دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين

مالك بن نبي

مالك بن نبي دَوْرُ الْمُسْلِمِ وَرِسَالَتُهُ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِيْن دار الفكر الجزائر دار الفكر دمشق - سورية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ دَوْرُ الْمُسْلِمِ وَرِسَالَتُهُ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِيْن

الطبعة الأولى 1412هـ - 1991م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يتضمن هذا الكتاب نص المحاضرة الأولى، التي ألقاها المؤلف- رحمه الله- في رابطة الحقوقيين بتاريخ 23 صفر 1392 للهجرة، الموافق 28 آذار (مارس) 1972 للميلاد، في مدينة دمشق، تحت عنوان (دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين). ونص المحاضرة الثانية التي ألقاها في مسجد المرابط، في مدينة دمشق بتاريخ 19 ربيع الثاني 1392هـ الموافق 22 أيار (مايو) 1972م، تحت عنوان (رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين).

تقديم (دَوْرُ الْمُسْلِمِ وَرِسَالَتُهُ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِيْن) هاتان محاضرتان من نفحات دمشق. نفحات طالما استفاض بها فكر المرحوم مالك بن نبي، وهو في زيارة هذا البلد العزيز، فأعطى الكثير، وأضاء من جوانب فكره ما حمل المزيد من المؤلفات. ففي عام 1959م زار الأستاذ مالك دمشق لأول مرة، فأحب فيها شغفاً إلى الجديد من الفكر، واهتماماً بما سبقه إليها من عطاء أعطاه في القاهرة، في (شروط النهضة) و (الظاهرة القرآنية) و (الفكرة الإفريقية الآسيوية) ... وهكذا تتابعت أفكار بن نبي كتاباً إثر كتاب، وتتابع الاهتمام بها سحابة من الزمن غير يسيرة.

وفي بداية السبعينات، أحس كأنما أوشكت مسيرته على طريق الرسالة تبلغ الأجل الذي أجله الله لها، فمرَّ ببيروت عام 1971م، ثم بطرابلس لبنان، وأودعني - رحمه الله- وصية سجلها في 16 ربيع الثاني 1391هـ الموافق 10 حزيران (يونيو) 1971م في المحكمة الشرعية في طرابلس، حملني فيها مسؤولية الحفاظ على أفكاره والإذن بنشر كتبه. ثم عاد في العام التالي عام 1972م، فمرَّ بدمشق وهو قافل من رحلة الحج الأخيرة، ليقف على منبرها الفكري، ويلقي وصيته الأخيرة في رحاب مسجد المرابط، وفي هذا ما فيه من دلالة جغرافية وفكرية معاً. أما الجغرافية فلأنه كان يشعر بأهمية دمشق وسورية على وجه العموم بصفتها موقعاً جغرافياً ملائماً، مارس دوره التاريخي في نشر الأفكار، التي أثرت في مسيرة الأمة العربية منذ بداية هذا القرن. وأما الدلالة الفكرية الخاصة، فلأن الحديث عن رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن، قد استلهم روحه في بيت من

بيوت الله اتخذ اسم المرابط، ذلك التعبير الإسلامي الذي يحمل قيمة الإنسان، في أرفع حالات التأهب النفسي للدفاع عن الرسالة والقيم. فالأستاذ مالك يربط بين الفكر والفعالية، فالفكر بغير فعالية إنما هو ترف لا يزن شيئاً في موازين التاريخ، والفعالية بغير فكر طريقٌ أعمى لا يدفع المجتمع في سبيل التقدم. هذه وصية تركها مالك بن نبي في ضمير أجيال، تتلمس الخروج من أزمتها الراهنة، وما نقول فيها ونحن نبلغها إلا كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» (1). في دمشق 8 شوال 1398 هـ 10 أيلول (سبتمبر) 1978م عمر مسقاوي

_ (1) رواه البخاري والترمذي والدارمي وابن ماجه وأحمد، مع اختلاف في الروايات.

دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين

دَوْرُ الْمُسْلِمِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِيْن محاضرة الأستاذ مالك بن نبي في رابطة الحقوقيين في دمشق 23/ 2/ 1392هـ = 28/ 3/ 1972م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ. أيها السادة الكرام، الأبناء والطلبة الأعزاء! إنني لا أستطيع أن أقدر هذه اللحظة حق قدرها في سجل حياتي مع أن اللحظات واللقاءات تتكرر. إنني أشعر بمزيد من السرور والفرح إذ أتحدث مع هذه الطائفة من الشباب المسلم في هذه الأصقاع من البلاد الشقيقة، سورية العزيزة، وفي معقل من معاقل الإسلام، المعقل العريق دمشق. ويجب علي أن أتوجه بالشكر لإخواننا الحقوقيين الذين أفسحوا لنا المجال وقدموا لنا هذا المكان، لنعرض ما استطعنا دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين في رأينا. لو حاولنا تحديد دور المسلم عامة ما كان لنا أن نختار سوى ما اختاره الله له دوراً في التاريخ. يقول عزَّ

وجلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143/ 2]. هكذا يحدد الله دور المسلم بصورة عامة، وليس لنا أن نختار له دوراً أشرف وأفضل منه، وإنما نلفت النظر إلى خطورة هذا الدور وإلى مقتضياته، التي هي من اختصاص الفقهاء ومن اختصاص الحقوقيين، لأنهم يعرفون شروط تزكية الشهادة، والشاهد من الناحية العقلية ومن الناحية الأخلاقية معاً. لكن لماذا أفردنا وتعمدنا إفراد فترة معينة من هذا القرن؟ أولاً: لطبيعة القرن العشرين التي يتميز بها عن القرون الأخرى كلها، لأنه القرن الذي تحققت فيه تغيرات جذرية، بدت وكأنها ترسم للإنسانية نقطة اللارجوع على محور الزمن، فهو القرن الذي هبت فيه أكبر عواصف التاريخ على مصير الإنسانية. ثانياً: لأنه القرن الذي سجل الأحداث الكبرى،

سواء في مجال العلم، أو -كما سنرى- في المجال النفسي، أو في المجال الأخلاقي والديني. ففي كل هذه المجالات هبت عواصف كبرى يبدو أنها غيرت معالم الطريق. وعلى أية حال فهي قد غيرت ملامح الزمن والمجتمعات الإنسانية. هذه التغيرات تحققت من خلال أحداث كبرى، خاصة منها الحربين العالميتين اللتين هزتا العالم مرتين في ظرف أربعين سنة، وشملتا للمرة الأولى في التاريخ سائر أنحائه. ولوقع هذه الأحداث نتائج لا مناص منها، بعضها دخل سجل التاريخ وتسجل في حافظة الإنسانية وفي كتبها، وبعضها دخل عالم النفوس، سواء استطعنا قراءته أم لم نستطع،. وبعضها لازال توقعات في ضمير الغيب نرى من خلالها أحداثاً كبرى مطلة على زماننا. فهذه الأسباب تجعلنا نرى في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين، كأنه النهر قرب شاطئ البحر وقد بلغ المصب، بعد أن تجمعت فيه جميع روافده من المياه، التي انحدرت من أعالي الجبال في أقصى داخل البلاد. فالثلث الأخير يبدو هكذا تلك الفترة من التاريخ التي

تتجمع فيها كل روافد التاريخ، بكل نتائجها النفسية والاجتماعية والسياسية والعلمية، وكل التغيرات المترتبة على هذه النتائج. وعليه فإن هذه المسوغات تكفي لتسويغ اختيارنا له بصفته حقبة زمنية استثنائية في التاريخ، يكون دور المسلم فيها شيئاً استثنائياً أيضاً، يجب إدراجه بطريقة خاصة في الدور العام الذي حدده له القرآن الكريم بوصفه شاهداً، وذلك أمر يجب أن يدخل في اعتبارنا ويجب أن نقدره بقدر ما يمكننا من الواقعية، حتى نقدم لشبابنا الصورة الموضوعية، التي يرى من خلالها دوره هو ودور إخوانه الآخرين فيه، لأن رسالة الجيل الناشئ ستحقق على أية حال إما سلبية أو إيجابية فيه، فهو ثلث تحقق رسالته. ولكي نتبين طبيعة هذا الدور، الذي يجب على الشباب المسلم أن يتصدى- منذ الآن- للاضطلاع به في هذه الحقبة المواجهة له، المنفتحة أمامه، يجب أن نراجع بعض السمات التي يتميز بها هذا الثلث الأخير في العالم المتحضر، لأن مركز الفكر العالمي اليوم يوجد على محور

سبق أن سميناه، في كتاب سبق نشره (1)، محور (واشنطن- موسكو)، محور القوة، محور العلم، محور الحضارة. يجب إذن أن نلتفت إلى هذا المحور، مركز الثقل الذي تطبع عليه الأحداث كل أبعادها العالمية، ونتساءل ما الذي طرأ على هذا المحور؟ ماذا حدث فيه خلال القرن العشرين؟ ما هي التسجيلات الخاصة - وهذا ما يهمنا- في العالم الثقافي وفي العالم النفسي عليه؟ إن الأجيال في هذا المجتمع المتحضر عاشت على رصيد ثقافي ورثته من الأجيال السابقة، أعني أنها عاشت على رصيد المسوّغات التي دفعت عجلة التاريخ في القرون الماضية، وخصوصاً في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. والذي يبدو- خاصة إذا رجعنا إلى فترة ما بعد الحربين العالميتين- أن هذا الرصيد من المسوّغات الضرورية لتحمّل أعباء الحياة، بدأ ينفد، وبدأت

_ (1) الفكرة الإفريقية الآسيوية.

الشعوب التي تعيش على محور (واشنطن- موسكو)، الشعوب المتحضرة، بدأت تشعر جميعها بنفاد رصيدها الثقافي، رصيد مسوّغات حياتها التقليدية الموروثة عن أجدادها، وبدأت فعلاً تجري عمليات تعويض في شتى الميادين، حتى في ميدان الأدب حيث نرى لوناً جديداً يظهر تحت اسم (الوجودية). وإذا كان من حق أصحاب هذا اللون من الأدب أن يحللوا القضية من الناحية الأدبية، كما يفعل (كير كجارد وهايدجر وسارتر)، في كل من الدانمرك أو ألمانيا أو فرنسا، فإن من حقنا نحن أن نحلله من ناحية أخرى. فنرى فيه رد فعل أدبي على شعور غامض لفقدان المسوغات في المجال النفسي. والسؤال الآن كيف فقدت هذه المسوغات، التي تحركت ودارت عليها عجلة التاريخ طيلة القرون الماضية في أوربة؟ لنتصور كيف كان ينشأ الطفل في زمان (كيبلنج) مثلاً أو في زمان (أرنست رنان) مثلاً.

كيف كان ينشأ في بيته؟ ثم كيف يتعلم في مدرسته؟ ثم كيف كان يتوجه في عمله بعد التخرج من الجامعة، أو عندما يبلغ أشده ويتوجه إلى الحياة العملية جندياً في تلك الجيوش التي تفتح البلدان التي تسمى المستعمرات. كان الطفل في ذلك الوقت ينشأ وحوله جو من الأفكار منبتها الاستعمار، أي المناخ الاستعماري الذي تكوَّن في أوربة وفي أمريكة على حدٍّ سواء، وفي الاتحاد السوفييتي قبل الثورة أيضاً. هذا المناخ الاستعماري هو الذي كان ينشأ فيه الطفل منذ ولادته، نشأة لا يبدو معها غريبا في هذا المناخ الذي كان يسود العالم المتحضر " أن يقوم من فرنسا كاتب قصصيى كبير في أواخر القرن الماضيى هو (جلفرن)، ليكتب عن ملحمة لا تمت بصلة إلى بطولة الفرنسيين أو بطولة الجيش الفرذسي، هي ملحمة عنوانها (ميشال ستروجوف)، بل تتصل بفتح روسيا للبلاد الإسلامية في بخارى. وكانت قصة غريبة فعلاً، إن دلت على شيء فإنما تدل على سيادة المناخ الاستعماري شرق البلاد وغربها، ذلك

المناخ الذي سيتم فيه إبرام الميثاق الاستعماري في مؤتمر برلين 1881م، حيث كان الضمير الأوربي، الضمير المتحضر يعيش هذه الملحمة المتفقة مع روح ذلك الميثاق، فلا نستغرب معه استعمال تسميات الاكتشافات الاستعمارية والفتوحاف الاستعمارية. لكن الشيء الذي يهمنا نحن من جانب التحليل اليوم- كي نعود إلى موضوعنا- هو كيف فقدت المسوغات؟ كان الطفل يشبع جانب تعطشه للأشياء الغريبة والقصص النادرة وقصص البطولات، في جو الاستعمار وفي ملحمة الفكرة الاستعمارية نفسها، لذلك لا نستغرب أن نرى رجلاً كـ (ستانلي) في أواخر القرن الماضي، نشأ في هذا الجو وتكونت عنده فكرة الاكتشافات وفكرة الفتوحات، نراه يغادر وطنه وينزل إلى إفريقية الوسطى فيحتل قطاعا ًكبيراً منها. لقد كان يرى ما يراه على الخريطة قطعة بيضاء فراودته الفكرة أن يلونها بلون ما، وكان اللون الأحمر على الخرائط المستعملة في أواخر القرن الماضي مخصصاً لتلوين

المستعمرات الفرنسية، واللون الأخضر لتلوين المستعمرات الإنجليزية، واللون البني لتلوين المستعمرات البرتغالية، واللون الأصفر لتلوين المستعمرات الهولندية إلخ ... فأراد (ستانلي) أن يلون قطعة ما من إفريقية بلون يخول هذه القطعة أن تكون هدية لأوربة بصفتها مستعمرة، وقد أهداها فعلاً لما تمَّ وضع اليد عليها- على الكونغو-، إلى تاج بلجيكا وكأنها ملك أجداده أو قطعة من تَرِكَتهم يقدمها إلى ملك أو ملكة بروكسل. أما إذا كان هذا الأوربي جندياً فإن نشأته في هذا الجو، تصور له أن المجال لأداء واجباته الوطنية وواجباته العسكرية، هو قطاع من قطاعات إفريقية وآسية. هكذا كانت الأمور تسير، وهكذاكانت تتفتح نفوس الأطفال في أوربة. يضاف إلى ذلك تدخل بعض الأشياء ذات الجانب الخفي، الجانب الذي يتصل بما نسميه الصراع الفكري؛ الأشياء التي تصور لهذا الطفل

الناشئ حتى قبل دخوله إلى المدرسة الابتدائية أو قبل خروجه منها- في مجلات متخصصة للأطفال- تصور له آيات البطولة في إفريقية على حساب أولئك البرابرة من السود أو من الصفر، مما يجعله يعتقد عندما ينزل بلاداً مثل (شنكهاي) في أواخر القرن الماضي، أنه هو رب الصين. فيضع لافتة على باب الحديقة- رأيناها نحن عندما زرنا الصين، لأن الحكومة الصينية تركتها كما هي بعد خروج الاستعمار منها- كتب عليها ((لا يدخل هذه الحديقة الكلاب ولا الصينيون))، بعض الكلاب طبعاً. لقد كان ترتيب الكلمتين الكلاب أولاً والصينيون ثانياً. هذا هو المناخ الذي كانت تتكون فيه نفوس الأطفال ونفوس الشبان ونفوس الرجال، وهذا هو المناخ الذي كانت تنطلق فيه الطاقات- طاقات لا نحتقرها فعلاً- كتلك الطاقة الجبارة التي نتصورها في شخص مثل الأب (دوفوكو)، الذي تطوع أن يذهب في سنة 1908م على الأقدام، من مدينة في جنوب

الجزائر، لفتح القطاع الصحراوي حتى حدود ما يسمى بالسودان الغربي. فهذه الأشياء كانت تغمر الحياة الأوربية بفيض من المسوغات. وربما كانت هناك منابع أخرى لهذه المسوغات فقدت أو جَفّ نبعها بعد الحرب العالمية الأولي والثانية، بسبب تطورات تتصل بما حدث مثلاً بشأن الروابط الخفية أو الظاهرة بين مجالي العلم والنفس. فبقدر ما كانت تتحقق اكتشافات علمية كبرى في أوربة، بقدر ما كانت تترك صداها على المجال النفسي، وأثرها الكبير في التطور الروحي، حتى بدأت تفتر بعض المسوغات الروحية لأسباب لا نطيل عندها الوقوف، حتى لا نتعدى بعض الحدود من اللياقة. هكذا فقدت المسوغات الروحية، وفقدت حتى المسوغات التي نسميها المسوغات الاجتماعية، المسوغات الموضوعية .. وإذا أردنا أن نعرف المسوغات الموضوعية نذكر على سبيل المثال، ما كان لهم من ثقة بكلمتي العلم والحضارة، فقد كانت هذه الثقة هي منطلق الأفكار

الأوربية في القرن التاسع عشر، وفي بداية القرن العشرين، خصوصاً قبل الحرب العالمية الأولى. والصلة بين هذين الجانبين واضحة. فحينما تفقد حياة ما أو مجتمع ما مسوغاته، لابدَّ أن يقوم بعمليات تعويض: يستبدل بمسوغات قديمة أو تقادمت، أو فقدت تأثيرها في الحياة الاجتماعية، بصفتها دوافع قوية للحياة الفكرية والعلمية والعسكرية والاقتصادية، يستبدل بها مسوغات جديدة. فإذا لم تأت عملية التعويض كما ينتظر منها بالمسوغات الجديدة فماذا يحدث عندئذ؟ تحدث الأزمة الخطيرة التي يعيشها العالم المتحضر اليوم. فالعالم المتحصر اليوم، يبدو أنه قد أخفق في عملية التعويض، سواء من الجانب الأدبي كمحاولة الوجودية مثلاً، أو من الجانب السياسي كمحاولة الرجوع لأصله الأوربي، بحثاً عن منطلقات جديدة لأفكاره ولنشاطاته

الاقتصادية، فكأنما تقطعت أنفاسه، ولم تعد في متداوله تلك الأشياء المتينة التي كان يرتكز عليها في القرن الماضي وبداية هذا القرن. وعندها فإن من الطبيعي أن من لا يجد سنداً في مسيرته التاريخية سيقع في حيرة وتيه وقلق. وهذا ما يفسرلنا ما نراه اليوم، من حيرة قائمة فعلاً في العقول والنفوس والأرواح. فإذا ما اجتمعت هذه الأشياء فعلاً في نفس بشرية، فعندها يمكن أن نتصور ما تولده من دوافع سلبية. فإذا ما فقد مجتمع ما مسوغاته ولم يستطع تعويضها بالطرق المشروعة في محاولات مبذولة، عندها يعتريه القلق ويعتريه التيه وتعتريه الحيرة ... فماذا يترتب على هذا من تصرفات؟ يترتب عليها التصرفات التى نراها في أوربة وأمريكة اليوم. يترتب على هذا مثلاً: أن نجد البلد الذي حقق الضمانات الاجتماعية إلى أقصى حد مثل السويد، يتميز

بشيء خطير وهو أنه يتصدر رأس القائمة في (إحصائية الانتحار العالمية). فظاهرة الانتحار في العالم، يشغل فيها المكان الأول، البلد الاكثر تقدماً نسبياً من حيث الضمانات الاجتماعية. وهذا إن عنى شيئاً فإنما يعني أن البطون إذا امتلأت لا تغني النفوس ولا تشبعها. إذا شبعت البطون قد تبقى الأرواح متعطشة، تبقى الأرواح متطلعة. وحين لا تجد وجهة تتطلع إليها تفضل الاستقالة من الحياة. هذا إذن ما يحدث، وقد يحدث في بلاد أخرى أكثر من هذا في صورة ما؛ ويبدو أن هناك صوراً أخرى للاستقالة من الحياة، هي في الحقيقة أشنع من الناحية الأخلاقية، ولا أقول من الناحية الدينية. فهي أشنع لأن كل صور خيبة الأمل تتجلى فيها، مع شيء من العجز حتى عن القيام بهذه المحاولة لإعدام النفس. وذلك أن هذه المحاولة تتطلب شيئاً من الشجاعة. ولأن الإنسان فقد مروءته إلى درجة الفشل، حتى في التخلص من الحياة بالطرق غير

المشروعة، فإنه يفر منها عن طريق الموبقات، عن طريق التدهور الأخلاقي، عن طريق الإدمان على المخدرات، فيصبح المجتمع مهدداً بالخراب، لأن قاعدته الاجتماعية تنهار، أي شبابه ينهار. إن بعض الإحصائيات الأخيرة، التي وقعت بين يدي عن إدمان المخدرات في محافظة باريس، والتي نشرتها مصلحة الأمن في هذه المحافظة، في تقرير رسمي صادر عن مجلة تصدرها تلك المصلحة، تفيد أن نسبة المدمنين بين الشباب لِلمخدرات، تضاعف بنسبة عشرين في المئة في السنتين الأخيرتين، فبإمكانكم إذن أن تتصوروا ماذا سيكون معدل ارتفاع النسبة خلال السنوات العشر المقبلة. ويمكن، إن جرت المسائل كما تجري الآن، أن يعم الإدمان الشباب كله في باريس. وأظن أن الأمور تجري على الوتيرة نفسها في سائر أنحاء فرنسا. يبدو أن الشباب الفرنسي سوف ينهار، وسوف يحاول الانفلات من حياة فقدت مسوغاتها، عن طريق

المخذرات. إن دلَّ هذا على شيء، فهو يدل على أن المجتمع يفقد الآن قاعدته الاجتماعية المتينة وهي شبابه، يضيعه إما في المتاهات، أو في الخمارات، أو في المخدرات أو في المقابر، عندما ينتحر. وهذا ما يدعونا بالطبع إلى أن نحلل هذه الأشياء. ماذا تعني هذه الأشياء؟ ماذا تعني هذه اللوحة القاتمة التي قدمناها بخطوط سريعة، بعبارات فجة ملتقطة يميناً وشمالاً؟ إذا مضينا قليلاً في حلِّ الأزمة خصوصاً في أمريكة، يبدو لنا أن المجتمع الأمريكي يعاني ظاهرة تضخم من ناحية وتناقص من ناحية أخرى. تضخم الإمكان الحضاري وتضاؤل الإرادة الحضارية. أي تناقض بين الإرادة الحضارية والإمكان الحضاري. إذا أردنا توضيحاً أكثر، نقول: إن الهوة أصبحت تتسع بين الواقع الطبيعي الإنساني الذي ورثه وورث مسوغاته التقليدية وبين واقعه الثقافي اليوم.

فالهوة بدأت تتسع، والإنسان أصبح يتمزق -خاصة الشباب- بين فكرة لا يستطيع التخلص منها تماماً لأنها مسجلة في طينته البشرية، تلك الطينة التي كرمها الله، وبين واقع ثقافي لا يقدم له مسوغات ولا يعطيه بديلاً عن مسوغاته التقليدية المفقودة. هذه هي الصورة التي نستطيع تقديمها في خطوط عريضة، عن الحياة في المجتمع المتحضر وعلى محور (واشنطن- موسكو). وإذا تساءلنا الآن هل ظاهرة التدهور والانحلال .. هذه فاقدة المعنى بالنسبة للمؤرخ، الذي يريد أن يفيد حتى من التجارب الشاذة المؤلمة؟. نستطيع أن نقدم افتراضاً احتمالياً فنقول: لعلَّ الله يريد شيئاً من وراء هذا كله. كأنما هذا استدراج، تسوق الأقدار فيه هذا المجتمع المتحضر إلى طريق، حيث تنتهي فيه أخطاؤه، ليفسح مجالاً لتجربة أخرى بعد إخفاق التجارب السابقة، ونحن نري فعلاً أن التجارب الأساسية في التاريخ لن تبدأ حتى تخفق قبلها كل التجارب السابقة التي فقدت أسسها التاريخية.

يجب أن ينتهي التاريخ في نقطة ما كي يتجدد التاريخ من نقطة جديدة. يجب أن يكون هذا مفهوماً وخاصة لدى الشباب. يجب أن يخفق التاريخ، يجب أن يفلس التاريخ. وأحياناً يجب أن نعلن الإفلاس كي نشعر الناس وخصوصاً الشباب بأن هذا الإفلاس هو طريق البداية. فلعلَّ هذا الذي نراه على ذلك المحور استدراج لشيء ربما تعبر عنه الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، [الصف: 9/ 61]. ربما هذا هو القطب الذي يتجه إليه مجرى التاريخ في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين. وعلينا أن نتأكد بقدر إمكاننا من هذا، وليس لنا أن نقرر ونبتّ في شيء قبل انقضائه، فلكم أنتم أيها الشباب بعد ثلاثين سنة أن تروا الحقيقة سافرة كما هي. أما نحن في جيلنا فلا نرى إلا توقعات، ونحاول أن نرى من خلال هذه التوقعات جانباً من مصير الإنسانية. يجب علينا أن نقوم بعمليتين: أن نرسم خريطة،

الخريطة (الأيديولوجية) كما يقولون اليوم أو خريطة الأديان كما نقول نحن، في العصر الذي تنزلت فيه هذه الآية، وهذه الآية فما أظن آية مكية (1) أعني في البداية، أعني في نقطة الصفر. لو كان لنا أن نرسم الخريطة فعلاً في وقت تنزلها - تنزيل الآية- لوضعنا على الخريطة نقطة من لون معين يعبر عن رقعة الإسلام في العالم وهي مكة، فنلونها بلون ما. هذا اللون الإسلامي. لا يعدو أن يكون نقطة في الكون ... بينما تتنزل هذه الآية كأنها تحدٍّ لهذا الواقع، كأنها تحد لا يتصوره العقل تصوراً لو كنا معه نحن معشر عباد القرن العشرين، بعقلانيتنا وعلميتنا نعيش في وقت التنزيل لقلنا هذه خرافة. ما هي هذه الخرافة؟ إن هذه الآية تتحدى .. !! تتحدى الإمبراطوريتين والحضارتين القديمتين الكبيرتين: إمبراطورية وحضارة فارس من ناحية، وإمبراطورية وحضارة بيزنطة

_ (1) نزلت الآية في الحديبية سنة 6 هـ (المصحح).

والبحر الأبيض على العموم من ناحية أخرى، فهذا التحدي هو من أقسى معجزات القرآن في الحقيقة، وذلك عندما نتصوره في وقت التنزيل، لأننا إذا رسمنا الخريطة الأيديولوجية آنذاك فماذا نجد عليها؟ إننا نجد عليها لون المجوسية أو لون الديانة الفارسية، ولون البوذية، ولون البرهمية أو لون الهندوكية كما يقولون، ولون المسيحية، ولون اليهودية ... ونقطة مغمورة في الكون هي مكة نقطة الإسلام. فلو أردنا ونحن في ذؤابة القرن العشرين، الثلث الأخير منه، رسم خريطة جديدة للأديان اليوم، في عام 1972م فماذا نجد؟ نجد أن البوذية قد شطب عليها قلم السيد (ماوتسي تونغ) فمحاها من الوجود. وأما المجوسية فقد محاها عمر يوم القادسية. وأما البرهمية فقد محتها ظروفها الخاصة بوصفها ديناً لا بوصفها ثقافة، فهي بوصفها تراثاً تقافياً ستبقى إلى أجل لا ندري مداه

- نتجنب التكهنات- أما بوصفها ديناً فقد انتهت وانتهى دورها، لقد فشلت في أبسط مهماتها خاصة بعد استقلال الهند، فقد سجلت الهند في السطور الأولى من دستورها عام 1948م-، أنها- سوف تقضي على حالة المنبوذ، وكان من سجل هذا إنما سجله تحت إملاء الروح الكبير كما يقولون أي (مهاتما غاندي)، وقد سجل هذا البند في أحسن ظروف تطبيقه بعد الخلاص من محنة الاستعمار، وبعد فرج الاستقلال وفرحة الاستقلال. واليوم إذا راجع الهندوكي أو راجعنا نحن القضية بعد عشرين سنة نراها قد فشلت فشلاً ذريعاً. وهي قضية لا تتصل بمصير عشرة آلاف مثلاً بل تتصل بمصير ثمانين مليوناً من البشر تقريباً، وهذا ليس بالشيء الهين. لقدفشلت لأنها لم تستطع حل المشكلات الاجتماعية، وهذا يعني كأنما قد قدمت استقالتها من التاريخ. أما المسيحية فقد حدثت لها أيضا في الفترة الأخيرة تطورات غريبة عبر عنها ذلك المجمع المسكوني الأخير،

وقبله مجمع الفاتيكان الثاني. لقد أصبحت تعاني من مشكلات تعبر عن ظروف خطيرة جداً تواجهها المسيحية اليوم. فالمسوغات المسيحية بدأت فعلا تفقد تأثيرها في الحياة المسيحية، فقد بدأ بعض القسيسين- على رغم من تأديتهم يمين الدخول في سلك الرهبنة: يمين أنهم يعيشون من أجل الله، وأنهم لا يتزوجون ويلتزمون بجميع شروط الرهبانية- بدؤوا بعد هذا اليمين المقدس - على شروطهم- يصرحون في الصحافة. وفي مؤتمرات صحفية كبرى تدور أحياناً أمام عدسة المصور، ويعلنون أنهم ألقوا المسوح وتخلصوا من أعبائه وأنهم تزوجوا .. ونرى المعركة تدور في مستوى أعلى، على مستوى الكردينالات في الفاتيكان، فيقدم كردينال هولندي (الكردينال سانس) استقالته من المجمع المسكوني، مساندةً للقساوسة من الشباب الذين تمردوا على المسوح وشروط لباسه، ثم احتجاجاً على سياسة الفاتيكان الاجتماعية. ما معنى هذا بالنسبة إلينا نحن الذين نحلل هذه الظروف ... ؟

معناه أن المسيحية بدأت فعلاً تفقد المسوغات التي يجب تقديمها للشباب القسيسين وللمرأة على حدٍّ سواء. ولقد حدث الذي كان لابدَّ من أن يحدث على أثر فقدان المسوغات. حدث أن بدأت دور التعليم العالي المسيحي في العالم، خاصة في أمريكة اللاتينية تغلق أبوابها الواحدة بعد الأخرى، ثم تبعتها الأديرة. ذلك لأن فتيات المجتمع الإيطالي قد انصرفن لمجالات أخرى من النشاط الأخلاقي، غير تلك التي تشرف عليها الهيئات الكهنوتية. وهكذا رأينا من سنتين حادثة ربما بلغكم صداها: أن أحد الأديرة ذا التاريخ العريق الممتَد إلى ستة أو سبعة قرون- كانت أبوابه خلالها مفتوحة دائماً- أصبح مهدداً بالإغلاق، لأنه فقد البنات المتطوعات لسلك الرهبنة ولبس المسوح، مما جعل القس المشرف على إدارة هذا الدير، يرى نفسه مضطراً أن يقوم بعملية أخذت أبعاد الفضيحة، وذلك حينما اكتشفتها صحيفة إنكليزية. لقد ذهب هذا القس لتفادي الوضع في ديره- ونحن نعلم كم كان له من عطف

وحنان على حياة هذا الدير- إلى الهند وإلى منطقة فقيرة (منطقة كارالا)، فاشترى منها عدداً من البنات بالعملة الصعبة، كي يعلمهن ارتداء لباس المسوح والقيام ببعض الطقوس البسيطة، وذلك لمدة شهرين قبل أن يزج بهن في الدير، كل هذا كي يبقى الدير ... ولكن صحيفة إنكليزية قد أفشت هذا السر للأسف، ثم تناولته الصحافة العالمية فأصبح فضيحة، وأصبح الفاتيكان يحاول التغطية بقدر الإمكان، لأنها فعلا فضيحة. فإذا رجعنا إذن إلى الخريطة المرسومة أمامنا نجد أن اللون المسيحي أيضاً يعاني ما يعاني، فهو كأنما بهت أو شحب. ونرى على الخريطة شيئاً غريباً: إن اللون الإسلامي ولوناً آخر جديداً- هو لون ديانة جديدة- يكتسحان العالم. فاللون الإسلامي اليوم يغطي مساحة من الدنيا تعادل نصفها تقريباً (مساحته الإفريقية والآسوية تقدر بنصف الدنيا تقريباً)، وعدته البشرية

تبلغ (800 مليون) - حصَّلنا هذا الرقم من إحصائية أخيرة تحت إشراف الأمم المتحدة-. ولكي نعطي هذا العدد الاعتبار الصحيح يجب أن تكون لدينا فكرة عن نموه في عدد من السنين. إنني حينما قرأت لأول مرة ما يسمى بالجغرافيا البشرية وأنا ابن 12 أو 13 سنة كان توزيع أتباع الأديان كما يلي: للمسيحية فيما أظن (600 مليون) وللبوذية (500 مليون) وللبرهمية (400 مليون) وللإسلام (250 مليوناً). وفي أوائل الحرب العالمية الأولى كان هذا عدد المسلمين كلهم في العالم، أي إن عدة العالم الإسلامي البشري كانت (250 مليوناً). فها نحن أولاء في مدى نصف قرن مثلاً نرى أن العدد قد تصاعد إلى ما يقرب الآن من المليار. إذن فنحن نرى طرفين في القضية وعلى خطين متوازيين: نرى أن سير التاريخ كأنما يستدرج العالم إلى فشل تجاربه وخيبة أمله، في تجاربه العلمية والتكنولوجية إلخ ... من ناحية، ومن ناحية أخرى نمو العالم الإسلامي كماً وكيفاً: كماً من حيث ازدياد السكان،

وكيفاً باكتساب تجارب جديدة حتى لو كانت سلبية. ونرى في الخطى الموازي كأنما الله يهيئ القاعدة التاريخية الاجتماعية لتحقيق الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف: 9/ 61]. فنحن نرى أن القضية تسير في اتجاه هذا القطب، إذ يبدو أن من يسير على الخط الحضاري، كأنه يستدرج بأخطائه وباكتشافاته العلمية، لتتهيأ لمن يسير على الخط الموازي ظروف ظهوره على مسرح التاريخ. سبق أن أشرنا إلى اللون الجديد الذي ظهر على الخريطة سنة 1917م وهو لون أحمر لون الشيوعية، وهي أيضاً دين وأنا أتحدث عنها هنا على هذا الأساس. فأنا لا أتناول الشيوعية هنا بوصفها مذهباً سياسياً أو مذهباً اقتصادياً، وإنما أتناولها في حديثي هذا على أنها عقيدة ودين تقدم هي الأخرى مسوغاتها، وهي في الطريق إحدى عمليات التعويض في العالم المتحضر للمسوغات التي فقدها. فإذا أخفقت محاولة الوجودية كما

أخفقت محاولة التعويض السياسي، لتنظيم وبناء جديد لحياة أوريية متحضرة بعد تصفية الاستعمار، فيجب أن نضيف إلى هذا أن عمليات التعويض التي نجحت، إنما نجحت على حساب المسوغات الأساسية التقليدية التاريخية أي على حساب المسيحية. فالشيوعية ظهرت نتيجة لعملية تعويض لمسوغات مفقودة. يتبين إذن أن خطي السير والأحداث التي تجري عليهما، كأنما تقود مصير الإنسانية نحو قطب يتحقق فيه معنى الآية التي ذكرناها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف: 9/ 61]. إن هذا ما يجعلنا نعيد النظر في موقف المسلم في هذا الثلث الأخير، إذ الآن يبدأ دور المسلم أمام هذه الظاهرة، حتى لكأنما أراد الله عز وجل تعطيل وتأجيل دور المسلم في هذا القرن حتى تنتهي كل تجارب الآخرين بالفشل، ويستطيع إصلاح أخطائهم، أو حتى تصل تجاربه إلى نهاية فشلها فتكون له الخبرة لتدارك أخطائه.

ولكن كيف يتحدد هذا الدور؟ يتحدد طبعاً طبقاً لهذه الظاهرة التي نرى جانبيها، جانبها الذي يتحقق على محور (واشنطن- موسكو)، والجانب الآخر الذي يتحقق على محور ما سميناه محور (طنجة- جاكرتا)، والذي نسميه الآن محور الإسلام. فكيف نتصور دور المسلم؟ يجب أن يفكر المسلم كيف يسير في اتجاه التاريخ. كيف يستغل الظروف السانحة التي تتهيأ له على المحورين: المحور الذي فقد المسوغات التقليدية والذي ينتظر مسوغات جديدة. والمحور الذي أشار الله عزَّ وجلَّ إليه في الآية الكريمة: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الصف: 9/ 61]. كيف نتصور إذن دور المسلم؟ نتصوره طبقاً لضرورات داخلية وضرورات خارجية: ضرورات إنشاء وتشييد في الداخل، وضرورات اتصال وإشعاع في الخارج. ولو ألقينا سؤالاً

الآن فلا شك أننا سنتفق على الجواب. فعندما نتساءل كيف يقوم المسلم بدوره في اتجاه تحقيق معنى الآية الكريمة التي أوردناها نجيب آلياً: إن على المسلم أن يبلغ الإسلام، دون أن نحدد في إجابتنا شروط هذا التبليغ، وهذا هو المنطق السهل الذي يغرر بنا، إن الجواب صحيح شكلياً ولكننا بكل أسف نقف عند الجواب ولا نرى مقتضياته الواقعية. سأعطيكم صورة رمزية نطبقها بعد ذلك: هل ترون إلى أرض عطشى تنتظر الري من الماء؟ هل نستطيع ريها بماء يجري تحت مستواها؟ إن الإجابة ستكون بالطبع: لا باستثناء المجنون أو صاحب الشطحات الصوفية إذ يعتقد أن الماء سوف يطلع إليها فيسقيها. لا لن يسقي الماء الأرض بالصعود إليها، وإنما بالانحدار وذلك بحكم السنن الإلهية عن طريق الجاذبية. سنة الله تقتضي أن ينحدر إلى هذه الأرض إذا كان مستواه يخوله ذلك. إذن إذا أراد المسلم أن يقوم بدور الري بالنسبة للشعوب المتحضرة والمجتمع المتحضر، وأراد- بعبارة

أوضح- أن يقدم المسوغات الجديدة التي تنتظرها تلك الأرواح، التي تتألم لفراغها وحيرتها وتيهها، إذا أراد المسلم ذلك، فليرفع مستواه رفعاً يستطيع معه فعلاً القيام بهذا الدور. إذ بمقدار ما يرتفع إلى مستوى الحضارة بمقدار ما يصبح قادراً على تعميم ذلك الفضل، الذي أعطاه الله له (أعني دينه). إذ عندها فقط يصبح قادراً أيضاً على بلوغ قمم الحقيقة الإسلامية، واكتشاف قيم الفضيلة الإسلامية، ومن ثم ينزل إلى هضاب الحضارة المتعطشة، فيرويها بالحقيقة الإسلامية وبالهدى، وبذلك يضيف إليها بعداً جديداً. لأن الحضارة العلمانية، حضارة الصاروخ، حضارة الإلكترون اكتسبت هذه الأشياء، وضيعت بعداً آخر تشعر بفقدانه وهو بُعد السماء. إن أوربة حققت المعجزات في عالم الاكتشافات وعالم العلوم .. ولكنها فقدت في أعماق نفسها البعد الذي كان يروح عليها ويرفه عنها ويسندها في وقت المحن، لأنه يربطها بوجود الله.

إذا أراد المسلم أن يسدَّ هذا الفراغ في النفوس المتعطشة، النفوس المنتظرة للمسوغات الجديدة ... فيجب أولاً أن يرفع مستواه إلى مستوى الحضارة أو أعلى منها كي يرفع الحضارة بذلك إلى قداسة الوجود، إلى ربانية الوجود، ولا قداسة لهذا الوجود إلا بوجود الله. والمسلم إذا أتى بهذا لا بلسانه ولا بشطحاته الصوفية، وإنما بوصفه إنساناً معاصراً للناس شاهداً عليهم بالتقى والورع، بنزاهة الشاهد الصادق، الصادق الخبير، الواعي لقيمة شهادته ... إذا أتى المسلم هكذا في صورة الإنسان المتحضر، الذي اكتملت حضارته بالبعد الذي يضيفه الإسلام إلى الحضارة (وهو بعد السماء)، عندئذ ترتفع الحضارة كلها إلى مستوى القداسة، أي إن الوجود الذي فقد القداسة في القرنين الأخيرين خصوصاً في هذا القرن، تعود إليه قداسته لأن القداسة من الله ومن الله وحده ولا شيء يعطي القداسة لهذا الوجود غير الله. والسلام عليكم.

رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين

رِسَالَةُ الْمُسْلِمِ فِي الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنَ الْقَرْنِ الْعِشْرِيْن محاضرة الأستاذ مالك بن نبي في جامع المرابط في دمشق 19/ 4/ 1392هـ = 22/ 5/ 1972م

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ. إخواني! أيها الأبناء الكرام!! إن الظرف الذي يجمعني بكم في هذا البيت من بيوت الله، وأنا على وشك العودة إلى الجزائر، يجعلني أفكر بدلاً من أن أعيد محاضرة سابقة هي الآن بين أيديكم، أن أضيف لها بإيجاز حلقة تمثل امتداداً في سلسلة أفكارها. ففي سلسلة الأفكار التي تناولتها المحاضرة السابقة، انتهيت آخر المطاف إلى نتيجة كبرى، تضع إشارة استفهام على مصير الإنسانية عموماً، في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين، كما تضع إشارة استفهام على دور المسلم في هذا الثلث الأخير. وقد قلت فعلاً في نهاية تلك المحاضرة: ((إن أوربة حققت المعجزات في عالم الاكتشافات

وعالم العلوم ... ولكنها فقدت في أعماق نفسها البعد الذي كان يروح عليها ويرفه عنها ويسندها في وقت المحن لأنه يربطها بوجود الله. إذا أراد المسلم أن يسدَّ هذا الفراغ في النفوس المتعطشة، النفوس المنتظرة للمسوغات الجديدة ... فيجب أولاً أن يرفع مستواه إلى مستوى الحضارة أو أعلى منها كي يرفع الحضارة بذلك إلى قداسة الوجود)) (1). فحضارة القرن العشرين أفقدت أو أتلفت قداسة الوجود، في النفوس وفي الثقافة وفي الضمائر. ولقد أتلفت القداسة لأنها عدتها شيئاً تافهاً لا حاجة لنا به. ولقد انجرت إلى إتلافها بسبب منشأ ثقافتها التي يطلق عليها اليوم (العلمية)، والتي أخضعت كل شيء وكل فكرة إلى مقاييس الكم منذ عهد ديكارت. لقد حاولت أوربة ونجحت، ونجاحها قد يفسر لنا اليوم على المدى البعيد، فشلها في الاسمرار. لقد نجحت في

_ (1) صفحة 39 من دور المسلم.

إخضاع كل شيء لمقاييس الكم، ولكن نجاحها يفسر بالتالي الأزمة التي تمرُّ بها اليوم حضارتها، التي فقدت كل مسوغات وجودها لأنها أفقدت الوجود قداسته. كان الوجود مقدساً في كل تفاصيله، في حياة الحشرات كان مقدساً، وحياة الإنسان كان أكثر قداسة، حتى الأشياء التي تلقى في الشوارع، كانت هناك تفاصيل توحي بقداستها، كان المار في الشارع إذا التقى بصره بِفُتَات الخُبز، ينحني ويلتقط هذا الفتات ثم يقبله ويضعه في مكان طاهر، لأنه كان يشعر بقداسة هذه الأشياء. أما الأوربي فلا يهمه هذا ولا يلتفت إليه لأن هذا الفتات من الخبز، لا قيمة له في نظره الكمي، إذ لا ثمن له، لذا يلقى مع الأشياء الأخرى في سلة المهملات. وتركت أوربة في سلة مهملاتها كل قداسة الأشياء، وكل القيم المقدسة، وفي آخر المطاف دار عليها صولجان علمها وطغيانها العقلي، كثعبان التوى على صدرها يضيق عليها الأنفاس، أوربة اليوم لا تتنفس التنفس الطليق، بل تتنفس تحت ضغط عالم الأشياء

المتراكمة. إذ بقدر ما تراكت الأشياء، وبقدر ماتراكت الإمكانيات الحضارية اضمحلت القاعدة الأخلاقية الروحية المعنوية التي تتحمل في كل مجتمع عبء الأثقال الاجتماعية والأثقال المادية، إذ لابدَّ من قاعدة روحية متينة حتى تتحمل هذه الأعباء، هذه الأعباء التي ترزح تحتها أوربة أو الحضارة الغربية اليوم وهي في خضم الأشياء التي تنتجها التكنولوجية. من هنا نتصور إذن دور المسلم باعتباره رسالة. دور المسلم لأنه يعاني أيضاً أزمته الخاصة به وهو يعلم ذلك، إذ لا يمكنه ألا يعلم، وأعداؤه أصبحوا أقرب من قبل من معاقله المقدسة. إنني لا أريد أن أشير هنا إلى أشياء سمعتها أثناء الحجة الأخيرة، أشياء تدل على أن الشعور بالخطر موجود في ضمير كل مسلم شعور بخطر كبير داهم. إذن نحن نعيش أزمتنا الخاصة بنا ونعيشها بكل أبعادها، بعدها الإقتصادي مثلاً، يكفينا أن نذكر، على سبيل المثال، أن أحطَّ المستويات الاقتصادية في

العالم، في صورة ما يسمى متوسط دخل الفرد السنوي، هو في البلاد الإسلامية. إن هذا معناه أن أحطَّ الحظوظ!، في هذه الدنيا أصبح للأمة التي خصها الله بالهداية الإسلامية، وخصها الله برسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في هذه الدنيا. هذه الأمة أصبحت تعاني الأزمات المتنوعة التي قد نجمعها في كلمة واحدة نسميها الأزمة الحضارية، وهي فعلاً أزمة حضارية لا غير إذن نحن نعاني أزمتنا ومن ناحية أخرى تعاني الإنسانية المتحضرة أزمتها. والأزمة التي تعانيها الإنسانية المتحضرة أخطر وأعمق بكثير من أزمتنا نحن، لأن أزمتنا لا تمس جوهر كياننا الإنساني فيبقى مع أزمتنا على الرغم من كل شيء، شيء من الكرامة أو شيء من التكريم الذي وضعه الله عز وجل في الإنسان على العموم، أما الأزمة التي تنتاب الحضارة أو الإنسان المتحضر اليوم، فهي أحياناً تفقده حتى إنسانيته، فيصبح إما وحشاً مفترساً ضارياً ينقض على كل ما يستطيع تحطيمه، أو يصبح حيواناً تائهاً في المتاهات التي تفتح له بالمخدرات،

هذه هي الأزمة الخطيرة التي تعانيها الإنسانية المتحضرة أو يعانيها الإنسان المتحضر. إذن الإنسانية بشطريها، بشطرها المتخلف، وبشطرها المتحضر، تعاني أزمة خطيرة هي أخطر أزمة في وجودها على سطح هذه الأرض. وفي حين يسير الزمان كعادته إلى مصب، فإننا نرى خطورة هذا السير من خلال التوقعات التي تصورها لنا ملابسات هذه الفترة من الزمن، التي نعيشها الآن بكل تقلباتها السياسية العسكرية الاقتصادية الثقافية. إننا نتصور أن نهاية هذا الثلث الأخير من القرن العشرين لن تكون كالفترات الأخرى، لأن التاريخ سينفرد إلى حدٍّ كبير بأشياء أخطر مما يتصور العقل، كأنما التاريخ كله تجمع منذ بدايته، أعني منذ بداية دخول الإنسان في العهد الذي يسمى العهد التاريخي، واقترب من مصبه، كالنهر الذي تجمعت كل روافده فيه عندما أصبح قريباً من البحر، ولهذا أصبح الثلث الأخير هذا ممتلئاً بكل التوقعات. وسينصب قريباً في (سنة ألفين) التي تضع

أمام الإنسانية جمعاء أخطر نقط الاستفهام على مصير الإنسانية منذ بدايتها. لأننا لا ندري في الحقيقة كيف تنتهي هذه الحقبة من الزمن. ونحن باعتبارنا مسلمين أو باعتبارنا بشراً، نشاطر البشرية مصيرها، إن الإنسانية تعيش فعلاً ما يسمنى حالة طوارئ، أمام حالة الطوارئ هذه يطرح سؤال: ما هي رسالة المسلم؟ إن رسالته قد نلخصها في كلمة لا تعطينا حلاً ولكن تشفي إلى حدٍّ ما غليلنا لأنها كلمة مقبولة. وهي مقبولة من ناحية لأن الظروف تفرضها علينا، وتتعارض من ناحية أخرى- ربما في أعماق أذهاننا- مع مقدمات تتنافى مع مقتضيات الرسالة. فما هي رسالة المسلم أمام حالة تتطلب الإنقاذ؟ الجواب: إنقاذ نفسه وإنقاذ الآخرين. هذه هي رسالة المسلم. أليس في أذهاننا مقدمات سلبية تتناقض مع هذا الزعم، كأننا انجذبنا إلى شيء من الغرور؟ كيف يستطيع الإنسان المسلم الذي لا يتمتع

بالقدر الكافي من الإمكانيات الحضارية حتى لتحقيق لقمة عيشه؟ كيف يستطيع إنقاذ الآخرين؟ وكيف يتطلع لهذه الرسالة؟. إذا تساءلنا هذا السؤال يجب علينا أيضاً أن نتساءل بهذا المنطق نفسه: لماذا استطاع ذلك أولئك الأعراب الفقراء في عهد محمد - صلى الله عليه وسلم -؟ لماذا قام أولئك الأعراب الفقراء الأميون بإنقاذ الإنسانية وشعروا أنهم جاؤوا من أجل إنقاذها؟ فقد كانوا يعلنون هذا في أقوالهم ومخاطباتهم للآخرين سواء من أهل الفرس أو من أهل روما. كانوا يقولون لهم: لقد أتينا لننقذكم. إنهم لم يشعروا بمركب النقص. لماذا لم يشعروا بمركب النقص؟ لأن الإمكانيات الحضارية المتكدسة أمامهم في فارس أو في بيزنطة أو في روما لم تفرض عليهم النقص، وبعبارة أخرى لم تبهرهم، كانوا يشعرون أمام الإمكانيات الحضارية المتكدسة، بإرادة حضارية تفوق كثيراً ما تبقى منها لدى المجتمعات المتحضرة في ذلك العصر. كذلك الحال اليوم لو أننا عقدنا موازنة. فليس إذن من

الصعب أن يقوم هذا المسلم الفقير، الأعزل، هذا المسلم الذي يضحي بمصالحه الكبرى حتى في هيئة الأمم، أن يقوم على الرغم من ذلك بفضل إسلامه فقط، بمهمة الإنقاذ، ولهذه المهمة شروط ربما نشرحها إذا اتسع المجال لذلك. إنه بفضل إسلامه لا غير يستطيع اليوم إنقاذ الإنسانية المتورطة قي الضياع على الرغم من علمها وكبريائها وتكنولوجيتها. غير أن كل رسالة تقوم على إعجاز؛ رسالة موسى قامت على إعجاز، كانت عصا موسى تلتقف ما يأفكون، حتى خرَّ السحرة ساجدين، واعترفوا بإله هارون وموسى. إعجاز عيسى كان إنقاذ المرضى من أمراضهم وإحياء الموتى أحياناً. إعجاز النبي صلوات الله عليه وأزكى التسليم تعرفونه جميعاً، فقد أيدته السماء بالقرآن وأيدته بخلقه العظيم وأيدته أحياناً بالملائكة. وهلمَّ جرا. فاليوم أيضاً إذا أراد المسلم أن يقوم برسالة، فهذا يتطلب نوعاً من الإعجاز تفرضه الظروف الخاصة التي تمرُّ بها الإنسانية اليوم، على اعتبار أن الإعجاز هو مجموعة

شروط منطقية وغير منطقية أعني خارجة عن المنطق، مجموعة شروط تحقق أمرين: الاقتناع والإقناع. الاقتناع أولاً لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فلا يمكن للمسلم إن لم يقتنع بأن له رسالة أن يبلغ الآخرين هذه الرسالة، أو فحوى هذه الرسالة أو مفعول هذه الرسالة. إذن يجب أن يقتنع هو أولاً. وأنا أعني قناعته برسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ولا أتكلم عن اقتناعه بدينه. فكل مسلم مقتنع بدينه من يوم أن نزلت الآية الأولى في غار حراء. ومن يحاول أن يأتي للمسلمين بوسائل لاقتناعهم بدينهم فإنما يضيع وقته وربما يضيع وقت المسلمين أنفسهم. فالمهم في الأمر اليوم أن نلاحظ أن الشكوك التي تسربت إلى عقول الآخرين عن المجتمع الإسلامي إنما تتناول رسالة المسلم لا عقيدته. فهل الإنسان الذي يستمع إلى المسلم وهو يتحدث عن رسالته، إنسان تفحص أو راجع أمر القرآن من حيث هو فكرة صحيحة؟ إن هذا هو من شأن بعض الاختصاصيين: بعض الأفراد من النخبة مثل (لامارتين) الذي خصص

أكبر فصل كتبه إنسان لحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو (برناردشو) أو (توماس كارليل). أما الجموع الغفيرة من الناس فلا تصبر لتدليلنا المنطقي أن الله واحد لا شريك له، وأن النبي رسوله، وأن هذا الدين صحيح. لقد أصبح هذا كله مسلمات. أما بالنسبة للآخرين، فإن كان من النخبة فيمكن أن يدركه من خلال كلامنا، وهو في الحقيقة لا ينتظر كلامنا، بل ينصرف بجهده الخاص إلى هذا النبع من النور، ويشعر بأن الإسلام فعلاً حقيقة منزلة من السماء. أما الجموع الغفيرة، أما مئات الملايين من البشر، الذين تخصهم رسالة المسلم في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين، فهي تقول دعونا نلمس، وقولها آتٍ من كونها نشأت على ما يسمى المنطق العملي أو كما يقول المسيحي منطق القديس (توما). فـ (توما) هذا حينما رجع المسيح بعد أربعين يوماً إلى الحواريين قال لهم إنني عدت من السماء ... إلخ. ورفعتني الملائكة ... إلخ فسأله (توما) وأين آثار الصليب على يديك وعلى

قدميك؟ أرني كي ألمس هذه الآثار بيدي لا بعقلي. هذا قولهم بالطبع وليس قولنا، وإنما نذكره بوصفه عينة من تفكيرهم ومن أوضاعهم النفسية أمام الأفكار. فهل هم يتصلون بالأفكار عن طريق المنطق الذي نعتبره نحن السند الأول لإبطال أو تأييد فكرة معينة؟ كلا إنهم لا يطرقون الموضوع من هذا الباب وإنما من باب (سان توما). فما هو واضح في تصوري أنا المسلم، ليس واضحاً بالنسبة للآخرين الذين ينبغي علي أن أتقدم إليهم، آخذاً بإلاعتبار تصورهم هم لا تصوري أنا عن حقيقة المسلم. لأن حقيقة المسلم محجوبة عن نظر الآخرين. إن حقيقة المسلم، كرامة المسلم، فضيلة المسلم، أخلاق المسلم، شرف المسلم، عزة المسلم؛ كل هذه الأشياء تخفيها عن نظر الآخرين المظاهر الاجتماعية. وهي تشهد بكل أسف في نظر الآخرين على المسلم وضده. فالمسلم فقير، والمسلم جاهل، المسلم كذا ... الإحصائيات الموجودة في العالم كذا ... إلخ ...

فنحن حينما تكلمنا عن الإعجاز الذي يتضمن شروط الإقتناع وشروط الإقناع، تكلمنا عن شيء جوهري جداً، أعني أن المسلم لا يستطيع أن يقوم برسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، إلا إذا حقق من خلال منطق خاص لرسالته كل شروط الاقتناع وكل شروط الإقناع. ومن هنا نرى ما يترتب على المسلم من القيام بواجبات ملحة، حتى يفي بشرط إعجازه في هذا الثلث الأخير نحو نفسه ونحو الآخرين، إنه يحتاج أحياناً إلى هذه الوسائل حتى بالنسبة إلى إخوانه المسلمين المعرضين، لأنهم يخضعون هم أيضاً لمنطق (سان توما) الذي يريد أن يمس الأشياء بيده حتى يعترف بوجودها. أليس في صفوف شبابنا عدد يمنطق قضاياه بطريقة (سان توما)، يعني بلمس اليد لا بالنظرة العقلية، بحيث يجب فعلاً أن تتوافر لرسالة المسلم كل شروط الاقتناع وكل شروط الإقناع؟ ولن يتوافر هذا إلا بتغيير. في داخل المسلم، في أغوار نفسه وحول المسلم في

محيطه الخاص أو في محيطه العالمي، لأننا حين تكلمنا في بداية الحديث، عن الأزمة الإنسانية المواجهة لأزمتنا نحن المسلمين، رأينا أزمة إنسانية من أخطر ما واجهته الإنسانية منذ بداية تاريخها، وكنتيجة لهذه الأزمة بصورتيها، الصورة الخاصة بالمسلم والصورة الخاصة بالإنسان المتحضر، أصبح العالم كأنه ازدواجية، ازدواجية بين عنصرين متوازيين لا يتصلان إلا عن طريق شبكة علاقات متناقضة. هناك في العالم اليوم إذا تصورناه كلاً، صلات من الطرف المتقدم ومن الطرف المتخلف الذي يسمى العالم الثالث، إذا تفحصنا كيف تسير العلاقات بين الطرفين نراها تسير وفق ثلاثة أصناف؛ ففي المجال الاقتصادي، أصبح كل شيء في منطق القرن العشرين يفسر بالاقتصاد وأصبح كل شيء يخضع للإقتصاد، نرى أن طرفي العالم يتعاملان على أساس علاقة اقتصادية متناقضة، في طرفها الأول المجتمع الذي ينتج المواد الخام كالنفط وغير ذلك من المواد الأولية، وفي طرفها الثاني من يحول هذه المواد الأولية

إلى منتجات حضارية، وطبعاً على حساب العالم الثالث أي على حساب اقتصاده وعلى حساب! نموه، كما هو ظاهر لنا مثلاً في قضية النفط، خصوصاً قبل خمس أوست سنوات، حين كانت مادة النفط تدر على أصحاب التروستات وعلى أصحاب الاحتكارات عشرات المرات، أكثر مما تدر على أصحاب البلاد المنتجة. هكذا كان الوضع في المجالات الأخرى حيث كانت الصلات الاقتصادية تسير على هذه الوتيرة. وفي المجال السياسي كانت العلاقة أيضاً متناقضة في طرفيها. كان الحوار بين متكلمين: في الطرف الأول الاستعمار، وفي طرف آخر القابلية للاستعمار. هذا الوضع الذي كان، وأخشى أن أقول ولا يزال قائماً بين الاستعمار وبين القابلية للاستعمار، لأننا لم نغير شروط القابلية للاستعمار في أنفسنا. غيَّرنا بعض السطحيات ولم نغير القابلية للاستعمار، غير أن ضغط بعض الظروف وقوة الأشياء، جعلت بعض المواقف الاستعمارية تتغير إلى حدٍّ ما، ولكن لم تتغير كلها ولن تتغير، مادامت

القابلية للاستعمار هي التي تحاورها في المجال السياسي. وفي المجال النفسي أو الثقافي هناك محوران: محور ثقافي هو ما نسميه محور (واشنطن موسكو)، وهو محور واحد لا يختلف فيه شرقه عن غربه ولا غربه عن شرقه في هذه الناحية. هذا المحور يطرق أو يطرح كل مشكلاته بمنطق القوة. بينما يجب على المحور الآخر أعني محور (طنجة- جاكرتا) الذي نعيش عليه نحن، نحن المجتمعات المتخلفة وخصوصاً نحن المسلمين يجب علينا أن نطرح المشكلات بمنطق البقاء، لأننا بحاجة إلى رفع مستوى بقائنا، إلى مستوى الحضارة، وهذا يتنافى مع طرح القضايا بمنطق القوة، ولا تستطيع ولا تسمح لناظروفنا بغير ذلك، ولا يهمنا ولا يهم الإنسانية التي تعد نفسها متقدمة أن ترجع إلى رشدها. لا يهم أن تطرح أمريكة مثلاً اليوم كل مشكلاتها بمنطق القوة، بينما مجتمعها أيضاً يعاني أعراض التخلف، خاصة المدن الصناعية الكبيرة مثل نيويورك وديترويت وشيكاغو .. إلخ. هذه المدن

أصبحت فيها عينات تدل على أن التخلف بدأ يتفشى في المجتمع الأمريكي، ومع ذلك فأمريكة تخصص كل إمكانياتها لطرح مشكلاتها بمنطق القوة. أما نحن فمضطرون أن نطرح مشكلاتنا بمنطق البقاء، حتى نستطيع أن نتقدم بعض الخطوات، حتى نستطيع أن نرفع مستوانا إلى مستوى الحضارة، وهنا يفرض علينا طبعاً هذه العلاقات الثلاثية المتناقضة؛ العلاقة الثقافية، العلاقة النفسية، العلاقة السياسية. إذ يجب علينا أن نصفي هذه الخريطة للعلاقات العالمية حتى يتسنى لهذه الإنسانية أن ترفع مستواها إلى مستوى القداسة، أن ترفع هذه الإنسانية مستواها الواقعي ومستواها الثقافي إلى مستوى القداسة، وإلى المستوى الذي تستوعب معه مسوغاتها الجديدة في المرحلة الخطيرة التي تمرُّ بها الإنسانية اليوم، في هذا الثلث الأخير من القرن العشرين، إذن يجب على المسلم. الذي يضطلع برسالته أن يفكر في إعجازه، وإعجازه لا يتأتى إلا بتحقيق شرط جوهري، وهو تغيير ما بنفسه وتغيير ما في

محيطه مصداقاً للآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 12/ 13]. ولا يمكنه أن يغير شيئاً في الخارج إن لم يغير شيئاً في نفسه. وحينما نقول هذه الكلمة نقولها باعتبارها علماً، ولا نقولها فقط تبركاً بآية، نقولها (علماً) ونعلم مقدارها من الصحة العلمية، لا يستطيع مسلم أو غير مسلم أن يغير ما حوله إن لم يغير أولاً ما بنفسه، فهذه حقيقة علمية يجب أن نتصورها قانوناً إنسانياً وضعه الله عز وجل في القرآن، سنة من سنن الله التي تسير عليها حياة البشر. إذن لكي يتحقق التغيير في محيطنا يجب أن يتحقق أولاً في أنفسنا. وبذلك تتوفر شروط رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين، وإلا فإن المسلم لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين. ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير، والتغيير

يقتضي تغيير ما في النفوس أولاً، إذا كان منهج الرسالة يقتضي هذا، فإننا نستطيع أن نتكلم عن وسائل الرسالة أو الطرق العملية لتطبيق هذه الرسالة كي تفي بمهمتها، ألا وهي الإنقاذ أو مواجهة حالة إنقاذ أو حالة طوارئ تخص المسلم وتخص الإنسانية عامة. عندها يجب على كل مسلم أن يحقق بمفرده شروطاً ثلاثة: 1 - أن يعرف نفسه. 2 - أن يعرف الآخرين، وألا يتعالى عليهم، وألا يتجاهلهم، وهنا يجب أن تحل عقدة نعرفها، وهي أن المسلم يزهد كثيراً في عالم النفوس مما يتصل بالآخرين، لا يجوز للمسلم أن يجهل ما في نفوس الآخرين، ولا يجوز أن يتعالى على الآخرين ولا أن يتسامى عليهم بدعوى أنه أعد للجنة وأعد للتكريم، يجب عليه أن يعلم ما في نفوس الآخرين ويجب عليه أن يعلم ذلك لأمرين لا لأمر واحد، إما لكي يتقي شرهم عن معرفة وإدراك لكل معطيات نفوسهم، وإما لتبليغهم إشراق الإسلام وإشراق الهداية الإسلامية. فهو إن لم يعرف النفوس

فكيف يقدر أن يتصرف معها بحكمة؟ إن لم يعرف نفوس الآخرين وظلت صناديق مغلقة عليه فكيف يبلغها الهداية الإسلامية؟ إنه لن يستطيع. يجب إذن على المسلم بعد أن يعرف نفسه أن يعرف نفوس الآخرين. 3 - ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرِّف الآخرين بنفسه، لكن بالصورة المحببة، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلف وأصناف التقهقر، كل أصناف التخلف وأصناف التأخر. ويجب عليه أولاً أن يقوم بهذه التصفية حتى يقدم للآخرين صورة مقبولة محببة بوصفها عينة من العينات البشرية التي يصنعها الإسلام، أما إذا تقدم المسلم إلى الآخرين بوصفه عورة يجب أن يستحى منها، فالعورة تستر ولا تكشف، والعورة لا يمكنها أن تبلغ إشعاعاً. الجهل عورة الفقر الذي يسببه كسلنا، وكسلنا عورة، الفوض عورة وهذه العورات كلها لا تستطيع ولا تتيح لشخصية المسلم أن تبلغ إشراق الإسلام.

إذن هناك شروط ثلاثة يجب أن تتحقق، أن يعرف المسلم نفسه بالتدقيق وألا يغالط نفسه في معرفة نفسه، لأنه طالما عمي المسلم بسبب هذه المغالطة؛ يا ليته لم يلعن طيلة القرن الماضي الاستعمار بل القابلية للاستعمار، ولو فعل ذلك لكان اليوم ذا صورة محببة ومرضية لنفسه وللآخرين. إذن يجب على المسلم أن يعرف نفسه من دون مغالطة، وأن يعرف نفوس الآخرين من دون كبرياء وتعال، وبكل أخوة وصدق وإخلاص أن يحبهم لوجه الله حتى تصل إليهم عن طريق وعلى جسر هذه المحبة، حرارة الإسلام، حرارة الحب الإسلامي وكل ما يناط بمفهوم التغيير، يجب أن نتوخى فيه أمراً ألا وهو أن كل فكرة لها جانبان: جانب الصحة، وجانب الصلاحية. قد تكون فكرة ما صالحة وليست صحيحة، وقد تكون فكرة صحيحة ثم فقدت في الطريق صلاحيتها لأية أسباب. ألسنا نشعر نحن مثلاً بأن ديننا وهو

أوضح من حيث الصحة من شمس النهار، أنه إلى حدٍّ ما وبسببنا نحن، وبسبب تقاعسنا وتكاسلنا ونومنا في النهار فقد بعض صلاحيته. كأن هذه الفكرة المقدسة التي أنزلها الله على محمد عليه الصلاة والسلام، هذه الفكرة- التي لا يختلف في صحتها عقل سليم مع عقل سليم- تبدو اليوم وكأنها فقدت صلاحيتها. أين كرامة المسلم؟ أين عزة المسلم؟ أين مجد المسلم؟ أين علم المسلم؟ أين نزاهة المسلم؟ أين بطولة المسلم؟ أين استشهاد المسلم؟ أين شهادة المسلم ولو على نفسه؟ المسلم فرّط في كل هذا. المسلم فرط وضيع وأتلف كل هذا. والغرب أو الحضارة الغربية أتلفت مسوغات وجودها، وهي تعاني هذه الأزمة التي أشرت إليها. والمسلم يضيع القيم الإسلامية التي كانت تشرق على وجهه، وتجعله في نظر الآخرين أجمل صورة إنسانية في

التاريخ، فقد كان أحد المؤرخين في أوائل القرن التاسع عشر، هو المستشرق (فرينو) الذي ترجم جغرافية أبي الفداء، يذكر في مقدمته وهو يعلق في مقطع يخص رحلة أبي الفداء إلى نواحي (الفولغا)، حيث كانت تعيش قبائل صقالبة متوحشة كما يصفها أبو الفداء، وكان أبو الفداء مرتدياً لباسه العربي وعمته العربية. ففرينو هذا وكأنه لاحظ شيئاً غريباً، يقول: كان العربي يريد أن يظهر في كل مكان بزيه القومي، نعم لأن صورته في نظر الآخرين كانت هي الصورة المثلى لبني آدم بفضل الإسلام. أقول هذه الكلمات، وصية لإخواني ولأبنائنا الكرام من الطلبة، وأدعو الله أن تتحقق رسالة المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين بفضل هؤلاء الشباب، وإخوانه في مصر، وإخوانه في ليبيا، وإخوانه في الجزائر، وإخوانه في كل البلاد الإسلامية ... أن تتحقق هذه الرسالة لإنقاذ المسلم من كسله ولإنقاذ الإنسان المتحضر من استهتاره والسلام عليكم.

§1/1