون إلى جنجالة والبسيط ثم يفرقون فى أراضى قلعة رباح ومونتيل. والموريسكيون، فى ألمرية يؤخذون إلى ولاية إشبيلية. ونفذ القرار الجديد بمنتهى الصرامة والتحوط، وجمع الموريسكيون المسالمون من غرناطة وبسطة ووادى آش وغيرها، وسيقوا إلى الكنائس أكداساً، يحيط بهم الجند فى كل مكان، ونزعوا من أوطانهم وربوعهم العزيزة، وشتتوا على النحو المتقدم فى مختلف أنحاء قشتالة وليون (¬1). ووقعت أثناء تنفيذ هذا القرار مناظر دموية، حيث جنح رجال الحكومة فى بعض الأنحاء ولاسيما فى رندة، إلى نهب المنفيين والفتك بالنساء والأطفال. ولما سمع الموريسكيون المعتصمون بالجبال هذه الأنباء انحدروا إلى السهل، وقتلوا كثيراً من الجند المثقلين بالغنائم. وكان مصير المنفيين مؤلماً، إذ هلك الكثير منهم من المشاق والمرض، وعانى الذين سلموا منهم مرارة غربة جديدة مؤلمة، ونص على وجوب وضعهم تحت الرقابة الدائمة، وتسجيلهم وتسجيل مساكنهم فى سجلات خاصة، وعين لهم حيث وجدوا مشرفاً خاصاً يتولى شئونهم، وحرم عليهم أن يغيروا مساكنهم إلا بتصريح ملكى، وحرم عليهم بتاتاً أن يسافروا إلى غرناطة، وفرضت على المخالفين عقوبات شديدة تصل إلى الموت، وهكذا شرد الموريسكيون فى مملكة غرناطة أفظع تشريد، وانهار بذلك مجتمعهم القوى المتماسك فى الوطن القديم (¬2). ولم يبق إلا أن يسحق مولاى عبد الله وجيشه الصغير، وكان هذا الأمير المنكود يرى قواه وموارده تذوب بسرعة، وقد انهار كل أمل فى النصر أو السلم الشريف، بيد أنه لبث مختفياً فى أعماق جبال البشرات بين آكام برشول وترفليس مع شرذمة من جنده المخلصين. وفى مارس سنة 1571 كشف بعض الأسرى سر مخبئه للإسبان، فأوفدوا رسلهم إلى معسكره فى بعض المغائر، وهنالك استطاعوا ¬_______ (¬1) Marmol: ibid ; X. Cap. VI. (¬2) Dr. Lea: The Moriscos p. 256, 258 & 265

إغراء ضابط مغربى من خاصته يدعى جونثالفو"الشنيش". وكان الشنيش يحقد عليه لأنه منعه من الفرار إلى المغرب، وأغدق الإسبان له المنح والوعود، وقطعوا له عهداً بالعفو الشامل، وضمان النفس والمال، وأن ترد إليه زوجته وابنته الأسيرتان، إذا استطاع أن يسلمهم مولاى عبد الله حياً أو ميتاً. وكان الإغراء قوياً مثيراً، فدبر الضابط الخائن خطته لاغتيال سيده، وفى ذات يوم فاجأه مع شرذمة من أصحابه، فقاوم مولاى عبد الله ما استطاع، ولكنه سقط أخيراً مثخناً بجراحه، فألقى الخونة جثته من فوق الصخور لكى يراها الجميع، ثم حملها الإسبان إلى غرناطة، وهناك استقبلوها فى حفل ضخم، ورتبوا موكباً أركبت فيه الجثة مسندة إلى بغل، وعليها ثياب كاملة كأنما هى إنسان حى، ومن ورائها أفواج كثيرة من الموريسكيين الذين سلموا عقب مصرع زعيمهم، ثم حملت إلى النطع وأجرى فيها حكم الإعدام، فقطع رأسها ثم جرت فى شوارع غرناطة مبالغة فى التمثيل والنكال، ومزقت أربعاً، وأحرقت بعد ذلك فى الميدان الكبير، ووضع الرأس فى قرص من الحديد، وفع فوق سارية فى ضاحية المدينة تجاه جبال البشرات (¬1). ... وهكذا انهارت الثورة الموريسكية وسحقت، وخبت آخر جذوة من العزم والنضال، فى صدور هذا المجتمع الأبى المجاهد، وقضت المشانق والمحارق والمحن المروعة، على كل نزعة إلى الخروج والنضال، وهبت روح من الرهبة والاستكانة المطلقة، على ذلك المجتمع المهيض المعذب، وعاش الموريسكيون لا يسمع لهم صوت، ولا تقوم لهم قائمة، فى ظل العبودية الشاملة والإرهاق المطلق، حقبة أخرى. ¬_______ (¬1) Marmol: ibid ; X. Cap. VIII

الكتاب الرابع نهاية النهاية

الكتاب الرابع نهاية النّهاية

الفصل الأول توجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية

الفصل الأول توجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية الموريسكيون قوة أدبية واجتماعية. بعض ما قيل فى وصفهم. تعلقهم بتراثهم الروحى. يكتبون كتبهم بالألخميادو. نشاط ديوان التحقيق فى مطاردتهم. قضية موريسكية شهيرة. عدد الموريسكيين. ما يقوله عنهم سفير البندقية. أقوال ثرفانتس. براعتهم الاقتصادية. تخوف السياسة الإسبانية من وجودهم. صلات الموريسكيين بمسلمى إفريقية والترك. دسائس ومؤامرات مزعومة. غارات البحارة المجاهدين على الشواطىء الإسبانية. البحر المتوسط مسرح القراصنة منذ العصور الوسطى. ظهور المغامرين المسلمين فى هذه المياه. ظهور البحارة الترك والموريسكيين. النزعة الانتقامية فى هذه الغارات. تحوط اسبانيا ضد الغارات. غارات المجاهدين المغاربة. معاونة الموريسكيين للبحارة المغيرين. ظهور أوروج وخير الدين. استيلاء خير الدين على الجزائر والثغور المغربية. غاراته المتوالية على الشواطىء الإسبانية. توالى صريخ الموريسكيين. تحطيم سلطان البحارة الترك لمشاريع اسبانيا فى المغرب. استنصار أمراء المغرب بإسبانيا. غارات طرغود خلف خير الدين. غارات البحارة التونسيين. انزعاج اسبانيا ولوم الموريسكيين. اتساع نطاق الغارات فى البحر المتوسط. انتشار تجارة الرقيق. حوادث المغرب الأقصى. فرار الأمير الشيخ إلى اسبانيا واستغاثته بفيليب الثانى. الموريسكيون يحرضون مولاى زيدان على غزو اسبانيا. استيلاء الإسبان على ثغر العرائش. مقتل الشيخ وانتهاء مغامراته. الكفاح بين مولاى زيدان واسبانيا. كان انهيار الثورة الموريسكية وسحق الموريسكيين، خاتمة عهد من الكفاح المرير بين شعب مهيض أعزل، يحاول أن يحتفظ بشخصيته وكرامته وحقه فى الحياة، وبين القوة الغاشمة، التى تريد أن تسحق فى بقية الأمة المغلوبة، كل أثر للحياة الحرة الكريمة، ولكن الثورة الموريسكية كانت من جهة أخرى، نذيراً عميق الأثر للسياسة الإسبانية. ذلك أن الموريسكيين لبثوا بالرغم من تجريدهم من كل مظاهر القوة المادية، قوة أدبية واجتماعية يخشى بأسها. وكان هذا الشعب المستكين الأعزل ما يزال رغم ضعفه وذلته، يملأ جنبات الجزيرة بفنونه ونشاطه المنتج، ويحتل مكانة بارزة فى الشئون الاقتصادية. وكانت الكنيسة ماتزال تنفث إلى الدولة تحريضها البغيض، على مجتمع لم تطمئن لولائه وصدق إيمانه. وقد وصف المطران جريرو الموريكسيين فى سنة 1565 بقوله: "إنهم خضعوا للتنصير،

ولكنهم لبثوا كفرة فى سرائرهم، وهم يذهبون إلى القداس تفادياً للعقاب، ويعملون خفية فى أيام الأعياد، ويحتفلون يوم الجمعة أفضل من احتفالهم بيوم الأحد، ويستحمون حتى فى ديسمبر، ويقيمون الصلاة خفية، ويقدمون أولادهم للتنصير خضوعاً للقانون، ثم يغسلونهم لمحو آثار التنصير، ويجرون ختان أولادهم، ويطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنيسة فى ثياب أوربية، فإذا عُدن إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتفل بالزواج طبقاً للرسوم العربية" (¬1). والظاهر أن هذه الأقوال تنطوى على كثير من الصدق. ذلك أن الأمة الموريسكية المهيضة، بقيت بالرغم مما يصيبها من شنيع العسف والإرهاق، متعلقة بتراثها الروحى القديم. وبالرغم مما فرض على الموريسكيين من نبذ دينهم ولغتهم، فقد لبث الكثير منهم مسلمين فى سرائرهم، يزاولون شعائرهم القديمة خفية، ويكتبون أحكام الإسلام والأدعية والمدائح النبوية بالقشتالية الأصلية، أو بالقشتالية المكتوبة بأحرف عربية، وهى التى تعرف بالألخميادو Aljamiado أى "الأعجمية" وهو ما نعود إلى التحدث عنه بعد. وقد انتهى إلينا الكثير من الكتب الدينية والأدعية والمدائح الإسلامية الموريسكية مكتوبة "بالألخميادو" وكثير منها يدور حول سيرة النبى العربى، وشرح تعاليم القرآن والسنة، يتخللها كثير من الخرافات والأساطير المقدسة (¬2). بيد أنها تدلى بما كانت تجيش به هذه النفوس المعذبة من إخلاص راسخ لدينها القديم، وإن التبست عليهم أصوله وشعائره بمضى الزمن. وقد لبث ديوان التحقيق على نشاطه ضد الموريسكيين طوال القرن السادس عشر، ولم يفتر هذا النشاط حتى أواخر هذا القرن، مما يدل على أن آثار الإسلام الراسخة بقيت بالرغم من كر الأعوام وتوالى المحن، دفينة فى قلب الشعب المضطهد، تنضح آثارها من آن لآخر. يدل على ذلك ما تسجله محفوظات الديوان، من أن قضايا الموريسكيين أمام محاكم التحقيق، بلغت فى سنة 1591، 291 قضية، وبلغت فى العام التالى 117 قضية، وظهر فى حفلة " الأوتو دافى " Auto da-fé التى أقيمت فى 5 سبتمبر سنة 1604 ثمانية وستون موريسكياً، نفذت فيهم الأحكام، ¬_______ (¬1) Marmol: ibid , II. Cap. I وكذلك: Dr. Lea: The Moriscos; p. 213 & 214 (¬2) وضع القس الإسبانى Pedro Longas عن حياة الموريسكيين الدينية كتابه الذى سبقت الاشارة إليه غير مرة Vida Religiosa de los Moriscos (Madrid 1914) ، وفيه يورد كثيراً من رسومهم وعوائدهم الدينية، وكثيراً من الآيات والمدائح النبوية بالقشتالية

وظفر فى حفلة 7 يناير سنة 1607 ثلاثة وثلاثون موريسكياً، واستعمل التعذيب فى محاكمتهم خمس عشرة مرة، وكان الإتهام يوجه أحياناً إلى الموريسكيين جملة، على أثر بعض الحملات الفجائية على المحلات المورريسكية، فقد حدث مثلا فى سنتى 1589 و 1590، أن سجلت فى قرية مسلاته الموريسكية بالقرب من بلنسية مائة قضية، وسجلت فى قرية كارليت مائتان، واتهم أربعون أسرة بصوم شهر رمضان. والواقع أنه كان من الصعب، على من بقيت فى نفوسهم جذوة أخيرة من دين الآباء، ولم يخمدها تعاقب جيلين أو ثلاثة من النصرانية المفروضة، أن يكونوا دائماً بمنجاة من الإتهام، ولهذا كان الشعب الموريسكى بأسره أينما وجد، عرضة للاتهام بالحق وبالباطل. وإذا كانت ثمة فترات يهدأ فيها نشاط محاكم التحقيق، فذلك يرجع بالأخص إلى استعمال الرشوة مع المأمورين، أو الحصول على براءات الحصانة بالمال. وتوضح لنا قضية بنى عامر زعماء الموريسكيين فى بلنسية هذه الحقيقة أتم وضوح. كانت أسرة بنى عامر من أعرق الأسر المسلمة القديمة، التى أكرهت على التنصير، وكان زعماؤها إخوة ثلاثة، هم: دون كوزمى ودون خوان ودون هرناندو بنى عامر، ومنزل الأسرة فى بنجوازيل (بنى وزير) ضاحية بلنسية. وكان الثلاثة من ذوى المكانة والنفوذ، يسمح لهم بحمل السلاح وامتيازات أخرى، محرمة على الموريسكيين. ففى مايو سنة 1567 صدر قرار محكمة التحقيق باتهامهم، وتقرر القبض عليهم، ولكن بعد أن وافقت المحكمة العليا (سوبريما) نظراً لخطر مكانتهم، فاختفى الإخوة الثلاثة حيناً؛ ولكن الدون كوزمى قدم نفسه للسلطات فى يناير سنة 1568، وقرر فى التحقيق أنه يعتقد أنه نصّر طفلا، ومع ذلك فإنه لا يعتبر نفسه نصرانياً بل مسلماً، وأنه جرى خلال حياته على مراعاة الشعائر الإسلامية، ولم يذهب إلى المعترف إلا خضوعاً للأوامر، على أنه يبغى أن يكون فى المستقبل نصرانياً، وأن يؤدى ما يطلبه المحققون إليه، ولم يقدم دون كوزمى خلال محاكمته أى دفاع، ولكنه أفرج عنه فى 15 يوليه بضمان قدره ألفى دوقة، على أن يبقى فى بلنسية ولا يبرحها، ومع ذلك فقد سافر دون كوزمى إلى مدريد، وحصل على عفو عنه وعن أخويه من الملك والمحكمة العليا، نظير فداء قدره سبعة آلاف دوقة، واستطاع فوق ذلك بنفوذه القوى، أن يحصل للموريسكيين فى بلنسية على قرار التوفيق الصادر فى سنة 1571 حسبما قدمنا

وفى سنة 1577 جددت التهم القديمة ضد بنى عامر، وقبض على كوزمى وأخيه خوان، وحوكم كوزمى وشرح للمحكمة عقيدته الدينية، وهى مزيج من الإسلام والنصرانية، وعقدت الجلسات الأولى، ولكن القضية أوقفت قبل أن يصل التحقيق إلى مرحلة التعذيب، مما يدل على أن بنى عامر استطاعوا بالرغم من سوء حالتهم المالية يومئذ، أن يحصلوا على براءتهم وإطلاق سراحهم بدفع مبلغ من المال (¬1). ْوهكذا نرى أن الموريسكيين استطاعوا بالرغم من العسف المنظم، الذى فرضته الدولة والكنيسة عليهم زهاء قرن، أن يحتفظوا فى قرارة نفوسهم الكليمة، ببقية راسخة من تراثهم الروحى القديم. هذا من ناحية الدين والعقيدة؛ وأما من الناحية الاجتماعية، فقد كان الموريسكيون يكونون مجتمعاً متماسكاً متضامناً، قوياً بنشاكه ودأبه وذكائه، وقد بلغ عددهم فى أواخر القرن السادس عشر وفقاً لتقدير سفير البندقية زهاء ستمائة ألف نفس، وقدر البعض الآخر عددهم يومئذ بأربعمائة ألف نفس، وهو عدد ضخم بالنسبة لمجموع سكان اسبانيا فى ذلك الحين، وهو لم يتعد الثمانية ملايين. ووصفهم سفير البندقية فى سنة 1595، أى بعد قرن من سقوط غرناطة، بأنهم شعب ينمو باضطراد فى العدد والثروة، وأنهم لا يذهبون إلى الحرب، ولكن يكرسون نشاطهم للتجارة واجتناء الربح. وذكر الكاتب الإسبانى الكبير ثرفانتيس (¬2) فى بعض رسائله أن الموريسكيين يتكاثرون وكلهم يتزوج، ولا يدخلون أولادهم قط فى سلك الكهنوت أو الجيش، ويقتصدون فى الإنفاق ويكتنزون المال، فهم الآن أغنى الطوائف فى اسبانيا. وأما عن الناحية الاقتصادية فقد قيل إن الموريسكيين كانوا يحتكرون تجارة الأغذية، ويضعون يدهم على المحاصيل عند نضجها، ومنهم تجار البقالة والماشية، ومنهم القصابون والخبازون وأصحاب الفنادق وغيرهم، وهم لا يشترون العقارات احتفاظاً بحرية استعمال أموالهم، وقد كان ذلك من أسباب غناهم وقوتهم الإقتصادية (¬3). ¬_______ (¬1) Dr. Lea: History of the Inquisition ; V. III. p. 362 - 365 (¬2) مجيل ثرفانتس دى سافدرا (1547 - 1616) من أعظم كتاب اسبانيا وشعرائها، وهو مؤلف قصة الفروسية الشهيرة "دون كيخوتى دى لامانشا". (¬3) Dr. Lea: The Moriscos p. 204 & 210

كانت اسبانيا النصرانية إذاً، أبعد من أن تطمئن إلى مجتمع العرب المتنصرين، فقد كانوا فى نظر الكنيسة أبدا كفرة مارقين، وكانت الدولة من جانبها تلتمس المعاذير لاضطهاد هذا المجتمع الدخيل ومطاردته، فهى تخشى أن يعود إلى الثورة، وهى تخشى من صلاته المستمرة مع مسلمى إفريقية ومع سلطان الترك، وهى مازالت تحلم بتطهير اسبانيا من الآثار الأخيرة للشعب الفاتح، والقضاء إلى الأبد على تلك الصفحة من تاريخ اسبانيا. ... والواقع أن صلات الموريسكيين مع أعداء اسبانيا، لبثت شغلا شاغلا للسياسة الإسبانية. وقد كانت الممالك والإمارات المغربية فى الضفة الأخرى من البحر، على استعداد دائماً لأن تصغى إلى هذا الشعب المنكود، سليل إخوانهم الأمجاد فى الدين، وأن تعاونه كلما سنحت الفرص. وكان سلاطين الترك يتلقون من الموريسكيين صريخ الغوث من آن لآخر، وكانت المنافسة بين الترك واسبانيا يومئذ على أشدها، فى مياه البحر المتوسط، وكانت طوائف الموريسكيين تعيش على مقربة من الثغور الشرقية والجنوبية. وأكثر من ذلك أن السياسة الإسبانية كانت تخشى دسائس فرنسا خصيمتها القوية يومئذ، وتخشى تفاهمها المحتمل مع الموريسكيين. وكانت هذه الظروف كلها تحمل اسبانيا النصرانية، على أن تعتبر الموريسكيين خطراً قومياً يجب التحوط منه، والعمل على درئه بكل الوسائل. وتسوق الرواية الإسبانية إلينا دلائل هذا الخطر فى حوادث كثيرة. ففى سنة 1573 وقفت السلطات الإسبانية على أنباء مفادها أن أمراء تلمسان والجزائر يدبرون حملة بحرية لمهاجمة "المرسى الكبير" فى مياه بلنسية، يعاونهم الموريسكيون فيها بالثورة، ولذا بادرت السلطات بنزع السلاح من الموريسكيين فى بلنسية، وقيل بعد ذلك إن هذه الحملة المغربية كانت ستقترن بغزوة فرنسية لأراجون، ينظمها حاكم بيارن الفرنسى، وأن سلطان الترك وسلطان الجزائر كلاهما يؤيد المشروع، وأن أساطيل الغزو كانت تزمع النزول فى مياه برشلونة وفى دانية، وفيما بين مرسية وبلنسية، وأن الفضل فى فشل هذا المشروع كله يرجع إلى حزم الدون خوان ونزع سلاح الموريسكيين. ومما يدل على أن اسبانيا لبثت حيناً على توجسها من فرنسا ودسائسها لدى الموريسكيين، ما تسوقه الرواية الإسبانية من أن هنرى الرابع ملك فرنسا، كانت له فى ذلك مشاريع خطرة، ترمى إلى غزو اسبانيا من

ناحية بلنسية، حيث يوجد حشد كبير من الموريسكيين، وأن زعماء الموريسكيين وعدوا بإضرام نار الثورة، وتقديم عدد كبير من الجند، ولم يطلبوا سوى السلاح، وكان من المنتظر أن تقوم الثورة الموريسكية فى سنة 1605، ولكن المؤامرة اكتشفت فى الوقت المناسب، وانهار مشروع الغزو. وهذه الروايات العديدة التى جمعها "ديوان التحقيق" الإسبانى على يد أعوانه وجواسيسه، تنقصها الأدلة التاريخية الحقة (¬1). على أن الخطر الحقيقى، كان يتمثل فى غارات المجاهدين من خوارج البحر المسلمين، على الثغور والشواطىء الإسبانية. وتملأ سير هذه الغارات فراغاً كبيراً فى الرواية الإسبانية، وتسبغ عليها الرواية صفة الإنتقام للأندلس الشهيدة. وقد لبثت هذه الغارات طوال القرن السادس عشر، واستمرت دهراً بعد إخراج العرب المتنصرين من اسبانيا. ويشير المقرى مؤرخ الأندلس إلى مغزى هذه الغارات البحرية بعد إخراج الموريسكيين، فيقول إنهم انتظموا فى جيش سلطان المغرب، وسكنوا سلا وكان منهم من الجهاد فى البحر ما هو مشهور الآن (¬2). ويجب أن نذكر أن مياه البحر المتوسط شرقه وغربه، كانت خلال العصور الوسطى، دائماً مسرحاً سهلا للأساطيل الإسلامية. فمنذ أيام الأغالبة والفاطميين، ومنذ خلافة قرطبة ثم المرابطين والموحدين، كانت الأساطيل الإسلامية تجوس أواسط هذا البحر وغربيه، وكانت الدول الإسلامية الأندلسية والمغربية، ترتبط مع الدول النصرانية الواقعة فى شمال هذا البحر، مثل البندقية وجنوة وبيزة، بمعاهدات ومبادلات تجارية هامة، وكان التسامح يسود يومئذ علائق المسلمين والنصارى، وتغلب المصالح التجارية والمعاملات المنظمة، على النزعات الدينية والمذهبية. وقد كانت المغامرات البحرية الحرة وأعمال "القرصنة"، توجد فى هذه العصور دائماً، إلى جانب نشاط الأساطيل الرسمية. وكان البحر المتوسط منذ أقدم العصور مسرحاً لهذه المغامرات، وكان معظم خوارج البحر (القراصنة) يومئذ من النصارى، من الأمم التى غزت البحر فى عصور متقدمة، مثل اليونان وأهل سردانية وجنوة ومالطة. وفى أيام الصليبيين ازدهرت المغامرات فى البحر المتوسط، ¬_______ (¬1) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 281 - 284 & 286 - 288 (¬2) نفح الطيب ج 2 ص 617. وقد أنجز المقرى كتابه سنة 1630

واستمر النصارى عصوراً زعماء هذه المهنة. ولم تكن ثمة بحريات منظمة تقوم بمطاردة أولئك الخوارج. وكانت المغانم الوفيرة من الإتجار فى الرقيق، والبضائع المهربة، وافتداء الرقيق، تذكى عزمهم، وتدفع إليهم بسيل من المغامرين من سائر الأمم، ولما ظهرت الأساطيل الكبرى منذ القرن الرابع عشر، ضعف أمر أولئك المغامرين. ولم تكن هذه المياه خلوا من نشاط المغامرين المسلمين، ولكنهم لم يظهروا فى هذا الميدان إلا منذ القرن الخامس عشر، حينما ضعف أمر الأندلس والدول المغربية وسادتها الفوضى، واضطربت العلائق البحرية والتجارية المنظمة بين دول المغرب والدول النصرانية. وكانت الشواطىء المغربية تقدم إليهم المراسى الصالحة. ولما اشتد ساعد البحرية التركية بعد استيلاء الترك على قسطنطينية، زاد نشاط المغامرين المسلمين فى البحر. وكان سقوط غرناطة واضطهاد الإسبان للمسلمين، إيذاناً بتطور هذه المغامرات البحرية، ونزول الأندلسيين والموريسكيين المنفيين إلى ميدانها واتخاذها مدى حين صورة الجهاد والإنتقام القومى والدينى، لما نزل بالأمة الأندلسية الشهيدة من ضروب العسف والإرهاق (¬1). وقد بدأت هذه الغارات البحرية على الشواطىء الإسبانية، عقب استيلاء الإسبان على غرناطة، وإكراههم المسلمين على التنصير. فى ذلك الحين غادر الأندلس آلاف من الأندلسيين المجاهدين، أنفوا العيش فى الوطن القديم، فى مهاد الذلة والاضطهاد، تحت نير الإسبان، وعبروا البحر إلى عدوة المغرب، وقلوبهم تفيض حقداً ويأساً، واستقروا فى بعض القواعد الساحلية، مثل وهران والجزائر وبجاية، ووهب الكثيرون منهم حياتهم للجهاد فى سبيل الله، والانتقام من أولئك الذين قضوا على وطنهم، وظلموا أمتهم، وانتهكوا حرمة دينهم. وكان البحر يهيىء لهم هذه الفرصة، التى لم تهيئها لهم الحرب البرية، وكانت شواطىء المغرب بطبيعتها الوعرة، وثغورها ومراسيها وخلجانها الكثيرة، التى تحميها وتحجبها الصخور العالية، أصلح ملاذ لمشاريع أولئك البحارة المجاهدين والقراصنة المغيرين. وكانت الجزائر وبجاية وتونس أفضل قواعدهم للرسو والإقلاع، وكانت هذه الغارات البحرية ْتعتمد بالأخص على عنصر المفاجأة، وتنجح فى معظم الأحيان فى تحقيق غاياتها. ويصف بيترو مارتيرى هذه الغارات بإسهاب ويقول إن فرناندو الخامس أمر فى سنة 1507، للتحوط ضد هذه الغارات بإخلاء الشاطىء الجنوبى، من جبل طارق ¬_______ (¬1) Lane - Poole: The Barbary Corsairs p. 26 & 27

إلى ألمرية، لمدى فرسخين إلى الداخل. ثم صدرت مراسم متعددة تحظر على الموريسكيين السفر على أبعاد معينة من الشواطىء، ولكن هذا التحوط لم يغن شيئاً واستمرت الغارات على حالها. وكان اللوم يلقى فى ذلك منذ البداية على الموريسكيين ولاسيما أهل بلنسية. وكان الموريسكيون كلما اشتدت عليهم وطأة الاضطهاد والمطاردة، اتجهوا إلى إخوانهم فى المغرب، يستصرخونهم للتدخل والانتقام. وكان المجاهدون المغاربة، يغيرون فى سفنهم على الشواطىء الإسبانية، ويخطفون النصارى الإسبان، ويجعلونهم رقيقاً يباع فى أسواق المغرب، وكان الموريسكيون يزودون الحملات المغيرة بالمعلومات الوثيقة، عن أحوال الشواطىء ومواضع الضعف فيها ويمدونها بالأقوات والمؤن. وكانت هذه الحملات تجهز فى أحيان كثيرة لنقل الموريسكيين الراغبين فى الهجرة، وقد استطاعت خلال القرن السادس عشر، أن تنقل منهم إلى الشواطىء الإفريقية جماعات كبيرة. وقد ظهر منذ أوائل القرن السادس عشر فى الميدان، عنصر جديد أذكى موجة الغارات البحرية فى هذه المياه. ذلك أن البحارة الترك، وعلى رأسهم الأخوان الشهيران أوروج (عروج) وخير الدين (¬1)، اندفعوا من شرقى البحر المتوسط إلى غربيه، فى طلب المغامرة والكسب. وفى سنة 1517 سار أوروج فى قوة برية وبعض السفن إلى الجزائر واستولى عليها. ولما قتل فى العام التالى فى معركة نشبت بينه وبين الإسبان، استولى أخوه خير الدرين على الجزائر، ثم استولى على معظم الثغور المغربية الساحلية، وعينه السلطان سليم حاكماً على هذه الأنحاء، وأمده بالسفن والجند. وتألق نجم خير الدين من ذلك الحين، وأضحى اسمه يقرن بذكر أعظم أمراء البحر فى هذا العصر. وكان من معاونيه نخبة من أمهر الربابنة الترك، مثل طرغود الذى خلفه فى الرياسة فيما بعد، وصالح ريس، وسنان اليهودى، وإيدين ريس وغيرهم من المغامرين، الذين اشتهروا بالجرأة والبراعة. وبسط أولئك البحارة الترك سلطانهم على معظم جنبات البحر المتوسط، واشتهروا بغاراتهم على الشواطىء الإيطالية والإسبانية، والتف حولهم معظم المجاهدين والمغامرين من ¬_______ (¬1) ويعرف كلاهما فى الرواية الأوربية "بارباروسا" أو ذو اللحية الحمراء وقد انتهى إلينا عن مغامرات هذين الأخوين الشهيرين وغاراتهما البحرية كتاب بالعربية منقول عن أصل تركى، نشر فى الجزائر سنة 1934 بعنوان "غزوات عروج وخير الدين". والظاهر أنه من تأليف راوية معاصر أو قريب من العصر

المغاربة والموريسكيين. وبدأ خير الدين غاراته فى المياه الإسبانية بمهاجمة الشواطىء الشرقية، وقطع خلال هذه الغارة ثلاثة أشهر عاث فيها فى البقاع الساحلية، وجمع فى سفنه كثيراً من الموريسكيين الراغبين فى الهجرة، وأسر كثيراً من الإسبان. وعرج أثناء عوده على جزيرة منورقة. وكان من أهم الغارات التى نظمها خير الدين على الشواطىء الإسبانية غارة وقعت فى سنة 1529، وذلك أن جماعة من الموريسكيين فى بلنسية فاوضوه لكى ينقلهم خلسة إلى عدوة المغرب، فأرسل عدة سفن بقيادة نائبيه إيدين ريس، وصالح ريس، إلى المياه الإسبانية، ورست السفن المغيرة ليلا عند أوليفا الواقعة شمال غربى دانية أمام مصب نهر "ألتيا"، ونزلت منها إلى البر قوة استطاعت أن تجمع من الأنحاء المجاورة نحو ستمائة من الموريسكيين الراغبين فة الهجرة، وهنا فاجأت السفن المغيرة عدة من السفن الإسبانية الكبيرة، وطاردتها حتى مياه الجزائر الشرقية (البليار). ولكن سفن " القراصنة " انقلبت فجأة من الدفاع إلى الهجوم، وانقضت على السفن الإسبانية وأغرقت بعضها، وأسرت البعض الآخر، وسارت سالمة إلى الجزائر تحمل الموريسكيين الفارين، وعدداً من أكابر الإسبان أخذوا أسرى، ومعها عدة من السفن الإسبانية الفخمة. وكان صريخ الموريسكيين يتوالى إلى خير الدين وحلفائه من أمراء المغرب ولاسيما أيام الثورات المحلية التى تشتد فيها وطأة الإسبان على الأمة المغلوبة، ومن ثم فقد توالت بعوث خير الدين وغاراته على الشواطىء الإسبانية، وتتابعت الفرص لدى الموريسكيين، للفرار والهجرة رفق السفن المغيرة، حتى بلغ ما نقلته سفن خير الدين منهم إلى شواطىء المغرب نحو سبعين ألفا (¬1). وكان سلطان خير الدين وزملائه البحارة الترك فى المياه المغربية عاملا فى تحطيم كثير من مشاريع اسبانيا البحرية فى المغرب. وكان الإسبان قد استولوا على ثغر وهران منذ سنة 1505، واحتلوا مياه تونس سنة 1535، بانضواء أميرها الحفصى المعزول تحت لوائهم، وكان كثير من أمراء الثغور والقواعد المغربية الذين يهدد الترك سلطانهم يتجهون بأبصارهم إلى الإسبان للاحتفاظ برياستهم. ولدينا ¬_______ (¬1) راجع كتاب الأستاذ لاين بول The Barbary Corsairs فى الفصول الأول والثانى والثالث، حيثما يورد كثيراً من التفاصيل الشائقة، عن هذه الغارات البحرية، وعن مغامرات أوروج وخير الدين. وراجع كتاب " غزوات عروج وخير الدين " الذى سبقت الإشارة إليه ص 19 و 48 و 81 و 82

صورة: أمير البحر خير الدين عن صورة بلاثكيث المحفوظة بمتحف البرادو بمدريد، وهى صورة رائعة بالحجم الطبيعى، وفيها يبدو خير الدين مرتدياً ثوباً طويلا أحمر، وعباءة بيضاء، وقلنسوة صغيرة حمراء، وله شارب طويل أشهب

صور من عدة وثائق موجهة من هؤلاء الأمراء إلى الإمبراطور شرلكان، يستنصرون به، ويقطعون العهد على أنفسهم بطاعته، والانضواء تحت حمايته، وهى تدلى بموضوعها وأسلوبها بما انتهت إليه الجبهة الإسلامية فى المغرب فى هذا العهد من التخاذل والتفرق المؤلم (¬1). وفى سنة 1559 قام أمير البحر التركى طرغود، الذى خلف خير الدين فى الرياسة، بغارة كبيرة على الشواطىء الإسبانية، واستطاع أن يحمل معه ألفى وخمسمائة موريسكى؛ وفى سنة 1570، استطاعت السفن المغيرة أن تحمل معها جميع الموريسكيين فى بالميرا. وفى سنة 1584 سار أسطول من الجزائر إلى ثغر بلنسية وحمل ألفين وثلاثمائة. وفى العام التالى استطاعت السفن المغيرة أن تحمل جميع سكان مدينة كالوسا. وبلغت الغارات البحرية التى وقعت على الشواطىء الإسبانية بين سنتى 1528 و 1584 ثلاثاً وثلاثين. هذا عدا الغارات المحلية التى كانت تقوم بها سفن صغيرة لحمل جماعات من الموريسكيين المهاجرين. وقد وصف لنا الكاتب الإسبانى الكبير ثرفانتيس هذه الغارات البحرية المروعة فى صور مثيرة شائقة، ولا غرو فقد كان هو أيضاً من ضحاياها، إذ أسر فى الغارات التى وقعت سنة 1575، وحمل أسيراً إلى الجزائر، ولبث يوسف فى سنة بضعة أعوام حتى تم افتداؤه فى سنة 1580 (¬2). وكان ممن عملوا فى الجهاد فى البحر فى ذلك الحين ضد الإسبان بعض أكابر الزعماء الموريسكيين المنفيين الذين غدوا من أثر الاضطهاد من ألد أعداء اسبانيا مثل الريس بلانكيو Blanquillo، والريس أحمد أبو على من أشونية، ومراد الكبير جواديانو من مدينة ثيوداد ريال (المدينة الملكية) وغيرهم. وقد أبلى هؤلاء ¬_______ (¬1) حصلنا على مجموعة من هذه الوثائق من دار المحفوظات الإسبانية العامة Arch. gen. de Simancas ومنها وثيقة هى عبارة عن اتفاق معقود بين أبى عبد الله محمد الحسن سلطان تونس والإمبراطور شرلكان بتاريخ 12 صفر سنة 942 هـ (13 أغسطس سنة 1535) يتعهد فيه السلطان بتسليم مدينة بونه للإمبراطور شرلكان بشروط معينة ويحمل توقيعهما. وخطاب كتبه السلطان المذكور إلى الإمبراطور بتاريخ ذى الحجة سنة 942 (1535) يحدثه فيه عن شئون قصبة بونة. وخطاب من أبى عبد الله المتوكل أمير تلمسان إلى السلطانة الإنبرطريس (الإمبراطورة) دونيا إيزابيل (زوجة الإمبراطور شرلكان) مؤرخ فى سنة 939 هـ (1532)، وخطاب من أبى عبد الله محمد بن القاضى صاحب حصن كوكو بالمغرب الأوسط إلى الإمبراطور مؤرخ سنة 949 هـ (1542 م) يستحثه فيه لقتال الترك وإراحة الناس منهم ... الخ. (¬2) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain ; V. III. p. 363

الزعماء الموريسكيون فى البحر خير بلاء، وكانوا خير مرشد لإحكام الغارات البحرية على الشواطىء الإسبانية، ومضاعفة عصفها وعيثها. ووقعت فى سنة 1602 غارة كبيرة، قام بها بحار مغامر يدعى مراد الريس على مدينة لورقة الواقعة غرب قرطاجنة على مقربة من الشاطىء، وحمل عدداً من الأسرى؛ وكثرت الغارات فى الأعوام التالية على الشاطىء الجنوبى، وظهر فيما بعد أن منظمها بحار إنجليزى مغامر، يحشد فى سفنه نواتية من المغاربة، وكان يعيث فى الشواطىء ألأندلسية ويقتنص الأسرى النصارى، ويبيعهم عبيداً فى أسواق المغرب. وكانت ثغور تونس فى ذلك الوقت نفسه، فى أيام حاكمها عثمان داى (سنة 1007 - 1019 هـ 1598 - 1610 م)، ملاذاً لطائفة قوية من البحارة المغامرين، كانت تتكرر غاراتهم على الشواطىء الإسبانية بلا انقطاع. وكان من أشهر أولئك البحارة المغامرين يومئذ، عمر محمد باى الذى اشتهر بجرأته وبراعته، وقد قام بعدة غارات جريئة على شواطىء اسبانيا الجنوبية، وكان فى كل مرة يعود مثقلا بالغنائم والسبى (¬1). وهكذا لبثت الغارات البحرية عصراً، تزعج الحكومة الإسبانية، وقد زاد عددها واشتد عيثها، بالأخص منذ منتصف القرن السادس عشر؛ وكان هذا غريباً فى الواقع، إذ كانت اسبانيا يومئذ سيدة البحار، وكانت أساطيلها الضخمة، تجوب مياه الأطلنطيق حتى بحر الشمال وجزائر الهند الغربية، وتسيطر على مياه البحر المتوسط الغربية. بيد أنها لم تستطع أن تقمع هذه الغارات الصغيرة المفاجئة، التى كانت تقوم بها على الأغلب جماعات مجاهدة، من القراصنة المغاربة، فى سفن صغيرة، تدفعهم روح من المغامرة والاستبسال، وكان اللوم يلقى فى ذلك دائماً على الموريسكيين، ولاسيما سكان الثغور منهم، فهم الذين يمدون هذه الحملات المغيرة بالمعلومات، ويزودونها بالمؤن والعون، ويعينون لها موضع الرسو والإقلاع، وقد كانت تأتى على الأغلب لمعاونتهم على الفرار إلى ثغور المغرب، وقد كان الموريكسيون بالرغم من اضطهادهم، والتشدد فى مراقبتهم، على اتصال دائم بمسلمى إفريقية وأمراء المغرب جميعاً. لبثت هذه الغارات البحرية عصراً شغلا شاغلا للحكومة الإسبانية لا تجد سبيلا إلى قمعها أو التخلص من آثارها. وكان اقترانها خلال القرن السادس عشر بنضال ¬

_ (¬1) كتاب المؤنس فى أخبار إفريقية وتونس ص 192

الموريسكيين، عنصراً بارزاً فى تنظيمها وتوجيهها، وكانت فكرة الانتقام للأمة الشهيدة، تجثم فى معظم الأحيان وراء هذه الغارات المخربة. ولما تم نفى الموريسكيين من الأراضى الإسبانية حسبما نفصل بعد، زادت هذه الفكرة وضوحاً واشتدت وطأة الغارات، بما انتظم فى صفوف المجاهدين من المنفيين، وغدت سلا بالأخص بمرفئها البديع، الذى تحميه الخلجان المحجوبة مركزاً لأولئك المجاهدين، ومنها توجه أقوى الحملات المغيرة على الشواطىء الإسبانية (¬1). ولبث البحارة الترك عصراً، يتزعمون هذه الغارات البحرية، وجل اعتمادهم على النواتية المغامرين من المغاربة والموريسكيين؛ ثم أخذت هذه الغارات تفقد مغزاها القديم بمضى الزمن، وتنقلب إلى حملات ناهبة، تنظم على الشواطىء الإيطالية كما تنظم على الشواطىء الإسبانية، وترمى قبل كل شىء إلى تغذية أسواق المغرب والشرق الأدنى، بأسراب الرقيق. وكان يشترك مع البحارة الترك والمغاربة مغامرون من الإفرنج من سائر الأمم. وألفى الباشوات أو الدايات الترك، الذين بسطوا حكمهم منذ أواخر القرن السادس عشر على طرابلس وتونس والجزائر، فى هذه الحملات الناهبة، فرصة سانحة للغنم، فكانوا يمدون الرؤساء والزعماء بصنوف العون، عند الحط والإقلاع فى ثغورهم، وكان الرؤساء من جانبهم، يقدمون إلى خزينة الباشا أو الداى عشر الغنائم. واسترق بهذه الطريقة عشرات الألوف من النصارى، واستمرت هذه الغارات بعد ذلك زمناً طويلا (¬2). وحدثت فى تلك الآونة التى اشتدت فيها الغارات البحرية على الشواطىء الإسبانية، فى أوائل عهد فيليب الثالث، فى عدوة المغرب أحداث أخرى، زادت فى توجس السياسة الإسبانية، من مساعى الموريسكيين فى استعداء مسلمى إفريقية. وذلك أنه على أثر وفاة السلطان أحمد المنصور ملك المغرب فى سنة 1012 هـ (1603 م) اضطرمت الحرب الأهلية بين أبنائه الثلاثة، أبى عبد الله المأمون المعروف بالشيخ، وكان ولى عهده الذى اختاره للملك من بعده، ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 617. (¬2) استمرت غارات القراصنة فى البحر المتوسط طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكانت بعض الدول الأوربية تعمل على تشجيعها لمضايقة البعض الآخر، والإضرار بتجارتها. ومنذ القرن السابع عشر تعمل انجلترا وهولندة وفرنسا على مقاومة هذه الحملات البحرية الجريئة والقضاء عليها، وذلك بمهاجمة الشواطىء المغربية وتدمير ثغورها، ولاسيما تونس والجزائر. على أنها لم تنقطع نهائياً إلا بعد أن غزت فرنسا الجزائر واستولت عليها فى سنة 1830

وأبى فارس الملقب بالواثق بالله، ومولاى زيدان. وكان أعيان فاس وعلماؤها، قد بايعوا عقب وفاة المنصور، لولده زيدان، وبايع أهل مراكش لولده أبى فارس ولكن معركة نشبت بين زيدان وأخيه الشيخ، انتهت بهزيمة زيدان، واستيلاء الشيخ على فاس. ثم نشبت بعد ذلك بين الأبناء الثلاثة سلسلة من المعارك الأهلية المتوالية، كانت سجالا بينهم، وهزم خلالها مولاى زيدان غير مرة، ودخل العاصمة مراكش غير مرة. واستمرت هذه الحرب الأهلية، بضع سنوات (1012 - 1016 هـ)، وانتهت آخر الأمر، بانتصار مولاى زيدان واستيلائه على الملك، ومقتل أخيه أبى فارس، وفرار الشيخ فى أهله وولده. ولكن الشيخ لم يستكن للهزيمة، بل فكر فى الاستنصار بالإسبان، فعبر البحر مع أسرته وأمه الخيزران إلى اسبانيا، واستغاث بملكها فيليب الثالث، وتعهد بأن يقدم ثغر العرائش إلى اسبانيا نظير معاونته على استرداد عرشه. وكان ذلك فى أوائل سنة 1608 (1017 هـ) (¬1). وهنا أرسل الموريسكيون فى بلنسية، رسلهم إلى مولاى زيدان، يوضحون له سهولة غزو اسبانيا ومحاربتها، وأنهم على استعداد لأن يقدموا له مائتى ألف مقاتل، متى أقدم على الغزو واحتلال أحد الثغور الإسبانية الهامة؛ ولكن السلطان زيدان لم يحفل بهذا العرض، وأجاب الرسل بأنه لن يحارب خارج بلاده (¬2). واستجاب فيليب الثالث لدعوة الشيخ، وأرسل معه بعض قواته وسفنه إلى شاطىء المغرب، فنزل الشيخ وحلفاؤه الإسبان أولا فى حجر باديس، غربى مليلة وذلك فى رمضان سنة 1019 هـ (أوائل سنة 1610 م)، ثم انتقل فى صحبه إلى قصر عبد الكريم (القصر الكبير)، وبعث سرية من رجاله، فقامت بإخلاء العرائش من أهلها المسلمين قسرا، وبعد مقاومة عنيفة، وسلمتها إلى الإسبان، تحقيقاً لتعهد الشيخ. وحاول الشيخ أن يعتذر عن تصرفه بأن الإسبان، احتجزوا أهله وولده، وأنه فعل ذلك فى سبيل افتدائهم، واستصدر فتوى بشرعية تصرفه من بعض العلماء، ولكن ذلك لم يغنه شيئاً، واشتد السخط عليه، وانفض عنه كثير من أنصاره. ثم سار الشيخ فى قواته إلى تطاون (تيطوان)، وأخذ يعيث فسادا فى تلك المنطقة، ومازال فى ¬_______ (¬1) كتاب نزهة الحادى بأخبار ملوك القرن الحادى لأبى عبد الله اليفرنى (طبع فاس) ص 162 - 167، وراجع الإستقصاء ج 3 ص 102. (¬2) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 289-290

مغامراته حتى تصدى له بعض زعماء غمارة وقتلوه على مقربة من تطاون، وذلك فى رجب سنة 1022 هـ (1613 م)، وانتهى بذلك أمره، وتوطد بذلك مركز مولاى زيدان، وتمكن عرشه، وإن كان قد لبث بعد ذلك حيناً فى مقارعة الخوارج عليه من أبناء الشيخ وغيرهم (¬1). واستمر السلطان زيدان حتى وفاته فى سنة 1037 هـ (1627 م) أعنى بعد نفى الموريسكيين بنحو تسعة عشر عاماً، فى كفاح دائم مع اسبانيا. وحدث خلال هذا الكفاح ذات مرة فى سنة 1612 م، أن غنمت السفن الإسبانية فى مياه المغرب على شاطىء الأطلنطى فيما بين آسفى وأغادير، مركباً لمولاى زيدان شحنت بالتحف، وبها ثلاث آلاف سفر من كتب الدين والأدب والفلسفة (¬2)، وكان مولاى زيدان قد غادر مراكش تحت ضغط الحوادث، وركب البحر ملتجئاً إلى الجنوب وحمل معه مكتبته الثمينة وتحفه، فانتهبها الإسبان على هذا النحو، وحملت هذه الكتب إلى اسبانيا، وضمت فيما بعد إلى مجموعة الكتب الأندلسية بقصر الإسكوريال. ¬_______ (¬1) نزهة الحادى بأخبار ملوك القرن الحادى ص 168 و 169. وراجع الاستقصاء ج 3 ص 106. (¬2) الإستقصاء ج 3 ص 130

الفصل الثانى مأساة النفى

الفصل الثانى مأساة النفى قضية الموريسكيين مشكلة قومية لإسبانيا. استحالة العرب المتنصرين إلى شعب جديد. تشعب الآراء حول التخلص منهم. ولاية فيليب الثالث. مشروع دوق دى ليرما للقضاء على الموريسكيين. تقرير المطران ربيرا ومقترحاته. مجلس الدولة يبحث مشروع نفى الموريسكيين. مقترحات اللجنة الملكية. قرار مجلس الدولة. الإستعداد للتنفيذ. صدور مرسوم النفى النهائى. ما يحتويه المرسوم من الأحكام. موقف الموريسكيين. تظلم المدجنين. بدء التنفيذ فى بلنسية. الرحيل إلى وهران وتلمسان. المنفيون من لقنت. مقاومة الموريسكيين فى بعض الأنحاء. إعلان قرار النفى فى قشتالة. إحصاءات عن المنفيين. إعلان قرار النفى غرناطة. إعلانه فى باقى الجهات. تفرق المنفيين فى مختلف الثغور. الإعتداء على المنفيين. عدد الموريسكيين الذين أخرجوا من اسبانيا. رواية موريسكية عن أحوال الموريسكيين وظروف النفى. رواية المقرى عن مأساة النفى. روايات عربية أخرى. آثار الموريسكيين الأخيرة فى اسبانيا. تلك هى البواعث والظروف التى حملت اسبانيا النصرانية، على التوجس من العرب المتنصرين، واعتبارهم خطراً قومياً يجب العمل على درئه والتخلص منه. وكان هذا التوجس يزيد على كر الأعوام، وتذكيه الحوادث المتوالية: ثورات الموريسكيين ولاسيما ثورة غرناطة الكبرى، وغارات القراصنة على الشواطىء الإسبانية، وصلات الموريسكيين الدائمة بمسلمى إفريقية وبلاط قسطنطينية؛ وسواء أكان هذا الخطر حقيقياً يهدد سلامة اسبانيا، أم كان للتحامل والبغض أثر فى تصويره، فقد غدت قضية العرب المتنصرين، غير بعيد فى نظر السياسة الإسبانية، مشكلة قومية خطيرة يجب التذرع لمعالجتها بأشد الوسائل وأنجعها. وكانت السياسة الإسبانية، تعتزم منذ أواخر عهد فيليب الثانى، أن تتخذ خطوتها الحاسمة، فى شأن الموريسكيين. وكان هذا الملك المتعصب يعتزم نفى الموريسكيين بعد الذى عانته اسبانيا فى قمع ثورتهم، ووضع بالفعل فى سنة 1582 مشروعاً لنفيهم، ولكن مشاغل السياسة الخارجية حالت دون تحقيق مشروعه. وكان قد مضى يومئذ زهاء قرن على سقوط غرناطة، واستحالت بقية الأمة الأندلسية إلى شعب جديد، لا تكاد تربطه بالماضى المجيد سوى ذكريات

غامضة. وكان التنصر قد عم الموريسكيين يومئذ، وغدا أبناء قريش ومضر بحكم القوة والإرهاق، نصارى يشهدون القداس فى الكنائس، ويتكلمون ويكتبون القشتالية، غير أنهم لبثوا مع ذلك فى معزل، وأبت اسبانيا النصرانية، بعد أن فرضت عليهم دينها ولغتها ومدنيتها، أن تضمهم إلى حظيرتها القومية. وكانت ما تزال ثمة منهم جموع كبيرة فى بلنسية ومرسية وغرناطة، وغيرها من القواعد الأندلسية القديمة، وكانوا ما يزالون رغم العسف والإرهاق، والاضطهاد والتشريد والذلة، قوة أدبية واجتماعية خطيرة، وعنصراً بارزاً فى إنتاج اسبانيا القومى، ولاسيما فى الصناعات والفنون. ولكن السياسة الإسبانية كانت تخشاهم بالرغم من ضعفهم وخضوعهم، بعد أن فشلت بوسائلها الهمجية البغيضة فى كسب محبتهم وولائهم. وكان ديوان التحقيق من جهة أخرى، ومن ورائه الأحبار والكنيسة، يعتبرهم بالرغم من تنصرهم، أبدا وصمة فى نقاء النصرانية، ويتصور الإسلام دائماً يجرى كالدم فى عروقهم. وقد تضاربت آراء الساسة والأحبار الإسبان، فى شأن الخطوة الحاسمة التى يجب اتخاذها، للقضاء على خطر الموريسكيين. ورأى بعض أكابر الأحبار أن خطر الموريسكيين لا يزول إلا بالقضاء على الموريسكيين أنفسهم. وكان مما اقترحه المطران ربيرا أن يقضى عليهم بالرق، وأن يؤخذ منهم كل عام بضعة آلاف للعمل فى السفن ومناجم الهند، حتى يتم إفناؤهم بهذه الطريقة، وذهب البعض الآخر إلى وجوب قتل الموريسكيين دفعة واحدة، أو قتل البالغين منهم، واسترقاق الباقين وبيعهم عبيداً، وكان مما اقترحه بعض وزراء فيليب الثانى أن يجمع الموريكسيون، ويحملوا على السفن ثم يغرقوا فى عرض البحر (¬1). واستمرت السياسة الإسبانية حينا تتلمس المخرج وسط هذه الحلول الهمجية، حتى توفى فيليب الثانى (سنة 1598) وخلفه ولده فيليب الثالث. وكان هذا الملك الفتى، ضعيف الرأى والإرادة، يتأثر كأبيه بنفوذ الأحبار، ويخضع لوحى وزيره وصفيه الدوق دى ليرما. وكان الدوق من أشد أنصار فكرة القضاء على الموريسكيين، وقد أشار بها منذ سنة 1599، ووضع لتنفيذها مشروعاً، خلاصته أن الموريسكيين إنما هم عرب، ويجب أن يعدم الشبان والكهول منهم، ما بين الخامسة عشرة والستين، أو أن يسترقوا ويرسلوا للعمل فى السفن، وتنزع أملاكهم. أما الرجال والنساء الذين جاوزوا الستين، ¬_______ (¬1) Dr. Lea: The Moriscos, p. 296-299

فينفوا إلى المغرب، وأما الأطفال فيؤخذوا ويربوا فى المعاهد الدينية، وهو مشروع أقره مجلس الدولة، وأخذ يعمل سراً لحشد القوى اللازمة لحصر عدد الموريسكيين فى اسبانيا. وفى سنة 1601 قدم المطران ربيرا إلى الملك، تقريراً يقول فيه إن الدين هو دعامة المملكة الإسبانية، "وإن الموريسكيين لا يعترفون، ولا يتقبلون البركة ولا الواجبات الدينية الأخيرة، ولا يأكلون لحم الخنزير، ولا يشربون النبيذ، ولا يعملون شيئاً من الأمور التى يعملها النصارى " ثم يوضح الأسباب التى تدعو إلى عدم الثقة فى ولائهم بقوله: "إن هذا المروق العام لا يرجع إلى مسألة العقيدة، ولكنه يرجع إلى العزم الراسخ فى أن يبقوا مسلمين، كما كان آباؤهم وأجدادهم، ويعرف المحققون العامون أن الموريسكيين بعد أن يعتقلوا عامين وثلاثة وتشرح لهم العقيدة فى كل مناسبة، يخرجون دون أن يعرفوا كلمة منها. والخلاصة أنهم لا يعرفون العقيدة، لأنهم لا يريدون معرفتها، ولأنهم لا يريدون أن يعملوا شيئاً يجعلهم يبدون نصارى" (¬1)، ثم يقول المطران فى تقرير آخر، إن الموريسكيين كفرة متعنتون يستحقون القتل، وإن كل وسيلة للرفق بهم قد فشلت، وإن اسبانيا تتعرض من جراء وجودهم فيها، إلى أخطار كثيرة، وتتكبد فى رقابتهم، والسهر على حركاتهم، وإخماد ثوراتهم، كثيراً من الرجال والمال. ثم يقترح أن تؤلف محكمة سرية من الأحبار، تقضى بردة الموريسكيين وخيانتهم، ثم تحكم علناً بوجوب نفيهم ومصادرة أملاكهم، وأنه لا ضير على الملك فى ذلك ولا حرج، ولكن مشروع المطران لم ينفذ، لأن مجلس الدولة كان يرى أن يسير فى تحقيق غاياته سراً، وألا تصطبغ إجراءاته فى ذلك بالصبغة الدينية. ومضت بضعة أعوام أخرى، والفكرة تبحث وتختمر وتتوطد، حتى كانت حوادث المغرب فى أواخر سنة 1607، وما نسب للموريسكيين من صلة بمولاى زيدان ومشاريعه لغزو اسبانيا، وعزمهم على الثورة. عندئذ بادر مجلس الدولة بالاجتماع فى أواخر يناير سنة 1608، واستعرضت جميع الآراء والمشاريع السابقة، وبحثت جميع الاقتراحات؛ وكرر المطران ربيرا اقتراحه بوجوب نفى الموريسكيين إلى المغرب، وقال بأن النفى أرفق ما يمكن عمله، وأيد رأيه معظم الأعضاء الآخرين وذكروا أن نفى الموريسكيين أصبح ضرورة لا مفر منها، لأنهم يتكاثرون بسرعة، ¬_______ (¬1) P. Longas: Vida Religiosa de los Moriscos ; p. LXVIII

بينما يتناقص عدد النصارى القدماء. وبحثت تفاصيل المشروع ووسائله، وما يجب اتخاذه من التحوطات لضمان تنفيذه، خصوصاً وقد بدأت أنباء المشروع تتسرب إلى الموريسكيين، وظهرت بينهم أعراض الهياج فى سرقسطة وبلنسية. وكانت الخطوة التالية أن عُهد بدرس المشكل كله، إلى لجنة خاصة على رأسها الدوق دى ليرما، ووضعت هذه اللجنة أسس المشروع التمهيدية بعد كبير جدل، وخلاصتها أن يمنح الموريسكيون شهراً لبيع أملاكهم ومغادرة اسبانيا إلى حيث شاءوا، فمن جاز منهم إلى إفريقية منح السفر الأمين، ومن جاز إلى أرض نصرانية أوصى به خيراً، ومن تخلف عن الرحيل بعد انقضاء هذه المدة، عوقت بالموت والمصادرة؛ ولم يعترض أحد على هذه الأسس فى ذاتها، على أن هذه الأسس الرفيقة نوعاً لم يؤخذ بها. وفى يناير سنة 1609 بحث مجلس الدولة المسألة لآخر مرة، وقدم تقريراً ينصح فيه بوجوب نفى الموريسكيين، لأسباب دينية وسياسية فصّلها، وأهمها تعرض اسبانيا يومئذ خطر الغزو من مراكش وغيرها، وقيام الأدلة على أن الموريسكيين جميعاً خونة مارقون، يستحقون الموت والرق، ولكن اسبانيا تؤثر الرفق بهم، وتكتفى بنفيهم من أراضيها. وتقرر أن ينفذ المشروع كله فى خريف هذا العام، وأرسلت الأوامر إلى حكام صقلية ونابولى وميلان، بإعداد جميع السفن الممكنة لنقل الموريسكيين، وجميع القوات اللازمة لحراستهم، واجتمعت منذ أوائل الصيف فى مياه ميورقة، عشرات من السفن المطلوبة، وسارت أهبة التنفيذ بسرعة ونشاط. وهكذا انتهت السياسة الإسبانية بعد فترة من التردد، إلى اتخاذ خطوتها الحاسمة فى القضاء على البقية الباقية من الموريسكيين، وتحقيق أمنيتها القديمة، فى "تطهير" اسبانيا نهائيا من آثار الإسلام وآثار العرب، ومحو تلك الصفحة الأخيرة لشعب عظيم تالد. - 2 - وفى 22 سبتمبر سسنة 1609 أعلن قرار (مرسوم) النفى النهائى للموريسكيين أو العرب المتنصرين، فساد بينهم الروع والاضطراب، وإليك نصوص هذا القرار الشهير فى صحف المآسى والاستشهاد: يبدأ القرار بالتنويه بخيانة الموريسكيين، واتصالهم بأعداء اسبانيا، وإخفاق كل الجهود التى بذلت لتنصيرهم، وضمان ولائهم، وما استقر عليه رأى الملك من نفيهم جميعاً إلى بلاد البربر (المغرب). وبناء على ذلك فإنه يجب على جميع

الموريسكيين من الجنسين، أن يرحلوا مع أولادهم، فى ظرف ثلاثة أيام من نشر هذا القرار، من المدن والقرى إلى الثغور التى يعينها لهم مأمورو الحكومة، والموت عقوبة المخالفين؛ وأن لهم أن يأخذوا من متاعهم ما يستطاع حمله على ظهورهم، وأن السفن قد أعدت لنقلهم إلى بلاد المغرب، وسوف تتكفل الحكومة بإطعامهم أثناء السفر، ولكن عليهم أن يأخذوا ما استطاعوا من المؤن، وأنه يجب عليهم أن يبقوا خلال مهلة الأيام الثلاثة فى أماكنهم رهن إشارة المأمورين، ومن وجد متجولا بعد ذلك يكون عرضة للنهب والمحاكمة، أو الإعدام فى حالة المقاومة. وقد منح الملك السادة كل الأملاك العقارية والأمتعة الشخصية التى لم تحمل، فإذا عمد أحد إلى إخفاء الأمتعة أو دفنها، أو أضرم النار فى المنازل أو المحاصيل، عوقب جميع سكان الناحية بالموت. ونص القرار على استبقاء ستة فى المائة فقط من الموريسكيين للانتفاع بهم فى صون المنازل، والعناية بمعامل السكر، ومحصول الأرز، وتنظيم الرى، وإرشاد السكان الجدد، وهؤلاء يختارهم السادة، من بين الأسر الأكثر خبرة وأشد ولاء للنصرانية. أما الأطفال فإذا كانوا دون الرابعة، فإنه يسمح لهم بالبقاء إذا شاءوا (كذا) ورضى آباؤهم أو أولياؤهم، وإذا كانوا دون السادسة، سمح لهم بالبقاء إذا كانوا من أبناء النصارى القدماء، (أعنى من غير العرب المتنصرين)، وسمح كذلك بالبقاء لأمهم الموريسكية؛ فإذا كان الأب موريسكياً والأم نصرانية أصيلة، نفى الأب وبقى الأولاد الذين دون السادسة مع أمهم. كذلك يسمح بالبقاء للموريسكيين الذين أقاموا بين النصارى مدى عامين، ولم يختلطوا "بالجماعة" إذا زكاهم القسس. وحظر القرار إخفاء الهاربين أو حمايتهم. ويعاقب المخالف بالأشغال الشاقة لمدة ستة أعوام. كذلك حظر على الجنود والنصارى القدماء، أن يتعرضوا للموريسكيين أو يهينوهم بالقول أو الفعل، وهدد المخالفون بالعقاب الصارم. وأخيراً نص على السماح لعشرة من الموريسكيين بالعودة عقب كل نقلة، لكى يشرحوا لإخوانهم كيف تم النقل إلى المغرب على أحسن حال. وقع قرار النفى على الموريسكيين وقع الصاعقة، وسادهم الوجوم والذهول. وكان عصر الثورة والمقاومة قد ولى، ونهكت قواهم، ونضبت مواردهم. وكانت الحكومة الإسبانية قد اتخذت عدتها للطوارىء، وحشدت قواتها فى جميع الأنحاء الموريسكية، واجتمع زعماء الموريسكيين وفقهاؤهم فى بلنسية، وقرروا أنه لا أمل فى المقاومة وأنه لا مناص من الخضوع، واستقر الرأى على أن يرحلوا جميعاً، وألا

يبقى منهم أحد، حتى ولا نسبة الستة فى المائة التى سمح ببقائها، وأن من بقى منهم اعتبر مرتداً مارقاً. ومع ذلك فقد وقعت ثورات محلية، وتأهبت بعض الجماعات المحتشدة فى المناطق الجبلية للمقاومة، وعاثت فى الأنحاء المجاورة، ولكنها كانت فورة المحتضر، فأخمدت حركاتهم بسرعة وقتل منهم عدد جم. وتظلم كثير من المدجنين من قرار النفى، وقالوا إنهم اعتنقوا النصرانية طوعاً قبل التنصير الإجبارى، وغدوا نصارى واسبانيين قبل كل شىء، فصدر الأمر إلى الأساقفة ببحث ظلامتهم، وأن يسمح بالبقاء لمن توفرت فيه منهم شروط الولاء والإخلاص (¬1). أما الكثرة الساحقة من الموريسكيين فقد هرعت إلى اتخاذ أهبة الرحيل، وأخذوا فى بيع ما تيسر بيعه من المتاع، وتدفقت السلع على الأسواق، من الماشية والحبوب والسكر والعسل والملابس والأثاث وغيرها، لتباع بأبخس الأثمان. وبدىء بتنفيذ قرار النفى فى الجهات التى نشر فيها أولا، وهى أعمال بلنسية منذ أوائل أكتوبر (سنة 1609). وخرجت أول شحنة من هذه الكتلة البشرية المعذبة على سفن الحكومة من ثغر دانية وبعض الثغور القريبة، وقدرت بثمانية وعشرين ألف نفس، حملوا إلى ثغر وهران فى الضفة الأخرى من البحر، وقد كان يومئذ بيد الإسبان، ثم نقلوا إلى تلمسان بحماية فرقة من الجند المرتزقة، وهناك استظلوا بحماية السلطان؛ وعاد البعض منهم إلى اسبانيا ليروى عن رحيل الراحلين، وكيف وصلوا فى أمن وسلام. ومع ذلك فقد آثر معظم المهاجرين السفر بأجر، على سفن غير التى عينتها الحكومة، لنقل المهاجرين وإطعامهم دون أجر، واضطرت الحكومة تلقاء ذلك، أن تستدعى عدداً كبيراً من السفن الحرة، إلى مياه بلنسية، ورحل بهذه الطريقة من ثغر بلنسية زهاء خمسة عشر ألفا، معظمهم من الموسرين والمتوسطين؛ ورحل المنفيون من ثغر لقنت على عزف الموسيقى ونشيد الأغانى، وهم يشكرون الله على العود إلى أرض الآباء والأجداد، ولما سئل فقيه من زعمائهم عن سبب اغتباطهم، أجاب بأنهم كثيراً ما سعوا إلى شراء قارب أو سرقته، للفرار إلى المغرب، مستهدفين لكثير من المخاطر، فكيف إذا عرضت لنا فرصة السفر الأمين مجاناً، لا ننتهزها للعود إلى أرض الأجداد، حيث نستظل بحماية سلطاننا، سلطان الترك، وهنالك نعيش أحراراً مسلمين لا عبيداً كما كنا؟ ¬_______ (¬1) Dr. Lea: History of the Inquisition in Spain ; Vol. III. p. 399

صورة: الملك فيليب الثالث عن صورة بلاثكيث المحفوظة بمتحف البرادو بمدريد، وفيها يبدو أحمر الشعر واللحية والشارب، فوق جواد أشهب

وكانت الجنود تحرس المنفيين فى معظم الأحوال، حماية لهم من جشع النصارى الإسبان الذين انتظموا فى عصابات لمهاجمة المنفيين ونهبهم وقتلهم أحياناً. وفضلا عن ذلك فإن تنفيذ قرار النفى لم يجر دائماً فى يسر وسهولة، فقد رأينا أن كثيراً من الموريسكيين فى المناطق الجبلية أبوا الخضوع للأوامر لعدم ثقتهم فى ولاء الحكومة، وفضلوا المقاومة حتى الموت، واحتشدوا بالأخص فى "وادى أجوار" حيث اجتمع منهم زهاء خمسة عشر ألفاً، وفى مويلا دى كورتيس حيث اجتمع نحو تسعة آلاف فبادرت قوات الحكومة بمحاصرة وادى أجوار وفتكت بالموريسكيين العزل، وقتلت منهم بضعة آلاف، ومات كثير منهم من الجوع والبرد. وأخيراً سلم من بقى منهم وحملوا قسراً إلى ميناء السفر، وسبى الجند منهم كثيراً من النساء والأطفال، باعوهم رقيقاً، ولم يصل منهم إلى شواطىء المغرب سوى القليل، وفى مويلا دى كورتيس لم يبق منهم عند الإبحار سوى ثلاثة آلاف، ولبثت فلولهم تقاوم مستميتة، وتبث الاضطراب نحو عام حتى قضى عليها (¬1). وصدر قرار النفى فى قشتالة فى 15 سبتمبر سنة 1609. ولكن أجل تنفيذه حتى ينفذ أولا فى بلنسية، ولم ينفذ بالفعل إلا فى أواخر ديسمبر، ومنح الموريسكيون فيه شهراً للسفر بنفس الشروط التى تضمنها قرار النفى فى الأندلس؛ وسافر منهم فى اتجاه الشمال إلى حدود فرنسا نحو أربعة آلاف عائلة، وسافر إلى قرطاجنة نحو عشرة آلاف بحجة السفر إلى الأراضى النصرانية، وذلك لكى يحتفظوا بأولادهم الصغار، ولكن تسرب الكثير منهم إلى الثغور المغربية. وبلغ عدد المنفيين فى الثلاثة أشهر الأولى زهاء مائة وخمسين ألفاً، وسافر منهم ألوف كثيرة من الأغنياء والموسرين على نفقتهم الخاصة، وقصدت جموع كثيرة من الموريسكيين فى أراجون قدرت بنحو خمسة وعشرين ألفاً، إلى ولاية نافار الفرنسية، ودخل فرنسا من قشتالة نحو سبعة عشر ألفاً، وسمح لهم هنرى الرابع ملك فرنسا بالتوطن فيما وراء نهر الجارون، بشرط بقائهم على دين الكثلكة، وأن تهيىء السفن لمن أراد السفر منهم إلى شواطىء المغرب. أما فى غرناطة وأنحاء الأندلس، فقد أعلن قرار النفى فى 12 يناير سنة 1610 بعد أن عدلت بعض أحكامه، وفيه يمنح الموريسكيون للرحيل ثلاثين يوماً، ويباح لهم أن يبيعوا سائر أملاكهم المنقولة وأخذ ثمنها، على أن يقتنى به عروض أو بضائع ¬_______ (¬1) Dr. Lea: History of the Inquisition ; Vol. III. p. 397 & 398

اسبانية، ولا يسمح لهم بأن يحملوا معهم من النقد أو الذهب أو الحلى، إلا ما يكفى ئفقات الرحلة بالبر والبحر. وأما الأملاك العقارية فتصادر لجهة العرش. وقد استقبل الموريسكيون فى الأندلس قرار النفى بالاستبشار والرضى، ويقدر من نزح منهم إلى المغرب، سواء على سفن الحكومة أو السفن الحرة، بنحو مائة ألف نفس، وقد نزح معظمهم إلى مراكش. ثم توالى إعلان قرار النفى، فى جميع الجهات التى تضم مجتمعات موريسكية، فى سائر أنحاء المملكة الإسبانية. فى قطلونية وأراجون فى مايو سنة 1610، ثم فى إشبيلية وإسترمادوره، ثم فى مرسية وغيرها. وتأخر تنفيذه فى مرسية نحو أربعة أعوام حتى يناير سنة 1614، وخرج من مرسية زهاء خمسة عشر ألفاً، واتجهت جموع كثيرة من الشمال إلى الثغور الجنوبية. واتجهت بعض الجماعات منهم إلى الثغور الإيطالية مباشرة، أو عن طريق فرنسا، ومنها أبحرت إلى مصر والشام وقسطنطينية (¬1). وبلغ السلطان أحمد سلطان الترك، ما أصاب الكثير منهم فى أرض فرنسا من الاعتداء والنهب، فأرسل إلى ملكتها (وهى يومئذ مارى دى مديتشى الوصية على ولدها لويس الثالث عشر) يحتج على هذا الإيذاء، ويطلب حماية المنفيين (¬2). وكان بين هؤلاء الذين اتجهوا نحو المشرق، بعض طوائف اليهود الأندلسيين، ولاسيما طائفة "الحسديم" التى مازالت تقيم حتى اليوم فى قسطنطينية، ويقيم بعضها فى مصر. ونفذ قرار النفى فى كل مكان بصرامة ووحشية، واستمرت السفن شهوراً بل أعواماً تحمل أكداساً من تلك الكتلة البشرية المعذبة، فتلقى بها هنا، وهنالك، فى مختلف الثغور الإفريقية، فى غمر من المناظر المروعة المفجعة. وقد رويت روايات كثيرة محزنة عن مصير بعض جماعات المنفيين، فإن للذين نزلوا منهم فى وهران ليسيروا منها إلى داخل البلاد المغربية، اعتدت عليهم بعض العصابات الناهبة، لما كان معروفاً من أنهم يحملون أموالا وحلياً نفيسة، وسبى كثير من نسائهم. وقد كان منهم فى الواقع كثير من الأغنياء والأشراف القدماء، ولاسيما من أهل إشبيلية، وكتب الكونت أجيلار حاكم وهران، أن كثيرين منهم بقوا فى وهران، خوفاً من اعتداء الأعراب، وقيل إن ثلثى القادمين إلى وهران ¬_______ (¬1) المقرى فى نفح الطيب ج 2 ص 617. (¬2) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 364

أو أكثر من ذلك، هلكوا من المرض أو نتيجة الاعتداء، ومن ثم فإن كثيرين منهم عادوا إلى اسبانيا، والتمسوا إلى السلطات أن يبقوا نصارى وأن يكونوا عبيداً. وقد ألفى هؤلاء بعض الأسر التى قبلت استرقاقهم، واعترض على ذلك رجال الدين، وصدرت الأوامر برفض نزولهم إلى الشواطىء الإسبانية، ولكن كثيرين تسربوا إلى أنحاء بلنسية وغيرها، وبقوا فى اسبانيا رغم جميع الجهود التى بذلت لإخراجهم (¬1). وقد اختلف المؤرخون أيما اختلاف، فى تقدير عدد الموريسكيين الذين أخرجوا من اسبانيا تطبيقاً لقرار النفى، ويقول ناباريتى وهو من أعظم مؤرخى اسبانيا، إنه قد نفى من اسبانيا فى مختلف العصور، نحو مليونين من اليهود، وثلاثة ملايين من الموريسكيين. ويقدر آخرون المنفيين من الموريسكيين بأربعمائة ألف أو تسعمائة ألف، ويقدرهم دون لورنتى مؤرخ "ديوان التحقيق" بمليون، ويقدرهم المستشرق فون هامار بثلاثمائة ألف وعشرة آلاف. وفى الرواية العربية الموريسكية التى نثبتها فيما بعد، يقدر عدد المنفيين الموريسكيين بستمائة ألف، ونحن نميل إلى الاعتقاد بأن عدد من نفى من الموريسكيين لا يمكن أن يتجاوز هذا القدر، وقد كان مجموعهم فى أواخر القرن السادس عشر لا يتجاوز ستمائة ألف حسبما قدمنا. ويقدر من هلك من الموريسكيين أو استرق منهم أثناء مأساة النفى بنحو مائة ألف نفس (¬2). وقد عاد معظم الموريسكيين، الذين نفوا إلى إفريقية والمشرق، إلى الإسلام دين الآباء والأجداد، ولم تخمد مائة عام من التنصير المغصوب، والإرهاق المستمر جذوة الإسلام فى نفوسهم، وقد لبث على كر العصور متغلغلا فى أعماق سرائرهم. وبذلك ينتهى الفصل الأخير من مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين، وتطوى إلى الأبد صفحة شعب، من أنبل وأمجد شعوب التاريخ، وحضارة من أزهر الحضارات. - 3 - وتقدم إلينا الرواية الغربية، تفاصيل ضافية عن مأساة الموريسكيين، منذ بدايتها إلى نهايتها، وتخصها بكثير من التعليق والنقد. ولكن الرواية الإسلامية مقلة فى هذا الموطن، شأنها فى تاريخ الأندلس منذ سقوط غرناطة، فهى لا تعنى بتتبع ¬_______ (¬1) Lea: The Moriscos: p. 363 & 364. وراجع نفح الطيب ج 2 ص 617. (¬2) راجع: Lea: The Moriscos ; p. 259

مصير العرب المتنصرين، كما تعنى الرواية الغربية، ولا تقدم إلينا عن مأساة النفى سوى بعض الشذور والإشارات الموجزة. وأهم وأوفى ما وقفنا عليه من ذلك، رواية معاصرة عن أحوال الموريسكيين، ومساعيهم السرية للمحافظة على دينهم، وظروف نفيهم، كتبها موريسكى عاش فى جيان وغيرها من قواعد الأندلس الجنوبية فى أواخر عهد الموريسكيين، ثم هاجر إلى تونس قبيل النفى بقليل، وكتب فيما بعد بالعربية كتابا عنوانه: "الأنوار النبوية فى آباء خير البرية"، ويتحدث فى نهايته فى فصل خاص عن الموريسكيين المهاجرين، وشرف نسبهم، وينوه بحسن إيمانهم وتمسكهم بالإسلام دين آبائهم وأجدادهم، ووردت خلال هذا الفصل حقائق تاريخية هامة، عن النفى وأسبابه وملابساته. وقد رأينا أن ننقله فيما يلى: (¬1) "قد كثر الإنكار علينا معشر أشراف الأندلس من كثير من إخواننا فى الله بهذه الديار الإفريقية من التونسيين وغيرهم، حفظهم الله تعالى، بقولهم من أين لهم هذا الشرف، وقد كانوا ببلاد الكفار، دمرهم الله، ولهم مئون من السنين كذا وكذا، ولم يبق فيهم من يعرف ذلك من مدة الإسلام وقد اختلطوا مع النصارى، أبعدهم الله تعالى، إلى غير ذلك من الكلام الذى لا نطيل به ولا أذكره هنا صونا لعرضهم وحبى فيهم. "مع أنى صغير السن حين دخولنا هذه الديار عمرها الله تعالى بالإسلام وأهله بجاه النبى المختار فقد أطلعنى الله تعالى على دين الإسلام بواسطة والدى رحمة الله عليه وأنا ابن ستة أعوام وأقل، مع أنى كنت إذ ذاك أروح إلى مكتب النصارى لأقرأ دينهم، ثم أرجع إلى بيتى فيعلمنى والدى دين الإسلام، فكنت أتعلم فيهما معاً، وسنى حين حملت إلى مكتبهم آربعة أعوام. فأخذ والدى لوحاً من عود الجوز كأنى أنظر الآن إليها مملسا، فكتب لى فيه حروف الهجاء وهو يسألنى حرفاً حرفاً ¬_______ (¬1) مؤلف هذا الكتاب هو حسبما ورد فى نسخته المخطوطة، محمد بن عبد الرفيع بن محمد الشريف الحسينى الجعفرى الأندلسى، المتوفى سنة 1052 هـ (1652 م)، أعنى بعد نفى الموريسكيين باثنتين وأربعين عاما. وتوجد هذه النسخة الوحيدة بخزانة الرباط بالمكتبة الكتانية رقم 1238، ومذكور فى نهاية الكتاب، أنه قد تم تحريره بحضرة تونس سادس شعبان سنة 1044 هـ (1644 م). ويشغل الفصل الخاص بأحوال الموريسكيين فيه من ص 319 إلى ص 336. وقد نقل هذا الفصل الشاعر المغربى محمد بوجندار مع بعض التصرف فى كتابه المسمى "مقدمة الفتح من تاريخ رباط الفتح" (الرباط 1345 هـ) ص 200 - 214

عن حروف النصارى تدريباً وتقريباً، فإذا سميت له حرفاً أعجمياً كتب لى حرفاً عربياً، فيقول حينئذ هكذا حروفنا، حتى استوفى لى جميع حروف الهجاء فى كرتين؛ فلما فرغ من الكرة الأولى، أوصانى أن أكتم ذلك حتى عن والدتى وعمى وأخى، وجميع قرابتنا، وأمرنى أن لا أخبر أحداً من الخلق. وشدد على الوصية، وصار يرسل والدتى التى تسئلنى ما الذى يعلمك والدك فأقول لها لا شىء. وكذا كان يفعل عمى وأنا أنكر أشد الإنكار. ثم أروح إلى مكتب النصارى وآتى إلى الدار فيعلمنى والدى إلى أن مضت مدة. "وقد كان والدى رحمه الله، يلقننى حينئذ ما كنت أقوله حين رؤيتى للأصنام ... فلما تحقق والدى أنى أكتم أمور دين الإسلام عن الأقارب فضلا عن الأجانب، أمرنى أن أتكلم بإفشائه لوالدتى وعمى، وبعض أصحابه الأصدقاء فقط، وكانوا يأتون إلى بيتنا فيتحدثون فى أمر الدين، وأنا أسمع. فلما رأى حزمى مع صغر سنى، فرح كثيراً غاية، وعرفنى بأصدقائه وأحبائه وإخوانه فى دين الإسلام، فاجتمعت بهم واحدا واحدا، وسافرت الأسفار لأجتمع بالمسلمين الأخيار، من جيان، مدينة ابن مالك، إلى غرناطة، وإلى قرطبة وإشبيلية، وطليطلة، وغيرها من مدن الجزيرة الخضراء، أعادها الله تعالى للإسلام، فتلخص لى من معرفتهم أنى ميزت سبعة رجال كانوا كلهم يحدثونى بأمور غرناطة وما كان بها فى الإسلام حينئذ، فباجتماعى بهم حصل لى خير كثير، وقد قرأوا كلهم على شيخ من مشايخ غرناطة، أعادها الله للإسلام، يقال له الفقيه اللوطورى رحمه الله تعالى ونفعنا به، فإنه كان رجلا صالحاً، ولياً لله، فاضلا زاهداً، ورعاً، عارفاً سالكاً، ذا مناقب ظاهرة مشهورة، وكرامات طاهرة مأثورة، قد قرأ القرآن الكريم فى مكتب الإسلام بغرناطة، قبل استيلاء أعداء الدين عليها، وهو ابن ثمانية أعوام وقرأ الفقه وغيره على مشايخ أجلا حسب الإمكان. ثم بعد مدة يسيرة، انتزعت غرناطة من أيدى المسلمين أجدادنا، وقد أذن العدو فى ركوب البحر والخروج منها لمن أراده، وبيع ما عنده، وإتيانه لهذه الديار الإسلامية وذلك فى مدة ثلاثة أعوام، ومن أراد أن يقيم على دينه وماله فليفعل، بعد شروط اشترطوها، وإلزامات كتبها عدو الدين على أهل الإسلام. فلما تحركوا لذلك أجدادنا، وعزموا على ترك ديارهم وأموالهم، ومفارقة أوطانهم للخروج من بينهم، وجاز إلى هذه الديار التونسية، والحضرة الخضراء بغتة من جاز إليها حينئذ، ودخلوا فى زقاق

الأندلس المعروف الآن بهذا الاسم، وذلك سنة اثنين وتسعمائة، وكذا للجزائر وتطاون وفاس ومراكش وغيرها، ورأى العدو العزم فيهم لذلك، نقض العهد، فردهم رغم أنوفهم من سواحل البحر إلى ديارهم، ومنعهم قهراً عن الخروج واللحوق بإخوانهم، وقرابتهم بديار الإسلام، وقد كان العدو يظهر شيئاً، ويفعل بهم شيئاً آخر، مع أن المسلمين أجدادنا استنجدوا مراراً ملوك الإسلام، كملك فاس ومصر حينئذ، فلم يقع من أحدهما إلا بعض مراسلات، ليقضى الله أمراً كان مفعولا. "ثم بقى العدو يحتال بالكفر عليهم غصباً، فابتدأ يزيل لهم اللباس الإسلامى، والجماعات، والحمامات، والمعاملات الإسلامية، شيئاً فشيئاً، مع شدة امتناعهم والقيام عليه مرار، وقتالهم إياه، إلى أن قضى الله سبحانه ما قد سبق من علمه، فبقينا بين أظهرهم، وعدو الدين يحرق بالنار من لاحت عليه إمارة الإسلام، ويعذبه بأنواع العذاب، فكم أحرقوا، وكم عذبوا، وكم نفوا من بلادهم، وضيعوا من مسلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون، حتى جاء النصر والفرج من عند الله سبحانه، وحرك القلوب للهروب، وكان ذلك سنة ثلاثة عشرة وألف، فخرج منا بعض للمغرب، وبعض للمشرق خفية، مظهراً دين الكفار أبعدهم الله، فخرج بعض أحبارنا وإخواننا وهو الفقيه الأجل محمد أبو العباس أحمد الحنفى، المعروف بعبد العزيز القرشى، ومعه أحد أخواله، إلى مدينة بلغراد من عمالة القسطنطينية، فالتقيا بالوزير مراد باشا وزير السلطان المعظم المرحوم السلطان أحمد بن السلطان محمد نجل آل عثمان نصرهم الله تعالى وأيدهم، فأخبراه بما حل بإخواننا بالأندلس من الشدة بفرانسة وغيرها، فكتب أمراً لصاحب فرانسة دمرها الله، بإعلام السلطان نصره الله، يأمره بأن يخرج من كان عنده من المسلمين بالأندلس وخدام آل عثمان، ويوجههم إليه فى سفن من عنده مع ما يحتاجون إليه. فلما قرىء الأمر السلطانى فى ديوان الفرنسيس، فسمعه من كان عنده مرسلا من قبل صاحب الجزيرة الخضراء، وهو اللعين فيليبو الثالث، فأرسل لسيده، يخبره بالواقع، وأن السلطان أحمد آل عثمان، أرسل أمره إلى فرانسة، وأمر صاحبها أن يخرج من كان عنده من الأندلس، فقبل كلامه، وأمر بإخراج المسلمين، وأذن لمن جاء من الأندلس بأن لا بأس عليهم، وأن يركبوا عنده فى سواحله مراكبه، ويبلغهم إلى حيث شاءوا من بلاد المسلمين. فلما أحس بهذا الأمر عدو الله فيليبو صاحب إسبانية، دخله الرعب والخوف الشديد، وأمر حينئذ فجمع أكابر

القسيسين والرهبان والبطارقة، وطلب منهم الرأى، وما يكون عليه العمل فى شأن المسلمين الذين هم ببلاده كافة، فبدا الشأن فى أهل بلنسية، فأخذوا الرأى، وأجمعوا كلهم على إخراج المسلمين كافة من مملكته، وأعطاهم السفن، وكتب أوامر وشروطاً فى شأنهم، وفى كيفية إخراجهم، وشدد على عماله بالوصية، والاستحفاظ على كافة المسلمين من الأندلس. نعم أريد أن أذكر لك نبذة يسيرة اختصرتها، وترجمتها، من جملة أسباب ذكرها الملك الكافر أبعده الله، فى أوامره، التى كتبها فى شأن إخواننا الأندلس حين إخراجهم من الجزيرة الخضراء، لتكون على بصيرة من أمرهم، وتعلم بعض الأسباب التى أخرجوا لأجلها على التحقيق، لا كما يزعم بعض الحاسدين، وليؤيد ما قدمناه آنفاً من أمر السلطان أحمد آل عثمان، وتكمل الفايدة، ولئلا يساء الظن بنا معشر الأندلس. " قال الملك الكافر، أبعده الله تعالى وزلزله آمين: لما كانت السياسة السلطانية الحسنة الجيدة موجبة لإخراج من يكدر المعاش على كافة الرعية النصرانية، فى مملكتها التى تعيش عيشهاً رغداً صالحاً، والتجربة أظهرت لنا عياناً، أن الأندلس الذين هم متولدون من الذين كدروا مملكتنا فيما مضى، بقيامهم علينا، وقتلهم أكابر مملكتنا، والقسيسين والرهبان الذين كانوا بين أظهرهم، وقطعهم لحومهم، وتمزيقهم أعضاءهم، وتعذيبهم إياهم بأنواع العذاب، الذى لم يسمع فيما تقدم مثله، مع عدم توبتهم فيما فعلوه، وعدم رجوعهم رجوعاً صالحاً من قلوبهم، لدين النصرانية، وأنه لم ينفع فيهم وصايانا، ورأينا عيانا أن كثيراً منهم قد أحرقوا بالنار، لاستمرارهم على دين المسلمين، وظهر منهم العناد بعيشهم فيه خفية، واستنجادهم كذلك عون السلطان العثمانى، لينصرهم علينا، وظهر لى أن بينهم وبينه مراسلات إسلامية، ومعاملات دينية، وقد تيقنت ذلك من إخبارات صادقة وصلت إلىّ. ومع هذا أن أحداً منهم لم يأت إلينا ليخبرنا بما هم يدبرونه فى هذه المدة بينهم، وفيما سبق من السنين، بل كتموه بينهم؛ علمت بذلك أن كلهم قد اتفقوا على رأى واحد، ودين واحد، ونيتهم واحدة، وظهر لى أيضاً، ولأرباب العقول والمتدينين من القسيسين والرهبان والبطارقة الذين جمعتهم لهذا الأمر واستشرت، ومع أن من ابقائهم بيننا ينشأ عنه فساد كبير، وهول شديد بسلطنتنا، وأن بإخراجهم من بيننا يصلح الفساد الناشىء من إبقائهم بمملكتى، أردت إخراجهم من سلطنتنا جملة، ليزول بذلك الكدر الواقع، والمتوقع للنصارى

الذين هم رعيتنا، طائعين لأوامرنا وديننا، ورميتهم إلى بلاد المسلمين أمثالهم، لكونهم مسلمين. انتهى المراد بأكثر لفظه ولم أتعرض لذكر شروط كتبها ودققها. ' فانظر رحمك الله، كيف شهد عدو الدين، الملك الكافر، بأنهم مسلمون، واعترف أنه لم يقدر على إزالة دينهم من قلوبهم، وأنهم متمسكون كلهم به. مع أنه كان يحرق منهم من ظهر عليه الدين، ثم وصفهم بالعناد لرؤيته فيهم لوائح المسلمين وإماراتهم، فأى علامة أكبر من صبرهم على النار لدين الحق، ومن استنجادهم ملك دين الإسلام المؤيد لحماية الدين، أمير المسلمين السلطان أحمد آل عثمان نصرهم الله تعالى، فهذا غاية الخير والعز والبركة لهذه الطائفة الطاهرة الأندلسية التى قال فيها شيخنا الأستاذ القطب الغوث سيدى أبو الغيث القشاش نفعنا الله به دنيا وأخرى فى بعض مكاتبه التى كان يكاتبهم بها، فقال لى وسلم على هؤلاء الأنصار الأطهار الأخيار فإنه لا يحبكم إلا مؤمن ولا يبغضكم إلا منافق. " فخرجوا كلهم سنة تسعة عشر وألف. ووجد فى دفاتر السلطان الكافر، أبعده الله تعالى، أن جملة من أخرج من أهل الأندلس كافة، نيف وستمائة ألف نسمة، كبيراً وصغيراً. فكانت هذه الواقعة، منقبة عظيمة، وفضيلة عجيبة، لجماعتنا الأندلس زادهم الله شرفاً بمنه. وأمر أيضاً بإخراج من كان مسجوناً فى كافة مملكته، وكل من كان أمر بإحراقه فأخرجه، وعفا عنه، وزوده وأرسله إلى بلاد الإسلام سالماً. ولا يخفى أن هذا أمر عظيم، ومحال عادة، فسبحان رب السموات ورب الأرض الذى إذا أراد أمراً قال له كن فيكون. فيالها من أعجوبة ما أعظمها، ومن فضيلة ما أشرفها، ومن كرامة ما أجملها، ومن نعمة ما أكبرها، فما سمع من أول الدنيا إلى آخرها مثل هذه الواقعة". ... وقد صدر قرار النفى كما قدمنا فى 22 سبتمبر سنة 1609، وهو يوافق جمادى الثانية سنة 1018 هـ. ولكن الرواية الإسلامية تضع تاريخ القرار أحياناً فى سنة 1016 هـ أو 1017 هـ، وهو تحريف واضح. وأقرب إلى الصحة، ما ذكره ابن عبد الرفيع فى روايته المتقدمة وهو سنة 1019 هـ (1610 م). قال المقرى مؤرخ الأندلس، وقد كان معاصراً للمأساة: "إلى أن كان إخراج النصارى إياهم (أى العرب المتنصرين) بهذا العصر القريب أعوام سبعة عشرة وألف فخرجت ألوف بفاس، وألوف أخر بتلمسان من وهران، وجمهورهم خرج بتونس

فتسلط عليهم الأعراب ومن لا يخشى الله تعالى فى الطرقات، ونهبوا أموالهم، وهذا ببلاد تلمسان وفاس، ونجا القليل من هذه المضرة. وأما الذين خرجوا بنواحى تونس، فسلم أكثرهم، وهم لهذا العهد عمروا قراها الخالية وبلادها، وكذلك بتطاون وسلا وفيجة الجزائر. ولما استخدم سلطان المغرب الأقصى منهم عسكرا جراراً وسكنوا سلا، كان منهم من الجهاد فى البحر، ماهو مشهور الآن. وحصنوا قلعة سلا وبنوا بها القصور والحمامات والدور، وهم الآن بهذه الحال. ووصل جماعة إلى القسطنطينية العظمى، وإلى مصر والشام وغيرها من بلاد الإسلام، وهم لهذا العهد على ما وصفت" (¬1). وقال ابن دينار التونسى، وقد كتب بعد المأساة بنحو سبعين عاماً، فى أخبار سنة 1017 هـ: "وفى هذه السنة والتى تلتها، جاءت الأندلس من بلاد النصارى، نفاهم صاحب إسبانية، وكانوا خلقاً كثيراً، فأوسع لهم عثمان داى فى البلاد، وفرق ضعفاءهم على الناس، وأذن لهم أن يعمروا حيث شاءوا، فاشتروا الهناشير وبنوا فيها، واتسعوا فى البلاد، فعمرت بهم، واستوطنوا فى عدة أماكن، وعمروا نحو عشرين بلداً، وصارت لهم مدن عظيمة، وغرسوا الكروم والزيتون والبساتين، ومهدوا الطرقات، وصاروا يعتبرون من أهل البلاد" (¬2). وقال صاحب " الخلاصة النقية"، وهو من الكتاب المتأخرين: "وفى سنة ست عشرة وألف، قدمت الأمم الجالية من جزيرة الأندلس، فأوسع لهم صاحب تونس عثمان داى كنفه، وأباح لهم بناء القرى فى مملكته، فبنوا نحو العشرين قرية، واغتبط بهم أهل الحضرة، وتعلموا حرفهم وقلدوا ترفهم" (¬3). وهذه النصوص الموجزة، هى كل ما تقدم إلينا الرواية الإسلامية عن نفى العرب المتنصرين، وقد لبثت رواية المقرى عن المأساة، مصدراً لكل ما كتبه الكتاب المتأخرون (¬4). وربما كان هذا النقص راجعاً إلى أنه لم يعن أحد من كتاب المغرب المعاصرين، باستيفاء التفاصيل الضافية المؤثرة عن المأساة، أو لعله قد ضاع ما كتبه المعاصرون عنها فيما ضاع، مما كتب عن المراحل الأخيرة لتاريخ الأندلس ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 617. (¬2) المؤنس فى أخبار إفريقية وتونس (تونس) ص 193. (¬3) الخلاصة النقية (تونس) ص 91. (¬4) راجع الإستقصاء ج 3 ص 101، حيث تنقل هذه النصوص

والعرب المتنصرين، ولم تصلنا منه على يد المقرى سوى لمحات يسيرة. وهكذا بذلت اسبانيا كل ما وسعت لإخراج البقية الباقية، من فلول الأمة الأندلسية، ولم تدخر وسيلة بشرية للقضاء على آثار الموريسكيين إلا اتخذتها. ومع ذلك فإن آثار الموريسكيين لم تنقطع بعد النفى بصورة نهائية. فقد رأينا أن كثيرين من المنفيين قد عادوا إلى اسبانيا، فراراً مما لقوا فى رحيلهم من ضروب الإعتداء المفزع، وأسلموا أنفسهم رقيقاً يقتنى. كذلك كانت ثمة جماعات من الأسرى المسلمين، من مغاربة وغيرهم، ممن يؤخذون فى المعارك البحرية مع المغيرين، يباعون رقيقاً فى اسبانيا، ويفرض عليهم التنصير. ومع أنه صدر قرار يحظر وجودهم فى العاصمة الإسبانية، فإنه كان من الصعب إخراجهم من المملكة، نظراً لما ترتب لأصحابهم عليهم من الحقوق، وكان البعض منهم يفلح فى ابتياع حريته، ويعيد حياة الموريسكيين سراً، وأخيراً توجست الحكومة الإسبانية من وجودهم، فصدر قبله سنة 1712 قرار بنفيهم، خلال المدد التى يحددها القضاة المحليون، وسمح لهم بأن يأخذوا معهم أسرهم وأموالهم إلى إفريقية. وقد كان من المستحيل بعد ذلك كله، أن يبقى فى البلاد أحد من الموريسكيين أو سلالتهم، وقد كانت ذكراهم أو أشباحهم، تثير حولها أيما توجس وتعصب. وكان من المتعذر أن يفلت أحد منهم من بطش ديوان التحقيق، وكان الديوان المقدس أبدا على أهبته لضبط أية قضية ضد موريسكى مختف أو عبد متنصر، لكن هذه القضايا كانت نادرة مما يدل على انقراض هذا العنصر بمضى الزمن. بيد أن أسرى المعارك البحرية الذين كانوا يكرهون على التنصير، كان بعضهم ينبذ النصرانية خفية، وكان معظم هؤلاء من الموريسكيين الذين عادوا إلى الإسلام، وخرجوا إلى الجهاد فى البحر، وكان ديوان التحقيق طوال القرن السابع عشر يجد بينهم فرائس من آن لآخر. وعلى الجملة فإن آثار الموريسكيين والإسلام لم تعف نهائياً من اسبانيا، وقد لبث كثير من الأسر والأفراد الموريسكيين، الذين اندمجوا فى المجتمع الإسبانى، على صلاتهم الخفية بالماضى البعيد، وقد ضبطت خلال القرن الثامن عشر أمام محاكم التحقيق بعض قضايا الموريسكيين، كانوا يجرون شعائر الإسلام خفية، وضبط فى سنة 1769 مسجد صغير فى قرطاجنة، أنشأه المتنصرون المحدثون، مما يدل على أنه كانت ما تزال ثمة آثار ضئيلة للموريسكيين والإسلام

ولا تقدم إلينا محفوظات ديوان التحقيق منذ أواخر القرن الثامن عشر، أى ذكر للموريسكيين، أو الإسلام والمسلمين، مما يدل على أن الآثار الأخيرة لمأساة الموريسكيين قد غاضت، وأسبل عليها الزمن عفاءه إلى الأبد (¬1). على أن يقال أخيراً إنه ما زالت ثمة إلى اليوم، فى بلنسية وفى غرناطة ومقاطعة لامنشا، جماعات من الإسبان تغلب عليها تقاليد الموريسكيين فى اللباس والعادات، ويجهلون الطقوس النصرانية الخالصة (¬2). والحقيقة أنه يصعب على الباحث أن يعتقد أن اسبانيا النصرانية، قد استطاعت حقاً بكل ما لجأت إليه من الوسائل المغرقة، أن تقضى نهائياً على آثار الأمة العربية فإن تاريخ الحضارة يدلنا على أنه من المستحيل، أن تجتث آثار السلالات البشرية، خصوصاً متى لبثت آماداً متخلفة متداخلة، وعلى أن حضارة أمة من الأمم إنما هى خلاصة لتفاعل الأجيال المتعاقبة، وفى وسع مؤرخ الحضارة أن يلمس فى تكوين المجتمع الإسبانى الحاضر، ولاسيما فى الجنوب فى ولايات الأندلس القديمة، وفى خصائصه وتقاليده، وفى حياته الاجتماعية، وفى حضارته على العموم، كثيراً من الخلال والظواهر، التى ترجع فى روحها إلى تراث العرب والحضارة الإسلامية (¬3). ¬_______ (¬1) Lea: The Moriscos p. 391 & 392 (¬2) Lea: ibid ; p. 365 (¬3) استطعت خلال رحلاتى الأندلسية المتوالية أن أتبين هذه الظاهرة، وأن أشعر بها شعوراً قوياً، ولاسيما فى غرناطة، وقد تناولت مظاهرها المادية والأدبية فى فصل خاص فى كتابى " الآثار الأندلسية الباقية " الطبعة الثانية ص 436 - 444

الفصل الثالث تأملات وتعليقات عن آثار المأساة

الفصل الثالث تأملات وتعليقات عن آثار المأساة مأساة الموريسكيين وعلاقتها بانحطاط اسبانيا. آثار نفى الموريسكيين المخربة. ركود الزراعة وخراب الضياع الكبيرة. تأثر محاكم التحقيق. ذيوع العملة الزائفة. تقرير مجلس الدولة عن الاضطراب الاقتصادى. تعليقات الدكتور لى. خطأ السياسة الإسبانية. آراء التفكير الإسبانى. تأييد الأحبار لسياسة الإبادة. حملة دون لورنتى عليها. رأى الكردينال ريشليو. آراء المؤرخين الإسبان. مأساة النفى بين التأييد والإنكار. آراء لافونتى وخانير وبكاتوستى ومننديث إى بلايو. تعليقات النقد الحديث. أقوال الدكتور لى. أقوال العلامة سكوت. أقوال مننديث بيدال. أقوال المستشرق كوندى. تعليق المستشرق لاين بول. تلك هى قصة الموريسكيين أو العرب المتنصرين: قصة مؤسية تفيض بألوان الإستشهاد المحزن، ولكن تفيض فى نفس الوقت بصحف من الإباء والبسالة والجلد، تخلق بأعظم وأنبل الشعوب. وقد لبثت السياسة البربرية التى اتبعتها اسبانيا النصرانية، واتبعها ديوان التحقيق الإسبانى، إزاء العرب المتنصرين على كر العصور، مثار الإنكار والسخط، يدمغها المفكرون الغربيون، والإسبان أنفسهم، حتى يومنا بأقسى النعوت والأحكام. ويرى النقد الحديث، أن العمل على إبادة الموريسكيين، كان ضربة شديدة لعظمة اسبانيا ورخائها؛ ولم تنهض اسبانيا قط من عواقب هذه السياسة الغاشمة، بل انحدرت منذ نفى الموريسكيين، من أوج عظمتها التى سطعت فى عصر شارلكان وفيليب الثانى، إلى غمرة التدهور والإنحلال التى مازالت تلازمها حتى عصرنا. بل ترجع عوامل هذا الانحلال، إلى ما قبل مأساة الموريسكيين ببعيد، أو بعبارة أخرى إلى السياسة التى اتبعتها اسبانيا النصرانية، نحو الأمة الأندلسية، منذ بداية عصر الغلبة والفتح، فى أوائل القرن الثالث عشر. فقد كانت القواعد والولايات الإسلامية الزاهرة، تسقط تباعاً فى يد اسبانيا النصرانية، ولكنها كانت تفقد فى نفس الوقت أهميتها العمرانية والاقتصادية، إذ كانت العناصر الإسلامية الذكية النشيطة من السكان، تغادرها إلى القواعد الإسلامية الباقية، فراراً من عسف

النصارى، وتغادرها حاملة أموالها وفنونها وصنائعها، تاركة وراءها الخراب والفقر والضيق الاقتصادى. واستمر سيل لهذه الهجرة المخربة زهاء قرنين، حتى سقطت غرناطة، واحتشدت البقية الباقية من الأمة الأندلسية فى المنطقة الجنوبية، فى بعض القواعد الأندلسية القديمة، مثل بلنسية ومرسية، وهاجرت قبل سقوط غرناطة وبعده، جموع غفيرة من المسلمين إلى إفريقية، واستحالت الأمة الأندلسية غير بعيد، إلى شعب مهيض ممزق هو شعب الموريسكيين أو العرب المتنصرين. ومع ذلك فقد لبثت هذه الأقلية الأندلسية المضطهدة، عاملا خطيراً فى اقتصاد اسبانيا القومى، وفى ازدهار زراعتها وتجارتها وفنونها وصناعاتها. وكان الموريسكيون يحملون الكثير من تراث الأمة المغلوبة، وإلى نشاطهم ودأبهم، يرجع ازدهار الضياع الكبيرة التى يملكها السادة الإقطاعيون. فلما اشتد بهم الإضطهاد والعسف، وأخذت يد الإبادة تعمل لتمزيق طوائفهم، وسحق نشاطهم وقتل مواهبهم، ولما اتخذت اسبانيا النصرانية أخيراً خطوتها الحاسمة بإخراجهم، كانت الضربة القاضية لرخاء اسبانيا ومواردها، فانحط الإنتاج الزراعى الذى برع الموريسكيون فيه، وخربت الضياع الكبيرة بفقد الأيدى الماهرة، وكسدت التجارة التى كان الموريسكيون من أنشط عناصرها، وركدت ريح الصناعة، وعفت كثير من الصناعات التالدة التى كانوا أساتذتها، وغاضت الفنون الرفيعة التى استأثروا بها منذ أيام الدولة الإسلامية. وأحدثت هذه العوامل بمضى الزمن نتائجها المخربة، فتناقص عدد السكان، وانكمشت المدن الكبيرة، وذوى عمرانها، وتضاءلت موارد الخزينة العامة، وشلت جهود الإصلاح والتقدم، ولم يمض على إخراج الموريسكيين زهاء قرن، حتى أصبح سكان المملكة الإسبانية كلها ستة ملايين، وكان سكان قشتالة وحدها أيام سقوط غرناطة سبعة ملايين، وفقدت معظم المدن الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية وطليطلة وغرناطة أربعة أخماس سكانها، وعم الفقر والخراب مئات المناطق والمدن، وخيم على اسبانيا كلها جو من الفاقة والركود والانحلال. وإذا كان النقد الحديث، ينوه بخطورة السياسة التى اتبعتها اسبانيا، فى إبادة الأمة الأندلسية ونفى الموريسكيين، كعامل قوى الأثر فيما أصاب اسبانيا من أسباب الدمار والبؤس والانحطاط، التى لم تبرأ منها حتى عصرنا، فإنه يعتمد فى هذا الرأى على طائفة من النتائج المادية والأدبية، التى ترتبت على "النفى"، وحرمان اسبانيا من الثروات العقلية والفنية والصناعية، التى كانت تتمتع بها الأمة الأندلسية

وقد ظهرت هذه الآثار المخربة، بالأخص فى محيط الزراعة والصناعة، وكان تدهور إيراد الضياع الكبيرة، وإيراد الكنائس والأديار، دليلا على ما أصاب قوة اسبانيا المنتجة، الزراعية والصناعية، بسبب نفى طائفة كبيرة، من أنشط طوائف السكان وأغزرهم إنتاجاً. وكان من الحقائق المعروفة أن السكان الإسبان، كانوا يبغضون الأعمال الزراعية والفنية، ويعتبرونها أمراً شائناً، وأن الإسبانى لا يربى أولاده لمزاولة العمل الشريف، وأن أولئك الذين لا يجدون عملا فى الجيش أو الحكومة، يلتحقون بالكنيسة. ويبدى المؤرخ الإسبانى الكبير ناباريتى أسفه لوجود أربعة آلاف مدرسة فى عصره (أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر)، يتعلم فيها أبناء الفلاحين، بينما تهجر الحقول، ولأن أولئك الذين لا يجدون منهم عملا فى الكنيسة لنقص تعليمهم، يحترفون التسول أو التشرد أو السرقة. وقد كتب سفراء البندقية منذ القرن السادس عشر إلى حكومتهم ينوهون بهذه الحقائق، ويصفون الإسبان بأنهم زراع وعمال كسالى، يحتقرون العمل اليدوى، حتى أن ما يمكن عمله فى البلاد الأخرى فى شهر، يعمله الإسبان فى أربعة أشهر (¬1). ويردد الوزير محمد بن عبد الوهاب الغسانى سفير سلطان المغرب مولاى اسماعيل إلى اسبانيا، وقد زارها فى سنة 1691، أعنى بعد النفى بثمانين عاماً، عن الإسبان مثل هذا الرأى إذ يقول فى رحلته: " وبحصول هذه البلاد الهندية (يقصد أمريكا) ومنفعتها وكثرة الأموال التى تجلب منها، صار هذا الجنس الإسبنيولى اليوم أكثر النصارى مالا، وأقواهم مدخولا، إلا أن الترف والحضارة غلبت عليهم، فقلما تجد أحداً من هذا الجنس يتاجر أو يسافر للبلدان بقصد التجارة كعادة غيرهم من أجناس النصارى مثل الفلامنك والإنجليز والفرنسيس والجنويين وأمثالهم، وكذلك الحرفة التى يتداولها السقطة والرعاع وأراذل القوم يتأبى عنها هذا الجنس، ويرى لنفسه فضيلة على غيره من الأجناس المسيحيين" (¬2). وقد كان النبلاء والأحبار، وأصحاب الضياع الكبيرة بوجه عام، يعتمدون فى تعهد أراضيهم وفلاحتها، على نشاط الموريسكيين وبراعتهم، فلما وقع النفى ¬_______ (¬1) Lea: The Moriscos ; p. 379 - 381 (¬2) رحلة الوزير الغسانى المسماة "رحلة الوزير فى افتكاك الأسير" (العرائش 1940) ص 44 و 45

جمد النشاط الزراعى، وخلت معظم الضياع من الزراع، وأقفر كثير من القرى، وهدمت ضياع كثيرة لخلوها من السكان، ولاسيما فى منطقة بلنسية، واضطر النبلاء إلى استقدام العمال الزراعيين من الجزائر الشرقية (البليار) وأنحاء البرنيه وقطلونية، ومع ذلك فقد حدث نقص ملحوظ فى غلات الضياع الكبيرة، ولم ينتفع النبلاء بما أصابوه من الاستيلاء على الأراضى التى نزعت، وتعذر عليهم تعميرها وفلاحتها، وحاق بهم الضيق حتى اضطر العرش إلى منح كثيرين منهم نفقات سنوية من خاصة أمواله، هذا فضلا عما أصاب طوائف السكان الأخرى، التى كانت تتصل بالموريسكيين فى المعاملات والتبادل، من العسر والضيق. وكما انحط دخل الكنائس والأديار، فكذلك خسر ديوان التحقيق شطراً كبيراً من دخله، مما كان يصيبه من مصادرة أموال الموريسكيين والحكم عليهم بالغرامات الفادحة، واضطرت الحكومة أن تعول كثيراً من محاكم التحقيق، التى أوشكت على الإفلاس، من جراء اختفاء الجماعة التى كانت تزدهر بمطاردتها واستصفاء أموالها. وقد بيعت أملاك الموريسكيين وأراضيهم بمبالغ كبيرة، ولكن العرش استولى عليها، ووزع معظمها على أصفيائه من الوزراء والنبلاء والأحبار، ولم ينل ديوان التحقيق سوى جزء يسير منها. ويقدمون مثلا لما أصاب اسبانيا من الخراب من جراء "النفى"، هو مثل مدينة ثيوداد ريال (المدينة الملكية) (¬1) عاصمة لامنشا، فقد أسس هذه المدينة ألفونسو العالم فى القرن الثالث عشر، ومنح سكانها شروطاً حرة مغرية، شجعت كثيراً من اليهود والمسلمين على النزوح إليها. وفى سنة 1290 م كان دافعوا الضرائب فيها من اليهود (8828)، فلما أخرج اليهود منها فى سنة 1492، حل محلهم الموريسكيون من غرناطة، ولما أخرج منها هؤلاء مع المدجنين القدماء، خربت المدينة وعفا رخاؤها وانحطت زراعتها، وخربت صناعة النسيج التى أنشأها الموريسكيون فيها، وهبط عدد سكانها فى سنة 1621 إلى 5060 نفساً ونحو ألف أسرة فقط، فى حين أنها كانت تضم من السكان قبل " النفى "اثنتى عشرة ألف أسرة (¬2). وكان مما ترتب على نفى الموريسكيين أيضاً، ذيوع العملة الفضية الزائفة، وقد تركوا وراءهم منها مقادير عظيمة، وكانت لهم بصنعها براعة خاصة. وأحدث ¬_______ (¬1) Ciudad Real (¬2) Lea: The Moriscos ; p. 372 - 384

ذيوع النقد الزائف اضطراباً شديداً فى المعاملات، وحاولت الحكومة جمعه، والمعاقبة على ترويجه بعقوبات رادعة بلغت حد الإعدام، ولكنها لم تفلح فى استئصال الشر، واستمرت هذه الحركة أعواماً طويلة، وعمد الإسبان بدورهم إلى التزييف، وعوقب كثير منهم أمام محاكم التحقيق والمحاكم المدنية، وعانى التجار والمتعاملون كثيراً من الضرر والإرهاق. ولم تمض أعوام قلائل على نفى الموريسكيين، حتى ظهرت هذه الآثار المخربة كلها فى حياة المجتمع الإسبانى بصورة مزعجة، وهال العرش والحكومة ما أصاب الأمة من ضروب البؤس والخراب، وطلب رئيس الحكومة الدوق دى ليرما فى سنة 1618، إلى مجلس الدولة، أن ينظر فى هذا الأمر، ويعمل على تحقيقه ومعالجته، وقدم مجلس الدولة تقريره بعد عام، وأشير فيه إلى خراب المدن والقرى، ولكنه لم يشر إلى نفى الموريسكيين، وإلى تكاثر عدد رجال الدين وتزييف العملة، وبغض الشعب للعمل الشريف، بل حاول أن يرجع الشر إلى فداحة الضرائب، وإلى الترف الذى تعيش فيه الطبقات الممتازة، وإسراف الملك فى الإغداق على أصفيائه؛ وكذلك اهتم مجلس النواب (الكورتيس) بالأمر وقدم عنه تقريراً إلى الملك. ومع أن التقارير الحكومية التى وضعت عن هذه المحنة، لم تشر إلى نفى الموريسكيين كعامل أساسى فيما أصاب اسبانيا من الخراب والفقر، فقد كان فى القرارات الملكية ما ينطق بهذه الحقيقة. ففى سنة 1622 أصدر الملك فيليب الرابع، قراراً بخفض الضرائب فى بلنسية يشير فيه إلى هجرة السكان، وإلى ما خسرته المدينة من ضروب الدخل، التى كانت تجبى على ما يستهلكه الموريسكيون، وما خسره التجار من انقطاع التعامل معهم. على أن جهود العرش والحكومة، لم تجد شيئاً فى تخفيف هذه الضائقة، التى طافت بالمجتمع الإسبانى، وشملت سائر الطبقات سواء فى الإنتاج أو الاستهلاك. ومضى وقت طويل قبل أن تستقر الأحوال نوعاً، وتفيق الزراعة والصناعة والتجارة من الضربة التى أصابتها. يقول الدكتور لى: "إنه لا يمكن لفريق من السكان، كان يعتمد عليه مدى القرون، فى القيام بقسط عظيم من الإنتاج والتنظيمات المالية فى البلاد، أن يمزق فجأة وينبذ، دون أن يبث ذلك الخراب الواسع، ويثير معتركا من المشاكل يمتد أثرها إلى أجيال مرهقة"

ثم ينعى على السياسة الإسبانية تخبطها وقصر نظرها فيقول: "وإنه لمن خواص السياسة الإسبانية فى ذلك العصر، أنه لم يفكر أحد فى هذه الشئون، ولم يحتط لها أحد فى المباحثات الطويلة، التى جرت فى قضية الموريسكيين. وقد حدثت ثمة مناقشات لا نهاية لها حول مختلف المشاريع ومزاياها، والوسائل التى ينفذ بها النفى، وماذا يسمح به للمنفيين، وماذا يكون مصير الأطفال. ولكن النتائج المحتملة تركت للمصادفة، واحتقرت التفاصيل العملية، واحتقر رخاء الفرد، وهو ما يوضح فشل السياسة الإسبانية" (¬1). تلك هى النتائج المادية الواضحة، الإقتصادية والاجتماعية، التى جنتها اسبانيا النصرانية من جراء سياستها المبيتة لإبادة الأمة الأندلسية. فقد لبثت اسبانيا زهاء قرن، تعمل بأقسى وسائل الإرهاق والمطاردة، على استصفاء ما بقى من فلول الأمة الأندلسية، فى الأرض التى بسطت عليها زهاء ثمانية قرون، ظلال الرخاء والأمن، وضوء العلم والعرفان، ولم تطق حتى بعد أن استحالت هذه الفلول، إلى شراذم معذبة مهيضة، وأكرهت على نبذ دينها ولغتها وتقاليدها، أن تبقى عليها، وعلى ما تبقى لها من مواهب وقوى منتجة، ورأت فى سبيل أسطورة من التعصب والجهالة، أن تقضى عليها بالتشريد والنفى النهائى، وأن تخرج من بين سكانها زهاء نصف مليون من أفضل العناصر العاملة. وكان من سوء طالع اسبانيا أن جاء نفى الموريسكيين، فى وقت أخذت فيه عظمة اسبانيا ورخاؤها، ينحدران سراعاً إلى الحضيض، وجنح المجتمع الإسبانى إلى حياة الدعة والخمول، وأخذ سكانها فى التدهور، فجاء نفى الموريسكيين ضربة جديدة لحيوية اسبانيا، التى أخذت فى التفكك والذبول، وتركت وراءها جرحاً عميقاً لم يقو الزمن على محو آثاره بصورة حاسمة. ومن ثم فإنه من الواضح أن يعلق النقد الحديث أهمية بالغة على نفى الموريكسيين، ويعتبره عاملا بعيد المدى فيما أصاب اسبانيا الحديثة، من ضروب التفكك والإنحلال. على أن التفكير الإسبانى يختلف فى قبول هذا الرأى وتقدير مداه؛ ويهاجمه وينكره بالأخص رجال الدين، وقد كانوا منذ البداية روح هذه السياسة المخربة، وأكبر العاملين على تنفيذها. وقد استقبل رجال الدين نفى الموريسكيين بأعظم مظاهر الغبطة والرضى، واعتبروه ذروة النصر الدينى؛ ويقول أحدهم وهو القس بليدا وهو من مؤرخى القرن الماضى، فى كتابه الذى نشره دفاعاً عن هذا الإجراء: ¬_______ (¬1) Lea: The Moriscos ; p. 387

"بأن عصر اسبانيا الذهبى بدأ بذهاب الموريسكيين، وأن اسبانيا قد حققت به وحدتها الدينية، وأنقذت من مشاغلها الداخلية، وأن النفى كان أعظم حادث بعد بعث المسيح، واعتناق اسبانيا للنصرانية" (¬1). ويقول حبر آخر: "لقد زعم الموريسكيون أن رخاء اسبانيا قد ذهب مذ أكرهوا على التنصير، ولكن الرخاء قد عم بنفيهم، وازدهرت التجارة، وساد الأمن فى الداخل والخارج" (¬2). ويقول الحبر بثنتى دى لافونتى فى تاريخه الدينى، إنه من السخرية أن يقال إن نفى الموريسكيين كان سبباً فى انحطاط اسبانيا، فإن أمة قد تفقد مائة وخمسين ألفاً فى وباء أو حرب أهلية. ثم يتساءل فى تهكم لماذا ينحى على فيليب الثالث بمثل هذا اللوم؟ على أنه يعترف مع ذلك بأن النفى كان سبباً فى تدهور دخل الأشراف والكنائس (¬3). ويرى آخرون من الأحبار أن اسبانيا قد دفعت بالنفى ثمناً باهظاً، ولكن تحملهم نزعة فلسفية فيقولون إن وفرة الرخاء تذهب بالفضائل، وإنه لا بأس من التقشف مع الإيمان، وإن الفقراء استطاعوا بعد إجلاء الموريسكيين أن يجدوا أعمالا (¬4). ولكن حبراً ومؤرخاً إسبانياً كبيراً، هو دون لورنتى مؤرخ ديوان التحقيق، يحدثنا عن وسائل الديوان ونفى الموريسكيين فى قوله: "كانت هذه الوسائل بقسوتها الشائنة، تذكى روع الموريسكيين من تلك المحكمة الدموية، وكانوا بدلا من التعلق بالنصرانية، وهو ما كانت تؤدى إليه معاملتهم بشىء من الإنسانية، يزدادون مقتاً لدين لم تحملهم على اعتناقه سوى القوة، وكان هذا سبب الإضطرابات التى أدت فى سنة 1609 إلى نفى هذا الشعب، وعدده يبلغ المليون يومئذ، وهى خسارة فادحة لإسبانيا تضاف إلى خسائرها الفادحة، ففى مائة وتسع وثلاثين سنة انتزع ديوان التحقيق من اسبانيا ثلاثة ملايين، ما بين يهود ومسلمين وموريسكيين" (¬5). ويقول الكردينال ريشليو الفرنسى، وهو من أعظم أحبار الكنيسة فى مذكراته وكان معاصراً للمأساة: "إنها أشد ما سجلت صحف الإنسانية جرأة ووحشية". ... ¬_______ (¬1) Bleda: Defensio fidel in Causa Neophglorum aive Morischorum in Hispania (¬2) Lea: The Moriscos ; p. 366 (¬3) Lea: ibid , p. 394 & 396 (¬4) Lea: ibid, p. 367 (¬5) Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana (1815-1817)

هذا عن الأحبار. وأما عن آراء البحث الإسبانى الحديث، فإنها تختلف فى تقدير آثار نفى الموريسكيين اختلافاً بيناً، بيد أنها تميل على الأغلب إلى الاعتراف بفداحة الآثار المخربة التى أصابت اسبانيا من جرائه، وإلى اعتباره عاملا قوياً فى تدهور اسبانيا وانحلالها. بيد أنها مع ذلك تحاول الاعتذار عن النفى، ويرى البعض أنه كان إجراء طبيعياً، وضرورة لا محيص منها، وينكر البعض الآخر أنه كان كارثة أو أنه ترتبت عليه آثار مخربة. وقد رأينا أن نورد هنا طائفة من آراء عدة من أكابر المؤرخين والمفكرين الإسبان المحدثين، وأن نوردها بدقة وإفاضة تسمحان بفهم الروح الإسبانية، إزاء هذا الحدث التاريخى الخطير، وتقديرها على حقيقتها. يقول دانفيلا إى كوليادو: "وهكذا تحقق نفى الموريسكيين الإسبان، بغض النظر عن كونهم شبانا أو شيوخاً، صالحين، أو عقماء، مذنبين أو أبرياء. وكانت مسألة الوحدة السياسية تحمل فى ثنيتها ضرورة الوحدة الدينية، وضع خطتها الملكان الكاثوليكيان، وحاول تحقيقها الإمبراطور كارلوس الخامس (شارلكان) وفيليب الثانى، ولكنهما ارتدا خشية من عواقبها. أما فيليب الثالث، فكان يزاول سلطانه عن يد أصفيائه، ولذا ألفى سلطة العرش الدينية والسياسية، أيسر وأهون. وكانت الحرب الدينية تضطرم ضد الجنس الأندلسى، وقد ألفت عواطف الروح الرقيقة نفسها، وجهاً لوجه أمام المسألة السياسية. ودخلت الإنسانية والدين فى صراع وخرج الدين ظافراً وفقدت اسبانيا أنشط أبنائها، وانتزع الأبناء من حجور أمهاتهم وحنان آبائهم، ولم يلق الموريسكى أية رأفة أو رحمة. ولكن الوحدة الدينية بدت ساطعة رائعة فى سماء اسبانيا، واغتبطت الأمة إذ أضحت واحدة فى جميع مشاعرها العظيمة. " كان الموريسكيون شديدى المراس. وكان الوطن ينشد وحدة معنوية، تغدو متممة للوحدة السياسية، التى تحققت باندماج سائر العروش فى شبه الجزيرة، وكان عنصر تناقض قوى، كالذى تمثله طائفة الموريسكيين، لا يكون فقط عقبة شديدة يصعب تذليلها، ولكنه كان استحالة مطلقة، تحول دون تحقيق الغاية، التى تتجه إليها الحركة العامة للفكر القومى. وكانت الصعوبة كلها تجثم فى الدين. ولم تكن اللغة التى تبدو خاصة قومية أخرى، تكون يومئذ أو فى أى وقت عقبة بمثل هذه الخطورة، ففى شمال اسبانيا، وفى شرقها، توجد اللهجات المختلفة، من الجليقية والقطلونية والميورقية والبلنسية وغيرها. وكذلك يوجد مثل هذا

التباين فى النظم القضائية، والثياب والعادات الخاصة بكل منطقة، ولكن ذلك لم يكن عقبة كأداء فى سبيل وحدة الدين، والروح القومى، ولم يخلق مثل المعضلة الدائمة، التى خلقها الدين بالنسبة للموريسكيين، والتى جعلتهم فى حالة دائمة من التربص والتوجس. إن ما بذله كارلوس الخامس وفيليب الثانى، لإخضاع الموريسكيين للنصرانية، مما لا يمكن وصفه، ولكن جهودهم كلها ذهبت عبثاً. ذلك أنه بعد ثلاثة قرون من الخضوع، لبث الموريسكيون فى عصر فيليب الثالث، يضطرمون بنفس الروح المتمردة، التى كانت لأسلافهم الذين أخضعوا بالسيف، وقد ارتضوا حالتهم كمحنة مؤقتة عابرة، ولم ينبذوا الأمل قط، ولم يتركوا قط الوسائل التى يعتقدون أنها تمكنهم ذات يوم من الأخذ بالثأر، واسترداد استقلالهم وسيادتهم". ثم يقول: "وإنها لخرافة أن يقال إن الموريسكيين كانوا عنصراً مفيداً فى إنتاج اسبانيا، ولو أنهم كذلك لحملوا الرخاء إلى بلاد المغرب حيث ذهبوا" (¬1). ويقول المؤرخ الكبير مودستو لافونتى، وسنرى أنه يذهب فى الصراحة وتقدير الحقائق المنزهة إلى أبعد حد: "وعلى أى حال فإن مراسيم فيليب الثالث الشهيرة ضد الموريسكيين، قد جردت اسبانيا -وقد كانت يومئذ جد مقفرة من السكان بسبب الإدارة السيئة والحروب المستمرة- من طائفة كبيرة من السكان، أو بعبارة أخرى من السكان الزراعيين والتجاريين والصناعيين، من السكان المنتجين، أولئك الذين يساهمون بأكبر قسط فى الضرائب. وكان أقل ما فى ذلك تسرب الملايين من الدوقيات، التى حملتها الطائفة المنفية معها، فى الوقت التى كانت فيه المملكة تعانى من قلة النقد، فكان نقص الذهب الفجائى على هذا النحو أشد وطأة عليها. وكذلك وقع ضرر أفدح بذيوع النقد الزائف أو المنقوص، الذى روجه المنفيون بسوء قصد قبل رحيلهم. وأسوأ ما فى ذلك كله، هو أنه فقد برحيلهم العنصر العامل الذكى المتمرس فى الفنون النافعة. وهم قد بدأوا بالزراعة، وزراعة السكر والقطن والحبوب، التى كان لهم فى إنتاجها التفوق الجم، وذلك لنظامهم المدهش فى الرى بواسطة السواقى والقنوات، وتوزيع المياه بواسطة هذه الشرايين توزيعاً مناسباً، ¬_______ (¬1) M. Danvilla y Collado: La Expulsion de los Moriscos Espanoles. (Madrid 1889) p. 320-22

كان له أثره فى الإنتاج العظيم الذى امتازت به مروج بلنسية وغرناطة؛ ثم تابعوا بنسج الأصواف والحرائر، وصنع الورق والجلود المدبوكة، وهى صناعات برع الموريسكيون فيها أيما براعة، وانتهوا بمزاولة الحرف الميكانيكية، وهى حرف كان الإسبان لكسلهم وتكبرهم يحتقرونها، ومن ثم فقد احتكرها الموريسكيون واختصوا بها. وقد عانى كل شىء من نقص فى السواعد وفى البراعة، وهو نقص جعلت المفاجأة من المستحيل تداركه، ثم غدا بعد ذلك مَلؤه مبهظاً بطيئاً صعباً. "ويقول نفس المؤرخ البلنسى الذى شهد النفى، وكتب عقب إتمامه، إنه ترتب على ذلك أن بلنسية، وهى حديقة اسبانيا الغناء، استحالت إلى قفر جاف موحش. وحدث هنالك كما حدث فى قشتالة، وفى باقى البلاد، أن بدا شبح الجوع الداهم؛ وبالرغم من أنه قد جىء بسكان جدد إلى الأماكن التى هجرها الموريسكيون، لكى يتدربوا على العمل فى الحقول والمصانع والمعامل، إلى جانب أولئك القلائل الذين ارتضوا البقاء (وهو اعتراف مخجل بلا ريب). على أن مثل هذا التمرن لم يؤت نتائجه السريعة، والتدرب والدأب ليسا من الفضائل التى ترتجل، ولم يكن من السهل أن يعوض مثل هذا الجنس من البشر، وهو الذى استطاع بعبقريته، ومركزه الخاص فى البلاد، ووفرة براعته، وجلده، أن يحقق ما يشبه قهر الطبيعة، واستغلالها لسائر مبتكراته. وهكذا حل مكان ضجيج القرى، الصمت الموحش فى الأماكن المهجورة، وبدلا من السيل المستمر من العمال والصناع فى الطرق، حل خطر لقاء الأشرار الذين يذرعونها، ويجثمون فى أطلال القرى المهجورة. وإذا كان ثمة بعض السادة الإقطاعيين قد غنموا من تراث المنفيين، فقد كان عدد الذين خسروا أعظم بكثير، وبلغ الأمر بالبعض أن طلبوا نفقات للطعام. أما الذين غنموا، فقد كانوا بلاشك هم الدوق دى ليرما وأسرته وقد استولوا على نصيب مما تحصل من بيع منازل الموريسكيين. "ومن ثم فقد اعتبر نفى الموريسكيين من الناحية الاقتصادية، بالنسبة إلى اسبانيا أفدح إجراء مخرب يمكن تصوره. وإنه ليمكن أن نغض الطرف عن المبالغة التى دفعت بأحد الساسة الأجانب، وهو الكردينال ريشليو، أن يسميه "أعرق إجراء فى الجرأة والبربرية مما عرفه التاريخ فى أى عصر سابق" والحق أن الصدع الذى أصاب ثروة اسبانيا العامة من جرائه، كان من الفداحة بحيث أنه ليس من المبالغة أن نقول إنه لم يبرأ حتى عصرنا

"فأما من الناحية الدينية، فقد كان هذا الإجراء، ثمرة الأفكار التى سادت فى اسبانيا قبل ذلك بقرون، وثمرة البغض التقليدى المتأصل، الذى يكنه الشعب لغالبيه وأعدائه الألداء القدماء. وليس مما يمكن إنكاره، أنه كان مؤيداً لفكرة الوحدة الدينية، التى دأب على العمل لتحقيقها وإكمالها الملوك الإسبان والشعب الإسبانى. بيد أنا لا نعتقد أنه كان من البراعة (ما عدا اعتباره صراعاً مقرراً هو من خصائص العصور الوسطى) أن نصل إلى الوحدة الدينية بطريق إفناء أولئك الذين يعتنقون عقائد أخرى. وقد كانت البراعة أن نعمل على اجتذاب المخالفين المعاندين، بالتعاليم والإقناع، والحزم، والرفق، وتفوق الحضارة. وأما كونه إجراء سياسياً، قصد به إلى تحقيق سلامة الدولة وسلامها، فقد كان ممكناً أن نبرر اتخاذه لو كانت المؤامرات حقيقية وخطيرة، وكانت الخطط شنيعة، وكانت الوسائل قوية، والخطر داهماً، وذلك كما افترض الوزير المقرب، والأسقف ربيرا والنصحاء الآخرون. أجل لم يك ثمة شك فى أنه كانت هنالك مكاتبات وعلائق ومشاريع معادية لإسبانيا، بين بعض الموريسكيين البلنسيين وببن المغاربة والترك، بل بينهم وبين بعض الفرنسيين. بيد أننا لم نقتنع بأن هذه الخطط كانت من الجسامة والخطر بمثل ما كان يصورها أنصار النفى، ولم نقتنع بأن النصارى المحدثين فى بلنسية كان لهم من القوة ما يمكن أن يثير مخاوف ذات شأن، كما أنه لم يكن ثمة ما يثير المخاوف من جانب الموريسكيين فى أراجون وفى مرسية، مثلما زعمت الوفود التى أتت من هذين الإقليمين، وكذلك لم يكن الموريسكيون فى قشتالة يعرفون التآمر أو يقدرون عليه. وعلى أى حال فإنه متى ذكرنا، أننا بعد مضى أكثر من قرن على قهر الموريسكيين وإخضاعهم لقوانين المملكة، وتفريقهم ومزجهم بالإسبان والنصارى، لم نوفق إلى تأليفهم فى العادات والعقائد، أو أن ندمج بقية الأمة المغلوبة فى الكتلة الكبرى للأمة الغالبة، ولم نوفق إلى جعلهم نصارى واسبانيين، ثم لجأنا بلا ضرورة إلى وسيلة إفناء جيل برمته، متى ذكرنا ذلك فإنا لا نستطيع أن ننظر بعطف إلى مهارة فيليب الثالث والملوك الذين سبقوه، ولا إلى حزمهم أو سياستهم" (¬1). ويقول فلورثيو خانير، وهو يحذو حذو لافونتى فى تقديره وتعليله، وينقل بعض أقواله: ¬_______ (¬1) Modesto Lafuente: Historia General de Espana (Madrid 1862) T. VIII, p. 211-214

"ومع ذلك، فإنه لمصلحة الدين، والسلام الداخلى، وسلامة الدولة، قد وقع الإغضاء عن المزايا التى كان يسبغها الموريكسيون على الصناعة والتجارة والزراعة، بل وعلى ثروة الأمة الإسبانية كلها، وذلك حينما أخرج بواسطة مراسيم فيليب الثالث، آلاف من الصناع الموريسكيين، يحملون معهم بذور الحضارة والحرث. وقد قال كامبومانس الشهير: "إن بدء تدهور صناعاتنا يرجع إلى سنة 1609، حينما بدئ بنفى الموريسكيين. فمن ذلك الحين، تبدأ مع خراب المصانع صيحات الأمة المتوالية؛ وعبثاً يحاول ساستنا أن ينسبوا بؤس القرن السابع عشر، إلى أسباب أخرى، فهى وإن كانت جزئية، لا يمكن أن تضارع ضربة بهذه المفاجأة، وهى ضربة لم تستطع الأمة حتى اليوم أن تنهض من عثارها". ولقد أحدثت مزاولة العرب للمهن الفنية فى الإسبان أثرين سيئين، الأول أنهم اعتبروا هذه المهن من الأمور الشائنة، والثانى أنهم لم يتعلموا شيئاً منها حتى لا يتشبهوا بأولئك الذين يزاولونها. وهم قد بدأوا بالزراعة وزراعة السكرو القطن والحبوب، التى كان للموريسكيين فى إنتاجها التفوق الجم، وذلك لنظامهم المدهش فى الرى بواسطة السواقى والقنوات، وتوزيع المياه بواسطة هذه الشرايين توزيعاً مناسباً، كان له أثره فى الإنتاج العظيم الذى امتازت به مروج بلنسية وغرناطة الخصبة، ثم تابعوا بنسج الأصواف والحرائر، وصنع الورق والجلود المدبوغة، وهى صناعات برع فيها الموريكسيون أيما براعة، وانتهوا بمزاولة الحرف الميكانيكية وهى حرف كان الإسبان لكسلهم وتكبرهم يحتقرون مزاولتها، ومن ثم فقد كان الموريسكيون يحتكرونها، وقد وقع من جراء ذلك نقص فى الأيدى وفى المهارة كان من المستحيل مَلؤه فى الحال، ثم غدا بعد ذلك مَلؤه مبهظاً بطيئاً صعباً. وقد بلغ النقص فى الأنفس، وفقاً للدراسات التى قمنا بها لنتائج الحادث، على الأقل نحو مليون. ثم يأتى بعد ذلك نقص العملة الذهبية، بسبب الكميات الكبيرة التى حملوها معهم من الدوقيات، وأخيراً يأتى ذيوع النقد الزائف أو ناقص الوزن، وهو الذى ملئوا به المملكة قبل نزوحهم منها، على أن الضرر الفادح الذى لم يعوض لسنين بعيدة، هو بلا ريب ما أصاب الزراعة والصناعة والتجارة. "ومن ثم ففى وسعنا أن نقول عن بلادنا بحق، إن بلاد العرب السعيدة، قد استحالت إلى بلاد العرب القفراء، وعن بلنسية بوجه خاص، إن حديقة اسبانيا الغناء قد استحالت إلى صحراء جافة مشوهة. وقد حل شبح الجوع بالاختصار

فى كل مكان، وحل مكان المرح الصاخب للقرى العامرة، الصمت الموحش فى الأمكنة المهجورة، وبدلا من أن ترى أمامك العمال والصناع، فإنك تغامر بأن تقابل قطاع الطرق يملؤونها ويجثمون فى أطلال القرى المهجورة. ولئن كان ثمة فريق من السادة الملاك الذين أفادوا من تراث المنفيين، فقد كان ثمة عدد أكبر بكثير ممن خسروا، وانتهى بعضهم إلى الموقف المؤلم، بأن يلتمسوا من الحكومة نفقة لإطعامهم، ولم يك بينهم أحد قط ممن غنم كما غنم الدوق دى ليرما وأسرته، وقد استولوا على جزء من أثمان بيع منازل الموريسكيين، وبلغ نحو خمسة ملايين ونصف ريال. "وإذاً فقد كان نفى الموريسكيين من الناحية الإقتصادية، يعتبر بالنسبة إلى اسبانيا، أفدح إجراء مخرب يمكن تصوره. وإنه ليمكن أن نتسامح فى المبالغة التى يصفه بها سياسى أجنبى هو الكردينال ريشليو، حيث يصفه بأنه " أعرق إجراء فى الجرأة والبربرية مما عرفه التاريخ فى أى عصر سابق". والحق أن الصدع الذى منيت به ثروة اسبانيا العامة من جرائه، كان من الفداحة بحيث أنه ليس من المبالغة أن نقول إنه لم يبرأ حتى يومنا" (¬1). بيد أن خانير مع ذلك يقول إن النفى كان ضرورة دينية وسياسية، وإن الوحدة الدينية، تغدو اليوم أسطع جوهرة للأمة الإسبانية. ويعلق المؤرخ الإجتماعى وبكاتوستى، فى الفصل الذى عقده عن "بؤس اسبانيا العام" فى كتابه عن "عظمة اسبانيا وانحلالها" على نفى الموريسكيين بما يأتى: "كان نفى الموريسكيين من أفدح المصائب التى نزلت باسبانيا. أجل لقد وجد أيام الملكين الكاثوليكيين بعض المتعصبين الذين كانوا يقترحون هذا النفى ويعملون له. ولكنهم وجدوا عقبة كأداء فى معارضة الملكة إيسابيلا. وفى سنة 1529، بذل أسقف إشبيلية، جهوداً مضاعفة فى هذا السبيل، وكذا طوال حكم فيليب الثانى، كان هذا الموضوع يثار من وقت إلى آخر. ولكن أمكن فقط فى عصر فيليب الثالث المحزن، أن يرتكب هذا الخطأ الفادح. "والمسئولية الكبرى التى تقع على عاتق هذا الملك، وعلى نصحائه وأسلافه، تتلخص فى أنهم لم يحموا مصالح الموريسكيين المادية، فيمهدوا لتلك الطائفة العاملة، سبل الحياة المستقرة الهادئة؛ ولم يكن لهم من القوة أو الكياسة أو الحزم ما يمكنهم ¬_______ (¬1) D. Florecio Janer: Condicion Social de los Moriscos de Espana (Madrid 1875) p. 100 & 101

من إخضاع هذه الطائفة المتمردة، التى عاشت فى اسبانيا فى أوقات، كانت فيها الأحقاد فى أوج اضطرامها بين الغالبين والمغلوبين. "ولقد أثار الإسراف فى فرض الضرائب وبخس الأعمال، والاضطهاد الدينى، ومساوىء ديوان التحقيق، هذه الأرواح التى قابلت حكومة ضعيفة التدبير، حتى أنه أضحى من المحتوم أن يتخذ هذا الإجراء الشاذ المتطرف. "إن المؤرخين والساسة الذين دافعوا عن نفى الموريسكيين، بعضهم للدفاع عن أخطاء هذه المدرسة، وبعضهم لكى يشيد بالعمل الرائع، إنما يدافعون عن أمور سيئة، أو يرغبون فى أن يضعوا السياسة والسلطة فوق رأس الأمة، وهم فى تبرير مثل هذا الإجراء، لم يراعوا إلا ضرورة الساعة. وإذا فرضنا جدلا ضرورته السياسية باسم السلام والسكينة العامة، وهى التى اتخذت لتبرير كثير من الأخطاء، بل وكثير من الجرائم، فإننا لا نستطيع أن ننسى أن هذا الموقف المحزن، قد خلقته أخطاء السلطة التى واجهت تلك المشكلة القاسية، ورأت أن تقصى الموريسكيين عن اسبانيا، لأنها شعرت أنها عاجزة عن إخماد ثوراتهم المستمرة. إن فَقْدَ هذه السواعد فى الأعمال الزراعية، وفى كثير من الفنون والأعمال، والازدراء الذى كان الإسبان يضمرونه لهذه الطائفة ولنشاطها، والسرعة التى وقعت بها هذه الخسارة، وعدم تحوط الحكومة، التى لم تحاول بأية وسيلة أن تعوض عن نشاطها، وزيادة الضرائب وغيرها من المغارم، التى أضحى عبؤها يقع فقط على عاتق الشعب الإسبانى، لكى يعوض ذلك ما خسرته الدولة مما كان يؤديه الموريكسيون: هذه ربما كانت الأسباب السريعة للبؤس العام. ولقد قام بعض المؤرخين ببحوث مدهشة لتقدير عدد المنفيين، ونحن لا نجاريهم فى ذلك، إذ يبدو لنا العدد أمراً لا أهمية له. وسواء أكان المنفيون كثرة أو قلة، فقد كانوا هم الوحيدون الذين يعملون، وقد أحدث خروجهم من المملكة اضطراباً خطيراً. بمثل هذه العوامل، وصل البؤس الداخلى فى المملكة إلى حد لا يمكن تصوره، ولا تمكن مقارنته، هذا بينما كان البلاط يغرق فى الحفلات الشائقة، وينسب لفيليب الثالث ما كان يمكن صدوره من فيليب الثانى أو كارلوس الخامس" (¬1). ¬_______ (¬1) D. Felipe Picatosti: Estudios sobre la Grandeza y Decadencia de Espana. (Madrid 1887) . p. 101 & 102

ويرى العلامة مننديث إى بلايو، وهو من أعظم المفكرين، والنقدة الإسبان المحدثين، أن نفى الموريسكيين كان نتيجة محتومة لسير التاريخ، ويشرح رأيه فى كتابه عن "الخوارج الإسبان" على النحو الآتى: "ولنقل الآن رأينا فى مسألة النفى بكل وضوح وإخلاص، وذلك بالرغم من أنه يستطيع أن يتكهن به من تتبع القصة السابقة، بروية وبلا تحيز، ولن أتردد فى الجهر به، وإن كان من المؤسف أن يكون ثمة ما أخر إبداءه. فهل كان من الممكن أن يقوم الدين الإسلامى بيننا فى القرن السادس عشر؟ من الواضح أن لا، بل ولا يمكن أن يكون ذلك الآن فى أى جزء من أوربا. فكيف يستسيغ وجوده فى تركيا أولئك الإنسانيون الأجانب الذين يصفوننا بالبربرية لأننا قمنا بإجراء النفى؟ وإنهم لأسوأ مائة مرة من المسلمين الخلص، مهما كان دينهم عائق لكل تمدن، أولئك النصارى المنافقون، والمرتدون والمارقون، الذين لم يحسن إخضاعهم وأولئك الإسبان الأوغاد، الأعداء الداخليون، خميرة كل غزو أجنبى، الجنس الذى لا يقبل الاندماج، كما أثبتت ذلك التجارب المحزنة مدى قرن ونصف. فهل يعتبر ذلك تبريراً لأولئك الذين مزقوا عهود غرناطة، أو لأولئك الثوار الذين أضرموا الهياج فى بلنسية ونصروا الموريسكيين بصورة منافية للدين؟ كلا على الإطلاق. بيد أنه وقد سارت الأمور منذ البداية على هذا النحو، فإنه لم يكن من الممكن أن تكون ثمة نتيجة أخرى، فقد كانت الأحقاد والشكوك المتبادلة، تضطرم باستمرار بين النصارى القدامى والمحدثين، وقد لطخت بقاع البشرات بالدماء غير مرة، وفقد الأمل فى تحقيق التنصير بالوسائل السلمية، وذلك بالرغم من تسامح ديوان التحقيق، والغيرة الطيبة التى أبداها رجال مثل تلافيرا، وفيلانيفا، وربيرا، وإذاً فلم يك ثمة محيص من النفى. وأكرر أن فيليب الثانى قد أخطأ فى كونه لم ينفذه فى الوقت المناسب. وإنه لمن الحق أن نعتقد أن الصراع من أجل البقاء والمعارك، والمذابح بين الأجناس، تنتهى بصورة أخرى غير النفى أو الفناء. ذلك أن الجنس الأدنى ينهار دائماً، ويفوز بالنصر مبدأ القومية الأقوى. وأما إن النفى كان حدثاً مقوضاً، فهذا ما لا ننكره، فإنه من المقرر أنه فى العالم يمتزج الخير والشر دائماً. وخسارة مليون بأسره من الناس، لم تكن هى السبب الأساسى فى إقفار بلادنا من السكان، وإن كان لها أثر فى ذلك. وبعد فإن ذلك يجب ألا يعد إلا كإحدى قطرات الماء فى جانب نفى اليهود، واستعمار أمريكا،

والحروب الخارجية فى مائة مكان معاً، وعدد الجند النظاميين الضخم، وهى أسباب نوه بها كلها بإيجاز اقتصاديونا القدامى، ومنهم من لم يتردد كالحبر فرناندث ناباريتى فى نقد نفى الموريسكيين بعد وقوعه بأعوام قليلة. وما كانت يل وليست الأجزاء المقفرة من السكان فى اسبانيا، هى التى تركها العرب، كما أنها ليست أسوأها زراعة، وهو ما يدل على أن الخسارة التى لحقت بالزراعة، من جراء نفى كبار الزراع المسلمين، لم تكن عميقة أو باقية الأثر، كما قد يتبادر إلى الذهن، لو أننا وقفنا فقط عند عويل أولئك الذين تأملوا الحقول المجدبة غداة تنفيذ أوامر النفى. ونحن أبعد من أن نعتقد مع الشاعر الساذج الشيوعى نوعاً جسبار دى أجيلار، أنه لم يخسر بالنفى سوى السادة الذين فقدوا أتباعهم المسلمين، وأن الكثرة من الناس قد غنمت، وغدا: الأغنياء فقراء، والفقراء أغنياء والصغار كباراً، والكبار صغاراً ذلك أن مثل هذه النظريات، وإن أملاها الإخلاص والحماسة الشعبية، اللذان يضطرم بهما الشاعر، ليست إلا من أسخف وأضل ضروب الاقتصاد السياسى. ذنك أن مملكة بلنسية كلها كان لزاماً أن تخسر، وقد خسرت برحيل مثل هذا العدد الجم من عمال مهرة هادئين مثابرين، وقد كانوا حسبما يصفهم السكرتير فرنسيسكو إدياكيث "يكفون وحدهم لإحداث الخصب والرخاء فى سائر الأرض، لبراعتهم فى الزراعة، وقناعتهم فى الطعام". هذا بينما يصف هذا السكرتير النصارى القدماء بقوله "إنهم قليلو الخبرة فى الزراعة". على أنه من المحقق أنهم تعلموا، وأن بلنسية قد عمرت فيما بعد، وأن سائر الطرق الزراعية ونظم الرى البديعة، التى ربما كان من الخطأ أن تنسب إلى العرب وحدهم، قد أحييت فى هذه المناطق حتى أيامنا. وإذا كان تدهور الزراعة مما لا ينكر، ولعله مبالغ فيه، فإن تأثر الصناعة كان أقل. ذلك لأن الصناعة كانت قبل ذلك بنصف قرن قد أصيبت باضمحلال واضح، وكذلك لأن الصناعات الرئيسية، إذا استثنينا الورق والحرير، لم تكن فى أيدى الموريسكيين، وقد كانوا دائماً عمالا أكثر منهم صناعاً. فإذا قيل مثلا إن المناسج التى بلغ عددها من قبل فى إشبيلية ستة عشر ألفاً، لم يبق منها فى عهد فيليب الخامس سوى ثلاثمائة، ونسب ذلك كله إلى واقعة النفى، فإن أصحاب هذا

القول ينسون أنه لم يكن فى إشبيلية أحد من الموريسكيين، وأن هذه المصانع كانت قد تركت قبل النفى بخمسين عاماً، كأنما آثر أجدادنا أن يحققوا الثراء بالحرب فى إيطاليا وبلاد الفلاندر، وبغزو أمريكا، وكأنهم كانوا ينظرون باحتقار سخيف مؤسف للفنون والأعمال الصناعية. إن اكتشاف العالم الجديد، والثروات التى كانت تتدفق من هنالك، فتثير الجشع، وتذكى أطماعاً يسهل تحقيقها: ذلك هو السبب الحقيقى الذى أسكت مناسجنا وأمحل زراعتنا، وجعل منا أول طائفة من المغامرين المحظوظين، ثم بعد ذلك شعباً من الأشراف المتسولين، وإنه لمن المضحك أن ننسب إلى سبب واحد، ربما كان أقل الأسباب، ما كان نتيجة لأخطاء اقتصادية يعسر علينا أن نتبين علاقتها بالتعصب الدينى. والخلاصة أنه متى تدبرنا المزايا والمضار، فإننا ننظر إلى إجراء النفى العظيم، بنفس الحماسة التى امتدحه بها لوبى دى فيجا وثرفانتس، وكل اسبانيا فى القرن السابع عشر، باعتباره ظفراً لوحدة الجنس ووحدة الدين واللغة، والتقاليد. أما الأضرار المادية فقد شفاها الزمن، وقد استحال ما كان صحراء بلقع قاتمة، إلى مهاد خصبة وحدائق غناء. وأما الذى لا يشفى، وأما الذى يترك دائماً الأحقاد الدموية الأبدية، فهى جرائم تشبه جرائم الوندال. ولما هدأت آثار النفى، أضحى النفى ليس فقط إجراء محموداً، بل كذلك إجراء ضرورياً. لم يكن ميسوراً أن تحل العقدة، فكان لابد من قطعها، ومثل هذه النتائج تقترن دائماً بالانقلابات المفروضة" (¬1). ويعلق العلامة الدكتور لى، وهو من أحدث الباحثين فى هذا الموضوع على آراء المفكرين والمؤرخين الإسبان بقوله: "إذا كان نفى الموريسكيين كما يقول مننديث إى بلايو، نتيجة محتومة لقانون تاريخى، وإذا كان قد غدا ضرورة فى عهد فيليب الثالث، فقد كانت ضرورة مصطنعة، خلقها تعصب القرن السادس عشر، وإذا كان وجود المدجنين، منذ أيام ملوك ليون وقشتالة وأراجون فى الأراضى الإسبانية، من الأمور المأمونة، وذلك فى الوقت الذى كان فيه زعماء اسبانيا النصرانية يشغلون بحروب أهلية مضطرمة، ويواجهون دول العرب والمرابطين والموحدين القوية، وإذا كان فى وسع الملوك النصارى فى هذه العصور ¬_______ (¬1) M. Menendez y Pelayo: Historia de los Heterodoxes Espanoles p. 339 - 343

المضطربة، أن يركنوا إلى ولاء رعاياهم المسلمين أثناء الحرب، وأن يفيدوا من نشاطهم أثناء السلم، فإن الضرورة السياسية للوحدة الدينية، بعد أن غدت اسبانيا دولة قوية موحدة، وغدا المسلمون طوائف ممزقة، لم تكن بلا ريب سوى ضرب من الخيال المغرق الذى يخلقه التعصب. وقد كان هذا التعصب، نتيجة لتعاليم الكنيسة المستمرة، وهى التعاليم التى اعتنقتها اسبانيا مذ غدت قوة عالمية. وما أن انحدرت اسبانيا إلى طريق التعصب، حتى دفعه توقد المزاج الإسبانى إلى نهايته المحتومة باكتمال لا نظير له. ولما قضت غطرسة الكردينال خمنيس العنيفة، على ثقة المسلمين فى عدالة اسبانيا وشرفها، اتخذت الخطوة المحتومة فى طريق لم تكن له سوى نهاية واحدة ... ولقد كان الموريسكيون بالضرورة أعداء فى الداخل، حملوا بكل وسيلة على بغض دين فرض عليهم بالقوة، وتبلورت مثله فى الظلم والاضطهاد وفظائع ديوان التحقيق، وكان من المستحيل فى ظل المؤثرات الدينية، التى غلبت على السياسة الإسبانية، أن يعامل الموريسكيون بالرفق والتسامح، وبهما فقط يمكن العمل على إرضائهم، وتحقيق رخائهم، وبث محبة النصرانية فى قلوبهم. وقد كانت كل محاولة لتلطيف الموقف، تزيده سوءاً حتى غدوا إغراء دائماً لاتصال كل عدو من الخارج، ومثاراً دائماً لجزع السياسة الإسبانية. فلما اضمحلت قوة اسبانيا، وفقد حكامها الثقة بالنفس، لم يكن ثمة بد من أن يتوج قرن من الغدر والظلم، بالنفى والإبعاد. وقلما يقدم لنا التاريخ مثلا، كوفئت فيه السيئة وأمثالها، وطمت كوارثه، كذلك الذى ترتب على جهود الكردينال خمنيس بما يطبعها من تعصب مضطرم". ثم يقول: "على أنه مهما كان من فداحة الضربة، فقد كان الميسور تداركها بسرعة لو أن اسبانيا كانت تملك الحيوية القوية، التى مكنت أمماً أخرى من أن تنهض من كوارث أشد. إن انحلال اسبانيا لا يرجع فقط إلى خسارتها لجزء من السكان، بنفى اليهود والعرب المتنصرين، فقد كان من المستطاع أن تعوض هذه الخسارة؛ ولكن الخطب يرجع إلى أن اليهود والعرب المتنصرين كانوا من الناحية الإقتصادية أقيم عنصر بين سكانها، وكان نشاطهم معيناً لحياة الآخرين، وبينما كانت أمم أوربا الأخرى تنهض وتسير إلى الأمام فى مضمار التقدم، كانت اسبانيا، وشعارها أن تضحى كل شىء فى سبيل الوحدة الدينية، تنحدر سراعاً إلى غمر البؤس والشقاء، وتغدو جنة للأحبار والقساوسة، وعمال ديوان التحقيق، تخمد

فيها كل نزعة إلى الرقى العقلى، وتقطع فيها كل صلة مع العالم الخارجى، ويشل فيها كل جهد يبذل فى سبيل التقدم المادى. وقد كان من العبث أن تنهمر ثروات العالم الجديد، إلى أيدى شعب لا تقل مواهبه الطبيعية عن أى شعب آخر، وإلى أرض كانت مواردها عظيمة، مثلما كانت حينما جعلتها براعة العرب ونشاطهم فى طليعة الأمم الأوربية ازدهاراً. ومهما كانت قيمة الخدمات التى أدتها إيسابيلا الكاثوليكية والكردينال خمنيس، فإن السيئ فى عملهما يفوق الحسن، لأنهما علما الأمة أن الوحدة الدينية هى أول غاية يجب تحقيقها، وقد ضحت فى سبيل هذه الغاية برخائها المادى ورقيها العقلى" (¬1). وأخيراً يجمل الدكتور لى خلاصة بحثه المستفيض فى مأساة المويسكيين فى هذه العبارة الموجزة القوية؛ "إن تاريخ الموريسكيين لا يتضمن فقط مأساة تثير أبلغ عطف، ولكنه أيضاً خلاصة لجميع الأخطاء والأهواء، التى اتحدت لتنحدر باسبانيا فى زهاء قرن، من عظمتها أيام شارل الخامس إلى ذلتها فى عصر كارلوس الثانى" (¬2). ويقول العلامة سكوت: "لقد كانت نتائج هذه الجريمة التى ارتكبت ضد الحضارة، سواء البعيد منها والمباشر، ضربة لاسبانيا. فقد عصفت بموارد عيشها، ودفع بها القحط إلى الخراب، وأضحى من الضرورة أن تمد الحكومة يد الغوث إلى كثير من الأسر النبيلة، التى أودى بثرواتها تصرف العرش الانتحارى، وخيم الصمت والوجوم على مناطق شاسعة، كان يغمرها الخصب الأخضر، وظهر اللصوص والخوارج على القانون مكان الزراع والصناع، وحل الجزاء المروع عقب مأساة لم تقدم على مثلها لحسن الطالع أية أمة أخرى، مأساة أنزلت منذ وقوعها بالأمة التى ارتكبت فظائعها، كل صنوف الدمار والويل حتى الجبل الأخضر" (¬3). ويمكن أن نلخص رأى النقد الإسبانى المعاصر فيما سمعته من العلامة الأستاذ مننديث بيدال، أعظم المؤرخين والنقدة الإسبان فى عصرنا، فقد حدثته وأنا بمدريد عن قضية الموريسكيين ونفيهم، فأدلى إلىّ بالآراء الآتية: "لا ريب أن اسبانيا قد منيت من جراء نفى الموريسكيين بخسارة مادية لأنها ¬_______ (¬1) Dr. Lea: The Moriscos ; p. 395 -397 & 399 - 401 (¬2) Lea: The Moriscos, p. V. (¬3) Scott: The Moorish Empire in Europe ; V. III. p. 328

خسرت بإخراجهم شعباً مجدًّا عاملا بارعاً فى الزراعة والصناعة، ولكن الواقع أن حركة الإنقلاب البروتستانتى حملت اسبانيا على أن تتبع من جانبها سياسة كاثوليكية شديدة، وكان من جراء ذلك أن اشتدت فى معاملة الموريسكيين، ويمكن أن نصف هذه السياسة بأنها كانت عنيفة مغرقة. ولم يكن نفى الموريسكيين خطوة موفقة، وكان أيضاً من آثار الحركة الرجعية الكاثوليكية. وما كان ملك قوى مثل فيليب الثانى ليقدم على اتخاذ مثل هذه الخطوة، ولكن ولده فيليب الثالث كان ملكاً ضعيفاً يعوزه الذكاء والحصافة. وقد غلبت السياسة الدينية والكنسية فى هذه المسألة. ويبدو خطأ هذه السياسة بالأخص من الناحية العنصرية، فإن العلامة ربيرا يعتقد أن الموريسكيين كان نصفهم على الأقل من الإسبان الخلص الذين اعتنقوا الإسلام فى عهود مختلفة، ثم أرغموا على التنصير بعد سقوط غرناطة وصاروا موريسكيين. ويسلم الأستاذ بيدال بأن نفى الموريسكيين كان من عوامل انحلال اسبانيا، ولكنه يرى من البالغة أن يقال إنه السبب الرئيسى لهذا الانحلال. ثم يقول: "الواقع أن هذه مسألة معقدة، وأعتقد أن من أهم أسباب انحلال اسبانيا، عنف السياسة الكنسية المناهضة لحركة الإصلاح الدينى - البروتستانتية - وهو عنف لم يقع مثله فى أى بلد أوربى آخر بل انفردت به اسبانيا والكنيسة الإسبانية". ويبدى دى مارليس الذى اتخذ مؤلف كوندى أساساً لكتابه عن "تاريخ دولة المسلمين فى اسبانيا والبرتغال" حماسة فى تقدير تراث الأمة الأندلسية وما أصاب اسبانيا من جراء القضاء عليها، ويعلق فى خاتمة تاريخه على مأساة الموريسكيين فى تلك العبارات الشعرية المؤثرة: "وهكذا اختفى من الأرض الإسبانية إلى الأبد ذلك الشعب الباسل اليقظ الذكى المستنير، الذى أحيى بهمته وجِدّه تلك الأراضى، التى أسلمتها كبرياء القوط الخاملة إلى الجدب، فدر عليها الرخاء والفيض، واحتفر لها عديد القنوات، ذلك الشعب الذى أحاطت شجاعته الفياضة فى السعود والشدائد معاً، عرش الخلفاء بسياج من البأس، والذى أقامت عبقريته بالمران والتقدم والدرس، فى مدنه صرحاً خالداً من الأنوار، التى كان ضوؤها المنبعث ينير أوربا، ويبث فيها شغف العلم والعرفان، والذى كان روحه الشهم يطبع كل أعماله بطابع لا نظير له من العظمة والنبل، ويسبغ عليه فى نظر الخلف، لوناً غامضاً من العظمة الخارقة، ودهاناً سحرياً

من البطولة، يذكرنا بعصور هومير السحرية، ويقدم لنا فيهم أنصاف آلهة اليونان، ولكن شيئاً لا يدوم فى هذا العالم. فإن هذا الشعب قاهر القوط، الذى كان يبدو أنه صائر خلال القرون، إلى أقصى الأجيال، قد ذهب ذهاب الأشباح، وعبثاً يسائل اليوم السائح الفريد، قفار الأندلس المحزنة، التى كان يعمرها من قبل شعب غنى منعم. ظهر العرب فجأة فى اسبانيا، كالقبس الذى يشق عباب الهواء بضوئه، وينشر لهبه فى جنبات الأفق، ثم يغيض سريعاً فى عالم العدم، ظهروا فى اسبانيا فملأوها فجأة بنشاطهم وثمار براعتهم، وأظلها كوكب من المجد شملها من البرنيه إلى صخرة طارق، ومن المحيط إلى شواطىء برشلونة. ولكن هوى يضطرم إلى الحرية والاستقلال، وخلقاً متقلباً يميل إلى الخفة والمرح، ونسيان الفضائل القديمة، وميل نكد إلى التمرد والثورة، يثيره دائماً خيال ملتهب، وشهوات وأطماع عنيفة، ونزعة إلى التغلب وغيرها، من عوامل الاضمحلال، قد عملت شيئاً فشيئاً، على هدم ذلك الصرح العتيد، الذى شاده رجال كطارق وعبد الرحمن الناصر ومحمد بن الأحمر، وأفضت بالعرب إلى خلافات داخلية، فلّت من بأسهم وحملتهم إلى هاوية الفناء. خرج ملايين العرب من اسبانيا، حاملين أموالهم وفنونهم، ثروات الدولة، فماذا أنشأ الإسبان مكانهم؟ لا نستطيع أن نجيب، بشىء، إلا أن حزناً خالداً يغمر هذه الأرض، التى كانت من قبل تتنفس فيها أبهج الطبائع. أن ثمة بعض الآثار المشوهة ما زالت تقوم فى هذه البقاع الموحشة، ولكن صرخة حقيقية تدوى من أعماق هذه الأطلال الدارسة: الشرف والمجد العربى المغلوب، والانحلال والبؤس للإسبانى الظافر" (¬1). ويقول الأستاذ لاين بول فى مقدمة كتابه عن "العرب فى اسبانيا"؛ "لبثت اسبانيا فى يد المسلمين ثمانية قرون، وضوء حضارتها الزاهرة يبهر أوربا، وازدهرت بقاعها الخصبة بمجهود الفاتحين، وأنشئت المدائن العظيمة فى سهول الوادى الكبير، فلم يبق ثمة ما يذكرنا بماضيها المجيد، سوى الأسماء والأسماء فقط - وتقدمت بها الآداب والعلوم والفنون، دون سائر الأمم الأوربية، ولم تثمر وتكتمل زهرة العلوم ¬_______ (¬1) De Marlès: Histoire de la Domination des Arabes et des Maures en Espagne et Portugal (redigé sur l'Histoire de M. Joseph Condé ; V. III. p. 404 - 406

الرياضية والفلكية والنباتية، والتاريخ والفلسفة والتشريع، إلا فى اسبانيا المسلمة، فكل ما يدعو إلى عظمة أمة وسعادتها، وكل ما يؤدى إلى رقى باهر وحضارة سامية، فاز به مسلمو اسبانيا. ثم ذوت عظمة اسبانيا بسقوط غرناطة. وقد سطعت لمدى قصير أشعة من ضوء الحضارة العربية، فوق الأرض التى كان ينعشها بحرارته. ثم تضاءلت عظمة عصور فرناندو وإيسابيلا، وشارل الخامس، وفيليب الثانى، وكلومبوس وكورتيس وبيثارو، لتموت بموتها دولة عظيمة. ثم خفقت أعلام الخراب بسيادة ديوان التحقيق وسادت اسبانيا بعد ذلك ظلمة حالكة؛ فأصبح لا يعرف الأطباء بأرض كانت علومها منيرة إلا بالجهل والقصور ... وقضى على فنون إشبيلية وطليطلة وألمرية وعفت صناعاتها؛ وسحقت المعاهد العامة حتى تزول بزوالها آثار الإسلام، وخربت المدائن الكبيرة، وذوت نضرة الوديان الخصبة، فحل البؤساء والدهماء واللصوص مكان الطلاب والتجار والفرسان: ذلك مبلغ انحطاط اسبانيا يعد إقصائها للعرب، وهكذا يبدو البون شاسعاً بين أدوار تاريخها" (¬1). ¬_______ (¬1) Lane - Poole: The Moors in Spain

الكتاب الخامس نظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكرية فى مملكة غرناطة

الكتابُ الخامس نظم الحكم والحياة الاجتماعية والفكريّة فى مملكة غرناطة

الفصل الأول نظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية

الفصل الأوّل نظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية مكانة الحضارة الأندلسية. ذويها عقب انهيار الخلافة. انتعاشها أيام الطوائف. ركودها أيام المرابطين وانتعاشها أيام الموحدين. بنو زهر. ابن ميمون وابن رشد. الإضطهاد الفكرى أيام الموحدين. الآداب والفنون فى هذا العهد. مملكة غرناطة وخواصها الطبيعية. دولة بنى الأحمر أو الدولة النصرية. شعارها الحكم المطلق. الوزراء الطغاة. أخطار هذا النظام. حمية الشعب الغرناطى. مناصب الحكم الرئيسية. الوزارة. خواصها ومهامها. قيادة الجيوش. الجيش والأسطول. قاضى الجماعة أو قاضى القضاة. الحسبة. صاحب الشرطة. إقليم غرناطة ومواردها. تقدم الرى والزراعة. غرس الحدائق. بسائط غرناطة. الصناعات الأندلسية. التجارة الخارجية. الموارد السلطانية. الضرائب. تكوين الأمة الأندلسية. أحوال المجتمع الأندلسى. الفروسة الأندلسية. تعرض لنا الحضارة الأندلسية، صفحة من أجمل وأروع صحف الحضارة الإسلامية، والحضارة الإنسانية، بصفة عامة. وقد نشأت حضارة الإسلام فى الأندلس فى بيئة وظروف خاصة، واكتسبت بفعل المؤثرات التاريخية والإقليمية والاجتماعية، لونها الخاص ومميزاتها الخاصة. وتحتل قصة الحضارة الأندلسية، فى تاريخ الحضارات الأوربية مكانة رفيعة، وتملأ فراغا كبيراً. ولكنها لم تنل مع الأسف مكانها من الرعاية والدرس فى المصادر الإسلامية، ولم تكتب حتى اليوم كتابة شافية. وأغلب ما كتب عنها فى مصادرنا، شذور ونبذ متفرقة غير متناسقة، وتراجم لأعلام التفكير والأدب لم يعن فيها بدراسة الجوانب الهامة. وإنه لمن الإسراف أن نقول، إننا نستطيع أن نستعرض هذه القصة الباهرة المتعددة النواحى، فى فصل أو فصول، من سفر يخصص لكتابة تاريخ المراحل الأخيرة، من حياة الأمة الأندلسية. على أننا سوف نحاول مع ذلك أن نستعرض صور الحضارة الأندلسية فى ظل مملكة غرناطة، استكمالا لموضوعنا، وأن نلقى بذلك شيئاً من الضياء على النظم والأحوال، التى عاشت فى ظلها الأمة الأندلسية فى مراحلها الأخيرة، وما انتهت إليه فى ميدان التفكير والآداب والفنون

وكما أن مصادرنا الإسلامية فى هذا القسم من تاريخ الأندلس قليلة ضنينة، فهى كذلك بالنسبة لصور الحضارة الأندلسية، وقد هلكت معظم الآثار والوثائق الأندلسية المتعلقة بهذا العصر، كما رأينا على يد الإسبان، ولم يسعفنا فى ذلك سوى بعض الآثار القليلة الباقية، التى نجت من المحنة، ولاسيما آثار ابن الخطيب، وما نقله إلينا المقرى عن آثار ووثائق ضاعت، وكان له فضل إيصالها إلينا. ... وإذا كان تاريخ الأندلس السياسى، يقدم إلينا صوره المتباينة، من الإضطرام والركود، والقوة والضعف، فكذا شأن الحضارة الأندلسية. فقد وصلت فى ظل الخلافة الأموية فى عهد عبد الرحمن الناصر وولده الحكم المستنصر، حينما وصلت الدولة الإسلامية إلى أوج سلطانها السياسى، إلى ذروة القوة والبهاء، وإن لم تصل يومئذ إلى ذروة نضجها الفكرى. ولما انهارت الخلافة الأموية، واضمحلت النظم السياسية والاجتماعية، وسادت الثورة والفوضى أرجاء الأندلس، وهلكت معظم الآثار العمرانية والفكرية فى غمر الفتنة، ذوت الحضارة الأندلسية مدى حين، حتى قامت دول الطوائف فوق أنقاض الدولة الأموية، واستطاعت بالرغم من صغرها، وتنافسها وتطاحنها فى ميدان الحرب، أن تعيد لمحة من بهاء الدولة الإسلامية، وسطعت آيات الحضارة الأندلسية فى قصورها ومنشآتها، وفى مجتمعاتها، وأينعت فى ظلها دولة التفكير والأدب، وعرفت الأندلس فى هذه الحقبة المضطربة من تاريخها، طائفة من أعظم مفكريها وأدبائها وشعرائها، مثل الفيلسوف ابن حزم المتوفى سنة 456 هـ (1064 م) وابن حيان أعظم مؤرخى الأندلس، وقد توفى سنة 469 هـ (1076 م)، وتلميذه الحميدى المتوفى سنة 488 هـ (1095 م). ومن الأدباء والشعراء، ابن زيدون المتوفى سنة 462 هـ (1069 م)، وابن عبدون المتوفى سنة 520 هـ (1126 م) وعشرات آخرين من الكتاب والشعراء، يقدمهم إلينا الفتح بن خاقان فى مؤلفه "قلائد العقيان". بل لقد كان ملوك الطوائف أنفسهم فى طليعة العلماء والأدباء والشعراء، مثل الأمير العالم عمر بن الأفطس صاحب بطليوس، والشاعرين الكبيرين، المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية (¬1). ولكن ¬_______ (¬1) توفى ابن الأفطس قتيلا بيد المرابطين سنة 488 هـ، وتوفى ابن عباد فى الأسر بالمغرب فى شوال سنة 488 هـ؛ وتوفى المعتصم بن صمادح فى سنة 484 هـ

سرعان ما انكمشت هذه النهضة الفكرية والأدبية الزاهرة، عقب مصرع دول الطوائف، واستيلاء المرابطين على الأندلس فى سنة 484 هـ (1901 م). وكان أولئك البربر الصحراويون قوماً غلاظاً، يؤثرون مهاد الجندية والخشونة، وتغلب عليهم الأفكار الرجعية العتيقة، لم تأخذهم مظاهر الحضارة الأندلسية المصقولة، ولم تكن -إذا اسثنينا العلوم الدينية- تهزهم أصداء الشعر والآداب الرفيعة، اللهم إلا ما كان من حشدهم لبعض أكابر الكتاب الأندلسيين فى البلاط المرابطى، ليكونوا ترجمانا للدولة. وحتى العلوم الدينية كانت تدرس فى ظلهم فى إطار خاص يغلب فيه علم الفروع على الأصول، ومن ثم فقد طوردت فى ظلهم -فضلا عن الكتب الفلسفية والعلمية- كتب الأصول المشرقية، وفى مقدمتها كتب الغزالى. وترتب على ذلك أن ركدت فى ظلهم دولة التفكير والأدب وذَوَى بهاء الحضارة الأندلسية. أجل، سطعت فى ظل دولتهم القصيرة الأمد، فى ميدان التفكير الأندلسى، جمهرة من الشخصيات اللامعة من حفاظ وكتاب وشعراء، وعلماء، مثل الحافظ ابن الجد الفهرى المتوفى سنة 515 هـ (1121 م)، وأبو عبد الله بن أبى الخصال المتوفى سنة 540 هـ (1145 م)، وأبو بكر الصيرفى المتوفى سنة 570 هـ (1174 م). وأبو بكر الطرطوشى الفيلسوف السياسى المتوفى سنة 520 هـ (1126 م)، صاحب كتاب "سراج الملوك"، والفتح ابن خاقان المتوفى سنة 535 هـ (1140 م)، وابن بسام الشنترينى صاحب "الذخيرة" المتوفى سنة 542 هـ (1147 م)، وابن قزمان أمير الزجل الأندلسى المتوفى سنة 555 هـ (1160 م)، ومن العلماء أبو القاسم خلف بن عباس القرطبى الطبيب الأشهر المتوفى سنة 519 هـ (1122 م)، وابن باجة الطبيب الفيلسوف المتوفى سنة 533 هـ (1138 م) - وهو المعروف باللاتينية باسم Avempace. ولكن ظهور هؤلاء وأضرابهم فى هذه الفترة، لم يكن إلا أثراً من آثار النهضة الفكرية والأدبية فى ظل دول الطوائف (¬1). وفى ظل دولة الموحدين، التى خلفت دولة المرابطين فى حكم الأندلس، انتعشت الحضارة الأندلسية والتفكير الأندلسى. وقد نشأ الموحدون كالمرابطين فى مهاد الخشونة والتقشف، ولكنهم كانوا أوسع أفقاً، وأكثر قبولا لثمار التمدن. ¬_______ (¬1) تناولنا سير الحركة الفكرية الأندلسية خلال العهد المرابطى بتفصيل واف فى كتابنا "عصر المرابطين والموحدين فى المغرب والأندلس" (القسم الأول) ص 438 - 474

وكان لدولتهم بالأخص صبغة علمية دينية، إذ كان مؤسسها المهدى ابن تومرت، من أئمة التفكير الدينى. وأبدى خلفاؤه عبد المؤمن وبنوه اهتماماً بالعلوم والفنون، وأطلقت حرية التفكير والبحث، وكانت قد صفدت فى عهد المرابطين، وأفرج عن كتب الغزالى وغيره من مفكرى المشرق، وكانت قد طوردت ومنعت فى أيامهم بالمغرب والأندلس. وفى تلك الفترة بالذات أعنى فى أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجرى، بلغ التفكير الأندلسى ذروة النضج، وتفجرت ينابيع النبوغ، وظهرت طائفة من أعظم أقطاب العلم والأدب. وكان فى طليعة أقطاب العلم فى هذا العصر، بنو زهر الإشبيليون، وعميدهم الوزير والطبيب الأشهر أبو العلاء زهر ابن عبد الملك بن زهر، ثم ولده أبو مروان عبد الملك بن زهر المتوفى سنة 557 هـ (1161 م)، وهو المعروف باللاتينية باسم Avenzoar. ويعتبر ابن زهر أعظم طبيب ومشخص فى العصور الوسطى بعد أبى بكر الرازى، ويعتبره ابن رشد أعظم طبيب بعد جالينوس، ويعتبر كتابه "التيسير" من أعظم مراجع الطب فى العصور الوسطى، وكان لمؤلفاته التى ترجمت كغيرها إلى اللاتينية فى عصر مبكر، أثر عظيم فى سير البحوث الطبية فى أوربا، وخلفه فى مهنته ولده الطبيب الأشهر أبو بكر بن زهر، وحظى لدى حكومة الموحدين، وتوفى سنة 595 هـ (1198 م). وظهر إلى جانب هؤلاء عدة من أقطاب الفلاسفة، مثل أبى بكر ابن طفيل الوادى آشى، المتوفى سنة 581 هـ (1185 م)، وهو صاحب رسالة حى بن يقظان الشهيرة، والإمام الفيلسوف أبى الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبى، المتوفى سنة 594 هـ (1198 م). والرئيس موسى بن ميمون اليهودى القرطبى، المتوفى سنة 602 هـ (1205 م). وفى حياة ابن ميمون وابن رشد بالأخص، ما يمثل لنا طرفاً من سياسة الموحدين تجاه التفكير، وترددها بين التسامح والإضطهاد. فقد كان ابن ميمون من أعظم الأطباء والفلاسفة فى عصره، ولكنه اضطهد ليهوديته خلال الإضطهاد العام، الذى لقيه اليهود فى ظل عبد المؤمن خليفة الموحدين، فغادر الأندلس إلى المشرق، ونزل بمصر وخدم بلاطها، وعين طبيباً خاصاً للسلطان صلاح الدين، وندب للتدريس بالقاهرة. وقد كان ابن رشد بلا ريب أعظم فلاسفة الإسلام ومفكريه فى ذلك العصر، ولد بقرطبة سنة 520 هـ (1126 م) واتصل منذ فتوته بأبى يوسف يعقوب ابن عبد المؤمن، المشرف على شئون الأندلس، وكان الأمير مثل أبيه يجمع حوله

أعلام المفكرين والعلماء؛ وبرع ابن رشد فى الفقه والطب والفلسفة، وتولى قضاء إشبيلية فى سنة 565 هـ، ثم ولى قضاء قرطبة، واستمر زهاء خمسة وعشرين عاماً، يتقلب فى مناصب القضاء والإدارة، فى ظل حكومة الموحدين بالأندلس والمغرب، وتولى أثناء ذلك منصب الطبيب الخاص للخليفة أبى يعقوب يوسف، ثم لولده الخليفة يعقوب المنصور بعد وفاته. واتهمه بعض خصومه بالزندقة والخروج على شريعة الإسلام، فأمر الخليفة المنصور بنفيه إلى بلدة اليسّانة على مقربة من غرناطة، وفرضت عليه رقابة شديدة، ثم عفا عنه واسترد مكانته فى أواخر حياته، واستدعى ثانية إلى مراكش، وهنالك توفى بعد قليل فى سنة 595 هـ (1198 م). وأعظم آثار ابن رشد هو شروحه لفلسفة أرسطو، فى المنطق وما وراء الطبيعة، وقد ترجمت إلى اللاتينية منذ القرن الثالث عشر، وكانت مفتاح الدراسات الأرسطوطالية فى العصور الوسطى. وقد كان يغمرها الغموض والحلك، قبل أن يتصدى ابن رشد لشرحها. وغدت شروح ابن رشد فى الوقت نفسه أساساً لكثير من المباحث الفلسفية، التى ازدهرت أيام حركة الإحياء الأوربى. بل يرى مؤرخو الفلسفة، أن الفلسفة الجدلية الأوربية استمدت من العرب والفلسفة العربية، أكثر مما استمدت من قسطنطينية التى كانت مستودعاً لتراث الفلسفة اليونانية. وكتب ابن رشد فى الطب مؤلفه "الكليات" وهو من أهم الآثار الطبية فى العصور الوسطى، وقد ترجم إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوربية منذ القرن الثالث عشر ولابن رشد طائفة كثيرة أخرى من الرسائل والبحوث الفلسفية والكلامية. وكانت الفلسفة على الأغلب علماً خطراً فى ظل حكومة الموحدين، وقد رأيت ما كان من اضطهاد ابن رشد ونفيه وسبب آرائه الفلسفية، وقد كان من ضحايا هذا الإضطهاد، فى هذا العصر، مفكر أندلسى آخر هو ابن حبيب الإشبيلى، الذى اتهم بالزندقة بسبب آرائه الفلسفية، أيام المأمون بن المنصور، وقتل لهذا السبب (¬1). وهكذا كانت الفلسفة أيام الموحدين قرينة الإلحاد والزندقة، وكانت خطراً يجتنبه كثير من مفكرى العصر. وظهرت فى تلك الفترة، إلى جانب هؤلاء العلماء، جمهرة من أقطاب الرواية والأدب، مثل أبى القاسم خلف بن بشكوال القرطبى المتوفى سنة 578 هـ، (1183 م)، وهو مؤلف كتاب الصلة الذى ذيل به على كتاب علماء الأندلس ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 2 ص 138

لابن الفرضى (¬1) وابن بدرون الإشبيلى المتوفى فى فاتحة القرن السابع، وهو شارح قصيدة ابن عبدون الشهيرة فى رثاء بنى الأفطس، وابن الصابونى الصدفى الإشبيلى الشاعر، المتوفى فى سنة 604 هـ (1207 م)، وقد قال ابن الأبار فى حقه "ذهبت الآداب بذهابه، وختمت الأندلس شعراءها". وازدهرت المعاهد العلمية أيام الموحدين بالمغرب والأندلس، وكانت المعاهد الأندلسية فى إشبيلية وقرطبة وغرناطة وبلنسية ومرسية، يومئذ مجمع العلوم والمعارف الرفيعة فى تلك العصور، وكانت مقصد الطلاب من كل فج، وكانت مزودة بالمكتبات التى تضم أنفس الكتب والمصنفات، فى مختلف العلوم والفنون (¬2). وعنى الموحدون أيضاً برعاية الفنون، وأقيمت فى عهدهم فى معظم قواعد الأندلس، طائفة من المساجد والصروح العظيمة، التى تمتاز بجمالها الفنى. وكان يعقوب المنصور حفيد عبد المؤمن، من أشدهم شغفاً بالمنشآت الفخمة، ومن آثاره الشهيرة بالأندلس مسجد إشبيلية الجامع ومنارته العظيمة التى بقيت إلى اليوم وحوّلها الإسبان إلى برج الأجراس لكنيسة إشبيلية العظمى التى بنيت مكان الجامع، وهى من أروع الآثار الأندلسية الباقية، ويطلق عليها الإسبان اسم "لاخيرالدا" La Giralda وكذلك تقدمت الزراعة والصناعة والتجارة فى عهد الموحدين، وازدهرت الزراعة بنوع خاص، وارتقت أساليبها الفنية، وتنوعت المحاصيل وانتشرت زراعة الفاكهة، فى أحواز بلنسية وإشبيلية، وتقدمت الصناعات الحربية والمدنية، ولاسيما صناعة الأقمشة الممتازة، والصناعات الجلدية، وصناعة الورق وغيرها. وازدهرت التجارة وعم الرخاء. وكانت ثغور الأندلس مثل بلنسية ودانية وإشبيلية وألمرية ومالقة، من أعظم مراكز التجارة الخارجية فى هذا العصر. ولما اضمحل شأن الموحدين، وضعف أمرهم بالمغرب والأندلس، فى أوائل القرن السابع الهجرى، واجتاحت الثورة معظم القواعد والثغور الأندلسية، ونهض المتغلبون يتنافسون فى اجتناب أسلاب الدولة الذاهبة، شعرت اسبانيا النصرانية بدنو الفرصة السانحة، لاقتطاع ما يمكن اقتطاعه من أطراف الأندلس الممزقة. ¬_______ (¬1) وقد نشر ضمن المكتبة الأندلسية فى مجلدين طبع مدريد فى سنة 1883. (¬2) تناولنا سير الحركة الفكرية الأندلسية فى عصر الموحدين بتفصيل واف فى كتابنا "عصر إلمرابطين والموحدين" (القسم الثانى) ص 644 - 726

وبدأت قواعد الأندلس التالدة، تسقط تباعاً فى يد النصارى. وشغلت الأندلس يمحنتها الغامرة، وانصرفت إلى متابعة الجهاد، ومدافعة المغيرين عليها بكل ما وسعت، فانكمشت فنون السلم، وتضاءلت دولة التفكير والأدب، وإن كانت المحنة قد أذكت لوعة الشعر، وبعثت إلينا بطائفة جمة من أروع المراثى، التى ما زالت تحتفظ إلى يومنا بكثير من قوتها وروعتها. - 2 - وانجلت الفتن الداخلية، وانجلى الصراع بين اسبانيا المسلمة واسبانيا النصرانية بعد نحو ثلث قرن، عن سقوط معظم القواعد الأندلسية التالدة، مثل قرطبة وإشبيلية وبلنسية ومرسية وجيان وغيرها، فى أيدى النصارى، وانكمشت رقعة الأندلس تباعاً، وانحصرت فى الركن الجنوبى الغربى للمملكة الإسلامية القديمة، فى مملكة غرناطة الصغيرة، التى برزت من غمر الفوضى، واستقرت فى رقعتها المتواضعة، بين نهر الوادى الكبير والبحر، وهرعت إليها معظم الأسر الأندلسية القديمة، التى أبت التدجن والبقاء فى ظل حكم النصارى، ولم يمض سوى قليل، حتى غدت مستودع تراث الأئدلس القومى والسياسى، ومستودع الحضارة الأندلسية والتفكير الأندلسى. وكانت مملكة غرناطة، بالرغم من صغرها وانكماش رقعتها، تضم ثروات عظيمة من الموارد الطبيعية، فإلى جانب وديانها الخصبة النضرة التى تغص بالبسائط الخضراء والجنات الفيحاء، والتى تجود بها الحبوب والكروم والزيتون والفواكه وغيرها، توجد الجبال الوعرة تخترقها من كل صوب، وبها الكثير من الثروات المعدنية، ومن بينها الذهب والفضة والرصاص والحديد (¬1). وتفيض الأنهار والنهيرات العديدة على بسائطها الماء الغزير. وكانت ثغورها وهى ثغور الأندلس الجنوبية، ولاسيما مالقة وألمرية، من أغنى الثغور الإسبانية وأزخرها بالحركة التجارية، وكانت ولاية غرناطة وحدها تضم من البلاد والقرى العامرة نيفاً ومائة بلدة وقرية ذكرها لنا ابن الخطيب، وقد دثر الكثير منها اليوم (¬2). أما غرناطة عاصمة المملكة، فقد غدت عقب سقوط القواعد الأندلسية الأخرى فى يد النصارى، أعظم القواعد الأندلسية الباقية، وأغناها وأكثرها ازدحاماً بالسكان. وكانت بحمرائها المطلة عليها من ربوتها المنيعة، وشوارعها الزاخرة، وميادينها الفسيحة، وقصورها ¬_______ (¬1) الإحاطة فى أخبار غرناطة (القاهرة 1956) ج 1 ص 104. (¬2) الإحاطة، ج 1 ص 133 - 138

البديعة، وحدائقها ومتنزهاتها اليانعة، من أجمل مدن العصور الوسطى. وكانت غاية فى الحصانة، سواء بموقعها الطبيعى، أو بأسوارها الكثيفة، التى يتخللها ألف وثلاثمائة برج منيع، وكانت تضم فى أيامها الزاهرة من السكان مع أرباضها وضواحيها زهاء نصف مليون من الأنفس، وذلك بما تقاطر عليها من سيل المهاجرين من المدن الأندلسية الأخرى. وكان بوسع العاصمة وقت الحرب، أن تعبىء وحدها زهاء خمسين ألف مقاتل، وكانت أبهاء قصر الحمراء تتسع وحدها لأربعين ألف رجل (¬1). وقد رأينا كيف نشأت مملكة غرناطة، على يد رجل ذى عبقرية هادئة، ولكن واسعة الأفق، هو محمد بن الأحمر، زعيم بنى نصر، وكيف استمر أعقابه يتوارثون عرش غرناطة أكثر من قرنين، حتى سقطت فى أيدى النصارى. وتسمى دولتهم بالدولة النصرية أو دولة بنى الأحمر، وقد تسمى زعيمهم ومؤسس دولتهم بأمير المسلمين، وهو اللقب الذى كان يتسم به ملوك العدوة (المغرب) فى تلك العصور، وغلب هذا اللقب على سلاطين غرناطة حتى نهاية دولتهم، وكان يقرن فى أحيان كثيرة بلقب "الغالب بالله". وكان ملوك بنى نصر، كسائر ملوك العصور الوسطى، يدينون بمبدأ الحكم المطلق، ولا يرون له بديلا. على أنه فى وقت الخطر العام والأحداث الخطيرة، كان السلطان يستعين برأى الزعماء والقادة ذوى العصبية والتوجيه. وكان السلطان يستأثر بكل سلطة حقيقية، ويباشر مهام الأمور بنفسه، إلا فى فترات قليلة يستأثر بالسلطة فيها وزير قوى، كما حدث فى عهد السلطان أبى عبد الله محمد الملقب بالمخلوع (701 - 708 هـ)، حيث استأثر بالحكم وزيره أبو عبد الله ابن الحكيم اللخمى. وعهد السلطان أبى عبد الله محمد بن اسماعيل (725 - 733 هـ)، حيث استبد بالحكم دونه وزيره ابن المحروق، وعهد أخيه السلطان أبى الحجاج يوسف (733 - 755 هـ) حيث استبد بالحكم الحاجب أبو النعيم رضوان، ثم فى عهد السلطان الغنى بالله (755 - 793 هـ) حيث استبد بالحكم حيناً وزيره ابن الخطيب. وكان نظام الطغيان الذى يفرضه الوزير المتغلب، ينتهى فى كل مرة بانقلاب عنيف، ويستعيد السلطان سلطته الحقيقية، فى غمرة من الحوادث الدموية. وكان هذا النظام المطلق الذى يسود حكومة غرناطة، يؤدى إلى نشوب الثورة ¬_______ (¬1) Prescott: (Cit, Zurita) : Ferdinand and Isabella ; p. 189

فى أحيان كثيرة، ويذكى من عواملها فى الوقت نفسه، تطاحن الأحزاب فى البلاط والجيش. وكان هذا النظام يتطور أحياناً فى ظل الملوك الضعاف إلى نوع من الإقطاع، ويستأثر بعض الزعماء الأقوياء والأسر ذات العصبية، بحكم المدن والثغور وكان الشعب الغرناطى سريع التقلب والغضب، يأخذ فى الثورات والإنقلابات السياسية بأعظم قسط. وكانت مناصب الحكم الرئيسية فى حكومة غرناطة، تنحصر فى الوزارة وقيادة الجيوش والقضاء. فأما الوزارة فكانت تسند غالباً إلى أحد الأعلام من رجال القلم، وبين وزراء الدولة النصرية ثبت حافل من هؤلاء، مئل ابن الحكيم اللخمى، وابن الجياب، وابن الخطيب، وتلميذه ابن زمرك، وكلهم من أقطاب الكتابة والشعر. وكانت مهام الوزارة تتلخص فى أن يتلقى الوزير أوامر السلطان، ويعمل على تنفيذها، ويقوم بتوزيع مختلف الأعمال على أرباب المناصب، ويعنى بتحرير المكاتبات السلطانية، وصياغة المراسيم، وكان أكابر الكتاب من الوزراء يجدون فى هذه المهمة بالذات مجالا لعرض براعتهم النثرية والتحريرية. ولدينا فى مختلف الرسائل التى تركها لنا ابن الخطيب أروع نماذج للرسائل السلطانية التى تمتاز بأسلوبها العالى، وبيانها القوى (¬1)، وكان الوزير فى بعض الأحيان يقوم بقيادة الجيش، ويسير على رأسه للغزو، كما حدث أيام الحاجب رضوان، وأحياناً يتولى الوزير مهام السلطنة فى غياب السلطان، كما حدث أيام ابن الخطب، حيث كان ينوب عن السلطان حين تغيبه فى الغزو. وقد أسبغ على ابن الخطيب أيام وزارته لقب "ذى الوزارتين"، وهو لقب لم يحمله فى ظل الدولة النصرية سواه وابن الحكيم الرندى وزير السلطان محمد المخلوع، ويترتب عليه أن يتمتع الوزير بمقام الرياسة العليا ويغدو فى مرتبة "الحاجب"، ويتناول ضعف مخصصاته. ولم يحمل من وزراء الدولة النصرية لقب الحاجب سوى الحاجب رضوان، وزير السلطان يوسف أبى الحجاج. وكان الوزير يستعين بطائفة من "الكتاب" لتنفيذ مختلف المهام. والسلطان كاتب سر أو أمين خاص. وكثيراً ما يرتقى "الكاتب" إلى منصب الوزير. والخلاصة أن الوزير كان رأس السلطة التنفيذية الحقيقية، وهو الذى يشرف سواء ¬_______ (¬1) وقد أورد ابن الخطيب عدداً كبيراً منها فى كتابه، "ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب" وهو ما يزال مخطوطاً

بطريقة مباشرة أو بتوجيه سلطانه القوى، على تصريف شئون المملكة، وتوجيه سياستها الداخلية والخارجية. وأما قيادة الجيوش، فكانت أهم المناصب فى دولة تواجه إغارة العدو على أراضيها باستمرار. وكان يختص بهذا المنصب الخطير، منذ أواخر القرن السابع الهجرى أسرة بنى العلاء، أحد بطون بنى مرين ملوك العدوة، وكان توليهم لقيادة الجيوش الأندلسية، نتيجة للتحالف التى توثقت أواصره بين بنى الأحمر وبنى مرين عصراً (¬1). وقد اشتهر أولئك القواد المغاربة بالبراعة والشجاعة، وكانت لهم فى ميادين الحرب والجهاد مواقف مشهورة. وكان المتولى لمنصب القيادة العامة يلقب بشيخ الغزاة، وكانت الجنود المغربية عنصراً بارزاً فى الجيش الأندلسى، وقد تخلفت بالأندلس منذ أيام المرابطين والموحدين جموع كثيرة من البربر (¬2). وكانوا لبداوتهم وخشونتهم يؤثرون الحياة العسكرية على الحياة المدنية، وقد زاد عددهم بالأخص أيام عبور الجيوش المرينية إلى الأندلس. وبالرغم مما أداه القواد والجند المغاربة لمملكة غرناطة، من الخدمات الجليلة فى ميدان الحرب، فقد كانوا أحياناً خطراً على النظام والعرش، وكان لبنى العلاء شيوخ الغزاة أطماع سياسية، ظهرت خطورتها فى بعض الثورات والإنقلابات العنيفة. وقد كانت قوة غرناطة العسكرية، فى الواقع عماد حياتها، التى استطالت أكثر من قرنين، وذلك بالرغم من القوى الجرارة المعادية، التى لبثت باستمرار ترهقها، وتستنفد مواردها.:كان الجيش الأندلسى، فضلا عما كان يزخر به من العناصر المجاهدة الباسلة، من البربر وجند البشرّات وغيرها، من المناطق الجبلية، يتمتع بكثير من المزايا البارزة، فكان يضم فرقاً من أبرع الرماة، وكان بالأخص يتفوق بفرق الفرسان، التى اشتهرت فى تلك العصور ببراعتها التى لا تبارى. وإلى جانب ذلك كانت الطبيعة تحبو غرناطة برعايتها، وتساعدها التلال المرتفعة والمفاوز الوعرة، التى تتخللها فى كل ناحية، على شدة المقاومة، وإتقان حرب العصابات التى ترهق الجيوش المنظمة. وكانت القواعد الأندلسية، من جراء الحروب المتواصلة، قد حولت جميعها إلى قلاع منيعة، وشيدت الحصون القوية فى كل مكان يصلح للمقاومة. وكان للحاجب رضوان النصرى وزير السلطان يوسف أبى الحجاج ثم ولده الغنى بالله، فى ذلك مجهود بارز، حيث أنشأ سور غرناطة الكبير المحيط ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 538. (¬2) راجع ص 73 من هذا الكتاب

بربض البيازين، وشيد سلسلة من الأبراج المنيعة أربت على أربعين، تمتد من شرق المملكة إلى غربها (¬1). وأهم من ذلك كله أن مسلمى الأندلس، كانوا قد وقفوا فيما يبدو على سر البارود (¬2)، واستعملوه منذ منتصف القرن الرابع عشر، حسبما فصلنا فى موضع سابق (¬3). وكان لذلك كله أثر واضح فى تمكين مملكة غرناطة الصغيرة، من الوقوف فى وجه عدوها القوي بنجاح، طيلة هذه العصور. وكان للقوى البحرية أيضاً شأنها، فى كفاح الأندلس من أجل حياتها، وكانت مملكة غرناطة تسيطر من ثغورها الشهيرة: جبل طارق والجزيرة وطريف ومالقة، على مدخل البحر الأبيض المتوسط، وكانت أهم مهام الأسطول، بعد حماية الشواطىء والثغور، تأمين الصلة المباشرة بين مملكة غرناطة، وبين إخوانها المسلمين فيما وراء البحر فى المغرب الأقصى، وقد استطاعت الأساطيل الأندلسية والمغربية، أن تحتفظ بسيادتها فى هذه المياه عصوراً، وكان انهيار قوة غرناطة البحرية، وسقوط ثغورها فى يد النصارى، نذير السقوط النهائى. وكان أرفع المناصب القضائية، منصب قاضى الجماعة، وهو ما يقابل فى الأندلس، منصب قاضى القضاة فى مصر الإسلامية. وقاضى الجماعة هو أيضاً قاضى الحضرة أو قاضى غرناطة، والغالب أن يجمع فى نفس الوقت بين منصبه ومنصب خطيب الحمراء، أو خطيب الجامع الأعظم (¬4)، وهو أيضاً من المناصب الدينية الرفيعة. وكان القضاء يجرى فى مملكة غرناطة، على مذهب الإمام مالك، وهو مذهب الأندلس المفضل منذ أواخر القرن الثانى الهجرى. وكان يجرى تعيين قاضى الجماعة "بظهير" أى مرسوم ملكى. وكانت كلمة "الظهير" هى الغالبة فى مملكة غرناطة للتعبير عن المراسيم والقوانين السلطانية، وهى ما زالت تستعمل حتى اليوم فى المغرب الأقصى، حيث يوصف الرسوم بأنه "ظهير ملكى". وكان لكل مدينة قاضيها وخطيبها، ولا يشغل مناصب القضاء سوى أكابر العلماء والفقهاء. ويتبع القضاء وظيفة الحسبة وهى أيضاً وظيفة دينية، تقوم على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويختص صاحبها بمطاردة المنكرات، والتعزير والتأديب على ¬_______ (¬1) الإحاطة فى أخبار غرناطة ج 1 ص 517. (¬2) Prescott: Ferdinand and Isabella p. 193-194 (¬3) راجع ص 212 من هذا الكتاب. (¬4) راجع نفح الطيب ج 3 ص 70 و 74 و 197

قدرها، والعمل على احترام الأحكام الشرعية، وقمع الغش والاختلاس فى المعاملات، وأمور المعيشة والمكاييل والموازين، وله أيضاً أن يحمل الناس على أداء المصالح العامة، مثل تمهيد الطرقات والإضاءة بالليل وغير ذلك. وكان يعهد بحفظ النظام والأمن إلى متولى الشرطة، وكان يسمى أيام الدولة الأموية صاحب الشرطة، ويعتبر منصبه من أعظم المناصب القضائية والإدارية، وكان ينتخب عادة من كبار القواد أو الخاصة، ويتمتع بسلطات قضائية وإدارية واسعة. ثم سمى بعد ذلك بصاحب المدينة وصاحب الليل. وكان يعتبر فى منصبه تابعاً للوزارة، مسئولا أمامها، وكان جل اختصاصه أن يتولى حفظ النظام والأمن، ومطاردة المجرمين وأهل الفساد، وتنفيذ العقوبات الجنائية، من الحد والتعزير وغيرهما فيمن وجب عليه ذلك، وهو الذى يتولى الإتهام والتحقيق وتوقيع العقوبة، دون تدخل القاضى، ويعاونه فى مهمته جماعات من الحراس، تجوب أنحاء المدينة ليلا، وتشرف على حراسة الطرق والأمكنة وتعقب الجناة (¬1). - 3 - وقد أشرنا فيما تقدم، إلى ما كانت تتمتع به مملكة غرناطة، بالرغم من انكماش رقعتها من الموارد والثروات الطبيعية الوفيرة. وكانت الزراعة منذ أيام الدولة الأندلسية الكبرى، من أعظم موارد الأندلس، وكانت وديان اسبانيا الخصبة، التى تتخللها عدة من الأنهار العظيمة، وتربتها البديعة، وأقليمها المتقلب بين الحرارة والبرودة، تفسح أعظم مجال لشعب عامل ذكى. وكان مسلمو الأندلس من أنبغ الشعوب، فى فلاحة الأرض وتربية الماشية وغرس الحدائق، وتنظيم طرق الرى، ومعرفة أحوال الجو، وكل ما يتعلق بفنون الزراعة وخواص النبات، وكانت مزارعهم وحدائقهم مضرب الأمثال فى الجودة والنماء؛ وقد نقل العرب من المشرق وشمال إفريقية إلى اسبانيا كثيراً من الأشجار والمحاصيل، كالقطن والأرز وقصب السكر والزعفران والنخيل، وكانت بسائط شبه الجزيرة الإسبانية فى أيامهم رياضاً نضرة، وكانت غياض القمح وغابات الزيتون، وحدائق البرتقال والتوت والكروم، من أبدع ما ترى العين فى وديان الأندلس ومروجها النضرة. وأما نبوغ مسلمى الأندلس فى تنظيم وسائل الرى والصرف، واستجلاب الماء وتوزيعه بالطرق الفنية، فما زالت تشهد به آثارهم الباقية إلى الآن، فى وديان الأندلس، من القناطر والجداول الدارسة. ¬_______ (¬1) ابن خلدون: المقدمة ج 1 ص 209 و 210؛ ونفح الطيب ج 1 ص 101

وقد أقيمت أيام الدولة الأموية عدة من القناطر الشهيرة، وحفرت ترع ومصارف لا حصر لها، فى مختلف أنحاء اسبانيا، وكلها مما يشهد لصانعها بالمهارة والتفوق. وقد شاهدت أثناء تجوالى فى اسبانيا بعض المناطق التى ما زالت تقوم فى زراعتها على مشاريع الرى الأندلسية القديمة مثل منطقة لاردة وأحوازها ومنطقة بلنسية وأحوازها ومرسية وأحوازها. وكان لأهل الأندلس شهرة خاصة فى غرس الحدائق وتنسيقها، وقد كانت حدائق الرصافة والزهراء والزاهرة، بدائع تشهد لهم بوفرة البراعة وحسن الذوق، وكانت روعتها مستقى خصباً لخيال الشعراء والكتاب، وما زالت هذه البراعة حتى اليوم علماً على جمال الحدائق الأندلسية. وقد اتخذت فنون الزراعة على يد الأندلسيين طابعاً علمياً، وألفت فيها الكتب القيمة. وقد انتهى إلينا من آثارهم فى ذلك كتاب "الفلاحة" لابن بصال الطليطلى (القرن الحادى عشر الميلادى)، وكتاب "الفلاحة" أيضاً لتلميذه أبى زكريا ابن العوام الإشبيلى (أواخر القرن الثانى عشر)، ومؤلف ثالث فى "الفلاحة" أيضاً للطغنرى الغرناطى (¬1). وفى هذه الكتب كلها ما يدل على مبلغ ما وصل إليه مسلمو الأندلس من معرفة بخواص التربة، واستخراج كنوز الأرض، وطرق الرى والصرف، وأحوال الطقس وغيرها. وكانت مملكة غرناطة بالرغم مما يتخللها من الجبال والهضاب الوعرة، تضم كثيراً من الوديان والبسائط الخصبة، وكانت ضفاف شَنيل سلسلة من البسائط الخضراء، تتخللها مئات الترع والقنوات؛ وكان المرج الشهير، الواقع غربى غرناطة La Vega، وهو الذى لبث أكثر من قرنين مسرحاً للمعارك المستمرة بين المسلمين والنصارى، بحقوله وحدائقه النضرة، كأنه قطعة من الجنان، أودعها المسلمون كل براعتهم. وكانت المحاصيل المختلفة تتعاقب طول العام، وتنتج البلاد كل ما يكفيها من الأطعمة والمؤن. وكانت مزارع الكروم الأندلسية الشهيرة، تغطى مساحات واسعة فى غرناطة ومالقة وشريش. وكذلك ضرب مسلمو الأندلس فى الصناعة بأوفر سهم. وكانت اسبانيا المسلمة أيام قوتها، أعظم الأمم الصناعية فى أوربا؛ وكانت ثرواتها المعدنية، من الحديد والرصاص والزئبق والذهب والفضة وغيرها، تمدها بأسباب التفوق فى هذا الميدان. ¬_______ (¬1) نشركتاب "الفلاحة" لابن بصال بعناية معهد مولاى الحسن بتطوان سنة 1955، وتوجد نسخة مخطوطة من كتاب "الفلاحة" لابن العوام بمكتبة دير الإسكوريال. وكذلك توجد نسخة من كتاب الطغنرى

وقد اشتهرت بالأندلس بنوع خاص، بصناعة الأسلحة الجيدة، تنتجها بوفرة وتصدرها إلى أمم أوربا وإفريقية. وكذا اشتهرت بصناعة الصوف والحرير، والأقمشة الملونة الممتازة، وصناعة الجلود الدقيقة التى برع فيها أهل قرطبة بنوع خاص. وطبق مسلمو الأندلس تفوقهم فى الكمياء فى ميدان الصناعة، فبرعوا فى صنع الأدوية والعقاقير، واستخراج العطور من الأزهار، وتركيب الأصباغ المختلفة، ولاسيما اللون الذهبى، وغيره من الألوان الزاهية. وقد استطاعت مملكة غرناطة، أن تستبقى كثيراً من الصناعات الأندلسية القديمة، فاستمرت غرناطة مركزاً عظيما لصناعة الأسلحة والذخائر، وكان تفوقها فى هذه الصناعة من أسباب قوتها، وتمكنها طويلا من مدافعة أعدائها. وكذلك استمرت صناعة الحرير على تقدمها وازدهارها، ولاسيما فى مالقة وألمرية، وكانت يومئذ من أعظم موارد الأندلس. وقد نقلت المدن الإيطالية، التى اشتهرت بصناعة الحرير فى العصور الوسطى، عن الأندلسيين معظم فنونهم وطرائقهم فى هذه الصناعة المربحة، وكانت مدينة فيرنتزا (فلورنس) تستورد كميات كبيرة من الخام من غرناطة، حتى أواخر القرن الخامس عشر (¬1). ولبثت صناعة الأوانى الخزفية الجميلة، مزدهرة حتى العصر الأخير، وما زالت بقايا هذه الصناعة الأندلسية القديمة قائمة حتى اليوم فى بعض المدن الإسبانية ولاسيما فى إشبيلية ومالقة، وما زالت المتاحف الإسبانية تغص بكثير من الأوانى الخزفية الأندلسية والموريسكية البديعة الصنع والزخرف. وكذلك لبثت صناعة الجلود الفاخرة الملونة، حتى نفى الموريسكيين، وقد نقلت بعد نفيهم على يدهم إلى أوربا. واشتهرت الأندلس أيضاً بصناعة الورق، وأنشئت لها المصانع العظيمة ولاسيما فى طليطلة وشاطبة، ونقلها ْالإسبان عن المسلمين، ثم انتقلت إلى أوربا عن طريق فرنسا، وذاعت فيها منذ القرن الثالث عشر. وقد اكتشف الغزيرى، عدة مخطوطات بمكتبة الإسكوريال، ترجع إلى القرن الحادى عشر، كتبت على ورق مصنوع من القطن، وأخرى ترجع إلى القرن الثانى عشر، كتبت على ورق مصنوع من الكتان، وكان لهذه الصناعة مكانتها فى مملكة غرناطة. أما التجارة فقد بلغت شأواً بعيداً فى الأندلس، وذلك لحسن موقعها وكثرة ثغورها، وتوسطها بين أوربا وإفريقية، وانتظام صلاتها البحرية، مع سائر ثغور ¬_______ (¬1) Prescott: Ferdinand and Isabella: p. 191

البحر المتوسط. وكانت علائقها التجارية تمتد حتى قسطنطينية. وثغور الشام والإسكندرية، وترسو سفنها التجارية فى الثغور الإيطالية، ولاسيما جنوة ورومة والبندقية. وكانت ثغورها تزخر بمختلف الواردات، من بلاد أوربا وإفريقية والمشرق. وازدهرت الحركة التجارية فى غرناطة ولاسيما التجارة الخارجية، وكان للجنويين وغيرهم، من الأمم ذات الصلات الإقتصادية الوثيقة بالأندلس، منشآت تجارية فى غير غرناطة. وعقدت غرناطة مع جمهورية جنوة ومع مملكة أراجون معاهدات تجارية عديدة أشرنا إلى بعضها فيما تقدم. وكانت خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر من أعظم المراكز التجارية فى جنوب أوربا، حتى لقد وصفها بعض المؤرخين المعاصرين بأنها "مدينة جميع الأمم". ويقول مؤرخ إسبانى "إن شهرة سكانها فى الأمانة والثقة، بلغت إلى حد أن كلمتهم المجردة، كان يعتمد عليها، أكثر مما يعتمد على عقد مكتوب بيننا" (¬1). وكان الرخاء يسود مملكة غرناطة طوال أيامها، وقلما كانت تصدع منه الثورات الطارئة أو الحروب المتواصلة. وكانت موارد الخزينة أو الموارد السلطانية كثيرة منوعة، تتكون من ضريبة الأراضى المنزرعة، وتبلغ فى المتوسط نحو سبع قيمة المحصول، والأموال المرسومة على السفن الواردة والصادرة، ودخل دار السكة، ودخل بيت المال، من زكاة وصدقات وميراث من لا وارث له، وأخماس الغنائم التى كانت تحصل من العدو، ومختلف الضرائب التجارية والمهنية. وكانت للعرش فوق ذلك أملاك ومزارع عظيمة فى فحص غرناطة (المرج) تعرف بالمستخلص. وكانت الضرائب فى مملكة غرناطة على وجه العموم. أكثر مما كانت عليه فى الدول الإسلامية السابقة. وقد يرجع ذلك من بعض الوجوه إلى استمرار الصراع بلا انقطاع بينها وبين النصارى. وقدر دخل مملكة غرناطة فى تلك العصور، بنحو مليون ومائتى ألف دوقة (¬2)، وهى قيمة لا يستهان بها فى ذلك العصر، وكان يتولى الإشراف على شئون الدخل والخرج وأعمال الجباية موظف كبير يسمى "صاحب الأشغال"، وكانت ثمة طوائف كبيرة من الشعب الغرناطى تتمتع بالثراء، ويقتنى الكثيرون الحلى والجواهر النفيسة ولاسيما أبناء الطبقات العليا. وكانت غرناطة ¬_______ (¬1) Prescott: ibid ; p. 190 (¬2) الدوقة هى عملة ذهبية كانت ذائعة فى أوربا فى العصور الوسطى وتبلغ قيمتها نحو نصف جنيه من عملتنا الحديثة

تتمتع فوق ذلك بنقد سليم ثابت (¬1)، تخرجه دار السكة الملكية التى اشتهرت بأمانتها ودقتها، ولا يتطرق إليه شىء من ذلك الزغل الذى كان فى أحيان كثيرة يؤدى إلى الانهيار المالى. - 4 - وقد أشرنا فى بداية هذا الكتاب، إلى تكوين الأمة الأندلسية فى مراحلها الأخيرة فى ظل مملكة غرناطة، وإلى خصائصها العنصرية. والحقيقة أن المجتمع الأندلسى بمختلف عناصره الأصيلة والدخيلة، كان قد استحال بمضى الزمن، وتعاقب الحوادث والدول، والمؤثرات الإجتماعية والإقليمية، إلى أمة عربية إسلامية ذات طابع مستقل ومميزات خاصة، تدعمها طائفة من الخلال البديعة، وتصقلها حضارة رفيعة زاهرة. ثم قامت مملكة غرناطة التى اجتمعت فيها بقية الأمة الأندلسية لتعرض لنا خلال حياتها الطويلة، المراحل الأخيرة لعظمة الأمة الأندلسية، وحضارتها. وقد وصف لنا ابن الخطيب فى "الإحاطة"، أحوال المجتمع الأندلسى، وخواصه الجنسية والعقلية والاجتماعية، فى هذا العصر، الذى مالت فيه شمس الأندلس إلى الأفول. فذكر لنا أن الشعب الأندلسى، كان يتمتع بصفات أخلاقية طيبة، وأن صورهم حسنة، وأنوفهم معتدلة، وألوانهم بيضاء، وشعورهم سوداء، وقدودهم متوسطة، وألسنتهم عربية فصيحة، تغلب عليها الإمالة، وأنسابهم عربية، وفيهم كثير من البربر والمهاجرين (¬2). وكان نساؤهم يتميزن بالجمال والسحر، واعتدال السمن، ونعومة الجسم، ورشاقة الحركة، ونبل الكلام، وحسن المحاورة، ولكن يندر الطول فيهن. وقد بلغن فى التفنن فى الزينة شأواً بعيداً، يسرفن فى الأصباغ والعطور، والتزين بنفيس الحلى. وكان اللباس الغالب بين الأندلسيين شتاء، الملف (¬3) المصبوغ على اختلاف أصنافه وألوانه؛ ويرتدون فى الصيف، الكتان والحرير والقطن والأردية الإفريقية، والمقاطع التونسية، والمآزر المشقوقة "فتبصرهم فى المساجد أيام الجمع، كأنهم الأزهار المفتحة، فى البطاح الكريمة، تحت الأهوية المعتدلة" (¬4). ¬_______ (¬1) ابن الخطيب فى الإحاطة ج 1 ص 143، واللمحة البدرية ص 29. (¬2) الإحاطة ج 1 ص 140. (¬3) نسيج من الصوف. (¬4) الإحاطة ج 1 ص 141

ومما يجدر ذكره، أن العمامة كانت يومئذ قد اختفت تقريباً كلباس رأس بين الشعب الأندلسى، ولم يكن يلبسها سوى العلماء والقضاة (¬1). وقد حلت القلانس منذ عهد بعيد مكان العمائم. وكان أهل شرق الأندلس أسبق من غيرهم فى نبذ العمامة، وذاعت القلانس بينهم منذ أوائل القرن السابع، حتى كان أمراؤهم وشيوخهم وقضاتهم يلبسون القلانس، وكان كثير من أمراء المسلمين مثل ابن مردنيش وغيره يرتدون الثياب القشتالية (¬2). ولم يلبس ملوك بنى الأحمر العمامة، بل فضلوا القلنسوة (كاب) واتخذوها لباساً حتى آخر دولتهم. وكان بمتحف جنة العريف بغرناطة قبل إلغائه، صورة يقال إنها لأبى عبد الله آخر ملوك الأندلس، وهى تصوره بقلنسوة عالية (¬3). وأما القضاة فقد احتفظوا بالعمامة كلباس رسمى. وتوجد فى سقف قاعة الملوك أو قاعة العدل بقصر الحمراء، صورة تمثل مجلس القضاة وهم بالعمائم والبرانس، وهى الصورة التى يعتقد البعض أنها تمثل ملوك غرناطة. وكان الأمراء والأكابر، وفريق كبير من أبناء الطبقات الميسورة، يؤثرون ارتداء الثياب الإفرنجية، اقتداء بجيرانهم النصارى، ولاسيما فى عصور الأندلس الأخيرة. وأما ثياب الجندى الأندلسى فقد كانت فى العصور المتأخرة مشابهة لثياب الجند النصارى، وكذلك عدتهم وسلاحهم ونظامهم فى الصفوف، ثم عدلوا فى عصر ابن الخطيب عن هذا الزى، إلى الجواشن المختصرة والبيضات المذهبة، والسروج العربية. وكانت الجنود البربرية من جانبها، تحافظ على زيها المغربى (¬4). وكان أهل الأندلس مضرب الأمثال فى النظافة، يبالغون فى العناية بنظافة أبدانهم وثيابهم، ويكثرون من الاستحمام. وقد كانت هذه العادات فيما بعد، حينما أكره المسلمون على التنصير، من الشبه التى تثيرها ضدهم محاكم التحقيق، للتدليل على تشبثهم بالإسلام، وارتدادهم عن النصرانية. وكان المجتمع الغرناطى يعيش فى رخاء وسعة، تكثر لديه الأقوات فى الشتاء والصيف، ولاسيما الفاكهة من العنب والتين والزبيب والتفاح والقسطل والجوز واللوز وغيرها، ويدخرها الناس يابسة على كر الفصول، ومتى حل الصيف، هرع الناس إلى الفحوص (المروج) أعنى الضواحى، للتمتع بجمال البسائط النضرة، ونسيمها العليل (¬5). ¬_______ (¬1) الإحاطة ج 1 ص 142. (¬2) راجع ص 81 و 99 من هذا الكتاب. (¬3) نشرنا هذه الصورة فى ص 275. (¬4) الإحاطة ج 1 ص 142. (¬5) راجع ابن الخطيب فى الإحاطة ج 1 ص 143 و 144، واللمحة البدرية ص 27 - 29

وكان احتفالهم بالأعياد أنيقاً، ولكن فى حدود الإعتدال والاقتصاد. وكان الشعب الغرناطى يعشق مياهج الحياة والحفلات العامة، وكانت الحياة لديه كأنها سلسلة من الأعياد المتواصلة. وكان الغناء ذائعاً، ويكثر فى المنتديات والمقاهى العامة، حيث يجتمع الشباب بكثرة، ولم تنس غرناطة مرحها حتى فى أيام محنتها، ولم تغلبها الكآبة إلا حينما أصبح العدو على الأبواب يهدد حياتها (¬1). وقد استمرت الفروسة الأندلسية فى مملكة غرناطة على ازدهارها، ولبثت عصوراً تجذب الأنظار باكتمالها وروعتها ورِقَّة شمائلها. وفضلا عن كونها كانت عماد الدفاع القومى، حسبما أشرنا من قبل، فقد كانت مظاهرها وحفلاتها من أمتع المباهج العامة، فى ميدان كان التسامح المؤثر يسود فيه علائق المسلمين والنصارى، بالرغم مما كان يدور بين الفريقين من صراع مستمر. وقد اشتهر ملوك غرناطة، فضلا عن الجود، بميلهم نحو الحرية والتسامح، فكان الأمراء المسلمون والنصارى يتبادلون الزيارات، وكانوا يتلاقون أيام السلم وفى المفاوضات أنداداً كراماً. ومن أشهر مظاهر هذا التواصل ما حدث فى ربيع سنة 1463، حيث سار هنرى الرابع ملك قشتالة إلى أراضى غرناطة، وزار ملكها ابن اسماعيل، والتقى الملكان فى مكان بقرب الفحص La Vega، ضربت فيه خيمة ملكية أمام أبواب العاصمة، ولما انتهت الزيارة وتبادل الفريقان الهدايا، رافقت ملك النصارى كوكبة من الفرسان المسلمين، وشيعته حتى الحدود. وكذلك كان الفرسان المسلمون والنصارى يتبادلون الزيارات، وكثيراً ما كان الفرسان النصارى يقصدون إلى غرناطة، لقضاء مصالحهم وتسوية منازعاتهم، وكذا كان كثير من الأسر القشتالية النبيلة، يلجأ إلى حماية ملك المسلمين كلما شعرت بالإضطهاد والحيف، وكان فى مقدمة هؤلاء آل فيلا وآل كاسترو؛ وكانت مباريات الفروسة وحفلاتها تتوالى فى غرناطة، وفيها يبدى الفرسان المسلمون ضروباً رائعة من البراعة والرشاقة. وكان من أهم مميزات هذه الحفلات الشهيرة اختلاط الجنسين، فكان نساء غرناطة، البارعات فى الحسن والإناقة، يشهدن هذه الحفلات وغيرها من الحفلات العامة سافرات، ويسبغن بوجودهن عليها روعة وسحراً، وكن يتمتعن بقسط وافر من الحرية الاجتماعية (¬2)، ¬_______ (¬1) الإحاطةج 1 ص 143، واللمحة البدرية ص 28، وكذلك فى: Prescott: Ferd. & Isabella, p. 192 (¬2) Prescott: Ferdinand & Isabella, p. 192

الفصل الثانى الحركة الفكرية فى مراحلها الأولى

الفصل الثانى الحركة الفكرية فى مراحلها الأولى الحركة الفكرية الأندلسية فى أوائل القرن السابع. الشعر والأدب. ابن حريق. ابن مرج الكحل. ابن الجيان المرسى. ابن الأبار القضاعى. أبو الطيب الرندى. أقطاب اللغة. الفقه وعلوم الدين. المؤرخون. العلوم. أبو بكر بن زهر. ابن البيطار المالقى. بنو الأحمر حماة العلوم والآداب. محمد الفقيه وولده المخلوع. السلطان أبو الحجاج. الأمير الأديب أبو الوليد اسماعيل. الوزراء الكتاب والشعراء. ازدهار الشعر والأدب. ركود الحركة العلمية. ابن الحكم الرندى. حياته وشعره. ابن خميس التلمسانى. أبو الجيان الغرناطى. الرئيس ابن الجياب. ابن جابر الضرير. أقطاب اللغة. علماء الفقه والدين. التصوف. المؤرخون والرحل. العلوم. أتينا فى الفصل السابق، على لمحة من سير الحركة الفكرية، فى ظل الدولة الإسلامية بالأندلس، حتى بداية القرن السابع الهجرى، أعنى إلى ما قبل قيام مملكة غرناطة بقليل. ونريد الآن أن نتحدث عن سير العلوم والآداب والفنون، فى ظل مملكة غرناطة ذاتها. وسنحاول أن نتوسع فى هذا الحديث قدر الاستطاعة، وإن كانت المصادر العربية، ضنينة فى ذلك حسبما أشرنا، أولا لهلاك معظم الآثار والوثائق الأندلسية المتعلقة بهذه المرحلة من تاريخ الأندلس، وثانياً لأن كثيراً من المفكرين والكُتّاب المتأخرين، الذين رأوا الوطن الأندلسى مشرفاً على السقوط فى يد العدو، بادروا بالهجرة إلى المغرب والبلاد الإسلامية الأخرى، وأقفرت الأندلس بذلك من مفكريها وأدبائها. بيد أنه يجدر بنا قبل ذلك، أن نعنى بالفترة العصيبة المضطربة التى جازتها الأندلس، فى أواخر أيام الموحدين قبيل قيام مملكة غرناطة. وقد شهدت الأندلس فى هذه الفترة، أعنى فى أوائل القرن السابع الهجرى، سلسلة من الأحداث الجسام. ذلك أن سلطان الموحدين أخذ ينهار سراعاً، واضطرمت ثورة ابن هود فى الولايات الشرقية، وأخذت قواعد الأندلس الكبرى، تسقط تباعاً فى يد النصارى، واستطاع ابن الأحمر فى الوقت نفسه، أن ينشىء مملكة غرناطة فى جنوبى الأندلس. وكان من جراء الفوضى السياسية التى غمرت الأندلس يومئذ، أن تصدعت الحركة

الشعر والأدب

الأدبية، وانتثر شملها، وفقدت وسيلة الاستقرار والتجمع، وشغل الأدباء والمفكرون يومئذ بالمحنة وآثارها. وغادر الأندلس فى تلك الفترة، كثير من الكتاب والعلماء الذين توقعوا سوء المصير، وآثروا العمل فى جو أكثر استقراراً وطمأنينة، مثل الشيخ محيى الدين ابن عربى المرسى قطب التصوف الشهير، وابن البيطار المالقى، وابن الأبار القضاعى، وابن حمدون الحميرى النحوى، وابن سعيد الأندلسى، وكثيرون غيرهم، ممن رحلوا إلى المشرق أو عبروا البحر إلى المغرب. وهكذا طلعت أوائل القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) على الأندلس، بأحداثها وفتنها المتوالية، والحركة الفكرية فى ربوعها حائرة غير مستقرة، يتبدى ضوؤها باهتاً، فى ظل دول وإمارات تتصدع أركانها تباعاً. ومع ذلك فقد ظل تراث الأندلس الفكرى فى هذه الفترة متواصلا، يمتاز على اضطرابه بكثير من نواحى القوة والنضج، التى امتاز بها فى ظل دولة الموحدين، وقت أن كانت فى عنفوانها. وسوف نستعرض فيما يلى أعلام التفكير والأدب فى تلك الفترة المضطربة، التى مهدت حوادثها لقيام مملكة غرناطة، فهى ليست فى الواقع سوى حلقة اتصال، بين العصر الذى اختتمته الأندلس الكبرى، وبين العصر الذى بدأت فيه حياتها الجديدة (¬1). الشعر والأدب وكانت الحركة الأدبية يومئذ ما تزال فى عنفوانها. وكانت دولة النثر والنظم تحتل مكانتها الرفيعة، وبل لقد بعثت الأحداث والمحن، التى توالت على الأندلس يومئذ إلى الشعر بكثير من أسباب الإنفعال والقوة. فامتلأت الأندلس يومئذ بالشعر المؤسى، والمراثى القوية المؤثرة، التى نقل المقرى إلينا كثيراً منها، فى كتابيه نفح الطيب وأزهار الرياض. وكان من أعلام الشعر فى تلك الفترة، علىّ بن محمد بن أحمد بن حريق الشاعر البلنسى المتوفى فى سنة 622 هـ (1227 م)؛ كان شاعراً مجيداً كثير النظم، ذاع ¬_______ (¬1) عرضنا فى هذا الفصل بإيجاز إلى عدد من العلماء والكتاب والشعراء الذين تناولناهم فى خاتمة كتابنا "عصر المرابطين والموحدين" فى القسم الذى خصصناه للحركة الفكرية الأندلسية (القسم الثانى ص 644 - 726) حسبما أشرنا إليه من قبل. وقد كان هذا التكرار العرضى ضرورة للمحافظة على السياق، وللتمهيد لما سيرد من بعده خلال العصر الغرناطى

شعره فى الأندلس، وكتب فوق ذلك عدة كتب فى الأدب (¬1). ومنهم ابن مرج الكحل، وهو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن على، أصله من جزيرة شُقر، وكان من شعراء عصره. وبرع بنوع خاص فى الغزل والشعر الوصفى المبتكر، وعاش حيناً فى غرناطة، وذاع صيته فى سائر نواحى الأندلس، وتوفى سنة 633 هـ (1235 م). ومن شعره يصف عشة، بنهر الفنداق الذى يمر بلوشة: عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثر ولتغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتى أحوى المراشف أحور والروض بين مفضض ومذهّب ... والزهر بين مدرهم ومدنّر والنهر مرقوم الأباطح والربا ... بمصندل من زهره ومعصفر وكأنه وكأن خضرة شطه ... سيف يسيل على بساط أخضر وكان ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا فى صفحه كالجوهر (¬2). ومنهم عزيز بن عبد الملك القيسى؛ كان من أعيان مرسية واشترك فى حوادثها السياسية، واستطاع أن يظفر بإمارتها لمدى قصير، وتوفى سنة 638 هـ (1240 م) قتيلا، فى معركة نشبت بينه وبين خصومه، وكان شاعراً مجيداً، ومن قوله عندما حلت به المحنة: ْنصحت فلم أفلح وخانوا فأفلحوا ... فأعقبنى نصحى بدار هوان (¬3). ومنهم علىّ بن ابراهيم بن على المعروف بابن الفخار، أصله من شريش وكان من أعلام الكتابة والنظم وتولى القضاء حيناً، وتوفى سنة 642 هـ (1244 م) (¬4). ومنهم إبراهيم بن سهل الإشبيلى. وقد كان يهودياً ثم أسلم، وبرع فى الشعر ولاسيما فى التوشيح، ومن أبدع شعره قصيدة طويلة نظمها فى مدح النبى. وقد توفى غريقاً فى النهر، وهو شاب فى عنفوانه، وذلك سنة 649 هـ (1251 م). ومن شعره قوله: مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى ... أدارى بها همى إذا الليل عسعسا ¬_______ (¬1) ابن الأبار فى تكملة الصلة (رقم 1895)، وصلة الصلة لأبى جعفر ابن الزبير ص 129. (¬2) راجع نفح الطيب ج 3 ص 26 و 27 و 28. (¬3) راجع صلة الصلة ص 165، وابن الأبار فى التكملة رقم 1952. (¬4) راجع صلة الصلة ص 135، والتكملة رقم 1907

أتانى حديث الوصل زوراً على النوى ... أعيد ذلك الزور اللذيذ المؤنسا ويا أيها الشوق الذى جاء زائراً ... أصبت الأمانى خذ قلوباً وأنفسا ومن موشحاته: ليل الهوى يقظان ... والحب ترب السهر والصبر لى خوان ... والنوم من عينى برى (¬1) ومنهم أبو عبد الله محمد بن الجيان المرسى، صديق ابن هود وكاتبه. وكان عالماً بالحديث والرواية، بارعاً فى النثر والنظم. تولى الوزارة حيناً لابن هود، وهو الذى كتب عن لسانه وصيته الشهيرة لأخيه. ولما استولى النصارى على مرسية سنة 641 هـ، غادرها إلى أوريولة، ثم نزح إلى المغرب، واستقر بمدينة بجاية، وتوفى هنالك سنة 650 هـ (1252 م). وكان ابن الجيان صغير القد، حتى ليخاله الناظر إليه طفلا، ومن شعره قصيدته الدالية المشهورة التى مطلعها: يا حادى الركب قف بالله يا حادى ... وارحم صبابة ذى نأى وإبعاد (¬2) ومنهم الفقيه والكاتب الشاعر المؤرخ، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبى بكر القضاعى البلنسى، المعروف بابن الأبار. ولد سنة 595 هـ وبرز فى الفقه واللغة، وبرع فى النثر والنظم، وتولى الكتابة للأمير أبى جميل زيان أمير بلنسية، حفيد ابن مردنيش. ولما حاصر النصارى بلنسية سنة 636 هـ (1238 م) واشتد الخطب بالمسلمين، أرسل أميرها زيان كاتبه ابن الأبار، سفيراً إلى أبى زكريا الحفصى أمير تونس، يستغيث به ويستنصره على العدو. وألقى ابن الأبار بهذه المناسبة بين يدى أبى زكريا قصيدته السينية الشهيرة، يردد فيها صريخ الأندلس، "ويصف آلامها ومحنها، وهذا مطلعها: أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل عز النصر منك ملتمسا وهى من غرر القصائد التى ذاعت بالأندلس أيام المحنة. ولما سقطت بلنسية بعد ذلك بقليل فى يد النصارى، نزح ابن الأبار فى أهله إلى تونس، وعاش هنالك حيناً فى كنف أميرها المستنصر الحفصى. ولكنه تغير عليه بعد ذلك ونكبه، ثم أمر ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 4 ص 304. (¬2) راجع نفح الطيب ج 4 ص 432 وما بعدها، حيث ينقل وصية ابن هود لأخيه؛ وص 440 وما بعدها حيث يذكر طائفة من نظم ابن الجيان

بقتله متأثراً بتحريض خصومه، وأحرقت كتبه فى موضع قتله، وذلك فى سنة 659 هـ (1260 م). ولابن الأبار كثير من الشعر الجيد. ومن قوله فى الغزل: لم تدر ما خلدت عيناك فى خلدى ... من الغرام ولا ما كابدت كبدى أفديك من رائد رام الدنو فلم ... يسطعه من فرق فى القلب متقد خاف العيون فوافانى على عجل ... معطلا جيده إلا من الجيد ومنه يصف نهراً: ونهر كما ذابت سبائك فضة ... حكى بمجانيه العطاف الأراقم إذا الشفق استولى عليه احمراره ... تراءى قضيباً مثل دامى الصوارم وكتب ابن الأبار فى الأدب والتاريخ. ومن آثاره تكملة كتاب الصلة لابن بشكوال، ترجم فيها لأعيان أهل الأندلس وعلمائها وشعرائها. وله أيضاً كتاب الحلة السيراء، ترجم فيها لطائفة مختارة من أعيان الأندلس من أمراء ووزراء وكتاب وشعراء، وهو قيم جداً بالنسبة لتاريخ الطوائف وتاريخ عصره (¬1). وله مؤلفات أخرى مثل كتاب تحفة القادم، وفيه يقدم طائفة مختارة من نظم شعراء الأندلس الذين سبقت وفاتهم مولده، وبعض الطارئين عليها من الغرباء، وإيماض البرق؛ وكتاب الإعتاب، أو إعتاب الكتاب، ويشتمل على تراجم طائفة من كتاب الأندلس وبعض الكتاب المشارقة، وغيرها، وهى آثار وصل معظمها إلينا (¬2). ومنهم أبو الطيب صالح بن شريف الرندى. وكان أديباً شاعراً جزلا. بيد أننا لا نعرف كثيراً من حياته، ولانعرف إلا أنه كانت من أهل رندة كما يدل على ذلك لقبه، وقد ولد بها فى سنة 601 هـ، وتوفى سنة 684 هـ. ويصفه ابن عبد الملك فى "التكملة" أنه "خاتمة أدباء الأندلس". وكان بارعاً فى النثر والنظم معاً. ¬_______ (¬1) نشر كتاب التكملة فى مجلدين ضمن المكتبة الأندلسية، ونشر كتاب الحلة السيراء بعناية المستشرق دوزى (ليدن سنة 1851)، ولكن مع إغفال بعض التراجم. وتوجد منه نسخة خطية كاملة بمكتبة الإسكوريال (رقم 1654 الغزيرى). وقد قام بتحقيقها ونشرها الدكتور حسين مؤنس فى مجلدين (القاهرة 1964). (¬2) راجع فى ترجمة ابن الأبار، فوات الوفيات ج 2 ص 226 - 227، ونفح الطيب ج 2 ص 578 - 580، وراجع فى محنته ومقتله، تاريخ الدولتين الموحدية والحفصية للزركشى (تونس 1289 هـ) ص 27. ويضع الزركشى تاريخ وفاته فى سنة 658 هـ. هذا وتوجد نسخة خطية من كتاب تحفة القادم بمكتبة الإسكوريال تحمل (رقم 356 الغزيرى)، كما توجد بها نسخة من كتاب إعتاب الكتاب وهى تحمل (رقم 1731 الغزيرى)

وله مقامات بديعة فى أغراض شتى. وكان كثير الوفود على غرناطة والتردد على بلاطها. وقد عاش الرندى فى عصر الفتنة الكبرى التى اضطرمت بها الأندلس فى أواسط القرن السابع الهجرى، والتى تمخضت عن قيام مملكة غرناطة وسقوط معظم القواعد الاندلسية الكبرى فى يد النصارى، وقال فى المحنة مرثيته الشهيرة التى أتينا على ذكرها فى موضعها، والتى خلدت ذكره إلى يومنا. وقد وهم المقرى فاعتقد أنه قد عاش فى أواخر القرن التاسع الهجرى، أو عصر سقوط الأندلس النهائى (¬1). ومن شعره فى الغزل والتصوف: سلم على الحى بذات العرار ... وحى من أجل الحبيب الديار وخل من لام على حبهم ... فما على العشاق فى الذل عار ولا تقصر فى اغتنام المنى ... فما ليالى الأنس إلا قصار وإنما العيش لمن رامه ... نفس تدارى وكؤوس تدار وروحه الراح وريحانه ... فى طيبه بالوصل أو بالعقار (¬2) لا صبر للشىء على ضده ... والخمر والهم كماء ونار وكان الرندى من خاصة المقربين إلى الساطان محمد بن الأحمر، وكان يطرب لشعره، ومن أشهر قصائده فى مدح السلطان قصيدته التى مطلعها: سرى والحب أمر لا يرام ... وقد أغرى به الشئون والغرام وكتب الرندى برسم السلطان كتاباً فى التاريخ سماه "روض الأنس ونزهة النفس". ونثره لا يقل روعة عن شعره (¬3). ... وظهر فى تلك الفترة أيضاً جماعة من أقطاب اللغة، مثل على بن محمد بن خروف الإشبيلى المتوفى سنة 609 هـ (1212 م)، وقد طاف بقواعد الأندلس والمغرب، وذاع صيته، ووضع شرحاً لكتاب سيبويه (¬4)؛ وعمر بن محمد الأزدى الإشبيلى ¬_______ (¬1) راجع أزهار الرياض ج 1 ص 47، ونفح الطيب ج 2 ص 595. (¬2) تراجع القصيدة بأكملها فى نفح الطيب ج 2 ص 595 و 596. (¬3) نقلنا ملخص ترجمة صالح بن شريف عن مخطوط "الإحاطة فى تاريخ غرناطة" المحفوظ بالإسكوريال. واطلعنا فى المغرب على نسخة مخطوطة من تاريخه المذكور، وهو مجلد كبير فى تاريخ الإسلام والخلفاء الراشدين والدولتين الأموية والعباسية. (¬4) راجع ترجمته فى صلة الصلة ص 122

المعروف بالشلوبين، وكان إماماً فى العربية، وبرع فى النحو والفقه، وتوفى سنة 645 هـ (1247 م) (¬1). وظهر جماعة فى الفقه وعلوم الدين، مثل على ابن أحمد بن محمد الغسانى، من أهل وادى آش، وقد ألف فى شرح "الموطأ" كتاباً ضخماً سماه "نهج السالك للتفقه فى مذهب مالك"، ووضع شرحاً لكتاب مسلم، وتوفى سنة 609 هـ (1212) (¬2)؛ وعمر بن عبد المجيد بن عمر الأزدى الرندى المحدث، المتوفى سنة 616 هـ (1218 م) (¬3)، وقرينه ومواطنه المحدث المؤرخ عيسى بن سليمان الرعينى الرندى، المتوفى سنة 632 هـ (1234 م) (¬4). ونبغ فى تلك الفترة بالذات، أعظم متصوفة الأندلس الشيخ محيى الدين أبو بكر الطائى المعروف بابن عربى، وقد ولد بمرسية سنة 560 هـ ونزح إلى المشرق فى شبابه، وحج وطاف بمعظم قواعده، وبقى به حتى توفى سنة 638 هـ (1240 م)، وله ثبت حافل من المصنفات الجليلة، منها كتاب فصوص الحكم، والفتوحات المكية، والتدبيرات الإلهية، وعشرات غيرها، ذكرها صاحب فوات الوفيات، وله شعر جيد (¬5). ونستطيع أن نذكر من المؤرخين فى تلك الفترة، إلى جانب ابن الأبار القضاعى، الذى سبقت ترجمته، على بن موسى بن سعيد الأندلسى، المعروف بابن سعيد المغربى، وهو أديب ورحالة وسليل أسرة من الأدباء والمؤرخين، تعاقب منها قبله خمسة فى مدى قرن، على تصنيف مؤلف ضخم فى فضائل مدن الأندلس والمغرب والمشرق، يضم كتابين كبيرين هما: كتاب "المشرق فى حلى المشرق" "والمغرب فى حلى المغرب" وأتمه على بن موسى آخر من نبغ من هذه الأسرة. وقد ولد فى غرناطة سنة 610 هـ وتوفى بدمشق سنة 673 هـ (1274 م)، وطاف بقواعد الأندلس والمغرب والمشرق، ومؤلفه الكبير أثر أدبى وتاريخى وجغرافى ¬_______ (¬1) راجع ترجمته فى صلة الصلة ص 71. (¬2) راجع ترجمته فى صلة الصلة ص 121. (¬3) راجع ترجمته فى صلة الصلة ص 71. (¬4) راجع ترجمته فى صلة الصلة ص 51. (¬5) راجع فى ترجمة ابن عربى، فوات الوفيات ص 241 - 243

العلوم

جليل بارع الأسلوب (¬1). وله كتب أخرى ذكر منها صاحب فوات الوفيات، المرقص والمطرب، وملوك الشعر. وله شعر رقيق. العلوم وكان للعلوم أيضاً مجالها بالأندلس فى أوائل القرن السابع الهجرى، وربما كانت هذه آخر مرحلة ازدهر فيها العلم الأندلسى، واستطاع أن يحتفظ بقبس من تقاليده القديمة الراسخة. وكان ممن ظهر فى تلك الحقبة، أبو الفضل محمد بن عبد المنعم الجليانى، الطبيب والشاعر الأديب، أصله من جليانة من أعمال غرناطة، ونبغ فى الطب فى ظل الموحدين، ثم رحل إلى المشرق، وطاف بمصر والشام، ونظم كثيراً فى الإلهيات والرياضيات وآداب النفس (¬2). ومنهم أبو بكر بن عبد الملك بن زهر الإشبيلى، سليل أسرة بنى زهر الشهيرة، التى نبغ منها فى الطب والكيمياء والصيدلة، أبو العلاء بن زهر، ثم ولده عبد الملك حسبما سبقت الإشارة إليه، ثم ابنه أبو بكر هذا، وقد برع كأبيه وجده فى الطب والكيمياء، وكان من أعظم أطباء الأندلس فى أواخر القرن السادس الهجرى. ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد بن مفرج الأموى المعروف بابن الرومية الإشبيلى العلامة الطبيب والنباتى، وقد اشتهر بالأندلس فى أوائل القرن السابع الهجرى، وكان إماماً فى الحديث وحجة فى علم النبات لا يبارى. ولد بإشبيلية سنة 561 هـ وتوفى بها سنة 637 هـ (1239 م). وله مؤلفات نفيسة فى النبات والطب. منها شرح حشائش دياسقوريدس، وأدوية جالينوس، والرحلة النباتية، والمستدركة، وله كتاب فى الأدوية المفردة على نمط الكتب التى ألفها بنو زهر فى هذا الموضوع (¬3). وكان من أعظم علماء الأندلس فى هذا العصر، ابن البيطار المالقى العالم ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 2 ص 137. وقد انتهت إلينا من هذا الأثر الضخم نسخة مشوهة ناقصة، وهى محفوظة بدار الكتب المصرية رقم 2712، تاريخ. وقد نشر أخيراً كتاب "المغرب فى حلى المغرب" فى جزأين محققاً بعناية الدكتور شوقى ضيف وصادراً عن دار المعارف بالقاهرة (1953 - 1955). (¬2) راجع نفح الطيب ج 2 ص 16، وقد أورد المقرى شيئاً من شعره. (¬3) ترجم له ابن الخطيب فى الإحاطة (ج 1 ص 215 وما بعدها). وراجع نفح الطيب ج 2 ص 137

النباتى والطبيب المشهور، وهو ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد، ولد بمالقة ْفى أواخر القرن السادس الهجرى، ودرس على أبى العباس النباتى، ثم غادر الأندلس فى شبابه، وطاف بأنحاء المغرب، وقدم إلى مصر أيام الملك الكامل، فدخل طبيباً فى خدمته، ثم خدم ابنه الملك الصالح من بعده، وعنى بدراسة النبات والأعشاب فى مصر والشام وآسيا الصغرى وبلاد اليونان، وألف فى ذلك كتابين؛ "كتاب الجامع فى الأدوية المفردة" تناول فيه الأدوية النباتية المعروفة فى عصره، ورتبها على حروف المعجم، وكتاب "المغنى فى الأدوية المفردة"، وهو مرتب على مداواة الأعضاء، وله أيضا كتاب "الأفعال الغريبة والخواص العجيبة". ودرس عليه ابن أبى أصيبعة العالم المشهور، وصاحب معجم تراجم الأطباء، وقد أشاد ببراعته وغزارة علمه، ودقة فهمه لكتب الأقدمين. وتوفى ابن البيطار بدمشق سنة 646 هـ (1248 م) (¬1). وظهر فى هذا العصر علماء آخرون فى الرياضيات والفلك، وكان منهم مطرّف الإشبيلى، وقد برع فى الفلك، واشتغل بالتصنيف فيه، وكان ينسب إلى الزندقة بسبب اعتكافه فى هذا الشأن، فكان يخفى تصانيفه ونتائج بحوثه عن أهل عصره (¬2). - 2 - وهكذا كانت الحركة الفكرية بالأندلس فى النصف الأول من القرن السابع الهجرى، تحاول رغم اضطرابها أن تعمل على وصل ماضيها بحاضرها. فلما نهضت مملكة غرناطة من غمر الفوضى، وبدأت الأندلس حياتها الجديدة فى ظل هذه المملكة الفتية الجديدة، أخذت الحركة الفكرية فى الاستقرار، وآنست جواً من الهدوء والطمأنينة. وكان ملوك غرناطة جرياً على سنن ملوك الأندلس السالفين، من حماة العلوم والآداب، وكان بلاط غرناطة يسطع بتقاليده الأدبية الزاهرة، كما سطعت من قبل قصور ملوك الطوائف، وكان أمراء بنى الأحمر أنفسهم فى طليعة العلماء والأدباء. واشتهر عميدهم ومؤسس دولتهم محمد بن الأحمر، بحمايته للعلم والأدب، وكانت له أيام خاصة يستقبل فيها الشعراء وينشدونه قصائدهم (¬3)، ¬_______ (¬1) راجع فوات الوفيات ج 1 ص 204، ونفح الطيب ج 2 ص 44 و 45. (¬2) راجع نفح الطيب ج 2 ص 138. (¬3) اللمحة البدرية ص 31

وكان من خاصة شعرائه الأثيرين لديه صالح بن شريف الرندى حسبما قدمنا. وكان ابنه محمد الفقيه عالماً ضليعاً، يعشق مجالس العلم ويؤثر العلماء بعطفه، ويقرض الشعر (¬1)، وكذا كان ولده أبو عبد الله محمد الملقب بالمخلوع، عالماً شاعراً ينظم الشعر المستظرف، وقد أورد لنا ابن الخطيب قصيدة من شعره يقول فيها: واعدنى وعداً وقد أخلفا ... أقل شىء فى الملاح الوفا وحال عن عهدى ولم يرعه ... ما ضره لو أنه أنصفا ما بالها لم تتعطف على ... صب لها ما زال مستعطفا يستطلع الأنباء من نحوها ... ويرقب البرق إذا ما هفا (¬2). وبلغت الحركة الفكرية والأدبية ذروة ازدهارها، فى مملكة غرناطة، فى عصر السلطان أبى الحجاج يوسف بن اسماعيل النصرى (733 - 755 هـ)، وولده السلطان محمد الغنى بالله (755 - 793 هـ). وكان السلطان أبو الحجاج نفسه، عالماً أديباً يشغف بالفنون. واشتهر الأمير أبو الوليد اسماعيل بن السلطان يوسف الثانى بأدبه وبارع نثره، وهو صاحب كتاب "نثير الجمان فيمن ضمنى وإياهم الزمان" الذى يترجم فيه لأعلام عصره فى الشعر والأدب (¬3). وكان من بين وزراء الدولة النصرية وكتابها، كثير من أعلام الشعر والأدب. ويكفى أن نذكر فى هذا المقام ابن الحكيم الرندى، وابن الجياب، وابن الخطيب، وابن زمرك، والشريف العقيلى خاتمة أدباء الأندلس ووزرائها، وهم جميعاً من أقطاب الحركة الأدبية فى مملكة غرناطة، ومن أعلام وزرائها وسادتها، وسنعود إلى التحدث عنهم فيما بعد. ومما تجدر ملاحظته، أن الحركة الفكرية الأندلسية فى ذلك العصر، تكاد تنحصر فى النواحى الأدبية، فقد ازدهر الأدب والشعر، وحفلت غرناطة بجمهرة من أكابر الأدباء والشعراء، ولكن العلوم العقلية أصابها الركود، وقلما نجد فى هذه الفترة أحداً من أقطاب الطب والفلسفة أو العلوم الرياضية، أو غيرها من العلوم المحضة، التى ازدهرت من قبل بالأندلس، ونبغ فيها ثبت حافل من أكابر ¬_______ (¬1) اللمحة البدرية ص 38. (¬2) راجع هذه القصيدة فى اللمحة البدرية ص 49، وراجع الإحاطة ج 1 ص 553 و 554. (¬3) نفح الطيب ج 2 ص 404، وراجع أزهار الرياض ج 1 ص 186. وتوجد نسخة مخطوطة وحيدة من هذا الكتاب بدار الكتب المصرية

العلماء والفلاسفة، هذا بينما احتفظت الآداب فى مملكة غرناطة بروائها وازدهارها، حتى اللحظة الأخيرة من حياتها. وقد تقلبت الحركة الفكرية الأندلسية فى المائتين وخمسين عاماً التى عاشتها مملكة غرناطة، فى أطوار ثلاثة: طور الفتوة، وطور النضج، وطور الإنحلال الأخير. وسوف نحاول أن نستعرض هذه الأطوار الثلاثة تباعاً، ذاكرين أقطاب التفكير والأدب فى كل مرحلة منها. - 3 - ويبدأ الطور الأول باستقرار مملكة غرناطة وتوطدها، فى أواخر القرن السابع الهجرى وأوائل القرن الثامن. وقد حفلت هذه الفترة التى بزغت فيها شمس الأندلس من جديد، بجمهرة من الشعراء والأدباء والعلماء، وازدهر الأدب، واستعاد الشعر بنوع خاص، كثيراً من روعته وروائه القديم. وكان فى طليعة شعراء هذه الفترة، الكاتب البليغ والأديب البارع، الوزير ابن الحكيم. وهو أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن ابراهيم بن يحيى اللخمى الرندى وأصلهم من بيوتات إشبيلية، وكان جد والده يحيى طبيباً عرف بالحكيم، وأسبغ لقبه على الأسرة. ولما اضطرمت الفتنة بالأندلس أيام الطوائف، انتقلت الأسرة إلى رندة، وولد ابن الحكيم برندة سنة 660 هـ، ووفد على غرناطة فتى، أيام السلطان أبى عبد الله محمد المعروف بالفقيه، فولاّه كتابته فى ديوان الإنشاء. ثم تقلد بعد وفاته الوزارة لولده السلطان أبى عبد الله محمد المخلوع، إلى جانب وزيره أبى سلطان عزيز الدانى. فلما توفى أبو سلطان، انفرد ابن الحكيم بالوزارة، ولقب بذى الوزارتين لجمعه بين الكتابة والوزارة. واستبد بالحكم حيناً حتى نشبت الثورة فى غرناطة ضد السلطان أبى عبد الله المخلوع وحكومته الطاغية، وقتل فيها ابن الحكيم يوم عيد الفطر سنة 708 هـ (1308 م) حسبما أسلفنا فى موضعه. وكان ابن الحكيم شاعراً مجيداً وكاتباً بليغاً وخطيباً ذلقاً، وقد وصفه ابن الخطيب فى الإحاطة بقوله: "كان علماً فى الفضيلة والسراوة ومكارم الأخلاق، كريم النفس، واسع الإيثار، متين الحرمة، عالى الهمة، كاتباً بليغاً، أديباً، شاعراً"، وفى كتاب "عائد الصلة" بقوله: "كان فريد دهره سماحة وبشاشة ولوذعية وانطباعاً، رقيق الحاشية،

نافذ العزمة، مهتزاً للمديح، طلقاً للآمال، كهفاً للغريب" (¬1)، وزار ابن الحكيم المشرق، وحج ودرس وتلقى عن مشايخه. ومن شعر ابن الحكيم قوله: ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره لاسيما إن كان فى غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره ومن قوله فى الغزل: هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال وليال ما تبقى بعدها ... غير أشواقى إلى تلك الليال إذ مجال الوصل فيها مسرحى ... ونعيمى آمر فيها ووال ولحالات التراضى جولة ... مزجت بين قبول واقتبال وغزال قد بدا لى وجهه ... فرأيت البدر فى حال الكمال ما أمال التيه من أعطافه ... لم يكن إلا على خصل اعتدال خص بالحسن فا أنت ترى ... بعده للناس حظاً فى الجمال وقوله: ألا واصل مواصلة العقار ... ودع عنك التخلق بالوقار وقم واخلع عذارك فى غزال ... يحق لمثله خلع العذار قضيب مائس من فوق دعص ... تعمم بالدجى فوق النهار ولاح بخده ألف ولام ... فصار معرفا بين الدرارى (¬2). وكان ولده أبو بكر محمد بن الحكيم أيضاً من أعلام الأدب والشعر فى تلك الفترة، وقد تولى مثله الوزارة فيما بعد، وكان من أساتذة ابن الخطيب، وقد ألف فى الأدب كتاباً سماه " بالموارد المستعذبة" (¬3). ومن أكابر الشعراء فى تلك الفترة أبى عبد الله محمد بن خميس التلمسانى، أصله من تلمسان كما يدل عليه اسمه. ووفد على غرناطة واتصل بالوزير ابن الحكيم ومدحه، ونزل بألمرية سنة 706 هـ واتصل بحاكمها القائد أبى الحسن بن كماشة، ¬_______ (¬1) راجع الإحاطة ج 2 ص 279. (¬2) راجع فى ترجمة ابن الحكيم وشعره: الإحاطة ج 2 ص 278 - 303، ونفح الطيب ج 2 ص 7 - 9، وج 2 ص 263 - 271. (¬3) راجع نفح الطيب ج 3 ص 263

ومدحه فأجزل صلته، ووصفه ابن خاتمة بأنه من فحول الشعراء وأعلام البلغاء، وقد جمع شعره فى ديوان سمى "الدر النفيس فى شعر ابن خميس". وكانت وفاته قتيلا بغرناطة يوم مقتل مخدومه الوزير ابن الحكيم وذلك فى يوم عيد الفطر سنة 708 هـ (1308 م)، ويمتاز شعره بالجودة والروعة، ومن نظمه قوله: نظرت إليك بمثل عينى جؤذر ... وتبسمت عن مثل سمطى جوهر عن ناصع كالدر أو كالبرق أو ... كالطلح أو كالاقحوان مؤشر تجرى عليه من لماها نطفة ... بل خمرة لكنها لم تعصر لو لم يكن خمراً سلافاً ريقها ... تزرى وتلعب بالنهى لم تخطر وقوله: عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يأمل أن يمر ببالها وأنا الفقير إلى تعلة ساعة ... منها وتمنعنى زكاة جمالها كم ذا وعن عينى الكرى متأنف ... يبدو ويخفى فى خفى مطالها يسمو لها بدر الدجى متضائلا ... كتضاؤل الحسناء فى أسمالها ومنه: أتت ولكن بعد طول غياب ... وفرط لجاج ضاع فيه شبابى وما زلت والعليا تعنى غريمها ... أعلل نفسى دائماً بمثاب وهيهات من بعد الشباب وشرخه ... يلذ طعامى أو يسوغ شرابى خدعت بهذا العيش قبل بلائه ... كما يخدع الصادى يلمع سراب ومنه قوله فى الحنين إلى بلده تلمسان قصيدة من أبدع قصائده هذا مطلعها: تلمسان لو أن الزمان بها يسخو ... منى النفس لا دار السلام ولا الكرخ ودارى بها الأولى التى حيل دونها ... مثار الأسى لو أمكن الحنق اللبخ وعهدى بها والعمر فى عنفوانه ... ومنه شبابى لا أجين ولا مطخ (¬1). ومنهم أبو حيان الغرناطى، محمد بن يوسف بن على، ولد بغرناطة سنة 654 هـ وطاف بالمشرق، وتوفى بمصر سنة 745 هـ (1344 م)، وكان فوق تضلعه فى الحديث والتفسير بارعاً فى اللغة والأدب، إماماً فى النثر، ونظم ¬_______ (¬1) راجع فى أخبار ابن خميس شعره: نفح الطيب ج 3 ص 184 - 194، وأزهار الرياض ج 3 ص 303

الموشحات، وقد ترك مؤلفات كثيرة فى التفسير واللغة والأدب، وله شعر كثير ومن نظمه قوله فى موشحته: إن كان ليل داج. وخاننا الإصباح. فنورها الوهاج. يغنى عن المصباح سلافة تبدو ... كالكوكب الأزهر مزاجها شهد ... وعرفها عنبر يا حبذا الورد ... منها وإن سكر (¬1). وكان الرئيس أبو الحسن على بن الجياب، وزير السلطان يوسف أبى الحجاج وكاتبه، فى طليعة أقطاب النثر والنظم فى تلك الفترة، ولد بغرناطة سنة 673 هـ، وبرع فى الشعر والأدب، وتقلب فى مناصب الكتابة حتى غدا رئيساً لديوان الإنشاء، وكان من معاونيه فى الكتابة لسان الدين بن الخطيب وقد ورث منصبه عقب وفاته. وتوفى ابن الجياب ضمن ضحايا الوباء الكبير سنة 749 هـ (1348 م). ومن شعره قوله: لله در الشباب عصرا ... فتح للخير كل باب حفظت ما شئت فيه حفظا ... كنت أراه بلا ذهاب حتى إذا ما المشيب وافى ... نَدَّ ولكن بلا إياب ومنه فى الوعظ: يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل أنفق وثق بالإله ترع ... فإن إحسانه جزيل (¬2). ومن شعراء ذلك العصر أبو عبد الله محمد بن جابر الأندلسى الهوارى الضرير، وقد رحل إلى المشرق، ومدح بعض أمرائه، وقصد إلى سلطان ماردين فأجزل صلته، وقد أشار ابن بطوطة الرحالة إلى ذلك عند ذكره فى رحلته لسلطان ماردين (¬3)؛ ولابن جابر موشحات كثيرة ومدائح جيدة فى الصحابة وآل البيت، ومن شعره فى الغزل قوله: شغفت بها حيناً من الدهر لم يكن ... سوى سكب دمعى فى محبتها كسبى وما أصل هذا كله غير نظرة ... إلى مقلة منها أصغت لها قلبى ¬_______ (¬1) راجع ترجمته وشيئاً من شعره فى فوات الوفيات ج 2 ص 282 - 285. (¬2) راجع ترجمة ابن الجياب وشعره: نفح الطيب ج 3 ص 223 - 229. (¬3) نفح الطيب ج 4 ص 393؛ ورحلة ابن بطوطة ج 1 ص 150

ومنه: تجنت فجن فى الهوى كل عاقل ... رآها وأحوال المحب جنون وما وعدت إلا غلت فى مطالها ... كذلك وعد الغانيات يكون ومنه فى الحكم: مهلا فما شيم الوفا منقادة ... لمن ابتغى من نيلها أوطارا رتب المعالى لا تنال بحية ... يوماً ولو جهد الفتى أوطارا وقال يتشوق إلى حمراء غرناطة: دامت على الحمراء حمر مدامعى ... والقلب فيما بين ذلك ذائب طال المدى بى عنهم ولربما ... قد عاد من بعد الإطالة غائب ... وظهر من أقطاب اللغة فى تلك الفترة عدة، منهم أبو بكر محمد بن إدريس الفرانى القضاعى المتوفى سنة 707 هـ (1307 م). وقد كتب فى علم العروض كتاب "الختام المفضوض عن خلاصة علم العروض" ومنه نسخة بمكتبة الإسكوريال (¬1). ومنهم أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير الحافظ النحوى شيخ ابن الخطيب الأب، وقد ولد بجيان سنة 626 هـ وتوفى سنة 708 هـ (1308 م). قال ابن الخطيب فى حقه: "انتهت إليه رياسة العربية بالأندلس"؛ وكان عالماً بالقرآن والحديث، مجيداً للنثر والنظم، ولى القضاء بغرناطة، واتصل بسلطانها الأمير أبى عبد الله محمد بن محمد بن الأحمر فأكرم مثواه، وقد صنف كتباً عدة فى مختلف الفنون، ومن آثاره المنشورة كتاب "صلة الصلة" الذى ألفه ذيلا على كتاب الصلة لابن بشكوال (¬2). ومنهم أبو الحسن على بن يحيى الفزارى المالقى المعروف بابن البرزى المتوفى سنة 750 هـ (1349 م)، وكان بارعاً فى اللغة، وله شعر يصفه ابن الخطيب بالضعف والهزال. ومنهم أبو عبد الله محمد بن على الفخّار البيرى، كان شيخ النحاة بالأندلس فى عصره؛ درس عليه الكثيرون ومنهم ابن الخطيب وابن زمرك، وقد وصفه ¬_______ (¬1) المستشرق بروكلمان فى تاريخ الأدب العربى Geschichte der Arabischen Litteratur 1943.B. II. p. 259. (¬2) راجع فى ترجمة ابن الزبير، كتاب "صلة الصلة" المنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال فى المقدمة ص: و - ج. وكذلك الإحاطة ج 1 ص 195 - 200

ابن الخطيب فى الإحاطة "بالإمام المجمع على إمامته فى العربية، المفتوح عليه من الله فيها حفظاً واطلاعاً، واضطلاعاً، ونقلا وتوجيها بما لا مطمع فيه لسواه"، وكانت وفاته بغرناطة سنة 754 هـ (1353 م) (¬1). ... ونبغ من علماء الدين والفقه فى تلك الفترة، القاسم بن عبد الله بن الشط الأنصارى الإشبيلى، المتوفى سنة 725 هـ (1324 م) وله كتاب "البرنامج" عن قضاة الأندلس (¬2). وأبو القاسم بن جزى الكلبى (محمد بن أحمد بن محمد) وهو من أهل غرناطة، وأصل سلفه من ولبة بولاية الغرب، كان فقيها حافظا مشاركا فى فنون كثيرة، ولاسيما اللغة والفقه، والقراءات والأدب. اشتغل بالتدريس بغرناطة، وتولى منصب الخطابة بالجامع الأعظم، وله عدة مؤلفات منها كتاب "التسهيل لعلوم التنزيل" و "الأنوار السنية فى الألفاظ السنية" و "القوانين الفقهية فى تلخيص مذهب المالكية" وكتاب "تقريب الوصول إلى علم الأصول" وغيرها، وله فهرسة اشتملت على طائفة كبيرة من علماء المشرق والمغرب، ولد بغرناطة سنة 693 هـ وتوفى قتيلا فى موقعة طريف سنة 741 هـ (¬3). وازدهر التصوف فى هذا العصر، وكان من أقطابه يومئذ أبو الحسن على ابن فرحون القرشى القرطبى، المتوفى سنة 751 هـ (1350 م)، وأبو اسحاق ابراهيم بن يحيى الأنصارى المرسى، وقد ولد فى سنة 687 هـ وتوفى بغرناطة سنة 751 هـ (1350 م)، وله كتاب "زهرة الأكمام" فى قصة يوسف؛ وأبو عبد الله محمد بن محمد الأنصارى المالقى المولود سنة 649 هـ، والمتوفى سنة 754 هـ (1353 م)، وله كتاب "بغية السالك فى أشرف المسالك" فى مراتب الصوفية وطرائق المريدين (¬4). وظهر من المؤرخين، محمد بن يحيى بن أبى بكر بن سعيد الأنصارى المالكى. وقد ولد سنة 674 هـ، وتولى الخطابة والقضاء بغرناطة، وتوفى قتيلا فى ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 3 ص 182 و 196. (¬2) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 264. (¬3) نفح الطيب (عن الإحاطة) ج 3 ص 271، وبروكلمان المصدر السابق ج 2 ص 265. (¬4) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 265

سنة 741 هـ (1340 م) فى موقعة طريف. ومن آثاره كتاب "التمهيد والبيان فى مقتل الشهيد عثمان بن عفان" (¬1). ومن الرحل والرواة، أبو البقاء خالد بن عيسى البلوى، وقد رحل إلى إفريقية والمشرق بين سنتى 746 و 740 هـ، وكتب عن رحلته كتاب "تاج المفرق فى تحلية علماء المشرق" وانتفع فى مؤلفاته بما كتبه ابن جبير عن المشرق (¬2). ... وأما العلوم فلم تزدهر مثل إزدهارها فى الماضى، ولم تشغل فى الحركة الفكرية سوى مجال محدود. وكان من أشهر علماء ذلك العصر أبو زكريا يحيى بن هذيل حكيم غرناطة وفيلسوفها المتوفى سنة 753 هـ (1353 م)، وقد برع فى الطب والفلسفة والعلوم والرياضة، وكان من شيوخ ابن الخطيب (¬3) وقد وصفه ابن الخطيب فى الإحاطة بأنه "درة بين الناس معطلة، وخزانة على كل فائدة مقفلة" ونوه بروعة محاضراته وأدبه. وله شعر جمع فى ديوان سمى "بالسليمانيات". وقد نقل إلينا المقرى طائفة من نظمه (¬4). ونستطيع أن نضع فى العلماء المعاصرين أيضاً شيخ ابن الخطيب أبا عثمان سعد بن أحمد بن ليون التجيبى، وكان من أكابر الأئمة فى الفقه، واختصر عدة من أمهات الكتب مثل كتاب "بهجة المجالس" لابن عبد البر. وكتب كتباً فى الهندسة والفلاحة (¬5). ¬_______ (¬1) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 260، وتوجد من هذا الكتاب نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية. (¬2) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 266، وتوجد من كتابه نسخة خطية بدار الكتب المصرية. (¬3) راجع نفح الطيب ج 3 ص 52. وص 258. (¬4) نفح الطيب ج 3 ص 258 - 263. (¬5) راجع نفح الطيب ج 3 ص 302

الفصل الثالث عهد النضج والازدهار

الفصل الثالث عهد النضج والازدهار تقدم الحركة الفكرية. ابن سلبطور الشاعر. أبو القاسم الحسينى. ابن خاتمة. ابن الخطيب. نشأته وحياته. سفارته إلى المغرب وقصيدته للسلطان. وصفه لحياته فى الوزارة. سقوطه وجوازه إلى المغرب. احتفاء السلطان به وإنشاده فى حضرته. ابن الخطيب وابن خلدون. ما قاله الأمير ابن الأحمر فى تقدير ابن الخطيب. تهنئته السلطان. عوده إلى الأندلس وإلى تولى الوزارة. وصفه لجهوده يومئذ. ما ينسب إليه من طغيان. فقده لحظوته وجوازه إلى المغرب. كيد خصومه له. اتهامه بالزندقة. تطور الحوادث فى المغرب. تفاهم بلاط غرناطة مع سلطان المغرب على الإيقاع به. الوزير ابن زمرك يلاحقه فى فاس. اتهامه ومصرعه. مؤلفاته وآثاره. أثره فى تطور الحركة الأدبية. ابن زمرك تلميذ ابن الخطيب. نشأته وحياته. مكانته الأدبية. نماذج من شعره وموشحاته. الموازنة بينه وبين ابن الخطيب. بقية الشعراء والأدباء فى تلك الفترة. الفقهاء. المؤرخون. شهدت الحركة الفكرية الأندلسية فى مملكة غرناطة، مرحلة النضج فى أواسط القرن الثامن الهجرى وأواخره، وشهدت فى النصف الأخير من هذا القرن، ذروة قوتها وازدهارها. ولا غرو فهذه الفترة هى التى سطع فيها ابن الخطيب، أعظم مفكرى الأندلس، وأعظم كتابها وشعرائها فى ذلك العصر. وامتازت هذه الفترة، بروعة إنتاجها الأدبى فى النثر والنظم، وربما كان للأحداث والفتن الداخلية الخطيرة التى جازتها الأندلس يومئذ، أكبر أثر فى تغذية هذه الحركة الممتازة، وإمدادها بمختلف الإنفعالات القوية، التى طبعت إنتاجها. وقد بدأت هذه الحركة فى عصر السلطان أبى الحجاج يوسف بن اسماعيل، أعظم سلاطين بنى نصر (733 - 755 هـ) وأشدهم حماسة فى تعضيد الآداب والفنون، واستمرت من بعده طوال القرن الثامن الهجرى، وحفلت بعدد كبير من الأدباء والشعراء الممتازين. وقد استعرضنا الكثير منهم فيما تقدم حتى منتصف القرن الثامن، وسنمضى هنا فى استعراض بقية هذا الثبت الحافل حتى أواخر هذا القرن. كان من أكابر الشعراء فى بداية هذه الفترة، ابن سلبطور شاعر ألمرية، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد بن سلبطور الهاشمى، والظاهر أنه قد يرجع إلى أصل من أصول المولدين الإسبان، كما يدلى بذلك اسمه سلبطور Salvador؛

وقد نشأ بألمرية، وبرع فى الأدب، وتدرب منذ فتوته على ركوب البحر وقيادة السفن، وناب فى قيادة الأسطول عن خاله القائد أبى على الرنداحى أحد أبناء أسرة الرنداحى، التى اشتهرت عصراً بقيادتها للأساطيل الأندلسية وأساطيل سبتة. واشتهر ابن سلبطور برائق نظمه. وفى أواخر حياته انحرف عن جادة الصواب، وانكب على ملاذه وشهواته، وأضاع كل ثروته، حتى ساءت حالته، وانحدر إلى هاوية الفقر والبؤس، فعبر البحر إلى العدوة، وتوفى بمراكش سنة 755 هـ (1354 م). ومن شعره يمتدح السلطان حين حل بألمرية: أثغرك أم سمط من الدر ينظم ... وريقك أم مسك من الراح تختم ووجهك أم باد من الصبح نير ... وفرعك أم داج من الليل مظلم أعلل منك الوجد والليل ملتقى ... وهل ينفع التعليل والخطب مؤلم وأقنع من طيف الخيال بزورة ... لو أن جفونى بالمنام تنعم (¬1). ومنهم أبو عبد الله محمد بن جُزى، الكاتب الشاعر، ولد بغرناطة سنة 721 هـ، وانتظم منذ فتوته بين كتاب السلطان أبى الحجاج يوسف، وحظى لديه ومدحه بطائفة من القصائد الرنانة، ثم غضب عليه ونكبه، فغادر الأندلس إلى العدوة، ودخل فى خدمة السلطان أبى عنان المرينى ومدحه؛ وكان بارعاً فى النثر والنظم؛ ذكره ابن الأحمر فى "نثير الجمان" وأشاد بمقدرته، ووصفه بأنه أعظم شاعر فى عصره. وكانت وفاته بمراكش سنة 757 هـ (1356 م) (¬2). وهو الذى أنشأ رحلة ابن بطوطة من مذكرات صاحبها حسبما ينوه بذلك فى خاتمة الكتاب (¬3). ومنهم قاضى الجماعة، أبو القاسم محمد بن أحمد الشريف الحسينى، ولد سنة 697 هـ، وتوفى بغرناطة سنة 760 هـ (1358 م)، ولى رياسة القضاء، وكان فوق تضلعه فى الحديث والفقه، شاعراً مجيداً، وكتب فى العروض والأدب، وجمع شعره فى ديوان أسماه "جهد المقل" (¬4). ومنهم أبو جعفر أحمد بن على بن محمد بن خاتمة الأنصارى، ولد بألمرية ¬_______ (¬1) نفح الطيب (عن الإحاطة) ج 3 ص 450. (¬2) راجع نفح الطيب ج 3 ص 284 وما بعدها، وأزهار الرياض ج 2 ص 189 وما بعدها وفيه يورد بعض شعره. (¬3) أزهار الرياض ج 2 ص 195، ورحلة ابن بطوطة (مصر) ج 2 ص 207. (¬4) راجع نفح الطيب ج 3 ص 107

سنة 724 هـ. وتوفى سنة 770 هـ (1369 م). وكان أديباً كبيراً وشاعراً مبرزاً. وقد خصه ابن الخطيب فى الإحاطة بترجمة قوية (¬1)، ووصفه بأنه "صدر يشار إليه، متفنن، مشارك، قوى الإدراك، سديد النظر، قوى الذهن، جيد القريحة". ووصفه فى كتابه "التاج المحلى" بقوله: "ناظم درر الألفاظ، ومقلد جواهر الكلام، نحور الرواة ولبات الحفاظ". وكتب ابن خاتمة عن مسقط رأسه ألمرية، كتاباً أسماه "مزية ألمرية على غيرها من البلاد الأندلسية"، وكتب عن الوباء الكبير الذى عصف بالأندلس سنة 749 هـ (1348 م) رسالة عنوانها، " تحصيل غرض القاصد فى تفصيل المرض الوافد " يصف فيها عصف الوباء وسيره بمدينة ألمرية (¬2). وله ديوان شعر محفوظ بمكتبة الإسكوريال. ومن شعره قوله من قصيدة طويلة: من لم يشاهد موقفاً لفراق ... لم يدر كيف توله العشاق إن كنت لم تره فسائل من رأى ... يخبرك عن ولهى وعن أشواقى من حر أنفاس وخفق جوانح ... وصدوع أكباد وفيض مآق دهى الفؤاد فلا اللسان بناطق ... عند الوداع ولا بلفظ فراق وقوله من قصيدة أخرى: لولا حياتى من عيون النرجس ... للثمت خد الورد بين السندس ورشفت من ثغر الأقاحة ريقها ... وضممت أعطاف الغصون الميس شتان بين مظاهر ومخاتل ... وعف الحجا ومطهر ومدنس ومجمجم بالعذل باكرنى به ... والطير أفصح مسعد بتأنس (¬3). وقوله: هو الدهر لا يبقى على عائذ به ... فمن شاء عيشاً يصطبر لنوائبه فمن لم يصب فى نفسه فمصابه ... بفوت أمانيه وفقد حبائبه وكتب ابن خاتمة إلى صديقه ابن الخطيب، حينما أزمع الرحلة عن الأندلس، رسالة مؤثرة يخاطبه فيها بقوله: "إنكم بهذه الجزيرة شمس أفقها، وتاج مفرقها، ¬_______ (¬1) تراجع هذه الترجمة فى الإحاطة ج 1 ص 247 - 267. (¬2) توجد من هذه الرسالة نسخة مخطوطة ضمن مجموعة تحفظ بمكتبة الإسكوريال (رقم 1785 الغزيرى). (¬3) تراجع هاتان القصيدتان فى الإحاطة ج 1 ص 252 - 254 و 255 - 257

وواسطة سلكها، وطراز ملكها، وقلادة نحرها، وفريدة دهرها، وعقد جيدها المنصوص، وتمام زينتها على المعلوم والمخصوص؛ ثم أنتم مدار أفلاكها، وسر سياسة أملاكها، وترجمان بيانها، ولسان إحسانها، وطبيب مارستانها، والذى عليه عقد إدارتها، وبه قوام إمارتها". وقد رد عليه ابن الخطيب برسالة مؤثرة كذلك تفيض بلاغة وبياناً (¬1). - 2 - نعرض بعد ذلك، إلى ألمع فترة فى الحركة الفكرية، فى ظل مملكة غرناطة، وهى الحركة التى كان قطبها ومحورها، أعظم مفكرى الأندلس، وأعظم شعرائها وكتابها، فى القرن الثامن الهجرى، ونعنى لسان الدين بن الخطيب. وقد أشرنا فيما تقدم إلى نشأة ابن الخطيب، واستعرضنا طرفاً من حياته السياسية، ونريد هنا أن نبسط القول فى حياته الفكرية والأدبية. وهو لسان الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد بن الخطيب؛ ولد فى لوشة من أعمال غرناطة، فى بيت من أكرم بيوت الأندلس فى شهر رجب سنة 713 هـ (1313 م)، ثم انتقل بيتهم من لوشة إلى غرناطة. وخدم أبوه عبد الله فى القصر والخاص فى عهد السلطان يوسف أبى الحجاج. وتلقى ابن الخطيب دراسة حسنة. ودرس الطب والفلسفة والشريعة والأدب، وبرز فى النثر والنظم منذ حداثته، ولما توفى أبوه فى سنة 741 هـ قتيلا فى موقعة طريف حل مكانه فى خدمة القصر، وهو فتى فى عنفوانه، وتولى أمانة السر للوزير أبى الحسن بن الجياب، وزير السلطان يوسف. ولما توفى ابن الجياب فى الوباء الكبير سنة 749 هـ، خلفه فى الوزارة والكتابة، إلى جانب كبير الوزراء الحاجب أبى النعيم رضوان، وندبه السلطان لبعض السفارات والمهام السياسية. ولما توفى السلطان أبو الحجاج يوسف (755 هـ)، وخلفه ولده محمد الغنى بالله، استمر الحاجب رضوان فى الاضطلاع برياسة الوزارة، واستمر ابن الخطيب إلى جانبه فى منصبه، وندب للوصاية على الأمراء القصر، وأرسله السلطان لأول ولايته (أواخر سنة 755 هـ) سفيراً إلى السلطان أبى عنان المرينى سلطان المغرب، على رأس وفد من وزراء ¬_______ (¬1) راجع الإحاطة حيث يورد رسالة ابن خاتمة ورد ابن الخطيب عليها ج 1 ص 261 - 267 وكذلك أزهار الرياض ج 1 ص 265 - 270. وراجع عن ابن خاتمة نفح الطيب ج 2 ص 184 و411 ما بعدها؛ وكذلك بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 259

الأندلس، يستنصره ويستغيث به على مقاومة طاغية قشتالة، وأنشد ابن الخطيب بين يدى السلطان قصيدة يقول فيها: خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح فى الدجى قمر ودافعت عنك كف قدرته ... كلا ليس يستطيع دفعه البشر وجهك فى النائبات بدر دجى ... لنا وفى المحل كفك المطر والناس طرا بأرض أندلس ... لولاك ما أوطنوا ولا عمروا وجملة الأمر أنه وطن ... فى غير علياك ما له وطر فاهتز السلطان لقصيدته، ووعدهم بإجابة ملتمسهم وتحقيق رغباتهم (¬1). ثم وقعت الثورة فى غرناطة فى شهر رمضان سنة 760 هـ (1359 م)، وقتل الحاجب رضوان، وأقصى الغنى بالله عن الملك، وفر إلى وادى آش، وخلفه على العرش أخوه اسماعيل، وولى ابن الخطيب الوزارة للملك الجديد حيناً، ولكن سرعان ما غضب عليه، وأمر باعتقاله ومصادرة أمواله. ويصف لنا ابن الخطيب فى ترجمته لنفسه، فى نهاية كتاب الإحاطة، هذه المراحل الأولى من حياته فى قوله: "فقلدنى السلطان سره (يريد أبا الحجاج) ولما يستكمل الشباب، واستعملنى فى السفارة إلى الملوك، واستنابنى بدار ملكه، ورمى إلى بخاتمه وسيفه، وائتمننى على صون حضرته وبيت ماله، وسجوف حرمه. ومعقل امتناعه. ولما هلك السلطان، ضاعف ولده حظوتى، وأعلى مجلسى، وقصر المشورة على نصحى، إلى أن كانت الكائنة، فاقتدى فى أخوه المتغلب على الأمر، فسجل الاختصاص وعقد القلادة، ثم حمله أهل الشحناء من أعوان ثورته، على القبض علىّ، فكان ذلك". وتدخل السلطان أبو سالم ملك المغرب، فى شأن السلطان المخلوع الغنى بالله، وكانت تربطه به مودة وصداقة، مذ كان أيام محنته يلوذ بحمايته بغرناطة، وأرسل إلى ملك غرناطة الجديد سفيراً يطلب إجازة الغنى بالله ووزيره المعتقل إلى المغرب، فأجابه السلطان اسماعيل إلى مطلبه، وجاز الغنى بالله وابن الخطيب إلى المغرب ووصلا إلى فاس فى أوائل شهر المحرم سنة 761 هـ، واستقبلهما السلطان أبو سالم بترحاب، واحتفل بقدومهما فى يوم مشهود، وأنشده ابن الخطيب يومئذ قصيدته المشهورة، التى يدعوه فيها لنصرة سلطانه وهذا مطلعها: ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 3 ص 53؛ وابن خلدون ج 7 ص 333

سَلا هل لديها من مخبرة ذكر ... وهل أعشب الوادى ونم به الزهر وهل باكر الوسمىُّ داراً على اللوى ... عفت آيها إلا التوهم والذكر بلادى التى عاطيت مشمولة الهوى ... بأكنافها والعيش فينان مخضر وجوّى الذى ربى جناحى وكره ... فها أنا ذا ما لى جناح ولا وكر ومنها: قصدناك يا خير الملوك على النوى ... لتنصفنا مما جنى عبدك الدهر كففنا بك الأيام عن غلوائها ... وقد رابنا منها التعسف والكبر وعُذنا بذاك المجد فانصرم الردى ... ولذنا بذاك العزم فانهزم الشر ولما أتينا البحر يرهب موجه ... ذكرنا نداك الغمر فاحتقر البحر ومنها: وأنت الذى تدعى إذا دهم الردى ... وأنت الذى ترجى إذا أخلف القطر ومثلك من يرعى الدخيل ومن دعا ... بيالمرين جاءه العز والنصر وخذ يا إمام الحق بالحق ثأره ... ففى ضمن ما تأتى به العز والأجر (¬1). وكان لإنشاد ابن الخطيب فى السامعين أعظم وقع. ويقول لنا ابن خلدون، وقد كان من شهود ذلك الحفل، إن ابن الخطيب أبكى سامعيه تأثراً وأسى. وكان هذا أول لقاء بين هذين المفكرين العظيمين، اللذين تجمع بينهما مشابهات عدة. فقد كان كلاهما أستاذ عصره فى التفكير والكتابة، وقد خاض كلاهما نفس الحياة السياسية المضطربة، وأخذ بقسط بارز فى حوادث عصره، وفى توجيه شئونه؛ وكان ابن خلدون يشغل فى دول المغرب، نفس المركز الذى يشغله ابن الخطيب بالأندلس، وقد استأثر فى المغرب بزعامة التفكير والكتابة، التى يستأثر بها ابن الخطيب فى الأندلس. وتوثقت بين المفكرين العظيمين مدى حين، أواصر المودة والصداقة، ثم فرقت بينهما عوامل الغيرة والتنافس، حينما عبر ابن خلدون بعد ذلك إلى الأندلس، واتصل بسلطانها الغنى بالله. وكان كل منهما يقدر صاحبه ويُجل مواهبه، وقد ترجم كلاهما صاحبه بما ينم عن هذا التقدير والإجلال، فيقول لنا ابن خلدون مثلا فى ترجمته لابن الخطيب إنه "بلغ فى الشعر والترسل حيث لا يجارى فيهما، وملأ الدولة بمدايحه، وانتشرت فى الآفاق قدماه". ثم ينوه بعد ذلك ¬_______ (¬1) تراجع هذه القصيدة بأكملها فى نفح الطيب ج 3 ص 45 - 47، وأزهار الرياض ج 1 ص 196 - 200

بروعة رسائله السلطانية، وبراعته فى الإدارة والحكم (¬1). ويصف لنا الأمير أبو الوليد اسماعيل بن الأحمر، معاصر ابن الخطيب، خلاله ومواهبه "فى كتابه نثير الجمان" فى تلك العبارات الرنانة: "هو شاعر الدنيا، وعلم الفرد والثنيا، وكاتب الأرض إلى يوم العرض، لا يدافع مدحه فى الكتب، ولا يمنح فيه إلى العتب، آخر من تقدم فى الماضى، وهو نفيس العدوتين، ورئيس الدولتين، بالاطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع بالفهوم النقلية " ثم يشير بعد ذلك إلى قسوته فى الهجاء، وإلى كونه قد هجا ابن عمه سلطان الأندلس بما لا يليق ويجمل (¬2). وتجول ابن الخطيب حيناً بالمغرب، واستقر بسلا، وتوالت مدائحه للسلطان أبى سالم، ومنها قصيدة طويلة يهنىء فيها السلطان بفتح تلمسان (761 هـ) هذا مطلعها: أطاع لسانى فى مديحك إحسانى ... وقد لهجت نفسى بفتح تلمسان فأطلعتها تفتر عن شنب المنى ... وتسفر عن وجه من السعد حيانى كما ابتسم النوار عن أدمع الحيا ... وجف بخد الورد عارض نيسان كما صفقت ريح الشمال شمولها ... فبان ارتياح السكر فى غصن البان (¬3) وبعث إلى السلطان فى الوقت نفسه من سلا، برسالة بليغة يهنئه فيها بذلك الفتح الكبير (¬4). أنفق ابن الخطيب ومليكه فى المنفى زهاء عامين ونصف، حتى مهدت حوادث الأندلس لسقوط المغتصب، واستطاع الغنى بالله بمعاونة الوزير عمر المتغلب على المغرب، أن يسترد ملكه، وذلك فى جمادى الآخرة سنة 763 هـ (1361 م)، ورد السلطان وزيره ابن الخطيب إلى سابق مكانته فى الوزارة، ولكنه لم ينعم تلك المرة بسابق حظوته ونفوذه، إذ كان ينافسه فى السلطة شيخ الغزاة عثمان بن يحيى، الذى قربه السلطان وأولاده عطفه، لما قام به ¬_______ (¬1) كتاب العبر ج 7 ص 332 وما بعدها. (¬2) راجع نفح الطيب ج 3 ص 334، حيث ينقل تلك الفقرات. وتوجد من كتاب "نثير الجمان" نسخة خطية وحيدة بدار الكتب المصرية تحفظ برقم 1863 آداب. (¬3) وردت هذه القصيدة بأكملها فى نفح الطيب ج 3 ص 16 - 19؛ وفى بعض أجزائها ينحو ابن الخطيب نحو أبى البقاء فى مرثيته الأندلسية. (¬4) وردت هذه الرسالة فى نفح الطيب ج 3 ص 19 و 20

من معاونته فى استرداد ملكه. ونشبت بين الرجلين منافسة شديدة، وما زال ابن الخطيب يحرض السلطان ويحذره من نفوذ عثمان وآله، ويذكره بسابق غدرهم، حتى استجاب السلطان إلى تحريضه ونكبهم (رمضان سنة 764 هـ)، وبذا خلا له الجو، وتبوأ ذروة النفوذ والسلطان. ويصف لنا ابن الخطيب، جهوده وعمله فى الوزارة يومئذ فى قوله: "ثم صرفت الفكر إلى بناء الزاوية والمدرسة والتربة، بكر الحسنات بهذه الخطة، بل بالجزيرة فيما سلف من المدة، فتأتى بمنة الله تعالى من صلاح السلطان، وعفاف الحاشية، والأمن، وروم الثغور، وتثمير الجباية، وإنصاف الحماة والمقاتلة، ومقارعة الملوك المجاورة، فى إيثار المصلحة الدينية، والصدع فوق المنابر، ضماناً من السلطان، بترياق سم الثورة، وإصلاح بواطن الخاصة والعامة ... " (¬1). غير أن معظم الروايات تدل من جهة أخرى، على أن ابن الخطيب جنح عندئذ إلى الاستبداد وسوء المسلك والسيرة. وإليك كيف يصف صديقه ومعاصره ابن خلدون هذه الرحلة من حياته: "وغلب على هوى السلطان، ودفع إليه تدبير الدولة، وخلط بنيه بندمائه وأهل حكومته، وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد، وانصرفت إليه الوجوه، وعلقت به الآمال، وغشى بابه الخاصة والكافة، وغصت به بطانة السلطان وحاشيته، فتفننوا فى السعاية فيه" (¬2). وأنفق ابن الخطيب بضعة أعوام أخرى فى الوزارة وهو يستأثر بكل سلطة ويتصرف تصرف الحاكم المطلق، ويثير حوله ضراماً من البغضاء والحسد. وكان السلطان يعرض فى البداية عن الإصغاء لأعدائه والوشاة به، ولكنه بدأ فى النهاية يتأثر بسعايتهم. وشعر ابن الخطيب أنه قد بدأ يتغير عليه، وخشى العاقبة، فعول على مغادرة الأندلس، واستأذن السلطان فى تفقد الثغور الغربية، وسار إليها فى نفر من خاصته ومعه ولده على، وما كاد يصل إلى جبل الفتح (جبل طارق)، حتى عبر البحر إلى سبتة (772 هـ)، وذلك بتفاهم سابق بينه وبين السلطان عبد العزيز المرينى، ملك المغرب، وكان يقيم يومئذ فى تلمسان عقب افتتاحه لها، فقصد إليها ابن الخطيب، واستقبله السلطان بحفاوة، وأنزله أكرم منزل، وبعث سفيراً إلى الأندلس ليسعى فى استقدام أسرة الوزير المنفى، فأتى بها معززة مكرمة، ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 3 ص 41. (¬2) ابن خلدون فى كتاب العبر ج 7 ص 335

وتبوأ ابن الخطيب فى بلاط ملك المغرب أسمى مكانة. وغص خصوم ابن الخطيب بغرناطة، بنجاته على هذا النحو، فعولوا على ملاحقته وسحق هيبته، فاتهموه بالزندقة والخروج على شريعة الإسلام، والطعن فى النبى، والقول بالحلول، وسلوك مذهب الفلاسفة الملحدين، واستندوا فى ذلك إلى بعض أقوال وردت فى رسائله ومقالاته أوّلوها وفق مقاصدهم. وكان تلميذه وخلفه فى الوزارة أبو عبد الله بن زمرك، أكبر مروج لهذه الدعاية، وتولى صوغ الإتهام القاضى أبو الحسن على بن عبد الله النباهى عدو ابن الخطيب الألد، وأفتى بوجوب حرق كتبه التى تتناول العقائد والأخلاق، فأحرقت فى غرناطة بمحضر من الفقهاء والمدرسين والعلماء "لما تضمنته من المقالات التى أوجبت ذلك عندهم وحققته لديهم" (سنة 773 هـ) (¬1). ووجه أبو الحسن إلى ابن الخطيب بالمغرب رسالة شديدة، ينوه فيها بما ارتكبه من الطعن فى حق النبى، ويقول: "فإنه نقل عنكم فى هذا الباب أشياء منكرة، يكبر فى النفوس التكلم بها، أنتم تعلمونها وهى التى زرعت فى القلوب ما زرعت من بغضكم وإيثار بعدكم، مع استشعار الشفقة والوجل، من وجه آخر عليكم، ولولا أنكم سافرتم قبل تقلص السلطة عنكم، لكانت الأمة المسلمة امتعاضاً لدينها ودنياها، قد برزت بهذه الجهات لطلب الحق منكم". ثم يعدد مثالبه فى الحكم قائلا: "فليس يعلم أنه صدر عن مثلكم من خدام الدول، ما صدر من العبث، فى الإبشار والأموال، وهتك الأعراض وإفشاء الأسرار، وكشف الأستار، واستعمال المكر والحيل والغدر، فى غالب الأحوال، للشريف والمشروف والخادم والمخدوم" (¬2). وسجل القاضى أبو الحسن تهمة الزندقة على ابن الخطيب، وصادق السلطان على حكمه، وأرسل القاضى رسله إلى السلطان عبد العزيز، يطالب بتنفيذ حكم الشرع فى الوزير الملحد وهو الإعدام، فأنف السلطان لطلبه وعنف رسل الأندلس، وقال لهم: "هلا أنفذتم فيه حكم الشرع وهو عندكم، وأنتم عالمون بما كان عليه" وردهم خائبيين، وزاد فى إكرام ابن الخطيب ورعايته (¬3). ¬_______ (¬1) كتاب المرقبة العليا، أو تاريخ قضاة الأندلس لأبى الحسن النباهى المنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال ص 202. (¬2) نفح الطيب ج 3 ص 69. (¬3) راجع ابن خلدون فى كتاب العبر ج 7 ص 235 و 236، ونفح الطيب ج 3 ص 67 و 68

ولما توفى السلطان عبد العزيز بعد ذلك بقليل (774 هـ)، وخلفه ولده السعيد طفلا على العرش، غادر بلاطُ المغرب تلمسان، وسار ابن الخطيب برفقة الوزير أبى بكر بن غازى القائم بالدولة، ونزل بفاس، واقتنى الضياع والدور، واستمر على مكانته فى الدولة. ولكن حوادث المغرب ما لبثت أن تمخضت عن انقلاب جديد. ذلك أن الثورة نشبت فى شمال المغرب، على يد بعض الزعماء من بنى مرين. وعضدت حكومة الأندلس هذه الحركة وأمدتها بالعون، ونادى الثوار بولاية الأمير أحمد بن السلطان أبى سالم. وحاول الوزير ابن غازى مقاومة الثوار فلم يفلح، واقتحم الخوارج فاس فأذعن الوزير، وخلع الملك الطفل السعيد، وجلس السلطان أحمد على العرش وذلك فى أوائل سنة 776 هـ (1374 م). وكان ابن الخطيب قد لجأ فى أثناء ذلك إلى البلد الجديد (ضاحية فاس)، وكان التفاهم قد تم بين السلطان ابن الأحمر (الغنى بالله) وزعماء الفتنة، بشأن ابن الخطيب ومصيره؛ فلما وقع الانقلاب بادر السلطان الجديد بالقبض على ابن الخطيب واعتقاله، تنفيذاً للعهد الذى قطعه لابن الأحمر، ولم يدخر وزيره سليمان بن داود، وقد كان من ألد خصوم ابن الخطيب، جهداً فى تشديد النكير عليه وتدبير مصرعه. وكان ابن الأحمر يتوق إلى الانتقام من وزيره السابق، لما نمى إليه من أنه كان يحرض السلطان عبد العزيز على غزو الأندلس. وبعث ابن الأحمر وزيره أبا عبد الله بن زمرك إلى فاس ليعمل على تحقيق هذه الغاية، وعقد السلطان أحمد مجلساً من رجال الدولة وأهل الشورى، استدعى إليه ابن الخطيب لمناقشته، ومواجهته بالتهم المنسوبة إليه، وأخصها تهمة الزندقة، استناداً إلى ما ورد فى بعض رسائله، وعزر ابن الخطيب وعذب أمام الملأ، وأفتى بعض الفقهاء المتعصبين بوجوب قتله، ودس عليه الوزير سليمان بعض الأوغاد فقتلوه خنقاً فى سجنه، وأخذت جثته فى الغد وأضرمت فيها النار، ثم دفنت خارج فاس على مقربة من باب المحروق؛ وما زال قبره المتواضع قائماً هنالك فى مكانه حتى يومنا (¬1). وهكذا ذهب الكاتب والمفكر الكبير، ضحية الجهالة والتعصب والأحقاد ¬_______ (¬1) كتبت ترجمة مستفيضة لحياة ابن الخطيب، والحوادث السياسية التى تقلب فيها، صدّرتُ بها كتاب "الإحاطة فى أخبار غرناطة"، الذى عنيت بتحقيقه، وصدر منه الجزء الأول بالقاهرة فى سنة 1956 (ص 30 - 82)

السياسية الوضيعة؛ وقد نقل إلينا صديقه ابن خلدون عنه أبياتاً من الشعر، كان يرددها وهو فى سجنه، ويرثى بها نفسه توقعاً لمصيره المحزن: بعدنا وإن جاورتنا البيوت ... وجئنا بوعظ ونحن صُموت وأنفاسنا سكنت دفعة ... كجهر الصلاة تلاه القنوت وكنا عظاماً فصرنا عظاما ... وكنا نقوت فها نحن قوت وكنا شموس سماء العلا ... غربن فناحت عليها البيوت فقل للعدا ذهب ابن الخطيب وفات ومن ذا الذى لا يفوت فمن كان يفرح منكم له ... فقل يفرح اليوم من لا يموت (¬1). ... ومن الصعب علينا أن نلم بمجهود ابن الخطيب الفكرى والأدبى فى هذا المقام الضيق. والحقيقة أن ابن الخطيب كان عبقرية متعددة الجوانب، فكان طبيباً وفيلسوفاً وشاعراً وكاتباً، وكان سياسياً ومؤرخاً، وقد ترك لنا تراثاً ضخماً منوعاً، من مؤلفات عديدة، أدبية وتاريخية وطبية، وطائفة كبيرة من غرر القصائد والموشحات، ورسائل أدبية وسياسية لا تحصى؛ ومن أشهر رسائله بنوع خاص رسائله السلطانية، التى كان يكتبها عن حوادث عصره برسم ملوك المغرب، وتلك التى كان يوجهها إلى أهل الأندلس من وقت إلى آخر، يحثهم فيها على الجهاد، والذود عن وطن يتربص به العدو، ويعتزم القضاء عليه، وهى رسائل تدلى بما كان لابن الخطيب من فكر ثاقب وبصيرة نافذة، هذا فضلا عما تمتاز به من روعة البيان والأسلوب. ونستطيع أن نذكر من مؤلفات ابن الخطيب الكتب الآتية: الإحاطة فى أخبار غرناطة وهو أشهر آثاره التاريخية والأدبية. التاج المحلى فى مساجلة القدح المعلى. ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب، وهو يضم طائفة من أشهر رسائله السلطانية. اللمحة البدرية فى الدولة النصرية. رقم الحلل فى نظم الدول، وهو تاريخ شعرى لدول الإسلام والأندلس. نفاضة الجراب وعلالة الاغتراب، وفيه يصف أحواله وأخباره أثناء إقامته منفياً بالمغرب. كناسة الدكان بعد انتقال السكان. معيار الاختيار فى ذكر المشاهد والديار. السحر والشعر، وهو من مختاراته الشعرية. ويوجد من هذه الآثار كلها نسخ مخطوطة بمكتبة دير الإسكوريال ¬_______ (¬1) كتاب العبر ج 7 ص 341، و 352؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 231

والكتيبة الكامنة فى أدباء المائة الثامنة. وأعمال الأعلام، وكلاهما يوجد بمكتبة أكاديمية التاريخ الملكية بمدريد. ومن مؤلفاته الطبية: عمل من طب لمن حب، وهو كتاب فى وصف الأمراض والعلاج ألفه للسلطان أبى سالم المرينى (ومنه نسخة خطية بخزانة القرويين وأخرى بمكتبة مدريد الوطنية). والرجز فى عمل الترياق. رسالة تكوين الجنين. الوصول لحفظ الصحة فى الفصول. مُقنعة السائل فى المرض الهائل، وفيه يصف أعراض الوباء الكبير فى سنة 749 هـ (ومنه نسخة بمكتبة الإسكوريال). ومن مؤلفاته السياسية: رسالة فى السياسة. كتاب الإشارة إلى أدب الوزارة، (وهما أيضاً بالإسكوريال) وقد نقلهما المقرى فى نفح الطيب (¬1). وله ديوان شعر عنوانه: "الصيب والجهام، والماضى والكهام " توجد منه نسخة مخطوطة بخزانة جامع القرويين بفاس. ولابن الخطيب تراث حافل من الرسائل الأدبية والسياسية التى وردت فى مختلف مؤلفاته، وقد نقل إلينا المقرى منها العدد الجم، ونقل إلينا ابن خلدون بعض ما كان يتبادله معه من رسائل خاصة (¬2). ويفرد المقرى فى كتابه نفح الطيب مجلدين كاملين (هما الثالث والرابع) لابن الخطيب وأخباره، وشعره ونثره، وشيوخه وتلاميذه؛ وقد نقل إلينا فيهما، من مختلف كتبه ورسائله، فصولا وشذوراً لا تحصى، كما نقل إلينا وصيته لأولاده، وهى من أبدع ما كتب (¬3). وكان ابن الخطيب من أئمة الموشحات الأندلسية، ومن أشهر نظمه الموشحة الذائعة الصيت التى مطلعها: جادَك الغيث إذا الغيث هَمَى ... يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلماً ... فى الكرى أو خُلسة المختلس ¬_______ (¬1) يراجع الثبت الكامل لمؤلفات ابن الخطيب وأمكنة وجودها، وما نشر منها وما لم ينشر، فى مقدمة كتاب الإحاطة الذى سبقت الإشارة إليه (ج 1 ص 68 - 78). (¬2) راجع كتاب العبر ج 7 ص 421 - 430، وكذلك التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا (القاهرة 1951). وقد أورد لنا المقرى فى أزهار الرياض ثبتاً لآثار ابن الخطيب (ج 1 ص 189 و 190). (¬3) راجع نفح الطيب ج 4 ص 419 - 426

إذ يقود الدهر أشتات المُنى ... ينقل الخطو على ما يَرْسمُ زُمراً بين فرادى وثُنا ... مثل ما يدعو الوفودَ الموسمُ والحيا قد جَلَّل الروض سَنا ... فثغور الزهر منه تبسم (¬1). - 3 - كان ابن الخطيب قطب الشعر والنثر فى عصره، وكان محور الحركة الفكرية الأندلسية كلها، فى أواسط القرن الثامن الهجرى، تجتمع إليه وتلتف حوله؛ وقد أتينا على ذكر بعض أكابر الشعراء من معاصريه، المتقدمين عنه، مثل ابن الجياب وابن سلبطور وابن خاتمة. وسنأتى هنا على ذكر أقطاب الشعر والأدب من معاصريه المتأخرين عنه. بيد أنه يجب أن نلاحظ أن عبقرية ابن الخطيب الأدبية، قد طبعت هذه المرحلة كلها، من تاريخ الحركة الفكرية الأندلسية، بطابعها القوى، وبعثت إليها كثيراً من أسباب القوة والروعة، حتى ليسوغ لنا أن نقول إن مدرسة ابن الخطيب الأدبية، امتدت منذ عصره إلى أواخر القرن الثامن، وأوائل القرن التاسع الهجرى. بل يلوح لنا أن الأثر القوى الذى بثته هذه المدرسة الأدبية الباهرة، لم يقتصر على مملكة غرناطة، بل تعدى حدود الأندلس المسلمة إلى قواعد الأندلس الذاهبة، التى دخلت فى حوزة النصارى وتدجن أهلها، فبدا بها شعاع ضئيل من النبوغ الأدبى القديم، وظهر فيها بعض الشعراء الموهوبين، بالرغم من مضى أكثر من قرن على خضوعها لحكم اسبانيا النصرانية. فمثلا نجد بين كتاب بلنسية وشعرائها يومئذ، الفقيه أبا جعفر بن عبد الملك العذرى، ومما كتبه لابن الخطيب فى بعض الشئون: إنى بمجدك لم أزل مستيقناً ... أن لا يهدم بالتغير ما بنى إذ أنت أعظم ماجد يعزى له ... صنع وأكرم من عفا عمن جنى وكتب له أيضاً: إن كان دهر قد أساء وجارا ... فذمام مجدك لا يضيع جارا فلأنت أعظم ملجأ ينجى إذا ... ما الدهر أنجد مُوعداً وأغارا (¬2) ¬_______ (¬1) راجع هذه الموشحة بأكملها فى نفح الطيب ج 4 ص 198 وما بعدها. (¬2) راجع نفح الطيب ج 3 ص 426

وكان الوزير ابن زَمرك، تلميذ ابن الخطيب وخلفه فى الوزارة، أعظم شخصية تزعمت من بعده الحركة الأدبية بالأندلس. وهو محمد بن يوسف بن محمد الصريحى الشهير بأبى عبد الله بن زمرك، أصله من شرقى الأندلس، ونزحت أسرته إلى غرناطة. واستقرت بربض البيازين حى غرناطة الشمالى. وبه ولد أبو عبد الله سنة 733 هـ (1333 م) ودرس دراسة حسنة فى غرناطة وفاس، وخدم حيناً فى بلاط السلطان أبى سالم المرينى. ولما نفى السلطان الغنى بالله إلى المغرب، اتصل به ابن زمرك وانقطع إليه. ثم عاد حين استرد ملكه، فولاه كتابة السر وغمره بعطفه. وظهر ابن زمرك يومئذ ببارع أدبه، وروعة نظمه ونثره؛ وينوه ابن الخطيب فى الإحاطة بذكائه وخلاله، وتفوقه فى الدرس والأدب، ويصفه بالعبارات الآتية: "شعلة من شعل الذكاء، تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة، فكه، غزل، مع حياء وحشمة ... ثاقب الذهن، أصيل الحفظ، ظاهر النبل، بعيد مدى الإدراك "ثم يصف شعره بأنه" مترام إلى هدف الإجادة، كلف بالمعانى البديعة، والألفاظ الصقيلة، غزير المادة". وعمل ابن زَمرك فى كتابة السر فى كنف ابن الخطيب وتحت رعايته. ولكنه كان ضالعاً مع خصومه، فلما انقضت العاصفة على ابن الخطيب وأصابته المحنة، كان ابن زمرك فى طليعة أعدائه الساعين إلى هلاكه. وقد خلفه فى الوزارة عقب فراره، وهو الذى تولى مهمة السعى لدى بلاط فاس فى محاكمته وإعدامه حسبما أسلفنا. واستمر ابن زمرك على حظوته ونفوذه أعواماً طويلة، ولكنه كان لطغيانه وغطرسته وحدة لسانه، يثير حوله كثيراً من البغض والخصومة. وفى أواخر عهد الغنى بالله فقد حظوته ونفوذه، واعتقل ونفى خارج غرناطة، ولكنه عاد بعد وفاته إلى الحضرة. وفى بداية عهد السلطان محمد بن يوسف الثانى، أعيد إلى الوزارة، فأساء السيرة، واشتد عيثه وطغيانه، وكثر خصومه. وفى ذات ليلة من أواخر سنة 797 هـ (1395 م) دهمه فى منزله جماعة من المتآمرين، فقتلوه وولديه وخدمه شر قتلة. وينوه المقرى بما فى ذلك من عبر الدهر، إذ كان ابن زمرك هو الساعى إلى مقتل أستاذه ابن الخطيب، فكان أن دارت عليه الدائرة، وقتل مثله ولكن بصورة أقسى وأشنع (¬1). ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 4 ص 286 - 290، وينقل إلينا المقرى ترجمة ابن زمرك عن كتاب معاصره الأمير اسماعيل بن الأحمر، وينقل إلينا فى أزهار الرياض كثيراً من موشحاته (ج 2 ص 177 =

ولابن زَمرك شعر كثير جيد نقل إلينا المقرى منه قصائد وموشحات عديدة، فمن شعره قوله يمتدح سلطان الأندلس الغنى بالله فى سنة 765 هـ: لعل الصبا إن صافحت روض نعمان ... تؤدى أمان القلب عن ظبية البان وماذا على الأرواح وهى طليقة ... لو احتملت أنفاسها حاجة العانى وما حال من يستودع الريح سره ... وبطلبها وهى النوم بكتمان وكالطيف أستقريه فى سنة الكرى ... وهل تنفع الأحلام غلة ظمآن إمام أعاد الملك بعد ذهابه ... إعادة لا تأبى الحسام ولا وانى فغادر أطلال الضلال دوارسا ... وجدد للإسلام أرفع بنيان وشيدها والمجد يشهد دولة ... محافلها تزاهى بيمن وإيمان ومن قوله من قصيدة طويلة يصف فيها دار الملك (الحمراء): فكم فيه للأبصار من متنزه ... تجد به نفس الحليم الأمانيا وتهوى النجوم الزهر لو ثبتت به ... ولم تك فى أفق السماء جواريا به البهو قد حاز البهاء وقد غدا ... به القصر آفاق السماء مباهيا وكم حلة قد جللت بحليها ... من الوشى تنسى السابرى اليمانيا وكم من قسى فى ذرة ترفعت ... على عمد بالنور باتت حواليا فتحسبها الأفلاك دارت قسيها ... تظل عمود الصبح إذ بات باديا سوارى قد جاءت بكل غريبة ... فطارت بها الأمثال تجرى سواريا بل المرمر المجلو قد شف نوره ... فيجلو من الظلماء ما كان داجيا به البحر دفاع العباب تخاله ... إذا ما انبرى وفد النسيم مباريا إذا ما جلت أيد الصبا متن صفحة ... أرتنا دروعاً أكسبتنا الأباديا ومن قوله يشيد بأعمال الأميرين سعد ونصر، ولدى السلطان، فى ميدان الجهاد: يا آل نصر أنتم سُرج الهدى ... فى كل خطب قد تجهم مظلم الفاتحون لكل صعب مقفل ... والفارجون لكل خطب مبهم والباسمون إذا الكماة عوابس ... والمقدمون على السواد الأعظم أبناء أنصار النبى وحزبه ... وذوى السوابق والجوار الأعظم ومن قوله فى الغزل: ¬_______ = وما بعدها). وقد أورد المستشرق بروكلمان (ج 2 ص 229) تاريخ مقتله فى سنة 795 هـ (1393 م) ُولكن رواية ابن الأحمر هى الأرجح

قيادى قد تملكه الغرام ... ووجدى لا يطاق ولا يرام ودمعى دونه صوب الغوادى ... وشجوى فوق ما يشكو الحمام إذا ما الوجد لم يبرح فؤادى ... على الدنيا وساكنها السلام ولابن زمرك موشحات كثيرة رائعة، ومنها موشحته الشهيرة فى الإشادة بغرناطة ومحاسنها إذ يقول: نسيم غرناطة عليل ... لكنه يبرىء العليل وروضها زهره بليل ... ورشفه ينقع الغليل سقى بنجد ربا المصلى ... مباكراً روضه الغمام ... سقى بنجد ربا المصلى تبسم الزهر فى الكمام ... والروض بالحسن قد تجلى ... وجرد النهر عن حسام ودوحها ظله ظليل ... يحسن فى ربعه المقبل والبرق والجو مستطيل ... يلعب بالصارم الصقيل عقيلة تاجها السبيكة ... تطل بالمركب المنيف ... كأنها فوقه مليكة كرسيها جنة العريف ... تطلع من عسجد سبيكة ... شموسها كلما تطيف أبدعك الخالق الجميل ... يا منظراً كله جميل قلبى إلى حسنه يميل ... وقلبنا قد صبا جميل (¬1). ونكتفى بما تقدم فى الاقتباس من شعر الوزير ابن زمرك. ويلوح لنا أنه قد يتفوق فى شاعريته على أستاذه ابن الخطيب، وأن إنتاجه الشعرى ولاسيما فى الموشحات قد يتفوق على إنتاج أستاذه، على أنه لا ريب أنه يقصر عن مجاراة ابن الخطيب، فى كثير من نواحى التفكير والإنتاج الأخرى. ... وظهر من أعلام تلك المدرسة الزاهرة، إلى جانب ابن الخطيب وابن زمرك، عدة آخرون من الشعراء والكتاب، منهم أبو سعيد فرج بن لب؛ ولد سنة 701 هـ وتوفى سنة 782 هـ (1380 م)، وكان من أشهر أساتذة المدرسة النصرية (جامعة غرناطة)، وقد ولى خطابة الجامع الأعظم حيناً، وكان فوق تضلعه فى الفقه شاعراً مجيداً، وقد ترك لنا مجموعة من الفتاوى المشهورة، وطائفة من الشعر الجيد، ومن نظمه قوله: ¬_______ (¬1) راجع ترجمة ابن زمرك وهى التى نقلها المقرى عن ابن الأحمر، فى نفح الطيب ج 4 ص 87 وما بعدها، وقد نقل إلينا المقرى كثيراً من قصائده وشعره (ج 4 ص 296 - 354)

خذوا للهوى من قلبى اليوم ما أبقى ... فما زال قلبى كله للهوى رقا دعوا القلب فى لظى الوجد ناره ... فنار الهوى الكبرى وقلبى هو الأشقى سلوا اليوم أهل الوجد ماذا به لقوا ... فكل الذى يلقون بعض الذى ألقى فإن كان عبد يسأل العتق سيداً ... فلا تبغى من مالكى فى الهوى عتقا (¬1). ومنهم القاضى أبو محمد بن عطية بن يحيى المحاربى كاتب الإنشاء، وكان بارعاً فى النظم والنثر وخطيباً مفوهاً، أصله من وادى آش وبها ولد سنة 709 هـ، وتولى القضاء بها. ووفد على غرناطة سنة 756 هـ ودرس على ابن الخطيب وغيره من أكابر الشيوخ، وتولى الكتابة السلطانية حيناً. ومن شعره قوله: ألا أيها الليل البطىء الكواكب ... متى ينجلى صبح بليل المآرب وحتى متى أرعى النجوم مراقباً ... فمن طالع منها على إثر غارب أحدث نفسى أن أرى الركب سائراً ... وذنبى يقصينى بأقصى المغارب فلا فزت من نيل الأمانى بطائل ... ولا قمت فى حق الحبيب بواجب (¬2) ومنهم الأمير الأديب أبو الوليد اسماعيل بن يوسف بو محمد بن الأمير الرئيس أبى سعيد فرج أمير مالقة المعروف بالأمير ابن الأحمر، قد سبقت الإشارة إليه. وكان أديباً ضليعاً، وقد تناول فى كتابه "نثير فرائد الجمان فى نظم فحول الزمان" (¬3)، أكابر الكتاب والشعراء فى القرن الثامن الهجرى، وأفاض بنوع خاص فى ذكر ابن الخطيب وتلميذه ابن زمرك، ونقل عنه المقرى فى كتابيه نفح الطيب وأزهار الرياض، معظم ما كتب عن أدباء عصره، ونقل عنه بالأخص كثيراً مما كتبه عن ابن زمرك حسبما بينا فى موضعه، وللأمير ابن الأحمر كتاب آخر عنوانه "نثير الجمان فى شعر من نظمنى وإياه الزمان" يحتوى على اثنتى عشر بابا، يتحدث فيها عن شعر ملوك بنى الأحمر، وشعر ملوك بنى حفص، وبنى مرين، وبنى عبد الواد، وعن شعر وزراء الأندلس وقضاتها وكتابها، وكتاب وقضاة المغرب فى عصره (¬4). ولمع الأمير ابن الأحمر ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 3 ص 267 و 268. (¬2) نفح الطيب ج 4 ص 362 - 365. (¬3) وتوجد منه نسخة بدار الكتب المصرية تحفظ برقم 7913 أدب. (¬4) وتوجد منه نسخة وحيدة مخطوطة بدار الكتب المصرية ناقصة الأول وتحفظ برقم 1863 آداب اللغة العربية

فى أواخر القرن الثامن، وتوفى سنة 807 هـ (1404 م) (¬1). ومنهم أبو عبد الله الشريشى تلميذ ابن الخطيب ومساعده (أمينه)، وكان مؤدباً لأبناء السلطان، وهو الذى تولى نقل كتاب الإحاطة لابن الخطيب من مسوداته، بتكليف منه لاشتغاله بشئون الوزارة، فجاء فى ستة مجلدات، وكان الشريشى فى الوقت نفسه من علماء القرآن والسنة (¬2). ونستطيع أن نذكر إلى جانب هذه الجمهرة الممتازة من الشعراء والأدباء، عدة من الفقهاء والمؤرخين، منهم ابن فرحون برهان الدين ابراهيم بن على اليعمرى الأندلسى المتوفى سنة 799 هـ (1397 م)، وكان فقيهاً ومؤرخاً، ومن أشهر مؤلفاته كتاب "الديباج المذهب فى معرفة علماء أعيان المذهب"، وهو تراجم طبقات المالكية. وقد طبع مراراً بالمغرب ومصر، وكتاب "طبقات علماء العرب" ومنه نسخة بالإسكوريال (¬3). ومنهم أبو الحسن على بن عبد الله بن محمد الجذامى المالقى النباهى، ولد بمالقة سنة 713 هـ ودرس على أشياخها. ثم وفد على غرناطة، وتولى القضاء، ثم عين كاتباً بالديوان. وانتهى إلى ولاية قضاء الجماعة وغرناطة. ونشبت بينه وبين ابن الخطيب خصومة شديدة، وتبادلا الطعن والهجاء اللاذع فى عدة رسائل ومقالات، ولما نكب ابن الخطيب وغادر الأندلس، كان النباهى فى مقدمة متهميه بالكفر والزندقة والساعين إلى هلاكه حسبما قدمنا. وتوفى فى أواخر القرن الثامن. ومن آثاره الباقية كتاب يسمى "بالإكليل فى تفضيل النخيل" وهو كتاب أدبى وضعه مؤلفه على لسان نخلة وكرمة. ويعرف أحياناً "بنزهة البصائر" وهو العنوان الذى تحمله نسخته الخطية الموجودة بمكتبة الإسكوريال. وقد وردت به نبذة حسنة عن تاريخ الدولة النصرية حتى عصر المؤلف (¬4). وكتاب "المرقبة العليا فيمن يستحق ¬_______ (¬1) وللأمير ابن الأحمر أيضاً كتاب فى تاريخ بنى مرين عنوانه "النفحة النسرينية واللمحة المرينية" وهو كتاب صغير الحجم ومنه نسخة مخطوطة بالإسكوريال (رقم 1769 الغزيرى). (¬2) نفح الطيب ج 4 ص 757. (¬3) راجع نفح الطيب ج 3 ص 298 و 299؛ وبروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 263. (¬4) تحفظ هذه النسخة بمكتبة الإسكوريال برقم 1653 الغزيرى. وهى قديمة وتحمل تاريخاً لقراءتها هو سنة 781 هـ (1379 م). وتوجد منه نسخة خطية أخرى بخزانة الرباط

القضاء والفتيا" وهو تاريخ لقضاء الأندلس (¬1). ومنهم الفقيه أبو القاسم بن سلمون الكنانى الغرناطى قاضى الجماعة بغرناطة المتوفى سنة 767 هـ (1365 م)، ومن آثاره كتاب "العقد المنظم للحكام فيما يجرى بين أيديهم من الوثائق والأحكام (¬2)؛ وأبو عبد الله محمد بن على بن إسحق الرندى المتوفى سنة 792 هـ (1389 م)، وكان من أقطاب التصوف، وقد كتب كتاب "الرسائل الكبرى" و "غاية المواهب العلية بشرح الحكم العطائية" (¬3). وأما فى ميدان العلوم فلم نعثر على ما يدل على ازدهارها فى تلك الفترة؛ على أننا نستطيع أن نذكر أن ابن الخطيب كان إلى جانب أدبه الممتاز، عالماً بالطب والفلسفة، وكان من تلاميذه الطبيب العالم ابن المهنا شارح ألفية ابن سينا، وشرحه عليها من أقيم الشروح (¬4). ¬_______ (¬1) وقد قام على نشره الأستاذ ليفى بروفنسال، ونشره بعنوان "تاريخ قضاة الأندلس". (القاهرة سنة 1948). وراجع فى ترجمة النباهى الكتاب المشار إليه (المقدمة)، وأزهار الرياض ج 2 ص 5 - 7. وراجع بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 262. (¬2) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 264. (¬3) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 265. (¬4) راجع نفح الطيب ج 4 ص 756

الفصل الرابع العصر الأخير والآثار الباقية

الفصل الرابع العصر الأخير والآثار الباقية ركود الحركة الفكرية. الشعراء الذين ظهروا فى هذا العصر. القاضى أبو بكر بن عاصم. ولده أبو يحيى. بعض الكتاب والأدباء. الشريف العقيلى وزير أبى عبد الله. ما حدث بعد سقوط غرناطة. القضاء على اللغة العربية. الألخميادو لغة الموريسكيين السرية. كتاب الألخميادو. الأدب الموريسكى وخصائصه. نماذج من تراث الألخميادو. الشهاب الحجرى وابن غانم. محاولة اسبانيا القضاء على تراث الأندلس. إيداع الكتب العربية الباقية بقصر الإسكوريال. المجموعة العربية فى الإسكوريال. حجبها عن أعين الباحثين. معجم الغزيرى. انتفاع البحث الحديث بالآثار الأندلسية. الفن فى الأندلس. تطوره منذ القرن الرابع الهجرى. ازدهاره أيام الناصر وابنه المستنصر. تقدمه أيام الطوائف. ركوده أيام المرابطين والموحدين. الفن فى مملكة غرناطة. الموسيقى الأندلسية. الآثار الأندلسية الباقية. بدأت مملكة غرناطة منذ أوائل القرن التاسع الهجرى تستقبل عصرها الأخير، وأخذ الاستقرار، والسلم النسبى الذى تمتعت به حيناً فى أواخر القرن الثامن، وأوائل القرن التاسع، يتصرم شيئاً فشيئاً، وأخذت من ذلك الحين تواجه طائفة من الثورات والانقلابات الداخلية المتوالية، وتواجه فى الوقت نفسه طوالع الصراع الأخير بينها وبين اسبانيا النصرانية، التى أخذت منذ منتصف القرن التاسع (القرن الخامس عشر الميلادى) توثق أواصر اتحادها، وتستجمع قواها لإنزال ضربتها الأخيرة بعدوتها القديمة التالدة اسبانيا المسلمة. وما كانت الحركة الفكرية لتزدهر فى مثل هذا الأفق الكدر، ولذا نجد فى هذا العصر فراغاً ملحوظاً فى ميادين التفكير والأدب فى الأندلس المحتضرة، ولا نعثر إلا بقلة من المفكرين والأدباء الذين ظهروا فى تلك الفترة متفرقين متباعدين. وكان ممن ظهر فى ميدان التفكير والأدب فى تلك الفترة على بن عاصم شاعر السلطان يوسف الثانى وقد جمع له مجموعة شعرية فى سنة 793 هـ (1391 م) (¬1). والقاضى أبو بكر محمد بن عاصم القيسى الغرناطى، وقد كان أعظم شخصية. ¬_______ (¬1) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 259

ظهرت فى هذا الميدان فى مملكة غرناطة فى أوائل القرن التاسع الهجرى. ولد بغرناطة سنة 760 هـ (1358 م) وتوفى بها سنة 839 هـ (1426 م)، وبرع فى النحو والمنطق والبيان والفقه، وتولى الوزارة للسلطان يوسف الثانى سنة 793 هـ (1391 م) ثم ولى قضاء الجماعة بغرناطة، وبرز فى النثر والنظم، ووضع عدة قصائد وأراجيز، تناول فيها بعض مسائل من علم الأصول، والقراءات والفرائض والنحو وغيرها. وله كتاب "تحفة الأحكام فى نقط العقود والأحكام". وهو مختصر فى الفقه، وقد طبع بمصر وترجم إلى الفرنسية. وله أيضاً كتاب "حدائق الأزهار فى مستحسن الأجوبة والمضحكات والحكم والأمثال والحكايات والنوادر " كتبه للسلطان يوسف. ويعرف بابن الخطيب الثانى لبراعته وجودة نثره ونظمه (¬1). وكذلك برع ولده العلامة الفقيه أبو يحيى بن عاصم فى النثر والنظم، وتولى كأبيه منصب الكتابة والوزارة، وكتب شرحاً على كتاب أبيه "تحفة الأحكام " وكتب رسالة فلسفية تاريخية عن أحوال غرناطة فى عصره، وما دهاها من آثار التفرق والفتنة، ووصف فيها أساليب السياسة الإسبانية، فى الكيد والتفريق بين المسلمين، أسماها "جنة الرضى فى التسليم لما قدر الله وقضى". ونقل إلينا منها المقرى فى أزهار الرياض نبذاً عديدة تشهد بمقدرة صاحبها، وعميق تفكيره ورائق أسلوبه (¬2). وأبو الحسن سلام بن عبد الله الباهلى الإشبيلى، وقد كتب سنة 839 (1425 م) كتاب "الذخائر والأعلاق فى أدب النفوس ومكارم الأخلاق" (¬3). ومنذ منتصف القرن التاسع الهجرى، تضمحل الحركة الفكرية فى مملكة غرناطة شيئاً فشيئاً. ولا غرو فقد كانت غرناطة تخوض فى تلك الفترة بالذات، مرحلة الصراع الأخير، وكانت الحرب الأهلية تمزق أوصالها، وخطر الفناء الداهم يبدو لها قوياً فى الأفق. بيد أن شعاعاً أخيراً كان يبدو فى تلك الظلمات المدلهمة. فنرى فى أواخر ¬_______ (¬1) راجع نفح الطيب ج 3 ص 8 و 9؛ وبروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 264. (¬2) راجع أزهار الرياض ج 1 ص 50 وما بعدها، وص 167 وما بعدها. وتوجد من هذه الرسالة نسخة خطية بالخزانة الملكية بالرباط. (¬3) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 259. وقد طبع الكتاب المشار إليه بالقاهرة سنة 1928

القرن التاسع، فى الوقت الذى كانت غرناطة تسلم فيه أنفاسها الأخيرة، عدة من المفكرين والأدباء الذين يستحقون الذكر والتنويه. وكان من هؤلاء القاضى أبو عبد الله محمد بن على بن محمد بن القاسم الأصبحى المعروف بابن الأزرق المتوفى سنة 895 هـ (1490 م)، أصله من وادى آش، وتولى قضاء الجماعة فى غرناطة. وكان بارعاً فى النثر والنظم والتاريخ. ومن آثاره كتاب فى السياسة الملكية عنوانه: "الإبريز المسبوك فى كيفية أدب الملوك " (سنة 838 هـ). وكتاب "بدائع السلك فى طبائع الملك" لخص فيه كثيراً من آراء ابن خلدون فى مسائل الرياسة والملك وعلق عليها، وأتى فى موضوعها بزيادات جديدة، وقسمه إلى أربعة كتب، الأول فى حقيقة الملك والخلافة وسائر أنواع الرياسة، والكتاب الثانى فى أركان الملك وقواعد مبناه ضرورة وكمالا، والثالث فيما يطالب به السلطان تيسيراً لأركان الملك وتأسيساً لقواعده، والرابع فى عوائق الملك وعوارضه (¬1). وله أيضاً كتاب "روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام". ولما ساءت الأحوال فى غرناطة وأشرفت على السقوط، عبر البحر إلى تلمسان، ثم ارتحل إلى المشرق، ونزل بالقاهرة فى عصر السلطان الأشرف قايتباى، واتصل به، وحاول أن يستحث همته لتسيير جيش إلى الأندلس لاسترداد غرناطة (¬2)؛ ومن شعره المؤثر حين نزل النصارى بمرج غرناطة: مشوق بخيمات الأحبة مولع ... تذكره نجد وتغريه لعلع مواضعكم يا لائمين على الهوى ... فلم يبق للسلوان فى القلب موضع ومن لى بقلب تتلظى فيه زفرة ... ومن لى بجفن تنهمى منه أدمع رويدك فارقب للطائف موقعاً ... وخل الذى من شره يتوقع وصبراً فإن الصبر خير تميمة ... ويا فوز من قد كان للصبر يرجع وبت واثقاً باللطف من خير راحم ... فألطافه من لمحة العين أسرع (¬3). ¬_______ (¬1) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 266؛ وأزهار الرياض ج 1 ص 71، وج 3 ص 318 و 319. وقد طبع كتاب الإبريز المسبوك بالجزائر. وتوجد من كتاب "بدائع السلك" نسختان خطيان فى خزانة الرباط (المكتبة الجلاوية)، إحداها قديمة كتبت فى سنة 998 هـ، والأخرى حديثة. (¬2) راجع نفح الطيب ج 2 ص 49 - 51. (¬3) أزهار الرياض ج 3 ص 318، و 319

ومنهم أبو عبد الله محمد بن أحمد الحداد الشهير بالوادى آشى، وهو أيضاً من أهل وادى آش، وكان أديباً بارعاً وله تعليقات كثيرة على أدباء عصره، وقد غادر غرناطة قبيل سقوطها بقليل ونزل بتلمسان (¬1). وأبو الحسن على بن محمد القرشى البسطى، وقد ولد فى بسطة ودرس فى غرناطة وتلمسان وتونس، ورحل إلى المشرق وأدى فريضة الحج، ثم استقر بعد عوده فى غرناطة. ولما اشتد ضغط النصارى على غرناطة عبر البحر إلى تلمسان، وعاش هناك حيناً حتى توفى سنة 891 هـ (1486 م). وقد برع البسطى فى الرياضيات ووضع كتباً فى الحساب والجبر (¬2). وأبو الحسن على بن قاسم بن محمد التجيبى الزقاق، وقد درس فى غرناطة وفاس وتولى الخطابة فى غرناطة. ولما سقطت غرناطة فى يد النصارى، عبر البحر إلى المغرب، وتوفى سنة 912 هـ (1506 م). ومن آثاره كتاب "المنهج المنتخب إلى أصول المذهب" فى الفقه المالكى (¬3). ومن أواخر الشعراء الذين ظهروا فى هذه الفترة، فترة الانهيار الأخيرة، شاعر من نوع خاص، هو عبد الكريم بن محمد بن عبد الكريم القيسى. وقد ترك لنا ديوانا، يضم قصائد عديدة تشير إلى بعض أحداث العصر مثل سقوط جبل طارق وحصار مالقة وسقوط أرشدونة وبلش وغيرهما من قواعد مملكة غرناطة؛ ويستدل من بعض إشاراته إلى أنه قضى ردحا من الزمن فى أسر القشتاليين؛ وهو يعترف لنا فى مقدمة ديوانه بأن شعره "منحط من الدرجة المتوسطة"، ولكنه مع ذلك مغتبط بنظمه وإنشاده. والظاهر أن عبد الكريم القيسى قد عاش حتى سقوط غرناطة أو قبله بقليل، إذ يضم ديوانه قصيدة فى رثاء ابن الأزرق، وهو قد توفى فى سنة 895 هـ، والديوان فى جملته يلقى أضواء كثيرة على أحداث الصراع الأخير الذى انتهى بسقوط غرناطة، وتشير قصائده إلى كثير من شخصيات العصر من قادة، وكتاب، وقضاة وغيرهم (¬4). ¬_______ (¬1) راجع أزهار الرياض ج 1 ص 55 و 71. (¬2) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 266. (¬3) بروكلمان، المصدر السابق ج 2 ص 265. (¬4) توجد نسخة مخطوطة من هذا الديوان بخزانة الرباط رقم 198 ق (مخطوطات الأوقاف)، وهو يقع فى 153 صفحة من القطع المتوسط

ومن نظم عبد الكريم المذكور قوله: خليلى ما مثلى يقوم ذليلا ... ويحمل من ضيم الزمان ثقيلا ويرضى بعيش يدال ببسطة ... يحدد من خطب الهموم جليلا فلا تعذل فى رحيلى عنكما ... فإنى لما أنعى عزمت رحيلا وقوله حينما اتصل به خبر سقوط جبل طارق فى يد الاسبان: أوارى أوارى القلب مع شدة ... اللفح فتبكه عين دمعها داهم السفح وأخفى الذى ألقى من الحزن والأسى ... وظاهر حالى الدهر يؤذن بالصفح وأبدى من التقطب للفتح حالة تسوء صديقى فى مساء وفى صبح على أن أعظم شخصية ظهرت فى تلك الفترة القاتمة فى ميدان التفكير والأدب هى شخصية الوزير والكاتب الشاعر أبى عبد الله محمد بن عبد الله العربى المعروف بالشريف العقيلى، وزير أبى عبد الله محمد آخر ملوك الأندلس وكاتبه. وكان فوق تضلعه فى الفقه، إمام عصره فى النثر والنظم، وقد وصفه الوادى آشى بأنه "شاعر العصر، مالك زمامى النظم والنثر" وبأنه "إمام هذه الصناعة، وفارس حلبة القرطاس والبراعة، وواسطة عقد البلاغة والبراعة". ووصفه أيضاً بحق بأنه خاتمة أدباء الأندلس. ومن شعره يمدح السلطان أبا عبد الله حينما ولاه منصب الكتابة قوله: أوجه سعدى انحط عنه اللثام ... أم بدر أفقى فض عنه الغمام كأنما أقبس نور البها مـ ... ـن وجه مولانا الإمام الهمام ابن أبى الحسن الأسرى الذى ... قد كان للأملاك مسك الختام ضرغام قد أنجب شهباً له ... فى صدق بأس ومضاء اعتزام دام له النصر الذى جاءه ... والسيف من طلى أعاديه دام ومنه قوله حينما نزل النصارى بمرج غرناطة: بالطبل فى كل يوم ... وبالنفير نراع وليس من بعد هذا ... وذاك إلا القراع يا رب خيرك يرجو ... من هيض منه الذراع لا تسلبنى صبرا .. منه لقلبى ادراع

التى كتبها على لسان السلطان أبى عبد الله إلى سلطان المغرب، وعنوانها "الروض العاطر الأنفاس فى التوسل إلى المولى الإمام سلطان فاس" (¬1). ومهد لها بعد الديباجة بقصيدته الرائعة التى مطلعها: مولى الملوك ملوك العرب والعجم ... رعيا لما مثله يرعى من الذمم بك استجرنا ونعم الجار أنت لمن ... جار الزمان عليه جور منتقم وقد سبق أن أتينا على ذكر هذه الرسالة المؤثرة الفريدة، فى موضعها، وأوردنا طرفاً من قصيدة العقيلى، ومن أقواله التى يخاطب بها السلطان أبو عبد الله سلطان فاس مستجيراً به، ملتجئاً إلى حمايته، ومعتذراً إليه عما بدر منه. وعبر البحر إلى المغرب قبيل سقوط غرناطة وبعده جمهرة من العلماء والأدباء، هم البقية الباقية من مجتمع الأندلس الفكرى (¬2). وقد آثروا مغادرة الوطن القديم على التعرض لفقد الحرية، وامتهان الدين والكرامة القومية، ومذلة العبودية، فى ظل حكم يضطرم نحو الأمة المغلوبة بغضاً وتعصباً. - 2 - وكان سقوط غرناطة فى يد اسبانيا النصرانية فى سنة 897 هـ (1492 م)، نذيراً بانهيار صرح الأمة الأندلسية القومى والاجتماعى، وتبدد تراثها الفكرى والأدبى، وكانت اسبانيا النصرانية ترمى قبل كل شىء، إلى القضاء على خواص الأمة المغلوبة الدينية والفكرية، وعلى سائر الروابط الأدبية التى تربطها بماضيها المجيد؛ وقد نجحت السياسة الإسبانية، يدعمها طغيان الكنيسة وعسف ديوان التحقيق، فى تحقيق هذه الغاية إلى أبعد حد، فلم يمض على سقوط غرناطة نحو خمسين عاماً، حتى استحالت بقية الأمة الأندلسية إلى شعب جديد، يستبدل دينه القديم -الإسلام- بالنصرانية المفروضة، ويتكلم القشتالية، وتغيض البقية الباقية من خصائصه القديمة، شيئاً فشيئاً، تحت ضغط التشريعات والإجراءات التعسفية المرهقة. وكانت الأمة الأندلسية خلال هذا الإستشهاد المحزن، الذى فُرض عليها، تحاول بكل وسيلة أن تستبقى ما وسعت، من تراثها الفكرى والروحى القديم، فكان الموريكسيون بالرغم من دخولهم فى النصرانية، يتعلقون سراً بدينهم القديم، وكثير منهم يؤدون شعائر الإسلام خفية، وديوان التحقيق من ورائهم يطاردهم ¬_______ (¬1) نشر المقرى هذه الرسالة بأكملها فى نفح الطيب ج 1 ص 617 - 628؛ وفى أزهار الرياض ج 1 ص 72 - 102. (¬2) راجع أزهار الرياض ج 1 ص 71

بمنتهى القسوة حسبما فصلنا فى موضعه. وكانوا يحافظون جهدهم على لغتهم العربية. ولكن السياسة الإسبانية المرهقة، فطنت منذ الساعة الأولى إلى أهمية اللغة فى تدعيم الروح القومية، فعولت على سحق العربية وكل آثارها، وصدر منذ أيام الإمبراطور شارلكان فى سنة 1526، أول قانون لتحريم التخاطب بالعربية على الموريسكيين، ولكنه لم يطبق بشدة. وكانت العربية ما تزال حتى ذلك الوقت لغة لأدب يحتضر، وكانت ما تزال لغة التعاقد والتعامل، لا فى أنحاء مملكة غرناطة القديمة وحدها، ولكن أيضاً فى مجتمعات المدجنين القاصية فى أراجون حسبما تدل عليه وثائق عثرنا عليها (¬1). وكان يوجد ثمة بين الموريسكيين من ينظم بها الشعر. وقد أشرنا فيما تقدم إلى القصيدة التى أرسلها الموريسكيون إلى السلطان بايزيد الثانى يلتمسون فيها النجدة والغوث، وهى قصيدة تنم بالرغم من ركاكتها عن روح شعرية مؤثرة. واستمر الموريسكيون عصراً آخر يوجهون رسائلهم العربية إلى مسلمى المغرب. وكانت السياسة الإسبانية تضيق ذرعاً بالعربية، وتزداد منها توجساً. فعادت فى عهد فيليب الثانى لتتخذ خطوتها الحاسمة فى القضاء عليها. وصدر فى سنة 1566 قانون جديد صارم يحرم على الموريسكيين التخاطب بالعربية أو التعامل بها على نحو ما فصلنا، وطبق القانون بمنتهى الشدة. وكانت العربية قد أخذت تغيض شيئاً فشيئاً فى غمر العسف والاضطهاد، فجاء القانون الجديد ضربة قاضية لمظاهرها ْالباقية. وفى هذ الوقت بالذات نشهد نفثات العربية الأخيرة لدى الموريسكيين فى بعض قصائدهم السرية الثورية. وفى لغة الخطاب الذى نشرناه فيما تقدم لمولاى عبد الله آخر زعماء الثورة الموريسكية ما يوضح لنا مدى الانحلال الذى انتهت إليه اللغة العربية فى ذلك العصر. ولم تمض فترة قصيرة على تطبيق القانون الجديد بتحريم العربية نهائياً، وفرض القشتالية كلغة للتخاطب والتعامل على الموريسكيين، حتى اختفت المظاهر والآثار الأخيرة للعربية. ومع ذلك فقد وجد الموريسكيون فى قشتالة ذاتها متنفس تفكيرهم وأدبهم القديم، فكانوا يكتبون القشتالية سراً بأحرف عربية، وأسفر ذلك بمضى ¬_______ (¬1) ومن ذلك وثيقة زواج بالعربية مؤرخة يوم الأحد 17 يوليه الموافق 10 رمضان سنة 928 هـ (1522 م) بين "الشب الكريم محمد خشان وبين المقدم القاضى ابراهم ذاعمر فى الشيبة الكريمة فاطمة بنت على سانته من ربض مسلمى من مدينة قلعة أيوب"، وهى بخط عربى ردىء (مكتبة مدريد الوطنية مجموعة الألخميادو رقم 4968 وثيقة نمرة 9)

الزمن عن خلق لغة جديدة اشتقت أصلا من القشتالية لغتهم المفروضة، واختلطت بها ألفاظ عربية وأعجمية مختلفة من اللهجات المعاصرة والقديمة، ولاسيما اللغة الرومانية. وكانت هذه اللغة الرومانية Lengua Romanica لغة المستعربين أيام الدولة الإسلامية، وكانت معروفة ذائعة فى قرطبة وغيرها من الحواضر الأندلسية التى تقيم بها طوائف كبيرة من النصارى المستعربين، وكان يتكلم بها بعض أكابر الصقالبة فى البلاط، ويعرفها بعض العلماء المسلمين. وكان المسلمون الأندلسيون، يستعملون أحياناً بعض عبارات من هذه اللغة الرومانية، ولاسيما فى الكتابات العلمية، ويسمونها فى كتبهم "باللطينية"، (أعنى اللاتينية)، وقد تسرب منها بمضى الزمن كثير من الألفاظ فى الزجل الأندلسى، ولاسيما زجل ابن قزمان. وفى مملكة غرناطة، كانت اللغة العربية الشعبية، يتسرب إليها كثير من الألفاظ الرومانية والقشتالية (¬1)، وهذه هى التى تسربت بالأخص فيما بعد إلى لغة الموريسكيين السرية، التى لجأوا إلى ابتكارها حينما حرمت عليهم لغتهم الأصلية، واحتفظوا لها بالأحرف العربية. وتعرف هذه اللغة التى اتخذها الموريسكيون بالأخص متنفساً لدينهم القديم "بالألخميادو" Aljamiado، وهو تحريف اسبانى لكلمة "الأعجمية"، وقد لبثت زهاء قرنين سراً مطموراً حتى ظفر بعض العلماء الإسبان بمجموعة من مخطوطاتها فى أوائل القرن الماضى، وعندئذ ظهرت عنها المعلومات الأولى. ويقول العلامة مننديث إى بلايو فى تعريفها، بأنها هى اللغة الرومانية القشتالية Romana Castelaa تكتب بأحرف عربية. ويقول المستشرق سافدرا فى تعليل قيامها " إن الطابع الدينى الذى كان يفصل بين الموريسكيين وباقى الإسبان يطغى على إنتاجهم الأدبى، وكأنما هو قرين طبيعى للمنتجات العربية، فهم لكى يحتفظوا بجذوة حية من العقيدة المحمدية، كتب العلماء والفقهاء كتباً "عما يجب أن يعتقده وأن يحفظه كل مسلم حسن الإيمان" عن صفات الله، وعن بعض المسائل الفقهية، وفقاً لمذهب مالك، وكتبوا عن التاريخ المقدس، والقصص الدينى، وتعبير الرؤيا وغير ذلك" (¬2). ¬_______ (¬1) R. Menéndez Pidal: Origines del Espanol p. 418, 429 & 431 (¬2) E. Saavedra: Discurso leido ante la Real Academia Espanola (Madrid 1878)

وهكذا كتب الموريكسيون القرآن سراً باللغة العربية، مقروناً بشروح وتراجم ألخميادية، وكتبوا سيرة الرسول والمدائح النبوية، وقصص الأنبياء، وبعض كتب الفقه والحديث بالألخميادو -وهو رسم لغتهم العزيزة-، مع كتابة البسملة والآيات القرآنية دائماً خلال هذه النصوص السرية باللغة العربية، ويلاحظ أن معظم كتب الألخميادو المذكورة تكتب بالشكل الكامل، حتى يمكن قراءتها بطريقة صحيحة. واستعمل الموريسكيون الألخميادو فى أدبهم، وفى التعبير عن أفكارهم ومُثلهم فى النثر والنظم. ومن أشهر شعرائهم محمد ربدان Rabadan أو الراعى وقد كان حياً فى أوائل القرن السابع عشر، وأصله من روطة خالون من أراجون. وله نظم كثير، وقصائد قصصية، وأخرى دينية. ومن آثاره فى القصص الدينى كتاب عن "هول يوم الحساب" و "قصة النبى منذ بدء الخليقة" وأغنيات دينية، وأسماء الله الحسنى، وكلها بالنظم. وشعره يمتاز بالجزالة والسهولة. ومن شعراء الموريسكيين أيضاً ابراهيم دى بلفاد، وخوان ألفونسو، ومنهم الشاعر محمد الخرطوشى، وقد كان من أهل بيانة، ومنهم أخيراً شاعر موريسكى مجهول، عاش فى تونس فى أوائل القرن السابع عشر بعد النفى، واشتهر بنقده لمسرحيات "لوبى دى فيجا" شاعر اسبانيا الأكبر. ومن أشهر كتاب الألخميادو الكاتب الفقيه المسمى "فتى أبيرالو" El Mancebo de Avéralo، وهو مؤلف لكتب فى التفسير، وتلخيص السنة؛ وقد طاف بمعظم أنحاء اسبانيا، وشهد مصائب قومه ووصفها، وتلقى العلوم الإسلامية القديمة عن عالمتين بارعتين فى الشريعة هما "مسلمة أبده" La Mora de Ubéda، و "مسلمة آبلة" La Mora de Avila، وألف كذلك فى القصص الدينى. وعنى الموريسكيون بنوع خاص بكتابة القصص وترجمته، ومن آثارهم المعروفة فى ذلك كتاب "حديث القصر الذهبى" Alhadiz de Alcazar del Oro وكتاب الحروب، و "حديث على والأربعين جارية"، بيد أن أعظم كتبهم القصصية الحماسية هو كتاب "قصة الإسكندر ذى القرنين"، والتنويه ببطولة الإسكندر يرجع إلى شخصيته، ولأنه ذكر فى القرآن، وأنه بعث لكى يحارب ملوك الأرض ويحطم الأصنام ويقتل عبادها. ومن أشهر كتب الموريسكيين الألخميادية، كتب المدائح النبوية والأدعية،

الصفحتان الأوليان من كتاب فى "الأدعية النبوية" مكتوب بالألخميادو، وفى نهايته بالعربية الركيكة أنه كتب سنة 997 هـ (1579 م)، ومحفوظ بمكتبة مدريد الوطنية رقم 5306

والواقع أن كتابة المدائح النبوية باللغة القشتالية ترجع إلى عصر مبكر، وقد كتبها المدجنون بهذه اللغة منذ القرن الثالث عشر، وانتشرت بعد ذلك بين طوائف المدجنين فى مختلف مدن قشتالة وأراجون. ثم كتبها الموريسكيون بالألخميادو أو القشتالية العربية. والظاهرة الواضحة فى الأدب الموريسكى، هو أن كُتاب الألخميادو كانوا يفكرون ويكتبون بالروح العربية، وإن كان تعبيرهم عن ذلك يجرى بالقشتالية، وأنهم كانوا يتأثرون فى الأسلوب بلهجات مقاطعاتهم المختلفة، أكثر من تأثرهم بقواعد اللغة. ويرى النقدة أن نثر كتاب الألخميادو أفضل من نظمهم، وأنه نثر مطبوع خال من التكلف، ومن الملحوظ فيه بنوع خاص تسرب الألفاظ العربية الصحيحة إليه من آن لآخر، والأدب الموريسكى لا يتجه إلى مراعاة الرونق والتنميق، ولكنه يرمى قبل كل شىء إلى تصوير التاريخ والتقاليد القومية فى إطار دينى. وبالرغم مما يغلب عليه من الضعف والركاكة بصفة عامة، فإنه يصل أحياناً إلى مرتبة الطلاوة، بل يصل أحياناً إلى مرتبة البلاغة. وأفضل مثل لذلك شعر ريدان (¬1). كما يرى البعض، أنه وإن لم تكن للأدب الموريسكى ثروة من الجمال أو قيمة أدبية ذات شأن، فإن له قيمة تاريخية واجتماعية هامة، فى الكشف عن التقاليد والعادات، وأنه قد ترك أثره فى اللغة الإسبانية، وفى الشعر الإسبانى، وفى الأفكار الدينية وغيرها. بل وقد نوه غير واحد من الكتاب الإسبان، بما كان عليه الأدب الموريسكى بالرغم من ضعفه وضآلة شأنه، من شاعرية، وشعور بالجمال، وخيال ممتع، وذوق سليم. ويعلق الدون برونات على اختفاء الموريسكيين واختفاء أدبهم بعبارات شعرية يقول فيها: "إن السياسة الإسبانية لم تكتف بنفى الموريسكيين، وما ترتب عليه من نضوب حقولنا ومصانعنا وخزائننا، ولم يقتصر الأمر على انتصار التعصب، وبربرية ديوان التحقيق، بل تعداه إلى اختفاء الشعر، وشعور الجمال الموريسكى، والأدب السليم الذى رفع سمعة تاريخنا". ¬_______ (¬1) راجع: Menéndez y Pelayo: Historia de los Heterodoxes Espanoles p. 345 - 349، وكذلك E. Saavedra: ibid. وراجع الموسوعة الإسبانية العامة تحت كلمة Aljamia

صفحتان من كتاب فى التفسير مكتوب بالألخميادو ومحفوظ بمكتبة مدريد الوطنية برقم 5252

ثم يقول: "إنه اختفى وطرد الموريسكيين، الأدب المعطر، والشاعرية الشعبية، والخيال الممتع، ومصدر الوحى الذى كانوا يمثلونه. وقد غاض باختفائهم من شعرنا هذا التلوين والفن والحيوية والإلهام والحماسة، التى كانت من خواصهم، وحل محلها الظلام فى الأفق الأدبى خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر" (¬1). وقد اطلعنا خلال إقامتنا بمدريد على كثير من الكتب والوثائق الألخميادية ولاسيما فى المكتبة الوطنية التى تحتفظ منها بطائفة كبيرة، ومنها كتب صلوات وأدعية وفقه، ومعظمها يفتتح بالبسملة والصلاة على النبى، وقد لفت نظرنا بالأخص مخطوط منها، وهو كتاب فى الصلاة والأدعية، تدل عبارته الاختتامية على أن اللغة العربية كانت ما تزال بالرغم من تحريمها ومطاردتها، تدرس وتكتب سراً حتى أواخر القرن السادس عشر، وإليك نص العبارة المذكورة: "أفرغ للعبد من الله تعالى المعترف بذنبه الراجى غفران ذنبه، على بن محمد بن محمد شُكار من بلاد مزماذيانتى اليوم الآخر من جمادى الثانى يوما أربعة ولعشرين من شهر ماروس من يوم من ثلث منه عام ثمانية وتسعين تسع مائة من الحجرة النبى صلى الله عليه وسلم. ولعددا من المسيح منه عام وتسع وثمانين ألف وخمسمائة آمين آمين يا رب العالمين. تمت بحمد الله وحسن عونه وكان الفراغة ثم صلاة العصر" (¬2). واطلعنا كذلك على عدة من كتب الأدب الموريسكى، ومنها قطعة مخطوطة من كتاب يوسم بأنه "قصيدة يوسف"، وهو كتاب شعرى عن حياة يوسف لمؤلف مجهول (¬3). وهناك أيضاً طائفة من الكتب الدينية، ومنها كتب فى السيرة النبوية والتفسير والحديث والصلوات، وعدد كبير من الوثائق الموريسكية المختلفة، وكثير منها يفتتح بالبسملة ويتخللها، اسم الله والصلاة على رسوله. ¬_______ (¬1) D. Pascual Boronat: Los Moriscos Espanoles y su Expulsion. p. 384, 386 & 389 (¬2) يحفظ هذا المخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد برقم 5306 بفهرس المخطوطات العربية. (¬3) يحفظ هذا المخطوط بالمكتبة الوطنية برقم R. 247. وتوجد من هذا الأثر الموريسكى أيضاً قطعة مخطوطة بمكتبة أكاديمية التاريخ بمجموعة جاينجوس، وقد وضع العلامة المؤرخ الأستاذ مننديث بيدال عن هذا المؤلف كتاباً نقدياً نشر فيه النص الألخميادى مقروناً بتخريج اسبانى بعنوان: La Poema de Yuçuf (Granada 1952)

على أن هذه الآثار الدينية التى حاول الموريسكيون أن يدونوا فيها تعاليم الإسلام وسيرة النبى، تحتوى فى أحيان كثيرة على بعض التعاليم النصرانية، تمتزج بتعاليم الإسلام، وتعرض فيها المثل الإسلامية أحياناً فى صور المثل النصرانية، وقد يصور النبى العربى من بعض النواحى فى صور المسيح. ويرجع هذا المزيج الغريب إلى ظروف العصر، وإلى ضغط المطاردة الدينية التى لبث الموريسكيون تحت روعها، وإلى رهبة محاكم التحقيق التى استمرت فى عسفها ومطارداتها الدموية. بيد أن الآثار الدينية التى خلفها الموريسكيون تنم فى معظمها عن بغضهم للنصرانية ومثلها وتقاليدها، مما يدل على أن تسرب التعاليم النصرانية إلى كتبهم لم يكن سوى نتيجة لظروف العصر التى باعدت قسراً بينهم وبين تعاليم دينهم الحقيقية. وقد وجدت فى أواخر القرن السادس عشر بدير ساكرومونتى القريب من غرناطة، ألواح من الرصاص عليها كتابات دينية باللاتينية والعربية، تتحدث عن حياة المسيح والرسل ومريم، وعن الإسلام وبعض قواعده، وتمزج فيها التعاليم الإسلامية بالتعاليم المسيحية. وقد رأى بعض الباحثين أن هذه الألواح كتبها الموريسكيون، وفيها يحاول علماؤهم أن يجدوا حلا وسطاً للتوفيق بين الدينين، وأن يصنعوا مزيجاً معقولا من العقيدتين. وقد حملت هذه الألواح فيما بعد إلى رومة، وترجم قسمها اللاتينى، ثم حكم بأنها أوهام وخرافات وضعت لمسخ الدين المسيحى وهدمه (¬1). هذا، ويوجد ثمة بعض الكتاب الموريسكيين، الذين استطاعوا أن يغادروا اسبانيا فى أواخر العهد الموريسكى، قبيل النفى بقليل، وأن يكتبوا بالعربية لغة آبائهم وأجدادهم، بعض الآثار التى انتهت إلينا، ولدينا من هؤلاء مثلان بارزان، الأول، هو باسمه الأندلسى، محمد بن عبد الرفيع الحسينى الأندلسى الذى سبقت الإشارة إليه، وقد هاجر قبل النفى إلى تونس، وترك لنا بالعربية كتابه "الأنوار النبوية فى آباء خير البرية"، وهو الذى اقتبسنا منه، ما كتبه فى خاتمته عن أحوال إخوانه الموريسكيين، وعن البواعث التى حملت اسبانيا على نفيهم (¬2). ¬_______ (¬1) Menéndez y Pelayo: Historia de los Heterodoxes Espanoles. p. 354 (¬2) وتوجد منه نسخة خطية بخزانة الرباط (المكتبة الكتانية رقم 1238)، ومذكور فى نهايته أنه تم تحريره بتونس فى سادس شعبان سنة 1044 هـ

والثانى هو حسبما يسمى نفسه باسمه الأندلسى، أحمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قاسم بن الشيخ الحجرى، ويعرف بالشهاب الحجرى، وكذلك بآفوقاى، وهو موريسكى من أحواز غرناطة، استطاع أن يغادر الأندلس فى سنة 1007 هـ (1598 م)، أعنى قبل النفى بثلاثة عشر عاما. ويروى لنا الشهاب، قصة فراره من اسبانيا فى خاتمة كتابه "العز والمنافع " الذى نتحدث عنه فيما بعد، على النحو الآتى: "وأقول اعلم أن أول ما تكلمت به ببلاد الأندلس، كان بالعربية، وكانت النصارى دمَّارهم الله، تحكم فى من يجدوه يقرأ العربية، فتعلمت القراءة الأعجمية للأخذ والاعطى، ثم ألهمنى الله سبحانه أن أخرج من تلك البلاد إلى بلاد المسلمين لما تحققت أن الكفار، كانوا فى الثغور يبحثون عن كل من يرد عليهم لعلهم يجدونه أندلسيا مخفيا ليحكموا فيه لأنهم كانوا منعوهم من الثغور ليلا يهربوا إلى بلاد المسلمين، فجلست سنين، نتعلم الكلام والأخذ فى كتبهم ليحسبوا أنى منهم إذ أمشى إلى بلادهم للخروج منها لبلاد الإسلام. ولما أن جئت إلى البلاد التى هى على حاشية البحر، حيث هو الحرس الشديد، وجلست بينهم فلم يشكوا فى بما رأوا منى من الكلام والحال والكتابة، وجئت من بينهم إلى بلاد المسلمين، وبهذه النية تعلمت وبلغت فى كتبهم. ولكل امرىء ما نوى. ثم رأيت أن بسبب التعليم انه كان بنية القرب من الله ببلاد المسلمين، فتح لى بذلك العلم المنهى عنه ببيان الملوك المسدودة عن كثير من الناس". وقد اتصل الشهاب الحجرى، عقب وصوله إلى المغرب، بالسلطان أحمد المنصور، ملك المغرب يومئذ، واشتغل مترجماً للبلاط، فى عهد المنصور وولده السلطان مولاى زيدان المتوفى سنة 1037 هـ (1627 م)، إذ كان يجيد الإسبانية إلى جانب العربية. واستعمله السلطان فوق ذلك للسفارة عنه فى بعض البلاد الأوربية، ورحل الشهاب فى أواخر حياته إلى المشرق، وأدى فريضة الحج. ولما عاد، نزل بتونس، وقربه أميرها الداى مراد يومئذ. وهنالك توثقت أواصر الصداقة بينه وبين زميل موريسكى مهاجر يسمى باسمه الأندلسى الرئيس ابراهيم ابن أحمد بن غانم بن محمد بن زكريا الأندلسى. وكان الرئيس ابراهيم هذا فيما يبدو من زعماء الجند، وقد ألف بالإسبانية (الأعجمية) كتابا فى فن الجهاد بالمدافع. فقام الشهاب الحجرى بترجمته إلى العربية، وسماه " كتاب العز والرفعة

والمنافع للمجاهدين فى سبيل الله بالمدافع"، ووصف نفسه فى صفحة العنوان بأنه "ترجمان سلاطين مراكش". وقد انتهى هذا الكتاب الفريد إلينا، وهو يحتوى على خمسين بابا فى وصف البارود، والآلات الحربية القاذفة، وتركيب المدافع واختلافها، ووصف أدواتها، وطرق تعميرها، والرمى بها إلى غير ذلك. ويتخلل ذلك رسوم توضيحية لمختلف أجزاء المدفع (¬1). ويشير الشهاب فى كتابه المذكور إلى المقرى مؤرخ الأندلس، وإلى كتابه الجامع "نفح الطيب" فى قوله: "وقد صح من كتب التواريخ التى جمعها العلامة للشيخ أحمد المقرى فى كتابه بمصر فى الكتاب الجامع للتواريخ على بلاد الأندلس أعادها الله إلى الإسلام"، وقد عاش الرجلان فى نفس العصر. والظاهر أن الشهاب الحجرى قد لقى المقرى بمصر خلال مروره بها فى طريقه إلى الحج، أو خلال العود منه، وذلك فى نحو سنة 1040 هـ (1631 م) قبيل وفاة المقرى بقليل. وقد كتب الشهاب الحجرى فوق ذلك كتابا آخر عنوانه "رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب". والأحباب هنا فيما يبدو هم إخوانه المسلمون فيما وراء البحر فى عدوة المغرب، ولكن هذه " الرحلة " لم تصلنا مع الأسف، ولم يصل إلينا منها سوى شذور يسيرة جداً، نقلها بعض الكتاب المغاربة المتأخرين، وأكبر الظن أن رحلة الشهاب المفقودة كانت تحتوى على معلومات هامة ونفيسة عن أحوال مواطنيه العرب المتنصرين، ولعل البحث يظفر بها يوما ما. ومما يلفت النظر من أقوال الشهاب عن أحوال اسبانيا يومئذ، ما نقله إلينا صاحب كتاب "نزهة الحادى" من الرحلة المذكورة، قول الشهاب "إن جزيرة الأندلس، استردادها من أيدى الكفار سهل، واسترجاعها منهم قريب. ولما دخلت فى أيام المنصور مراكش، وجدت عنده من الخيل نحوا من ستة وعشرين ألفاً، فلو تحركت هذه لفتحها لفتحتها، ولاستولى عليها فى الحين" (¬2). ¬_______ (¬1) توجد منه نسخة مخطوطة بخزانة الرباط تحفظ برقم ج 87، وتقع فى 261 صفحة كبيرة، ومذكور فى صفحة العنوان أنه من تأليف الرئيس ابراهيم بن أحمد بن غانم بن محمد بن زكريا، كتبه بالأعجمية، وترجمه له بالعربية ترجمان سلاطين مراكش، أحمد بن قاسم بن أحمد الحجرى الأندلسى". وتوجد منه كذلك نسخة بالخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية رقم 97 فروسية. ونسخة أخرى بدار الكتب رقم 71 فنون حربية. (¬2) كتاب نزهة الحادى ص 99

وأخيراً، فقد وضع الشهاب أيضاً عقب عوده من الحج، كتابا عنوانه "ناصر الدين على القوم الكافرين" يؤيد فيه رسالة الإسلام، ويفند معتقدات النصارى. - 3 - وقد أبدت السياسة الإسبانية اهتماماً خاصاً بالقضاء على تراث الأندلس الفكرى، وبدأت بارتكاب فعلتها الشائنة فى سنة 1499 م أعنى لأعوام قلائل من سقوط غرناطة، فجمعت الكتب العربية، وأحرقت بأمر الكردينال خمنيس حسبما فصلنا من قبل، ولم تبق معاول التعصب والجهالة إلا على بقية صغيرة من الكتب العربية، جمعت فيما بعد من مختلف الأنحاء، وأودعت أيام فيليب الثانى فى قصر الإسكوريال على مقربة من مدريد، وحجبت عن كل باحث ومتطلع. وفى أوائل القرن السابع عشر، وقع حادث كان سبباً فى مضاعفة المجموعة العربية الإسبانية. ذلك أن السفن الإسبانية استطاعت أن تأسر مركباً مغربية لمولاى زيدان ملك المغرب "كانت مشحونة بالكتب ومختلف التحف، وبها ثلاثة آلاف سفر من كتب الدين والأدب والفلسفة وغيرها. وتضع الرواية الإسبانية تاريخ هذا الحادث فى سنة 1612 فى عصر فيليب الثالث، وذلك حينما اشتد اضطراب العلائق بين اسبانيا والمملكة المغربية (¬1). وقد حملت هذه المجموعة النفيسة من الكتب العربية إلى اسبانيا، وأودعت قصر الإسكوريال، إلى جانب بقية التراث الأندلسى التى كانت مودعة فيه منذ أيام فيليب الثانى. وكانت مجموعة مولاى زيدان المغربية تحتوى عدد كبير من الكتب الأندلسية التى كثر استنساخها، "اقتنائها بالمغرب، بعد سقوط غرناطة. ولبثت هذه المجموعة من المخطوطات العربية الأندلسية مودعة بمكتبة الإسكوريال الملكية حتى أواسط القرن السابع عشر، وكانت تبلغ يومئذ عدة آلاف، وكانت أغنى وأنفس مجموعة من نوعها بإسبانيا. ولكن محنة جديدة أصابت هذه البقية الباقية من تراث الأندلس. ففى سنة 1671 شبت النار فى الإسكوريال، والتهمت معظم هذا الكنز الفريد، ولم ينقذ منه سوى ألفين، هى التى مازالت تثوى حتى اليوم فى أقبية مكتبة الإسكوريال التى يشرف عليها الآباء الأوغسطنيون. وكانت الحكومة الإسبانية أثناء هذه العصور تحرص على إخفاء الآثار العربية عن كل قارىء ¬_______ (¬1) الاستقصاء لأخبار دول المغرب الأقصى للسلاوى ج 3 ص 128؛ وراجع ص 392 من هذا الكتاب

وباحث، كأنما كانت تخشى أن تتسرب روح التفكير الإسلامى إلى تفكير اسبانيا النصرانية، بعد أن بذلت لقتل هذا الروح كل وسيلة ممكنة. وكان الكُتّاب الإسبان أنفسهم، تحملهم نزعة الدين والجنس، يعرضون عن كل بحث وتنقيب فى هذه المصادر النفيسة، التى تلقى أكبر ضوء على تاريخ اسبانيا المسلمة وحضارتها فى العصور الوسطى، ويكتفون فى كتابة هذه المرحلة الطويلة الباهرة من تاريخ بلادهم، بالرجوع إلى المصادر الإسبانية التى تفيض بالتحامل والتعصب وغمر الخرافات. ولم تفق الحكومة الإسبانية من جمودها، ولم تفكر فى تنظيم تراث الأندلس الفكرى والتعريف به، قبل أواسط القرن الثامن عشر، فعندئذ انتدبت عالماً شرقياً يجمع بين الثقافتين الشرقية والغربية، هو ميخائيل الغزيرى اللبنانى، الذى يعرف فى الغرب باسم كازيرى Casiri، وعهدت إليه بدرس الآثار العربية، ووضع فهرس جامع لها. وكان الغزيرى بنشأته وثقافته الشرقية رجل المهمة، فلبى دعوة الحكومة الإسبانية، وعين فى سنة 1749 مديراً لمكتبة الإسكوريال، وأنفق هنالك بضعة أعوام يدرس المخطوطات العربية ويحققها، ثم بدأ بوضع فهرسه الجامع الذى عهد إليه بوضعه. وفى سنة 1760 صدر الجزء الأول من هذا الفهرس باللاتينية بعنوان Bibliotheca Arabico - Hispana Escurialensis " المكتبة العربية الإسبانية فى الإسكوريال"، وصدره الغزيرى بمقدمة طويلة تحدث فيها عن قيمة هذه المخطوطات العربية وأهميتها، وقسم هذه الآثار إلى عدة فنون، وبدأ بكتب اللغة وعلومها، ثم الشعر وأبوابه، ثم الفلسفة وما يتعلق بها، ثم الأخلاق فالطب والتاريخ الطبيعى، فالرياضة والهندسة والفلك، فالفقه وعلوم الدين والقرآن، وهى تشمل أكبر مجموعة. ثم الآثار النصرانية. وتبلغ محتويات هذا الجزء الأول من الفهرس 1628 مجلداً. وفى 1770 ظهر الجزء الثانى من الفهرس، محتوياً على كتب الجغرافيا والتاريخ ومنتهياً برقم 1851، وهو جملة ما أثبته الغزيرى فى فهرسه. وكان أهم ما اتجهت إليه الأنظار بعد ظهور معجم الغزيرى، هو التنقيب فى مجموعة الإسكوريال عن الروايات العربية المتعلقة بتاريخ اسبانيا المسلمة، وسياسة الحكومات الإسلامية، وخواص المجتمع الإسلامى، فعنى طائفة من الباحثين الإسبان فى أواخر القرن الثامن عشر ومنهم أندريس وماسدى، ببحث تاريخ العلوم والآداب العربية، فأخرج أندريس كتابه عن "أصول الأدب"، وأخرج

ماسدى مؤلفه عن "تاريخ اسبانيا والحضارة الإسبانية" (¬1). ثم جاء العلامة كوندى فوضع لأول مرة تاريخاً لاسبانيا المسلمة (¬2)، يعتمد فيه على الروايات العربية، وظهر هذا المؤلف بين سنتى 1810 و 1812. وبالرغم من أن مؤلف كوندى يحتوى على كثير من الأخطاء التاريخية، فقد كان أول مجهود غربى من نوعه يعرض للغرب قضية العرب فى اسبانيا من الناحية العربية، وفيه يقف الغرب لأول مرة على وجهات النظر الأندلسية، وخواص النظم والسياسة الإسلامية. ويبدى كوندى فى كثير من المواطن حماسة فى الدفاع عن العرب، والإشادة بخلالهم ومواقفهم وحضارتهم، ويصدر فى بعض المواطن، أشد الأحكام على أمته وسياسة مواطنيه. وأخذت المصادر العربية الأندلسية، تَمْثُل من ذلك الحين فى كل بحث يتعلق بتاريخ الأندلس. وكان العلامة المستشرق الهولندى رينهارت دوزى أعظم باحث غربى، توفر على دراسة التاريخ الأندلسى، ودراسة مصادره العربية والغربية، وكتابه القيم "تاريخ المسلمين فى اسبانيا حتى فتح المرابطين" (¬3)، من أنفس ما كتب فى هذا الباب، وذلك بالرغم مما يبدو فيه من آن لآخر من تعليقات يطبعها التحامل. وتوالت بعد ذلك جهود الباحثين الغربيين فى دراسة تاريخ اسبانيا المسلمة وكتابته. وصدرت بعد كتاب دوزى خلال القرن الماضى فى هذا الموضوع، عدة كتب قيمة، إسبانية وإنجليزية وفرنسية وغيرها، يمتاز الكثير منها بدقة البحث وروح الإنصاف. وقام المستشرق الفرنسى هارتفج ديرنبور فى أواخر القرن الماضى بدراسة جديدة للمجموعة الأندلسية بالإسكوريال، ووضع لها فهرساً جديداً بالفرنسية عنوانه: "المخطوطات العربية فى الإسكوريال" Les Manuscrits Arabes de l'Escurial نحا فيه نحو الغزيرى فى ترتيبه وترقيمه، وعثر على نحو مائة مخطوط أخرى لم يثبتها الغزيرى فى معجمه. بيد أنه لم يصدر من هذا الفهرس الجديد سوى جزئين يشتملان على كتب اللغة والبلاغة والشعر والأدب والفلسفة والأخلاق والسياسة. وأصدر الأستاذ ليفى بروفنسال بعد وفاة ديرنبور جزءاً ثالثاً من هذا الفهرس مشتملا على ¬_______ (¬1) Historia Critica de Espana y la Cultura espanola (¬2) Historia de la Dominacion de los Arabes en Espana (¬3) Histoire deds Musulmans d'Espagne jusqu'à la Conquete de l'Anda- lousie par les Almoravides

كتب الدين والجغرافيا والتاريخ. ومازال هذا الفهرس الجديد لمجموعة الإسكوريال الأندلسية، ينقصه استعراض كتب الطب والتاريخ الطبيعى والرياضة والفقه، كما ينقصه ذكر الكتب التى غابت عن الغزيرى وعددها نحو مائة كتاب. وقد كان التنقيب فى تراث الآثار الأندلسية، والتعريف بها على هذا النحو، فتحاً عظيما فى تاريخ اسبانيا المسلمة، وتاريخ الحضارة الإسلامية. فقد كان الغرب حتى أواخر القرن الثامن عشر، لا يعرف من هذا التاريخ سوى ما تعرضه الرواية الإسبانية من شذور مشوهة مغرضة، وكانت مئات من الحقائق تغمرها حجب التعصب والتحامل، فجاءت وثائق الإسكوريال تبدد هذه الحجب، وتقدم الأدلة الساطعة على عظمة هذه الصفحة من تاريخ اسبانيا، وتعرض لنا مئات الحقائق عن تفوق الحضارة الأندلسية، ومبلغ ما وصلت إليه من الإزدهار والتقدم. ومما هو جدير بالذكر أن ملوك المغرب بذلوا أكثر من محاولة لاسترداد الكتب العربية من اسبانيا، وكان يحدوهم فى ذلك شعور بأن هذا التراث الفكرى للأمة الأندلسية الشهيدة إنما هو تراثهم المشترك، وأن المغرب هو الوارث الطبيعى لهذا التراث، خصوصا وقد كان بين محتوياته مكتبة مولاى زيدان التى انتهبت فى عرض البحر حسبما قدمنا. ففى سنة 1102 هـ (1691 م) بعث مولاى اسماعيل عاهل المغرب العظيم، وزيره الكاتب محمد بن عبد الوهاب الغسانى سفيراً إلى كارلوس الثانى ملك اسبانيا، وكان من مهمته إلى جانب السعى فى تحرير الأسرى المغاربة، أن يسعى فى استرداد الكتب العربية، وقد نجح السفير فى تحقيق الشطر الأول من مهمته، ولكنه لم ينجح فى تحقيق الشطر الثانى. وفى سنة 1179 هـ (1765 م) أرسل مولاى محمد بن عبد الله سلطان المغرب، كاتبه أحمد بن مهدى الغزّال، سفيراً إلى كارلوس الثالث ملك اسبانيا ليضطلع بنفس المهمة المزدوجة، أعنى العمل على تحرير الأسرى المغاربة، واسترداد الكتب العربية، ولكنه لم يحرز فى مهمته بشأن الكتب نجاحا يذكر، وإن كان قد استطاع أن يحصل من الإسبان على قدر من الكتب العربية ليس بينها شىء من محتويات الإسكوريال (¬1). ¬_______ (¬1) ترك لنا كل من هذين السفيرين كتابا عن مهمته: فكتب الوزير محمد بن عبد الوهاب كتابه المسمى "رحلة الوزير فى افتكاك الأسير" (تطوان 1939). وكتب الثانى أحمد الغزال كتابه "نتيجة الإجتهاد فى المهادنة والجهاد" (تطوان 1941)

- 4 - بقى أن نتحدث عن الفن فى الأندلس، وسيكون حديثنا عن ذلك عاماً. ذلك أن الفن فى مملكة غرناطة آخر دول الإسلام بالأندلس، لم يكن له سوى المرحلة الأخيرة لسير الفن الأندلسى. وقد نشأ الفن الإسلامى فى البداية نشأة متواضعة. ونريد بالفن هنا معناه الدقيق الخالص. فالتصوير والنحت والنقش والزخرفة والموسيقى والغناء وما إليها، مما ينعت فى عصرنا بالفنون الجميلة، يقع تحت هذا المعنى. بيد أن هنالك معنى أوسع للفن فقد يشمل فنون الهندسة والعمارة وما إليها، ولا بأس من أن نعامله بهذا المعنى الأعم فى الوقت نفسه. وهذه النشأة المتواضعة للفن الإسلامى ترجع بالأخص إلى عوامل دينية. فقد نشأ الإسلام خصيم الوثنية، يضطرم بغضاً لمظاهرها ورسومها، وقد كان النحت والتصوير والنقوش الرمزية، وقت ظهور الإسلام من مظاهر الوثنية ورسومها البارزة، فكان الإسلام يخاصمها ويطاردها. ولم يشأ الإسلام أن يفسح صدره لهذه المظاهر والرسوم كما فعلت النصرانية، حيث اعتنقتها وشملتها برعايتها، وازدانت بها كنائسها وهياكلها العظيمة منذ القرن الأول للميلاد. ثم غدت فيما بعد مثاراً للخلاف الطائفى، واعتبرت رمزاً لعبادة الصور، وثارت حولها تلك المناقشات والخصومات البيزنطية الشهيرة. بيد أن هذه الخصومة التى شهرها الإسلام فى عصره الأول على التماثيل والصور، رموز الوثنية ومظاهرها، لم تلبث أن خفت وطأتها منذ القرن الثانى للهجرة، حينما قامت الإمبراطورية الإسلامية، وأنشئت فى أرجائها الصروح الإسلامية العظيمة، وبدت الخلافة فى عظمتها الدنيوية، وأخذت بقسطها من الترف والبهاء والبذخ. عندئذ عنى الخلفاء بالفنون وازدانت قصورهم ومعاهدهم وحدائقهم، بمظاهر الفن الرفيع، واعتمد على الاقتباس بادىء بدء من تراث الفنون الفارسية واليونانية والرومانية، والبيزنطية بنوع خاص، واقتبس عرب الأندلس أيضاً من تراث الفن القوطى. ولم يمض بعيد حتى امتزج الاقتباس بالابتكار، وبدأ الفن الإسلامى فى مظاهره المستقلة. وبلغ منذ القرن الثالث للهجرة، سواء فى بغداد أو قرطبة مستوى رفيعاً من الروعة والبهاء. وبرع المسلمون فى صنع الزخارف والنقوش والرسوم والصور الدقيقة، وانتهوا فى الموسيقى إلى ذروة الافتنان والبراعة، وازدهر الفن الإسلامى فى المشرق والمغرب أيما ازدهار

وبلغ الفن الإسلامى فى الأندلس أوج ازدهاره فى القرن الرابع الهجرى. ويجب أن نلاحظ أن مسلمى الأندلس كانوا أسبق الأمم الإسلامية إلى صنع التماثيل والصور وقد زينوا قصورهم ومعاهدهم منذ القرن الثالث، بالتماثيل والصور والنقوش، التى تمثل الحيوان والنبات والطير. أما التماثيل والصور البشرية، فكانت تلقى نوعاً من التحريم العام. وفى عصر عبد الرحمن الناصر (300 - 350 هـ) خطا الفن الأندلسي خطوة أخرى، فصنعت التماثيل والصور البشرية، وزينت بها القصور والمعاهد الخلافية، وكما أن عصر الناصر كان أعظم عصور الدولة الإسلامية فى الأندلس، فكذلك كان أعظم عصور الفن الأندلسى. وقد كان عصر قرطبة الكبير حتى عهد الناصر، موضع العناية والرعاية من جميع أمراء بنى أمية، وكان مجمع البهاء والرواء والفن. ولكن الناصر آثر أن ينشىء له ضاحية ملوكية جديدة، تكون آية فى الفخامة والبهاء، فأنشأ مدينة الزهراء وقصورها ومعاهدها الباهرة، وأفاض عليها من ألوان البذخ والبهاء، وبدائع الفن والزخرف، آيات رائعات. وكانت نقوش الزهراء ورسومها وتماثيلها، أبدع ما أخرج الفن الإسلامى فى الأندلس. ولا يتسع المقام للإفاضة فى وصف عظمة الزهراء، وروائعها الفنية، فنحيل القارىء إلى ما أورده صاحب نفح الطيب فى هذا الشأن من مختلف الروايات والفصول (¬1). ولكنا نخص بالذكر هنا مثلين رائعين من آيات الفن الباهر، التى زينت بها قصور الزهراء، فمن ذلك أسد عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة، لم يشاهد أبهى منه فيما صنع الملوك الأوائل، مطلى بالذهب، وعيناه جوهرتان لهما ضوء ساطع، قد أقيم على بحيرة قصر الناعورة، يجوز الماء إلى مؤخره من قناة تحمل إليه الماء العذب، من جبل قرطبة على حنايا معقودة، فيدفع الماء إلى البحيرة فى منظر رائع (¬2). ومن ذلك الحوض البديع الذى جلبه الناصر لاستحمامه، وأقيم عليه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر، مرصعة بالدر النفيس مما صنع بدار الصناعة بقرطبة: أسد إلى جانبه غزال ثم تمساح، يقابلها ثعبان وعقاب وفيل، وفى الجانبين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر، كلها من ذهب مرصع بالجوهر النفيس، وتخرج الماء من أفواهها (¬3). ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 245 و 246 و 264 - 266؛ وابن خلدون ج 4 ص 144؛ وراجع Murphy: Mohamedan Empire in Spain, p. 167-174 (¬2) نفح الطيب ج 1 ص 264. (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 264

وهنا أيضاً أعنى فى عصر الناصر، نرى لأول مرة فيما يظهر، تماثيل الإنسان وصوره تمثل فى الفن الأندلسى، إلى جانب تماثيل الحيوان وصوره. فيروى أن الناصر أمر أن تنقش صورة جاريته وحظيته "الزهراء" على باب قصر الزهراء، وهذه الجارية فيما يروى هى التى حملته على بناء الزهراء وتسميتها باسمها (¬1). وزينت أبهاء الزهراء بتماثيل وصور بشرية (¬2). فكانت ظاهرة فنية جديدة. يقول العلامة الأثرى الإسبانى الأستاذ مورينو مشيراً إلى عصر عبد الرحمن الناصر: "جاء هذا الملك، وقد دخل الشرق الإسلامى فى دور الانحطاط، ودخل العهد البيزنطى بالعكس فى أسطع مراحله، وعمل الخليفة الإسبانى، وهو حليف القيصر اليونانى على إحياء الحضارة، فعادت بفضله تزدهر فى جانبى البحر المتوسط، وتولت قرطبة بقوتها الروحية زعامة العالم، ووصلت اسبانيا المسلمة فى عهد الناصر إلى ذروة التماسك والتناسق الاجتماعى والرخاء؛ وآل ذلك إلى ولده الحكم، فاستعمله فى أعمال الحضارة، وهكذا تحقق قيام بلاط جديد فى الزهراء الرائعة التى بدأت أطلالها الآن تبدو للعيان، وبعد ذلك زيد المسجد الجامع، وأسبغت عليه آيات الفخامة والروعة. على أن الفن القرطبى يصل إلى ذروته فلا طراز العقود المتشابكة المتقاطعة فى تشكيلات هندسية، وهو ما يخدم نفس الأغراض التى تقوم بها العقود القوطية، متقدمة عليها قرنين، وخاضعة لمبدأ أساسى زخرفى، ومنسقة مع طرازها القرطبى" (¬3). وبلغ الفن الأندلسى فى عصر الناصر وابنه الحكم المستنصر، ذروة القوة والبهاء، ومازالت اسبانيا النصرانية تحتفظ ببعض تحف فنية نادرة من تراث ذلك العصر، نذكر منها وعل الزهراء الشهير، وهو تمثال وعل من البرونز زين جسمه بالنقوش والزخارف العربية البديعة، وتاج عمود من المرمر به زخارف دقيقة مدهشة، وقد نقش عليه اسم الحكم المستنصر بالله واسم حاجبه، وقد وجد كلاهما فى حفائر مدينة الزهراء، وكلاهما يحفظ اليوم بمتحف قرطبة، ومنها صندوق من العاج البديع نقشت عليه صور فرسان وأشخاص ووعول آية فى الدقة، وذكر عليه اسم ¬_______ (¬1) نفح الطيب ج 1 ص 245. (¬2) نفح الطيب ج 1 ص 265 و Murphy: ibid, p. 292 (¬3) M. Gomez Morena: "La Civilizacion arabe y sus Monumentos en Espana" Art. en "Arquitectura" (Nov. 1919)

صاحبه وهو عبد الملك بن أبى عامر ولد الحاجب المنصور، وتاريخ صنعه وهو سنة 395 هـ (1005 م)، ويحفظ اليوم بمتحف كنيسة بنبلونة العظمى، ويوجد فى مدينة جيرونة صندوق بديع الصنع من أيام الحكم الثانى، وفى كتدرائية مدينة سمورة صندوق آخر يرجع إلى نفس العصر. ويوجد من تحف العهد الغرناطى كثير من النقوش والزخارف المرمرية التى تحفظ اليوم بمتحف غرناطة، وفى متحف مدريد الوطنى مصباح برونزى رائع الصنع أصله من مصابيح مسجد الحمراء؛ وتوجد فى متحف الحمراء جرة كبيرة من القيشانى الملون زينت بزخارف مذهبة رائعة، وهى من مخلفات قصر الحمراء. هذا إلى طائفة كبيرة أخرى من التحف البرونزية والمعدنية والخزفية، والبسط والأنسجة الأندلسية والموريسكية، مبعثرة فى مختلف المتاحف الإسبانية. وقد أتيح لنا أن نشاهد معظم هذه التحف الفريدة، وأن نتأمل روائعها (¬1). هذا وقد برع الأندلسيون فى الصناعات الفنية الدقيقة، مثل صناعة الحلى الفائقة والتحف العاجية والجلدية، ونافسوا فيها صناعة بيزنطية. ومازالت بعض المدن الأندلسية القديمة مثل قرطبة وطليطلة وغرناطة تحتفظ حتى اليوم فى بعض صناعاتها الدقيقة، ببقية من هذه البراعة الفنية الأندلسية. فما زالت طليطلة تشتهر حتى يومنا بصناعة الأسلحة المزخرفة، وتشتهر قرطبة بصناعة الجلود الدقيقة المزخرفة. وكانت غرناطة بالأخص تتفوق فى صنع الأقمشة الحريرية المذهبة، والبسط الأنيقة، والتحف البرونزية والزجاجية والأساحة، وكانت أنسجتها المطرزة بالذهب تخلب ألباب الشعوب الأوربية. وهى مازالت حتى اليوم تتفوق فى أصناف من الدانتلا الرائعة. وهذه الصناعات اليدوية الدقيقة مازالت متأثرة بجمال الزخرف الإسلامى أعظم تأثير. وكانت القصور والمعاهد العامة، والمساجد الجامعة بالأندلس فى تلك العصور، معرضاً لأبدع ما تمخض عنه الفن الرفيع يومئذ من صنوف الزخارف والرسوم والتحف الفنية. ومن ذلك أنه كان بجامع قرطبة تنور من نحاس أصفر يحمل ألف مصباح، وقد زين بصور ونقوش رائعة، يعجز عن وصفها القلم (¬2). وقد امتازت المدرسة المحافظة بالتفوق فى نوع جديد ¬_______ (¬1) نشرنا أوصاف هذه التحف الأثرية الأندلسية وصورها فى كتابنا الآثار الأندلسية الباقية فى اسبانيا والبرتغال - الطبعة الثانية. ص (37 و 43 و 181 و 320 و 337 و 355). (¬2) نفح الطيب ج 3 ص 245

من الزخارف، يقوم على رسوم الشجر والأوراق والأغصان والأشكال المتماثلة المبتكرة، دون الصور التى تمثل الإنسان والحيوان؛ ذلك لأنها كانت تقوم على احترام التقاليد الدينية القديمة، واشتهرت هذه المدرسة فى العصور الوسطى، وكان لها أثر عميق فى تطور الفن الأوربى، وما زالت تعرف بالنماذج العربية (الأرابسك) (¬1). وسطع الفن الأندلسى أيام الطوائف مدى حين، ونثر ملوك الطوائف ولاسيما بنو عباد فى إشبيلية، وبنو ذى النون فى طليطلة، حولهم آيات من البذخ والترف والبهاء، وأغدقوا على قصورهم ومعاهدهم بدائع الفن وروائعه، مما أفاض فى وصفه المؤرخون والكتاب والشعراء. وكان بنو عباد فى إشبيلية أعظم حماة للفنون والآداب. وكان قصر المأمون بن ذى النون ملك طليطلة آية رائعة من آيات الفن والبهاء، وكان روشنه الشهير الذى بنى وسط بحيرة القصر، من الزجاج الملون المزين بالنقوش الذهبية، مستقى خصباً لخيال الشعراء، وكانت حافة البحيرة مزدانة بصفوف من تماثيل الأسود التى تقذف الماء من أفواهها، وهى لا تزال تقذف الماء ولا تفتر، وتنظم لآلىء الحباب بعد ما نثر (¬2). وأنشأ المقتدر بالله أبو جعفر أحمد بن هود أمير سرقسطة فى أواخر القرن الحادى عشر الميلادى قصره الرائع المسمى "بقصر السرور"، وكان أروع ما فيه بهوه العظيم الذى زينت جدرانه بالنقوش والتحف الذهبية البديعة والذى كان يسمى لذلك "بمجلس الذهب". ولما سقطت سرقسطة فى يد النصارى شوهت معالم هذا القصر وأدخلت عليه تعديلات وتغييرات عديدة قضت على محاسنه وبدائعه العربية. ومازال يقوم على موقعه السابق الصرح الذى يسمى اليوم بقصر الجعفرية Palacio Aljarafia. وقد اشتهر المقتدر بن هود، فى التاريخ وفى الشعر، بقصره الفخم ومجلسه الرائع، ذى النقوش والتحف الذهبية البديعة وهو القائل فى وصفه (¬3): قصر السرور ومجلس الذهب ... بكما بلغت نهاية الطرب لو لم يحز ملكى خلافكما ... لكان لدى كفاية الأرب ¬_______ (¬1) Murphy: ibid , p. 291 - Aschbach: Geschichte der Omajaden in Spanien ; B. II. p. 352. (¬2) نفح الطيب ج 1 ص 247 و 282؛ وقلائد العقيان للفتح بن خاقان ص 194 و 195. (¬3) نفح الطيب ج 1 ص 250. وراجع كتابى " دول الطوائف " ص 272

ولم يكن هذا الهوى الفنى قاصرأً على الأمراء والكبراء، فقد روى لنا المقرى أنه كان ببعض حمامات إشبيلية تمثال بديع الصنع، قال فيه الشاعر: ودمية مرمر تزهو بجيد ... تناهى فى التورد والبياض لها ولد ولم تعرف حليلا ... ولا ألمت بأوجاع المخاض ونعلم أنها حجر ولكن ... تتيمنا بألحاظ مراض وفى عهد المرابطين والموحدين خبت دولة الفن الإسلامى فى الأندلس نوعاً، ذلك لأن أولئك الغزة البربر، الذين كانوا يضطرمون بروح دينية محافظة، لم يقدّروا الفنون والآداب على نحو ما كانت أيام الخلفاء الأندلسيين. ومع ذلك، فقد كان لدى الموحدين، بالرغم من طابعهم الدينى المحافظ، طموح فنى، ظهر أثره أولا فى إقامة المنشآت الدفاعية العظيمة، ثم ظهر فى إقامة المساجد والقصور، سواء فى المغرب أو الأندلس. وقد كان قصر إشبيلية، الذى أنشأه أبو يعقوب يوسف وجامع إشبيلية الأعظم، ومنارته العظيمة التى أنشأها ولده الخليفة المنصور، والتى مازالت قائمة إلى اليوم بعد أن حولت إلى برج لأجراس كنيسة إشبيلية العظمى، التى أقيمت فوق موقع المسجد الجامع: كانت هذه المنشآت العظيمة عنواناً لعظمة الفنون والزخارف الإسلامية فى عصر الموحدين. وازدهرت الفنون والآداب كرّة أخرى فى مملكة غرناطة. وكان بنو الأحمر حماة كرماء للفنون. ونلاحظ أن الفن الأندلسى بلغ فى هذا العصر ذروة التحرر والافتنان أيضاً، وتوسع الفنانون المسلمون فى تصميم المناظر والرسوم. ولم يقتصر الأمر على الصور والرسوم والتماثيل المفردة، بل تعداه إلى المناظر المصورة، وإلى المجموعات المنحوتة. وقد كانت مملكة غرناطة على صغر رقعتها، وضعفها من الوجهتين العسكرية والسياسية، تحدث من الناحية الحضارية والفنية فى قشتالة، جارتها الكبيرة القوية، أثرها العميق. يقول الأستاذ مورينو: "إنه منذ عهد سان فرناندو إلى عهد هنرى الرابع، كان الكثير من عناصر حضارة قشتالة، وهندستها المدنية، وفنونها الزخرفية الدينية، وكل ضروب الإناقة والمتعة فى الحياة - كانت كلها قائمة على الاقتباس من الأندلس" (¬1). وما زالت حمراء غرناطة، وما زالت أبهاؤها ومجالسها الرائعة، تنبىء عما انتهت إليه آخر دول الإسلام فى الأندلس من البذخ والبهاء، وعما بلغه الفن الأندلسى فى هذه المرحلة ¬_______ (¬1) M. Gomez-Moreno: Arquitectura (Nov. 1919)

الأخيرة من حياة الإسلام فى اسبانيا، من الدقة والافتنان. وسوف يبقى قصر الحمراء، وما يحتويه من النقوش والزخارف والصور الفريدة، رمزاً خالداً للعمارة الإسلامية، ولروعة الفن الإسلامى فى الأندلس. وقد كان لفنون العمارة الأندلسية فى مختلف عصورها أعمق الآثار داخل شبه الجزيرة الإسبانية، فكانت القصور الملكية فى الممالك الإسبانية النصرانية، نماذج من القصور الملكية الأندلسية؛ وتطورت فيها مظاهر الحصون الرومانية القديمة، وظهرت عليها مسحة أندلسية. وكان هذا التأثير أشد وأعمق فى حياة النبلاء القشتاليين، وفى طراز مساكنهم المدنية، فقد حل مكان المنزل المحزن الموحش، المكون من غرف قليلة الضوء قليلة التهوية، المنزل الذى تغمره أشعة الشمس، والذى تطل الأروقة الداخلية على فنائه، وفيه الماء الجارى، وفى داخل جدرانه الأربعة تتذوق الحياة كاملة، وتبدو عليه البسمة. وقد أسبغت هذه المنازل على اسبانيا طابعها الخاص (¬1). وما زال ظراز المنازل الأندلسية قائماً واضحاً فى مدن أندلسية قديمة مثل إشبيلية وغرناطة وشريش، وهذا الطراز من المنازل تفضله الأرستقراطية بنوع خاص. بل لقد كان أثر الفن المعمارى الأندلسى قوياً فى الكنائس ذاتها؛ ففى كثير من الكنائس الإسبانية والبرتغالية الأثرية ترى خطة المسجد ظاهرة فى عقودها وأروقتها. وقد أقيمت أبراج كثير من الكنائس الشهيرة على نمط المنارة الإسلامية، واتخذت منارة الخيرالدا الشهيرة بإشبيلية نموذجاً لكثير من الأبراج فى كنائس اسبانيا الجنوبية. بل لقد تسرب تأثير الفن الإسلامى إلى الهياكل ذاتها، فنرى مثلا مصلى دير "الهولجاس" أو المدير الملكى فى مدينة برغش، وقد صنعت على الطراز الإسلامى، وعليها قبة عربية مقرنصة ْالزخارف. ولما تضاءلت رقعة اسبانيا المسلمة، وسقطت معظم القواعد الأندلسية فى يد الإسبان، لبث المدجنون عصوراً ينقلون الفنون الإسلامية إلى صروح اسبانيا النصرانية. وكانت غرناطة ترسل العرفاء إلى قشتالة ليقوموا بإصلاح الصروح الإسلامية القديمة فى المدن الأندلسية القديمة التى استولت عليها قشتالة. نعرض بعد ذلك لناحية أخرى من الفن الإسلامى فى الأندلس هى الموسيقى. وقد كان للموسيقى بين فنون الحضارة الإسلامية أيما شأن، وكان ازدهارها بالأخص فى بغداد وقرطبة، حيث بلغت حضارة الإسلام ذروة العظمة والنضج. ¬_______ (¬1) M. Gomez-Moreno: Arquitectura (Nov. 1919)

وكان ازدهارها فى عصر مبكر جداً منذ أواخر القرن الثانى للهجرة، فى ظل الدولة العباسية الفتية. وكان أول من كتب عن الموسيقى من المسلمين، الكندى والفارابى، وقد ترجمت كتبهما إلى اللاتينية منذ القرن الحادى عشر الميلادى. ويبدو أثر الموسيقى الشرقية واضحاً فى الكتابات الموسيقية اللاتينية؛ وفضلا عن الكتابة، فقد كانت الطرائق والمعارف الموسيقية المشرقية تنقل إلى الغرب عن طريق السماع والاتصال الشخصى؛ وينطبق ذلك بنوع خاص على اسبانيا المسلمة، حيث ازدهرت الموسيقى، وتنوعت طرائقها منذ القرن التاسع الميلادى. وكانت الأندلس قد تلقت منذ أوائل هذا القرن قبساً من النهضة الموسيقية المشرقية، فنزح زرياب الموسيقىّ غلام الموصليين (¬1) أساطين الموسيقى والغناء لهذا العهد، إلى الأندلس فى عصر عبد الرحمن بن الحكم (أوائل القرن الثالث)، فاستقبله بنفسه وبالغ فى إكرامه، وأغدق عليه العطف والبذل. وكان زرياب موسيقياً عظيما ومغنياً ساحراً، فذاع فنه فى الأندلس والمغرب، وأنشأ بالأندلس مدرسة موسيقية وغنائية باهرة، استطال نشاطها وأثرها حتى عصر الطوائف، وازدهرت أيام الطوائف فى إشبيلية فى ظل بنى عباد بنوع خاص (¬2). وسطع فى مملكة غرناطة قبس من هذه النهضة، وظهر أثر الموسيقى الأندلسية فى تطور الموسيقى والغناء، فى قشتالة وغيرها من أنحاء اسبانيا فى عصر مبكر، ثم انتقل هذا الأثر إلى أوربا، واشتهرت الموسيقى الأندلسية فى غرب أوربا فى العصور الوسطى، وكان لها أثرها فى تطور الموسيقى الغربية. ويقول لنا الأستاذ مورينو إن الأغانى الأصلية للموسيقى الحديثة، كانت اقتباساً أندلسياً، وانها كانت فى الأصل تكتب بلغة "الرومانش" اللاتينية التى كانت تغلب فى اللهجة الشعبية الأندلسية، ومع أنه لم يبق لنا حتى اليوم شىء من هذا الشعر الرومانشى، فإن آثاره تكثر فى أزجال شاعر قرطبى هو "ابن قزمان" (¬3). وبرع المسلمون فى العزف على كثير من الآلات الموسيقية المعروفة حتى اليوم، واخترعوا الكثير منها ولاسيما "القيثارة" التى كانوا يعتبرونها أجمل الآلات الموسيقية. وكان للموسيقى الأندلسية أثر كبير فى تطور الموسيقى الإسبانية القديمة، وما يزال كثير من الأوضاع ¬_______ (¬1) ابراهيم الموصلى وولده إسحاق وولده حماد. (¬2) ابن خلدون، المقدمة ص 357؛ ونفح الطيب ج 2 ص 109 وما بعدها. (¬3) M. Gomez-Moreno: Arquitectura (Nov. 1919)

والتقاليد الموسيقية الأندلسية، تمثل مثولا قوياً فى فنون الموسيقى والرقص والغناء الإسبانية الحديثة (¬1). وقد كانت الأمة الأندلسية أمة مرهفة الشعور والحس، تعشق الفن الجميل، وتحب الحياة الناعمة المترفة، وتجنح إلى المرح والطرب. وقد وصف لنا ابن الخطيب لمحة من هذا الترف، الذى كان عنواناً لحياة الأمة الأندلسية فى عصورها الأخيرة، وذكر لنا كيف كان الشعب يعشق الغناء والموسيقى، وكيف كانت غرناطة تموج بالمقاهى الغنائية التى يؤمها الشعب من سائر الطبقات (¬2). وقد اشتهر الرقص الأندلسى بجماله وافتنانه فى مجتمعات العصور الوسطى، وما زال شعب غرناطة المرح الطروب مقبلا خلال كفاحه الطويل، على حياته المترفة الناعمة، حتى أصبح العدو على الأبواب. وللأندلسيين آثار قيمة فى الموسيقى العلمية والعملية. وفى مكتبة الإسكوريال مخطوط عربى نفيس للفيلسوف أبى نصر الفارابى عن الموسيقى وعناصرها ومبادئها وأوضاعها وأنغامها، وكذلك عن الآلات الموسيقية المختلفة وأشكالها وتراكيبها (¬3). وهو دليل على ما بلغه المسلمون فى هذا الفن من الرسوخ والابتكار. وقد يرى بعض الباحثين الغربيين أن الأندلسيين تلقوا معظم تراثهم الفنى، عن الفن النصرانى. وفى هذا الرأى مبالغة، فقد اقتبس الأندلسيون من فنون القوط والفرنج والبيزنطيين والبنادقة، ولكنهم كانوا مبتكرين أيضاً، وكانوا منشئين لفن إسلامى محض، بما أسبغوه عليه من ألوان الإفتنان الرائع التى اختصوا بها، وتميز بها تراثهم الفنى مدى الأحقاب. - 5 - هذا. وقد غاضت اليوم من الأندلس كل مظاهرها القديمة، وأصبحت سائر القواعد الأندلسية القديمة اليوم، مدناً اسبانية نصرانية، وقد اختفت معظم الصروح والآثار الأندلسية، ولم تبق منها اليوم سوى بقية صغيرة، متناثرة هنا وهناك؛ وإذا تركنا جامع قرطبة (وهو اليوم كنيسة قرطبة العظمى)، وحمراء ¬_______ (¬1) Murphy: ibid ; p. 296، وهذا ما يستطيع أن يلاحظه كل من زار اسبانيا وشهد حفلاتها الموسيقية والغنائية. (¬2) راجع الإحاطة ج 1 ص 142 و 143. (¬3) وعنوانه "اسطقسات علم الموسيقى" (معجم الغزيرى ج 1 ص 347)

غرناطة، ومنار إشبيلية (وهو اليوم برج الأجراس لكنيستها العظمى)، إذا تركنا هذه الصروح الأندلسية العظيمة الباقية جانباً، كان معظم الصروح والآثار الأندلسية التى قدر لها أن تنجو من أحداث الزمن، يتمثل فى بضعة أنواع معينة من المنشآت الأثرية يمكن حصرها فيما يلى: أولا - القصبات الأندلسية، والقصبة هى القلعة وملحقاتها، وكانت تبنى عادة فوق أعلى ربوة تشرف على المدينة، وتستعمل للسيطرة عليها والدفاع عنها، كما تستعمل مقراً للأمير أو الحاكم، ويلحق بها عادة قصر ومسجد. والقصبة هى أكثر الآثار الأندلسية ذيوعاً، ولا تكاد تخلو قاعدة أندلسية قديمة حتى اليوم من القصبة أو بعض أطلالها، وتوجد أشهر القصبات الأندلسية اليوم فى مالقة وألمرية وجبل طارق وشاطبة وبطليوس وماردة باسبانيا، وشلب وأشبونة وشنترة وشنترين بالبرتغال. ثانياً - القصور، وهى الكلمة التى حرف الإسبان مفردها إلى كلمة Alcazar أى القصر. وتوجد فى طليطلة وإشبيلية وغرناطة، وإطلاق هذه الكلمة الإسبانية على صرح من الصروح الأثرية، يفيد فى الحال أنه يرجع إلى أصل أندلسى أو أنه أنشىء على أنقاض قصر أندلسى، كما هو الشأن فى قصر إشبيلية Alcazar de Sevilla. ثالثاً - القناطر الأندلسية، وتوجد منها نماذج فى طليطلة، وقرطبة، ورندة، وغرناطة. كذلك يوجد كثير من بقايا الأسوار والأبواب والحمامات الأندلسية القديمة، والأطلال التى تركت إلى جانب بعض الكنائس، التى أقيمت فوق أنقاض المساجد القديمة، من منارات حولت إلى أبراج للأجراس، ومن عقود أو أسوار أو مشارف دارسة، كما يوجد عدد عديد من الذخائر والتحف واللوحات الأندلسية المبعثرة هنا وهناك، وفى بعض الكنائس والمتاحف الإسبانية، وهذا كله إلى ما خلفه الفن الأندلسى من أثر خالد، فى طراز كثير من الصروح الإسبانية التاريخية، من كنائس وقصور وأبواب وعقود، وفى زخارفها ونقوشها، وما خلفه فن المدجنين الذى اشتق من الفن الأندلسى، من الآثار الظاهرة، فى طراز كثير من الصروح التى أنشئت فى مختلف المدن الإسبانية، منذ القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر وذلك حسبما أشرنا من قبل

على أن هذه البقية الباقية من الآثار الأندلسية تمثل بالرغم من قلتها، العصور والأطوار المختلفة للفن الأندلسى، ومنها نستطيع أن نقف على خصائص كل عصر وأطواره. وليس هنا مقام التحدث عن هذه الآثار، فقد أفردنا لذلك مؤلفاً خاصاً، تناولنا الحديث فيه عن الآثار الأندلسية الباقية فى سائر قواعد الأندلس القديمة (¬1)، ولكنا نود أن نسجل هذه الحقيقة، التى يشعر بها السائح المتجول، كما يشعر بها العالم الباحث، وهى أن هذه الآثار والأطلال الصامتة، كلها تشهد بما كان هذا الشعب الأندلسى الذكى النبيل، من قدم راسخ فى ميدان العلوم والفنون، وكلها تبدو بما يتجلى فيها من روعة أثرية، ومن براعة علمية وفنية، عنواناً لحضارة عظيمة. ¬_______ (¬1) هو كتاب "الآثار الأندلسية الباقية فى اسبانيا والبرتغال" (القاهرة سنة 1956 و 1961)

ثبت المراجع

ثبت المراجع - 1 - نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقرى (القاهرة وبولاق). أزهار الرياض فى أخبار عياض للمقرى (القاهرة). تاريخ ابن خلدون المسمى كتاب العبر (بولاق). التعريف بابن خلدون ورحلته غرباً وشرقاً (لجنة التأليف والترجمة القاهرة 1951). الذخيرة فى محاسن أهل الجزيرة لابن بسام (القسم الثالث مخطوط أكاديمية التاريخ بمدريد). الإحاطة فى أخبار غرناطة لابن الخطيب (ج 1 و 2 القاهرة سنة 1319 هـ). الإحاطة فى أخبار غرناطة لابن الخطيب (ج 1 القاهرة سنة 1956). اللمحة البدرية فى تاريخ الدولة النصرية لابن الخطيب (القاهرة 1347 هـ). الحلل الموشية فى الأخبار المراكشية (تونس 1337 هـ). أخبار العصر فى انقضاء دولة بنى نصر المنشور بعناية المستشرق ميللر (جوتنجن سنة 1863). (نبذة العصر فى أخبار ملوك بنى نصر) المنشور بعناية معهد فرانكو - (العرائش سنة 1940). تاريخ قضاة الأندلس لأبى الحسن النباهى المنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال (القاهرة 1948). قلائد العقيان للفتح بن خاقان (القاهرة 1284 هـ). صلة الصلة لأبى جعفر بن الزبير المنشور بعناية الأستاذ ليفى بروفنسال. تكملة الصلة لابن الأبار (المكتبة الأندلسية). الحلة السيراء لابن الأبار المنشور بعناية العلامة دوزى (ليدن سنة 1851). تاريخ الأندلس فى عهد المرابطين والموحدين لأشباخ وترجمة محمد عبد الله عنان (القاهرة 1958)

مصادر مخطوطة

الذخيرة السنية فى تاريخ الدولة المرينية لمؤلف مجهول (الجزائر سنة 1920). نزهة الحادى بأخبار ملوك القرن الحادى لأبى عبد الله محمد اليفرنى (طبع فاس). بغية الرواد فى ذكر الملوك من بنى عبد الواد للوزير يحيى بن خلدون المنشور بعناية الأستاذ الفرد بل (طبع الجزائر سنة 1903 و 1910). الإستقصاء لأخبار دول المغرب الاقصى للسلاوى (القاهرة). المؤنس فى أخبار إفريقية وتونس لابن دينار (تونس). الخلاصة النقية فى أمراء إفريقية لأبى عبد الله الباجى المسعودى (تونس). مختصر تاريخ تطوان للسيد محمد داود. مقدمة الفتح من تاريخ رباط الفتح لأبى عبد الله محمد أبو جندار (الرباط 1345 هـ). رحلة الوزير فى افتكاك الأسير للوزير محمد بن عبد الوهاب الغسانى (العرائش 1940). غزوات عروج وخير الدين (الجزائر سنة 1934). وثائق عربية غرناطية من القرن التاسع الهجرى للأستاذ سيكودى لوثينا (المنشور بعناية المعهد المصرى بمدريد 1961). السلوك فى دول الملوك للمقريزى (لجنة التأليف والمراجعة القاهرة). صبح الأعشى للقلقشندى (القاهرة). الضوء اللامع فى أعيان القرن التاسع للسخاوى (القاهرة). فوات الوفيات لابن شاكر الكتبى (بولاق). تاريخ ابن إياس المسمى بدائع الزهور (بولاق). الروض المعطار لأبى عبد الله الحميرى المنشور بعناية الأستاذ بروفنسال (القاهرة). معجم البلدان لياقوت الحموى (القاهرة). رحلة ابن بطوطة (القاهرة). مصادر مخطوطة ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب لابن الخطيب (الإسكوريال 1835 الغزيرى)؛ وكناسة الدكان (رقم 1712)، ونفاضة الجراب (رقم 1755) وغيرها من آثاره المخطوطة بالإسكوريال

ديوان ابن الخطيب المسمى "الصبب والجهام والماضى والكهام" (خزانة جامع القرويين بفاس). أسنى المتاجر فى بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب على ذلك من العقوبات والزواجر (الإسكوريال رقم 1758 الغزيرى). التكملة لابن عبد الملك المراكشى (الإسكوريال رقم 1682 والرباط). الإكليل فى تفضيل النخيل (أو نزهة البصائر) لأبى الحسن النباهى (الإسكوريال رقم 1653 الغزيرى). الياقوتة الحلية فى الذرية السعيدية المرينية المباركة العبدحقية (مكتبة مدريد الوطنية). النفحة النسرينية واللمحة المرينية، للأمير إسماعيل بن الأحمر (الإسكوريال 1769 الغزيرى). الأنوار النبوية فى آباء خير البرية لمحمد بن عبد الرفيع الأندلسى الموريسكى المحفوظ فى خزانة الرباط (المكتبة الكتانية) برقم 1238. كتاب العز والرفعة والمنافع للمجاهدين فى سبيل الله بالمدافع للرئيس ابن غانم الأندلسى الموريسكى، وترجمة الشهاب الحجرى الموريسكى ومحفوظ بخزانة الرباط برقم ج 87. الروض الباسم فى حوادث العمر والتراجم لعبد الباسط بن خليل الحنفى المصرى (مكتبة الفاتيكان رقم 728 و 729 Borg.) . نثير الجمان فى شعر من نظمنى وإياه الزمان للأمير اسماعيل بن الأحمر (دار الكتب المصرية رقم 1863 آداب اللغة العربية)

- 2 - R. Dozy: Histoire des Musulmans d'Espagne jusqu'à la conquete des Almoravides (Lévy-Provençal 1932) . R. Dozy: Recherches sur l'Histoire et Littérature de l'Espagne pendant le moyen-age. R. Dozy: Supplément aux Dictionnaires Arabes. Lévy-Provençal: L'Espagne Musulmane au Xème Siècle. De Marlès: Histoire de la Domination des Arabes et des Maures en Espagne et Portugal (redigé sur l'Histoire de M. Joseph Condé) . P. Gayangos: Mohamedan Dynasties in Spain. ( وهو ترجمة القسم التاريخى من كتاب نفح الطيب مع تعليقات وهوامش) W. Prescott: History of Ferdinand and Isabella the Catholic (London, Sonnenschein) . W. Prescott: History of the Reign of Philip the Second (London 1855) . Scott: The Moorish Empire in Europe. H. Ch. Lea: History of the Inquisition in Spain. H. Ch. Lea: History of the Moriscos of Spain ; their Conversion and Expulsion (London 1901) . Owen Jones & Jules Goury: The Alhambra (London 1844) . W. Irving: A Chronicle of the Conquest of Granada (Everyman's) . Murphy: Mohamedan Empire in Spain. Lane-Poole: The Barbary Corsairs. Lane-Poole: The Moors in Spain. C. Brockelmann: Geschichte der arabischen Litteratur. M. Casiri: Bibliotheca Arabico-Hispana Escurialensis. F. J. Simonet: Descripcion del Reino de Granada (Granada 1872) . F. J. Simonet: El Cardinal Ximénez de Cisneros y los Manuscritos Arabigo-Granadinos. Isidro de las Cagigas: Los Mudéjares (Madrid 1940) . Prieto y Vives: De como debio nacer el Reino de Granada. R. y. de Linares: Escrituras Arabes pertenecientes al Archivo de Nuestra Senora del Pilar de Zaragoza (en Homenaje a F. Codera, Zaragoza 1904) . A. G. Palencia: Los Mozarabes de Toledo en los Siglos XII & XIII (Madrid 1926-1930)

A. G. Palencia: Moros y Cristianos en Espana Medieval (Madrid 1945) P. Boigues: Apuntes sobre las Escrituras Mozarabes Toledanas. Alarcon y Santon y R. G. de Linares: Los Documentos Arabes diplo- maticos del Archivo de la Corona de Aragon. J. Condé: Historia de la Dominacion de los Arabes en Espana. Lafuente Alcantara: Historia de Granada (Granada 1904) . Luis de Marmol Carvajal: Historia del Rebelion y Castigo de los Moriscos de Granada. Hernando de Baeza: Las Cosas de Granada (ed. por M. Muller, Gottingen 1863) . M. Gaspar y Remiro: Documentos Arabes de la Corte Nazari de Granada. M. Gaspar y Remiro: Entrada de los Reyes Catolicos en Granada al Tiempo de su Rendicion (Revista de Cen- tro de Estudios Hist. de Granada) . Documentos Inéditos para la Historia de Espana. M. Garrido Atienza: Las Capitulaciones para la Entrega de Granada (Granada 1910) . P. Martiri de Angleria: Legatio Babylonico (Una Embajada de los Reyes Catolicos a Egipto) . M. Gomez-Moreno: El Arte en Espana. A. Liorente: Historia Critica de la Inquisicion de Espana (Madrid 1817) . M. Alarcon: Miscelaneo de Estudios y Textos Arabes (Madrid 1915) . M. Danvila y Collado: La Espulsion de los Moriscos Espano- les (Madrid 1889) . Florecio Janer: Condicion Social de los Moriscos de Espana (Madrid 1857) . Modesto Lafuente: Historia General de Espana (Madrid 1882) . D. Felipe Picatosti: Estudios sobre la Grandeza y Decadencia de Espana (Madrid 1887) . M. Menéndez y Pelayo: Historia de los Heterodoxes Espanoles. D. Pascual Boronat: Los Moriscos Espanoles y su Expulsion. R. Menéndez Pidal: Origines del Espanol. F. Saavedra: Discurso leido ante la Real Academia Espanola (Madrid 1878) . Al-Andalus (Revista de las Escuelas de Estudios Arabes de Madrid y Granada)

فهرست الموضوعات

فهرست الموضوعات مقدمة ......................................................................... 3 تاريخ مملكة غرناطة الكتاب الأول مملكة غرناطة منذ قيامها حتى عصر السلطان أبى الحسن الفصل الأول: الأندلس الغاربة ................................................ 16 الفصل الثانى: نشأة مملكة غرناطة وقيام الدولة النصرية ......................... 27 الفصل الثالث: طوائف الأمة الأندلسية فى عصر الإنحلال ....................... 55 الفصل الرابع: طبيعة الصراع بين الأندلس واسبانيا النصرانية .................... 74 الفصل الخامس: تاريخ اسبانيا النصرانية منذ أوائل القرن الحادى عشر حتى قيام مملكة غرناطة ......................................................... 84 الفصل السادس: مملكة غرناطة عقب وفاة ابن الأحمر وعصر الجهاد المشترك بين بنى الأحمر وبنى مرين ................................................ 94 الفصل السابع: مملكة غرناطة فى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى وذروة الصراع بين بنى مرين واسبانيا النصرانية ................................. 117 الفصل الثامن: الأندلس بين المد والجزر ........................................ 138 الفصل التاسع: تاريخ اسبانيا النصرانية منذ قيام مملكة غرناطة حتى اتحاد مملكتى قشتالة وأراجون .............................................. 169 الكتاب الثانى نهاية دولة الإسلام فى الأندلس الفصل الأول: الأندلس على شفا المنحدر ...................................... 188 الفصل الثانى: بداية النهاية ..................................................... 215

الفصل الثالث: الصراع الأخير ................................................. 229 الفصل الرابع: ختام المأساة ..................................................... 271 مأساة الموريسكيين أو العرب المتنصرين الكتاب الثالث مراحل الإضطهاد والتنصير الفصل الأول: بدء التحول فى حياة المغلوب .................................... 308 الفصل الثانى: ديوان التحقيق الإسبانى ومهمته فى إبادة الأمة الأندلسية ...................................................................... 328 الفصل الثالث: ذروة الإضطهاد وثورة الموريسكيين ............................. 349 الكتاب الرابع نهاية النهاية الفصل الأول: توجس السياسة الإسبانية وعصر الغارات البحرية الإسلامية ..................................................................... 378 الفصل الثانى: مأساة النفى ..................................................... 393 الفصل الثالث: تأملات وتعليقات عن آثار المأساة ............................... 411 الكتاب الخامس نظم الحكم والحياة الإجتماعية والفكرية فى مملكة غرناطة الفصل الأول: نظم الحكم فى مملكة غرناطة وخواصها الإجتماعية ................ 434 الفصل الثانى: الحركة الفكرية فى مراحلها الأولى ................................. 452 الفصل الثالث: عهد النضج والإزدهار .......................................... 469 الفصل الرابع: العصر الأخير والآثار الباقية ....................................... 488 ثبت المراجع ..................................................................... 519

فهرست الخرائط والصور والوثائق

فهرست الخرائط والصور والوثائق 1 - خريطة مملكة غرناطة وعدوة المغرب ............................... صدر الكتاب 2 - "الأندلس والممالك الاسبانية فى أواخر عصر الموحدين ...................... 29 3 - "الأندلس بعد الانهيار ..................................................... 89 4 - "غرناطة الإسلامية ...................................................... 259 5 - "مدينة الحمراء وقصر جنة العريف ....................................... 291 الصور 1 - ألفونسو العالم ............................................................ 104 2 - إيسابيلا الكاثوليكية ملكة قشتالة ......................................... 181 3 - فرناندو الكاثوليكى ملك أراجون ......................................... 183 4 - أبو عبد الله محمد سلطان غرناطة وآخر ملوك الأندلس ..................... 207 5 - أبو عبد الله محمد آخر ملوك الأندلس - صورة أخرى ..................... 275 6 - منظر عام لمدينة الحمراء ................................................... 293 7 - من زخارف بهو السفراء .................................................. 295 8 - نافورة الأسود والشرفة الوسطى لفناء الأسود .............................. 297 9 - واجهة قصر جنة العريف .................................................. 299 10 - الكردينال خمنيس دى سيسنيروس ....................................... 317 11 - ضريح فرناندو وإيسابيلا بكنيسة غرناطة ................................. 351 12 - الإمبراطور شارلكان ..................................................... 353 13 - الملك فيليب الثانى ....................................................... 359 14 - دون خوان .............................................................. 371 15 - أمير البحر خير الدين .................................................... 387 16 - الملك فيليب الثالث ...................................................... 399 الوثائق 1 - وثيقة مدجنية مؤرخة فى سنة 801 هـ (1398 م) ومحفوظة ببلدية بنبلونة ...... 59 2 - وثيقة مستعربية من مجموعة دير سان كليمنتى بطليطلة مؤرخة فى سنة 1173 م ... 71

3 - معاهدة التحالف المعقودة بين محمد بن الأحمر وملك أراجون فى سنة 701 هـ (1301 م) ..................................................... 111 4 - معاهدة الصلح المعقودة بين السلطان أبى الوليد اسماعيل وملك أراجون فى سنة 721 هـ (1321 م) .......................................... 119 5 - وثيقة تجديد معاهدة الصلح السابقة معقودة بين السلطان محمد ابن اسماعيل وملك أراجون فى سنة 726 هـ (1325 م) ........................ 123 6 - رسالة مرسلة من السلطان يوسف أبى الحجاج إلى دون ألفونسو ملك أراجون فى سنة 735 هـ (1335 م) ..................................... 131 7 - وثيقة اعتماد صادرة من السلطان أبى الحجاج إلى وزيره القائد ابن كماشة سفيره إلى بيدرو الرابع ملك أراجون ومؤرخة سنة 745 هـ (1344 م) ......... 133 8 - وثيقة صادرة من السلطان أبى الحسن المرينى باعتماد الصلح المعقود بين سلطان غرناطة وملك أراجون مؤرخة فى سنة 746 هـ (1345 م) .............. 135 9 - رسالة موجهة من السلطان الأيسر إلى قادة حصن قمارش مؤرخة فى سنة 831 هـ (1428 م) .................................................... 157 10 - صورة جانب من معاهدة التحالف والخضوع المعقودة بين يوسف ابن المول وخوان الثانى ملك قشتالة فى سنة 835 هـ (1432 م) ................. 159 11 - مرسوم صادر من السلطان أبى الحسن إلى رسول الملكين الكاثوليكيين بقبول التحكيم ومؤرخ فى سنة 882 هـ (1478 م) ............................. 193 12 - خطاب مرسل من السلطان أبى عبد الله محمد إلى قائد وأشياخ أجيجر يدعوهم إلى طاعته مؤرخ فى سنة 895 هـ (1489 م) ........................... 233 13 - الصفحة الأخيرة من معاهدة التسليم التى أصدرها الملكان الكاثوليكيان لأبى عبد الله وأهل غرناطة وعليها توقيعا فرناندو وإيسابيلا (1491 م) .............. 253 14 - ذيل المعاهدة النهائية التى عقدت بين الملكين الكاثوليكيين وأبى عبد الله وفيها يتعهد بمغادرة الأندلس، وعليها توقيعه وخاتمه (1493 م) .................... 279 15 - صورة خطاب مولاى عبد الله إلى دون هرناندو دى براداس مكتوب بخطه ومذيل بتوقيعه ....................................................... 373 16 - الصفحتان الأوليان من كتاب فى الأدعية النبوية محرر بالألخميادو ............. 497 17 - صفحتان من كتاب فى التفسير محرر بالألخميادو .............................. 499

§1/1