دور الأدب في مكافحة الخمر بين الجاهلية والإسلام

محمود محمد سالم

مدخل

مدخل ... دورُ الأدبِ في مكافحة الخمر بين الجاهليّة والإسلام للشيخ محمود محمد سالم المحاضر بكلية اللغة العربية بالجامعة ابتليت الأمم قديمها وحديثها في الشرق والغرب بآفة الخمر يحرك بها الشيطان في نفوس البشر نوازع الشر، ودوافع الفساد، ليضلهم عن ذكر الله، وعن الصلاة، ويوقع بينهم بسببها العداوة والبغضاء، ذلك أنها تغتال العقل الإنساني الذي فضل الله به الإنسان على سائر مخلوقاته، فتسلبه الحكمة والرشاد، وتحرمه القدرة على التدبر والتفكير، ثم ما تلبث بعد اغتيال العقل والفضل أن تفتك بقوة الجسم والنفس، فتترك شاربها مسلوب الإرادة، مشلول القدرة، سقطاً لا نفع فيه. ويصبح مذموماً مدحوراً، تكرهه الأرض كما تلعنه السماء. - وقد شاع شرب الخمر في جاهلية العرب، واقترن بها في حياتهم كثير من الرذائل مثل استباحة النساء، ولعب الميسر أو القمار، مما فرض على مُقارفي هذه الرذائل حرصهم على جمع المال. لا يبالون من أين أتاهم من حرام أو حلال، فانتشر بينهم الربا والبغاء واستحلال الدماء والأموال من نهب الغارات، وما يجري فيها من انتهاك الأعراض والحرمات، وأقتات وأثْرى على ذيوع هذه الرذائل بعض الطبقات الطفيلية في ذلك المجتمع الجاهلي، فانتشرت الحانات، وصاحبات الرايات الحمر اللواتي يوفرن اللذائذ الرخيصة، والمتع التافهة لأولئك المخمورين التافهين الذين لا وزن لهم ولا قيمة في مجال القوة والفضائل.

أدب الإسلام في حرب هذه الرذيلة

أدب الإسلام في حرب هذه الرذيلة ... أدب الإسلام في حرب هذه الرذائل: وحين أراد الله بهذه الأمة خيراً بنزول الإسلام فيها حارب هذه الآفات والرذائل في حياة الفرد والجماعة، فشدد عليها النكير، ووضع لها العقاب الصارم الرادع ليجعل من هذه الأمة قوة بناءة قادرة على حمل رسالة الله إلى الناس كافة، فقد وصف الله الخمر في القرآن بأنها رجس ومن عمل الشيطان، ونهى رسول صلى الله عليه وسلم عنها، ولعن عاصرها ومعتصرها وشاربها، وجعل لشاربها حداً أربعين جلدة، وكذلك فعل أبو بكر رضي الله عنه، وحين رأى عمر رضي الله عنه بعض العرب ما يزال يتورط في شربها جعل حدَّها ثمانين جلدة بعد أن استشار الناس فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أخف الحدود ثمانون جلدة 1.

الأدب العربي وآفة الخمر

الأدب العربي وآفة الخمر: ويجد الباحثون في تاريخ الأدب العربي دوراً بارزاً للأدب وبخاصة الشعر في انتشار آفة الخمر، والولع بها وذلك بما صوروه في شعرهم من النشوة واللذة التي تصاحب شربها ومن جمال المجالس التي تضم الندمان، وقد أحاطت بهم صور من الترف في لذيذ المطاعم والمشارب، ونعيم الملك وأبهة السلطان. ذلك أن كثيراً من شعراء العرب الجاهليين الذين اشتهروا بشعر الخمر، كانوا ينتجعون ملوك الحيرة والغساسنة، فيلقون عندهم صنوفا من التكريم والعطاء ما يطلق ألسنتهم بالمدح والثناء، وتصوير ما يحيط بهم من ألوان المتعة وصنوف البهاء. ومع وفرة النصوص الأدبية التي تشيد بالخمر في وصف محاسنها والإعجاب بنشوتها قديما وحديثا، فإن الباحث لا يعدم أن يجد النصوص الكثيرة التي تذمها وتزري بشاربيها، وتصور مضارها ومفاسدها وتبرز خطرها على العقل والدين.

الشعر الجاهلي وحرب الخمر

الشعر الجاهلي وحرب الخمر: ففي الشعر الجاهلي نجد نصوصاً كثيرة. وإن كانت متناثرة – تصور ما أحدثته الخمر بشاربيها، وما نالت من كرامتهم، وما تعرضوا له بسببها من مهانة واحتقار، فطرفة بن العبد – وهو من أشهر واصفيها والمولعين بها والمدمنين عليها – يصور في معلقته ما ناله بسببها

_ 1 كتاب عمدة الأحكام للإمام تقي الدين المقدسي في باب حد الخمر.

من تحامي عشيرته له، وإبعاده عنها حتى اجتنب منهم، وعزل البعير الأجرب الذي يعزل عن الإبل الصحاح حتى لا يصيبها بعداوه، وذلك حيث يقول: وما زال تشرابي الخمور ولذتي ... وبيعي وإتلافي طريفي ومتلدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها ... وأفردت إفراد البعير المعبد ومع شيوعها في الجاهلية وفقدان الوازع الديني الذي يحرمها لم يكن معاقروها مثلا أعلى يحتذي به بين الرجال، ولا كانوا قدوة صالحة بين الناس، لأنهم ساقطو الهمة لا يرجيهم الناس لدفع ضرر أو جلب منفعة، وذلك ما يصوره قول أحد شعراء الجاهلية: وليس فتى الفتيان من جلُّ همه ... صبوح وإن أمسى ففضل غبوق ولكن فتى الفتيان من راح أو غدا ... لضر عدو أو لنفع صديق وواضح من هذا النص أن المثل الأعلى للفتوة والرجولة هو الشجاع القادر على منازلة الأعداء، الكريم القادر على نفع الأصدقاء، وليس المثل الأعلى للرجال ذلك المدمن على الشراب في صباحه ومسائه، فهو منعدم المروءة، ساقط الهمة، لا يرجى في حرب ولا سلم لأنه جعل همه هواه. وفي سير شعراء الجاهلية ما يقدم لنا دليلا على أن الذين أولعوا بها واشتهروا بها بين قومهم وذويهم كانوا يدمنونها في مرحلة من مراحل طيش الشباب، وعرامة الفتوة، ألهاهم الغنى والترف عن التعلق بمعالي الأمور، وعن الانشغال بجلائل الأعمال، ففي حياة امرئ القيس لمحات دالة على أن انغماسه في اللذات وانهماكه في اللهو والشراب كان في الفترة الأولى من حياته وقد طرده أبوه حجر الكندي الذي كان ملكا على بني أسد، وبلغه مقتل أبيه وهو في مجلس شرابه، وقال قولته المشهورة التي صارت مثلاً: ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيراً اليوم خمرٌ، وغداً أمرٌ، لا صحو اليوم، ولا سكر غداً ". وكان ذلك الحادث فاصلاً بين عهدين وحداً بين مرحلتين في حياته. وقد مدح زهير بن أبي سلمى حصن بن حذيفة الفزاري، فكان مما امتدح من فضائله أنه لا يشرب الخمر، ولا يهلك فيها ماله وإنما يذهب بماله كثرة عطاياه للمحتاجين، وذلك حيث يقول:

أخي ثقة لا تهلك الخمرُ مالهُ ... ولكنه قد يهلك المال نائله 1

_ 1 شرح ديوان زهير صنعة أبي العباس أحمد بن يحي ثعلب. ط الهيئة العامة للكتاب بمصر ص 141.

من حرموا الخمر في الجاهلية

من حرموا الخمر في الجاهلية: وحرصت أمهات كتب الأدب العربي 1 على أن تفرد أبواباً وفصولاً تذكر فيها من حرموا الخمر في الجاهلية تكرماً وصيانة لأنفسهم، وتورد قصصهم وأشعارهم التي تصور ذهابها للعقل والمال، وزرايتها بمروءة ذوي المروءة، وذهابها بالنخوة والنجدة. وممن اشتهروا بتحريم الخمر في الجاهلية عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن عدوان، ومن شعره في ذم الخمر وبيان ضررها على العقل والمال، وتحريمها على نفسه ما دام حياً قوله: سآلة للفتى ما ليس في يده ... ذهابة بعقول القوم والمال أقسمت بالله أسقيها وأشربها ... حتى يُفرَّق تربُ القبر أوصال مورثة القوم أضغانا بلا إحن ... مُزْرِيةٌ بالفتى ذي النجدة الحالي 2 وممن اشتهروا بتحريم الخمر على أنفسهم في جاهليتهم قبل إسلامهم قيس بن عاصم المنقري الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم فأسلم وقال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سيد أهل الوبر 3، ومما روى في سبب تحريمه الخمر في جاهليته أن تاجر خمر في الجاهلية كان يأتيه فيبتاع منه، ولا يزال الخمار في جواره حتى ينفد ما عنده، فشرب قيس ذات يوم فسكر سكراً قبيحاً، فجذب ابنته أو أخته، وتناول قرنها، فلما أصبح سأل عنها فقيل له: أو ما علمت ما صنعت البارحة فأخبر بالقصة فحرم الخمر على نفسه، كما روى أنه شرب ذات ليلة فجعل يتناول القمر، ويقول والله لا أبرح حتى أُنزله. ثم يثب الوثبة ويقع على وجهه، فلما أصبح وأفاق قال: مالي هكذا فاخبروه بالقصة فقال والله لا أشربها أبداً 4.

_ 1 مثل كتاب العقد الفريد الجزء السادس وأمالي القالي الجزء الأول والمستطرف للأبشيهي وكتاب الأشربة لابن قتيبة، والإصابة لابن حجر في تراجم كثير من الصحابة. 2 أمالي القالي ج1 ص 207. 3 الإصابة لابن حجر ج3 ص 253 رقم 7194. 4 المستطرف للأبشيهي ج2 ص 161.

ومن المشهور قول قيس بن عاصم في تحريمه الخمر في جاهليته وتصوير أخطارها: لعمرك إن الخمر ما دمت شارباً ... لسالبةٍ مالي ومذهبةٍ عقلي وتاركتي من الضعاف قواهم ... ومورثتي حرب الصديق بلا نبل 1 وروى له ما يصور قصته مع التاجر وهو قوله: من تاجرٍ فاجرٍ جاء الإله به ... كأن لحيته أذناب أجمال جاء الخبيث ببيسانية تركت ... صحبي وأهلي بلا عقل ولا مال 2 وقالوا: حرم صفوان بن أمية بن محرث الكناني الخمر على نفسه في الجاهلية وروى عنه قوله: رأيت الخمر مَنْقُصَةً وفيها ... مناقبُ تفسد الرجل الكريما فلا – والله – أشربها في حياتي ... ولا أشفي بها أبداً سقيما 3 وهي – حتى عند الجاهليين – أم الخبائث – ترتبط بكثير من الرذائل والفواحش فهي دافعة إلى الزنا، وداعية إلى لعب الميسر، وممن صور هذا الارتباط الوثيق بين هذه الرذائل التي أصلها الخمر الشاعر الجاهلي المشهور: عفيف بن معد يكرب عم الأشعث بن قيس، ومما روى عنه في ذلك قوله: وقائلةٍ: هلُمَّ إلى التصابي ... فقلت: عففت عما تعلمينا وَودَّعْتُ القِداحَ وقد أراني ... بها في الدَّهر مشغوفاً رهينا وحرَّمت الخمور عليَّ حتى ... أكون بقعر ملحود دفينا

_ 1 أمالي القالي ج1 ص 208. 2 البداية والنهاية لابن كثير ج8 ص 31. 3 العقد الفريد ج6 ص 346 – ويروي في بعض المصادر: " رأيت الخمر صالحة " " ولا أسقي بها أبدا نديما ".

وقوله: فلا والله ألفى وشربا أنازعهم شرابا ما حييت أبى لي ذاك آباء كرام وأخوال بعزهم ربيت وممن حرمها في الجاهلية عبد الله بن جدعان وكان سيدا جوادا من سادات قريش من بني تميم. وروى في سبب تحريمه الخمر أنه شرب يوما مع أمية بن أبي الصلت الثقفي الشاعر الجاهلي المشهور. فضربه على عينه. فأصبحت عين أمية مخضرة يخاف عليها الذهاب. فقال له عبد الله: ما بال عينك؟ فسكت، فألح عليه، فقال: أولست ضاربها بالأمس؟ فقال: أو بلغ مني الشرب ما أبلغ معه إلى هذا الحد، ثم دفع إلى أمية عشرة آلاف درهم، وقال: الخمر على حرام لا أذوقها بعد اليوم أبدا، وهو القائل: شربت الخمر حتى قال صحبي ألست عن السفاه بمستفيق وحتى ما أوشد في مبيت أنام به سوى الترب السحيق وحتى أغلق الحانوت صحبي وآنست الهوان من الصديق قال أبو الفرج وهو يورد قصة عبد الله بن جدعان وتحريمه الخمر على نفسه في الجاهلية "إنه ما مات أحد من كبراء قريش في الجاهلية إلا ترك الخمر استحياء مما فيها من الدنس".

شاربوها يأنفون من وصفهم بالسكر

شاربوها يأنفون من وصفهم بالسكر: ومما يلفت النظر في استنكار الأوائل للخمر واستهجانهم لشاربيها أن واضعي اللغة العربية قد سموا مشارب الرجل على الخمر نديما وما ذاك إلا لما رأوا في شربها من الندم، لأن شاربها إذا سكر تكلم بما يندم عليه، وفعل ما يندم علينه، فقيل لمن شاربه: نادمه، لأنه فعل مثل ما فعله فهو نديم له أي مشارك له في الندامة التي تدركه بعد صحوه، وسمي المعاقر لها مدمنا لأنه9 لزم عقر الشيء أي فناءه، وسمي عصير العنب إذا ترك حتى يخمر نبيذا لأنه ينبذ أي يترك حتى يدركه التعفن، وسميت الخمر بهذا الإسم لأنها تصيب العقل بالخمار وهو الغطاء الذي يستره، فلا عجب أن يترن الموصوف بها بكل النقائص

والعيوب لأنها جماع الرذائل، وأم الكبائر، وليس غريبا بعد ذلك أن يأنف معاقروها من وصفهم بالسكر والإدمان، ومن أدلة ذلك أن شاعرا يدعى السرادق الدهلي، وكان مدمنا للشراب يعجز عن الإقلاع عنها قد مر بمجلس الأزد، وقد شرب فاختلفت رجلاه فقال شاب منهم: إنها لمشية سكران فأقبل عليه السرادق يقول: معاذ إلهى، لست سكران يا فتى ... وما اختلفت رجلاي إلا من الكبر ومن يك رهنا لليالي ومرها ... تدعه كليل القلب والسمع والبصر

معاقرتها صدت بعض أشراف العرب عن قبول الإسلام

معاقرتها صدت بعض أشراف العرب عن قبول الإسلام: وقد صد الإدمان على الخمر في أول ظهور الإسلام بعض السادة الأشراف من عرب الجاهلية عن قبول الحق والأهتداء بنور الإسلام فماتوا على جاهليتهم، ومن هؤلاء الأعشى "الشاعر" ميمون بن قيس الذي ان يسمى "صناجة العرب" قال ابن قتيبة: "أدرك الإسلام في آخر عمره ورحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم، فقيل له: إنه يحرم الخمر والزنا، فقال: أتمتع منهما سنة ثم أسلم؛ فمات قبل ذلك بقرية في اليمامة".

الإسلام يحرم الخمر ويشتد في عقاب شاربها

الإسلام يحرم الخمر ويشتد في عقاب شاربها: وحين أشرق نور الإسلام على العالمين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وقد رفق الله بالناس فتدرج في تحريمها، فأنزل الله في الخمر ثلاث آيات الأولى قوله تعالى:" يسألونك عن الخمر والميسر، قل: فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" (سورة البقرة من آية 219) فكان من المسلمين من شربها، ومنهم من تركها إلى أن شرب رجل فدخل في الصلاة فهجر فنزل قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} سورة النساء من الآية 43) ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، وكان عمر رضي الله عنه كلما قرئت عليه الآيتان السابقتان كان يقول: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا حتى نزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان}

فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبفضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون" (سورة المائدة-الآيتان 90-91) فلما نزلت هذه الآية ودعي عمر فقرئت عليه قال: انتهينا انتهينا. ومن الأخبار المتفق عليها في تحريمها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الحنة مدمن خمر" وقوله صلى الله عليه وسلم:" أول ما نهاني ربي بعد عبادة الأوثان، عن شرب الخمر وملاحاة الرجال". فكف عنها من كف ممن صدق الله في إيمانه، وصدق الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. لقد تكون من صادقي المؤمنين ذلك المجتمع الإسلامي الفذ النادر المثال في تاريخ البشرية، واشتغل ذلك المجتمع القوي بعبادة الله، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، فاشتغل بمعالي الأمور وجلائل الأعمال عن صغائر الحياة وتوافهها، ونسي المؤمون – في غمرة لذاتهم بانتصار الحق وخذلان الباطل – ما كانت تألفه الأجسام من لذائذ الطعام والشراب. وما كانت قد تعودته بعض النفوس من شهوة البطش والانتقام، وفارق المسلمون ما ألفوه في جاهليتهم من المتع الرخيصة، واللذات الحسية الفانية. ولكن بسقي بينهم – وهذا شيء طبيعي – من ضعفت نفسه عن مقاومة شهواته، ومغالبة عاداته، وهؤلاء- وأيا كانوا كثرة أو قلة في هذا المجتمع الطاهر النظيف، وجدوا من سلطان الدولة، ومن سطوة العقاب الصارم لمرتكبي الموبقات المهلكات لقوة الفرد والجماعة ما زجرهم عن الإعلان بمعاصيهم، والمجاهرة بآثامهم، فاستتروا عن أعين الناس خوفا من عقاب الدنيا، وإن لم يفلتوا من عذاب الله في الآخرة.

الأدب وقضايا الإسلام

الأدب وقضايا الإسلام: وتمثل في الأدب المأثور عن الصدر الأول في الإسلام ما عاشته الأمة الإسلامية من

قضايا الجهاد في سبيل الله، ومن تصوير الفتوح الإسلامية الرائعة، وما لمع فيها من صور البطولات الفذة، والتضحيات النادرة الخالدة.

الأدب والخمر في الإسلام

الأدب والخمر في الإسلام: ومن الدلالة على صدق الأدب العربي وقدرة تصويره على أحوال الأمة الإسلامية أنه لم يخل من الأمثلة الأدبية التي تصور دوره في كل ما مر بالمسلمين من أحداث ومشكلات، وما خامر عقول الأدباء والشعراء من خواطر وآراء، فلم يخل جملة واحدة من النماذج الأدبية التي تصور حنين الذين ظلوا يعاقرونها ويعدزون عن الإقلاع عنها، كما تصور ما نالهم بسببها من حدود وما تعرضوا له من أجلها من طرد وإبعاد، وأصدق هذه النماذج ما صدر عن ذوي التجارب الشعرية الحقيقية في هذا المجال وعلى رأس هؤلاء أبو محجن الثقفي، وقد كان صاحب خمر مولعا بالشراب يتغنى بها، وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أقام عليه حد شرب الخمر عدة مرات ثم نفاه وحبسه فهرب من محبسه، ولحق بسعد بن أبي وقاص وهو في معارك القادسية بالعراق في جهاد المسلمين ضد الفرس، فبلغ عمر خبره ولحاقه بسعد فأرسل إليه يأمره بحبسه فحبسه سعد، فلما كان يوم "أغواث" من أيام القادسية في السنة الرابعة عشرة من الهجرة، جال المسلمون في الحرب جولة حتى كاد المسلمون ينهزمون، وتروي له كتب الأدب والتراجم والتاريخ أبياتا شعرية يقولها متحسرا على حرمانه من الجهاد، وفي آخرها يعاهد الله على التوبة، من شرب الخمر، وألا يغشى الحانات إن فرج الله كربه، وفك أسره، وأمكنه أن يشارك في الجهاد، ومن أبياته تلك قوله: كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا ... وأترك مشدودا على وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وأغلقت ... مصاريع من دوني تصم المناديا وقد كنت ذا مال كثير وإخوة ... فقد تركوني واحدا لا أخاليا ولله عهد لا أخيس بعهده ... لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا وتتفق أكثر الروايات في خبر على أنه أبلى في يوم أغواث من أيام القادسية بلاء حسنا، وأنه كان يمتطي فرس سعد بن أبي وقاص المسماة بالبلقاء، وتختلف الروايات في

اسم المرأة التي هيأت له سبيل الخورج من السجن ليشرك في القتال، أهي زبراء أم ولد سعد كما يرى ابن سلام الجمحي وابن حجر في الإصابة أم هي سلمى بنت خصفة زوج سعد كما يروي ابن جرير في تاريخه، ويسميها ابن كثير في البداية والنهاية سلمى بنت حفص. والمتفق عليه أنه عاهد المرأة التي أطلقت سراحه أن يعود إلى محبسه إن كتبت له النجاة من القتل، وأنه انطلق إلى قتال أعداء الله فجعل لا يحمل في ناحية إلا هزم الله أعداءه، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يرقب المعركة، وكانت به قروح فكان يقول: "الضبر ضبر البقاء. والطفر طفر أبي محجن، وأبو محجن في القيد". فلما انجلت المعركة عن هزيمة العدو رجع أبو محجن ووضع رجله في القيد كما كان وأخبرت المرأة سعدا بما كان من أمره، فخلى سعد سبيله فقال أبو محجن:" لقد كنت أشربها إذ كان يقام على الحد فأما إذ بهرجتني فوالله لا أشربها أبدا". ويروى ابن حجر قصة عن سبب حبس أبي محجن خلاصتها، أن امرأة سعد سألته فيم حبس؟ فقال: والله ما حبست على حرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، فند كثيرا على لساني وصفها فحبسني بذلك فأعلمت المرأة سعدا بذلك فقال: اذهب فما أنا بمؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله" وعاد ابن حجر فضعف هذه القصة لضعف راويها وهو سيف، ورجح الروايات التي تنسب إلى أبي محجن شرب الخمر وإقامة الحد عليه مرات لأنها أقوى وأشهر.. ومهما يكن من أمر أبي محجن في سبب سجنه فإن من الثابت المؤكد أنه تاب عن الخمر توبة نصوحا. وقضى بقية عمره مجاهدا في سبيل الله وقال شعرا يذمها ويهجوها وينهى عنها ومن ذلك قوله: قول أناس: اشرب الخمر إنها ... إذا القوم نالوها أصابوا الغنائما فقلت لهم: جهلا كذبتم ألم تروا ... أخاها سفيها بعدما كان حالما وأضحى وأمسى مستخفا مهيما ... وحسبك عارا أن ترى المرء هائما

إنه قول مجرب ذاق مرارتها وإن زعم الناس سفاهة أنه تجلب السرور، وتدفع الهموم، ولكنه يصور ما يلقاه شاربها من استخفاف الناس به واحتقارهم لما يأتيه من أقوال وأفعال تذل على الطيش والضلال. وحسبك أن ترى في قصته على اختلاف الرواة فيها أن المجتمع الإسلامي أصبح ينظر إلى معاقريها نظرة ازدراء واحتقار وأنه محروم من أشرف ما يتسابق إليه المتسابقون في ظل الإسلام، وهو الجهاد في سبيل الله وأن هذا المجتمع الجاد لا يصح أن يشغل المرء نفسه وغيره بتصوير الشهوات والحنين إلى أيام الضلال والترهات لأن مثل هذا الحنين يضعف النفوس عن قوة العزائم، وبأس الإرادة، واستمع إلى أبي محجن يعلن توبته ويعاهد الله ألا يعود إليها ما عاش: حيث يقول: أتوب إلى الله الرحيم فإنه ... غفور لذنب المرء ما لم يعاود ولست إلى الصهباء ما عشت عائدا ... ولا تابعا قول السفيه المعاند وكيف قد أعطيت ربي موثقا ... أعود لها والله ذو العرش شاهد سأتركها مذمومة لا أذوقها ... وإن رغمت فيها أنوف حواسدي وقوله: ألم ترني ودعت ما كنت أشرب ... من الخمر إذ رأسي لك الخير أشيب وكنت أروي هامتي من عقارها ... إذ الحد مأخوذ وإذ أنا أضرب فلما دروا عني الحدود تركتها ... وأضمرت فيها الخير والخير يطلب وقال لي الندمان لما تركتها ... أالجد هذا منك أم أنت تلعب وقالوا: عجيب تركك اليوم قهوة ... كأني مجنون وجلدي أجرب سأتركها لله ثم أذمها ... وأتركها في بيتها حيث تشرب

التأديب العملي هو طريق الإسلام إلى حرب الخمر

التأديب العملي هو طريق الإسلام إلى حرب الخمر ... التأديب العلمي هو طريق الإسلام إلى حرب الخمر: ومن المؤكد أن أقوى الوسائل وأنجع الطرق في حرب الخمر ومقاومة الولع بها هو ما

سلكه الإسلام في حربها، ذلك أن الله عز وجل خاطب بالأمر عن اجتنابها قلوب المؤمنين به، فكانت عقيدة الإيمان بالله التي امتلأت بها قلوب السلف الصالح من المسلمين هي أقوى الرسائل في اجتنابها، فما كان لقلب المؤمن أن يهفوا إلى ما حرمه الله، وما كان له أن ينازع أو تكون له الخيرة فيما قضاه من أمر بالتحريم أو التحليل لأن التسليم والإذعان هو علامة الإيمان بالله مصداقا لقوله تعالى. {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا} سورة الأحزاب الآية/36، والثابت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن". فإن قويت العقيدة الإيمانية في نفس المؤمن كانت الزاجر الداخلي الذي لا يحتاج معه المؤمن إلى زاجر من قوة خارجية تصده عما يهواه، فإن ضعفت هذه العقيدة أو غابت، برزت قوة الشريعة وسلطة القانون الديني التي تقف للعابثين بالمرصاد بما شرعه الله من عقوبات وحدود تصون سلامة الفرد وتحمي أمن الجماعة، ولهذا قام الخلفاء المسلمون على تنفيذ الشريعة شريعة الله في إقامة الحدود، ومنها حد الخمر على شاربها أيا كانت منزلته الاجتماعية، وأيا بلغت مكانته بين الناس. . ومن ذلك ما رواه ابن جرير الطبري بسنده في حوادث السنة الثانية عشرة من الهجرة وهو أن أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وهو أمير جيوش المسلمين بالشام في حرب الروم قد كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن نفرا من علية القوم في المسلمين أصابوا الشراب منهم ضرار بن الأزور وأبو جندل بن سهل فسألناهم فقالوا: خيرنا فاخترنا قال: فهل أنتم منتهون..؟ ولم يعزم أبو عبيدة، فجمع عمر الناس واستشارهم فيما فعل هؤلاء وفيما قالوه، فاجتمعوا على أن يضربوا فيها بثمانين جلدة، فكتب عمر إلى أبي عبيدة، أن ادعهم فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين جلدة، فبعث إليهم فسألهم واستحيوا ولزموا البيوت" وأدركت أبا جندل حال من الوسواس كادت تقتله فكتب أبو عبيدة إلى عمر: إن أبا جندل قد وسوس إلا أن يأتيه الله على يديك بفرج فاكتب إليه وذكره، فكتب إليه عمر: من عمر إلى أبي جندل: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فتب إليه، وارفع رأسك، وابرز، ولا تقنط فإن الله عز وجل يقول: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} سورة الزمر/ 53، فلما قرأ أبو عبيدة على أبي جندل كتاب عمر تطلق

وأسفر عنه، وكتب عمر إلى الآخرين بمثل ذلك فبرزوا، وكتب إلى الناس: "عليكم أنفسكم، ومن استوجب التغيير، فغيروا عليه، ولا تعيروا أحدا فيفشو فيكم البلاء". وبمثل هذا الأدب العملي في الصدر الأول من تاريخ الإسلام كانت محاربة الخمر، فحيث لا ترعوي الأنفس بسلطان الدين، ويقظة الضمير، ومراقبة الله رب العالمين، تنزجر النفوس الجامحة، وتنخذل الأهواء النافرة بسلطان القانون وسلطة الشريعة الإسلامية التي تطبق على الناس سواء لا فرق بين حاكم ولا محكوم ولا سيد ولا مسود.

الأدب الإسلامي يصور يقظة ضمير المسلم في كراهية الخمر

الأدب الإسلامي يصور يقظة ضمير المسلم في كراهية الخمر: وقد حفلت كتب الأدب والتاريخ والتراجم بالنصوص الأدبية في العصر الإسلامي التي تصور يقظة الضمير المسلم، وتصور ماربى عليه المجتمع الإسلامي من كراهة الخمر والنفور منها، وتصور خطرها وتحذر منها. ولعل من أوضح النماذج الأدبية التي تصور هذه اليقظة الإيمانية تلك القصة القصيرة في ألفاظها، القوية في دلالتها ومعزاها والتي تمثل للمسلم سبب تسمية الخمر بأم الخبائث. وهي قصة مبتدعة لهدف إيماني خلاصتها أنه أتي برجل فقيل له: إما أن تخرق هذا الكتاب، وإما أن تقتل هذا الصبي، وإما أن تسجد لهذا الوثن، وإما أن تشرب هذه الكأس، وإما أن تقع على هذه المرأة، فلم ير شيئا -كما ظن- أهون عليه من شرب الكأس، فشرب فوقع على المرأة وقتل الصبي، وخرق الكتاب، وسجد للصليب". وحرص كتب الأدب على إبراز موقف الشعراء المؤمنين من الخمر كان إحدى الوسائل وأقواها على تربية الضمير الإسلامي وغرس كراهية الخمر والنفور منها، فقد روي أن الشاعر ابن أبي أوفى حين سمع نهي الله الناس عن الخمر، فقال ينهى قومه عنها: ألا يا لقومي ليس في الخمر رفعة ... فلا تقربوا منها فلست بفاعل فإني رأيت الخمر شينا ولم يزل ... أخو الخمر دخالا لشر المنازل

وروي أن عثمان بن مظعون كان قد حرم الخمر في جاهليته. وقال في ذلك: "لا أشرب شرابا يذهب بعقلي، ويضحك بي من هو أدنى مني، وأزوج كريمتي من لا أريد، فبينما هو بالعوالي إذ أتاه آت، فقال: "أشعرت أن الخمر حرمت وتلا عليه الآية من سورة المائدة فقال: تبا لها، لقد كان بصري فيها نافذا". والقصص الأدبية المروية عن الخمر تبرز شعور المجتمع الإسلامي بالنفور منها لأنها تفقد شاربيها الغيرة والنخوة، وفقدان الإحساس بنقاء العرض والشرف، ومن ذلك ما ترويه بعض كتب الأدب أن أعرابية سقوها مسكرا فلما أفاقت، سألت: أيشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم، قالت: لئن كنتم صدقتم لا يدري أحدكم من أبوه". وكان العباس بن مرداس السلمي ممن حرم الخمر في جاهليته. قبل إسلامه وسئل: لم تركت الشراب وهو يزيد في سماحتك أو جرأتك.؟ فقال: أكره أن أصبح سيد قومي وأمسي سفيههم ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله في جوفي.

الهجاء بشرب الخمر في الإسلام

الهجاء بشرب الخمر في الإسلام: لقد تربى الضمير الإسلامي على كراهة الخمر واحتقار شاربيها وذم من اشتهروا بمعاقرتها، ولذلك كثر في الهجاء ذم المهجوين بأنهم مخمورون فكان ذلك من أوجع الذم لمن يراد النيل من عرضه وثلم شرفه، كما امتدح من تنزه عنها وسما عن مقارفتها. ففي معركة الهجاء التي احتدمت بين شعراء النقائض في العصر الأموي نرى جريرا وقد وجد مغمزه ومطاعنة في كل من الفرزدق والأخطل بما اشتهروا به من معاقرة الخمر. مع عيوب أخرى فيقول للأخطل: شربت الخمر بعد أبي غويث ... فلا تعمت لك النشوات بالا تسوف التغلبية وهي سكرى ... قفا الخنزير تحسبه عزالا تظل الخمر تخلج أخدعيها ... وتشكو في قوائمها أمذلالا

وندرك فظاعة هذا الهجاء في تصوير التغلبية وهي سكرى إذا عرفت أن العرب في جاهليتهم وإسلامهم كانوا يشتدون على النساء فلا يسمحون لهن بشرب الخمر، حتى وإن تعاطاه بعض رجالهم كم يقول ابن قتيبة، لم يحفظ أن امرأة شربت ولا أن امرأة سكرت". وكذلك يطعن الفرزدق بما يقارف من الزنا والخمر فيقول: يقول لك الخليل أبا فراس ... لحا الله الفرزدق من خليل وما يخفى عليك شراب حد ... ولا ورهاء غئبة الحليل إذا دخل المدينة فارجموه ... ولا تدنوه من جدث الرسول ويقول له: إذا ما شربت البابلية لم تبل ... حياء ولا يسقى عفيفا عصيرها رأيتك لم تعقد حفاظا ولا حجى ... ولكن مواخيرا تؤدى أجورها ولولا أن الخمر كانت محقورة في نفوس المسلمين يومذاك لما كان لهجاء جرير خصومة بشربها أدنى أثر في النيل منهم". ولا عجب – والهجاء بها من أقذع الذم أن نسمع مالك بن أسماء الفزاري يهجو قوما بأنهم أدمنوا الخمر حتى ألفت كلابهم ريحها النتنة، فلا تنبح من يأتيهم وفيه رائحة الخمر وإنما تنبح من تشم فيه رائحة المسك والعنبر، لأنها ألفت من أصحابها نتن ريحها وتأنس إلى من كان مثلهم في القذارة والعفونة، وذلك حيث يقول: لو كنت أحمل خمرا يوم زرتكم ... لم ينكر الكلب أني صاحب الدار لكن أتيت وريح المسك يفغمني ... وعنبر المسك أذكيه على النار فأنكر الكلب ريحي حين أبصرني ... وكان يعرف ريح الزق والقار

ولا يعدم الباحث في فنون الأدب العربي عبر العصور الإسلامية المختلفة. أن يجد تجارب الشعراء والأدباء الذين وعظتهم السنون وشغلهم الحياء عن معاقرتها بعد أن كانوا من المولعين بها، وممن وعظتهم التجارب فأقلعوا عنها الشاعر المشهور "الأقيشر الأسدي" الذي عمر طويلا إذ ولد في الجاهلية ونشأ في الإسلام، وله في الخمر شعر يصور امتناعه عنها. وصهباء جرجانية لم يطف بها ... حنيف ولم تنغر بها ساعة قدر أتاني بها يحيي وقد نام صحبتي ... وقد غابت الجوزاء وانغمس النسر فقلت اغتبقها أو لغيري فاهدها ... فما أنا بعد الشيب ويبك والخمر إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن ... له دون ما يأتي حياء ولا ستر فدعه ولا تنفس عليه الذي ارتأى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر وقد احتال بعض المترخصين فابتدعوا النبيذ وادعوا حله وفرقوا بينه وبين الخمر، فزينوه وأغروا به العامة والخاصة، ولكن الفقهاء والصالحين من أئمة المسلمين حاربوا بسلوكهم وأقوالهم هذه البدعة التي ترخص في شرب الأنبذة بضروبها وأشكالها المختلفة، وما لبثت هذه البدعة ومقاومتها أ، وجدت سبيلها على ألسنة الشعراء والأدباء، يقول أبو الأسود الدؤلي: دع الخمر تشربها الغواة فإنني رأيت أخاها مجزئا بمكانها فلما سئل عن نبيذ الزبيب قال: فإلا يكنها أو تكنه فإنه أخوها غذته أمه بلبانها

وسوى ابن شبرمة الضبي بين الخمر والنبيذ في السوء والحريم حيث يقول: يا أخلاء إنما الخمر ذيب وأبو جعده الطلاء المريب فنبيذ الزبيب ما اشتد منه فهو للخمر والطلاء نسيب

تأثير الخمر على الفضائل والأخلاق

تأثير الخمر على الفضائل والأخلاق ... تأثر الخمر على الفضائل والأخلاق: وكما نتاول الفقهاء والعلماء تأثير الخمر ومضارها على العقل والدين والمال والخلق كذلك الأدباء فإنهم لم يغفلوا عن تصوير آثارها السيئة في أخلاق شاربيها وفقدانهم للعلاقات الاجتماعية التي تضمن لهم احترام الآخرين، فقد اشتهر المدمنون على الشراب بسوء العهد وقلة الحفاظ على العرض، كما اشتهروا بالغدر والفسوق وكل ذميم من الصفات والأخلاق يقول أحد الشعراء مصورا ذلك: أرى كل قوم يحفظون حريمهم ... وليس لأصحاب النبيذ حريم إذا جئتهم حيوك ألفا ورحبوا ... وإن غبت عنهم ساعة فذميم إخؤهم ما دارت الكأس بينهم ... وكلهم رث الوصال سئوم فهذا ثنائي لم أقل بجهالة ... ولكنني بالفاسقين عليم وقد اتخذت التهمة بشرب الخمر وسيلة للتشهير بالخصوم السياسيين في العصر الأموي والعباسي. بل إن الأحزاب السياسية المناوئة للأمويين والعباسيين قد استخدمت فنون الأدب من شعر وقصة وسيلة للتشهير بالخلفاء والولاة واتهامهم بفساد السيرة، وقبح الأحدوثة وإدمانهم على الخمر والشراب، والكثير من هؤلاء الخلفاء والولاة برآء مما اتهموا به من خصومهم تدور حول هذا العصر حجة على سير هؤلاء الخلفاء والولاة. وهذا الموقف يدل على ضخامة الجريمة التي يرتكبها مدمن الخمر في المجتمع الإسلامي.

ولا يذهبن الظن بأحد أن العصر العباسي الذي اشتهرت فيه حانات الخمر وشاع فيه اللهو والمجون، لا يظن أحد أن الخمر ق صارت مباحة في هذا العصر بل إنها ظلت محصورة في الضمائر والنفوس مذمومة ملعونة على ألسنة الأدباء والشعراء حتى المعربدون الذين اشتهروا بالمجون لم يجدوا في خصومهم أشد نقيصة من وصفهم بالسكر والشراب مما يلهيهم عن الصلاة فها هو أحد شعراء العصر العباسي يهجو حمادا الراوية فيصور ما أحدثته الخمر فيه من فساد العقيدة وهجر الصلاة، ثم تأثيرها على أعضاء جسمه من شفتيه وأنفه ووجهه وذلك حيث يقول: نعم الفتى لو كان يعرف ربه ... ويقيم وقت صلاته حماد هدلت مشافره الدنان فأنفه ... مثل القدوم يسنها الحداد وابيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد ومن كثرة الوصافين له المعجبين بها من شعراء العصر العباسي إلا أننا نجد كذلك من أزروا بها وعابها ونصحوا بتركها لما تحدثه من أضرار وأخطار، ومنها فضح سريرة الإنسان وإشهار زلاته المستورة، ومن هؤلاء "العتبي" وله في ذلك أبيات مشهورة منها قوله: دع النبيذ تكن عدلا وإن كثرت ... فيك العيوب وقل ما شئت يحتمل هو المشيد بأخبار الرجال فما ... يخفى على الناس ما قلوا وما فعلوا كم زلة من كريم ظل يسترها ... من دونها ستر الأبواب والكلل واشتهر قول العتبي أيضا: أخو الشراب ضائع الصلاة ... وضائع الحرمة والحاجات وحاله من أقبح الحالات ... في نفسه والعرس والبنات أف له أف إلى أفات ... خمسة آلاف مؤلفات ومن أسوأ حالات السكارى ما تحدثه في نفوسهم من الوهم الباطل والتخيل الكاذب. وإنها لتغتال منه كل فضيلة في الواقع ولكنها توهمه ما ليس له وجود، فيسر وإن كان مغموما، ويدفأ دفئا كاذبا، ويخيل الجبان أنه صار عنترة بن شداد، وهو في الواقع

رعديد جبان، وقد صورة بعض النصوص ما تحدثه الخمر في عقول شاربيها من الأوهام، ومما قيل في شجاع السكر جبان قول أحد الشعراء: إذا شرب الجبان الخمر يوما أعارته الشجاعة باللسان وعند الصحو تلقاه جزوعا إذا اشتد اللقا يوم الطعان وقيل فيه أيضا: يقول جبان القوم في حال سكره وقد شربت الصهباء هل من مبارز وأين الخيول الأعوجيات في الوغى أناقل فيها كل ليث مناهز ومن لي بحرب ليس تخمد نارها لعمرك إني لست فيها بعاجز ففي السكر قيس وابن معدي وعامر وفي الصحو تلقاه كبعض العجائز

السخرية بالسكارى والمخمورين

السخرية بالسكارى والمخمورين: وتقل النصوص الأدبية من الشعر والنثر التي تبرز دور الأدب في محاربة الخمر في عصور الانحطاط الأدبي. وترجع قلتها لأسباب كثيرة سياسية واجتماعية، ولكن من المؤكد أن الفكاهة الأدبية المروية والمكتوبة عن أحوال السكارى وسوء حالهم متناثرة في بطون الكتب القديمة والصحف العصرية وتحتاج إلى جمع وبحث وتحليل، وتؤدي الدور الذي كان يؤديه الأدب في محاربة الخمر في عصور القوة والازدهار الأدبي، وهذه الفكاهة الساخرة، وإن لم ترتفع إلى مستوى الأدب الرفيع والذوق العالي لما يند فيها من ألفاظ العبث وصور المجون، إلا أنها توجع السكارى، وتبعث بسمة السخرية على شفاه الناس من سوء أحوال هؤلاء الذين منحهم الله العقل فاشتروا بأيديهم ما يسلب عقولهم، ليصبحوا سخرية الساخرين وهزأة المستهزئين. ومن الحق المؤكد أن الأدب العملي الذي سلكه الإسلام في مقاومة الخمر هو أنجع الوسائل في القضاء عليها ويتمثل هذا الأدب العلمي في أمرين: قوة العقيدة، وتنفيذ الشريعة، وإذا طلب من الأدب من الشعر والنثر أن يؤدي دوره في مجال محاربة الخمر والمخدرات

والمكيفات وغيرها من الآفات المنتشرة في عالمنا المعاصر فإنه لا يمكن أن يثمر ثماره، ويؤتي نتائجه المرجوة إلا إذا كانت الطباع سليمة والنفوس مهيئة لقبول الحق. وتلقي النصح، أما إذا كانت البيئة فاسدة، والنفوس جامحة والسلطة فاترة فإنه لا ينفع أدب أديب، ولا رأي أريب فإنه: إذا كان الطباع طباع سوء فلا أدب يفيد ولا أديب فلتأخذ الأمة الإسلامية من تاريخها عبرة ولتعد إلى كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم ولتحكم شرع الله في كل أحوالها فإن عادت إلى الحسنى وكان لها الجزاء الأوفى. والله وحده الهادي إلى سواء السبيل. الخمر وسوء المصير: روي أن بشار بن برد الشاعر كان عربيدا سكيرا يؤذي الناس خاصتهم وعامتهم بقبيح أهاجيه، وقد هجا الخليفة المهدي العباسي وخرج المهدي إلى البصرة يتفقد أحوالها فسمع أذانا في الضحى فقال: أنظروا ما هذا فإذا بشر وهو سكران فقال له:يا زنديق عجب أن يكون هذا من غيرك، ثم أمر به فضرب حد الخمر فأتلفه الضرب، فألقي في سفينة، وألقيت جثته في الماء فحمله فقذف به الماء إلى شاطيء دجلة فجاء بعض أهله فحملوه، وأخرجت جنازته فما تبعه أحد، وتباشر عامة الناس بموته، لما كان يلحقهم من أذاه.

§1/1