دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ

شحاتة صقر

حقوق الطبع محفوظة رقم الإيداع: 5045/ 2008 * يمكن للخطيب الاستعانة بموقع المنبر www.alminbar.net في إعداد الخطب. * يمكن للخطيب الحصول مجانًا علَى موسوعة خطب المنبر وذلك من: موقع صيد الفوائد www.saaid.net، وموقع مشكاة الإسلام www.almeshkat.com وغيرهما. والموسوعة برنامج يحتوي على 5000 خطبة من خطب موقع المنبر www.alminbar.net. دَارُ الفُرْقَان للتُرَاث البحيرة ـ حوش عيسى ـ شارع عبد العظيم بديوي ـ أمام الشهر العقاري ت/0124536003

الجزء الأول [1 - 50]

مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاالله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَموتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ}، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}. أما بعد: فإن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. «فإن الخطابة إحدى وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، وهي من أهم وسائل التربية والتوجيه والتأثير، لذا فقد كانت جزءًا من مهمة الأنبياء - عليهم السلام - في دعوة أقوامهم إلى توحيد الله - عز وجل - وطاعته، وتحذيرهم من غضبه وبطشه، وأليم عقابه، ليقلعوا عما هم عليه من ضلال وفساد عقدي، وخلقي، واجتماعي. وما زالت الخطابة ـ أيضًا ـ وسيلة ناجحة من الوسائل التي يلجأ إليها المصلحون، والعلماء، والدعاة، والقادة في كل العصور لتحريك العقول، وبعث الثقة في النفوس للدفاع عن فكرة معينة، أو النهوض بمهمة معينة.

وإن خطبة الجمعة تتميز بمزايا، وتختص بخصائص لا تتوفر في أي نوع من أنواع الخطب الأخرى، حيث إنها تمثل شعيرة من شعائر الإسلام، وتتم في جو مهيب خاشع تتهيأ فيه النفوس للتلقي والاستماع، ويشعر المسلم فيه أنه في صلاة وطاعة لله - عز وجل -، كما أنها تتميز بوجوب الإنصات إلى الخطيب، وعدم التشاغل عنه، مما يفردها عن سائر الخطب، والمحاضرات، والندوات التي لا ينطبق عليها الحكم الشرعي نفسه. وتتميز خطبة الجمعة أيضًا بالاستمرارية والتكرار في كل أسبوع، ففي العام الواحد يستمع المصلي لاثنتين وخمسين خطبة، وهذا يمثل مساقًا دراسيًا متكاملًا، فإذا أحسِن إعداده كانت آثاره جليلة، وثمراته عظيمة. وتتميز خطبة الجمعة إلى جانب ذلك بتنوع الحاضرين إليها، وباختلاف مستوياتهم وطبقاتهم العلمية، والاجتماعية، فإن الخطيب في خطبة الجمعة يخاطب جميع فئات المجتمع، وهذا التنوع يعني تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ طرائق الإصلاح الاجتماعية، فإن العامل وصاحب العمل، والطالب والمعلم، والموظف والرئيس كلهم يخاطَبون في آنٍ واحد، ويوضعون أمام مسؤولياتهم، فلا تخاطَب فئة منهم في غياب الفئة الأخرى، ولا تحمل المسئولية على فئة منهم دون الأخرى». (¬1) وهذا الكتاب (دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ) محاولة لإعداد موضوعات متكاملة يستفيد منها الخطيب وغيره في إعداد خطبة الجمعة وغيرها من المواعظ. وقد جمعتها من كتب أهل العلم، ومن مواقع الخطب على الشبكة العنكبوتية مع تعديلها بالحذف أو الإضافة بما يناسب منهج الكتاب. وتشتمل هذه الموضوعات على أدلة من الكتاب والسنة الصحيحة مع ما تيسر من الآثار والقصص والأشعار، مع الحرص على تجنب الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ حيث إن في الصحيح ما يُغني عن الضعيف. ¬

_ (¬1) ((باختصار من (خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة)، إعداد: عبد الغني أحمد جبر مزهر. الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية.

والاعتماد في الحكم على الأحاديث في الغالب على كتب الشيخ الألباني - رحمه الله -، وفي النادر على كتب الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -، أو الكتب التي أشرف على تحقيقها الشيخ مصطفى العدوي، حفظه الله. أما طريقة عرض الخطبة فمتروكة للخطيب بما يناسب قدراته ومنهجه في العرض وبما يناسب جمهور مستمعيه. وقد يلاحظ الخطيب أن في بعض الخطب طولًا فاحشًا، ولكن هذا لا يعني أنه يقولها كلها في خطبة واحدة ـ فإن من السنة عدم إطالة الخطبة ـ بل الغرض من ذلك توفير المزيد من العناصر التي تتيح له فرصة الانتقاء منها إذا لزم الأمر. واللهَ نسأل أن ينفع المسلمين بهذه الورقات وأن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ـ سيدنا محمد ـ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. شحاتة محمد صقر [email protected]

مكانة يوم الجمعة في الإسلام

كلمات متعلقة بالخطابة والخطبة والخطيب (¬1) مكانة يوم الجمعة في الإسلام: يوم الجمعة في الإسلام له مكانة رفيعة ومنزلة عالية وقد وردت أحاديث صحيحة تدل على تميزه واختصاصه بخصائص عديدة. وذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه (زاد المعاد) خصائص يوم الجمعة وأوصلها إلى ثلاث وثلاثين خصيصة ذكر منها: أن فيه الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية ولرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته، ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جنانه، ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره، فهذا مقصود الخطبة والاجتماع لها ... أ. هـ. ¬

_ (¬1) انظر: * وميض من الحرم، للشيخ سعود الشريم. * خطبة الجمعة في الكتاب والسنة، لعبد الرحمن بن محمد الحمد، الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية. * خطبة الجمعة ودورها في تربية الأمة، إعداد: عبد الغني أحمد جبر مزهر. الناشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية. * موضوعات خطبة الجمعة، إعداد الشيخ عبد الرحمن بن معلى اللويحق. * خمسون وصية ووصية لتكون خطيبا ناجحًا، إعداد: أمير بن محمد المدري، إمام وخطيب مسجد الايمان ـ عمران ـ اليمن» * كيف تختار موضوع الخطبة: مجلة البيان 2 ربيع الثاني 1426هـ - 10 مايو2005م. * موقع المنبر www.alminbar.net

مكانة خطبة الجمعة وأهميتها

مكانة خطبة الجمعة وأهميتها: لا شك أن خطبة الجمعة في الإسلام لها مكانة سامية وأهمية بالغة وتعد خطبة الجمعة من أهم ـ إن لم تكن أهم ـ وسائل الاتصال بالناس، وأعظمها أثرًا، فهي تتميز بعدة مزايا، منها: 1 - أنها من وسائل نشر الدعوة العامة حيث لا تختص بأحد دون أحد، ولا طبقة دون طبقة، فجميع المصلين يستمعون إليها من الخطيب: مَن كان منهم قوي الإيمان أو ضعيفه، ومن كان منهم ذا ثقافة أو عديمها، والكبير والصغير؛ فهي فرصة للخطيب متكررة يستطيع بها التأثير على هذه الأعداد الهائلة الذين سيحضرون باختيارهم راغبين غير مكرهين. وكثير ممن لا يشهد صلاة الجماعة يحضر الجمعة، وهذا يتيح للخطيب أن يخاطب الجميع، وأن يتحدث إلى الكثير ممن لا يحضرون المحاضرات والندوات، ودروس المساجد، فهي تعد من المجالات القليلة جدًا التي يتاح للدعاة من خلالها أن يتحدثوا مع الجميع. 2 - الأمر بالسعي لها فإن المسلم مأمور بالسعي لصلاة الجمعة حين يسمع النداء الثاني، وحين يحضر المصلي للجمعة يلزمه الإنصات للخطيب ولا يجوز الكلام فالمسلم أمِرَ بالسعي إلى الجمعة والإنصات للخطبة. 3 - استمرارية التواصل، فخطبة الجمعة تتكرر كل أسبوع، ففي العام الواحد يستمع المصلي لاثنتين وخمسين خطبة، فلو أن كل خطيب يعالج في كل سنة اثنين وخمسين موضوعًا ما بقي بين المسلمين جاهل بالأحكام الضرورية. 4 - الحاضرون والمستمعون للخطبة يزيدون ولا ينقصون بخلاف غيرها من وسائل الدعوة الأخرى أو المستجدات العصرية ـ كالمحاضرة والدرس والندوة مثلا ـ فقد يخرج البعض قبل اكتمال الموضوع، ففرق شاسع بينها وبين وسائل الدعوة الأخرى مما يدل على أهميتها.

5 - الجو الرُوحاني الذي تتم فيه الخطبة، فهي تتم في بيت من بيوت الله تعالى تعمره السكينة، وتغشاه الرحمة، ويغمره الخشوع، وتحفه الملائكة الأطهار. 6 - وجوب الإنصات الذي يميز الحاضرين في خطبة الجمعة، فقد أمِر الحاضر للخطبة بالإنصات للخطيب، بحيث إنه نُهي أن يتكلم مع جليسه بكلمة ولو كانت خيرًا، فلا يقول له: «أنصت»، وعدم جواز تشميت العاطس، ورد السلام، ولا يمس الحصى، أي لا يأتي بأي قول أو فعل يقدح في تمام الإنصات والاستماع حتى يكون كامل الاستعداد للتلقي والإفادة مما يسمع. 7 - الاتصال المباشر بين الخطيب والمخاطبين، الأمر الذي يُفتقَد في كثير من الوسائل الأخرى، ولا ريب أن هذا الاتصال المباشر أعظم تأثيرًا في النفوس لقراءة الإنسان ـ من قريب ـ الانفعالات العاطفية والوجدانية التي تحدث لدى الخطيب فيكون أكثر تأثرًا بها، ولِما تحدثه المباشرة من المشافهة، والسؤال، والحياء، والمخاطبة. 8 - شعور المرء وهو يستمع إلى الخطبة أنه في عبادة، وطاعة لله - عز وجل -، بل الشعور بأنه يقوم بأداء فريضة من الفرائض وإظهار شعيرة من الشعائر الإسلامية، مما يميزها عن أي محاضرة، أو ندوة ونحوها، وهذا الشعور يضفي على المرء قدرًا من المهابة والخشوع، ويُحْدِث في نفسه قدرًا من الطمأنينة والسكينة، ومزيدًا من الرضا والسعادة. 9 - الخطبة ثابتة ومستمرة في كافة الأحوال في السلم والحرب والأمن والخوف، وتَوَفّر الخيرات والجدب فهي مطلوبة في سائر الظروف والأحوال. وحين يعتني بها الخطيب، ويرتب موضوعاتها يقدم للمستمع مادة متكاملة، فهي تمثل دورة مكثفة مستمرة، وهذا التكرار والاستمرار في كل الظروف، وفي جميع الفصول والمواسم، له دور كبير في إرساء المفاهيم الإسلامية، وتقليل الشر والفساد، ورفع مستوى الخير والصلاح، والحث على الفضائل، فإن تنوع

الموضوعات لخطبة الجمعة يجعلها تستوعب متطلبات الوعي لدى المسلم المواظب على حضور هذه الخطبة. 10 - إن خطبة الجمعة باستمرارها وتكرارها، وبتنوع موضوعاتها ذات آثار عظيمة في تربية الأمة، وتصحيح عقيدتها، وتقويم مسلكها، وتجنيد طاقاتها لخدمة عقيدة الإسلام، ونصرة دين الله - عز وجل -. في بحث عن أثر خطبة الجمعة في مصر (طبقا لموقع Islamdoor.com) أفاد 78% من العينة أنهم يتأثرون دائمًا بما يقوله الخطيب، وأفاد 71% أنهم يلتزمون دائمًا بما يقوله الخطيب. وتم الاتفاق مع أحد الخطباء على أن يخطب عن الربا، وأجرِىَ استفتاء قبل الخطبة، وبعدها، فكانت النتيجة أن 85% كانوا يعرفون المفهوم الصحيح للربا، وبعد الخطبة ارتفعت النسبة إلى 97%، و33% كانوا يعرفون عقوبة الربا، وارتفعت إلى 94%، و50% كانوا يفضلون الاستثمار في البنوك الإسلامية وارتفعت إلى 64%، و34% سينصحون الآخرين بترك الربا، و31% سيقاومون أي عمل ربوي. وتعكس هذه النتائج دور خطبة الجمعة ليس فقط في المعالجات الإسلامية للقضايا والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ولكن أيضًا في طرح ما يستجد من هذه المشكلات والمساهمة في حلها وفقا للمرجعية الإسلامية؛ إذ لا يمكن للمنبر أن يتخذ موقفًا محايدًا منها على اعتبار أن هذا يناقض وظيفة الخطبة، فضلا عن وجود تأثيرات سلبية خطيرة نفسيًا، واجتماعيًا، واقتصاديًا. والتصدي لمثل هذه المشكلات هو من صميم خطبة الجمعة؛ نظرا لأن الخطيب في هذه الحالة يقوم بفريضة (الحسبة) (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي تعادل فريضة الجهاد في سبيل الله - عز وجل -؛ فالأولى مجالها الداخل، والثانية مجالها الخارج.

صفة خطبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

صفة خطبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في (زاد المعاد): «كَانَتْ خُطْبَتُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - إنّمَا هِيَ تَقْرِيرٌ لِأُصُولِ الْإِيمَانِ: مِنْ الْإِيمَانِ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ وَذِكْرِ الْجَنّةِ وَالنّارِ وَمَا أَعَدّ اللهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ وَمَا أَعَدّ لِأَعْدَائِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ؛ فَيَمْلَأُ الْقُلُوبَ مِنْ خُطْبَتِهِ إيمَانًا وَتَوْحِيدًا وَمَعْرِفَةً بِاللهِ وَأَيّامِهِ. وَمَنْ تَأَمّلَ خُطَبَ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَخُطَبَ أَصْحَابِهِ وَجَدَهَا كَفِيلَةٍ بِبَيَانِ الْهُدَى وَالتّوْحِيدِ، وَذِكْرِ صِفَاتِ الرّبّ جَلّ جَلَالُهُ، وَأُصُولِ الْإِيمَانِ الْكُلّيّةِ، وَالدّعْوَةِ إلَى اللهِ وَذِكْرِ آلَائِهِ تَعَالَى الّتِي تُحَبّبُهُ إلَى خَلْقِهِ وَأَيّامِهِ الّتِي تُخَوّفُهُمْ مِنْ بَأْسِهِ، وَالْأَمْرِ بِذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ الّذِي يُحَبّبُهُمْ إلَيْهِ، فَيَذْكُرُونَ مِنْ عَظْمَةِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ مَا يُحَبّبُهُ إلَى خَلْقِهِ وَيَأْمُرُونَ مِنْ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ وَذِكْرِهِ مَا يُحَبّبُهُمْ إلَيْهِ فَيَنْصَرِفُ السّامِعُونَ وَقَدْ أَحَبّوهُ وَأَحَبّهُمْ. وَمِمّا حُفِظَ مِنْ خُطَبِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنّهُ كَانَ يُكْثِرُ أَنْ يَخْطُبَ بِالْقُرْآنِ وَسُورَةِ {ق}. قَالَتْ أُمّ هِشَامٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ النّعْمَانِ: «مَا حَفِظْت (ق) إلّا مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِمّا يَخْطُبُ بِهَا عَلَى المنْبَرِ» (رواه مسلم). هَدْيِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي خُطَبِهِ • كَانَ - صلى الله عليه وآله وسلم - إذَا خَطَبَ احْمَرّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدّ غَضَبُهُ حَتّى كَأَنّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبّحَكُمْ وَمَسّاكُمْ، وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسّاعَةُ كَهَاتَيْنِ وَيُقْرِنُ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ السّبّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ: «أَمّا بَعْدُ فَإِنّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ، وَشَرّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة» ثُمّ يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيّ وَعَلَيّ» (رَوَاهُ مُسْلم). • وَكَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ التّحْمِيدِ وَالثّنَاءِ وَالتّشَهّدِ «أَمّا بَعْدُ» (رواه البخاري). • وَكَانَ يُقَصّرُ الْخُطْبَةَ وَيُطِيلُ الصّلَاةَ وَيُكْثِرُ الذّكْرَ وَيَقْصِدُ الْكَلماتِ الْجَوَامِعَ وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» (رواه مسلم). (مَئِنَّة: أَيْ عَلَامَة). • وَكَانَ يُعَلّم أَصْحَابَهُ فِي خُطْبَتِهِ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعَهُ وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فِي خُطْبَتِهِ إذَا عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ كَمَا أَمَرَ الدّاخِلَ وَهُوَ يَخْطُبُ أَنْ يُصَلّيَ رَكْعَتَيْنِ. (رواه البخاري ومسلم).وَنَهَى المتَخَطّيَ رِقَابَ النّاسِ عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ. (حسن رواه أبو داود). • وَكَانَ يَقْطَعُ خُطْبَتَهُ لِلْحَاجَةِ تَعْرِضُ أَوْ السّؤَالِ مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيُجِيبُهُ ثُمّ يَعُودُ إلَى خُطْبَتِهِ فَيُتِمّهَا. وَكَانَ رُبّمَا نَزَلَ عَنْ المنْبَرِ لِلْحَاجَةِ ثُمّ يَعُودُ فَيُتِمّهَا كَمَا نَزَلَ لِأَخْذِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ - رضي الله عنهما - فَأَخَذَهُمَا ثُمّ رَقِيَ بِهِمَا المنْبَرَ فَأَتَمّ خُطْبَتَهُ. (صحيح رواه الترمذي). • وَكَانَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ السّبّابَةِ فِي خُطْبَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى وَدُعَائِهِ. (رواه مسلم). وَكَانَ يَسْتَسْقِي بِهِمْ إذَا قَحَطَ المطَرُ فِي خُطْبَتِه. • وَكَانَ يُمْهِلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَتّى يَجْتَمِعَ النّاسُ فَإِذَا اجْتَمَعُوا خَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ. • فَإِذَا دَخَلَ المسْجِدَ سَلّم عَلَيْهِمْ فَإِذَا صَعِدَ المنْبَرَ اسْتَقْبَلَ النّاسَ بِوَجْهِهِ وَسَلّم عَلَيْهِمْ. • ثُمّ يَجْلِسُ وَيَأْخُذُ بِلَالٌ فِي الْأَذَانِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ قَامَ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَخَطَبَ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْخُطْبَةِ. • لَا يُحْفَظُ عَنْهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَعْدَ اتّخَاذِ الْمِنْبَرِ أَنّهُ كَانَ يَرْقَاهُ بِسَيْفٍ وَلَا قَوْسٍ وَلَا غَيْرِهِ. (¬1) • وَكَانَ مِنْبَرُهُ ثَلَاثَ دَرَجَاتٍ وَكَانَ قَبْلَ اتّخَاذِهِ يَخْطُبُ إلَى جِذْعٍ يَسْتَنِدُ إلَيْهِ فَلما تَحَوّلَ إلَى المنْبَرِ حَنّ الْجِذْعُ حَنِينًا سَمِعَهُ أَهْلُ المسْجِدِ فَنَزَلَ إلَيْهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَضَمّهُ. (رواه البخاري). • وَكَانَ يَقُومُ فَيَخْطُبُ ثُمّ يَجْلِسُ جِلْسَةً خَفِيفَةً ثُمّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ الثّانِيَةَ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا أَخَذَ بِلَالٌ فِي الْإِقَامَةِ. • وَكَانَ يَأْمُرُ النّاسَ بِالدّنُوّ مِنْهُ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِنْصَاتِ وَيُخْبِرُهُمْ أَنّ الرّجُلَ إذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ: «أَنْصِتْ» فَقَدْ لَغَا. (رواه البخاري ومسلم). • وَكَانَ إذَا فَرَغَ بِلَالٌ مِنْ الْأَذَانِ أَخَذَ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الْخُطْبَةِ وَلم يَقُمْ أَحَدٌ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ الْبَتّةَ، وَلم يَكُنْ الْأَذَانُ إلّا وَاحِدًا. • وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْجُمُعَةَ كَالْعِيدِ لَا سُنّةَ لَهَا قَبْلَهَا وَهَذَا أَصَحّ قَوْلَيْ الْعُلماءِ وَعَلَيْهِ تَدُلّ السّنّةُ فَإِنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ فَإِذَا رَقِيَ المنْبَرَ أَخَذَ بِلَالٌ فِي أَذَانِ الْجُمُعَةِ فَإِذَا أَكْمَلَهُ أُخِذَ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الْخُطْبَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَهَذَا كَانَ رَأْيَ عَيْنٍ، فَمَتَى كَانُوا يُصَلّونَ السّنّةَ؟!! • وَكَانَ - صلى الله عليه وآله وسلم - إذَا صَلّى الْجُمُعَةَ دَخَلَ إلَى مَنْزِلِهِ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ سُنّتَهَا وَأَمَرَ مَنْ صَلّاهَا أَنْ يُصَلّيَ بَعْدَهَا أَرْبَعًا. قَالَ شَيْخُنَا أَبُو الْعَبّاسِ ابْنُ تَيْمِيّة َ: إنْ صَلّى فِي المسْجِدِ صَلّى أَرْبَعًا وَإِنْ صَلّى فِي بَيْتِهِ صَلّى رَكْعَتَيْنِ. قُلْتُ وَعَلَى هَذَا تَدُلّ الْأَحَادِيثُ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو دَاوُد عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ كَانَ إذَا صَلّى فِي المسْجِدِ صَلّى أَرْبَعًا وَإِذَا صَلّى فِي بَيْتِهِ صَلّى رَكْعَتَيْنِ (صحيح). وَفِي (الصّحِيحَيْنِ):عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنّ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يُصَلّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِه وَفِي (صَحِيحِ مُسْلم) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إذَا صَلّى أَحَدُكُمْ ¬

_ (¬1) قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في (السلسلة الضعيفة والموضوعة رقم964): «لم يرد في حديث أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يعتمد على العصا أو القوس وهو على المنبر». وقال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «الاعتماد إنما يكون عند = = الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد، مثل أن يكون ضعيفاً يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فهذا سنة؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة، وما أعان على سنة فهو سنة، أما إذا لم يكن هناك حاجة، فلا حاجة إلى حمل العصا. (الشرح الممتع على زاد المستقنع 5/ 63).

اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية

الْجُمُعَةَ فَلْيُصَلّ بَعْدَهَا أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ»، وَاللهُ أَعْلم». اهـ بتصرف من (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن القيم - رحمه الله -. اشتمال الخطبة على الآيات القرآنية مهما ملك الخطيب من أسباب البيان، وبلاغة الخطاب، ومهما كانت قوة عباراته وجزالة أسلوبه، فلن يَصِلَ إلى درجة تأثير القرآن في القلوب، وقرعه للعقول، وأين كلام البشر من كلام الله تعالى؟!! ولذا كان جديرًا بالخطيب أن يضمن خطبته الآيات القرآنية التي تزين خطبته، وتجلي حجته، وتجعله ينطق بالحق، فإن الاستشهاد بالآية، وتلاوتها في الوقت المناسب والموضع المناسب، إقامةٌ للحجة، وبيان وبرهان يأخذ بمجامع القلوب، ويشنف الأسماع، ويقرع العقول. وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في كثير من الأحيان يجعل خطبته أو جُلها تلاوة سورة من القرآن لما يشتمل عليه من ابتداء الخلق والبعث، والحساب، والجنة، والنار، والترغيب والترهيب. أخرج مسلم في صحيحه عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أُخْتٍ لها قَالَتْ: «أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَقْرَأُ بِهَا عَلَى الْمِنْبَرِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ». وعَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «لَقَدْ كَانَ تَنّورُنَا وَتَنّورُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إِلَّا عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خَطَبَ النَّاسَ» (رواه مسلم). (التنّور: الفُرن يُخبَزُ فيه). وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقْرَأُ عَلَى الْمِنْبَرِ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ}» (رواه مسلم).

قال النووي - رحمه الله - في شرحه: «فِيهِ الْقِرَاءَة فِي الْخُطْبَة وَهِيَ مَشْرُوعَة بِلَا خِلَاف، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبهَا وَالصَّحِيح عِنْدنَا (يقصد الشافعية) وُجُوبهَا وَأَقَلّهَا آيَة». قال الشيخ عبد الله البسام في توضيح الأحكام (2/ 334).: «وفيه مشروعية قراءة شيء من القرآن في الخطبة، وهي واجبة عند بعض العلماء، ومنهم الحنابلة، فلا بد من قراءة آية من كتاب الله، وفيه استحباب ترديد المواعظ لتذكير الناس في الخطبة، وأنفع ما يوعظ به العامة والعصاة هو ذكر الموت والبعث والجزاء». ومما ينبغي التنبيه له عند الاستشهاد بالآيات القرآنية في الخطبة ونحوها ما يلي: 1 - الحذر من الخطأ في تلاوة الآية، فإن هذا مما يعيب الخطيب، ويفسد عليه جمال أفكاره، وأهمية موضوعه، ويصرف السامع عن التأثر بالخطبة إلى التصحيح والنقد، وتتبع الأخطاء، فينبغي على الخطيب حفظ الآيات التي يستشهد بها في الخطبة حفظًا دقيقًا وسليمًا، فإن لم يتيسر له ذلك فلتكن مكتوبة يرجع إليها عند الحاجة، حتى ولو كان مرتجلًا لخطبته ارتجالًا. 2 - الحذر من قراءة الآية بقراءة غير معروفة ولا مشهورة لدى السامعين، وإن كانت قراءة سبعية، فهذا من شأنه أن يشوش أذهان السامعين، ويصرفهم عن تدبر المعنى إلى الوقوف عند اللفظ، ومن كان محَدِّثًا للناس فليحدثهم بما يعرفون، وليترك ما ينكرون. 3 - الحذر من الاستشهاد بالآية في غير موضعها، وإنزالها على غير واقعها، والتكلف في حمل الآية على حادثة معينة، أو على جماعة معينة، أو واقع معين مما يعد من التحريف، وتحميل الألفاظ فوق ما تحتمل، وعلى ذلك فلا بد من الاطلاع على تفسير الآيات من كتب التفسير المعتمدة، فلا أقل من أن يطلع على تفسير واحد من هذه التفاسير حتى يكون على علم بفهم السلف للآيات وتأويلها، مما يقيه من التأويلات الباطلة، والأقوال الواهية في ذلك، وليحذر من الاعتماد على تفاسير المبتدعين، من الباطنية، والمعتزلة، والصوفية، والشيعة ونحوهم.

4 - الحذر من إقحام الآيات في مجال المخترعات الحديثة أو الصناعات والوسائل العلمية المستجدة ما لم يكن ذلك نصًّا أو معنًى راجحًا مرْضِيًّا من العلماء الأخيار، فإن ولوج ذلك الباب لا يخلو من التكلف والتعسف في لَيِّ النصوص وتحميلها ما لا تحتمل من المعاني، وهذا باب يستهوي كثيرًا من الخطباء رغبةً في التميز، وإعجاب الناس بسعة علمه، وثقافته، ودقة نظره، واستنباطه للطائف المعرفة، وهو أمر محفوف بالمخاطر، ربما فتح الباب للتأويلات الفاسدة، والتجرؤ على الخوض في أمور من العلم لا يحسنها. 5 - الحذر أيضًا من التكلف في تطويع الآيات للمناسبات المختلفة سواء أكانت مناسبات عامة أو خاصة. ترتيل الآيات في الخطبة: قال البعض بمشروعية ذلك واستدلوا بعموم قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} (المزمل:4) وبعموم قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» (رواه البخاري). وقال الشيخ بكر أبو زيد ـ عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية سابقًا ـ - رحمه الله -: «مما أحدث الوعاظ، وبعض الخطباء في عصرنا، مغايرة الصوت عند تلاوة الآيات من القرآن لنسق صوته في الوعظ أو الخطابة وهذا لم يُعرف عن السالفين، ولا الأئمة المتبوعين، ولا تجده لدى أجلاء العلماء في عصرنا، بل يتنكبونه، وكثير من السامعين لا يرتضونه، والأمزجة مختلفة ولا عبرة بالفاسد منها، كما أنه لا عبرة بالمخالف لطريقة صدر هذه الأمة وسلفها» (¬1). قال الشيخ سعود الشريم: «بعض الخطباء حين استشهادهم في خطبهم ببعض الآيات، يقومون بترتيلها ولو كانت آيتين، فأقل بل إن بعضهم لا يكاد بمر بآية! إلا ويرتلها، ومحط السؤال هنا هو أنني لم أجد حسب بحثي القاصر ما يدل على هذا من سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بل إنني وجدت أحاديث كثيرة يستشهد فيها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بآية من القرآن ¬

_ (¬1) بدع القُرَّاء القديمة والمعاصرة، ص46.

اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية

ولم يأت فيها ما يدل على أنه كان يرتلها، ومعلوم أن الترتيل إنما يكون عند التلاوة ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} (المزمل:4). ولذا فإنني لا زلتُ أبحث جاهدًا للوصول إلى نتيجة مقنعة تؤكد ما يذكره البعض من أن هذا بدعة في الخطب، إلا أن صعوبة التبديع تجعلني أتقاصر عن هذا البحث، ولكنني أقول: إن هذا خلاف سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المعروفة عنه بالاستقراء سواء كانت في أثناء الخطبة أو في أثناء حديثه للصحابة - رضي الله عنهم -، لا أعلم بعد التتبع ما يدل على أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يرتل الآية الواحدة أو الآيتين في الاستشهاد. والعلم عند الله تعالى. اشتمال الخطبة على الأحاديث النبوية لا يقِلّ الاستشهاد بالحديث النبوي أهمية عن الاستشهاد بالقرآن، فإن السنة شارحة للكتاب العزيز، مفصلة ومبينة لمُجْمَله، مخصِّصَة لعامِّه، ولا يستغني الخطيب عن دعم رأيه، وتقوية حجته بحديث النبي المعصوم - صلى الله عليه وآله وسلم -، لكن عليه أن يراعي الأمور التالية عند الاستشهاد بالحديث النبوي: 1 - تجنب التحريف في المعنى والتكلف في حمل الحديث على غير ما يحتمله معناه لتقوية رأي، أو مذهب، أو جماعة، أو نصرة فئة على فئة. 2 - تجنب ذكر الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والواهية، فإنه لا خير فيها، ولا نور عليها، بل إن ذكرها وحملها وتبليغها إلى الناس له دور خطير في نشر العقائد الفاسدة، والبدع والضلالات، لاسيما وأن العامة لا تمحيص ولا تثبت لديهم، فسرعان ما تنتشر مثل هذه الأمور فيما بينها لتعلقها بالغرائب، مع الاستهانة بما يترتب عليها من مفاسد. ولا يُعفي الخطيب من التبعة أن يكون حسن النية سليم القصد، هدفه التأثير في القلوب، والترغيب في الإصلاح فإن الغاية المشروعة لا تسوغ الوسيلة المحرمة،

أثر الأحاديث الضعيفة في الابتداع في الدين

وقد وقع قوم من جهلة العباد والمتنسكة في هذه الخطيئة حيث زعموا أنهم يكذبون لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا عليه، ويكذبون للإصلاح لا للإفساد، ويكذبون حسبة للخير كما فعل نوح بن أبي مريم، وهو الذي وضع الأحاديث في فضائل القرآن سورةً سورةً. وفي الصحيح غُنْيَة عن الضعيف، ولا يخفى ما في نشر الأحاديث الضعيفة من آثار سيئة على الأمة في عقيدتها وفي سلوكها، فكم من حديث ضعيف أو واه، تناقله الناس محتجين به اعتمادا على إيراد الخطيب له، وكم من عادة تشبث بها الناس كان مستندها حديثًا ضعيفًا. إن الخطيب إذا لم يكن من أهل العلم فعليه أن يرجع إلى كتب الحديث التي تقتصر على الأحاديث الصحيحة مثل صحيح البخاري، وصحيح مسلم، أو الرجوع إلى الكتب المعتمدة التي تكون الأحاديث فيها مخرجة تخريجًا علميًا مبينًا فيها درجة الحديث من الصحة والضعف. ولا يجوز العمل بالحديث الضعيف عند الأئمة المحققين كابن معين والبخاري ومسلم وابن العربي وابن حزم وابن رجب وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وغيرهم كثير وكثير. • أثر الأحاديث الضعيفة في الابتداع في الدين: قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «إن تساهل العلماء برواية الأحاديث الضعيفة ساكتين عنها قد كان من أكبر الأسباب القوية التي حملت الناس على الابتداع في الدين، فإن كثيرًا من العبادات، التي عليها الناس اليوم، إنما أصلها اعتمادهم على الأحاديث الواهية، بل والموضوعة، كمثل التوسعة يوم عاشوراء، وإحياء ليلة النصف من شعبان، وصوم نهارها وغيرها وهي كثيرة جدًا» (¬1). ذكر الإمام الشاطبي - رحمه الله - أن من طرق المبتدعة في الاستدلال: اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة، والمكذوب فيها على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم قال: ¬

_ (¬1) صحيح الترغيب والترهيب للشيخ الألباني، ص23.

«والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قالها، فلا يمكن أن يُسنَد إليها حكم، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب؟ ... وهذا على فرض ألا يعارض الحديثَ أصلٌ من أصول الشريعة، وأما إذا كان له معارض فأحرى ألا يُؤخَذ به». (¬1) * قال الشيخ الألباني: «لا يجوز ذكر الحديث الضعيف إلا مع بيان ضعفه، وإلا دخل تحت الوعيد في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أنَهُ كَذِبٌ فَهُوَ أحَدُ الكَاذِبَيْنِ» رواه مسلم. واعلم أن من يفعل ذلك فهو أحد رجلين: إما أن يعرف ضعف تلك الأحاديث ولا يُنبّه على ضعفها فهو غاشّ للمسلمين وداخل حتمًا في الوعيد المذكور، وإما أن لا يعرف نسبتها فهو آثم أيضًا لإقدامه على نسبتها إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - دون علم وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلّ مَا سَمِعَ» (رواه مسلم). وقد صرح النووي بأن من لا يعرف ضعف الحديث لا يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن لم يكن عارفًا». (¬2) * قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله -: «من نقل حديثًا صحيحًا بغير إسناده وجب أن يذكره بصيغة الجزم فيقول مثلًا: «قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» وأما إذا نقل حديثًا ضعيفًا أو حديثًا لا يعلم حاله، أصحيح أم ضعيف، فإنه يجب أن يذكره بصيغة التمريض كأن يقول: «رُوِى عنه كذا» أو «بلغنا كذا». وإذا تيقن ضعفه وجب عليه أن يبين أن الحديث ضعيف؛ لئلا يغتر به القارئ أو السامع، ولا يجوز للناقل أن يذكره بصيغة الجزم، لأنه يوهم غيره أن الحديث صحيح، خصوصًا إذا كان الناقل من علماء الحديث الذين يثق الناس بنقلهم». (¬3) • ¬

_ (¬1) الاعتصام 1/ 217 - 218. (¬2) تمام المنة في التعليق على فقه السنة للشيخ الألباني، ص33 - 34. (¬3) الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث: ص90.

لا يجوز استحباب شيء لمجرد حديث ضعيف في الفضائل

هل تكفي كلمة «رُوي» أو «بلغنا» ونحوهما؟ قال الشيخ الألباني: «أرى أن هذا لا يكفي اليوم لغلبة الجهل، فإنه لا يكاد يفهم أحدٌ من كتب المؤلف أو قول الخطيب على المنبر: «رُوي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كذا وكذا» أنه حديث ضعيف، فلابد من التصريح بذلك كما جاء في أثر على - رضي الله عنه - قال: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ» أخرجه البخاري» (¬1). • لا يجوز استحباب شيء لمجرد حديث ضعيف في الفضائل: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «ما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يُحتج به، فإن الاستحباب حكم شرعي فلا يثبت إلا بدليل شرعي، ومن أخبر عن الله أنه يحب عملًا من الأعمال من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الإيجاب أو التحريم، ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب كما يختلفون في غيره، بل هو أصل الدين المشروع» (¬2). • معنى العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «مراد العلماء من العمل بالحديث الضعيف في الفضائل: أن يكون العمل مما قد ثبت أنه يحبه الله أو مما يكرهه الله بنص أو إجماع، كتلاوة القرآن والتسبيح والدعاء والصدقة والعتق والإحسان إلى الناس، وكراهة الكذب والخيانة ونحو ذلك، فإذا رُوي حديث في فضل بعض الأعمال المستحبة وثوابها، وكراهة بعض الأعمال وعقابها، فمقادير الثواب والعقاب وأنواعه إذا رُوي فيها حديث لا نعلم أنه موضوع جازت روايته والعمل به، بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب، أو تخاف ذلك العقاب، كرجل يعلم أن التجارة تربح، لكن بلغه أنها تربح ربحًا كثيرًا فهذا إن صدق نفعه، وإن كذب لم يضره» (¬3). ¬

_ (¬1) صحيح الترغيب والترهيب: ص21. (¬2) مجموع الفتاوى:9/ 328. (¬3) مجموع الفتاوى:9/ 328.

لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل الضعيفة

• لا يجوز التقدير والتحديد بأحاديث الفضائل الضعيفة: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «إذا تضمنت أحاديث الفضائل الضعيفة تقديرًا وتحديدًا، مثل صلاة في وقت معين بقراءة معينة أو على صفة معينة لم يجُز؛ لأن استحباب هذا الوصف المعين لم يثبت بدليل شرعي». (¬1) • شروط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال عند القائلين به: 1 - أن يكون الضعف غير شديد، فيخرج من انفرد من الكذابين والمتهمين بالكذب ومن فحش غلطه. 2 - أن يكون مندرجًا تحت أصل عام، فيخرج ما يُخترع بحيث لا يكون له أصل أصلًا. 3 - أن لا يعتقد عند العمل به ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما لم يَقُله. (¬2) * قال الشيخ الألباني: «هذه الشروط توجب على أهل العلم والمعرفة بصحيح الحديث وسقيمه أن يميزوا للناس شيئين هامين: الأول: الأحاديث الضعيفة من الصحيحة، والآخر: الأحاديث الشديدة الضعف من غيرها» (¬3) • هل هناك إجماع من العلماء على جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال؟ قال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «الخلاف في ذلك معروف، فإن بعض العلماء المحققين على أنه لا يعمل به مطلقًا، لا في الأحكام ولا في الفضائل، قال الشيخ القاسمى - رحمه الله - في (قواعد التحديث) (ص94): «حكاه ابن سيِّد الناس في عيون الأثر عن يحيى بن معين، ونسبه في (فتح المغيث) لأبي بكر بن العربي، والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضًا ... وهو مذهب ابن حزم ... » قلت (أي الشيخ الألباني): وهذا هو الحق الذي لا شك فيه عندي». (¬4) ¬

_ (¬1) مجموع الفتاوى 9/ 329. (¬2) صحيح الترغيب والترهيب، ص18، عن القول البديع للإمام السخاوى:195. (¬3) صحيح الترغيب والترهيب: ص18. (¬4) تمام المنة في التعليق على فقه السنة، ص34.

اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال

* قال الحافظ ابن حجر: «لا فرق في العمل بالحديث الضعيف في الأحكام أو في الفضائل إذ الكل شرع» (¬1). * قال الشيخ أحمد شاكر: «لا فرق بين الأحكام وبين فضائل الأعمال ونحوها في عدم الأخذ بالرواية الضعيفة، بل لا حجة لأحد إلا بما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من حديث صحيح أو حسن» (¬2). اشتمال الخطبة على ضرب الأمثال المراد بضرب المثل هنا سَوق الصور، والقصص، والوقائع المتشابهة، ليستدل بالحاضر على الغائب، وبالمحسوس على غير المحسوس، أو بالمحسوس من الصور الوقائع على نظائرها وأشباهها، والمقصود من ضرب المثل تقريب الأمر للمخاطب، وترسيخه في ذهنه لتحصل العبرة والعظة من ذلك. لذا نجد أن القرآن الكريم أكثر من ضرب الأمثال، قال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} (الروم: 58). وضرب الله تعالى المثل بالعنكبوت، والبعوضة، والذباب، وغير ذلك، وكل أمثال القرآن عظيمة مؤثرة، تأخذ بالقلوب، وتهز النفوس، وتجسد المعاني في صور ماثلة للعيان كأن المرء يحسها ويلمسها بيده. ولْيَحذر الخطيب في هذا من الإكثار من الأمثال الشعبية، أو ذكر الأمثال الساقطة والمبتذلة، وما يشتمل على سوء أدب، أو إيذاء للأسماع، فإن ذلك سيئ الأثر على النفوس، وربما أدى إلى تثبيت وتأكيد مفاهيم اجتماعية خاطئة، أو مخالفة للشرع، ويكون الخطيب بذكرها أحد المروجين والناشرين لها. ¬

_ (¬1) تبيين العجب ص3، 4. (¬2) الباعث الحثيث، ص91.

الاستشهاد بالشعر في الخطبة

ولا ريب أن مِن أكثرِ الأمثال تأثيرًا في نفوس السامعين ما كان منتزعًا من واقعهم لصيقًا بعادتهم، سائرًا في حياتهم معبرًا عن مشكلاتهم. الاستشهاد بالشعر في الخطبة ومما يزين الخطبة، ويزيد من التأثر بها لدى السامع استشهاد الخطيب بالشعر، إن الشعر في موضعه يشد السامع ويلهب عاطفته، ويحرك نفسه، وفي الحديث الصحيح عن أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً» (رواه البخاري). ومن أول أغراض الشعر أن يكون في المواعظ، والأمثال، والآداب، والأخلاق، والحث على الجهاد أو الإنفاق، أو خلالِ الخير المتنوعة، وكذلك ما يرقق القلوب من شعر الزهد، والقناعة، والتذكير بالآخرة والجزاء. * سُئِل الشيخ ابن باز - رحمه الله -: هل الاستشهاد ببعض الشعر في خطبة الجمعة مما يحث على مكارم الأخلاق والجهاد في سبيل الله أمر مشروع؟ فقال - رحمه الله -: لا شك بذلك، يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ الشِّعْرِ حِكْمَةً» (رواه البخاري).، وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينشد مع الصحابة وهم يبنون المسجد ينشد معهم - صلى الله عليه وآله وسلم -: والله لولا الله ما اهتدينا ... ولا تصدقْنا ولا صلَّيْنا فأنزلَنْ سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقَيْنا إن الألى قد بغوا علينا ... إذا أرادوا فتنة أبَيْنا كان رافعًا بها صوته يقول: أبَيْنَا، أبَيْنَا، أبَيْنَا، كما أن عليه الصلاة والسلام أنشدهم وهم يحفرون الخندق. فالمقصود أن إنشاد الشعر الحق الطيب في الخطب والمواعظ والمحاضرات وخطب الجمعة والأعياد لا بأس به لأنه يؤثِّر ويحصل به خير عظيم». (¬1) ¬

_ (¬1) جريدة المدينة العدد 9170.

الاستشهاد بالقصة في الخطبة

الاستشهاد بالقصة في الخطبة • القصة القرآنية: تعددت القصص في القرآنية الكريم، وتعددت أغراضها وفوائدها، إذ فيها تثبيت لفؤاد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وموعظة وذكرى للمؤمنين، وعبرة لأولي الألباب، أو نجد القرآن يوجه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى أن يتخذ القصة مسلكًا من مسالك نشر دعوته، ووسيلة يستخدمها في توجيه الناس، فيأمره بمخاطبة الناس عبر قص قصص الأولين عليهم، حتى يكون لهم في آثار السابقين عبرة وهدى وموعظة حسنة، فقال تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف- 176). ومما يؤسف له حقا أن المنابر تكاد تخلو من التذكير بما قصه القرآن الكريم من القصص، مع عظم العبرة، وقوة الموعظة فيها، فإن الخطيب البارع يستطيع أن ينزلها على واقع المخاطبين مع الإيجاز والتوجيه لتغدو أحداثها كأنما هي واقعة بينهم، ماثلة أمام أعينهم. ومهما كانت القصة طويلة، فإنه يستطيع أن يخلص إلى زُبدتها وخلاصتها بأسلوب بليغ وجيز، وبأداء فصيح لا يتجاوز في زمنه دقائق معدودة، بل ربما رأى أن الأفضل توزيعها على أكثر من خطبة، مع ربط بواقع الناس والتحذير من نقمة الله تعالى وأليم عقابه، وشدة بطشه، وبيان سنته في المكذبين والمعرضين الغافلين، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا} (فاطر:43). إن الخطيب البليغ، والداعية الموفق لا ينبغي له أن يغفل عن هذه الذخيرة الجليلة من بيان ما يذكر به، فإن التذكير بالقصة تذكير بالقرآن، وقوة بيانه، وبلاغة عرضه للأحداث، وعواقب الأعمال دون أدنى شائبة من ضعف الحوار أو طروء الخيال، أو عدم مطابقة الواقع. قال تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلم وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} (الأعراف- 7).وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (الأنعام- 57).

إن من خصائص القصة القرآنية أنها صالحة للاعتبار والاستشهاد في كل زمان، ولا عجب فهي جزء من هذا القرآن الذي هو موعظة دائمة، ورسالة خالدة لا تنفد خزائنه، ولا تنقضي عجائبه. • نموذج: خذ مثلا من القصة القرآنية قصة (أصحاب الجنة) الذين غرهم المال، وغيَّرهم الجشع والطمع، فمنعوا حق المساكين الذين كان والدهم يوصله إليهم، فلقد كان للمساكين نصيب من العطاء عندما كان صاحب تلك الجنة حيًا، ثم لما مات تآمر أبناؤه فيما بينهم واستكثروا ما ينقطع لهؤلاء المساكين من مالهم، فاتفقوا على أن يقطعوا الثمر في وقت مبكر من النهار حيث يأمَنون تعرض المساكين لهم في هذا الوقت الباكر. وأقسموا اليمين على ذلك دون استثناء، فباتوا على كيد وغدوا على حرد، وإذا بطائف من الله تعالى يطوف عليها شجرة شجرة، وثمرة ثمرة، فلا يبقي منها باقية، فكأنه سبقهم إليها من صرمها وأتى على ثمارها كلها. فانظر كيف قوبل مكرهم وشدة تعميتهم وتبييتهم لسوء النية بهذا الانتقام الإلهي السريع {قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا} (يونس:21)، ثم تخلص القصة إلى العبرة العظيمة: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلمونَ} (القلم - 33). ألا ترى أن القصة في أحداثها وعبرتها تصلح أن تكون تذكارًا صارخًا في كل جيل لأولئك الذين بطروا نعمة الله، وبدلوها جحودًا، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ووسع عليهم من فضله، وبسط لهم الرزق، فأمسكتْ أيديهم، وشحَّتْ قلوبهم، ومنعوا حقَّ الله عبادَ الله، وأخفوا الشر ومنعوا الخير. إنه نموذج من الكنود البشري المتكرر، تصلح له هذه التذكرة القرآنية في كل عصر، وهكذا كل القصص القرآني، فإنه يصلح أن يكون عظة بليغة وتذكرة حالة إذا أحسن ربطه بالواقع، بأسلوب موجز، وعرض محكم.

الاستشهاد بواقع الآخرين

الاستشهاد بواقع الآخرين ومما يحسن الاستشهاد به في الخطبة، وتنويه الخطيب به بين الحين والحين ما يزخر به واقع غير المسلمين من تناقضات، وما يعصف به من فساد وموبقات، وآثار مدمرة في المجالات الصحية، والاجتماعية، والاقتصادية، تتمثل في الأمراض الجنسية الفتاكة، وجرائم القتل، والاغتصاب، والسرقة، وترويج المخدرات، وتفكك الأسرة، والروابط الاجتماعية، وغير ذلك مما يصلح أن تكون كل جزئية منه مدارا لمضمون خطبة، ومحورا للتوجيه والتذكير، واستخلاص العبر. ولكن ليحذر الخطيب في هذا المجال من التهويل والمبالغة، والإفراط في وصف تلك المجتمعات، والاعتماد في استقاء المعلومات، والإحصائيات على مصادر غير موثوق بها، أو جهات غير معتمدة. وليكن قصده بيان عظمة الإسلام ونعمته، وسلامة المجتمع الإسلامي من أمراض الانحراف والشذوذ، والإيدز، وغير ذلك مما تعاني منه المجتمعات الكافرة والخارجة على دين الله تعالى المتمردة على شرائعه، وليست مهمة الخطبة إيصال المعلومات الجديدة للناس، بقدر ما هي تفعيل للسامعين، وتحريك لنفوسهم ثم الانتقال بهم من حال التأثر إلى التغير والإصلاح.

فقه الخطيب

فقه الخطيب قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ» (رواه مسلم).وهذا دليل على أن الفقه من صفات الخطيب. فالثقافة الشرعية تتنوع إلى أنواع، فمنها ما هو ألزم كفقه العقيدة، وأصول الإيمان، والتوحيد بأنواعه الثلاثة، ومنها ما هو لازم للخطب وهو الأنواع التالية: 1 - فقه ما يرقق القلوب، وينعش النفوس من الزهد والرقائق، ولطائف السير، وأخبار الصالحين، فإنها منشطة للنفوس، باعثة للعمل والتأسي. 2 - فقه ما يتعلق بصلاة الجمعة، وأحكام الجمعة، والخطبة. 3 - فقه ما يرتبط بالمناسبة، فإذا خطب عن الحج لمناسبته، أو عن الصوم بمناسبة حلول شهر رمضان، فينبغي أن يكون فقيهًا بأهم أحكام الحج، وأهم أحكام الصيام، وإذا تكلم عن الربا، أو الرشوة، أو تكلم عن المخدرات، وغير ذلك فينبغي أن يكون ملمًا بأطراف موضوعه، فقيها بأهم أحكامه، فإنه ربما سئل عن بعض مسائله. 4 - فقه عام، وهذا يعتمد على دراسة الخطيب الشرعية وعلمه، واطلاعه في هذا الجانب. وعلي الخطيب أن يتقي الله تعالى، ولا يفتي فيما لا يفقه ولا يدخل فيما لا يعلم، وما لا يحسن، ولا تحملنه إجادة القول على الإعجاب بنفسه، والإسراع إلى الفتوى، لاسيما إذا لم يكن من طلبة العلم، أو دارسي العلم الشرعي، والتقوى تقتضي أن يكون شجاعًا فيَرُدّ الأمر إلى عالمه، أو يقول: لا أدري، فتسلم مقالته. وعلى المصلين والمخاطبين أن يعلموا بأنه ليس كل من يحسن الخطابة يحسن الفتوى، ولا يفترض في الخطيب أن يكون فقيهًا مفتيًا، وليس نقصًا في الخطيب أن لا

ماذا تقرأ في صلاة الجمعة؟

يكون مفتيًا أو مجتهدًا، فلكل علم رجال، وقد يجيد المرء جانبًا من جوانب العلم، ولا يجيد آخر، فعلى المصلين أن لا يحرجوا الخطيب، ولا ينزلوه فوق منزلته. • ماذا تقرأ في صلاة الجمعة؟ يحرص بعض الخطباء ـ عن حسن نية ـ أن يقرأ في صلاة الجمعة آيات تتناسب مع موضوع خطبة الجمعة، وهذا ـ وإن كان عن حُسن نية ـ فهو خلاف السنة، فإن الأكمل اتباع سنته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد ثبت عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ كما في صحيح مسلم ـ أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة في الركعة الأولى، وسورة المنافقين في الركعة الثانية، أو يقرأ في الأولى سبح، وفي الثانية الغاشية، أو يقرأ سورة الجمعة في الركعة الأولى، وسورة الغاشية في الركعة الثانية. فيتبين من هذا أن ما يفعله بعض الخطباء خلاف السنة، وكذلك الاقتصار على بعض السورة، أو يقرأ إحداهما في الركعتين. وهذا خلاف السنة. قال الشيخ بكر أبو زيد ـ عضو هيئة كبار العلماء في السعودية سابقًا ـ - رحمه الله -: «رتب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في قراءة صلاة الجمعة ثلاث سنن: قراءة سورتي الجمعة والمنافقون، أو سورتي الجمعة والغاشية، أو سبح والغاشية. وقد فشى في عصرنا العدول من بعضهم عن هذا المشروع إلى ما يراه الإمام من آيات أو سور القرآن الكريم، متناسبًا مع موضوع الخطبة. وهذا التحرّي لم يُؤْثَر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا يُعرف عن سلف الأمة، فالتزام ذلك بدعة، وهكذا قصْد العدول عن المشروع إلى سواه على سبيل التسنن فيه استدراك على الشرع، وهجر للمشروع، واستحباب ذلك، وإيهام العامة به، والله أعلم» (¬1). أما من قرأ بسورة غير هذه السور ولم يداوم على سور معينة منها، فإن فِعْله لا يُعَدُّ بدعة، وإن كان قد خالف السنة. ¬

_ (¬1) بدع القراء القديمة والمعاصرة ص 45.

قطع الخطبة للتنبيه والإرشاد

• قطع الخطبة للتنبيه والإرشاد: يشرع أن ينصح الخطيب أثناء خطبة الجمعة من يراه يؤذي الناس الموجودين بالمسجد، وأن ينصح من يراه دخل المسجد وجلس ولم يصل ركعتين، بأن يصلي تحية المسجد، لثبوت السنة بذلك. ويغفل بعض الخطباء ـ وفقهم الله ـ عن تنبيه الداخلين إلى المسجد بعد خروج الإمام الذين يجلسون ولا يصلون ركعتين، والأولى للإمام أن ينبه على ذلك إذا رأى أحدًا دخل فجلس دون أن يركع ركعتين، ودليل ذلك ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى المنْبَرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ: «أَرَكَعْتَ رَكْعَتَيْنِ؟» قَالَ: لَا، فَقَالَ: ارْكَعْ». (هذا لفظ مسلم). ولفظ البخاري: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «أَصَلَّيْتَ يَا فُلَانُ؟» قَالَ: «لا». قَالَ: «قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ». ومن قالوا: لا يصليهما، واحتجوا بالأمر بالإنصات للإمام، فقولهم خلاف الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كقوله: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا» (رواه مسلم). وجمهور أهل العلم على أن تحية المسجد سنة لمن يريد الجلوس فيه، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة. فقد ورد في البخاري ومسلم عن أبي قتادة سدد خطاكم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ المسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ». وهذا الحكم يشمل الداخل أثناء الخطبة. وخطبة الجمعة لا تمنع الداخل من أداء تحية المسجد، ولكن لتكُنْ خفيفة ولو دخل أثناء الآذان فليركع التحية.

ما الحكم فيمن دخل المسجد لصلاة الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني

• ما الحكم فيمن دخل المسجد لصلاة الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني؟ هل ينتظر إلى أن يقضي المؤذن أذانه ثم يصلي تحية المسجد؟ أم يصلي وهو يؤذن حتى يدرك بداية الخطبة؟ «من دخل المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الذي بعد دخول الإمام؛ فإنه ينبغي له أن يصلي تحية المسجد؛ حتى يتفرغ لسماع الخطبة». (من فتاوى الشيخ الفوزان). • رفع اليدين للدعاء في الخطبة: الصواب أن اليدين لا ترفع للدعاء في الخطبة، إلا إذا استسقى الإمام في خطبته، كما ثبت ذلك عن النبي في صحيح البخاري، وأما إذا لم يستسق فإنه لا يرفع يديه في الدعاء، وإنما يشير بأصبعه السبابة إذا دعا وإذا ذكر الله. عَنْ حُصَيْن بن عبد الرحمن أن عُمَارَةَ بْنَ رُؤَيْبَةَ رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى المنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: «قَبَّحَ اللهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ؛ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ المسَبِّحَةِ». (رواه مسلم). قال الإمام النووي - رحمه الله -: «هَذَا فِيهِ أَنَّ السُّنَّة أَنْ لَا يَرْفَع الْيَد فِي الْخُطْبَة، وَهُوَ قَوْل مَالِك وَأَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ. وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ بَعْض السَّلَف وَبَعْض المالِكِيَّة إِبَاحَته لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - رَفَعَ يَدَيْهِ فِي خُطْبَة الْجُمُعَة حِين اِسْتَسْقَى، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ هَذَا الرَّفْع كَانَ لِعَارِضٍ».اهـ من (شرح صحيح مسلم). • هل يصلي بالناس الجمعة غير الخطيب؟ السنة أن من يتولى الخطبة يتولى الصلاة كذلك لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يتولاهما بنفسه وكذلك خلفاؤه من بعده. وإن خطب رجل وصلى آخر لعذر جاز ذلك. • إذا قرأ الخطيب آية تشتمل على سجدة وهو يخطب فهل يسجد سجود التلاوة؟ قال العلماء - رحمهم الله -: إن شاء سجد وإن ترك السجود فلا حرج، فعله عمر وترك، على أن سجود التلاوة ليس بواجب في الأصل.

كيف تختار موضوع الخطبة؟

كيف تختار موضوع الخطبة؟ يشتكي كثير من الخطباء من كيفية اختيار الموضوع، وبعضهم يُرجع سبب ذلك إلى ندرة الموضوعات التي يمكن أن يتناولها الخطيب وتناسب الكثير من الناس لاسيما أن الخطبة تتم كل أسبوع. وقد يكون السبب الرئيس لهذه النظرة عند الخطيب هي: قلة علمه، ومحدودية اطلاعه، وضعف نظرته إلى واقع الناس. وإلا فإن الخطبة لو كانت تتكرر يوميًا لما استطاع الخطيب أن يعالج جميع الموضوعات التي يحتاجها الناس في هذا العصر المتغير، الذي كثرت فيه الفتن، فالناس يحتاجون إلى تقوية إيمانهم، وترسيخ عقيدتهم، والقضاء على ما تخللها من انحرافات من أقوال أو أفعال قد تناقضها بالكلية، أو تنقص كمالها. والناس يحتاجون إلى تصحيح عباداتهم، ويحتاجون إلى بيان الحكم الشرعي في كثير من المعاملات والعادات التي تتجدد باستمرار، غير ما يفِدُ إليهم من خارج مجتمعهم، ويحتاجون إلى الحث على مكارم الأخلاق والتنفير من مساوئها، وإلى ترقيق القلوب، والتذكير بالآخرة .... ، والموضوعات كثيرة جدًا. ويمكن تقسيم الجُمعات إلى قسمين: • القسم الأول: جمعات توافق مناسبات مهمة: وهذه المناسبات على نوعين: أـ مناسبات طارئة: كحدث يحصل في الحي أو البلد واشتهر وعرفه الناس؛ فهم ينتظرون من الخطيب رأيه فيما حدث، ومنها أيضًا قضايا المسلمين التي تشتعل بين حين وآخر: كقضايا فلسطين، والعراق، والصومال، والشيشان، ونحوها. وينبغي للخطيب أن يعالج مثل هذه الموضوعات معالجة شرعية، تبين حجم القضية الحقيقي بلا مبالغة ولا تهوين، ومن ثَمَّ يبين موقف المسلم في هذه القضية، وما يجب عليه تجاهها، فلا يكفي مجرد عرضها.

ب ـ مناسبات متكررة بتكرر الأعوام: كرمضان والحج وعاشوراء، والتحذير من البدع المحدثة ونحوها. وهذه المناسبات مريحة عند كثير من الخطباء؛ إذ لا يحتاجون إلى إعداد خطب جديدة في موضوعاتها، ولربما حفظ الناس خطبهم فيها من كثرة ترديدها، وأصابهم الملل منها. بيد أن هذه المناسبات تُقلق مَن يهتمون بخطبهم، ويحبون التجديد في موضوعاتها، ويوَدّون إفادة الناس بكل وسيلة ممكنة. ولتلافي التكرار في كل عام يمكن تفتيت الموضوع الواحد إلى موضوعات عدة في كل عام يطرق الخطيب منها موضوعًا. وبالمثال تتضح الصورة: درج الخطباء في ثالث جمعة من رمضان على الحديث عن غزوة بدر الكبرى، ويقدمون لها بمقدمة عن نصر الله تعالى لعباده، وكون رمضان شهرًا للانتصارات والأمجاد، ويسردون عددًا من المعارك التي وقعت في رمضان، غزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، وفتح الأندلس ونحوها، ثم يخصصون الخطبة بكاملها عن غزوة بدر، وهكذا في كل عام. ومن الممكن لتلافي التكرار جمع الغزوات والأحداث الكبرى التي وقعت في رمضان، واختيار واحدة منها في كل عام للحديث المفصل عنها. ويمكن أيضًا تفتيت الغزوة الواحدة إلى عدة موضوعات، في كل عام يطرق جانبًا جديدًا منها. فغزوة بدر مثلًا يمكن إنشاء خطب عدة منها، كل واحدة تتناول جانبًا مختلفًا، فتكون مجموعة من الخطب موضوعاتها كالتالي: 1ـ سرد أحداث الغزوة كما في كتب السير، وهذا يعمله أكثر الخطباء كل عام. 2ـ وصف حال المسلمين قبل الغزوة (الهجرة ـ المطاردة ـ المحاصرة ـ الضعف ـ القلة ـ الخوف).

وحالهم بعدها (ارتفاع معنوياتهم بالنصر ـ عز الإسلام ـ قوة المسلمين، رهبة اليهود والمنافقين). 3ـ وصف حال الفريقين المتقابلين: حال المؤمنين: (الدعاء، الحماس للقتال، التضحية والفداء، التعلق بالله تعالى). حال المشركين (الكبرياء، محادة الله ورسوله، الاعتداد بالنفس، الاغترار بالكثرة، ممارسة العصيان، شرب الخمر وغناء القينات، كما هو قول أبي جهل). 4ـ تأييد الله - عز وجل - لعبادة المؤمنين: (النعاس، المطر، قتال الملائكة معهم، وفيه عدة أحاديث صحيحة، الربط على قلوبهم، تقليل العدو في أعينهم) وخذلان الكافرين. 5ـ الحديث عن مصير المستكبرين حيال دعوة الأنبياء - عليهم السلام -، ويكون صرعى بدر من المشركين نموذجًا على ذلك بذكر مجمل سيرتهم الكفرية وعنادهم ثم ما جرى لهم، وفيه قصص مبكية من السيرة. فهذه خمسة مواضيع، كل واحد منها يصلح أن يكون خطبة مستقلة، وهذه الموضوعات الخمسة في غزوة واحدة، ومن تدبر فيها أكثر استخرج موضوعات أخرى. والكلام عن المولد النبوي مثلًا يمكن تقسيمه أيضًا إلى عدة موضوعات منها: 1ـ بيان حقيقة محبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنها تكون باتباعه لا بالابتداع، مع تقرير وجوب محبته من خلال نصوص الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، وبيان العلاقة بين محبته وتطبيق سنته، وهذا موضوع ثري جدًا يمكن صنع عدة خطب فيه. 2ـ تاريخ الاحتفال بالمولد النبوي، وبيان أنه بدأ بعد القرون المفضلة في المائة الرابعة للهجرة على أيدي بني عبيد الباطنيين (الذين يدعون بالفاطميين)، وظل قرنين من الزمن لا يعرفه أهل السنة، حتى انتقل إليهم في المائة السادسة على يد شيخ

صوفي استحسن هذه البدعة وتبناها، وبيان أن دوافع إحداث هذا الموضوع عند بني عبيد كانت سياسية، ولم تكن بدافع محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. 3ـ ذكر المخالفات الشرعية في احتفالات المولد، من الغلو في الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي قد يصل إلى حد الشرك، إلى الأناشيد والأهاجيز الصوفية، إلى سائر المنكرات الأخرى: كالاختلاط في بعضها، وكونها تنشد على أنغام الموسيقى أو الدفوف. 4ـ التنبيه على أن الاشتغال بالبدعة يشغل عن السنة، وجعل المولد مثلًا لذلك، فما يصرف فيه من جهد ووقت ومال قد يصرف عن كثير من السنن؛ بل ربما صرف عن الفرائض، وكثير ممن يحتفلون بتلك الموالد تظهر عليهم مخالفات شرعية، ويعلم من سيرة بعضهم تضييعه للفرائض فضلًا عن المندوبات. 5ـ أخذ جانب من سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مولده أو بعثته أو غير ذلك، ثم التنبيه على بدعة الاحتفال بمثل هذه المناسبات، فهذه خمسة موضوعات كل واحد منها يصلح لأن يكون خطبة مستقلة. والكلام عن عاشوراء أيضًا يمكن استخراج موضوعات عدة منه، ولاسيما أنه متعلق بقصة نجاة موسى - عليه السلام - وغرق فرعون، وهي أكثر القصص ورودًا في القرآن، وفيها جوانب كثيرة يمكن أن تكون موضوعات، وفي نهاية كل خطبة منها يتم التنبيه على سُنِّية صيام يوم عاشوراء. كذلك الحديث عن مراحل صوم عاشوراء، وأنه كان واجبًا، ثم نُسخ الوجوب إلى السُّنِّية بعد فرض رمضان، ثم في آخر سنة قصد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مخالفة اليهود، وأمر بصيام التاسع مع العاشر، وذكر فضل صيام هذا اليوم، وفضل شهر الله المحرم. وهكذا يقال في بقية الموضوعات، تطرح من جوانب متعددة، كل جانب فيها يكون خطبة؛ مما يكون سببًا في إثراء المشروع الخطابي للأمة، وإفادة السامعين، والتجديد في الموضوعات التي يلقيها الخطيب.

• القسم الثاني: جمعات لا توافق مناسبات معينة: وهذه هي الأكثر، ويستطيع الخطيب أن يضع لها مخططًا يسير عليه، ويشتمل هذا المخطط على موضوعات عدة، وفي فنون مختلفة، ومن فوائد ذلك: 1ـ عدم حيرته في اختيار موضوع الخطبة، لاسيما إذا ضاق الوقت عليه. 2ـ نضج الموضوعات التي يطرحها، إذ قد يمر عليه شهور وهي تدور في مخيلته، وكلما حصل ما يفيده فيها من مطالعاته وقراءاته قيّده، أو استذكره. 3ـ سهولة بحثه عدة موضوعات، إذا كانت في فن واحد، وتوفير كثير من الوقت؛ فمثلًا إذا كان في خطته خمسة موضوعات في العقيدة، فإن جلسته لبحث واحد منها كجلسته لبحثها كلها؛ إذ إن مصادرها واحدة، ومظانها متقاربة. 4ـ التنويع على المصلين وعدم إملالهم. ويمكن تقسيم الموضوعات إلى أقسام كثيرة، يختار في كل جمعة منها قسمًا للحديث عن موضوع من موضوعاته. • ومن مجالات المواضيع: المجال الأول: القرآن الكريم: يمكن أن يكون موضوع الخطبة آية قرآنية يجعل الموضوع يدور حولها وحول تفسيرها، وحول معانيها وما قال العلماء عنها، ويربطها بواقع الأمة وواقع الناس واحتياجاتهم اليومية، وكثيرًا ما نجد لهذه الموضوعات أثرها الطيب وصداها الكبير؛ لأن القرآن العظيم ـ كما نعلم ـ هو القرآن المعجِز الذي حوى الهداية كلها والإحكام في الأحكام على أتم وجه، وهو الذي حوى البلاغة من جميع أطرافها، فربما كان شطر آية ليس موضوعًا لخطبة واحدة فقط بل لعدة خطب. وأضرب لذلك مثالًا في الآيات المفردة وأمثلة أخرى يمكن أن تقاس عليها، فلك أن تتصور موضوعًا لخطبة الجمعة، يكون مداره في شطر آية وهي قول الله - عز وجل -: {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد:211).وانظر إلى مدلول هذه الآية كم فيه من سعة ورحابة، وكم فيه من تدليل واستشهاد، وكم فيه من تحليل

للواقع وربط بسنن الله - عز وجل - في هذا الكون وفي حياة الناس، إلى غير ذلك من الآفاق الواسعة الكثيرة. وقس على ذلك آيات كثيرة يمكن أن تكون موضوعًا مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلمونَ} (البقرة:281). ومثل قوله سبحانه وتعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31)، إلى غير ذلك من الآيات. من أمثلة المواضيع القرآنية: 1 ـ الآيات التي تتكلم عن صفات عباد الرحمن؛ فإنها يمكن أن تكون موضوعًا لسبعة أسابيع أو عشرة أسابيع ولأكثر من ذلك. 2 ـ آيات الوصايا مثل الوصايا العشر في سورة الأنعام، والوصايا في سورة الإسراء. 3 ـ القصص القرآني، فيمكن أن تأخذ قصة نوح - عليه السلام - وتأتي بأحداثها ودروسها وعبرها في أربعة خطب إلى غير ذلك. المجال الثاني: الحديث النبوي: ويكون محور الموضوع فيه حول حديث من أحاديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهي أحاديث جامعة لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أوتي جوامع الكلم. فهناك أحاديث كثيرة يمكن أن تكون بذاتها موضوعات لخطبة أو خطب عديدة، فحديث مشهور كحديث ابن عباس: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ» وحديث وصية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لمعاذ: «اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» هو أيضًا كذلك. وكذلك الأحاديث التي فيها تعداد فيمكن أن تكون مجالًا لخطب مسلسلة طويلة، كحديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في السبعة الذي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، يمكن أن يكون كل واحد من هذه الأصناف موضوعًا لخطبة مستقلة، وهكذا أحاديث كثيرة

للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كحديث: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ»، يمكن أن يكون كل واحد منها مضمونًا لموضوع معيّن. أضف إلى ذلك مجال القصص التي قصها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أحاديثه كقصة الثلاثة الذين آواهم الغار، وقصة الأعمى والأبرص إلى غير ذلك من القصص الكثيرة التي وردت في قصة السنة النبوية المشرفة، وهذا أيضًا مجال رحب واسع طويل. المجال الثالث: العقيدة وما يتعلق بها: وفيها موضوعات كثيرة، كأهمية التوحيد، وأن من عقيدة المسلمين تطبيق شرع الله - عز وجل -، وبيان خطورة الشرك، وأنواعه، والسحر، والاستهزاء بالدين، والحكم بغير ما أنزل الله - عز وجل -. المجال الرابع: السيرة النبوية ومعارك الإسلام: يختار حدثًا أو معركة يتحدث عنها أو عن جانب منها، ويستخرج من ذلك الدروس والعبر. وهو أيضًا مجال مهم ونافع ويحتاج الناس إليه كثيرًا، إذ فيه ارتباط بسيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وفيه تذكيرٌ بالمعاني الإيمانية والدروس المستفادة من هذه الأحداث والغزوات وربطها بالواقع إلى غير ذلك أيضًا من أمور كثيرة في هذا المجال، فهناك الحديث عن غزوة بدر في السابع عشر من رمضان، وعن الفتح في الثامن منه، وأحُد في شوال، وعن تبوك في رجب، وغيرها من أحداث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وليس ذلك فحسب بل أحداث التاريخ كثيرة، فيما بعد حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - في مواقع شتى كانت فاصلة في تاريخ الإسلام، تبين كيف كان هذا الدين ـ عندما يلتزم به أتباعه ـ معينًا وناصرًا لهم ورافعًا لرايتهم ومعزًا لمكانتهم، وإذا تخلّوا عنه فإنهم يحل بهم ما وقع بهم في آخر الزمان الذي نَحيَى بعض أمثلته، وهذا مجال من المجالات الواسعة. المجال الخامس: الشخصيات الإسلامية: ويبدأ ذلك بصحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والتابعين من بعدهم وسلف الأمة من علمائه وقوادِها وأهل الرأي فيها الذين كانت لهم سيَر ناصعة ومواقف مشرِّفة وعلم غزير

وحِكَم نافعة؛ فإن هذا مجال كبير جدًا، فمن حديثك عن صدق أبي بكر، إلى عدالة عمر، إلى حياء عثمان إلى شجاعة علي، إلى علم ابن عباس، إلى فقه معاذ، إلى غير ذلك في صحابة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم -. ولك بعد ذلك مجال واسع في حِكَم الحسن البصري، وفي زهد الفضيل بن عياض، وفي جهاد ابن المبارك وغيرهم من التابعين، وهكذا تنتقل بعد ذلك إلى الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل، إلى غير ذلك من الشخصيات من قواد وعلماء الأمة كابن تيمية وغيرهم من العلماء. المجال السادس: أحداث العالم الإسلامي: وهذا يربط المنبر بواقع الناس، ونعلم جميعًا أن هناك أحداثًا مستجدة، ليس المنبر مكانًا لنشرة الأخبار أو لاستعراض الأحداث بذاتها، ولكن كيف يستل منها الدرس والعبرة، وكيف يبين بعض الحقائق المهمة من ضرورة الولاء لله ولأوليائه والبراءة من أعداء الله، وبيان تكالب الأعداء على أمَّة الإسلام، وبيان ما يواجه ذلك من فرقة المسلمين، وغير ذلك من بعض المواطن التي يمكن الاستفادة منها بشكل جيد. المجال السابع: مجال الأنظمة الإسلامية: وهذا مجال مهم جدًا، فهناك النظام الاجتماعي فيمكن أن يكون مجالًا لعدد من الخطب والموضوعات، بِدءًا من الآداب أو الشروط أو المواصفات التي جاءت في الإسلام في اختيار الزوجة، ثم بناء الأسرة ثم تربية الأبناء، هذا كله ثم العلاقة بالجيران، ثم العلاقة بحقوق المسلم، هذا كله في نطاق النظام الاجتماعي. ثم بعد ذلك آفاق أخرى في النظام الاقتصادي والنظام السياسي والنظام القضائي كل هذه الأنظمة التي عندما يستعرضها الخطيب بشكل واضح وبسيط، ومقرِّب للناس يمكن أن يفيدهم كثيرًا ويفيد نفسه أيضًا بشكل واسع.

المجال الثامن: مجال الأخلاق الإسلامية: وهو مجال واضح سواء من ناحية تأصيلها والكلام عنها وعن ربطها بالإيمان وربطها بالعبادة وأنها جزء لا يتجزأ من هذا الدين، أو بضرب أمثلة منها بأن يكوِّن موضوعًا عن الصبر وموضوعًا عن الحلم وموضوعًا عن الأخلاق الأخرى كالوفاء بالوعد وغيرها من الأخلاق، فهناك عدد كبير من هذه الموضوعات. المجال التاسع: الموضوعات الإيمانية: التي فيها ترقيق القلوب والتذكير بالآخرة وذكر أوصاف الجنة، وأهوال النار، وصف أهلهما، أعمال أهلهما، الطريق الموصلة إليهما. والفتن والملاحم وأشراط الساعة: وكل فتنة أو ملحمة أو علامة من علامات الساعة الكبرى صالحة لأن تكون خطبة مستقلة، بل ربما أكثر من خطبة، لغزارة ما فيها من نصوص ومعلومات شرعية. وكذلك القيامة وأحوالها: وفيها من الموضوعات شيء كثير: الصراط، الميزان، البعث، الحساب، الصراط، الحشر، وغير ذلك مما يتعلق بهذه الموضوعات، التي جميع الناس في أمَسّ الحاجة إليها، والموضوعات المتعلقة بتهذيب النفوس وترقيق القلوب وتصفيتها وتهذيبها من الأدواء والأمراض التي تحل بها هو أيضًا مجال واسع في هذا الباب. المجال العاشر: في الموضوعات الفقهية في العبادات والمعاملات: فيمكن أن تكون هناك الموضوعات المتعلقة ببعض الأحكام في الصلاة وببعض الأحكام في الطهارة والوضوء، وببعض أحكام الحج عند الحج، وبعض أحكام الصيام في وقت الصيام، وبعض هذه المسائل التي يقع الناس فيها في بعض القضايا، من أمور حياتهم العامة كموضوعات الربا وموضوعات بعض المعاملات غير الشرعية، لا بد أيضًا أن يتناولها الخطيب في خطبه بين فيْنة وأخرى.

المجال الحادي عشر: الموضوعات الفكرية المنهجية: التي يتحدث فيها عن منهج الإسلام وعن رسالة الإسلام وخصائصها، وعن المزايا والمحاسن الذي جاء بها هذا الدين، فله أن يتحدث على سبيل المثال عن الإنصاف في منهج الإسلام، وعن الوسطية في منهج الإسلام، الوسطية التي تعني الالتزام بالإسلام ككل وليس المقصود بالوسطية التمييع والتنازل عن ثوابت هذا الدين العظيم. ويمكن أن يتحدث عن الغزو الفكري الذي جاء من الأعداء وكيف نواجهه، وعن الأفكار والمصطلحات والأحداث وموقف الشرع منها: كالديمقراطية، والعلمانية والحداثة، والحضارة الغربية وموقف المسلم منها. المجال الثاني عشر: الموضوعات التربوية والدعوية: ومعنى ذلك معالجة الأخطاء في السلوكيات على وجه الخصوص؛ لأن التربية هي التقويم للأخطاء وهذا جزء أساسي منها، فيمكن باستمرار أن يكون هناك عرض من خلال بعض الموضوعات لبعض الأخطاء التي يقع فيها الناس عادة، سواء كانت بعض الأخطاء في الحياة الاجتماعية أو في الحياة المتعلقة بالناحية العلمية، وارتباطها بهذا الدين، وكذلك بعض الأمور المتعلقة بالدعوة إلى الله - عز وجل -. * هذه بعض الموضوعات الكلية، ويمكن تقسيم كل موضوع منها إلى موضوعات جزئية في كل موضوع منها خطب كثيرة. فبإمكان الخطيب أن يضع تحت كل مجال من هذه المجالات عشرة عناوين، فسيصبح عنده عشرين ومائة من الموضوعات والعناوين؛ لأن المجالات المذكورة اثنا عشر مجالًا، وعشرة مواضيع تحت كل مجال يصبح لدينا مائة وعشرين موضوعًا، تكفيه أكثر من سنتين، ويحتاج أن ينوع بينها فلذلك ضع عشرة شخصيات وعشرة أحداث، وعشرة مناسبات وهكذا ستجد عندك قائمة واسعة لن تحتار بإذن الله في اختيار الموضوع بعدها.

فالخطيب إذا عمل هذا التقسيم، ورتبه في خطة محكمة؛ بحيث يتعرض في كل جمعة لموضوع من هذه الموضوعات فإنه يُعَلم الناس مجمل الشريعة، ويُطْلِعْهُم على ما يحتاجون إليه في معادهم ومعاشهم، ويريح نفسه بحصر ذهنه عن الاختيار في موضوع واحد بدل التشتت في موضوعات كثيرة. وعلى كل حال فإن حرص الخطيب، وجدّه في اختيار موضوعات خطبه، واستفادته من خطبه، واستفادته من الخطباء الآخرين سيعينه في هذا المجال كثيرًا، كما أن اطلاع الخطيب، وغزارة علمه، واجتهاده في تحصيل العلم وطلبه، ومعرفته بأحوال الناس، وتلمس حاجاتهم، وقربه منهم، يجعله قريبًا من قلوبهم، عارفًا بهمومهم، قادرًا على معالجة مشكلاتهم، في كل أسبوع يصعد درجات المنبر، ويخطب فيهم وهم له منصتون. وإذا كان الخطيب كذلك فإن المصلين سيشتاقون إلى الجمعة، وينتظرون خطيبهم برغبة كبيرة، ويفرحون بإطلالته عليهم، مما يجعل الخطيب قريبًا من مستمعيه، وهذا حقيق بأن يجعل الخطبة تؤتي ثمارها، وتظهر فائدتها التي شرعت من أجلها.

ضوابط وقواعد لموضوعات خطبة الجمعة

ضوابط وقواعد لموضوعات خطبة الجمعة • أولاً: حسن اختيار الموضوع: إن موضوع الخطبة هو لبُّها وروحها وبحسب الموضوع يكون أثر الخطبة، والخطيب الذي يقدر سامعيه ويحترمهم ويقدر أوقاتهم ويضن بها أن تضيِع في غير فائدة يحرص غاية الحرص على موضوع الخطبة ويجتهد غاية الاجتهاد في أن يكون موضوعها نافعًا للناس ويتبدى فقه الخطيب وحسن اختياره للموضوعات في الملامح التالية: 1 - استحضار الهدف: إن من فقه الخطيب أن يكون مستحضرًا الهدف الذي يريد أن يتوصل إليه بخطبته ويكون ذلك الهدف مشروعًا وبحسب ذلك الهدف يبني خطبته وينظم عقدها، ويكون مقتنعًا بذلك الهدف فيكون اختياره للموضوع نابعًا من صلاحيته للعرض على الناس ومقدار النفع المتوقع لهم منه، لا أن يكون ناتجًا عن اندفاع عاطفي أو رغبة في إرضاء جمهور الناس فبعض الخطباء ـ شعروا أو لم يشعروا ـ يهتمون بطرح ما يرضي الناس وما يرغبون فيه، فيكون المؤثر في الخطيب الناس، بينما المفترض العكس. ويمكن أن يِكون هناك نوعان من الأهداف: أ - أهداف بعيدة المدى: بحيث يجعل الخطيب في الحي أو البلدة أو القرية مجموعة من الأهداف يسعى لتحقيقها في حيِّه أو بلدته فيرسم معالم للتغيير الذي ينشده وطرائق لمعالجات الواقع في مجتمعه مراعيًا في ذلك الموازنة من جلب المصالح ودرء المفاسد، ويكون وضع هذه الأهداف في ضوء دراسته للبيئة التي يعيش فيها.

ب - الأهداف الخاصة بكل خطبة: بحيث يكون الخطيب قاصدًا لأهداف يريد تحقيقها وغايات وأغراض يريد الوصول إليها. 2 - أن تكون الخطبة صادرة من شعور قلبي صادق: إن أحسن الخطب وأفضلها وأكثرها نفعًا وفائدة ما كان صادرًا من شعور الخطيب وإحساسه بأهمية الموضوع وبمقدار حاجة الناس إليِه، فالداعية رحيم بالناس مشفق عليهم. 3 - اختيار الوقت المناسب للموضوع: إن من المداخل الجيدة للموضوعات الخطابية يوم الجمعة أن يكون السياق الزمني داعيًا لها وإذا استغل الخطيب ذلك الظرف كان لخطبته أثر كبير مثال ذلك: لو كانت الأمة في حالة خوف وفي خضم أمر عظيم دهمها فركنت إلى القوى المادية فخطب الخطيب عن التوكل على الله وأهميته وأن اتخاذ الأسباب لا ينافي ذلك لَوَقع الموضوعُ في نفوسهم موقعه، ولَرَسخ في الأذهان ورَدّ الناس إلى الموقف الرشيد. ومن مراعاة الوقت أن يختار لكل موسم ما يصلح له، فلرمضان من الخصائص ما ليس لغيره من الشهور، وفيه من الوظائف الشرعية ما ليس في غيره فتكون الخطب في جُمَعه مراعية للظرف، وليس من الحكمة في شيء أن يخطب الإنسان بعد نهاية الظرف المناسب للموضوع عن الموضوع (فقد خطب أحد الخطباء عن ليلة القدر يوم الثلاثين من رمضان، وليس هناك أمل بإدراك هذه الليلة في تلك السنة). 4 - التركيز على الأساسيات والقضايا الكلية: ومن فقه الاختيار التركيز على الأساسيات والقضايا الكلية، وعدم تضخيم الجزئيات على حساب الكليات الأصول. ومع أن هناك بعض الجزئيات أو الفروع التي قَد يرى الخطيب وجوب بيانها للناس، إلا أنه لابد من التأكيد على ربط تلك الجزئية بالكليات العامة، وهذا الربط له أثره في بيان حكم الأمر والنهي والحض على الالتزام بالأمر، واجتناب النهي، وإذا جعل الخطيب مدخله إلى الجزئيات أمورًا كلية كان ذلك أدعى لقبول القول.

مثال ذلك: تكلم خطيب عن حلق اللحية وحرمة ذلك بالنصوص، ونقل أقوال أهل العلم، وتكلم آخر عن نفس الموضوع جاعلًا المدخل من خلال قضيتين: الأولى: وجوب تعظيم السنة والتزام أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. الثانية: حرمة التشبه بالكفار، وعزة المسلم بمظهره ودينه وشعائره الظاهرة، ودلف إلى موضوع اللحية بعد أن أصَّل هذين الموضوعين فكان لخطبة الثاني من الأثر والقبول ما ليس لخطبة الأول. وهذا الربط موجود في النصوص ذاتها فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في أمر اللحية: «خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، أَحْفُوا الشَّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللِّحَى»، «جُزُّوا الشَّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللِّحَى خَالِفُوا الْمَجُوسَ» (رواهما مسلم). فأكد على موضوع المنع من التشبه. 5 - الحرص على عدم التكرار إلا لحاجة: ينزع بعض الخطباء إلى تكرار خطبهم كل سنة، ميلًا إلى الدَعَة ورغبةً عن البحث والاطلاع؛ فيقع أسيرًا لبضعة مواضيع قد تكون هامة وقد لا تكون، ليطلع بها علي الناس كل أسبوع مما يحدث الملل لدى الجمهور الذي يعاني من تكرار الخطب التي لا جديد فيها، ويؤدي إلى إهدار قيمة هذا المنبر الخطير. ومن التكرار: أ- تكرار الخطبة الثانية: إذ يلتزم البعض خطبة واحدة محفوظة لا تتغير ولا تتبدل طوال العام وهذا لم يَرِدْ في السُّنَّة، فهو أخذ لوقت الناس بدون فائدة، بل يسمعون كلامًا حفظوه لكثرة ترداده. نعم من المشروع أن يذكر في خطبه بعض الجمل الجامعة التي كان يكررها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مثل قوله: «فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ الله، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (رواه مسلم). ولكن ذلك لما تحويه هذه الجمل من الوصايا الجامعة الشاملة وأما ترديد غيرها مما لم تَرِدْ به السُّنَّة فغير محمود.

ب- تكرار الخطب في المناسبات: ففي رمضان يخطب الخطيب في الأول عن البشارة برمضان، ثم يُثَنّي بالكلام عن أحكام الصيام، ثم يُثَلّث بالكلام عن العشر الأواخر وفضلها ويختم بالكلام عن أحكام صدقة الفطر. وكل ذلك خير ولكن يمكن أن يُنوّع الإنسان بين السنين فيخطب مثلًا عن القرآن ورمضان، وعن غزوات الرسول في رمضان، وعن استثمار رمضان في إصلاح الذات، وعن استثمار رمضان في إصلاح الآخرين، فيُنوع في خطبه ليتحقق بذلك استفادة الناس، خصوصًا أنهم يسمعون الكلام عن الأحكام من خلال أحاديث بعد صلاة العصر في المساجد. 6 - التبكير بالاختيار: إن الخطيب إذا بكر في الاختيار كان ذلك أدعى لضبط الموضوع، حيث يصبح همًا للخطيب طوال الأسبوع، يبحث عن مراجعه، ويدوّن بعض الملاحظات عنه، ويستفهم، ويسأل أهل العلم عن جوانبه المستغلقة، فيخرج الموضوع وقد تم نضجه واستوى على سوقه. ويزداد الأمر جودة إذا كان الخطيب قد وضع سُلّمًا لأولويات ما يخطب عنه، وحرص على إيجاد دفتر ملاحظات خاص يدون فيه ما يأتي على باله من موضوعات يراها جديرة بالطرح. 7 - الشمولية: إن الإسلام دين شامل ينظم الحياة كلها، وهذا الشمول سمة من سماته الرئيسة، وخطيب الجمعة حين يختار موضوعاته للناس يجب أن يراعي هذه السمة فلا يكون موغلا في بيان جانب من الجوانب يركز عليه ويغفل ما سواه. إن الناس يحتاجون إلى بيان أمور الاعتقاد، ويحتاجون إلى تعليم الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، كما يحتاجون للوعظ والرقائق، بل وإلى بيان أحوال الأمم السابقة وما جرى بيِنهم وبيِن أنبيائهم واستخلاص عبر تلك الأحداث {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف: 111).

والله - عز وجل - ساق قصصهم في القران الكريم ليكون في ذلك العبرة والذكرى للمؤمنين، وأمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يذكر الناس بأيام الله فقال: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} (إبراهيم: 5). ومن الملاحظ أن الخطيب قد يكون متخصصًا في أمر أو مهتمًا بأمر فيركز عليه، كأن يكون متخصصًا في الفقه فتكون خطبه كلها فقهية، أو واعظًا فتكون جل خطبه عن المنكرات، وقَد تكون نفسه مائلة إلى جانب فيركز عليه، فتجد من الخطباء من هو دائم الترهيب والتخويف ومن هو دائم الترغيب، ومن حكمة الخطيب أن يجمع في خطبة بين الترغيبِ والترهيب، وبين التعليم والوعظ، وبين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. • ثانيًا: حسن الإعداد: إن الخطيب الذي يقدر العمل الذي يقوم به، هو ذلك الرجل الذي يعتني بما يقول ويحضر لما يقول. مراحل العمل في إعداد الخطبة في: 1 - القراءة في الموضوع: بعد اختيار الموضوع الذي يوَدّ الخطيب طرحه يحسن به أن يقرأ ما كتب عن الموضوع، أو بعض ما كتب، فمن شأن تلك القراءة أن تثري الخطبة وتجعل الخطيب مُلِمًّا بجوانب الموضوع، إذ ليس الأمر قاصرًا على مجرد الخطبة بل ربما سُئل عن جوانب من الموضوع. 2 - جمع النصوص: إن الخطيب حين يخطب عن موضوع إنما يريد بيان حكم الله - عز وجل - فيه، أو يريد بيان ما أعد الله - عز وجل - لأوليائه وما أعد لأعدائه، أو يريد بيان صفات الله - عز وجل - أو أسمائه، أو غير هذه الموضوعات التي قيامها على معرفة ما قال الله - عز وجل - وقال رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ويبدأ الخطيب بجمع الآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بهذا الموضوع، ويستعين على ذلك بالمعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم أو ببرامج الحاسب

الآلي، فمثلًا إذا أراد أن يخطب عن التقوى رجع إلى المعجم ليستخرج الآيات الدائرة حول هذا الموضوع. ثم يجمع الأحاديث النبوية المتعلقة بالموضوع. ولا يعني جمع هذه النصوص أن يذكرها كلها في الخطبة ولكن اطلاعه علبها يجعله مُلِمًّا بأطراف الموضوع ليطرحه من الجهة الأكثر تأثيرًا في نفوس الناس. 3 - الرجوع إلى أقوال أهل العلم: وتبدأ هذه المرحلة بالرجوع إلى أقوال المفسرين للآيات التي اختارها الخطيب، والتي تعالج الموضوع الذي يطرحه، ثم الرجوع إلى شُرّاح الحديث أيضًا. وبعد ذلك يراجع كتب أهل العلم في مظان الموضوع الذي يطرحه، فعلى سبيل المثال إذا كان الموضوع عقديًا رجع إلى كتب العقيدة، واستفاد من فهارس تلك الكتب للاهتداء لما يريد، وإذا كان الموضوع فقهيًا رجع إلى كتب الفقه. وإذا كان الموضوع في الآداب رجع إلى كتب الآداب، وقد يكون في الموضوع كتاب مفرد، فإن كان فذلك أفضل وأنفع للخطيب. ثم إذا كان الموضوع عن ظاهرة معاصرة حسن بالخطيب أن يراجع كلام المعاصرين، ويذكر بعض الإحصائيات التي تزيد الموضوع ثراءً والسامع إقناعًا. 4 - ضم الموضوع في نسق واحد: وبعد مرحلة الجمع هذه يضم الخطيب زبدة ما جمع في نسق واحد، فيضع مخططًا للأفكار التي يريد طرحها، ويكتب خطبته بناء على هذا المخطط ويراعي تسلسل الأفكار، وترابط الجمل والعبارات. • ثالثًا: وحدة الموضوع وترابطه: 1 - وحدة الموضوع: إن مما يساعد على الفهم لما يُقال في خطبة الجمعة توحيد الفكرة التي يدور عليها موضوع الخطبة؛ إذ من الملاحظ: أن بعض الخطباء يجعلون الخطبة مسحًا لجملة من الموضوعات وهذا خطأ إلا في المناسبات العامة التي يُراد فيها التذكير كالأعياد وخطبة عرفة ونحوها، وتعدد موضوعات الخطبة

والاستطرادات الكثيرة فيها بالخروج من موضوع إلى موضوع له عدة مساوئ من ضمنها: أ - تشتيت ذهن السامع وجعله في حيرة من أمره، فلا يستطيع التركيز في الفهم فيخرج بدون فائدة واضحة قيمة مما سمع. ب - ازدحام الموضوعات في ذهن السامع وكثرتها بحيث يُنسي بعضها بعضًا. جـ - أن من شأن الخطبة التي تعالَج فيها موضوعات عدة أن تكون المعالجة لما يطرح فيها معالجة سطحية مسحية عاجلة لا تضع كما يقال (النقاط على الحروف) فتوجد إشكالات في ذهن السامع لا يجد إجابة لها بعكس التركيز على فكرة أو موضوع، فمن شأن ذلك أن يجعل الخطيب يوفي الموضع حقه. 2 - ترابط أجزاء الخطبة: إن تنافر جزئيات الخطبة ينفر السامع وترابطها يربط على قلب السامع وعقله فيتحقق له الفن، ومما يحقق ذلك الترابط ما يلي: أ - أن يقسم الخطيب الخطبة بشكل منظم فإذا طرح القضية التي لها جوانب عدة فصلها بحسب تلك الجوانب ورقمها فيقول: الجانب الأول ... الجانب الثاني ... وهلم جرا. وإذا استدل بجملة أدلة رقمها فقال: الدليل الأول .. الدليل الثاني. ب - أن تكون الخطبة متسلسلة تسلسلًا علميًا يسهل على الناس الفهم، فإذا تكلم الخطيب عن ظاهرة اجتماعية شخّصها قبل بيان الحكم. جـ - أن ينتقل من الحقائق المعلومة عن الجميع إلى ما يريد الحديث عنه، ولا يطيل الوقوف عند ما يتفق عليه الناس، فإذا تكلم عن الموت فإنه لا يحتاج إلى مزيد كلام حول أن الموت واقعُ لا محالة، ولكنه يحتاج إلى حث الناس على العمل لما بعد الموت، فتذكيرهم به إنما هو من أجل الحث على العمل.

د - أن يجعل الموضوع الطويل مقسمًا على جُمَع متعددة ليعالج الموضوع من جميع جوانبه ولا يكون ذلك إلا للموضوعات التي لابد من علاج جميع جوانبها والتي تَكتسب أهمية خاصة. • رابعَا: مراعاة القدرة: 1 - مراعاة قدرة الخطيب على البيان: إن العلم درجات {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلم عَلِيمٌ} (يوسف: 76)، والله - عز وجل - قد أمر نبيه أن يسأله أن يزيده علمًا فقال: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلما} (طه: 114)، وليس الخطيب قادرًا على كل الموضوعات التي يريد طرحها إما لقلة علمه في الجملة وإما لقلة علمه في موضوع معين، فإذا رأى الخطيب من نفسه ذلك فعليه ألا يتكلم في موضوع هو غير قادر على بيانه وتوضيحه أو غير عالم بجوانبه التي يجب طرحها على الناس. وحين يوجد ذلك فالأفضل أن يستعين الخطيب بكتاب فيه خطب لعالم موثوق فيخطب بما فيه، ولا ينشئ كلامًا في موضوع لا يحسن هو الكلام فيه والله - عز وجل - يقول: {فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (التغابن: 16) هذا إذا لم يكن ثمة قادر على الخطابة، وإلا فالقادر أحق بالخطابة. 2 - مراعاة قدرة الناس على الفهم: إن الناس تتباين عقولهم، وتختلف فهومهم، فهم على درجات في الفهم، والخطيب يخاطب أناسًا كثرًا، فكان واجبًا عليه مراعاة قدرة الناس على فهم ما يقول لئلا يصير ذلك القول فتنة لهم، مثال ذلك: تكليم الناس في دقائق العلوم وصعاب المسائل التي لاتصل إليها أفهامهم ولا تدركها عقولهم، كمن يحدث عوام الناس بدقائق المسائل في القضاء والقدر وهي مسائل لا يصلح ذكرها لعوام الناس ولا يدركها إلا خواصهم. فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ؛ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ» (رواه البخاري).فنهى عن تحديت الناس بما لا يعقلون حتى لا يؤدي ذلك إلى تكذيب اللهِ - عز وجل - ورسولِه - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وعَنْ عُبَيْدِ الله بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً» (رواه مسلم). إن تحديت الناس بما لا يعقلون ولا يدركون يؤدي إلى نتائج سيئة منها: أن يفهم السامع الكلام على غير وجهه فيفتن بأحد أمرين: أ - التكذيب بالحق. ... ب - العمل بالباطل. • خامسًا: مراعاة الأحوال: إن من الحكمة المأمور بها في قول الله - عز وجل -: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالموْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل:125). مراعاة الحال والمقام. ويحسن بالخطيب: 1 - مراعاة أحوال الأمة العامة: إن الأمة تمر بأحوال مختلفة كل حال تستدعى من الخطابة ما يناسبها، فإن حالة الحرب تستدعي من التركيز على موضوعات معينة ما لا يستدعيه حال السلم، فيركز الخطيب على الصبر، وجمع الكلمة، والجهاد، والتوكل على الله، وعدم الركون للكافرين. كما أن حال الأمن والرغد تستدعي التذكير بالنعم والأمر بالشكر والتحذير من كفران النعم، وبيان قصص السابقين الذين بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار. 2 - مراعاة حال المصلين في المسجد: إن المساجد يختلف روادها باعتبارات كثيرة وعليه فإن المسجد الذي يرتاده مدرسو الجامعات غير الذي يرتاده طلابها والمسجد الذي يرتاده العمال غير المثقفين غير الذي يرتاده المتعلمون، والمسجد الذي يرتاده الزراع غير المسجد الذي يرتاده الصناع.

فمن الحكمة أن يختار الخطيب من الموضوعات ما يتناسب مع المصلين، بل قد يكون موضوع واحد يُعالَج من أوجه عدة بحسب حال المصلين، فالزكاة يركز فيها عند المزارعين على زكاة الزروع والثمار، وعند التجار على زكاة الأثمان وعروض التجارة وهكذا. • سادسًا: الموازنة بين المتقابلات: 1 - الموازنة بين البشارة والنذارة: إن بعض الناس يكون ذا طبيعة نفسية مائلة إلى جانب التبشير أو جانب التخويف، فيؤثر ذلك على خطبه، فيميل مثلًا إلى جانب الإنذار والتخويف دومًا، فنراه يشيع في الناس ـ على سبيل المثال ـ الكلام عن فساد الناس وضياع الدين واندراس السنن، وإن مستقبل الناس يزداد شرًا وأن الأعداء يملكون زمام العالم ... إلخ. وهذا الاقتصار يبعث اليأس في النفوس ويحطم حيوتيها ونشاطها للعمل الإسلامي، والحكمة أن يوازن الإنسان بين البشارة والنذارة، ولذلك جمع الله للرسول بين هذين العملين فقال: {فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (البقرة: 213) {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} (النساء آية213). فهم يبشرون في مواضع البشارة، وينذرون في مواضع النذارة، ويجمعون بينهما في مواضع الجمع. إن حالات الإنذار يحتاجها الناس عندما يركنون إلى الدنيا وحظوظها فهو أسلوب تخويف مع من لم يرفع بدين الله رأسًا، وأما التبشير فإنه يتوجه للمتقين الطائعين. ويحتَاج الناس للتبشير وبعث الأمل في النفوس حين الاضطراب والضعف والخوف والبلاء، ولذلك لما كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مضطربا بعد نزول الوحي عليه بشرته أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنهما - بما يُزِيل عنه دواعي الاضطراب وأسباب الخوف فقالت:

«كَلَّا أَبْشِرْ فَوَاللهِ لَا يُخْزِيكَ الله أَبَدًا؛ فَوَاللهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» (رواه البخاري). وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يبشر أصحابه بالرفعة والظهور على الأديِان وهم في أشد حالات الضعف، وأعداؤهم متسلطون عليهم فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالرِّفْعَةِ وَالدِّينِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ» (صحيح رواه الإمام أحمد). إن الموازنة بين البشارة والنذارة من الحكمة في الدعوة التي أمر الله - عز وجل - بها ومن اتباع سنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وآله وسلم - وفيه مراعاة لأحوال الناس ونفوسهم. وهنا يجب التنبيه إلى أمر، وهو أن بعض الناس يذكر في سياق الترهيب من جرم أو ذنب بعض آيات الوعيد، ثم يعقب في خطبته ببيان أن ذلك الوعيد ليس محمولًا على معناه المتبادر، وإنما لا بد له من تأويل مثال ذلك: قد يذكر الخطيب حديثَ: «سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ» (رواه البخاري ومسلم)، فيذكر قول السلف في معنى الحديث وأنه ليس الكفر المخرج من الملة، وهذا حق، ولكنه يُضْعِف أثر الحديث في النفوس، ولذلك لو فرق بين حال التعليم وحال الوعظ وأنه حين الوعظ تُذكر نصوص الوعيد كما جاءت، وأما في حالة التعليم وبيان الحكم فلا بد من البيان. 2 - الموازنة بين المصالح والمفاسد: إن الخطيب بحاجة إلى فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد ومعرفة رتب المصالح والمفاسد حتى يوازن بين مصلحة كلامه وما قد يترتب عليه من المفاسد، وذلك أن قيام الشريعة إنما هو على جلب المصالح ودرء المفاسد.

وهذه المصالح والمفاسد فد تختلط فيكون الفعل الواحد أو القول الواحد مصلحة من وجه ومفسدة من وجه آخر، أو مصلحة مشوبة بشيء من المفاسد أو العكس أو هي مصالح أو مفاسد في حال دون حال. وتعارض المصالح والمفاسد عالجه الشارع فأمر: أ - بارتكاب أدنى الفسادين للسلامة من أعلاهما. ب - وبإهدار إحدى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. ت- وبتقديم درء المفاسد على جلب المصالح. ث - وبالنظر في مآلات الأمور وعواقبها. ولذلك فإنه يجب على الخطيب ألا يدفع الفساد بمفسدة أعظم إذ لا يجوز رفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا يدفع أخف الضررين بتحصيل أعظم الضررين، فإن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يُجمعا جميعًا، ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعًا. إن موضوعًا من الموضوعات قد لا يصلح أن يعرضه الخطيب في وقت أو حال لما يترتب على عرضه من مفاسد، بينما لو عرضه في وقت آخر أو حال أخرى كان مصلحة خالصة، والفقيه من وازن بين المصالح والمفاسد، فقال حين يحسن القول، وكَفَّ حين يَحْسُن الكَفّ. 3 - الموازنة بين الجانب العاطفي والجانب العقلي: إن بعض الخطباء تصطبغ خطبتهم بالصبغة العاطفية البحتة، فلا تراه يجتهد لإقناع الناس بما يقول، وبعضهم تصطبغ خطبه بالصبغة العقلية البحتة فلا يثير عواطف الناس، وكِلا طرفَيْ قصْدِ الأمورِ ذميمُ. •

سابعًا: التثبت: إن خطبة الجمعة يحضرها أناس تختلف أقدارهم العلمية والعقلية وكلهم في الغالب يقف موقف المتلقي من الخطيبِ فكان واجبًا على الخطيب أن يتثبت مما يقول: 1 - التثبت من صحة النص الشرعي: فيجب على ناقل النص من السنة التثبت من صحته، لأن الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خبر عن الله - عز وجل -، وليس كذبًا على الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ككذب أحد على من سواهما، فعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ؛ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم). وعن سلمة - رضي الله عنه - قال سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يِقول: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه البخاري). فعلى الخطيب إذا أراد أن يخطب أن يتثبت من صحة الأحاديث وذلك بمعرفة مخرِّجيها، فإن كانت في البخاري ومسلم أو أحدهما كان ذلك دليلا على صحتها وإن كانت في غيرهما اجتهد في البحث عن أقوال أهل العلم في الكلام عن الحديث. ولقد أتِىَ كثير من الخطباء الذين ينقلون نصوصًا غير صحيحة من اعتمادهم على المجاميع المعروفة باحتوائها على الصحيح والضعيف بل وما دونه، ككنز العمال والترغيبِ والترهيب، وما انتشار كثير من الأحاديث الموضوعة المحفوظة في أذهان الناس إلا بسبب تساهل بعض الخطباء والوعاظ ونقلهم لها دون تثبت وتبين. وعلى الخطيب أن يستعين بالكتب التي تبين مدى صحة الحديث، فلا يكفي مثلًا أن يذكر الكتاب أن الحديث رواه أبو داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجه مثلًا، بل لابد أن يذكر أن الحديث صحيح أو حسن أو ضعيف؛ لأن هذه الكتب وأمثالها فيها الصحيح والضعيف بل والموضوع.

2 - التثبت في الفهم ووجه الاستدلال: إن النص قد يكون صحيحًا من جهة النقل ولكن الفهم المقلوب لذلك النص يحيل المراد. فكم مِنْ عَائِبٍ قولًا صحيحًا ... وآفَتُه مِنَ الفَهْمِ السقِيمِ وقد يأخذ من النص دلالة وهو غير مصيب، ولو راجع أقوال المفسرين وشروح العلماء لكتب الحديث لوقع على خبير بما يُؤخذ من النص وما يستفاد منه. وأما الاعتماد على ما يتبادر إلى الذهن من النص، فذلك موقع في الخطأ إذ القرآن يصدق بعضه بعضًا ويحتاج الذي يريد فهم نص إلى الرجوع للنصوص الأخرى وأقوال أهل العلم. 3 - التثبت من سلامة نقل النص: ينقل الخطيب في موضع الاستشهاد شيئًا من الآيات القرآنية والأحاديثِ النبوية، ومن الواجب على الخطيبِ ألا يعتمد على حفظه فيما يتعلق بالآيات والأحاديث بل يراجعها لينقلها بلفظها إن كانت من القرآن وأما إن كانتْ من السنة فبلفظها إن أمكن أو بمعناها. ومن الملاحظ هنا: أن من الخطباء من يستشهد بنص قرآني فينقله نقلا غير صحيح فيحرف آيات التنزيل أو يلحن في تلاوة النص أو نحو ذلك وقَد يتلقى منه الناس ذلك الخطأ ويأخذونه مأخذ التسليم، وقد ينقل نصًا من السنة من حفظه فيخطئ بتقديم أو تأخير يؤثر في المعنى أو لحن يحيله، ولو راجع النص لسَلِم من ذلك. 4 - التثبت من الأحكام الشرعية: إن من مهام الخطيب أن يبيِّن للناس الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين من حِلّ وحرمة ووجوب وندب وكراهة، وتزداد أهمية ذلك في بعض المواسم كمواسم رمضان والحج ونحو ذلك، ولا يصح لخطيب أن يذكر تلك الأحكام دون تثبت منها، فإن ذلك قول على الله - عز وجل - بغير علم {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لم يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلمونَ} (الأعراف آية 33). وحق على الخطيب أن يراجع في كل موسم ما يناسب من أبواب الفقه، ففي رمضان أو قبله بقليل يراجع كتاب الصيام وكتاب الزكاة من كتب الفقه، وقبل موسم الحج يراجع كتاب الحج ويراجع أحكام العشر من ذي الحجة وأيام التشريق وهكذا. هذا إن كان أهلًا وقادرًا على الفهم، وأما إن لم يكن كذلك فعليه أن يقرأ فتاوى أهل العلم إذا أراد بيان شيء للناس من على المنبر، ويحيل إلى تلك الفتاوى الموثقة مسندة إلى مراجعها. 5 - التثبت من الأخبار: قد ينقل الخطيب في أثناء خطبته للناس حدثًا من الأحداث يريد أن يكون مدخلًا للموضوع، وهذا الأسلوب أسلوب حسن لأنه يشد الناس ويلفت أنظارهم للموضوع؛ لأن من طبيعة غالب البشر حب القصص وتأثرهم بها، ثم تكون تلك القصة وسيلة للفهم لأنها تُجسد المعاني في أشياء واقعية ولكن تلك القصص والأخبار تحتاج إلى جملة ضوابط منها ـ فيما نحن بصدده ـ التثبت، وهو خلق نبيل دعا إليه الإسلام، يقول اللَه - عز وجل -: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (الحجرات: 6). والعاقل لا يعتمد على نُقول الناس وأقوالهم، فإن تناقل القول ليس دليلًا على صحته، وفوق أن التثبت فضيلة والنقل من الناس بدونه رذيلة، قد يكون حديث الخطيب عن خبر لا يصدق ولا يثبت سببًا لفقدان مصداقيتِه عند الناس؛ فلا يأخذون قوله، ولا يتقبلونه إلا بنوع من الشك. وتزداد أهمية التثبت بشكل عام حين وقوع الفتن واضطراب الأحوال، وتبلبل الأذهان فإن ذلك إذا وقع في زمان ما أوجب التثبت والتبيين لما يستَدعيه زمن الفتن والشرور من كثرة الكذب والافتراء.

• ثامنًا: معالجة مشكلات الأمة: إن الناظر في المجتمعات المسلمة اليوم يجد أنها تزخر بألوان من المشكلات فمنها المشكلات العقدية كالحكم بغير ما أنزل الله - عز وجل - وعبادة القبور والنذر لأصحابها، ومنها المشكلات الاجتماعية كغلاء المهور والعنوسة. ومنها المشكلات الاقتصادية، ومنها المشكلات الأخلاقية كالرشوة، ومنها المشكلات المتعلقة بقضايا الأمة العامة كتفشي الظلم والمنكرات العامة وغير ذلك، ومنها المشكلات النفسية كمشكلات القلق والإحساس بالضيق النفسي ونحو ذلك. والخطيب كالطبيب فهو يعالج هذه المشكلات، بل حقيق به أن يتلمس مشكلات الناس ليساعد في حلها، ولكن يحسن التنبيه إلى جملة ملاحظ تتعلق بهذا الموضوع: 1 - أنه يجب على الخطيبِ أن تكون معالجته للمشكلات على المنبر منضبطة بالضوابط الشرعية المعلومة في إنكار المنكر: ومن ذلك: أ - الإخلاص لله - عز وجل -. ب - مراعاة المصالح والمفاسد. ت - العلم بأن ما يريد النهي عنه منكر أو ما يريد الأمر به معروف. ث- المعالجة للأمر بالحكمة والموعظة الحسنة. 2 - أن يتوجه إلى الناس بما يستطيعون القيام به: فلا يخاطب العوام بما يخرج عن قدرتهم، أو بمنكر ليسوا هم القائمين عليه، أو يخاطبهم عن المنكر العام الذي فعله غيرهم من الجهة التي لا تدخل تحت قدرتهم؛ فإن من الناس من يتكلم عن منكر من المنكرات ولا يذكر ما يمكن للناس عمله تجاه ذلك المنكر فيؤجج مشاعرهم فيقفون موقف المحتار الذي لا يدري ما يعمل، وقد يصير بعض الناس إلى أعمال غير شرعية في تغيير ذلك المنكر.

3 - ألا يركز الخطيب على جانب الإنكار فقط: بل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإن مشكلات الناس إما ترك لمعروف أو فعل لمنكر، بل مع فشو المنكرات لا بد أن يكون ثَمة ألوانًا من المعروف مهجورة، وأنواعًا من الخيرات مهملة، وأن الناس لو شغلوا بأعمال الخير والمشاريع الخيرية النافعة لم يكن عندهم فضل وقت لغيرها. فالمعالجات للوقائع الحادثة تنقسم إلى قسمين: أ - معالجة المنكرات، ولاسيما ما كان منها قريب العهد، وهو حديث الناس، ويراعى في معالجة هذه المنكرات أكبرها ضررًا وأسوأها أثرًا، وعند تحذير الناس من ذلك المنكر يدلل على حرمته وخطره من القرآن والسنة، ويحصر أضراره ومساوِئَه في جميع الجوانب، ويحض على تركه والتوبة منه، مبينًا الموقف من ذلك المنكر وسبل معالجته. ب - الحض على أعمال صالحة ومشاريع نافعة ويذكر أدلة فضل تلك الأعمال وما في القرآن والسنة من بيان أجر عاملها ومزايا هذا العمل ونتائجه وخطورة تَرْكه والإعراض عنه، وأن هذا الإعراض من مشكلات الأمة الحادثة التي يجب علاجها. 4 - ألا يركز الخطيب على لون من ألوان المشكلات: فإن المجتمع فيه مشكلات كثيرة تحتاج إلى علاج، وبعضها إذا عولج فبالتبع ستتم معالجة مشكلات كثيرة، وقد تكون هناك مشكلة متعبة لأناس كُثر وهم يبحثون عن علاجها، والخطباء أو بعضهم عنها غافلون. ومن ذلك: أن خطيبًا خطب عن القلق وطرق دفعه ومعالجته إذا وقع فوقعت الخطبة موقعًا عظيمًا من الناس وطلب صورتَها ليقرأها طوائفُ كثيرة منهم وذلك لأنهم يعانون من المشكلة، والقلق حقيقتُه عَرَضُ مشكلاتٍ أخرى، والساعي في علاج نفسه من القلق علاجًا شرعيًا سيعالج تلك المشكلات.

5 - أن صلاة الجمعة صلاة يشهدها جماعات من الناس مختلفة المشارب متنوعة من كل وجه، فمنها البر والفاجر والصالح والفاسق، وضعيف النفس والجاهل، فعلى خطيب الجمعة عند الحديث عن المنكرات والمعاصي ألا يوغل في وصف تلك المنكرات، وبيان أماكنها وطريقة أهل الشر، فإن ذلك الوصف مدعاة إلى عكس ما أراده الخطيب، وفي التحذير عن المنكر والنهي عنه وبيان أضراره وآثاره غُنية عن وصفه. 6 - أن الكلام عن حدث من الأحداث أو منكر من المنكرات العامة قد يعالج بطريقَة تسبب ضررًا أكبر، كأن يتحدث الإنسان عن ذلك المنكر والقائمين عليه، ويصف أحوالهم وأعمالهم، بينما يمكن أن يعالج الموضوع بطريقة حكيمة كأن يتحدث الخطيب عن موضوع مناسب لما وقع، يفهم الناس عن طريقه الموقف الشرعي الرشيد من القضية. مثالان على ذلك: الأول: في بلد مسلم كُرِّم رجل لا يستحق التكريم لأمور أعظمها أنه غير مسلم، وأنه لم يفعل شيئًا يستحق التكريم، فضج أحدُ الخطباء يخطب وأوغل في ذكر ما جرى من تكريم للرجل بما هو ليس من أهله. ولكن خطيبًا خطب خطبة عن موازين رفع الناس وخفضهم، ولم يتطرق للحدث، ولكن الظرف الزماني ساعد الناس على الفهم، وأصَّل الرجل الموضوع تأصيلًا شرعيًا لا يقتصر على مجرد ما وقع، ولكنه يشمله ويشمل نظائره من الأحداث. الثاني: تحدث في بلد تجاوزات بسبب فرح بأمر كفوز فريق أو نحو ذلك، فتصدر الجهات الرسمية بيانات، ويتكلم بعض الخطباء عن ما حدث ولكن الأفضل من ذلك بالنسبة للخطيبِ أن يضع للناس موازين شرعية في الفرح والسرور ومتى يكون ذلك وبم يكون؟ والذين يفعلون ذلك يجعلون للمنبر حرمة ومكانة مع أنهم قد أعذروا إلى الله ببيان الحكم الشرعي فيما حدث.

وصايا للخطيب

وصايا للخطيب 1 - الإخلاص والمتابعة سر النجاح: أخي الخطيب قبل أي شيء أوصيك أن تجدد نيتك وتتفقد إخلاصك حتى تكون لكلماتك وخطبك أثرًا في قلوب الناس، ثم تأمل كم لك من الأجور والحسنات وأنت تقوم في مسجدك خطيبًا كل جمعة، وكم هو النفع الذي ينتشر بين الناس بسبب كلماتك ونصائحك عبر الخطبة. إن الخطيب من أولى الناس مطالبة بالإخلاص لله تعالى، لأنه ربما رأى مقامه وهو يخطب المئات، ويعلمهم ويذكرهم فيرى أن له فضلًا عليهم، وتقدمًا دونهم، فتحمله نفسه على العُجْب، والتعالي، والغَضّ من قدْر غيره ونسبتهم إلى الجهل، فالإخلاص لله تعالى يعَرِّفه قدر نفسه، ويقيه شرها. فالذي ينبغي للخطيب في ذلك أن يكون منشأ الخطبة والسعي إليها وطلبها، من باب الإخلاص لله - عز وجل -، وتبليغًا للدين، ودعوةً إلى التمسك بالعقيدة الصحيحة والشريعة السمحة، ولكن هذا العمل لا يتم قبوله ـ بعد الإخلاص لله - عز وجل - ـ إلا بمتابعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعدم الابتداع، فهذان هما شرطا قبول العبادة. يجب على الخطيب أن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه في أثناء العمل، حتى يضمن أنه على الطريق المستقيم، فإن لمس في نفسه تطلعًا إلى غير ثواب الله تعالى، والتفاتًا إلى غير مولاه، تذكرَ فاستغفرَ وأبصرَ {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف: 201). وإذا شعر أنه إنما يرفع من صوته، أو يغير من نبرته، أو يكرر العبارة، أو غير ذلك من أجل إرضاء الحضور أو بعضهم بادر إلى تصحيح نيته، وتقويم قصده. وينبغي للخطيب محاسبة نفسه وتقويمها بعد الخطبة، فإن وجد خيرًا حمد الله تعالى على توفيقه، وإن وجد غير ذلك عزم على تدارك أمره، وإصلاح خطئه.

ويحسُن بالخطيب قبل أن يصعد المنبر أن يتذكر الأمور التالية: 1 - فضل الله تعالى عليه ونعمته، وعظيم إحسانه إليه، وأنه لولا الله تعالى ما وقف هذا الموقف. 2 - الأجر الجزيل، والثواب الجميل على الإخلاص، وصدق النية لله تعالى. 3 - الوعيد الشديد للمرائين، ومن سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به. 4 - أن أعمال المرائين محبطة، لا يقبلها الله تعالى، وليتذكر خبر الثلاثة الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، نعوذ بالله من الخذلان. 5 - أن الناس كلهم لا يملكون له من الله تعالى شيئًا، وأن رضاهم أو سخطهم لا يقدم ولا يؤخر، ومن أرضى الناس بسخط الله تعالى، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخطهم في رضا الله تعالى، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس. قال ابن الجوزي - رحمه الله -: من لم يقطع الطمع من الناس من شيئين لم يقدر على الإنكار: أحدهما: من لطف ينالونه به، والثاني: من رضاهم عنه وثنائهم عليه، وقال: من راءى الخلق عبدهم وهو لا يعلم. 2 - الشعور بالمسؤلية: يجب أن يشعر الخطيب بأنه صاحب رسالة يؤديها، ويقصد من خلالها وجه الله، حتى ولو كانت تلك وظيفته التي يقتات منها، وذلك لأن صاحب الرسالة يستفرغ كل طاقته في محاولة إيصالها إلى الناس، لا يكَلّ ولا يمَلّ. وإذا ما توفر هذا الشعور في نفس الخطيب فإن النجاح سيكون حليفه، وسيكون من أحسن الناس قولًا؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسْلمينَ} (فصلت:33). فلا أحد أحسن قولًا ممن حمل مشعل الدعوة إلى الله وإلى اتباع منهجه والالتزام بأحكامه وتعاليمه.

3 - كم رصيدك من العلم الشرعي والثقافة العامة؟ وهذا أساس لا بد منه حتى يجد الناس عند الخطيب إجابة التساؤلات، وحلول المشكلات، وهو كذلك العدَّة التي بها يعلم الخطيب الداعية الناس أحكام الشرع، ويبصرهم بحقائق الواقع، وبه أيضًا يكون الخطيب قادرًا على الإقناع وتفنيد الشبهات، ومتقنًا في العرض، ومبدعًا في التوعية والتوجيه. وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلّها وأفضلها فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، ولا بد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم على حد يصل إليه السعي. 4 - صلة الخطيب بالله - عز وجل -: تذكر أنك إنما تخطب وتتكلم بحول الله تعالى وقوته فإن شاء الله تعالى أطلق لسانك وإن شاء عقده، ولو وكلك الله إلى نفسك لعييت وعجزت. إن حنجرتك التي هي وعاء خروج الأصوات ولسانك وشفتيك وأسنانك التي تصيغ الحروف والنغمات إنما هي خلق من خلق الله تعالى. واعلم أن الله معك .. شاهد ومطلع عليك .. نظره أسبق من نظر المخاطبين إليك. فاعتصم بالله، وليكن لك في نبي الله موسى - عليه السلام - أسوة حسنة حيث: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} (طه:25 - 28). 5 - رُوحانية الخطيب: الخطيب الناجح في سيره لإعلاء كلمة الله، وبيان شرعه ونشر سنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأمره الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، يمضي ذلك الداعية وقد وطنَّ نفسه على الجادّة، وجاهدها على هوى المادَّة، وعلمها أخلاقها ونقّاها من أدرانها، وأدبها فأحسن تأديبها على منهاج النبيين - عليهم السلام - وسنة سيد المرسلين - صلى الله عليه وآله وسلم - وطريقة السلف ومن بعدهم من الخلف الصالحين المصلحين.

يدعو ربه خيفةً وتضرعا أن يُيَسِّر له إلقاء تلك الكلمة، أو نشر تلك الورقة، أو تعليق تلك الصحيفة. حتى في أصغر الأمور لا يهمل ولا يتكاسل عن طلب العون والمدد من مالك الملك - عز وجل -، وقد قرأ أن السلف - رضي الله عنهم - كانوا يسألون الله - عز وجل - كل شيء حتى الملح لطعامهم! فيسأل ربه - عز وجل - أن يُيَسِّر له وسيلة النقل لتلك القرية، أو آلة النسخ لتلك المطوية، أو ذلك المال البسيط لشراء ما يعينه على دعوته من أشرطة أو كتب أو نحوها. 6 - اللهََ اللهََ في القدوة: فالناس ينظرون إلى سلوك الخطيب، ويدققون النظر فيه، ولذا ينبغي أن تتطابق أفعاله مع أقواله، فالتزام الخطيب بأحكام الإسلام بوجه عام، وتطبيق ما يدعو إليه في خطبته، يجعل كلامه مقبولًا عند المستمعين، أما مخالفة العمل للقول، فإنه يجعل المستمعين لا يثقون به ولا بكلامه. وسيرة الخطيب وما يتحلى به من مكارم الأخلاق لها دور كبير في قبول كلامه، واحترام توجيهاته، سواء أكانت هذه السيرة مع أصحابه، وجيرانه، ومن يعاملهم في موقع عمله، أم كانت في بيته، ومع أهله وأسرته، فإن ذلك هو مقياس صدق الخطيب، ومدى احترامه لآرائه ونصائحه. وليس في مخالفة الخطيب لما يأمر به وينهى عنه مسوغ للآخرين بارتكاب ما حرم الله تعالى، أو تعدي حدوده، لكن ضعاف الإيمان يتخذون ذلك أسوة لهم، ويجعلونه حجة يحتجون بها على من ينصح لهم، فيكون بذلك إثمه مضاعفًا، حيث إنه خالف إلى ما نهى عنه، وترك ما كان يأمر به، ثم إنه سهَّل فعل الحرام وارتكاب المنهيات على ذوي النفوس المريضة، فافتُتِنُوا به حين جعلوه قدوة لهم. يقول الله تعالى: {أتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (البقرة:44).

ويقول أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لم تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} (الصف:2 - 3). ومن المقت الذي يصيب من يقول ما لا يفعل، ويأتي ما ينهى عنه، ما وصفه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من جزائه في الآخرة. فعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ، أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ» (رواه البخاري ومسلم). وسيرة الخطيب سرعان ما تنتشر بين الناس، والشائعات قد لا تقف عند حد، والناس ينظرون إلى العلماء والخطباء والآمرين بالمعروف بعيون بصيرة، والناقد بصير، وأعمال هؤلاء موضوعة تحت المجهر المكبر، فصغيرتهم تضخم إلى كبيرة، وكسرهم ليس له جبيرة، ومن الأمثال السائرة: زلة الجاهل يغطيها الجهل، وزلة العالم يضرب بها الطبل. فالناس شديدو الرقابة للعلماء والخطباء، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ورقابتهم لا تنحصر في العالم والخطيب نفسه، بل يرقبون نساءه، وأولاده، وأحفاده، ويتعلقون بأفعالهم، ويستدلون بسيرتهم وسلوكهم، والناس ـ إلا من رحم الله - عز وجل - ـ يغلب عليهم الميل إلى التسويغ والترخص بأدنى الشبهات. ولا يكفي أن يكون الخطيب واقفًا عند حد الكف عن المنكر الذي ينهى عنه، أو فعل الواجب الذي يأمر به، أو الالتزام به، أو الالتزام بالخلق الحميد الذي يحض عليه، بل ينبغي أن يكون متميزًا عن غيره ممن يقتدي به: بفعل النوافل، والمسارعة إلى الخيرات، والمسابقة إلى الطاعات، والتشمير والمبادرة إلى كل خصلة كريمة،

مع زيادة الورع، وقوة الشخصية، وصلابة الإيمان، فهو قبل أن يأمر الناس بخير ينبغي أن يكون أسبقهم إلى فعله. وليعلم الخطيب أنه مهما بلغت فصاحته، وتجلى بيانه، ومهما بلغ من قوة الإلقاء، ونصاعة الأسلوب فإنه لن يستطيع أن يقنع أحدًا بفكره، أو أن يستميل القلوب لدعوته ما لم يكن مخلصًا في دعوته، نقيًا في سيرته. بل إنه مع ذلك لا يستطيع أن يسلم من غمز الناس به في سلوكه، فليوطن نفسه على ذلك، وكم رأينا وسمعنا من خطيب مفوَّه، لكن الناس يجلسون في خطبته جلوس المحكومين ظلمًا وكأنهم يستمعون إلى قاض ظالم يتلو عليهم قرار الحكم، وكم رأينا كذلك من خطباء يتمنى الحضور لو أن خطبة أحدهم تمتد ساعات، وهذا شيء مشاهد معلوم، فليس الأسلوب وحده أو البلاغة والفصاحة وحدها هي التي تجذب قلوب الناس وتحببهم في الخطيب أو الداعية. ولن يستطيع الخطيب أن يقف صادعًا بالحق، واثقًا مما يقول، وهو يعلم أن العيون تغمزه، والقلوب تمقته، وأنه ملوث السيرة، غير نقي الذيل. فكأن الناس وهم ينغضون إليه رؤوسهم، ويرمون إليه بأبصارهم يقولون بلسان حالهم: يا أيها الرجلُ المعلمُ غيرَه ... هلّا لنفسِك كان ذا التعليمُ تصفُ الدواءَ لذي السقام وذي ... الضنى كيما يصحّ به وأنت سقيمُ ونراك تُصْلِحُ بالرشادِ عقولَنا ... أبدًا وأنتَ مِن الرشادِ عقيمُ لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثلَه ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ واعلم أن الكلام إذا لم يخرج من القلب لم يصل إلى القلب، فكل خطيب وواعظ لا يكون عليه سيما الصلاح قَلّ أن ينفع الله به. يا واعظَ الناسِ قد أصبحتَ متّهمًا ... إذ عِبْتَ منهم أمورًا أنتَ تأتيها كمُلبِسِ الثوبِ من عُري وعورتُه ... للناس باديةٌ ما إنْ يُواريها

7 - الشجاعة: أن يكون الخطيب شجاعًا في قول الحق، مع التحلي بالحكمة وحسن التقدير للموقف، بعيدًا عن التهور والاندفاع غير المحسوب، فالشجاعة في قول الحق صفة أساسية لابد وأن يتحلَّى بها الخطيب؛ لأنه سيتعرض لأمور كثيرة فإن لم تكن عنده الشجاعة الكافية فلن يستطيع الوصول إلى الهدف والغاية المرجوة. فالداعية والخطيب الناجح هو الذي يعتني بالدليل ويصبر على الأذى ويبذل وسعه في الدعوة إلى الله مهما تنوعت الإغراءات ومهما تلوع من التعب، ولا يضعف من أذى أصابه أو من أجل كلمات يسمعها، بل يجب أن يصبر ويبذل وسعه في الدعوة من جميع الوسائل. 8 - فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: لما كانت الخطابة من المهام القيادية في الأمة، وجب أن تكون مضبوطة بضوابط الشرع حتى لا يكون إفسادها أكثر من إصلاحها. ولما كان الخطيب آمرًا بالمعروف، ناهيًا عن المنكر فإنه ينبغي أن تتوفر فيه شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ومن أهم هذه الشروط أن يكون: • متواضعًا. • رفيقًا فيما يدعو إليه شفيقًا رحيمًا، غير فظ ولا غليظ القلب ولا متعنت • عدلًا صائنًا نفسه عن أسباب الفسق، وما يجرح عدالته. • فقيهًا عالما بالمأمورات والمنهيات شرعًا. • ديِّنًا نزيهًا عفيفًا، ذا رأي، وصرامة، وشدة في الدين. • قاصدًا بذلك وجه الله - عز وجل - وإقامة دينه، ونصرة شرعه، وامتثال أمره، وإحياء سننه، بلا رياء، ولا منافقة، ولا مداهنة. • غير متنافس في الدنيا ولا متفاخر. • ممن لا يخالف قوله فعله. • حَسَن الخلق.

الخطيب وجمهوره

الخطيب وجمهوره 1 - التأثير العجيب: الخطيب والداعية الناجح هو صاحب الخلق العظيم مع الناس بالابتسامة المشرقة والكلمة الطيبة. نعم .. إنها حركة بسيطة، ولكنها تعني للمدعو الشيء الكثير، فهي بذرة صغيرة ترميها في نفسية المدعو تنمو وتكبر، وتؤتي أكلها بإذن الله. 2 - القناعة والعفة: إنه على قدر قناعة العلماء والدعاة والخطباء في الدنيا وتقللهم منها تكون مكانتهم في نفوس الناس والتفافهم حولهم والانقياد لهم، وعلى قدر تعلقهم بالدنيا تكون زهادة الناس فيهم وعزوفهم عنهم ونفرتهم منهم. قال سفيان الثوري: العالم طبيب هذه الأمة، والمال داؤها، فإذا كان يجر الداء إلى نفسه فكيف يعالج غيره؟! والقناعة والعفة والاستغناء عن الناس شرف الداعية والخطيب، يقول الحسن البصري: لا يزال الرجل كريمًا على الناس حتى يطمع في دينارهم، فإذا فعل ذلك استخَفّوا به وكرهوا حديثه وأبغضوه. وقيل لأهل البصرة: من سيدكم؟ قالوا: الحسن. قال: بم سادكم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم. 3 - الإحسان قبل البيان: فالنفوس جُبلت على حُب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها فهو - صلى الله عليه وآله وسلم - فتح أقفال القلوب برحمته ورفقه، حتى لانت له القلوب القاسية، واستقامت الجوارح العاصية.

وصايا أثناء الخطبة

وصايا أثناء الخطبة 1 - قف جيدًا: إن الوقوف الصحيح له دوره في ارتياح الخطيب أثناء إلقاء الخطبة مما يزيد ثقته بنفسه كما أنه يساعده على التنفس الصحيح الذي يؤثر في فعالية الصوت. وينبغي للخطيب أن يتهيأ قبل الخطبة فيبعد عما يؤثر على صوته، فلا يأكل طعامًا أو يشرب شرابًا يذهب بقوة صوته، أو يجعله يحشرج إذا تكلم. 2 - لباس الخطيب: فلزامًا على الدعاة وخاصة الخطباء أن يزيدوا من اهتمامهم بهذا الجانب فيكونوا ذوي مظاهر جميلة تأنس بهم العين ويقبل عليهم الناس. 3 - كيف تستفتح الخطبة: خطبة الحاجة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلمها أصحابه: إِنَّ الْحَمْدَ لِله نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أَمَّا بَعْدُ. «ثُمَّ يَذْكُرُ حَاجَتَهُ». (انظر مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود والنسائي والترمذي وابن ماجه، وانظر تخريج الخطبة بالتفصيل في رسالة (خطبة الحاجة التي كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلمها أصحابه) للشيخ الألباني - رحمه الله -. قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في الرسالة المذكورة: «قد تبين لنا من مجموع الأحاديث المتقدمة أن هذه الخطبة تفتح بها جميع الخطب، سواء كانت خطبة نكاح أو خطبة جمعة أو غيرها؛ فليست خاصة بالنكاح كما قد يُظَنُّ. وفي بعض طرق حديث ابن مسعود التصريح بذلك، وقد أيد ذلك عمل السلف الصالح فكانوا يفتتحون كتبهم بهذه الخطبة كما صنع الإمام أبو جعفر الطحاوي - رحمه الله - حيث قال في مقدمة كتابه (مشكل الآثار): «وأبتدئ بما أمر - صلى الله عليه وآله وسلم - بابتداء الحاجة مما قد روي عنه بأسانيد أذكرها بعد ذلك إن شاء الله: إن الحمد لله ... » قلت (أي الشيخ الألباني): فذكرها بتمامها. وقد جرى على هذا النهج شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية - رحمه الله - فهو يكثر من ذلك في مؤلفاته كما لا يخفى على من له عناية بها.» (اهـ كلام الشيخ الألباني بتصرف). وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلَا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. وَيَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، ثُمَّ يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِأَهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» (رواه مسلم). وفي رواية لمسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه - أيضًا قَالَ: كَانَتْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَحْمَدُ اللهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُولُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ وَقَدْ عَلَا صَوْتُهُ ... ». ولفظ النسائي عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ يَحْمَدُ اللهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: «مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ

يُضْلِلْهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ، إِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ ... » (صحيح). وقد قال بعض العلماء إن التزام الخطباء بخطبة الحاجة الواردة عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في بداية كل خطبة ليس بلازم، وليست السنة كذلك، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يلتزم به في كل خطبة، فهذه خطبة الوداع أشهر خطبه - صلى الله عليه وآله وسلم - وأكثرها مستمعين لم يُنقل أنه بدأها بخطبة الحاجة. إن المقدمة أول ما يطرق الأسماع من الخطبة، فإن كانت جيدة أصغى السامعون، وتأهبوا لما بعدها، وتفتحت نفوسهم للخطيب، وإلا كانت نذيرًا بفشله وتفاهة أثره ومن المهم أن تفتتح الخطبة بمقدمة مثيرة، وبشيء يأسر الانتباه في الحال. وإذا أردت أن تستخدم مقدمة يجب أن تكون قصيرة كلائحة الإعلان. لأن ذلك يتطابق مع مزاج المستمع للحديث الذي لسان حاله يقول: أعطنا ما عندك بسرعة واجلس. ومن الخطأ الذي يقترفه الخطيب المبتدئ الاعتذار في مقدمته بكونه ليس بخطيب، أو أنه ليس لديه ما يقوله، فهذا الأمر يضعف تفاعل الجمهور معه. لا تفعل ذلك أبدًا، بل ابدأ بشيء مثير منذ الجملة الأولى، وليس الثانية أو الثالثة. وقد تكون هذه المقدمة على شكل سؤال يوجهه إلى المخاطبين، ثم يكون جوابه في أثناء الخطبة، فإن السؤال يثير الرغبة لمعرفة الجواب، ويوقظ انتباه السامع. وقد يبدأ الخطيب هذه المقدمة بخبر موجز مثير، وقد يبدؤها في كلمات موجزة، إما بقصة من التاريخ، أو من الواقع، أو يبدؤها بآية، أو حديث أو حكمة، أو ما شابه ذلك مما يكون فاتحة لموضوعه، ومنبها لأذهان السامعين إليه، وينبغي أن يحذر الرتابة في هذا المجال حيث تكون خطبه ذات مقدمة واحدة معروفة لدى

سامعيه، بل عليه أن يلون ويجدد ويغير في طريقة تناوله للموضوع، وفي أسلوب استهلاله للخطبة. وليعلم أن شدة إصغاء السامعين إليه، وانجذابهم، وتفاعلهم معه ليس لحسن تقدمته وحسب، بل لا بد من توفر مجموعة أمور تتعلق بإخلاصه، وحسن سيرته، وعلمه، وأدبه، وفصاحته ... وغير ذلك، فليجتهد الخطيب في تحضير المقدمة، والتمهيد للموضوع جهده. وبعض الخطباء يستهِلّ خطبته دائما بألفاظ معينة يلتزم بها في كل خطبة، حتى أصبحت محفوظة مكررة لدى المصلين، تدعو إلى الملل والسأم من حين يبدأ في الخطبة. 4 - الاتزان وضبط النفس: الاتزان يعني الطمأنينة والهدوء وتجنب إحداث أي حركة في غير محلها. ولا ينبغي العبث بملابسك لأنها تلفت الانتباه. 5 - بعدما تنهض لمخاطبة جمهورك لا تبدأ بعجلة. 6 - عدم الإطالة في الخطبة: فالخطيب الناجح لا يطيل في خطبته مراعاةً لأحوال وظروف المستمعين، فيكون من بينهم المرضى وأصحاب الحاجات والمهمات، وأحيانًا طبيعة الجو تلعب دورًا أساسيًا في تحديد وقت الخطبة، فيجب على الخطيب مراعاة ذلك بصورة معتدلة. ولا بد أن يعلم الخطيب أن فن الإيجاز والإطناب يختلف من حال إلى حال، بحسب حال السامعين في إقبالهم ومللهم، ونوع الموضوع، وظروف الإلقاء. ويحسن من الخطيب أن يعوّد سامعيه على زمن معتدل ثابت يلتزمه، فإنهم إذا عرفوه بانضباطه ودقة التزامه أحبوه ولازموا حضوره. وقد قرر علماء النفس أن الذاكرة القريبة هي بين 15 - 20 دقيقة. لذلك لابد للخطيب أن يتدارك هذا الاستعداد الذهني لدى المستمعين خلال هذه الدقائق الأولى فيزرع ما يريد زرعه ويستنبت ما يريد استنباته.

ومن الخير للخطيب وجمهوره أن ينفضوا وهم متعلقون به من غير ملل أو سآمة. إن الخطيب الذي لا يصيغ خطابه ليتناسب مع روح العصر السائدة والمتميزة بالسرعة لن يكون موضع ترحيب، وفي بعض الأحيان، يثير كراهية الآخرين؛ لذلك كن مختصرًا. عن أَبُي وَائِلٍ قال: خَطَبَنَا عَمَّارٌ - رضي الله عنه - فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ فَلما نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلاةِ الرَّجُلِ وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنْ الْبَيَانِ سِحْرًا» (رواه مسلم). 7 - التكرار وحسن البيان: وهو أحد الأسس التي يقّدم الخطيب من خلالها المضمون، ووظيفة هذا الأسلوب التوضيح وزيادة التأكيد. فيعيد الكلام إذا رأى الحاجة لذلك، كأن يكون معظم الحضور من العامة، أو بعض الأفكار تحتاج إلى إعادة لعدم وضوحها، أو لأهميتها. عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلَاثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ، وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا». (رواه البخاري). 8 - تغيير نبرة الصوت: من أسباب ضعف التأثير وتطرق الملل والسآمة إلى السامعين أن يتحدث الخطيب بطبقة رتيبة على وتيرة واحدة. عندما تجد نفسك كذلك ابحث عن أي جملة مناسبة لتغير من خلالها نبرة صوتك بما يتوافق مع أسلوب الجملة. 9 - تغيير سرعة الكلام: فالأفكار الرئيسية والجمل الهامة ينبغي أن يلاحظ في إلقائها التؤدة وعدم الاستعجال تمكينًا لاستيعاب السامع لها وتعزيزًا لأثرها في النفوس. 10 - حسن الوقوف في موطن الوقوف والبدء في موقع البدء: فلا يحسن بالخطيب أن يتوقف في وسط الجملة التي لم تتم.

والخطيب الناجح يعرف أين يتوقف أثناء خطبته، فإذا مر بفكرة عظيمة يرغب في ترسيخها في أذهان مستمعيه توجه إليهم وأحدق بعيونهم مباشرة لِلَحظة من دون أن يقول شيئًا. هذا الصمت المفاجئ له نتيجة الضجة المفاجئة، وهو يجذب الانتباه ويجعل كل إنسان منتبهًا ومتحفزًا لما سيتلو ذلك الصمت. وكذا يقال في التوقف بعد كل جملة يراد توكيدها فهو يضيف إلى قوتها قوة أخرى من خلال الصمت وذلك أن المعنى يغوص في هذه الأثناء في النفس ويؤدي رسالته، لكن يجب أن يكون التوقف بشكل طبيعي ومن دون تكلف. عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلم، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلم، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَال: َ «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلم، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِه، قَالَ: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟» قُلْنَا: بَلَى. قَال: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُم» (رواه البخاري). 11 - الحركات والإشارات: للحركات والإشارات أثرها الهام في الخطابة وهي نوعان: أ- حركات لاإرادية: فالغاضب يقطب جبينه ويعبس وجهه، وذو الحماس تنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ومنهم من تنقبض أصابعه وتنبسط، ومنهم من يعلو صوته حماسًا وتفاعلًا، ومنهم من يبكي رقة وخشوعًا.

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلا صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ» (رواه مسلم). ب- حركات إرادية: تعكس الانفعال والمشاعر وتعين على مزيد من المتابعة والتوضيح. وينبغي أن تكون هذه الإشارات والحركات منضبطة بقدر معقول وانفعال غير متكلف ومتناسقة مع الشعور الحقيقي. ومن الصعوبة إعطاء قواعد محددة في هذا الباب لأنه يعتمد على مزاج الخطيب وعلى تحضيره وحماسه وشخصيته وموضوعه وعلى الجمهور والمناسبة. وإذا استخدمت الإيماءات والإشارات بمهارة وبلا تكلف وكانت ملائمة لمعاني الكلمات المصاحبة لها فإنه من الممكن أن تكون يدا الخطيب أداة عجيبة لإيصال الأفكار وتحريك المشاعر. فالحركة اليسيرة الموزونة لا بأس بها، بل قد تكون أحيانًا مطلوبة لزيادة الإفهام، وهي التي كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يستعملها فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله سدد خطاكم قَالَ: «كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ».وَيَقُولُ «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ».وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى (رواه مسلم). (فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعل ذلك أثناء الخطبة). ومن ذلك إشارته - صلى الله عليه وآله وسلم - بالسبابة إلى السماء فقد جاء في حديث خطبة الوداع: «فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ «اللَّهُمَّ اشْهَدِ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ». ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. (رواه مسلم). 12 - الاتصال البصري: لا بد من توزيع النظر على الجمهور، فعيناك هما الحبل الذي يربطك بهم يعرفون من خلاله مدى اهتمامك بهم، وتعرف أنت من خلاله مدى اهتمامهم بما تقول.

وهذا يزيد ثقتك بنفسك ويخلصك من الارتباك والتوتر كما أنه يفيدك في معرفة ردود فعل المستمعين وانطباعاتهم لتجري على موضوعك أو طريقة إلقائه التعديل المناسب. 13 - التمهل في الإلقاء: الإلقاء السريع المتعجل يفقد المتابعة كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض وتتداخل المعاني وتلتبس العبارات وقد يؤدي التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية الفواصل. وهذا التمهل الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت. 14 - تجنُب الألفاظ العامية الساقطة، والكلمات المرذولة، فإن مقام المنبر ينبغي أن ينزه عن كلام السوقة، والأسواق. 15 - أن يختار الأسلوب السهل الواضح ما أمكن مع القوة والجزالة، وذلك لأن أكثر مستمعيه هم من العامة، أو من متوسطي الثقافة غالبًا. 16 - وضوح الصوت، وعلوه في اعتدال: عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَعَلَا صَوْتُهُ، وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ، وَيَقُولُ بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ، وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» (رواه مسلم). والضَّمِير فِي قَوْله: (يَقُول صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ) عَائِد عَلَى مُنْذِر جَيْش. فعلى الخطيب مراعاة الاعتدال في علو صوته، ومراعاة حاجة المكان والجمع مع عدم الإسراع في إلقائه. 17 - إثارة العواطف: الخطيب المؤثر إذا حدَّث الناس عن الجنة فكأنما بجناحيه فيها يطير، وحول أنهارها يسير، وبين يدي حُورها يميل، وإذا حدَّثهم عن النار فكأنه في بركانها يصطلي، كلامه عنها يفتت الأكباد، ويذهل الألباب، ويقطع الآمال.

18 - إثارة انتباه الجماهير: أثِر انتباه الجماهير بالآتي: أ-قصة مثيرة: إنها بداية مثيرة جدًا، فالنفوس تحب الاستماع إلى القصص والروايات ومتابعة أحداثها أكثر من الكلام النظري المجرد. ب- سؤال يحرك الأذهان: من الافتتاحيات المميزة أن يبدأ الخطيب بطرح سؤال لاستدراج الجمهور إلى التفكير، والتعاون معه. إن استخدام هذا السؤال الافتتاحي هو واحد من أبسط وأضمن الطرق لفتح أذهان جمهورك والدخول إليها. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟». قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلم. قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ». قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَه، وَإِنْ لم يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ» (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا المفْلِسُ؟». قَالُوا: المفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ. فَقَالَ: «إِنَّ المفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَن يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّار» (رواه مسلم). جـ- ضرب الأمثال: يصعب على المستمع العادي أن يتتبع العبارات المجردة طويلًا، لكن من السهل عليه الاستماع إلى الأمثلة، لماذا إذن لا تبدأ بواحد منها؟ افتتح بمَثَل، أَثِر الاهتمام، ثم تابع تقديم ملاحظاتك العامة.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ. هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَال: َ «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» (رواه البخاري). وعَنْ أَبِي مُوسَى - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السُّوْءِ كَحَامِلِ المسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ المسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَة» (رواه البخاري). د-الاستعراض: من الطرق السهلة لجذب الانتباه استعراض شيء يتطلع إليه المخاطبون. فعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قال: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - حَرِيرًا بِشِمَالِهِ وَذَهَبًا بِيَمِينِهِ ثُمَّ رَفَعَ بِهِمَا يَدَيْهِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ» (صحيح رواه ابن ماجه). هـ- موجز الخطبة (الإجمال قبل التفصيل): من المقدمات الناجحة أن يقدم الخطيب لمستمعيه عرضًا مجملًا لعناصر الخطبة، ثم يشرع في تفاصيل الخطبة. إن هذه المقدمة ستكون مفتاحًا لأذهان المستمعين، ومعينًا لهم على فهم الخطبة ومتابعة أجزائها. 19 - كيف تختم خطبتك: بعد أن يفرغ الخطيب من عرض موضوعه، وسَوْق أدلته، وضرب أمثلته، وبيان دروسه، وعبره، وترهيبه، يحسن أن يُنهي خطبته بخاتمة مناسبة تكون قوية في تعبيرها وتأثيرها، لأنها آخر ما يطرق سمع السامع ويبقى في ذهنه. وليس كل كلام يصلح أن يكون خاتمة للخطبة، ولا كل عبارة تصلح أن تكون نهاية للكلام، بل ينبغي

أن تكون الخاتمة بأقوى العبارات وأجزلها، وأعظمها أثرًا فهي آخر ما يطرق آذان المخاطبين، ويعلق بأذهانهم. فيحسن في الخاتمة أن تجمع الصفات التالية: • قوة العبارة وقصرها. • الاختلاف في ألفاظها عما سبق في الخطبة، فلا تكون تكرارًا لما تقدم. • خلوها من أي خطأ علمي، أو لُغوي، فإنها تعطي الانطباع الأخير عن الخطبة. • وقوعها في قمة حماسة الناس وتأثرهم. مقترحات للخاتمة: أ- آيات كريمة أو حديث نبوي: يمكن أن يختم الخطيب بآيات قرآنية لم يسُقها من قبل تجمع موضوعه في الترغيب والترهيب أو التدليل والإثبات، وقد تكون حديثًا نبويًا مناسبًا. ب- دعاء: بين يدي الخطيب طائفة من الأدعية القرآنية أو النبوية المأثورة، يمكن أن يختار منها ما يناسب الموضوع، ويجعله خاتمة لخطبته. كما يمكن أن ينشئ من دعائه الخاص ما يدعم الهدف المراد من الخطبة ويقويه في نفوس المستمعين. ولقد اختلف الفقهاء في حكم دعاء الخطيب للمسلمين في الخطبة الثانية من خطبتي الجمعة، وذلك على قولين: القول الأول: أنه سنة. القول الثاني: أنه ركن من أركان الخطبة الثانية. والأرجح هو سنية الدعاء في خطبة الجمعة فعَنْ حُصَيْن بن عبد الرحمن أن عُمَارَةَ بْنَ رُؤَيْبَةَ رَأَى بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ عَلَى المنْبَرِ رَافِعًا يَدَيْهِ فَقَالَ: «قَبَّحَ اللهُ هَاتَيْنِ الْيَدَيْنِ؛ لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ المسَبِّحَةِ». (رواه مسلم).

فهذا الصحابي عُمَارَةَ بْنَ رُؤَيْبَةَ سدد خطاكم لم ينكر على بشر بن مروان الدعاء، وإنما أنكر عليه رفع اليدين وذكر أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يرفع يديه في الدعاء. فهذا إقرار من هذا الصحابي سدد خطاكم على هذا الأمر (¬1). جـ- تلخيص الأفكار: وتغطية أفكار كثيرة في خطاب قصير تتراوح مدته بين ثلاث أو خمس دقائق. وقد قيل: أخبرهم أولًا بما تنوي إخبارهم به، ثم أخبرهم، ثم أخبرهم بما أخبرتهم. د- مقتطفات شعرية: وإذا استطعت الحصول على قطعة شعرية ملائمة لنهايتك، يكون الأمر طيبًا. 20 - فصاحة اللسان: إن فصاحة اللسان وسلامة مخارج الحروف أمر مهم للخطيب وكذلك مراعاة حسن الإلقاء، قوةً ولينًا، فلا يكون الإلقاء على وتيرة واحدة، حتى لا يمل السامع، أو يعتمد أسلوب السجع الممقوت، فإن من شأن ذلك إضاعة المعنى، والتركيز على اللفظ. مع ضرورة مراعاة قواعد اللغة العربية، لأن عدم مراعاتها يحدِث خللًا في المعنى. 21 - المقارنة بين الواقع والمأمول: في نقد الأخطاء، وتقويم السلوكيات قد يسأم الناس إذا اقتصر الناقد على الأفكار النظرية فقط. لكن قَلّما يفشل في جذب انتباههم والتأثير في نفوسهم إذا عرض بعض المشاهد من أحوالهم الملموسة، وقارن بين هذه المشاهد ومشاهد من الأحوال الصحيحة المأمولة. وإن أكثر الأشياء إثارة لاهتمامنا هي أحوالنا التي نقع فيها. إذ كل واحد منا يشعر في هذه الحالة بأنه معني بهذا الكلام دون سواه. ¬

_ (¬1) انظر: خطبة الجمعة وأحكامها الفقهية لعبد العزيز بن محمد بن عبد الله الحجيلان. تنبيه: ما رُوِيَ عن سمرة بن جندب سدد خطاكمأن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - «كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات كل جمعة» رواه البزار والطبراني في الكبير، وأشار إلى ضعفه البزار والهيتمي وابن حجر.

وهذا مثال تطبيقي: عرض مَشاهد من الأحوال الملموسة ... مقارنة بمشاهد من الأحوال المأمولة (أحوال السلف) 1 - رجل يسهر مع رفاقه، ثم ينام عن صلاة الفجر. ... كان المريض في عهد الصحابة يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف. 2 - شاب يبكي لهزيمة فريقه. ... سعيد بن عبد العزيز يبكي لما فاتته صلاة الجماعة. 3 - تساهل بعض نسائنا في الحجاب. ... خروج نِسَاءِ الْأَنْصَارِ عندما نزل الأمر بالحجاب كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنْ الْأَكْسِيَةِ إن مثل هذه المقارنات سيكون أثرها في نفوس السامعين أبلغ من النقد المباشر. وتأمل في هذا الدرس النبوي الذي يعتمد على أسلوب المقارنة التي تحث على الاقتداء. فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَقُلْنَا: أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟! فَقَال: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالمنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُون» (رواه البخاري).

همسات في أذن خطيب الجمعة

همسات في أذن خطيب الجمعة • أخي الخطيب: إن من يقوم بعمل يهدف من ورائه إلى أن يصل إلى شيء ما؛ فاجعل لك هدفًا عاليًا في خطبتك فأنت تهدف في صعودك المنبر في السنة اثنتين وخمسين مرة تقريبًا إلى أن تصحح مفاهيم الناس وبخاصة حول معتقداتهم وترشدهم إلى المعتقد الصحيح. وأنت تهدف في صعودك المنبر إلى أن تقرب الناس من ربهم وأن تحبب الدين وأحكامه إليهم، فعليك بما يقوي فيهم الإيمان ويزرع فيهم الخير والنفع والرحمة والشفقة. وأنت تهدف إلى تصحيح أوضاع اجتماعية تَعَارف عليها الناس وقد يكون الصواب في غيرها فاجتهد في توجيه الناس إلى الصواب، وحذار من السخرية والاستفزاز والإعجاب وسرعة الوصول إلى النتائج. إنك تهدف إلى إصلاح المجتمع ولن يتأتى هذا العلاج بخطبة أو خطبتين فوطّن نفسك على الرفق وحب الخير للناس ونصحهم وتوجيههم في كل قول تقوله. • أخي الخطيب: أحكام الإسلام متفاوتة في أهميتها فأعط كل حكم ما يستحقه من الاهتمام، والحكمة ضالة المؤمن، قال - عز وجل -: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة:269). • أخي الخطيب: سائل نفسك باستمرار ماذا حققت من خُطَبك المتكررة؟ هل شاركت في تربية المجتمع على الخلق الفاضل والأدب الحسن؟ هل أسهمت في تعليم الناس أمور دينهم؟ إنك تحملت أمانة عظيمة اسألِ اللهَ أن يعينك على أدائها. • أخي الخطيب: احرص على التواضع وعدم التعالي على السامعين.

فإن من الأمور التي ينبغي على الخطيب أن يفطن لها أن يكون ذا تواضع ينظر إلى الناس بعين الرحمة والشفقة يوقر الكبير ويرحم الصغير، يُذكر عن بكر بن عبد الله المزني أنه قال: «ما رأيت أكبر مني إلا قلتُ: هو خير مني سبقني إلى الطاعة، ولا رأيت أصغر مني إلا قلتُ: هو خير مني سبقتُه إلى المعصية». إن السامعين ينفرون ممن يتعالى عليهم ويظهر أنه أعلى وأرفع منهم، وبالمقابل فإنهم يحبون المتواضعين الذي يحترمون الناس ويرحمونهم فعلى الخطيب الكريم أن يكون قدوة فيما يدعو الناس إليه، وليتذكر قول الشاعر: وقفتُ للتذكيرِ ولو كنتُ منصفًا ... لذكّرْتُ نفسي فهي أحوجُ للذكرَى إذا لم يكنْ منِّي لنفسي واعظٌ ... فيا ليتَ شعري كيف أفعلُ في الأخرَى • أخي الخطيب: إن إثارة الحمية الدينية لدى السامعين من الأمور الهامة في الخطبة فاعلم أن الخطيب الذي يثير السامعين بأسلوبه، ويهز مشاعرهم بخطابه، ويرجع ما يصيب الناس من المصائب والكوارث والابتلاء إلى ضعف الإيمان وانتهاك ما حرم الله ـ خطيب ناجح. كما أن الخطيب الموفق هو الذي يثير حمية السامعين الدينية ويلفت انتباههم بأن ما يحصل للمسلمين من انحراف وتفرق وشرود عن النهج الصحيح يفرح أعداء الإسلام ويسرهم كثيرًا؛ وقد قال الله - عز وجل -: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (أل عمران:120)، وأي سيئة أعظم من تخلخل ارتباط المسلمين بإسلامهم، وأي سيئة أعظم من أن يتفرق المسلمون ويفسد ما بينهم إن هذا مما يبهج الأعداء ويفرحهم. • الخطيب ووحدة الأمة: الخطيب يجب أن يكون حريصًا على تآلف القلوب، ووحدة الأمة، واجتماع الكلمة، وعليه أن يبتعد عن كل ما مِن شأنه أن يفرق وحدة المسلمين، حتى ولو كان ما يقوله حقًا.

وكل إخلال بهذه الحقيقة إنما هو إخلال، وتقصير في فريضة، فكيف يأتي هذا التقصير من قبل الخطيب، وهو يعلم أن هذا من الأمور المعلومة من الدين بالضرورة. لذا فإن على الخطيب أن يحذر من كل سبب يؤدي إلى اهتزاز هذه الحقيقة في النفوس، وأن يجتنب كل عبارة أو فكرة تؤدي إلى زعزعتها، ومن ذلك: 1 - تخصيص شخص معين بالنقد. 2 - تخصيص جماعة معينة بذلك. 3 - تخصيص بلد أو جنسية معينة بالفساد وسوء الأحوال. وهذا لا يقلل من شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يقصد به مداراة الفساد والمفسدين أيًا كانوا، فمما لا يخفى أن هذه المحاذير لا تحول بين الخطيب وبين الصدع بالحق، وهتك أستار الباطل، وتعرية المفسدين دون الحاجة إلى التعيين والتخصيص. فهدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خير الهدي، وأكمله، وأنفعه، وقد كان من هديه - صلى الله عليه وآله وسلم - عدم التخصيص إلا عندما تدعو مصلحة شرعية راجحة لذلك. والأحاديث في هذا الباب كثيرة ليس هنا مجال ذكرها، وهي دالة على أن هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الحفاظ على مشاعر المسلمين، وعدم مواجهتهم باللوم، وعدم مجابهتهم بالتعنيف. فتوسع بعض الخطباء في هذا المجال من منطلق الصدع بالحق، وعدم المداهنة فيه، لا يخلو من مخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النصح، وعدم إحكام لفقه الموازنات، وترجيح المصلحة الشرعية، ودرء المفاسد. • المبالغة في ذم الدنيا: من الأساليب التي يلجأ إليها بعض الخطباء المبالغة والإفراط في ذم الدنيا مما يصور الإسلام بأنه يحارب العمل، والتجديد في الوسائل، ويحذر من الغنى، ويكره

للمسلم الاتساع في المكاسب، وهذا فهم خاطئ للإسلام، وإلا فكيف يحث الإسلام المسلم على الإنفاق، والبذل ويجعل يد الباذل هي العليا، ويحثه على تفريج الكربات، وعلى العمل الشريف إذا كان يذم هذا الأمر ويمقته. إن الإسلام لا يذم الدنيا، بل يذم التكالب عليها، والغفلة بها عن الآخرة، ولا يذم المال بل يذم كسبه من الحرام، وتبذيره في الحرام، وإضاعته فيما لا يحل، ويذم الشح به، والحرص الشديد عليه، حتى يصبح المرء عبدًا له، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ» (رواه البخاري). فعلى الخطيب حين يعرض للكلام عن الدنيا، والغنى، والمال، أن يعرض موقف الإسلام من ذلك عرضًا كاملًا، مبينًا متى تُذم الدنيا، ومتى لا تُذم، ثم لا تكون كل خطبة مركزة على ذم الدنيا، والمال، وعلى الترغيب في الزهد، والحث عليه، بل يعطي كل ذي حق حقه، فقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين قيل له: «ذهب أهل الدثور بالأجور ... » «ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» (رواه البخاري ومسلم). • التهويل في تصوير الواقع والإخبار عن الأحوال والأحداث المتعلقة بالأمة: فيكبرها أحيانًا مئات المرات، ويصغرها أحيانًا أخرى مئات المرات، وتبرز مظاهر هذا التهويل في أمور منها: 1 - التهويل في وصف حال المسلمين ومدى ضعفهم، فيصل إلى حكم قاطع بأن الأمة لا شفاء لها من أمراضها، ولا يقظة لها من رقدتها، أو يحكم على المجتمعات عامة بالكفر أو الضلال ومحاربة الإسلام، وليستحضر قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» (رواه البخاري ومسلم). قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ: لَا يَزَال الرَّجُل يَعِيب النَّاس، وَيَذْكُر مَسَاوِيَهُمْ، وَيَقُول: فَسَدَ النَّاس، وَهَلَكُوا، وَنَحْو ذَلِكَ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ أَيْ أَسْوَأ حَالًا مِنْهُمْ بِمَا يَلْحَقهُ مِنْ الْإِثْم فِي عَيْبهمْ، وَالْوَقِيعَة فِيهِمْ، وَرُبَّمَا أَدَّاهُ ذَلِكَ إِلَى الْعُجْب بِنَفْسِهِ، وَرُؤْيَته أَنَّهُ خَيْر مِنْهُمْ. (اهـ من شرح صحيح مسلم للإمام النووي).

2 - التهويل في وصف حال غير المسلمين، وتصوير تلك المجتمعات بأنها تخلو من أي خير، وأنها مجتمعاتُ غابٍ، وأنها في غضون بضعة سنوات ستسقط وتدمر، والعدل يقتضي أن يذكر مفاسد هذه المجتمعات، وما آلت إليه دون أن يتجاوز الحقيقة في ذلك. قال الله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (المائدة- 8). 3 - التهويل في جعل بعض الأمور عليها مدار عزة الأمة، وتركها هو السبب في ذل الأمة، ولا يعني هذا إهمال هذه الأمور، وعدم الاهتمام بها، لكن يجب أن نضع الأشياء حيث وضعها الشرع، ونحكم عليها بحكمه، فللإسلام أركان، وهناك واجبات، وسنن، وآداب، ومروءات، فالجهاد ليس كقص الشارب، والصلاة ليست كإعفاء اللحية، مع أن الكل من الدين. لكن بعض الخطباء يجعل موضوع خطبته سنة من سنن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو يكون موضوع خطبته حول خُلُق من الأخلاق الإسلامية، فيسوق كل ما يستطيع من الأدلة، والقصص والأشعار وغير ذلك، ثم يربطه ربطًا غير موزون بحال الأمة، وأسباب هزائمها، وتأخرها عن ركب الأمم مما يرسخ في ذهن السامعين أن أسباب ذلك كله تنحصر في هذا الأمر بعينه، بل ربما قال ذلك صراحة. 4 - التهويل في الربط بين الأحداث، بحيث يجعل كل مؤتمر وراءه مؤامرة، وكل خبر وراءه مكيدة، وكل جديد قصد به المكر والإفساد، وهكذا يتم الربط عشوائيًا، ودون مستند بين الأحداث صغيرها وكبيرها. نعم لا ينكَر أن يكون المسلمون دائمي الحذر واليقظة، وأن لا يحسنوا الظن بعدوهم، وأن يكونوا على قدْر كبير من الوعي بالعالم من حولهم، والنظرة الثاقبة للأساليب الخفية التي تحاك لتدمير الأخلاق، وشيوع الفساد، لكن تهويل الأمور والوسوسة بكل شيء حوله ليس من الوعي في شيء، ولا من اليقظة في شيء.

5 - التهويل في الحكم على الأشخاص كالحكم على ظالم معين بأنه من أهل النار، أو أنه ملعون، أو أكفر من فرعون وهامان، أو الحكم لشخص معين بأنه شهيد قطعًا، أو أنه يتقلب في الجنة، ونحو ذلك من الأحكام القاطعة التي تتنافى مع عقيدة المسلم وثوابته، وتتعارض مع منهج الإسلام الذي يوجب العدل في الرضا والغضب، والقصد في الحب والبغض، وأن لا يجزم لأحد بجنة أو نار إلا من ثبت فيه نص. ومن هذا التهويل المبادرة إلى التكفير، والتفسيق، والتسرع في التبديع والتأثيم، وقول: «والله لا يغفر الله لفلان، وفلان لا يشم رائحة الجنة»، ونحو ذلك من الألفاظ والأحكام التي فيها تألّ على الله تعالى، وقولٌ عليه بغير علم، ومنه كذلك اعتماد أسلوب التهييج، والتحميس الزائد عن الحد لقضية لا تستحق مثل هذا. • تجنب التيئيس وما يولد الإحباط عند المخاطبين: الخطابة من المهام القيادية في الناس، والخطيب قائد بهذا المعنى لفصيل من فصائل المجتمع يعده ويوجهه، ولا يصح أن يفتّ في عضده، فيملأ نفوس أفراده بالوهن واليأس، ويقتل فيهم الثقة والطموح، والتطلع إلى التغيير والإصلاح. ولا يصح أن يخاطبهم بروح المهزوم المُحبط، فإن الخطيب إذا سرَتْ إلى نفسه روح اليأس سرتْ إلى مستمعيه، وإلى مجتمعه، فكان خاذلًا متخاذلًا، وما زال للخطباء البارعين دور كبير في إيقاظ الأمة، وفي رفع الهمم، ودرء الفتن، وكم من خطبة حولت الهزيمة إلى نصر، والضعف إلى قوة، والقلة إلى كثرة، وإنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان. واليأس إذا استولى على فرد أحاله إلى عضو مشلول في مجتمعه لا يصنع خيرًا، ولا يدفع ضرًا، وإذا استولى على أمة من الأمم أحالها إلى أمة واهنة خائرة تستسهل الهوان، وتألف الذل، وتستمرئ التقليد، وتكون نهبًا لأعدائها، وقصعة مباحة لآكليها. ومن هنا فقد حذر الإسلام من اليأس، وجعله على النقيض من الإيمان فلا يلتقيان في قلب، إيمان كامل ويأس مطبق.

قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف 87). قال الطبري في تأويلها: لا يقنط من فرجه ورحمته، ويقطع رجاءه منه {إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يعني القوم الذين يجحدون قدرته على ما شاء تكوينه. • البدع الميّتة: البدعة تشوه جمال الإسلام، وتطمس معالمه، وتذهب بضيائه، ولذا فإن موقف الإسلام حاسم واضح صريح من البدع. قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» وفي رواية «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). «فَهُوَ رَدٌّ» أي: مردود على صاحبه. والخطيب ينبغي أن يكون له دور في إماتة البدعة، وفي هتك سترها ومحاربة المنكر، ولو أطبق على ذلك الناس، أو معظمهم في حيِّه وفي غير حيِّه. لكن مما ينبغي أن يتنبه له الحذر من أن يحيي بدعة ميتة دون أن يشعر، وذلك بأن تكون البدعة لا أتباع لها، أو لا تكاد تُعرف بين الناس، فيكرر الخطب بالتحذير منها، أو يركز الخطبة بالكلام عليها، وقد كانت نائمة فأيقظها، مغمورة فشهرها، ميتة فأحياها، وجعل الناس يسأل بعضهم بعضًا عنها، وبعضهم يسعى للتعرف عليها، وبعضهم يدفعهم الفضول لأن يقرأ حولها، ويجادل عن فكرتها، وهكذا تصبح حديث المجالس، ويغدو الناس بين مؤيد لها، ومنظر لفكرتها، ومعارض لأصلها. إن المنهج الصحيح في التعامل مع مثل هذه البدع والمحدثات، والمنكرات هو دفنها بتركها، وعدم التحدث عنها. وليس المقصود بهذا أن نتركها ونهملها حتى تحيا وتنتشر، بل لا بد من الإنكار على صاحبها في السر لمن علم به، وزجْره، وردْعه، وتخويفه، حتى تموت فتنته في مهدها.

وليس في دفن البدعة، وعدم التحدث عنها ستر على المبتدع، بل طمس على البدعة، وتضييق عليها لئلا تنتشر، ومن التضييق على البدعة أيضًا أن نقوم بنشر السنة، وبيان الحق، وبيان الأدلة على وجوب الاتباع وفضله، والتحذير من مخالفة السنة. أما إذا كانت البدعة قد انتشرت، أو اغتر بها فئات من الناس، وضل بها آخرون، فلا تهاون أبدًا في إنكارها وإبطالها، وحشْد أهل العلم للرد عليها ومحاربتها، ولا يصلح السكوت عنها. ومما يحذر منه في هذا المجال الإخبار عن كتاب مغمور محدود النشر يحتوي على آراء ضالة وأفكار هدامة، بقصد الرد عليه فيحصل بذلك إشهاره وتوجيه الأنظار إليه دون قصد من الخطيب. ومن هذا القبيل أيضًا ذكر رأي أو فتوى شاذة لعالم مشهور من أجل الرد عليها، فتكون النتيجة عكس ما قصد إليه الخطيب، وكأنه يقول للناس: إن هذا العالم الكبير يقول بمثل هذا الرأي فلا حرج على من ذهب إلى مثل ما ذهب إليه. فعلى الخطيب أن يكون ذا بصيرة في الموازنة بين المصالح والمفاسد، وتقويم النتائج المترتبة على كلامه، فرب خطبة أيقظت فتنة.

عيوب الخطبة

عيوب الخطبة هناك أمور سلبية يحسن بالخطباء الأفاضل أن ينتبهوا إليها: أولا: عيوب في أصل الخطبة 1 ـ الطول الممل والقصر المخل: إن المقصود من الخطبة هو إفهام المخاطبين وإقناعهم بمضمون الكلام الموجه إليهم، فكل ما يحول دون ذلك عيب يجب اجتنابه، وأعظم ذلك الإطالة التي هي أدعى لسقطات اللسان، وتبعث الملل والسآمة في الإنسان. وقد ذكر بعض أهل العلم أن من المستحسن أن تكون الخطبة في الأحوال العادية في حدود عشرين دقيقة، ومن المهم مراعاة الحاضرين فقد يكون بعض المسلمين في برد شديد خارج المكان الدافئ، كما أنهم قد يكونون في حر شديد خارج المكان المكيف كما أن بعضهم قد يجيء مبكرًا إلى المسجد وقد يضايقه البول إذا ما أطيلت الخطبة. لكن ينبغي للخطيب وهو يراعي مجانبة هذا العيب أن يجانب أيضًا الوقوع في ضدّه وهو القِصر المخلّ، وخير الأمور الوسط، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَكَانَتْ صَلَاتُهُ قَصْدًا، وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا» (رواه مسلم). 2 ـ خلوها من نصوص الكتاب والسنة: وقد عد بعض الفقهاء من أركان الخطبة ذكر آية من كتاب الله تعالى، فلا يَحْسُن بالخطيب أن يخلي خطبته من القرآن الكريم، وكذا من سنة المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فإن ذلك مما يورث الكلام البهاء والوقار. 3 ـ كثرة الشعر فيها: وقد يصل الحد ببعض الخطباء إلى أن يُنزل الشعر منزلة الكتاب والسنة، فيستدل به كما يستدل بالكتاب والسنة، بل بعضهم قد لا يستدل إلا به، وهذا عيب كبير وطريق إلى تقرير الباطل إذا كان ذلك الشعر مشتملًا على باطل.

على أن الاستشهاد بالشعر الذي له وقع في النفس، ويؤيد المعنى الذي نسج له الكلام لا بأس به إذا كان بقدر وناسب المقام. 4 ـ اشتمالها على ألفاظ منكرة شرعًا أو عرفًا: مثال الألفاظ المنكرة شرعًا أن يقول: «ما شاء الله وشاء فلان»، أو يقسم بغير الله تعالى أو غير ذلك من الألفاظ المنهية. والمراد بالألفاظ المنكرة عرفًا ما اتفقت طباع القوم على استقباحه واستهجانه، فعلى الخطيب أن يتجنبه وأن يعدل عنه إلى بديل يعرفه القوم ولا ينكرونه، وهذا يختلف باختلاف البقاع والأصقاع، فربّ لفظ حسن شريف عند قوم قبيح هجين عند آخرين، وعليه يلزم من أراد أن يخطب في قوم أن يعرف لسانهم وعاداتهم وأعرافهم حتى لا يقع فيما يصدهم عنه ويسقطه في أعينهم. 5 ـ اشتمالها على باطل: وهذا من أخطر العيوب وأشدها ضررًا على الناس، وبخاصة إذا كان الخطيب مفوهًا، فيتوصل بحسن كلامه وتنميق عباراته إلى تقرير باطل كعقيدة فاسدة، أو بدعة محدثة، أو معاملة محرمة، أو معصية لله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. 6 ـ اشتمالها على أحاديث ضعيفة أو موضوعة: وهذا العيب سببه عدم التحرّي والتثبت من صحة الحديث، ويخشى على من وقع في مثل هذا أن يتناوله الوعيد الذي ذكره رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في قوله: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي - رحمه الله -: ضَبَطْنَاهُ: (يُرَى) بِضَمِّ الْيَاءِ وَالْكَاذِبِينَ بِكَسْرِ الْبَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْجَمْع وَهَذَا هُوَ المشْهُور فِي اللَّفْظَتَيْنِ. وَرَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِهِ المسْتَخْرَجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلم حَدِيثُ سَمُرَةَ (الْكَاذِبَيْنِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ النُّونِ عَلَى التَّثْنِيَة».

ويشتد هذا العيب ويتفاقم إذا كان موضوع الخطبة كله مبنيًا على حديث ضعيف أو موضوع، كمن يخطب في قصة ثعلبة بن حاطب ويستخرج منها العبر والعظات، وهي غير ثابتة، أو يخطب في قصة الغرانيق وهي أيضًا لا تثبت. 7 ـ طغيان الأسلوب العلمي على الأسلوب الأدبي: من مظاهر هذا العيب أن يستعمل الخطيب مصطلحات علمية دقيقة لا يدركها عامة الناس. ومن مظاهره أيضًا التوسع في تخريج الأحاديث وعزوها والكلام على طرقها وعللها. ومن مظاهره أيضًا خلو الخطبة من الأساليب الإنشائية كالأمر والنهي والاستفهام والتعجب والدعاء وغير ذلك، مما يخرجها من حد الخطابة إلى حد المقالة. 8 ـ عدم إيفاء الموضوع حقه: وذلك بأن لا يتناول جميع عناصره، أو أن يستطرد ويفرع حتى يخرج عن الموضوع الذي يخطب من أجله، أو أن يشتت الموضوع ويبعثر الأفكار ولا يربط بينها. 9 ـ خلوها من الإرشاد والتوجيه الفوري: وذلك بأن يغض الطرف عمن يتخطى رقاب الناس، فلا ينهاه عن ذلك، ويسكت عمن جلس دون أن يركع ركعتين فلا يأمره بهما، ويحصل بين يديه منكر فلا ينهى عنه. 11 ـ اشتمالها على ألفاظ ثابتة لا تتغير، يفتتح بها ويختم بها وكأنها سنة ماضية: وذلك كقولهم: «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ... »، وقولهم: «بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ... » وقولهم: «فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له ... » وقولهم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة لله»، وقولهم: «فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، {وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}»، وغيرها من العبارات التي يلتزم بها بعض الخطباء كأنها ركن من أركان الخطبة، وواجب من واجباتها، حتى صار عند الناس كالفرض ينكرون على تاركه. وقد ذكر بعض أهل العلم أن المداومة على ذلك من البدع. ولكن لا بأس إن قاله الخطيب في بعض الأحيان لا على أنه سنة يقوم بتطبيقها.

تنبيه

12 ـ غلبة الترخيص عليها: قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: «وَفِي الْحَدِيث (أي حديث صلاة الاستسقاء) تَرْجِيح التَّخْوِيف فِي الْخُطْبَة عَلَى التَّوَسُّع فِي التَّرْخِيص لِمَا فِي ذِكْر الرُّخَص مِنْ مُلَاءَمَة النُّفُوس لِمَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الشَّهْوَة، وَالطَّبِيب الْحَاذِق يُقَابِل الْعِلَّة بِمَا يُضَادّهَا لَا بِمَا يَزِيدهَا» (¬1). 13 - عدم الاهتمام بالخطبة الثانية: بعض الخطباء الخطبة الثانية لديه كلمات معدودة تتكرر كل جمعة، وأصبح يحفظها الصغير والكبير ممن يؤم مسجده. وينبغي على الخطيب الاهتمام بالخطبة الثانية مثلما يهتم بالخطبة الأولى، فلا يقتصر على شيء معين لا يزيد فيه ولا ينقص منه؛ فإن ذلك مدعاة للملل، وله أن يجعل الثانية امتدادًا لموضوع الأولى كما أن له أن يجعل الأولى تهتم بموضوع معين والثانية يجعلها علاجًا لمشكلة معينة أو توضيحًا لمسألة فقهية أو حديثًا عن أحوال المسلمين وما يتجدد في المجتمع الإسلامي مما هو بحاجة إلى طرق وبيان وتوضيح. ومن المستحسن أن يغير الخطيب في نمط الخطبة الثانية فتارة يجعل الثانية مكملة للأولى، وتارة يتحدث في الثانية عن مسألة فقهية، أو يتحدث عن بعض أحوال المسلمين مما يحتاج إلى معالجة ونحو ذلك؛ لأن التغيير ضمن الحدود الشرعية أدعى لتقبل الناس وارتياحهم وشعورهم بأن خطيبهم حريص على إفادتهم فوائد متنوعة. تنبيه: في بعض الأماكن ينتشر الجهل ولا يعرف كثير من المسلمين أحكام الإسلام الأساسية من التوحيد والطهارة والصلاة والصيام؛ فيمكن أن تكون الخطبة الثانية فرصة لتعليمهم ذلك. ولن يجتمع أمام الخطيب في درس الفقه مثلًا عددٌ من الحاضرين كعددهم في صلاة الجمعة. ¬

_ (¬1) فتح الباري:2/ 618.

عيوب في الخطيب

ثانيًا: عيوب في الخطيب 1 - عدم العناية باللغة العربية: فمن العيوب المستهجنة لدى العلماء اللحن، وأفحشه ما كان في آيةٍ أو حديث، ثم ما غيّر المعنى، ثم ما كان في كلام الغير. وإن أعظم أسبابِ اللحنِ الجهلُ بعلمَي النحو والصرف. وعلاجه التعرف على اللغة العربية وقراءة الخطبة قبل إلقائها أكثر من مرة وضبط الحروف التي تحتاج إلى ضبط بالشكل. ولذا ينبغي للخطيب أن يتعلم من النحو واللغة ما يقوّم به لسانه، ويَسلم به من هذه الآفة. 2 ـ التصحيف: وأكثر ما يقع لمن يقرأ من كتاب، فيصحف نظره بسبب رداءة الخط أو ضعف البصر أو عدم استيعاب ما يقرأ أو عدم التركيز فيه أو غير ذلك من الأسباب، وقد حصل لبعض الفضلاء أن قال في خطبته وهو يقرأ من ورقة: «ومن ترك واجبًا من واجبات الحج متعمدًا يأثم ويَكْفُر» بتخفيف الفاء (من الكفر)، فنبّهه بعض الناس بعد قضاء صلاته، فبادر إلى تصحيح خطئه، وقال: «الصواب: يأثم ويُكَفّر» أي من الكفارة. 3 ـ اللّفف والعجلة: والمراد باللّفف التباطؤ في الكلام حتى كأن لسانه قد الْتفَّ، والمراد بالعجلة السرعة في الإلقاء، فكما أن الإسراع مذموم لما فيه من تفويت الفهم على السامع، فكذلك التباطؤ مذموم لما فيه من بعث الملل والضجر في قلوب السامعين، والسنة الاقتصاد في ذلك، فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «مَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا» (حسن رواه الترمذي) (يَسْرُدُ) السَّرْدُ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْكَلَامِ عَلَى الْوَلَاءِ وَالِاسْتِعْجَالُ فِيهِ. (سَرْدَكُمْ) أَيْ كَسَرْدِكُمْ، وَالمعْنَى لم يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُتَابِعُ الْحَدِيثَ اِسْتِعْجَالًا بَعْضَهُ إِثْرَ بَعْضٍ لِئَلَّا يَلْتَبِسَ عَلَى المسْتَمِعِ. وقد تكون سرعة الإلقاء طبعًا في الخطيب وقد يكون سببها طول موضوع الخطبة، أو القراءة من كتاب.

4 ـ كثرة الحركة: وذلك كالعبث باللحية أو الخاتم أو الساعة أو النظارات أو الثوب أو العمامة، فإنها منقصة من هيبة الخطيب، ومدعاة للازدراء والاحتقار. فينبغي للخطيب أن يستشعر حرمة المقام ويراعي لحظ المخاطبين فيلزم السمت والسكون والوقار. 5 ـ الارتعاش والرّعدة والعرق: وهذا العيب من أشد العيوب وطأة على الخطباء، لأنه يعتري الخطيب قسرًا، ويغلبه قهرًا، فإذا اعتراه أفقده توازنه، وأوقعه في الاضطراب الشديد، وقد يصل به الأمر إلى أن يضطر إلى قطع خطبته فلا يستطيع إكمالها مهما حاول، حتى إن بعضهم لا يقوى على القيام. وهذا العيب غالبًا ما يعتري المبتدئين الذين لم يستعدوا نفسيًا ولم يتدربوا لهذا المقام، وقد يعتري غير المبتدئين وذلك إذا علم أن من بين الحضور أناسًا يوقّرهم ويعظمهم ويُكبِرُهم. 6 ـ عدم التفاعل مع الخطبة: لا يخفى أن الخطبة قد تشتمل على فنون شتى متغايرة؛ فقد تشتمل على الترغيب والترهيب، وعلى التحذير والتبشير، وقد تشتمل على ما يقتضي الحزن أو الفرح، أو الغضب أو الخوف، والخطيب الموفق يعطي كل مقام حقه من الانفعال والتغيّر. وسبب هذا العيب في الغالب هو خروج الكلام من اللسان دون القلب، ومتى حصل ذلك لم تُؤتِ الخطبة ثمارها. 7 ـ استغلال المنبر لأغراض شخصية: وهذا العيب من أخسّ العيوب، ويقع فيه بعض الخطباء لقلّة دينه وضعف إيمانه، أو لضعف شخصيته، ومن صوره أن ينتقم الخطيب لنفسه، أو يدافع على نفسه، أو يدعو إلى نفسه، وهذا من أكبر العدوان على المخاطبين. قال بعض الفضلاء: «إن شرّ السُرَّاق الخطباء الذين يستغلون المنبر لأغراضهم الشخصية؛ لأنهم يسرقون أعمار الناس، فهم شر ممن يسرق أموالهم».

ومن مضار هذا العيب: - الإضرار بالدعوة. - عدم أداء الواجب الشرعي. - المساس بقيمة الخطيب ومكانته. - انتهاك حرمة المنبر وتعطيل مهمته. 8 ـ استغلال المنبر لأغراض حزبية أو طائفية أو عصبية: وذلك بنشر أهداف ومبادئ حزب ما، أو فرقة ما من خلال المنبر، وهذا كله على حساب الدين والدعوة، فهو منَافٍ للغرض الذي أسس من أجله المنبر، بل هو مناف كذلك لرسالة الإمام الشرعية. 9 ـ محاكاة غيره من الخطباء في طريقة الإلقاء، وفي النبرات والسكتات، وفي الحركات والسكنات: ومن أسباب هذا العيب ضعف شخصية الخطيب أو ولوعه بمن يحاكي ويقلد، ومن أضراره خروج الخطبة من كونها حقيقية إلى الصورية، فيصير الخطيب كأنه ممثل. وقد عاب المتقدمون الخطابة بخطب الغير، فكيف بمن يحاكي غيره من الخطباء. 10 - تتبع الغريب: من العيوب التي يقع فيها بعض الخطباء تتبع الغريب من الألفاظ، فإن هذا منافٍ للمقصود من الخطبة فإن مدارَ أمرِ الخطابة على البيان والتبيين وعلى الإفهام والتفهيم فكلما كان اللسان أبْيَنَ كان أحسن، ولا يعني هذا أن يستعمل الهجين العامي، والساقط السوقي، وإنما يستعمل ما يوصل إلى المطلوب، ويختار للمعاني الجليلة الألفاظ النبيلة. 11 ـ الجفاء والغلظة والقسوة على المخاطبين: وذلك بتوجيه الألفاظ النابية وأصناف الشتائم وألوان السباب إليهم وتنزيل نصوص الوعيد عليهم، واحتقارهم والتكبر والتعالي عليهم، وجرح مشاعرهم، من

ذلك مثلًا أن يقول: «إن أبناءكم قد بلغوا منتهى سوء التربية والخلق وإن أزواجكم قد خرجن عن حدود الأدب ... ». وينبغي له إذا اضطر إلى مثل هذا الكلام أن يدخل نفسه في جماعتهم، وأن يشعرهم بأنه فرد من أفرادهم، فيقول: «إن أبناءنا ... وإن نساءنا ... ». ومن مساوئ هذه الآفة أن يمقت الناسُ الخطيبَ فلا يُصغُون إلى كلامه ولا يستفيدون من وعظه، بالإضافة إلى ما يلزم من ذلك من تزكية الخطيب لنفسه وإعجابه بها، واغتراره وكبره. 12 ـ عدم الاعتناء بالهيئة: وهذا خلاف السنة فإذا كان من السنة لعموم الناس يوم الجمعة أن يغتسلوا وأن يتسوَّكوا وأن يتطيبّوا وأن يلبسوا من جميل الثياب، فكيف بالخطيب الذي ترمقه الأبصار وتتجه إليه الأنظار؟! وإن الخطيب إذا ابتذل في مظهره احتقره الناس، وربما أهانوه، وصُرفوا عن الاشتغال بالإنصات إليه إلى الاشتغال بالنظر إلى هيئته. وكما أن الابتذال في الهيئة عيب ومذموم فكذلك الاعتناء الزائد على المشروع والخارج عن العرف، والذي ينبغي للخطيب الاعتدال في ذلك وأن لا يخرج عن المعروف المألوف. 13 ـ الصوت النمطي المطرد على وتيرة واحدة: وذلك كأن يستوي عنده الاستفهام والتعجب والإنكار والإخبار والأمر وغير ذلك، ويستوي عنده أيضًا مقام الغضب ومقام الرضا، ومقام الفرح ومقام الحزن، ومن أسباب هذا العيب عدم تفاعله مع الموضوع أو عدم استيعابه له. ومن أضراره أنه يصعب بسببه فهم كلامه، ويبعث الملل في نفوس السامعين ويقذف فيهم النعاس، وتشرد أذهانهم لأنه ليس في طريقة الإلقاء ما يشدهم ويلفت انتباههم.

14 ـ مناقضةُ لسانِه لحالِه: وهذا من أعظم العيوب وأخطرها، وأشدها ضررًا على الخطيب وعلى الدعوة، وما أكثر الآيات والأحاديث التي تذم الذي يقول ما لا يفعل، وتبين ما له من الوعيد يوم القيامة. ثم إن ضررها على الدعوة محقق لأن الناس ينظرون إلى الأفعال أكثر من نظرهم إلى الأقوال. فإذا وجدوا تنافرًا بينهما كان ذلك فتنة لهم. 15 ـ النحنحة والسعلة: وهذه الآفة تكون عيبًا إذا تكرر صدورها من الخطيب؛ بحيث تقطع كلامه، وتقلل الفائدة من خطبته. 16 - التركيز على السلبيات عند المصلين وكثرة الحديث حولها: إن ترديد السلبيات وتكرارها يحطم جوانب الأمل لدى الفرد السامع حيث يتصور نفسه أنه كتلة من الأخطاء والعيوب والنقص، وقد تكون نظرته إلى الخطيب الذي يسمع خطبته نظرة غير مقبولة فينصرف عن سماع ما يقول ولا يحاول الاستفادة، ولقد جاءت النصوص الشرعية ناهية عن اليأس والقنوط والتيئيس والتقنيط وآمرة بالتيسير والتبشير. إن التنبيه على الأخطاء والعيوب مطلوب ولكن ليكن بطريقة لبقة لا سخرية فيها ولا استفزاز. 17 - الاقتصار على بعض الجوانب في الإسلام حيث يكون الخطيب ذا اهتمام بشيء معين مثلا بحيث يكثر الحديث حوله دائمًا. 18 - تجريح الناس وتفسيقهم ووصفهم بالخطأ: إن مما لا شك فيه أن النفوس تشمئز من النَّيْل من الأشخاص المعينين، وأن الولوغ في أعراض الناس أمر قبيح لا يقرّه من عنده دين أو خلق، وكان هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا رأى من أحد شيئًا يكره يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا». إن التلميح يغني عن التصريح وإن الإشارة تغني عن العبارة، وإن آداب الإسلام يجب أن يراعيها المسلمون لا سيما من يعلون المنابر فهم أولى بتطبيق تعاليم الشريعة.

عيوب نسبية

ثالثًا: عيوب نسبية قد يكون الخطيب متوفرًا فيه جميع شروط الخطابة وخاليًا من العيوب، وتكون خطبته بالغة الغاية في الجودة مبنى ومعنى، ولكن خطبته لا تناسب المكان الذي هو فيه، أو الزمان الذي هو فيه، أو الناس الذين يخطب فيهم، هذا ما نعني بالعيوب النسبية. وهذا يجعل الخطيب في واد والسامعين في وادٍ آخر. 1 ـ عدم مناسبة الخطبة للمخاطبين: وسبب هذا العيب في الغالب هو الجهل بواقع المخاطبين وأحوالهم ومستوياتهم وأعرافهم، فلا يراعي في خطبته المستوى العلمي واللغوي لدى المخاطبين، فيتناول موضوعًا يفوق أفهامهم، ويستعمل ألفاظًا لا يدركها أكثرهم، ولتحاشي هذه الآفة على الخطيب أن ينوع في استعمال المرادفات حتى يقع على اللفظ الذي يفهمه السامع ويصل به إلى المعنى الذي يريد أن يبلغه. 2 ـ عدم مناسبة الخطبة للمكان: وذلك كأن يتناول في قلب الصحراء موضوع المنكرات التي تحصل في شواطئ البحار، أو يتكلم عن أحكام زكاة الزروع في مكان ليس فيه زرع، أو غير ذلك، فعلى الخطيب أن يراعي المكان الذي هو فيه، وأن تكون خطبته مواتية للظرف الذي يخطب فيه. 3 ـ عدم مناسبة الخطبة للزمان: وذلك كأن يتبيِّن فضل الجهاد وبعض أحكامه في زمان فتنة، أو يتكلم عن فضل العشر الأواخر من رمضان في أشهر الحج، أو يتناول فضل الحج في شهر رمضان، أو غير ذلك من نظائرها مما يقع فيه الخطباء كعدم مراعاة الأحداث، والمناسبات الشرعية ذات الشأن.

أدعية

أدعية * رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. * رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. * رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا؛ أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. * رَبَّنَا إِنَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. * رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالمينَ. * رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا. * رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ؛ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا. * رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ، وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا. * رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. * رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا؛ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. * اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنَا وَبَيْنَ خَطَايَانَا كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المشْرِقِ وَالمغْرِبِ، اللَّهُمَّ نَقِّنَا مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ خَطَايَانَا بِالماءِ وَالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ. * اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ مَوْتَنَا فِي بَلَدِ رَسُولِكَ - صلى الله عليه وآله وسلم -.

* اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْنِ، ونَعُوذُ بِكَ أَنْ نُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. * اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَال. * اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. * رَبِّنا اغْفِرْ لَنَا خَطِيئَاتِنَا، وَجَهْلَنَا، وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا كُلِّهِ، وَمَا أَنْتَ أَعْلم بِهِ مِنَّا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا خَطَايَانا، وَعَمْدَنا وَجَهْلَنا، وَهَزْلَنا، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِنا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا مَا قَدَّمْنا، وَمَا أَخَّرنا، وَمَا أَسْرَرْنا وَمَا أَعْلَنَّا، أَنْتَ المقَدِّمُ وَأَنْتَ المؤَخِّرُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. * اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا. * اللَّهُمَّ نَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ وَنَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا نُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ. * اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ المحْيَا وَالممَاتِ. * اللَّهُمَّ إِنّا نعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ، ونَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ المحْيَا وَالممَاتِ. *اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِيننا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنا، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الموْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. * اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى. * اللَّهُمَّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَالْهَرَمِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْوسنا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا، اللَّهُمَّ إِنا نعُوذُ بِكَ مِنْ عِلم لَا يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا.

* اللَّهُمَّ إِنّا نعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ. * اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ؛ اهْدِنا لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ؛ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. *اللهم ثبِّتنا على الإيمان والعمل الصالح وأحْيِنا حياةً طيبة وألحِقْنا بالصالحين. * ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وأغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين. *اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم انصر عبادك الموحدين. * اللهم مَن أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل الدائرة عليه، واجعل كيده في نحره، وزلزل الأرض من تحت قدميه. اللهم لا ترفع له راية واجعله لمن خلفه آية يا قوي يا جبار. * اللهم برحمتك اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالثلج والماء والبرد. * اللهم ارحمنا برحمتك إذا ما صرنا إلى ما صاروا إليه، اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعث والنشور. * اللهم إنا نسألك بأنَّا نشهد أن لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، نسألك بكل اسم هو لك، ونسألك باسمك الأعظم الذي إذا سُئلت به أعطيتَ، وإذا دُعيت به أجبتَ، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تدمر أعداء الدين، وأن تنصر المجاهدين، وأن تصلح من في صلاحه صلاح الإسلام والمسلمين، وأن تهلك من في هلاكه صلاح للإسلام والمسلمين. * اللهم ثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

* اللهم إنا نسألك أن تجعل قلوبنا عامرةً بذكرك، وأن تطهر قلوبنا من الشرك والنفاق، وأن تطهر ألسنتنا من الكذب. * اللهم إنا نسألك أن تجعلنا إخوةً متحابين في سبيلك، قائمين بحقوقك، عاملين بدينك. * اللهم ارفع راية الدين، واقمع أهل النفاق والشرك يا رب العالمين. * اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا شر ما قضيت. * اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها أولها وآخرها، ما علمنا منها وما لم نعلم. اللهم ارحم موتانا، واهد ضالنا، ورد غائبنا، واشف مرضانا، واقض عنا ديننا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا. * اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، واجعلنا هداةً مهتدين. * اللهم عليك بالمنافقين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم اهتك سترهم، وافضح سرهم، وأبطل كيدهم، وفرق كلمتهم، اللهم لا تحقق لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية، اللهم اكبتهم واخذلهم، واجعل كيدهم في نحورهم، وقِ المسلمين شرورهم. * اللهم إنا نسألك نصرًا مؤزرًا للإسلام والمسلمين. * اللهم انصر إخواننا المسلمين المجاهدين في فلسطين وأفغانستان والعراق والشيشان، وانصر سائر المجاهدين الذين يجاهدون لإعلاء كلمتك يا أرحم الراحمين. اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم وسدد آراءهم. * اللهم وفق المسلمين للحكم بكتابك وبسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. * اللهم إنا نسألك الهداية إلى طريقك المستقيم. اللهم إنا نسألك الثبات على الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين،

ونعوذ بك من طريق أهل الجحيم، من طريق المغضوب عليهم ـ اليهود ـ وطريق الضالين ـ النصارى ـ. *اللهم إنا نسألك أن تثبت قلوبنا على دينك. اللهم ثبتنا على الإسلام، وزدنا من الإيمان، وانصرنا على الشيطان وعلى أعوان الشيطان، واجعل لنا من لدنك سلطانًا نصيرًا. * اللهم إنا نسألك العافية والمعافاة في ديننا ودنيانا. * اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض، نسألك أن تهيِّء لهذه الأمة أمر رشد، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه راية الجهاد. * اللهم أيقِظ قلوبنا من الغفلات، وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونقِّ سرائرنا من الشرور والبليات. * اللهم اختم بالصالحات أعمالنا، وثبتنا على الصراط المستقيم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم اجعلنا من المتقين الذاكرين الذين إذا أساؤوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا. *اللهم مجري السحاب ومنزل الكتاب وهازم الأحزاب، اهزم اليهود وأعوانهم من الكفار وانصرنا عليهم، اللهم خالف بين كلمتهم واجعل تدميرهم في تدبيرهم. * اللهم أمِتْنا على الإسلام والسُنَّة. * اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين. * اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، لا إله إلا أنت، رب كل شيء ومليكه، نعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن شر الشيطان وشركه، وأن نقترف على أنفسنا سوءًا، أو نجرّه إلى مسلم. * اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين.

موضوعات عامة

موضوعات عامة 1 - الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - • الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من أعظم العبادات: إن أعظم النعم التي تفضل الله بها علينا أنْ جعلنا من أمة الإسلام، ومن أمة هذه الحبيب - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو - صلى الله عليه وآله وسلم - البشير النذير، والسراج المنير، والرءوف الرحيم بأمته، العطوف بهم، الحريص عليهم. والحديث عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - مفتاح القلوب وبهجة النفوس، وأسعدُ الناس من يُوَفَّق في عبادته لله بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنها من أجَلّ العبادات التي يتقرب بها العبد إلى مولاه - عز وجل -، وينال بها مناه في الدنيا والآخرة. وإن أولى الناس بشفاعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة أكثرهم صلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعملًا بشريعته، وتمسكًا بسنته - صلى الله عليه وآله وسلم -. والمُكْثِرُ من الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يضرب البرهان الساطع والدليل القاطع على محبته لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يبشره بأنه مع من أحب. فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحبَّ قومًا، ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». (رواه البخاري ومسلم).

• أَمْرُ الله - عز وجل - بالصلاة والسلام على نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم -: قال الله - عز وجل -: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56). قال أبو العالية: صلاة الله: ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاة الملائكة: الدعاء. وقال ابن عباس: يصلون: يبرِّكون. (رواه البخاري) يُبَرِّكُونَ عَلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أَيْ يَدْعُونَ لَهُ بِالْبَرَكَةِ. وقال الإمام الترمذي - رحمه الله -:ورُوِيَ عن سفيان الثوري وغير واحد من أهل العلم قالوا: صلاة الرب: الرحمة، وصلاة الملائكة: الاستغفار. والمقصود من هذه الآية: أن الله سبحانه أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين، وأن الملائكة تصلي عليه. ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين العلوي والسفلي جميعًا. فإذا كان مولانا - سبحانه وتعالى - في عظمته وكبريائه، وملائكته في أرضه وسمائه يُصَلّون على النبي الأمي - صلى الله عليه وآله وسلم - إجلالًا لقَدْره، وتعظيمًا لشأنه، وإظهارًا لفضله، وإشارة إلى قُربه من ربه، فما أحرانا نحن المؤمنين أن نُكثِر من الصلاة والسلام عليه امتثالًا لأمر الله - سبحانه وتعالى -، وقضاءً لبعض حقه - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فقد أخرجَنا الله - عز وجل - به من الظلمات إلى النور، وهدانا به إلى الصراط المستقيم، وجعلَنا به من خير الأمم، وفضَّلنا به على سائر الناس أجمعين، وكتب لنا به الرحمة التي وسعت كل شيء. قال - عز وجل -: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} (الأعراف:156 - 157). فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، والحمد لله أن جعلنا من أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. فالحمدُ للهِ مولانا ونسألُهُ ... غُفْرَانَ ما قَلَّ مِنْ ذَنْبٍ ومَا كَثُرَا ثم الصلاةُ على مَن عَمَّ بعثتُه ... فأنذرَ الثقلَيْنِ الجِنَّ والبَشرَا

محمدٍ خيرِ كلِّ العالمينَ بهِ ... خَتْمُ النبيِّينَ والرُّسْلِ الكرامِ جَرَا والآلِ والصَّحْبِِ ما ناحَتْ على فَنَنٍ ... ورْقَا وما غَرَّدَتْ قُمْرِيَّةٌ سَحَرَا (الفَنَنُ: الغُصْنُ، والوَرْقاءُ: الحَمامةُ، والقُمْرِيَّةُ: نوع من الحَمَام. والسَّحَرُ: قُبَيْلَ الصُّبْحِ). • حُكم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: في مدى مشروعيّة هذه الصلاة أقوال: أحدها: تجب في العمر مرة، في الصلاة أو في غيرها، ككلمة التوحيد؛ لأن الأمر مطلق لا يقتضي تكرارًا. والماهية تحصل بمرة. قال القاضي عياض وابن عبد البر: وهو قول جمهور الأمة. والثاني: أنه يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد. والثالث: تجب كلما ذُكر. والرابع: تجب في كل صلاة في تشهدها الأخير. والخامس: إنها مستحَبّة وليست واجبة. وهناك أقوال غيرها. • من مواطن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: 1 - في الصلاة في آخر التشهد: وقد أجمع المسلمون على مشروعية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الموضع واختلفوا في وجوبها فيه. وقد استدل من قال بوجوب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأن رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - سَمِعَ رَجُلًا يَدْعُو فِي صَلَاتِهِ لَمْ يُمَجِّدْ اللهَ تَعَالَى وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَجِلَ هَذَا» ثُمَّ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ ـ وَالثّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ». (صحيح رواه أبو داود).

وسمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلا يصلي فمجَّد الله وحمِدَه وصلى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ادْعُ تُجَبْ، وسَلْ تُعْطَ» (رواه النسائي بسند صحيح) 2 - في صلاة الجنازة بعد التكبيرة الثانية: لحديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه أخبره رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أن السُّنَّة في الصَّلَاةِ علَى الجنَازةِ أنْ يُكَبِّر الإمَامُ، ثُمَّ يَقْرَأَ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبيرة الأولَى سِرًّا في نفْسِه، ثم يُصَلِّي على النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ... » (صحيح رواه النسائي وغيره) 3 - يوم الجمعة: فعَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ؛ فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، وَكَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ ـ يَقُولُونَ: بَلِيتَ ـ فَقَالَ: «إِنَّ الله - عز وجل - حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ» (صحيح رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه). (فِيهِ النَّفْخَة):أَيْ النَّفْخَة الثَّانِيَة الَّتِي تُوصِل الْأَبْرَار إِلَى النِّعَم الْبَاقِيَة. (وَفِيهِ الصَّعْقَة):أَيْ الصَّيْحَة وَالْمُرَاد بِهَا الصَّوْت الْهَائِل الَّذِي يَمُوت الْإِنْسَان مِنْ هَوْله وَهِيَ النَّفْخَة الْأُولَى. (فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنْ الصَّلَاة فِيهِ):أَيْ فِي يَوْم الْجُمُعَة لِكَوْنِ إشْغَال الْوَقْت الْأَفْضَل بِالْعَمَلِ الْأَفْضَل هُوَ الْأَكْمَل وَالْأَجْمَل وَلِكَوْنِهِ سَيِّد الْأَيَّام فَيُصْرَف فِي الصلاة على سَيِّد الْأَنَام - صلى الله عليه وآله وسلم -. (فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَة عَلَيَّ) أَيْ هِيَ مَعْرُوضَة عَلَىَّ كَعَرْضِ الْهَدَايَا عَلَى مَنْ أهْدِيَتْ إِلَيْهِ؛ فَهِيَ مِنْ الْأَعْمَال الْفَاضِلَة وَمُقَرِّبَة لَكُمْ إِلَيَّ كَمَا تُقَرِّبُ الْهَدِيَّة الْمُهْدِي إِلَى الْمُهْدَى إِلَيْهِ. (قَالَ):أَيْ أَوْس الرَّاوِي (يَقُولُونَ):أَيْ الصَّحَابَة.

(حَرَّمَ عَلَى الْأَرْض أَجْسَاد الْأَنْبِيَاء):أَيْ مَنَعَهَا مِنْ أَنْ تَأْكُلهَا فَإِنَّ الْأَنْبِيَاء فِي قُبُورهمْ أَحْيَاء. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الأنْبِيَاءُ أحْيَاءٌ في قُبُورِهِمْ يُصَلّونَ». (صحيح رواه أبو يعلى والبزار). والحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء - عليهم السلام - إنما هي حياة برزخية، ليست من حياة الدنيا في شيء، ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا. هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الأمر: الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادعاء أن حياته - صلى الله عليه وآله وسلم - في قبره حياة حقيقية!! فقالوا: إنه يأكل ويشرب ويجامع نساءه!!! ويستقبل الزائرين ويصافحهم!!! ونحو ذلك. فحياة الأنبياء في قبورهم إنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله - سبحانه وتعالى -. وقد قال الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر:30)، وقال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}. (الأنبياء:34) مع يقيننا الصادق أن روحه - صلى الله عليه وآله وسلم - في أعلى الجنان، وأن الله حرَّم على الأرض أجساد الأنبياء، وأن الحياة البرزخية تختلف عن الحياة الدنيا وعن الحياة الآخرة. فإن بين الأحياء والأموات حاجزًا يمنع الاتصال فيما بينهم قطعيًا؛ وعلى هذا فيستحيل الاتصال بينهم لا ذاتًا ولا صفات. والله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون:100) والبرزخ معناه: الحاجز الذي يحول دون اتصال هؤلاء بهؤلاء. 4 - بعد سماع الأذان: فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ؛ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا الله لِي الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا

لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ الله، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ؛ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ» (رواه مسلم). (الْوَسِيلَة) قَدْ فَسَّرَهَا - صلى الله عليه وآله وسلم - بِأَنَّهَا مَنْزِلَة فِي الْجَنَّة. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَة) أَيْ وَجَبَتْ، وَقِيلَ: نَالَتْهُ. تنبيه: هذا أمر من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالصلاة عليه بعد الأذان، وهذا عام يشمل المؤذن وغيره؛ قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - «إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ» وكلمة (ثم) فيها دليل على أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليست من ألفاظ الأذان؛ لأن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تكون بعد ترديد ما يقوله المؤذن، فدل ذلك على أن المؤذن لا يرفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد الأذان. فهل كان بلال أو ابن أم مكتوم وكل من أذَّن للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم - يفعلون ما يفعله بعض المؤذنين في هذا الزمان مِن رفع الصوت بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد الأذان؟ وهل فُعِل ذلك في عهد الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - الذين أُمِرْنا بالاقتداء بسنتهم وكذلك في عهد الأئمة الأربعة وأتباع التابعين أو أحد القرون الثلاثة المفضَّلة؟ اللهم لا. ومن قال بخلاف هذا فقد افترى على الإسلام ودعاته الأوائل. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» (متفق عليه).وكل بدعة في الدين ضلالة في النار. فكل ما لم يَرِدْ فِعْلُه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا خلفائه الراشدين فهو مردود على صاحبه كائنًا من كان. ولا توجد بدعة حسنة وأخرى سيئة في الإسلام. فالجهر بالصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عقب الأذان غير مشروع. قال ابن حجر في (الفتاوى الكبرى): «الأصل سنة والكيفية بدعة». وكذلك قول المؤذن حين الأذان أو الإقامة: أشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله. قال الحافظ ابن حجر: «إنه لا يزاد ذلك في الكلمات المأثورة».

قال الشيخ سيد سابق في (فقه السنة): «الأذان عبادة ومدار الأمر في العبادات على الاتباع فلا يجوز لنا أن نزيد شيئا أو ننقص شيئًا في ديننا. وفي الحديث الصحيح: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» أي باطل». 5 - في كل مجلس: فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللهَ فِيهِ وَلَمْ يُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلَّا كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً؛ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ» (صحيح رواه الترمذي). (إِلَّا كَانَ) أَيْ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ. (عَلَيْهِمْ تِرَةً) أَيْ تَبِعَةً وَمُعَاتَبَةً، أَوْ: نُقْصَانًا وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً. (فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُمْ) أَيْ بِذُنُوبِهِمْ السَّابِقَةِ وَتَقْصِيرَاتِهِمْ اللَّاحِقَةِ. (وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُمْ) أَيْ فَضْلًا مِنْهُ وَرَحْمَةً. 6 - عند ذِكْرِه - صلى الله عليه وآله وسلم -:فعن الحسين بن علي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «البَخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلّ عَلَيَّ» (صحيح رواه النسائي وابن حبان والحاكم). وقد اختلف العلماء في وجوبها كلما ذكر اسمه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال أبو جعفر الطحاوي، وأبو عبيد الله الحليمي: تجب الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - كلما ذكر اسمه. وقال غيرهما: إن ذلك مستحب، وليس بفرض يأثم تاركه. 7 - عند دخول المسجد والخروج منه: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثُمَّ لْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، فَإِذَا خَرَجَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ». (صحيح رواه أبو داود) وعَنْ فَاطِمَةَ - رضي الله عنها - ـ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ: «بِسْمِ اللهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ الله، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ». وَإِذَا خَرَجَ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ الله، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ» (صحيح رواه ابن ماجه)

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -.وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَإِذَا خَرَجَ فَلْيُسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» (صحيح رواه ابن ماجه). 8 - عند الدعاء: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلَّى على النَّبِي - صلى الله عليه وآله وسلم -» (حسنه الألباني في صحيح الجامع). وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سدد خطاكم قَالَ: «إِنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يَصْعَدُ مِنْهُ شَيْءٌ حَتَّى تُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّكَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). وعن عبد الله بن أبي بكر قال: كنا بالخيف ومعنا عبد الله ابن أبي عتبة: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ودعا بدعوات ثم قام فصلى بنا» (صحيح رواه الجهضمي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -) 9 - في القنوت: عن قتادة عن عبد الله بن الحارث: أن أبا حليمة معاذ - رضي الله عنه - كان يصلي على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في القنوت» (صحيح رواه الجهضمي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -). 10 - في الصباح والمساء: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ حِينَ يُصْبِحُ عَشْرًا، وحِينَ يُمْسِي عَشْرًا أَدْرَكَتْهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَة». (حسن رواه الطبراني) صلى الإلهُ على النبيِّ محمدٍ ... ما ناح قُمْرِيٌّ على الأغصانِ وعلى جميعِ بناتِه ونسائِهِ ... وعلى جميعِ الصحبِ والإخوانِ

2 - التحذير من ترك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

2 - التحذير من ترك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صعد المنبر فقال: «آمِين، آمِين، آمِين». قيل: يا رسول الله، إنك صَعَدتَ المنبر فقلتَ: آمين، آمين، آمين؟ فقال: «إنَّ جبريل - عليه السلام - أتاني فقال: مَنْ أدْرَكَ شَهْرَ رمَضَانَ فَلَمْ يُغفَر له فدخلَ النارَ فأَبْعَدهُ الله، قُلْ: آمِين، فقلتُ: آمِين. ومَن أَدْرَكَ أبَويْه أو أحدَهُما فلم يبرّهُما فمات، فدخلَ النارَ فأَبْعَدهُ الله، قُلْ: آمِين، فقلتُ: آمِين. ومن ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فلم يُصَلّ عليكَ فماتَ، فدخلَ النارَ فأَبْعَدهُ الله، قُلْ: آمِين، فقلتُ: آمِين». (حسن صحيح رواه ابن حبان). وتأمل: جبريل - عليه السلام - يدعو ونبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: آمين؛ فاحذر أخي المسلم. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ» (حسن صحيح رواه الترمذي). وعن حسين بن علي - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من ذُكِرْتُ عنده فخَطِىءَ الصلاةَ عليَّ، خَطِىءَ طريقَ الجنّة» (صحيح رواه الطبراني). وعن حسين - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «البخيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلّ عَلَيَّ» (صحيح رواه النسائي وابن حبان). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: «خرجت ذات يوم فأَتَيتْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ألَا أخْبِرُكُمْ بِأَبْخَلِ النَّاسِ؟» قالوا: «بلى يا رسول الله».قال: «مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلّ عَلَيَّ فَذّلِكَ أبخَلُ النَّاسِ» (صحيح رواه ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة). صَلّى عليكَ إلهُ العرشِ خالقُنا ... في الليلِ والصبحِ والأبكارِ والأُصُلِ واخصُصْ أبا بكرٍ ثم الحِقْ به عمرًا ... كذلك عثمانَ ذي النورَيْنِ ثم علِي ...

والآلِ والصحبِ والأتباعِ أجمعِهِم ... أولي النُّهى والفخَارِ السادة ِالنُجُلِ والسابقينَ إلى الإسلامِ قاطِبَةً ... والتابعينَ بإحسانٍ وكلّ ولِى (الأصيل):الوقت حين تصفر الشمس لمغربها. (الناجل):كريم النسل. • الفوائد والثمرات الحاصلة بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: قد جاءت الأحاديث مستفيضة توضح فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتبين مكانة المكثر من الصلاة عليه، فمن ثمرات الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: 1 - امتثال أمر الله - عز وجل - وموافقته - سبحانه وتعالى - في الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -: وإن اختلفت الصلاتان: فصلاتنا عليه دعاء وسؤال، وصلاة الله تعالى عليه ثناء وتشريف. وأيضًا موافقة الملائكة فيها؛ قال الله - عز وجل -: {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56). 2 - حصول عشر صلوات من الله - عز وجل - ومن الملائكة على المصلي بالصلاة مرة واحدة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولم تزل الملائكة تصلي عليه ما صلى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» (رواه مسلم). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالْبُشْرَى فِي وَجْهِهِ فَقُلْنَا: إِنَّا لَنَرَى الْبُشْرَى فِي وَجْهِكَ؟ فَقَالَ: «إِنَّهُ أَتَانِي الْمَلَكُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: أَمَا يُرْضِيكَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْكَ أَحَدٌ إِلَّا صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْكَ أَحَدٌ إِلَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا». (صحيح رواه النسائي وغيره). وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَاتَّبَعْتُهُ حَتَّى دَخَلَ نَخْلًا فَسَجَدَ فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى خِفْتُ أَوْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ اللهُ قَدْ تَوَفَّاهُ أَوْ قَبَضَهُ، فَجِئْتُ أَنْظُرُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «مَا لَكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ؟» فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ؛ قَالَ لِي أَلَا أُبَشِّرُكَ؟ إِنَّ اللهَ - عز وجل - يَقُولُ لَكَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ، وَمَنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ؛ فسَجَدْتُ للهِ شُكْرًا». (حسن رواه أحمد والحاكم).

وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَكْثِرُوا الصَّلَاةَ عَليَّ يَوْمَ الْجُمُعَة؛ فَإِنَّهُ أتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا عَنْ رَبِّهِ - عز وجل - فَقَالَ: «مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيْكَ مَرَّةً وَاحِدَةً إلّا صَلَّيْتُ أنَا وَمَلَائِكَتِي عَلَيْهِ عَشْرًا» (حسن رواه الطبراني). وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا صَلَّتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ مَا صَلَّى عَلَيَّ؛ فَلْيُقِلَّ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لِيُكْثِرْ». (حسن رواه ابن ماجه). 3 - مَن صلّى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاة كتب الله له بها عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات: عَنْ أَبِي طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَصْبَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا طَيِّبَ النَّفْسِ يُرَى فِي وَجْهِهِ الْبِشْرُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله، أَصْبَحْتَ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ يُرَى فِي وَجْهِكَ الْبِشْرُ؟». قَالَ: «أَجَلْ أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي - عز وجل - فَقَالَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْكَ مِنْ أُمَّتِكَ صَلَاةً كَتَبَ اللهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ، وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهَا». (صحيح رواه أحمد والنسائي). 4 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لعرض اسم المصلي على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكفى بالمرء نُبلًا أن يُذكر اسمه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِنَّ للهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» (صحيح رواه النسائي وابن حبان). وعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُنِي». (صحيح رواه الطبراني). 5 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لرد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الصلاة والسلام على المصلي والمُسَلّم عليه: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» (حسن رواه أحمد وأبو داود).

6 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لزيادة محبته - صلى الله عليه وآله وسلم - والقرب منه: فعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِي كُلّ يَوْمِ جُمُعَةٍ؛ فَإِنَّ صَلَاةَ أمَّتِي تُعْرَضُ عَلَيَّ فِي كُلّ يَوْمِ جُمُعَةٍ؛ فَمَنْ كَانَ أكْثَرَهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً كَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنِّي مَنْزِلَةً» (حسن رواه البيهقي). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً». (حسن رواه الترمذي). (أَوْلَى النَّاسِ بِي) أَيْ أَقْرَبُهُمْ بِي أَوْ أَحَقّهُمْ بِشَفَاعَتِي. (أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاةً) لِأَنَّ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ مُنْبِئَةٌ عَنْ التَّعْظِيمِ الْمُقْتَضِي لِلْمُتَابَعَةِ النَّاشِئَةِ عَنْ الْمَحَبَّةِ الْكَامِلَةِ الْمُرَتَّبَةِ عَلَيْهَا مَحَبَّةُ الله تَعَالَى؛ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران:31). 7 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لغفران الذنوب وسبب لكفاية العبد ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة: فعن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رضي الله عنه - قال: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللهَ، اذْكُرُوا اللهَ، جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟ فَقَالَ: «مَا شِئْتَ». قُلْتُ: الرُّبُعَ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ: النِّصْفَ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ».

قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ». (حسن صحيح رواه والترمذي) قول أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رضي الله عنه -: «أكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟» معناه: إني مَعْنَاهُ أُكْثِرُ الدُّعَاءَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ دُعَائِي صَلَاةً عَلَيْك. (قُلْتُ أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا) أَيْ أَصْرِفُ بِصَلَاتِي عَلَيْك جَمِيعَ الزَّمَنِ الَّذِي كُنْت أَدْعُو فِيهِ لِنَفْسِي. (قَالَ إِذًا تُكْفَى هَمَّك) الْهَمُّ مَا يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَعْنِي إِذَا صَرَفْت جَمِيعَ أَزْمَانِ دُعَائِك فِي الصَّلَاةِ عَلَيَّ أُعْطِيتَ مَرَامَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في (جلاء الأفهام): «وسُئِل شيخنا أبو العباس (ابن تيمية)، عن تفسير هذا الحديث فقال: كان لأبَيِّ ابْنِ كَعْبٍ دعاءٌ يدعو به لنفسه، فسأل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -:هل يجعل له منه ربعه صلاةً عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فقال: إن زِدتَ فهو خير لك. فقال له: النصف؟ فقال: إن زدت فهو خير، إلى أن قَالَ: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ»؛ لأن من صلى على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا، ومن صلى الله عليه كفاه همه وغفر له ذنبه، هذا معنى كلامه - رضي الله عنه -».اهـ. وفي رواية للإمام أحمد (إسنادها جيد) عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْكَ؟ قَالَ: «إِذَنْ يَكْفِيَكَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ـ مَا أَهَمَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ». 8 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لنَيْل شفاعته - صلى الله عليه وآله وسلم -: فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ أوْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَقَّتْ عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه الجهضمي في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وصححه الألباني). 9 - يُرجَى إجابة الدعاء إذا قدَّم الداعي الصلاةَ على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمامه: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -». (حسنه الألباني في صحيح الجامع). قال المناوي: (كلُّ دعاءٌ محجوبٌ) أي محجوب عن القبول (حتى يُصَلَّي) أي حتى يُصَلِّي الداعي (على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -) يعني أنه لا يرفع إلى الله حتى يستصحب الرافع معه الصلاة عليه؛ إذ هي الوسيلة إلى الإجابة». 10 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لطِيبِ المجلس، وأن لا يعود حسرة على أهله يوم القيامة. وتنجي من نتن المجلس الذي لا يذكر فيه الله ويحمد ويثنى عليه فيه، ويصلى على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. 11 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تنفي عن العبد اسم البخل إذا صلى عليه عند ذكره - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويخرج بها العبد عن الجفاء. 12 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ترمي صاحبها على طريق الجنة، وتخطئ بتاركها عن طريقها. 13 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لإبقاء الله سبحانه الثناء الحسن للمصلي عليه بين أهل السماء والأرض: لأن المصَلِّي طالبٌ من الله أن يثني على رسوله ويكرمه ويشرفه، والجزاء من جنس العمل، فلا بد أن يحصل للمصلي نوع من ذلك. 14 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره، وأسباب مصالحه: لأن المصلي داعٍ ربه أن يبارك علي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنسه. 15 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لنَيْل رحمة الله - عز وجل - للمصلي؛ لأن الرحمة ـ كما قال ابن القيم - رحمه الله - ـ إما بمعنى الصلاة كما قاله طائفة، وإما من لوازمها وموجباتها على القول الصحيح، فلا بد للمصلي عليه من رحمة تناله. 16 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لدوام محبته للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وزيادتها وتضاعفها: وذلك عقد من عقود الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأن العبد كلما أكثر من ذكر

المحبوب، واستحضاره في قلبه، واستحضار محاسنه ومعانيه الجالبة لحبه، تضاعف حبه له وتزايد شوقه إليه، واستولى على جميع قلبه. وإذا أعرض عن ذكره وإحضار محاسنه بقلبه، نقص حبه من قلبه، ولا شيء أقَرَّ لعين المحب من رؤية محبوبه، ولا أقر لقلبه من ذكره وذكر محاسنه، وتكون زيادة ذلك ونقصانه بحسب زيادة الحب ونقصانه في قلبه، والحس شاهد بذلك. 17 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لمحبته للعبد: فإنها إذا كانت سببًا لزيادة محبة المصَلِّى عليه له، فكذلك هي سبب لمحبته هو - صلى الله عليه وآله وسلم - للمصَلِّي عليه. 18 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لهداية العبد وحياة قلبه: فإنه كلما أكثر الصلاة عليه وذكره، استولت محبته على قلبه، حتى لا يبقى في قلبه معارضةٌ لشيء من أوامره، ولا شكٌ في شيءٍ مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوبًا مسطورًا في قلبه، لا يزال يقرؤه على تعاقب أحواله، ويقتبس الهدى والفلاح وأنواع العلوم منه، وكلما ازداد في ذلك بصيرةً وقوةً ومعرفةً، ازدادَتْ صلاتُه عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -. 19 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أداء لأقل القليل من حقه - صلى الله عليه وآله وسلم -. 20 - الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - متضمنة لذكر الله - عز وجل - وشكره، ومعرفة إنعامه على عبيده بإرساله: فالمصَلِّي عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - قد تضمنتْ صلاتُه عليه ذكر الله وذكر رسوله، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهله، كما عرفنا ربنا وأسماءه وصفاته، وهدانا إلى طريق مرضاته، وعرفنا ما لنا بعد الوصول إليه، والقدوم عليه. فهي متضمنة لكل الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرب المدعو وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وصفاته وكلامه، وإرسال رسوله، وتصديقه في أخباره كلها، وكمال محبته، ولا ريب أن هذه هي أصول الإيمان، فالصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - متضمنة لعلم العبد ذلك، وتصديقه به، ومحبته له فكانت من أفضل الأعمال.

3 - كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومعناها

3 - كيفية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومعناها هذه الصلاة تؤدَّى بأية صيغة كانت، وأفضلها ـ كما قال كثير من العلماء ـ هي الصلاة الإبراهيميّة التي تُقال بعد التشهد الأخير في الصلاة؛ لأن الأحاديث الصحيحة وردت في أنها هي التي علَّمها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأصحابه. • بعض الأحاديث الواردة في كيفية الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -: 1 - عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه مسلم). ورواه الترمذي ولفظه: ... قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (صحيح). 2 - عن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ - رضي الله عنه - أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه البخاري). 3 - عن عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلَا أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي. فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ فَإِنَّ اللهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى

آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». (رواه البخاري). قَوْلهم: (كَيْف نُسَلِّم عَلَيْك) قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فِيهِ إِشَارَة إِلَى السَّلَام الَّذِي فِي التَّشَهُّد وَهُوَ قَوْل: «السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللهِ وَبَرَكَاته»؛ فَيَكُون الْمُرَاد بِقَوْلِهِمْ: «َكَيْف نُصَلِّي عَلَيْك» أَيْ بَعْد التَّشَهُّد. 4 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله، هَذَا التَّسْلِيمُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ. وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» (رواه البخاري). 5 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ» (رواه البخاري). 6 - عن أبي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟ قَالَ: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه البخاري ومسلم). • وقد ذكر الشيخ الألباني - رحمه الله - ما ثبت من صيغ الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وذلك في كتابه (صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -): 1 - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ بَيْتِهِ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه أحمد والطحاوي بسند صحيح). قال الشيخ الألباني: وهذا كان يدعو به هو نفسه - صلى الله عليه وآله وسلم -. 2 - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ. اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه البخاري ومسلم). 3 - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه أحمد والنسائي وأبو يعلى). 4 - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه مسلم وأبو عوانة). 5 - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى ِإبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ» (رواه البخاري والنسائي والطحاوي وأحمد) 6 - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه البخاري ومسلم). 7 - «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه النسائي والطحاوي). • حكم كتابة (ص) و (صلعم) إذا ذُكِرَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، بدلًا من كتابتها كاملة: الذي ينبغي أن نعمله هو أن نصلي عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - لفظًا كاملًا ونكتب ذلك كاملًا. قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: « ... وبما أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مشروعة في الصلوات في التشهد، ومشروعة في الخطب والأدعية والاستغفار، وبعد الأذان، وعند دخول المسجد، والخروج منه، وعند ذكره، وفي مواضع أخرى، فهي تتأكد عند كتابة اسمه في كتاب، أو مؤلَّف، أو رسالة، أو مقال، أو نحو ذلك.

والمشروع أن تكتب كاملةً تحقيقًا لما أمرنا الله تعالى به، ولِيَتَذَكّرها القارئ عند مروره عليها، ولا ينبغي عند الكتابة الاقتصار في الصلاة على رسول الله على كلمة (ص) أو (صلعم) وما أشبهها من الرموز التي قد يستعملها بعض الكتبة والمؤلفين؛ لما في ذلك من مخالفة أمر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز بقوله: {صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (الأحزاب:56). مع أنه لا يتم بها المقصود وتنعدم الأفضلية الموجودة في كتابة (صلى الله عليه وسلم) كاملة. وقد لا ينتبه لها القارئ أو لا يفهم المراد بها، علمًا بأن الرمز لها قد كرهه أهل العلم وحذروا منه». (مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (2/ 397 - 399). • معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: معنى (اللهم):لا خلاف أن لفظة (اللهم) معناها: يا الله؛ ولهذا لا تستعمل إلا في الطلب، فلا يقال: اللهم غفور رحيم؛ بل يقال: اللهم اغفر لي وارحمني. معنى الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -:مَعْنَى صَلَاة اللهِ عَلَى نَبِيّه: ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ وَتَعْظِيمه. وَصَلَاة الْمَلَائِكَة وَغَيْرهمْ عَلَيْهِ: طَلَب ذَلِكَ لَهُ مِنْ اللهِ تَعَالَى، وَالْمُرَاد طَلَب الزِّيَادَة لَا طَلَب أَصْل الصَّلَاة. وَقِيلَ: صَلَاة اللهِ عَلَى خَلْقه تَكُون خَاصَّة وَتَكُون عَامَّة فَصَلَاتُه عَلَى أَنْبِيَائِهِ: هِيَ الثَّنَاء وَالتَّعْظِيم. وَصَلَاتُه عَلَى غَيْرهمْ: الرَّحْمَة؛ فَهِيَ الَّتِي وَسِعَتْ كُلّ شَيْء. معنى (آل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -):ذكر الإمام ابن القيم في (جلاء الأفهام) أن الناس اختلفوا في آل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على أربعة أقوال: القول الأول: هم الذين حرمت عليهم الصدقة، وفيهم ثلاثة أقوال للعلماء: 1 - أنهم بنو هاشم، وبنو المطلب. 2 - أنهم بنو هاشم خاصة. 3 - أنهم بنو هاشم ومَن فوقَهم إلى بني غالب.

القول الثاني: أن آل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هم ذريته وأزواجه خاصة. القول الثالث: أن آله - صلى الله عليه وآله وسلم - أتباعه إلى يوم القيامة. القول الرابع: أن آله - صلى الله عليه وآله وسلم - هم الأتقياء من أمته. ثم ذكر حجج هذه الأقوال، ثم قال: «والصحيح القول الأول ويليه القول الثاني. وأما الثالث والرابع فضعيفان». • معنى اسم النبي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - واشتقاقه: هذا الاسم هو أشهر أسمائه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو في الأصل اسم مفعول من الحمد، وهو يتضمن الثناء على المحمود ومحبته وإجلاله وتعظيمه. هذا هو حقيقة الحمد وبُني على زنة مُفَعَّل مثل مُعَظَّم، ومُحَبَّب، ومبجَّل، ونظائرها؛ لأن هذا البناء موضوع للتكثير. فإن اشتق منه اسم فاعل، فمعناه من كثر صدور الفعل منه مرة بعد مرة، كمعلِّم، ومفهِّم، ومبيِّن، ومخلِّص، ونحوها، وإن اشتُقَّ منه اسم مفعول فمعناه من كثر تكرر وقوع الفعل عليه مرة بعد أخرى إما استحقاقًا أو وقوعًا. فـ (محمَّد) هو الذي كثر حمد الحامدين له مرةً بعد أخرى، أوالذي يستحق أن يحمد مرة بعد أخرى. فتسميته - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذا الاسم لما اشتمل عليه من مسماه وهو الحمد، فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - محمودٌ عند الله، ومحمودٌ عند ملائكته، ومحمودٌ عند إخوانه من المرسلين، ومحمودٌ عند أهل الأرض كلهم، وإن كفر به بعضهم. فإن ما فيه من صفات الكمال محمودٌ عند كل عاقل، وإن كابَرَ عقله جُحُودًا، أو عِنَادًا، أو جَهْلًا باتصافه بها، ولو عَلِمَ اتصافه بها لَحَمِدَهُ؛ فإنه يحمد من اتصف بصفات الكمال، ويجهل وجودها فيه، فهو في الحقيقة حامدٌ له. وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - اختُصَّ من مُسَمَّى الحمْد بما لم يجتمع لغيره؛ فإنه اسمه محمَّد وأحمد، وأمته الحمَّادون، يحمدون الله في السراء والضراء، وصلاتُه وصلاةُ أمَّتِه مفتَتَحة بالحمد

، وخطبته مفتَتَحة بالحمد، وكتابه ـ أي القرآن الكريم ـ مفتَتَح بالحمد، هكذا عند الله في اللوح المحفوظ أن خلفاءه وأصحابه يكتبون المصحف مفتتحًا بالحمد. * وبيده - صلى الله عليه وآله وسلم - لواء الحمد (¬1) يوم القيامة، ولما يسجد بين يدي ربه - عز وجل - للشفاعة، ويُؤْذَنُ له فيها، يحمد ربه بمحامد يفتحها عليه حينئذ، وهو صاحب المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الإسراء:79).وإذا قام في ذلك المقام حَمِدَه حينئذ أهل الموقف كلهم مسلمُهم وكافرُهم أولهم وآخرهم. * وهو محمود - صلى الله عليه وآله وسلم - بما ملأ الأرض من الهدى والإيمان والعلم النافع والعمل الصالح، وفتح به القلوب، وكشف به الظُلمة عن أهل الأرض، واستنقذهم من أسر الشياطين، ومن الشرك بالله والكفر به والجهل به، حتى نال به أتباعه شرف الدنيا والآخرة، فإن رسالته وافت أهل الأرض أحوج ما كانوا إليها، فإنهم كانوا بين عُبَّادِ أوْثان وعُبَّادِ صُلْبَان وعُبَّادِ نيران وعُبَّاد الكواكب، ومغضوبٍ عليهم قد باؤوا بغضب، وحَيران لا يعرف ربًا يعبده، ولا بماذا يعبده، والناس يأكلُ بعضُهم بعضًا، مَنْ استحسن شيئًا دعا إليه، وقاتل مَن خالَفه، وليس في الأرض موضع قدم مُشرقٌ بنورِ الرسالة. وقد نظر الله سبحانه حينئذٍ إلى أهل الأرض، فمقَتَهم عرَبَهم وعَجَمَهم إلا بقايا على آثار مِن دينٍ صحيح، فأغاث الله به البلاد والعباد، وكشف به تلك الظُلَم، وأحيا به من الجهالة، وكثر بعد القلة، وأعز به بعد الذلة، وأغنى به بعد العَيْلة، وفتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا، فعرف الناس ربهم ومعبودهم. وعرَّفهم الطريق الموصل لهم إلى ربهم ورضوانه ودار كرامته، ولم يدَعْ حسنًا إلا أمرهم به، ولا قبيحًا إلا نهى عنه، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّه لَيْسَ شَيْءٌ يقرِّبُكُمْ إلى الجنَّة إلا قَدْ أمَرْتُكُمْ بِهِ، ولَيْسَ شيءٌ يقرِّبُكُمْ إلى النَّارِ إلا قَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْه» (حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة). وعرَّفهم حالهم بعد القدوم على ربهم أتم تعريف، فكشف الأمر وأوضحه، ولم يدَعْ بابًا من العلمِ النافع للعباد المقرِّبِ لهم إلى ربهم إلا فتحه، ولا مشكلًا إلا بينه وشرحه، حتى هدى الله به القلوب من ضلالها وشفاها به من أسقامها، وأغاثها به من جهلها، فأي بشر أحق بأن يحمد منه - صلى الله عليه وآله وسلم - وجزاه عن أمته أفضل الجزاء. * ومما يحمد عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما جبله الله عليه من مكارم الأخلاق وكرائم الشيم، فإن من نظر في أخلاقه وشيمه - صلى الله عليه وآله وسلم - علم أنها خيرُ أخلاق، فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان أعلم الخلق، ¬

_ (¬1) عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الْحَمْدِ وَلَا فَخْرَ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَلَا فَخْرَ». (صحيح رواه الترمذي). قَوْلُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ) قَالَهُ إِخْبَارًا عَمَّا أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ الْفَضْلِ وَالسُّؤْدُدِ، وَتَحَدُّثًا بِنِعْمَةِ الله تَعَالَى عِنْدَهُ وَإِعْلَامًا مِنْهُ لِأُمَّتِهِ لِيَكُونَ إِيمَانُهُمْ بِهِ عَلَى حَسْبِهِ وَمُوجِبِهِ، وَلِهَذَا أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا فَخْرَ) أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ الَّتِي نِلْتُهَا كَرَامَةً مِنْ اللهِ لَمْ أَنَلْهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِي وَلَا بَلَغْتُهَا بِقُوَّتِي فَلَيْسَ لِي أَنْ أَفْتَخِرَ بِهَا، قَالَهُ الْجَزَرِيُّ. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: قَالَهُ اِمْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّك فَحَدِّثْ}. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ مِنْ الْبَيَانِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ إِلَى أُمَّتِهِ لِيَعْرِفُوهُ وَيَعْتَقِدُوهُ وَيَعْمَلُوا بِمُقْتَضَاهُ فِي تَوْقيرِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَمَا أَمَرَهُمْ اللهُ تَعَالَى بِهِ» اِنْتَهَى. «لِوَاءُ الْحَمْدِ»:اللواء: الرَّايَةُ، وَلَا يُمْسِكُهَا إِلَّا صَاحِبُ الْجَيْشِ. ولِوَاءُ الْحَمْدِ عِبَارَةٌ عَنْ الشُّهْرَةِ وَانْفِرَادُهُ بِالْحَمْدِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِحَمْدِهِ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَقِيقَةً يُسَمَّى لِوَاءَ الْحَمْدِ. قُلْت (أي المباركفوري ـ صاحب تحفة الأحوذي): حَمْلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ هُوَ الظَّاهِرُ بَلْ هُوَ الْمُتَعَيَّنُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ إِلَى الْمَجَازِ مَعَ إِمْكَانِ الْحَقِيقَةِ. «وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ» أَيْ لِلْبَعْثِ فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ عَلَيْهِ بَعْثًا، فَهُوَ مِنْ خَصَائِصِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» اهـ بتصرف من (تحفة الأحوذي).

وأعظمهم أمانة، وأصدقهم حديثًا، وأجودهم وأسخاهم، وأشدهم احتمالًا، وأعظمهم عفوًا ومغفرةً، وكان لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلمًا. كما روى البخاري في (صحيحه):عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ لَقِيتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما - قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي التَّوْرَاةِ. قَالَ: «أَجَلْ، وَالله إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلَا غَلِيظٍ، وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ؛ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا». (شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا):أَيْ شَاهِدًا عَلَى الْأُمَّة وَمُبَشِّرًا لِلْمُطِيعِينَ بِالْجَنَّةِ وَلِلْعُصَاةِ بِالنَّارِ، أَوْ شَاهِدًا لِلرُّسُلِ قَبْلَهُ بِالْإِبْلَاغِ. (وَحِرْزًا) أَيْ حِصْنًا، وَالْأُمِّيِّينَ هُمْ الْعَرَب. (سَمَّيْتُكَ الْمُتَوَكِّل) أَيْ عَلَى اللهِ؛ لِقَنَاعَتِهِ بِالْيَسِيرِ، وَالصَّبْر عَلَى مَا كَانَ يَكْرَه. (لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظ) هُوَ مُوَافِق لِقَوْلِه تَعَالَى (فَبِمَا رَحْمَة مِنْ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) وَلَا يُعَارِض قَوْله تَعَالَى: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}؛ لِأَنَّ النَّفْي بِالنِّسْبَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالْأَمْر بِالنِّسْبَةِ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا هُوَ مُصَرَّح بِهِ فِي نَفْس الْآيَة. (وَلَا سَخَّاب) السَّخَب وَيُقَال فِيهِ الصَّخَبُ بِالصَّادِ بَدَلَ السِّينِ: هُوَ رَفْع الصَّوْتِ بِالْخِصَامِ. (وَلَا يَدْفَع السَّيِّئَة بِالسَّيِّئَةِ) هُوَ مِثْل قَوْله تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن}. (وَلَنْ يَقْبِضه) أَيْ يُمِيته.

(حَتَّى يُقِيم بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ) أَيْ مِلَّةَ الْعَرَبِ، وَوَصَفَهَا بِالْعِوَجِ لِمَا دَخَلَ فِيهَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالْمُرَاد بِإِقَامَتِهَا أَنْ يَخْرُجَ أَهْلُهَا مِنْ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ ويَنْفِيَ الشِّرْك وَيُثْبِت التَّوْحِيد. قَوْله: (فَيَفْتَح بِهَا) أَيْ بِكَلِمَةِ التَّوْحِيد (أَعْيُنًا عُمْيًا) أَيْ عَنْ الْحَقّ. وَقَوْله: (وَقُلُوبًا غُلْفًا) أَي مُغَشَّاة مغطاة. وقيل: لا تفقه. وقيل: عليها غشاوة. وقيل: عليها غلاف، وهو الغطاء. صَلّى عليكَ اللهُ يا خيرَ الورَى ... ما حنَّ مشتاقٌ إلي رؤْيَاكَا وعلى صحابتِك الكرامِ جميعِهِم ... والتابعينَ وكُلِّ مَن وَالاكَا * قال الحسن البصري - رحمه الله -: «إن المؤمنَ رُزِقَ حلاوةً ومهابة». يعني يُحَب ويُهَاب ويُجَلّ بها، ألبسه الله - سبحانه وتعالى - من ثوب الإيمان المقتضي لذلك، ولهذا لم يكن بشرٌ أحبَّ إلى بشرٍ ولا أهيب وأجَلَّ في صدره من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في صدر الصحابة - رضي الله عنهم -. قَالَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ - رضي الله عنه -: «مَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ؛ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ» (رواه مسلم). فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مشتملًا على ما يقتضي أن يحمد مرة بعد مرة سمي محمدًا، وهو اسم موافق لمسماه، ولفظ مطابق لمعناه. • ذكر إبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام -: جعل الله - سبحانه وتعالى - إبراهيم الأب الثالث للعالم، فإن أبانا الأول آدم، والأب الثاني نوح، وأهل الأرض كلهم من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} (الصافات:77).والأب الثالث إمام الحنفاء الذي اتخذه الله خليلًا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، ذاك خليل الرحمن. ولم يأمر الله رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يتبع ملة أحد من الأنبياء غيره، فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين} (النحل:123)، وأمر أمَّتَه بذلك فقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (الحج:78). وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوصي أصحابه - رضي الله عنهم - إذا أصبحوا أن يقولوا: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ». (صحيح رواه الدارمي وغيره). وسماه الله - سبحانه وتعالى - إبراهيم: إمامًا وأمة، وقانتًا، وحنيفًا. وقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة:124)، فأخبر سبحانه أنه جعله إمامًا للناس، وأن الظالم من ذريته لا ينال رتبة الإمامة، والظالم هو المشرك، وأخبر سبحانه أن عهده بالإمامة لا ينال من أشرك به. وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآَتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (النحل:120 - 121). فالأمَّة: هو القدوة المعلم للخير، والقانت: المطيع لله الملازم لطاعته، والحنيف المقبل على الله، المعرض عما سواه. وكان خير بَنِيه ـ سيد ولد آدم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ يُجِلّه ويعظمه ويبجله ويحترمه؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام -». (رواه مسلم). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا»، ثُمَّ قَرَأَ {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ» (رواه البخاري). (غُرْلًا):غَيْر مَخْتُونِينَ.

وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أشبه الخلق بإبراهيم؛، كما في الصحيحين عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ ـ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ ـ فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ» يَعْنِي نَفْسَهُ». وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يُعَوِّذ أولاد ابنته: حَسَنًا وحُسَيْنًا - رضي الله عنهما - بتعويذ إبراهيم لإسماعيل وإسحاق - عليهم السلام -؛ ففي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ: «إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» (إِنَّ أَبَاكُمَا) يُرِيد إِبْرَاهِيم - عليه السلام -. (بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ) الْمُرَاد بِالتَّامَّةِ: الْكَامِلَة، وَقِيلَ: النَّافِعَة، وَقِيلَ: الشَّافِيَة، وَقِيلَ: الْمُبَارَكَة، وَقِيلَ: الْقَاضِيَة الَّتِي تَمْضِي وَتَسْتَمِرّ وَلَا يَرُدّهَا شَيْء وَلَا يَدْخُلهَا نَقْص وَلَا عَيْب. وكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَد - رحمه الله - يَسْتَدِلّ بِهَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّ كَلَام اللهِ غَيْر مَخْلُوق، وَيَحْتَجّ بِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَا يَسْتَعِيذ بِمَخْلُوقٍ. (مِنْ كُلّ شَيْطَان) يَدْخُل تَحْته شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ. (وَهَامَّة) وَاحِدَة الْهَوَامّ ذَوَات السَّمُوم، وَقِيلَ: كُلّ مَا لَهُ سُمٌّ يَقْتُل، وَقِيلَ: الْمُرَاد كُلّ نَسَمَة تَهُمُّ بِسُوءٍ. قَوْلُهُ: (وَمِنْ كُلّ عَيْن لَامَّة) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِهِ كُلّ دَاء وَآفَة تُلِمّ بِالْإِنْسَانِ مِنْ جُنُون وَخَبَل. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: {حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ؛ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - حِينَ قَالُوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (رواه البخاري). •

معنى قول: اللَّهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد: البركة: النماء والزيادة. والتبريك: الدعاء بذلك. ويقال: باركه الله وبارك فيه، وبارك عليه، وبارك له. وفي القرآن الكريم: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاق} (الصافات:113)، وفيه: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (الأنبياء:71). وقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رضي الله عنهما -:عَلَّمَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ». (صحيح رواه أصحاب السنن). والْمُبَارَك: الذي قد بارَكه الله سبحانه، كما قال المسيح - عليه السلام -: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم:30 - 31). وكتاب الله مبارَك، قال تعالى: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (الأنبياء:50)، وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} (ص:29)، وهو أحق أن يسمى مباركا من كل شيء؛ لكثرة خيره ومنافعه، ووجوه البركة فيه. والرب تعالي يقال في حقه: «تبارك»، ولا يقال: مبارك. وقال الحسن: «تبارك»:تجيء البركة من قِبَله. وقال الضحاك: تبارك: تعاظم. وقال الخليل بن أحمد: تمجد. وقال الحسين بن الفضل: تبارك في ذاته، وبارك فيمن شاء من خلقه. قال الإمام ابن القيم: وهذا أحسن الأقوال.

ولا يوصف بهذه اللفظة إلا الله - سبحانه وتعالى -، ولا تتصرف هذه اللفظة في لغة العرب، لا يستعمل منها مضارع ولا أمر. وقول: «وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ»:هذا الدعاء يتضمن إعطاءه من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم، وإدامته وثبوته له، ومضاعفته له وزيادته، هذا حقيقة البركة. وقد قال تعالى في إبراهيم وآله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (الصافات:112 - 113)، وقال تعالى فيه وفي أهل بيته: {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود:73). وتأمل كيف جاء في القرآن: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} (الصافات:113) ولم يذكر إسماعيل؛ إيذانًا بما حصل لبَنِيهِ من الخير والبركة، لا سيما خاتمة بركتهم وأعظمها وأجلها برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فنبهَهُم بذلك على ما يكون في بنيه من هذه البركة العظيمة الموافية على لسان المبارك - صلى الله عليه وآله وسلم -. • اختتام الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - باسْمَيْن من أسماء الرب ـ وهما: الحميد والمجيد: وذكر هذين الاسمين: الحميد والمجيد عقب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مطابق لقوله تعالى: {رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود:73). ولما كانت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ وهي ثناء الله تعالى عليه وتكريمه والتنويه به، ورفع ذكره، وزيادة حبه وتقريبه ـ كانت مشتملة على الحمد والمجد، فكأن المصلي طلب من الله تعالى أن يزيد في حمده ومجده، فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد، هذا حقيقتها، فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له، وهما اسما الحميد والمجيد. والداعي يُشرَع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب لمطلوبه، أو يفتتح دعاءه به، وهذا من قوله - عز وجل -: {وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف:180)، وقال سليمان؛ في دعائه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي

لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (ص:35)، وقال الخليل وابنه إسماعيل سدد خطاكم في دعائهما: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة:128). وعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ يُعَدُّ لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الْمَجْلِسِ الْوَاحِدِ مِائَةُ مَرَّةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَقُومَ: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ» (صحيح رواه الترمذي). وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي» (صحيح رواه الترمذي). ولما كان المطلوب للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حمدًا ومجدًا بصلاة الله عليه، ختم هذا السؤال باسمي الحميد والمجيد. وأيضًا فإنه لما كان المطلوب للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حمدًا ومجدًا، وكان ذلك حاصلًا له، ختم ذلك بالإخبار عن ثبوت هذين الوصفين للرب - سبحانه وتعالى - بطريق الأولى، وكل كمال في العبد غير مستلزم للنقص، فالرب أحق به. وأيضًا فإنه لما طلب للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حمدًا ومجدًا بالصلاة عليه ـ وذلك يستلزم الثناء عليه ـ خُتِمَ هذا المطلوب بالثناء على مُرسِله - عز وجل - بالحمد والمجد، فيكون هذا الدعاء متضمنًا لطلب الحمد والمجد للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، والإخبار عن ثبوته للرب - سبحانه وتعالى -.

4 - اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دليل محبة الله - عز وجل -

4 - اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دليل محبة الله - عز وجل - من يَدَّعِ حُبَّ النبى ولم يَفِدْ ... مِن هَدْيِه فَسَفَاهَةُُ وهُراءُ فالحبُّ أولُ شَرطِه وفروضِه ... ـ إنْ كان صادقًا ـ طاعةُُ ووفاءُ • محبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - تكون باتباع سنته والامتثال لأوامره: قال الله - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} (آل عمران: 31 - 32). دلت هذه الآية الكريمة على أن كل من ادعى محبة الله - عز وجل -، وليس متبعًا لهدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنه كاذب في دعواه، حتى يتبع سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في جميع أقواله وأحواله، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم)؛ ولهذا قال - عز وجل -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} أي: يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه، وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول، كما قال بعض الحكماء العلماء: ليس الشأن أن تُحِبّ، إنما الشأن أن تُحَبّ. وقال الحسن البصري وغيره من السلف: «زعم قوم أنهم يحبون اللهَ فابتلاهم اللهُ بهذه الآية، فقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}». ثم قال - عز وجل -: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: باتباعكم للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يحصل لكم هذا كله. ثم قال آمرًا لكل أحد من خاص وعام: {قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: خالفوا عن أمره {فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر،

والله لا يحب من اتصف بذلك، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه يحب الله ويتقرب إليه، حتى يتابع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس، الذي لو كان الأنبياء ـ بل المرسلون، بل أولو العزم منهم ـ في زمانه لما وَسِعَهم إلا اتباعه، والدخول في طاعته، واتباع شريعته - صلى الله عليه وآله وسلم -. أتُحِبُّ أعداءَ الحبيبِ وتدَّعِي ... حُبًا له، ما ذاك فى الإمكانِ وكذا تُعادِي جاهدًا أحبابَه ... أينَ المحبةُ يا أخَا الشيطانِ؟! إنَّ المحبةَ أنْ توافقَ مَنْ ... تُحِبُّ علَى محبَّتِه بلا نُقْصانِ فإن ادَّعيْتَ له المحبةَ مع خلافِ ... ما يحبُّ فأنتَ ذو بهتانِ • الوصايا العشر: إن الله تبارك وتعالى أنزل في كتابه الكريم آياتٍ في آخر سورة الأنعام، هذه الآيات هي الوصايا العشر، التي قال عنها عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «من أراد أن ينظر إلى وصية محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - التي عليها خاتمه ـ أي التي كأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كتبها وختمها، وبعث بها إلى كل واحد منا كأنها رسالة خاصة مختومة من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ فليقرأ هذه الآيات: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (الأنعام:151 - 153) هذه الوصايا العشر بدأها الله تبارك وتعالى بالوصية الأولى، وهي الوصية العظمى، وهي توحيد الله وعدم الشرك به سبحانه وتعالى، فهذه أول ما يجب علينا أن

نعلمه من ديننا، وأول ما يجب أن نتمسك به، وأول ما يجب أن ندعوا إليه، كما بعث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - معاذًا بن جبل إلى اليمن فقال له: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ تَعَالَى، فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ، فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ، فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ» (رواه البخاري).فهذا أول ما يجب. ثم بعد ذلك آخر الوصية التي كأنها وصية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - التي عليها خاتمه، وهي قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (الأنعام:153) أي: التمسك بهذا الهدي، والسير عليه، وعدم الالتفات يمينًا أو يسارًا، فهذه الوصية الخاتمة الأخيرة من الوصايا العشر، وهي التي تضبط كل الوصايا، فكل عملٍ لله - عز وجل - لا بد أن يكون وفق ما شرع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} (الأنعام:153)، فذكر تعالى أن له سبيلًا واحدًا سماه صراطًا مستقيمًا لأنه أقرب طريق إلى الحق والخير والسلام، وأن هناك سبلًا متعددة يتفرق متبعوها عن ذلك الصراط، وهي طرق الشيطان، وحث سبحانه على اتباع سبيله الذي هو الكتاب والسنة حثًا مقرونًا بالنهي عن اتباع السبل مبينًا أن ذلك سبب للتفرق، ولذا ترى المسلمين العاملين قد لزموا سبيلًا واحدًا أمِروا بسلوكه، وأما أهل البدع والأهواء فقد افترقوا في سبلهم على حسب معتقداتهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة. • الدين اتباع وليس ابتداعًا: ولكون هذا الدين اتباعًا وليس ابتداعًا ولا يخضع للهوى ـ لأهميته ولعظم شأنه ـ جعله الله تبارك وتعالى في كل ركعةٍ من ركعات الصلاة، فكل مسلم يقرأ في كل ركعة

من صلاته سورة الفاتحة، التي هي أم القرآن، والتي هي أفضل سورة في كتاب الله تعالى فهذه فاتحة الكتاب تضمنت هذا المعنى وهو أن الدين اتباع وليس ابتداعًا. {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (الفاتحة:6) فهذا هو طلبنا الذي نطلبه من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ركعة أن يهدينا الصراط المستقيم، فما هو الصراط المستقيم؟ الصراط المستقيم هو مضمون قولنا: «إن الدين اتباع»، فالصراط المستقيم هو الإسلام، وهو هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو طاعة الله تبارك وتعالى دون أن يحيد الإنسان عنها لا ذات اليمين ولا ذات الشمال، حتى قال مَن قال من السلف: «إن الصراط المستقيم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -»؛ أي الطريق الذي كان عليه أبو بكر وعمر، والسلف الصالح، فإذا قلنا القرآن، أو الإسلام، أو الدين، أو السنة، أو الخلفاء الراشدين، كل ذلك يدخل في أنه هو الصراط المستقيم الذي ندعو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن يهدينا إليه. عَنْ جَابِرٍ بن عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» وخَطّ خطًّا عن يَمِينِه وخَطَّ خَطًّا عن شِمَالِه وقَالَ: «هَذِهِ سُبُلُ الشَّيْطَانِ» ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأََوْسَط ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (صحيح رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة). فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مثَّل هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} (الأنعام:153) مثلها عمَليًا مِثل وسائل الإيضاح التي تعرض على الطلبة في المدارس لتتضح لهم بعض المعالم الجغرافية أو الرياضية. فهذا الصراط هو الإسلام وهو السنة، وهذه الخطوط: هي الأهواء والبدع والضلالات التي كثرت، والتي تكثر في كل زمان ومكان تصديقًا لما قاله الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً

، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: «الْجَمَاعَةُ». (صحيح رواه ابن ماجه). (الْجَمَاعَة) أَيْ الْمُوَافِقُونَ لِجَمَاعَةِ الصَّحَابَة الْآخِذُونَ بِعَقَائِدِهِمْ الْمُتَمَسِّكُونَ بِرَأْيِهِمْ. ويوضح ذلك قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في رواية الترمذي «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» (حديث حسن). فهذه السبل التي على جنبات الصراط هي هذه الفرق والأهواء، وهي الضلالات التي ندعو الله - سبحانه وتعالى - أن يجنِّبَنا إياها، وندعوه أن يثبتنا على الصراط المستقيم، وهو اتباع دين محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - وسنته. • ولابد في العمل الصالح من شرطين: الأول: أن يكون العمل خالصًا لوجه الله - سبحانه وتعالى -، فإذا لم يكن العمل خالصًا لوجه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فإنه لا يقبله، كإنسان يريد بعمله الدنيا. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (رواه مسلم). مَعْنَى الحديث: أَنَا غَنِيّ عَنْ الْمُشَارَكَة وَغَيْرهَا، فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي لَمْ أَقْبَلهُ، بَلْ أَتْرُكهُ لِذَلِكَ الْغَيْر. وَالْمُرَاد أَنَّ عَمَل الْمُرَائِي بَاطِل لَا ثَوَاب فِيهِ، وَيَأْثَم بِهِ. لماذا يشرك بالله - سبحانه وتعالى - وهو غني عن جميع الأعمال التي يعملها؟! حاله مثل من يهدي إلى تاجر غني هدية ـ والله هو الغني وله المثل الأعلى ـ، ويقول: هذا لك، وأعط فلانًا منها قليلًا، فيقول له: أعطها كلها لفلان فأنا لست محتاجًا لها، فكيف والله - سبحانه وتعالى - الغني العظيم - سبحانه وتعالى - الذي يقول ـ فيما يرويه عنه حبيبنا - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.

يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ». (رواه مسلم) (الْمِخْيَط ـ بِكَسْرِ الْمِيم وَفَتْح الْيَاء ـ هُوَ الْإِبْرَة). يقول الله - عز وجل - {وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (محمد:38)، فيجب أن يكون العمل خالصًا لوجه الله - عز وجل -. والشرط الثاني: أن يكون صوابًا وفق سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كيف يكون العمل صوابًا، وبماذا؟ بالعلم {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء:7) بعض الناس يصلي عمره خمسين سنة، لكن لو أتينا ونظرنا إلى هذه الصلاة هل هي كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهل هي كما قال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»؟ (رواه البخاري). * قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنِّي قَدْ تَرَكْتُُ فِيكُم شَيْئَينِ لَنْ تَضِلّوا بَعدَهُما: كَتَابَ اللهِ وسُنَّتِي، ولَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا علَيّ الحَوْضَ» (صحيح رواه الحاكم). فهما الأصلان اللذان لا عدول عنهما ولا هدى إلا منهما، والعصمة والنجاة لمن تمسك بهما واعتصم بحبلهما، وهما الفرقان الواضح والبرهان اللائح بين المحق إذا اقتفاهما والمبطل إذا خلاهما، فوجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة متعين معلوم من الدين بالضرورة. وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ». (صحيح رواه أبو داود وروى مسلم لفظة: «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»). عضوا عليها بالنواجذ: كناية عن شدة التمسك بها، والنواجذ: الأضراس.

* قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ} (النساء:59) قال العلماء: معناه: إلى الكتاب والسنة، فأمر سبحانه برد الأمر في حالة النزاع إلى كتابه العزيز وسنة نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - ففي حالة الوفاق أولى. فإذًا الواجب علينا معاشر المسلمين اتباعه - صلى الله عليه وآله وسلم - في جميع أقواله وأفعاله والتأسي به في سائر أحواله، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (الحشر:7)، وما أخبث رجلًا ترك سبيل السُنة الشارحة للكتاب، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:63). * قال الحافظ ابن كثير: «{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} أي: عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وشريعته فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قُبِل وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنًا من كان كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). أي: فليحذر ولْيَخْش من خالف شريعة الرسول باطنًا أو ظاهرًا {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أي: في قلوبهم، من كفر أو نفاق أو بدعة {أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: في الدنيا، بقتل أو حد أو حبس، أو نحو ذلك». * قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). قال الإمام النوويُّ: «قَالَ أَهْل الْعَرَبِيَّة: (الرَّدّ) هُنَا بِمَعْنَى الْمَرْدُود، وَمَعْنَاهُ: فَهُوَ بَاطِل غَيْر مُعْتَدّ بِهِ. وَهَذَا الْحَدِيث قَاعِدَة عَظِيمَة مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام، وَهُوَ مِنْ جَوَامِع كَلِمه - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنَّهُ صَرِيح فِي رَدّ كُلّ الْبِدَع وَالْمُخْتَرَعَات ... وَهَذَا الْحَدِيث مِمَّا يَنْبَغِي حِفْظه وَاسْتِعْمَاله فِي إِبْطَال الْمُنْكَرَات، وَإِشَاعَة الِاسْتِدْلَال بِهِ». قال الحافظ ابن رجب: «فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله

فعمله باطل مردود». وقال الحافظ ابن حجر: «وَهَذَا الْحَدِيث مَعْدُود مِنْ أُصُول الْإِسْلَام وَقَاعِدَة مِنْ قَوَاعِده». وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي فَعَمِلَ بِهَا النَّاسُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ ابْتَدَعَ بِدْعَةً فَعُمِلَ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ أَوْزَارُ مَنْ عَمِلَ بِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهَا شَيْئًا» (صحيح رواه ابن ماجه). * وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم». * وقال الإمام مالك - رحمه الله -: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة:3)، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا». * قال الإمام الزهري - رحمه الله -: «الاعتصام بالسنة نجاة؛ لأن السنة ـ كما قال مالك ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك». إذًا لا بد من وجود شرطين في أي عمل حتى يتقبله الله، وهما: • أن يكون خالصًا لوجه الله - عز وجل -. • وأن يكون صوابًا وفق ما أنزل الله تعالى. قال الله - عز وجل -: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف:110). قال الحافظ ابن كثير: «{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} أي: ثوابه وجزاءه الصالح، {فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا}، ما كان موافقًا لشرع الله {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المتَقَبَّل».اهـ. •

إن الشرك والضلال والانحراف الذي وقع في الجاهلية الأولى، ومن بعدهم إنما وقع نتيجة الابتداع في دين الله تعالى. كانت العرب على دين التوحيد منذ أن بنَََى إبراهيم الخليل وإسماعيل سدد خطاكم البيت الحرام، حتى ظهر رجل يقال له: عمرو بن لُحَيّ الخُزاعي، هذا الرجل ذهب في رحلة إلى الشام، فوجد أُمّةً متحضرة ليست مثل العرب تسكن الخيام وترعى الغنم والإبل، وجد هناك حضارة، وأنظمةً، وملكًا، وأبهةً، فغَرَّتْه تلك المظاهر، ثم تأمل في دينهم فوجدهم يعبدون الأصنام، إذ أنهم يصورون الصور، ويضعونها في الكنائس كصورة عيسى - عليه السلام -، وصورة مريم العذراء، وغيرها من الأنصاب والتماثيل، ثم يعبدونها من دون الله، فاستحسن هذا الأمر، لأنه صادر عن أمة متحضرة وليست كالعرب. فأخذ هذه الصور وجاء بها إلى مكة ووضعها العرب بالكعبة فكان هذا الرجل أول من غير ملة إبراهيم - عليه السلام - من التوحيد إلى الشرك. بل جاءت رسالة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - تصحيحًا للشرك الذي وقع فيه العرب بعد أن كانوا على ملة التوحيد، فمن جاء ليصرفنا عن ملة التوحيد، التي وحّدنا الله تبارك وتعالى بها بعد الفرقة، وجمعنا بها بعد الشتات، وأنار بها قلوبنا بعد الظلمة، فلا طاعة له، لأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس إمامه وقدوته، وإنما إمامه وقدوته عمرو بن لحي. • التوحيد التوحيد! والسنة السنة! من تمسك بهما نجا: سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هي سفينة نوح، من تمسك بها نجا، ومن حاد عنها غرق وهلك، وإن زعم أنه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء، لا عاصم أبدًا من عذاب الله، إلا باتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا طريق إلى الله إلا باتباع سنة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (آل عمران: 31).

هذا هو الطريق الوحيد، فمن كان يَدَّعِيْ محبة الله، ومحبة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فليتبع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وليقدم حبه على نفسه، وأهله، وماله، وولده، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (رواه البخاري ومسلم)؛ فلا بد أن تكون محبة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه الدرجة. والمحبة تتمثل في حب سنته وهديه، فمن والى الكفار، فهذا لا يحب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، هل يمكن أن يزعم أحدٌ أنه يحب أحدًا ما وهو يخالف طريقته، ويرد أمره، وينقض قوله؟ هذا لا يحبه، وهذه دعوى كاذبة، ولهذا قال تعالى في الآية التي تسمى آية المحنة، أو الفتنة، أو الابتلاء: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} (آل عمران:31). فاتباع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الصراط المستقيم الذي ندعوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في كل ركعة من فريضة أو نافلة أن يثبتنا عليه، قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} (الفاتحة:6 - 7). • الابتداع في الدين سبب للطرد عن حوض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: عن عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ، مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا» (رواه البخاري). عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ» (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: «أَلاَ هَلُمَّ». فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا». (رواه مسلم). (أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ) مَعْنَاهُ: تَعَالَوْا. فَأَقُول سُحْقًا سُحْقًا) مَعْنَاهُ (بُعْدًا بُعْدًا).

5 - التواضع وذم الكبر

5 - التواضع وذم الكبر • الكبرياء صفة لا تنبغي إلا لله - عز وجل -: من نبذ خلق التواضع وتعالى وتكَبَّر إنما هو في الحقيقة معتد على مقام الألوهية؛ لأن الكبرياء والعظمة لله وحده، ولا يجوز للعبد أن يتصف بهما أو بأحدهما. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» (صحيح رواه أبو داود). فليسَ بغريب إذًا أن نجد التواضع من صفات الصالحين. ومن أخص خصال المؤمنين المتقين ومن كريم سجايا العاملين. قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَـ?فِرِينَ} (المائدة:54). وقال الله لنبيه والخطاب عام له ولأمته: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء 215) وقال تعالى: {وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (لقمان:18).وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ: أي ولا تُعرض بوجهك عمن تكلمه تكبرًا. مَرَحًا: أي مختالًا تمشي خيلاء. مُخْتَالٍ فَخُورٍ: أي متبختر فخور كثير الفخر مما أعطاه الله ولا يشكر. وقال - عز وجل -: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى? كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ} (غافر:35). «كَذَلِكَ» أي: كما طبع على قلوب آل فرعون «يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ» متكبر في نفسه على الحق برده، وعلى الخلق باحتقارهم، جبار بكثرة ظلمه وعدوانه. واعلم أخي المسلم: أن الكبر من أخلاق الكفار الفراعنة، والتواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين لأن الله تعالى وصف الكفار بالكبر فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـ?هَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ} (الصافات:35).وقال: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} (النحل:23). •

صور من تواضع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا من تحبون رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يا من تعتقدون أن لا سعادة ولا عزة ولا طريق إلى الجنة إلا باتباع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وإلا بأن تكون محبته مقدمة على كل محبوب من البشر. {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21). إنه - صلى الله عليه وآله وسلم - سيد ولد آدم، ليس فوقه أحد من البشر ـ حاشاه - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ إنه أحب الخلق إلى الله وأعظمهم جاهًا وقدرًا عند رب العالمين. إنه صاحب الوسيلة وهي أعلى درجة في الجنة، منزلةٌ واحدةٌ ليست إلا له - صلى الله عليه وآله وسلم -.إن الأرض ما وطئ عليها ولن يطأ عليها إلى يوم القيامة أكرم ولا أجل ولا أرفع منه - صلى الله عليه وآله وسلم -. ومع ذلك تأمل أخي المؤمن تواضعه العجيب - صلى الله عليه وآله وسلم -. أ- عَنْ الْبَرَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَهُوَ يَنْقُلُ التُّرَابَ حَتَّى وَارَى التُّرَابُ شَعَرَ صَدْرِهِ ـ وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشَّعَرِ ـ وَهُوَ يَرْتَجِزُ بِرَجَزِ عَبْدِ اللهِ اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتْ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا إِنَّ الْأَعْدَاءَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا» يَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ» (رواه البخاري). ب- رعيُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - الغنم وتحدثه بذلك: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا بَعَثَ اللهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: «وَأَنْتَ»، فَقَالَ: «نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ» (رواه البخاري) قَوْله: (عَلَى قَرَارِيط لِأَهْلِ مَكَّة) الْقِيرَاط: جُزْء مِنْ الدِّينَار أَوْ الدِّرْهَم. وَفِي ذِكْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِذَلِكَ ـ بَعْد أَنْ عُلِمَ كَوْنه أَكْرَم الْخَلْق عَلَى اللهِ ـ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ عَظِيم التَّوَاضُع لِرَبِّهِ وَالتَّصْرِيح بِمِنَّتِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى إِخْوَانه مِنْ الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللهِ وَسَلَامه عَلَيْهِ وَعَلَى سَائِر الْأَنْبِيَاء. قَالَ الْعُلَمَاء: الْحِكْمَة فِي إِلْهَام الْأَنْبِيَاء مِنْ رَعْي الْغَنَم قَبْل النُّبُوَّة أَنْ يَحْصُل لَهُمْ التَّمَرُّن بِرَعْيِهَا عَلَى مَا يُكَلَّفُونَهُ مِنْ الْقِيَام بِأَمْرِ أُمَّتهمْ، وَلِأَنَّ فِي مُخَالَطَتهَا مَا يُحَصِّل لَهُمْ الْحِلْم وَالشَّفَقَة لِأَنَّهُمْ إِذَا صَبَرُوا عَلَى رَعْيهَا وَجَمْعهَا بَعْد تَفَرُّقهَا فِي الْمَرْعَى وَنَقْلهَا مِنْ مَسْرَح إِلَى مَسْرَح وَدَفْع عَدُوّهَا ـ مِنْ سَبُع وَغَيْره كَالسَّارِقِ ـ وَعَلِمُوا اِخْتِلَاف طِبَاعهَا وَشِدَّة تَفَرُّقهَا مَعَ ضَعْفهَا وَاحْتِيَاجهَا إِلَى الْمُعَاهَدَة؛ أَلِفُوا مِنْ ذَلِكَ الصَّبْر عَلَى الْأُمَّة وَعَرَفُوا اِخْتِلَاف طِبَاعهَا وَتَفَاوُت عُقُولهَا فَجَبَرُوا كَسْرهَا وَرَفَقُوا بِضَعِيفِهَا وَأَحْسَنُوا التَّعَاهُد لَهَا؛ فَيَكُون تَحَمُّلهمْ لِمَشَقَّةِ ذَلِكَ أَسْهَل مِمَّا لَوْ كُلِّفُوا الْقِيَام بِذَلِكَ مِنْ أَوَّل وَهْلَة لِمَا يَحْصُل لَهُمْ مِنْ التَّدْرِيج عَلَى ذَلِكَ بِرَعْيِ الْغَنَم. وَخُصَّتْ الْغَنَم بِذَلِكَ لِكَوْنِهَا أَضْعَف مِنْ غَيْرهَا، وَلِأَنَّ تَفَرُّقهَا أَكْثَر مِنْ تَفَرُّق الْإِبِل وَالْبَقَر لِإِمْكَانِ ضَبْط الْإِبِل وَالْبَقَر بِالرَّبْطِ دُونهَا فِي الْعَادَة الْمَأْلُوفَة، وَمَعَ أَكْثَرِيَّة تَفَرُّقهَا فَهِيَ أَسْرَع اِنْقِيَادًا مِنْ غَيْرهَا. جـ ـ تواضعه - صلى الله عليه وآله وسلم - مع الضعفاء والأرامل والمساكين والصبيان. عن سهل بن حنيف - رضي الله عنه -:أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كَانَ يأتِي ضُعَفَاءَ المسْلِمِينَ ويَزُورُهُمْ، ويَعُودُ مَرْضَاهُمْ، ويَشْهَدُ جَنَائِزَهُمْ» (صحيح رواه الطبراني وغيره). يأتي ضعفاء المسلمين، فلم تشغله النبوة عن ذلك. ولم تمنعه مسؤولية أمته، ولا كثرة الأعمال: أن يجعل للضعفاء والمرضى نصيبًا من الزيارة والعبادة واللقاء. ولقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يمر بالصبيان فيسلم عليهم. وفي رواية: «كَانَ يَزُورُ الأنْصَارَ ويُسَلّمُ عَلَى صِبْيَانِهِمْ ويَمْسَحُ رُؤُوسَهُمْ». (صحيح رواه النسائي). إنك ترى ـ في عصرنا هذا ـ بعض الناس يترفع عن المتقين من الرجال فكيف يكون شأنه مع الصبيان والصغار؟ إنك لتجد بعض ضعفاء الإيمان يأنف أن يسلم على من يرى أنه أقل منه درجة أو منصبًا، ولعل ما بينهما عند الله كما بين السماء والأرض! ألا فليعلم أولئك أنهم على غير هدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يركب الحمار ويخصف النعل ويرفَع القميص ويلبس الصوف ويقول: «مَنْ رَغِبَ عَنْ ُسنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». (حسن رواه ابن عساكر). (خَصَفَ النعْلَ: خاطَهُ بالِمخْرَز). د - تواضع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع أهله: أخي المسلم تأمل في هذه الأحاديث: سُئِلَتْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -:مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: «كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ ـ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ ـ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلَاةِ» (رواه البخاري). (فِي مَهْنَةِ أَهْله) قَدْ فَسَّرَهَا فِي الْحَدِيث بِالْخِدْمَةِ، وَهِيَ مِنْ تَفْسِير آدَم بْن أَبِي إِيَاس شَيْخ البخاري. وَقَدْ وَقَعَ مُفَسَّرًا فِي (الشَّمَائِل) لِلتِّرْمِذِيِّ مِنْ طَرِيق عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَة بِلَفْظِ: «مَا كَانَ إِلَّا بَشَرًا مِنْ الْبَشَر: يُفَلِّي ثَوْبه، وَيَحْلُبُ شَاتَه، وَيَخْدُم نَفْسه» (صحيح). وَفِي الحديث التَّرْغِيب فِي التَّوَاضُع وَتَرْك التَّكَبُّر وَخِدْمَة الرَّجُل أَهْله. وعَنْ عُرْوَةَ بن الزبير قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا؟ قَالَتْ: «نَعَمْ، كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَعْمَلُ فِي بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ» (صحيح رواه الإمام أحمد). وقِيلَ لِعَائِشَةَ - رضي الله عنها -:مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ؟ قَالَتْ: كَمَا يَصْنَعُ أَحَدُكُمْ يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيُرَقِّعُ ثَوْبَهُ» (إسناده صحيح رواه الإمام أحمد). ماذا يقال عمن يفعل مثل هذا اليوم؟ محكوم للمرأة!! ولكنه النور الذي جعله الله - عز وجل - في قلب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فظهر في سلوكه وفعاله وتواضعه وخدمة أهله. وبه كانت تسمو نفسه - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعلو، فليقل السفهاء ما يحلو لهم أن يقولوا. ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعل هذا من فراغ في وقته ولكنه كان يحقق العبودية لله سبحانه بجميع أنواعها وأشكالها وصورها. •

فضل التواضع وذم الكبر: قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الاْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَـ?قِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83).قال عكرمة: العلو: التجبر. وقال سعيد بن جبير: بغير حق: وقال ابن جريج: «لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِى الأرْضِ» تعظمًا وتجبرًا. قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» (رواه مسلم). قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَة مِنْ مَال» ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَارَك فِيهِ، وَيَدْفَع عَنْهُ الْمَضَرَّات، فَيَنْجَبِر نَقْص الصُّورَة بِالْبَرَكَةِ الْخَفِيَّة، وَهَذَا مُدْرَك بِالْحِسِّ وَالْعَادَة. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ نَقَصَتْ صُورَته كَانَ فِي الثَّوَاب الْمُرَتَّب عَلَيْهِ جَبْر لِنَقْصِهِ، وَزِيَادَة إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا» فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْح سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوب، وَزَادَ عِزّه وَإِكْرَامه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد أَجْره فِي الْآخِرَة وَعِزّه هُنَاكَ. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَد للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدهمَا: يَرْفَعهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُثْبِتُ لَهُ بِتَوَاضُعِهِ فِي الْقُلُوب مَنْزِلَة، وَيَرْفَعهُ اللهُ عِنْد النَّاس، وَيُجِلّ مَكَانه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد ثَوَابه فِي الْآخِرَة، وَرَفْعه فِيهَا بِتَوَاضُعِهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْعُلَمَاء: وَهَذِهِ الْأَوْجُه فِي الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة مَوْجُودَة فِي الْعَادَة مَعْرُوفَة، وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد الْوَجْهَيْنِ مَعًا فِي جَمِيعهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. تواضَعْ لربِّ العرشِ عَلّكَ تُرفَعُ ... فما خَابَ عَبْدٌ للمهيمنِ يخضَعُ وداوِ بذِكْرِ اللهِ قلبَك إنَّهُ ... لَأَشْفَى دَواءٍ للقلوبِ وأنفعُ إن المتواضع يرفع الله - عز وجل - منزلته ومكانه وقدره فطوبى للمتواضعين.

عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» (رواه مسلم). (بَطْر الْحَقِّ):دَفْعه وَإِنْكَاره تَرَفُّعًا وَتَجَبُّرًا. (غَمْط النَّاسِ): اِحْتِقَارهمْ. وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ» (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّة؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ» ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟» قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ». (رواه مسلم). قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مُتَضَعَّف» بِفَتْحِ الْعَيْن وَكَسْرهَا، الْمَشْهُور الْفَتْح، وَلَمْ يَذْكُر الْأَكْثَرُونَ غَيْره، وَمَعْنَاهُ: يَسْتَضْعِفهُ النَّاس وَيَحْتَقِرُونَهُ وَيَتَجَبَّرُونَ عَلَيْهِ لِضَعْفِ حَاله فِي الدُّنْيَا، يُقَال: تَضَعَّفَه وَاسْتَضْعَفَهُ، وَأَمَّا رِوَايَة الْكَسْر «مُتَضَعِّف» فَمَعْنَاهَا: مُتَوَاضِع مُتَذَلِّل خَامِل وَاضِع مِنْ نَفْسه، وَقَدْ يَكُون الضَّعْف هُنَا: رِقَّة الْقُلُوب وَلِينهَا وَإِخْبَاتهَا لِلْإِيمَانِ، وَالْمُرَاد أَنَّ أَغْلَب أَهْل الْجَنَّة هَؤُلَاءِ، كَمَا أَنَّ مُعْظَم أَهْل النَّار الْقِسْم الْآخَر. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ» مَعْنَاهُ: لَوْ حَلَفَ يَمِينًا طَمَعًا فِي كَرَم اللهِ تَعَالَى بِإِبْرَارِهِ لَأَبَرَّهُ، وَقِيلَ: لَوْ دَعَاهُ لَأَجَابَهُ. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي أَهْل النَّار: «كُلّ عُتُلّ جَوَّاظ مُسْتَكْبِر» أَمَّا (الْعُتُلّ) فَهُوَ: الْجَافِي الشَّدِيد الْخُصُومَة بِالْبَاطِلِ، وَقِيلَ: الْجَافِي الْفَظّ الْغَلِيظ. أَمَّا (الْجَوَّاظ) فَهُوَ: الْجَمُوع الْمَنُوع، وَقِيلَ: كَثِير اللَّحْم الْمُخْتَال فِي مِشْيَته و (الْمُتَكَبِّر وَالْمُسْتَكْبِر) هُوَ صَاحِب الْكِبْر، وَهُوَ بَطَر الْحَقّ وَغَمْط النَّاس.

قال الحسن سدد خطاكم: «هل تدرون ما التواضع؟ التواضع: أن تخرج من منزلك فلا تلقى مسلمًا إلا رأيت له عليك فضلًا». ومن منا الآن يطبق هذا القول على نفسه، وينزلها تلك المنزلة؟ بل البعض يأخذه العجب والتيه والتكبر على عباد الله لدنيا أو منصب أو علم أوجاه .. وكلها منح وعطايا من الله - عز وجل -.ومثلما أعطاها إياه فهو سبحانه قادر على أن يسلبها منه في طرفة عين. قال سفيان بن عيينة: «من كانت معصيته في شهوة فارْجُ له التوبة؛ فإن آدم عليه السلام عصي مشتهيًا فاستغفر فغُفر له، فإذا كانت معصيته من كبر فاخْشَ عليه اللعنة. فإن إبليس عصى مستكبرًا فلُعن». أخي المسلم: من اتقى الله تعالى تواضَعَ له، ومن تكبر كان فاقدًا لتقواه، ركيكًا في دينه مشتغلًا بدنياه؛ فالمتكبر وضيع وإن رأى نفسه مرتفعًا على الخلق، والمتواضع وإن رؤي وضيعًا فهو رفيع القدر. تواضَعْ تَكُنْ كالنجمِ لاحَ لِنَاظرٍ ... على صَفْحَاتِ الماءِ وهو رَفِيعُ ولا تكُ كالدّخَانِ يعْلُو بنَفْسِه إلى طبَقَاتِ الجوِّ وهو وَضِيعُ وتأمل في حال من تلبسه الشيطان في حالة واحدة من حالات الكبر يظنها بعض الناس يسيرة وهي عند الله عظيمة؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِي فِي بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَخَسَفَ اللهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» (رواه مسلم). (يَتَجَلْجَل: يَتَحَرَّك وَيَنْزِل مُضْطَرِبًا). مر بعض المتكبرين على مالك بن دينار، وكان هذا المتكبر يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أنها مشية يكرها الله إلا بين الصفين؟ (أي عند قتال الكفار) فقال المتكبر: أما تعرفني؟ قال مالك: بلى، أوّلُك نطفة مَذِِرة (أي فاسدة)، وآخرك جيفة قذرة (أي تموت ويأكلك الدود)، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة (يعني البراز)، فانكسر وقال: «الآن عرفتني حق المعرفة». أخي الحبيب: كل ما تراه من مباهج الدنيا وزينتها إنما هو ظل زائل وراكب مرتحل. أحلامُ ليلٍ أو كَظِلٍ زَائلِِِ ... إنَّ اللبيبَ بمِثلِها لا يُخْدَعُ عن ابن شهاب قال: «خرج عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى الشام ومعنا أبو عبيدة بن الجراح، فأتوا على مخاضة وعمر على ناقة، فنزل عنها وخلع خفيه فوضعهما على عاتقه، وأخذ بزمام ناقته، فخاض بها المخاضة. فقال أبو عبيدة: «يا أمير المؤمنين، أأنت تفعل هذا؟! تخلع خفيك وتضعهما على عاتقك، وتأخذ بزمام ناقتك وتخوض بها المخاضة؟! ما يسرني أن أهل البلد استشرفوك!». فقال عمر: أَوَّهْ، لو يقل ذا غيرك أبا عبيدة، جعلته نكالًا لأمة محمد - رضي الله عنه -! إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله». (رواه الحاكم وقال: «صحيح على شرط الشيخين». ووافقه الذهبي، والألباني). (استشرفوك):رفعوا أبصارهم ينظرون إليك. (أَوَّهْ) كَلِمَة تُقَال عِنْد التَّوَجُّع. قال الشاعر: تواضَعْ إذا ما نِلتَ في الناسِ رفعةً ... فإنّ رفِيعَ القومِ مَن يَتَوَاضَعُ ولا تمشِ فوقَ الأرضِ إلا تواضعًا ... فكمْ تحتَها قومٌ هُمُوا مِنْكَ أرفَعُ وإنْ كُنْتَ في عِزٍ رَفيعٍ ومَنْعَةٍ ... فكمْ مَاتَ مِن قومٍ هُمُوا منكَ أمْنَعُ أيها الناس: اعلموا أن الزمان لا يثبت على حال كما قال - عز وجل -: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران:139).فتارة فقر، وتارة غِنَى، وتارة عز، وتارة ذُل، وتارة منصب، وهكذا؛ فالسعيد من لازم أصلًا واحدًا على كل حال، وهو تقوى الله - عز وجل - والتواضع على كل حال، وهذا الذي يزينه ويبقى معه.

6 - فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -

6 - فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - قال الله - عز وجل -: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} (الحج:38).يخبر - سبحانه وتعالى - أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم، ومن هؤلاء الأشرار الفجار الشيعة الاثنى عشرية الموجودون في إيران والعراق ولبنان وغيرهم، أولئك الذين يزعمون أن الصحابة - رضي الله عنهم - ارتدوا عن الإسلام إلا ثلاثة أو أربعة أو سبعة، على اختلاف أساطيرهم. وكيف يقال مثل هذا القول في أشرف جيل عرفته الإنسانية، وأفضل قرن عرفته البشرية، في قوم نقلوا لنا الدين، وشهدت بفضلهم آيات القرآن العظيمة، ونصوص السّنة المطهّرة، ووقائع التاريخ الصادقة. • يباهي الله - عز وجل - بهم ملائكته: وتأمل كيف يباهي الله - عز وجل - بهم ملائكته، فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى حَلْقَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: مَا أَجْلَسَكُمْ؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ. قَالَ: آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟ قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ. قَالَ: أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ وَمَا كَانَ أَحَدٌ بِمَنْزِلَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَقَلَّ عَنْهُ حَدِيثًا مِنِّي، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ؟». قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ وَنَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ: «آللهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلَّا ذَاكَ؟» قَالُوا: وَاللهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلَّا ذَاكَ. قَالَ: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ - عز وجل - يُبَاهِي بِكُمْ الْمَلَائِكَةَ» (رواه مسلم). فطوبى لمن أحبهم، وسلك سبيلهم، وترضى عنهم، ويا ويل من أبغضهم أو أبغض بعضهم، وذلك من علامات الخذلان، وأمارات الخيبة والخسران. ومبغضهم ومنتقدهم نابح الكواكب النيِّرات وناطح الجبال الثابتات. فالسعيد من تولى جملتهم، واهتدى بهديهم، وتمسك بحبلهم، والشقى من تعرض للخوض فيما شجر بينهم، واقتحم خطر التفريق بينهم، وأتبع نفسه هواها فى سب أحد منهم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ» (رواه البخاري). قال الحافظ ابن حجر: قَوْله (مِنْ عَادَى لِي وَلِيًّا) الْمُرَاد بِوَلِيِّ اللهِ الْعَالِم بِاللهِ الْمُوَاظِب عَلَى طَاعَته الْمُخْلِص فِي عِبَادَته. وَقَدْ اُسْتُشْكِلَ وُجُود أَحَدٍ يُعَادِيهِ لِأَنَّ الْمُعَادَاةَ إِنَّمَا تَقَعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَمَنْ شَأْن الْوَلِيِّ الْحِلْم وَالصَّفْح عَمَّنْ يَجْهَل عَلَيْهِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمُعَادَاةَ لَمْ تَنْحَصِرْ فِي الْخُصُومَةِ وَالْمُعَامَلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَثَلًا بَلْ قَدْ تَقَع عَنْ بُغْضٍ يَنْشَأُ عَنْ التَّعَصُّبِ كَالرَّافِضِيِّ (¬1) فِي بُغْضِهِ لِأَبِي بَكْرٍ، وَالْمُبْتَدِع فِي بُغْضِهِ لِلسُّنِّيِّ، فَتَقَعُ الْمُعَادَاةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، أَمَّا مِنْ جَانِب الْوَلِيِّ فَللهِ تَعَالَى وَفِي اللهِ، وَأَمَّا مِنْ جَانِب الْآخَر فَلِمَا تَقَدَّمَ. اهـ من (فتح الباري). وهؤلاء الشيعة الاثنا عشرية يعادون أولياء الله - عز وجل - من الصحابة - رضي الله عنهم - ـ فمن دونهم ـ فكيف يواليهم مسلم؟ وكيف تنطلي عليه خدعتهم وكيف يركن إليهم؟ والله تعالى يقول {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} (هود:113). ¬

_ (¬1) الرافضي: الشيعي.

وهؤلاء الشيعة ظالمون ومن بعض ظلمهم أنهم يظلمون أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -، فكيف يواليهم مسلم والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأنعام:129)، إنه لا يواليهم إلا ظالم، ومن يرضى أن يكون ظالمًا لأبي بكر وعمر وعثمان وأبي عبيدة وطلحة والزبير؟ ومَن يرضَى أن يكون في الصف المقابل للصحابة وأئمة الاجتهاد من هذه الأمة؟ ومن يرضى أن يكون أداة بيد الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم؟ تقوم عقيدة الشيعة الإثنى عشرية على سب وشتم وتكفير الصحابة - رضي الله عنهم -.ذكر الكليني في (فروع الكافي) (كذبًا) عن جعفر: «كان الناس أهل ردة بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا ثلاثة، فقلت: من الثلاثة؟ فقال: المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي». وذكر المجلسي في (حق اليقين) أنه قال لعلي بن الحسين مولى له: «لي عليك حق الخدمة فأخبرني عن أبي بكر وعمر؟ فقال: إنهما كانا كافرين، الذي يحبهما فهو كافر أيضًا». وفي تفسير القمي عند قوله تعالى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} (النحل:90) قالوا: الفحشاء أبو بكر، والمنكر عمر، والبغي عثمان. ويقولون في كتابهم (مفتاح الجنان): «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد والعن صنمَيْ قريش وجِبتَيْهِما وطاغوتَيْهما وابنتيهما .. إلخ» ويعنون بذلك أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة - رضي الله عنهم -. وفي يوم عاشوراء يأتون بكلب ويسمونه عمر، ثم ينهالون عليه ضربا بالعصي ورجمًا بالحجارة حتى يموت، ثم يأتون بسخلة (¬1) ويسمونها عائشة، ثم يبدؤون بنتف شعرها وينهالون عليها ضربًا بالأحذية حتى تموت. وللشيعة عيد يقيمونه في اليوم التاسع من ربيع الأول، يحتفلون فيه باليوم الذي قتل فيه الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ويسمون قاتله أبا لؤلؤة المجوسي: بابا شجاع الدين. اللهم ارض عن الصحابة أجمعين وعن أمهات المؤمنين. قال الإمام مالك - رحمه الله - عن الشيعة: «إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء، ولو كان صالحًا كان أصحابه صالحين». وقال الحافظ الكبير أبو زرعة الرازي - رحمه الله -: «إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن القرآن حق، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حق، وما جاء به حق، وما أدى إلينا ذلك كله إلا الصحابة. فمَن جرحهم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به أليق، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقْوَم وأحَق». قال الإمام الطحاوي الحنفي في عقيدته المشهورة: «ونحب أصحاب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا نفرق في حب أحد منهم، ونبغض من أبغضهم وبغير الخير يذكرهم، محبتُهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان». فهؤلاء الشيعة يريدون أن يهدموا الصحابة ليبطلوا القرآن والسنة {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف:8). لا تركنَنَّ إلى الروافِضِ إنَّهمْ ... شتَموا الصحابةَ دونَ مَا برهانِ لعِنوا كما بَغَضُوا صحابةَ أحمدٍ ... ووِدَادُهُم فرضٌ على الإنسانِ حُبُّ الصحابةِ والقرابةِ سُنَّةٌ ... ألقَى بها ربِّي إذا أحَياني • من هو الصحابى؟ الصحابى مَن لقي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مؤمنًا به، ومات على الإسلام، فيدخل في (من لقيه) مَن طالت مجالسته له أو قصرت، ومن روى عنه أو لَم يرو، ومن لَمْ يره لعارض كالعمى. • ¬

_ (¬1) السخلة: الذكر والأنثى من ولد الضأن والمعْز ساعة يولد.

عدة الصحابة - رضي الله عنهم -: توفى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد دخل فى الناس فى دين الله أفواجًا كما بشره الله - عز وجل - بقوله: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} (النصر:1، 2). ونقل الإمام الشافعى - رحمه الله - أن النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - قبض والمسلمون ستون ألفًا: ثلاثون ألفًا بالمدينة، وثلاثون ألفا فى قبائل العرب غيرها. وقد ذكر القرآن صحابيًا هو زيد بن حارثة - رضي الله عنه -، بقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} (الأحزاب:37)، وأضمر صحابيًا آخر هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - بقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} (التوبة:40). وإذا ثبت لرجل أو لامرأة الصحبة فلا يمكن أن يخرج من حظيرتهم ولا يقبل لمزة بالنفاق إلا بإسناد صحيح كذلك، ولهذا لا يصح قول من قال: إن ثعلبة بن حاطب الأنصارى ـ وهو ممن شهد غزوة بدر ـ هو المقصود بقوله تعالى: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (التوبة:75). وهذه القصة ـ التي يذكرها كثير من الخطباء أثناء حديثهم عن الزكاة ـ لا تصح سندًا ولا متنًا، أما سندًا فهى من طريق معان بن رفاعة عن على بن يزيد، وكلاهما لا يصح حديثهما. وأما متنًا فالنبى - صلى الله عليه وآله وسلم - قرر أن مانع الزكاة تؤخذ منه قسرًا، وحارب أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - مانعى الزكاة، فكيف يرفض أخذها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر وعمر؟ • عدالة الصحابة - رضي الله عنهم - ووجوب محبتهم ونصرتهم: اتفق أهل السنة على أن جميع الصحابة عدول، وعدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله - عز وجل - لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم، فمن ذلك قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (آل عمران:110).وقوله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة:143).وقوله - عز وجل -: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ

الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} (الفتح:18).وقوله - عز وجل -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} (التوبة:100). ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما وصفهم الله - عز وجل - فى قوله: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر:10). وطاعةً للنبى - صلى الله عليه وآله وسلم - فى قوله: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (رواه البخاري ومسلم). ومَعْنَى الْحَدِيث: لَا يَنَال أَحَدكُمْ بِإِنْفَاقِ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مِنْ الْفَضْل وَالْأَجْر مَا يَنَال أَحَدهمْ بِإِنْفَاقِ مُدّ طَعَام أَوْ نَصِيفه. وأهل السنة والجماعة يقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم، ويفضلون من أنفق من قبل الفتح ـ وهو صلح الحدييية ـ وقاتل، على من أنفق من بعدُ وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله - عز وجل - قال لأهل بدر وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر: «لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدْ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» (رواه البخاري ومسلم). ويؤمنون بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ» (صحيح رواه أبو داود)، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة؛ قال الله - عز وجل -: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (الفتح:18، 19). ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كالعشرة وثابت بن قيس بن شماس وغيرهم من الصحابة - رضي الله عنهم -، ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين على بن

أبى طالب - رضي الله عنه - وغيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر، ويثلثون بعثمان ويربعون بعلى - رضي الله عنهم -. وعَنْ عَمْرو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ. قُلْتُ: مِنْ الرِّجَالِ؟ قَالَ: أَبُوهَا. قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ، فَعَدَّ رِجَالًا». (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي (أي على بن أبى طالب - رضي الله عنه -):أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قَالَ: «أَبُو بَكْرٍ». قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ عُمَرُ»، وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ عُثْمَانُ. قُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: «مَا أَنَا إِلَّا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (رواه البخاري). قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): «وَهَذَا قَالَهُ عَلِيّ - رضي الله عنه - تَوَاضُعًا مَعَ مَعْرِفَته حِين الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة أَنَّهُ خَيْر النَّاس يَوْمئِذٍ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْد قَتْل عُثْمَان، وَأَمَّا خَشْيَة مُحَمَّد اِبْن الْحَنَفِيَّة أَنْ يَقُول عُثْمَان فَلِأَنَّ مُحَمَّدًا كَانَ يَعْتَقِد أَنَّ أَبَاهُ أَفْضَل، فَخَشِيَ أَنَّ عَلِيًّا يَقُول عُثْمَان عَلَى سَبِيل التَّوَاضُع مِنْهُ وَالْهَضْم لِنَفْسِهِ فَيَضْطَرِب حَال اِعْتِقَاده وَلَا سِيَّمَا وَهُوَ فِي سِنّ الْحَدَاثَة ... وَقَدْ سَبَقَ بَيَان الِاخْتِلَاف فِي أَيّ الرَّجُلَيْنِ أَفْضَل بَعْد أَبِي بَكْر وَعُمَر: عُثْمَان أَوْ عَلِيّ؟ وَأَنَّ الْإِجْمَاع اِنْعَقَدَ بِآخِرِهِ بَيْن أَهْل السُّنَّة أَنَّ تَرْتِيبهمْ فِي الْفَضْل كَتَرْتِيبِهِمْ فِي الْخِلَافَة، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ». ثم نقل عن الْقُرْطُبِيّ فِي (الْمُفْهِم شرح صحيح مسلم) أن الْمَقْطُوع بِهِ بَيْن أَهْل السُّنَّة بِأَفْضَلِيَّةِ أَبِي بَكْر ثُمَّ عُمَر، ثُمَّ اِخْتَلَفُوا فِيمَنْ بَعْدهمَا: فَالْجُمْهُور عَلَى تَقْدِيم عُثْمَان، وَعَنْ مَالِك التَّوَقُّف، وَالْمَسْأَلَة اِجْتِهَادِيَّة، وَمُسْتَنَدهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة اِخْتَارَهُمْ اللهُ تَعَالَى لِخِلَافَةِ نَبِيّه وَإِقَامَة دِينه فَمَنْزِلَتهمْ عِنْده بِحَسَبِ تَرْتِيبهمْ فِي الْخِلَافَة».اهـ بتصرف من (الفتح). بلّغ الأشواقَ والحُبَّ الصَّحَابَةْ سَادَةَ القومِ وأَرْبَابَ النَّجَابَةْ هُمْ حُمَاةُ الدِّينِ أَبْطَالُ الرَّدَى بَلْ غُيُوثُ البَذْلِ بَلْ آسَادُ غابَةْ حُبُّهُمْ دِينٌ ومَنْ يُبْغِضْهُمُوا ربُّنا في نارِهِ الأخْرَى أذَابهَْ (غُيُوثُ جمع: غيث: وهو المطر، والمعنى أنهم كثيرو البذل). • فضائل الصحابة من كتاب الله - عز وجل -: 1 - قال الله - عز وجل -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (البقرة:143). {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدلًا خيارًا، فجعل الله - عز وجل - هذه الأمة، وسطًا في كل أمور الدين، وسطا في الأنبياء، بين من غلا فيهم، كالنصارى، وبين من جفاهم، كاليهود، بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللائق بذلك. ووسطًا في الشريعة، لا تشديدات اليهود وآصارهم، ولا تهاون النصارى. وفي باب الطهارة والمطاعم طهارتهم أكمل طهارة وأتمها، وأباح الله - عز وجل - لهم الطيبات من المطاعم والمشارب والملابس والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك، لا كاليهود الذين لا تصح لهم صلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، ولا يطهرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم الطيبات، عقوبة لهم، ولا كالنصارى الذين لا ينجسون شيئًا، ولا يحرمون شيئًا. فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلها، ومن الأعمال أفضلها.

ووهبهم الله من العلم والحلم، والعدل والإحسان، ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا {أُمَّةً وَسَطًا} ليكونوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم، فما شهدت له هذه الأمة بالقبول، فهو مقبول، وما شهدت له بالرد، فهو مردود. فإن شك شاكٌّ في فضلها، وطلب مزكيًا لها، فهو أكمل الخلق، نبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلهذا قال تعالى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}. ومن شهادة هذه الأمة على غيرهم، أنه إذا كان يوم القيامة، وسأل الله المرسلين عن تبليغهم، والأمم المكذبة عن ذلك، وأنكروا أن الأنبياء بلّغَتْهم، استشهدَ الأنبياء بهذه الأمة، وزكاها نبيها - صلى الله عليه وآله وسلم -. وفي الآية دليل على أن إجماع هذه الأمة، حجة قاطعة، وأنهم معصومون عن الخطأ، لإطلاق قوله: {وَسَطًا} فلو قدر اتفاقهم على الخطأ، لم يكونوا وسطًا، إلا في بعض الأمور. وقوله: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو أوجبه، فإنها معصومة في ذلك. والآية وإن كانت فى حق سائر الأمة فإن الصحابة - رضي الله عنهم - هم المشافَهون بهذا الخطاب. 2 - قال الله - عز وجل -: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:100). قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: «يخبر - عز وجل - عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، ورضاهم عنه بما أعدَّ لهم من جنات النعيم، والنعيم المقيم.

فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: فيا ويل من أبغضهم أو سَبَّهم أو أبغض أو سبَّ بعضهم، ولا سيما سيدُ الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم، الصديق الأكبر والخليفة الأعظم أبا بكر بن أبي قحافة - رضي الله عنه -. ولكن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويُبغضونهم ويَسُبُّونهم، عياذًا بالله من ذلك. وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبُّون من رضي الله عنهم؟ وأما أهل السنة فإنهم يترضّون عمن - رضي الله عنه -، ويسبون من سبه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدون ولهذا هم حزب الله المفلحون وعباده المؤمنون.» اهـ بتصرف من (تفسير القرآن العظيم). وقد قيل: المراد بـ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} جميع المهاجرين والأنصار. قال محمد بن زياد: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظى - رضي الله عنه -:ألا تخبرنى عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما بينهم؟ ـ وأردت الفتن ـ، فقال: إن الله قد غفر لجميعهم محسنهم ومسيئهم، وأوجب لهم الجنة فى كتابه. فقلت له: فى أى موضع أوجب لهم؟ فقال: سبحان الله ألا تقرأ {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ} إلى آخر الآية، فأوجب الله الجنة لجميع أصحاب النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقال الشنقيطى - رحمه الله - في (أضواء البيان): «ولا يخفى أنه تعالى صرح فى هذه الآية الكريمة أنه قد رضى عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وهو دليل قرآنى صريح في أن من يسبهم ويبغضهم أنه ضال مخالف لله ـ جل وعلا ـ، حيث أبغض من - رضي الله عنه -، ولا شك أن بُغض من - رضي الله عنه - مضادة له جل وعلا وتمرد وطغيان».

3 - وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} (الفتح:18 - 19). ومن رضي الله عنه لا يمكن موته على الكفر؛ لأن العبرة بالوفاء على الإسلام، فلا يقع الرضا منه تعالى إلا على من علم موته على الإسلام. قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: «يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تحت الشجرة، وقد كانوا ألفا وأربعمائة، والشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية. قوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} أي: من الصدق والوفاء، والسمع والطاعة، {فَأَنزلَ السَّكِينَةَ}:وهي الطمأنينة، {عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}:وهو ما أجرى الله على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم، وما حصل بذلك من الخير العام المستمر المتصل بفتح خيبر وفتح مكة، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم عليهم، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال: {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا * وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}» اهـ بتصرف من (تفسير القرآن العظيم). 4 - وقال الله - عز وجل -: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الفتح:29). قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: «يخبر تعالى عن محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه رسول الله حقًا بلا شك ولا ريب فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ} وهذا مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنَّى بالثناء على أصحابه - رضي الله عنهم - فقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} (الفتح:29) كما

قال - عز وجل -: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (المائدة:54). هذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا برًا بالأخيار، عبوسًا فى وجه الكافر، ضحوكًا بشوشًا فى وجه أخيه المؤمن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} (التوبة:123). ثم قال تعالى مادحًا لهم: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا} (الفتح:20).وصفهم بكثرة العمل وكثرة الصلاة وهى خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله - عز وجل - والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب، ورضاه تعالى عنهم، وهو أكبر من الأول كما قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ} (التوبة:72). ثم قال - عز وجل -: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال على بن أبى طلحة: يعنى السمت الحسن. وعن زائدة عن منصور عن مجاهد: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} قال: الخشوع. قلت: ما كنت أراه إلا هذا الأثر فى الوجه فقال: ربما كان بين عينَىْ من هو أقسى قلبًا من فرعون. الصحابة - رضي الله عنهم - خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه فى سمتهم وهديهم. قال مالك - رضي الله عنه -:بلغنى أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة - رضي الله عنهم - الذين فتحوا الشام يقولون: «والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا».وصدقوا فى ذلك فإن هذه الأمة معظمة فى الكتب المتقدمة وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم فى الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ} (الفتح:29).

ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أى: فراخه (¬1) {فَآزَرَهُ} أى: شده {فَاسْتَغْلَظَ} أى: شب وطال. {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أى: فكذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - آزروه وأيدوه ونصروه، فهم معه كالشطء مع الزرع {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ}. ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك - رحمه الله - فى رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة - رضي الله عنهم -، قال: لأنهم يغيظونهم؛ ومن غاظه الصحابة - رضي الله عنهم - فهو كافر لهذه الآية، ووافقه طائفة من العلماء - رضي الله عنهم - على ذلك. ثم قال - عز وجل -: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}. و (مِنْ) هنا لبيان الجنس لا للتبغيض، والمعنى: وعد الله جميع الصحابة الجنة، ووعد الله حق وصدق، لا يخلف ولا يبدل، وكل من اقتفى أثر الصحابة - رضي الله عنهم - فهو فى حكمهم، ولهم الفضل والسبق والكمال لا يلحقهم فيه أحد من هذه الأمة - رضي الله عنهم - وأرضاهم، وجعل جنات الفردوس مأواهم، وقد فعل».اهـ بتصرف من (تفسير القرآن العظيم). 5 - وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} (الحديد:10). قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -:قوله: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} أي: لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله، وذلك أن قبل فتح مكة كان الحال شديدًا، فلم ¬

_ (¬1) جاء في (لسان العرب): «الشَّطْءُ فَرْخُ الزَّرْع والنخل، وقيل: هو ورق الزَّرْع، وفي التنزيل {كزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} أَي طَرَفَه وجمعه شُطُوءٌ، وقال الفرّاءُ: شَطْؤُه السُّنْبُل، تُّنْبِت الحَبَّةُ عَشْرًا وثمانيًا وسَبْعًا فيَقْوَى بعضُه ببعض فذلك قوله تعالى {فآزَرَه} أَي فأَعانَه. وقال الزجاج: أَخْرَج شَطْأَه: أَخرج نباتَه. وقال ابن الأَعرابي: شَطْأَه: فِراخَه. وشَطْءُ الشجرِ ما خَرج حول أَصله والجمع أَشْطاءٌ، وأَشْطَأَتِ الشجرةُ بغُصونها إِذا أَخرجت غُصونَها وأَشْطَأَ الزرعُ إِذا فَرَّخ. (اهـ بتصرف)

يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهورًا عظيمًا، ودخل الناس في دين الله أفواجا؛ ولهذا قال: {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى}. والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا فتح مكة. وعن الشعبي وغيره أن المراد بالفتح هاهنا: صلح الحديبية. قوله - عز وجل -: {وَكُلا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى} يعني المنفقين قبل الفتح وبعده، كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء، وإنما نَبَّه بهذا لئلا يُهدرَ جانب الآخر بمدح الأول دون الآخر، فيتوهم متوهم ذمه؛ فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه؛ ولهذا قال: {وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذلك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام، وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق. ولا شك عند أهل الإيمان أن الصديق أبا بكر - رضي الله عنه - له الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه سيّد من عمل بها من سائر أمم الأنبياء، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله - عز وجل - ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها».اهـ بتصرف من (تفسير القرآن العظيم). وهذه الآية نص صريح فى تفاوت الصحابة - رضي الله عنهم - فى الدرجات والمراتب، ونص صريح أيضًا فى كون جميعهم فى الجنة. وفى الآية دليل على أن الفضل للسابق، وعلى أن أفضلية العمل على قدر رجوع منفعته إلى الإسلام والمسلمين، لأن الأجر على قدر النصب. 6 - قال تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر:8 - 10). {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}:أي في إيمانهم حيث تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا ينصرون الله ورسوله. {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ}:أي والأنصار الذين نزلوا المدينة ألِفُوا الإيمان بعدما اختاروه على الكفر. {مِن قَبْلِهِمْ}:أي من قبل المهاجرين. {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً}:أي حسدًا ولا غيظًا. {مِّمَّا أوتُوا}:أي مما أوتِىَ أخوانُهم المهاجرون من فَيْءِ بنى النضير. {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ}:أي في كل شيء حتى إن الرجل منهم تكون تحته المرأتان فيعرض أن يطلق أحداهما ليزوجها مهاجرًا. ... {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}:أي حاجة شديدة وخلَّة كبيرة لا يجدون ما يسدونها به. {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}:أي ومن يَقِه الله تعالى حرص نفسه على المال والبخل به. {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد المهاجرين والأنصار من التابعين الى يومنا هذا فما بعد. فيدخل تحت هذه الآية جميع الأمة الإسلامية الذين جاءوا بعد الصحابة من التابعين إلى قيام الساعة قطعًا بشرط استغفارهم للمهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم -. {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} قال الإمام القرطبى: «هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة لأنه جعل لمن بعدهم حظًا فى الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم والاستغفار لهم، وأن مَن سبَّهم أو واحدًا منهم أو اعتقد فيه شرًا إنه لا حق له في الفيء، رُوى ذلك عن مالك وغيره،

قال مالك: من كان يبغض أحدًا من أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ} الآية. وعن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جده علي بن الحسين - رضي الله عنهم -، أنه جاءه رجل فقال له: يا ابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ما تقول في عثمان؟ فقال له: يا أخى أنت من قوم قال الله فيهم: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ} الآية؟.قال: لا! قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية، فأنت من قوم قال الله فيهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} الآية؟.قال: لا! قال: فوالله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام، وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية. وقد قيل: إن محمد بن علي بن الحسين - رضي الله عنهم - روى عن أبيه: أن نفرًا من أهل العراق جاءوا إليه، فسبوا أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ثم عثمان - رضي الله عنه - فأكثروا، فقال لهم: أمِنَ المهاجرين الأولين أنتم؟ قالوا لا. فقال: أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ فقالوا لا. فقال: قد تبرأتم من هذين الفريقين!! أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} قوموا، فعل الله بكم وفعل»!! ذكره النحاس. اهـ بتصرف من (الجامع لأحكام القرآن). 7 - قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التحريم:8). قوله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} معطوف على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ففيه تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر، واستحماد للمؤمنين على أنه عصمهم من مثل حالهم، فآمَنَهم الله من خزيه، ولا يأمن من خزيه في ذلك اليوم إلا الذين ماتوا والله - عز وجل - ورسوله

- صلى الله عليه وآله وسلم - عنهم راضٍ، فأمانهم من الخزى صريح في موتهم على كمال الإيمان وحقائق الإحسان، وفي أن الله لم يزل راضيًا عنهم وكذلك رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. 8 - الصحابة - رضي الله عنهم - هم أوْلَى الناس بالدخول في الآيات العامة التي يَعِدُ الله فيها عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالفوز بالرضى والجنات، لأنهم سادات المؤمنين وأكثر الناس حظًا من الأعمال الصالحة، وذلك مثل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} (المؤمنون:1 - 10). وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} (المطففين:18 - 28). والآيات من هذا القبيل كثيرة جدًا يصعب استقصاؤها، وأولى الناس بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ورضي الله عنهم أجمعين ورزقنا سلوك سبيلهم والسير على منهاجهم وطريقهم وحشرنا معهم فى زمرتهم. حُبُّ النَبِيِّ وحُبُّ الصحبِ مفتَرَضٌ ... أضْحَوْا لتابعِهم نورًا وبرهانَا مَن كان يَعلمُ أّنّ اللهَ خالقُه ... فلا يقولَنّ في الصّدِّيقِ بُهتَانَا ولا يسبُّ أبا حَفْصٍ وشيعتَه ... ولا الخليفةَ عثمانَ بنَ عفّانَا ثُمَّ الوَلِيُّ فلا ينسَى المقالَ له ... هُمُ الذينَ بنَوْا للدينِ أركانَا همْ عمادُ الورَى في الناسِ كُلّهِمُ ... جازاهمُ اللهُ بالإحسانِ إحسانَا

7 - فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - في السنة المطهرة

7 - فضائل الصحابة - رضي الله عنهم - في السنة المطهرة هم صفوةُ الأقوامِ فاعرِفْ قدرَهُمْ ... وعَلَى هُدَاهُم يا مُوَفّقُ فاهتدِ واحفظ وصية أحمد في صحبه ... واقطع لأجلهمُ لسانَ المفْسِدِ عرضِي لعرضِهِمُوا الفداءُ وإنهم ... أزكى وأطهر من غَمامٍ أبردِ فالله زكّاهم وشرّف قدرَهم ... وأحَلّهمْ بالدينِ أعلَى مقعدِ شهِدوا نزولَ الوحْيِ بل كانوا له ... نِعْمَ الحماةُ مِن البغيضِ الملحدِ بذلوا النفوسَ وأرخَصُوا أموالَهم ... في نصرةِ الإسلامِ دونَ ترددِ ما سبَّهُم إلا حَقيرٌ تافهٌ ... نذْلٌ يشوههم بحقدٍ أسودِ لَغُبَارُ أقدَامِ الصحابةِ في الرَّدَى ... أغْلَى وأعْلَى مِنْ جَبِينِ الأبْعَدِ ما نال أصحابَ الرسولِ سِوَى امرِءٍ ... تمَّتْ خسارتُه لسوءِ المقْصدِ 1 - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» (رواه مسلم). مَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ النُّجُوم مَا دَامَتْ بَاقِيَة فَالسَّمَاء بَاقِيَة. فَإِذَا اِنْكَدَرَتْ النُّجُوم، وَتَنَاثَرَتْ فِي الْقِيَامَة، وَهَنَتْ السَّمَاء، فَانْفَطَرَتْ، وَانْشَقَّتْ، وَذَهَبَتْ. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَأَنَا أَمَنَة لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ) أَيْ مِنْ الْفِتَن وَالْحُرُوب، وَارْتِدَاد مَنْ اِرْتَدَّ مِنْ الْأَعْرَاب، وَاخْتِلَاف الْقُلُوب، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا أَنْذَرَ بِهِ صَرِيحًا، وَقَدْ وَقَعَ كُلّ ذَلِكَ. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَأَصْحَابِي أَمَنَة لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ) مَعْنَاهُ مِنْ ظُهُور الْبِدَع، وَالْحَوَادِث فِي الدِّين، وَالْفِتَن فِيهِ، وَطُلُوع قَرْن الشَّيْطَان،

وَظُهُور الرُّوم وَغَيْرهمْ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَاك الْمَدِينَة وَمَكَّة وَغَيْر ذَلِكَ. وَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ مُعْجِزَاته - صلى الله عليه وآله وسلم -. 2 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي، اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللهَ - عز وجل -، وَمَنْ آذَى اللهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ» (إسناده حسن رواه الإمام أحمد). (اللهَ اللهَ) أَيْ اِتَّقُوا اللهَ ثُمَّ اِتَّقُوا اللهَ (فِي أَصْحَابِي) أَيْ فِي حَقِّهِمْ. وَالْمَعْنَى لَا تُنْقِصُوا مِنْ حَقِّهِمْ وَلَا تَسُبُّوهُمْ، أَوْ التَّقْدِيرُ: أُذَكِّركُمْ اللهَ ثُمَّ أَنْشُدُكُمْ اللهَ فِي حَقِّ أَصْحَابِي وَتَعْظِيمِهِمْ وَتَوْقِيرِهِمْ كَمَا يَقُولُ الْأَبُ الْمُشْفِقُ اللهَ اللهَ فِي حَقِّ أَوْلَادِي. (لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا) أَيْ هَدَفًا تَرْمُوهُمْ بِقَبِيحِ الْكَلَامِ كَمَا يُرْمَى الْهَدَفُ بِالسَّهْمِ. (فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ) أَيْ بِسَبَبِ حُبِّهِ إِيَّايَ أحَبَّهُمْ، أَوْ بِسَبَبِ حُبِّي إِيَّاهُمْ أحَبَّهُمْ. (وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضُهُمْ) أَيْ إِنَّمَا أَبْغَضُهُمْ بِسَبَبِ بُغْضِهِ إِيَّايَ. (أَنْ يَأْخُذَهُ) أَيْ يُعَاقِبَهُ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ. إن الروافضَ (¬1) شرُّ من وطيءَ الحصَا ... مِن كُلِّ إنسٍ ناطقٍ أو جانِ مَدَحُوا النبيَّ وخوَّنوا أصحابَه ... ورموهمُ بالظلمِ والعدوانِ حبُّوا قرابته وسبُّوا صحبَه ... جَدَلانِ عِندَ اللهِ منتقِضانِ فكأنما آلُ النبيِّ وصحبُهِ ... روحٌ يضم جميعَها جسَدانِ 3 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -:فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي، مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ ¬

_ (¬1) الرافضي: الشيعي.

فَقُلْتَ: «وَجَبَتْ، وَجَبَتْ، وَجَبَتْ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ» (رواه مسلم). 4 - قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (رواه البخاري ومسلم).وفي رواية للبخاري ومسلم أيضًا: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» قال الإمام النووي - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «اِتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ خَيْر الْقُرُون قَرْنه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَالْمُرَاد أَصْحَابه. وَرِوَايَة (خَيْر النَّاس) عَلَى عُمُومهَا، وَالْمُرَاد مِنْهُ جُمْلَة الْقَرْن، وَلَا يَلْزَم مِنْهُ تَفْضِيل الصَّحَابِيّ عَلَى الْأَنْبِيَاء صَلَوَات اللهُ وَسَلَامه عَلَيْهِمْ، وَلَا أَفْرَاد النِّسَاء عَلَى مَرْيَم وَآسِيَة وَغَيْرهمَا، بَلْ الْمُرَاد جُمْلَة الْقَرْن بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلّ قَرْن بِجُمْلَتِهِ». (اهـ بتصرف). 5 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي؛ فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (رواه البخاري). مَعْنَى الْحَدِيث: لَا يَنَال أَحَدكُمْ بِإِنْفَاقِ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مِنْ الْفَضْل وَالْأَجْر مَا يَنَال أَحَدهمْ بِإِنْفَاقِ مُدّ طَعَام أَوْ نَصِيفه وَالنَّصِيف هُوَ النِّصْف. 6 - عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ، فَيَقُولُونَ: فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ فَيَغْزُو فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَيُقَالُ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ صَاحَبَ مَنْ صَاحَبَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ» (رواه البخاري ومسلم). (فِئَام) أَيْ جَمَاعَة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث مُعْجِزَات لِرَسُولِ اللهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَفَضْل الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ. وَمِثْله حَدِيث وَاثِلَة بن الأسقع - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا دَامَ فِيكُمْ مَنْ رَآنِي وَصَاحَبَنِي، وَاللهُ لَا تَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا دَامَ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ رَآنِي وَصَاحَبَنِي» (رواه اِبْن أَبِي شَيْبَة وَقال الحافظ ابن حجر: إِسْنَاده حَسَن). 7 - قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمْ الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ» (رواه البخاري ومسلم). قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ الْغُفْرَان لَهُمْ فِي الْآخِرَة، وَإِلَّا فَإِنْ تَوَجَّهَ عَلَى أَحَد مِنْهُمْ حَدٌّ أَوْ غَيْره أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. وقِيلَ: إِنَّ صِيغَة الْأَمْر فِي قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اِعْمَلُوا» لِلتَّشْرِيفِ وَالتَّكْرِيم وَالْمُرَاد عَدَم الْمُؤَاخَذَة بِمَا يَصْدُر مِنْهُمْ بَعْد ذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ خُصُّوا بِذَلِكَ لِمَا حَصَلَ لَهُمْ مِنْ الْحَال الْعَظِيمَة الَّتِي اِقْتَضَتْ مَحْو ذُنُوبهمْ السَّابِقَة، وَتَأَهَّلُوا لِأَنْ يَغْفِر اللهُ لَهُمْ الذُّنُوب اللَّاحِقَة إِنْ وَقَعَتْ، أَيْ كُلّ مَا عَمِلْتُمُوهُ بَعْد هَذِهِ الْوَاقِعَة مِنْ أَيّ عَمَل كَانَ فَهُوَ مَغْفُور. 8 - عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ عَنْ أَبِيهِ ـ وَكَانَ أَبُوهُ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ ـ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «مَا تَعُدُّونَ أَهْلَ بَدْرٍ فِيكُمْ». قَالَ: «مِنْ أَفْضَلِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا». قَالَ: «وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ» (رواه البخاري). 9 - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَدْخُلُ النَّارَ ـ إِنْ شَاءَ اللهُ ـ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ أَحَدٌ مِنْ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا» (رواه مسلم). قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلهَا أَحَد مِنْهُمْ قَطْعًا، وَإِنَّمَا قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ لِلتَّبَرُّكِ، لَا لِلشَّكِّ. 10 - عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ: «أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ» (رواه البخاري). وعَنْه - رضي الله عنهما - ٍأيضًا قَالَ: «كُنَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ» (رواه مسلم). 11 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ رَجُلٌ عَلِيًّا - رضي الله عنه - فَقَامَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: «عَشْرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ»، وَلَوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ الْعَاشِرَ، قَالَ: فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ فَسَكَتَ. قَالَ: فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ». ثُمَّ قَالَ: لَمَشْهَدُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَغْبَرُّ فِيهِ وَجْهُهُ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَحَدِكُمْ عُمُرَهُ وَلَوْ عُمِّرَ عُمُرَ نُوحٍ» (صحيح رواه أبو داود). وَالْمَعْنَى أَنَّ حُضُور رَجُل مِنْ الصَّحَابَة مَعَ رَسُول اللهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي مَوْضِع الْغَزْو لِأَجْلِ الْجِهَاد حَال كَوْن الرَّجُل يُصِيب التُّرَاب فِي وَجْهه هُوَ خَيْر مِنْ عَمَل أَحَدكُمْ مَا دَامَ عُمُره وَلَوْ أُعْطِيَ عُمْر نُوح. 12 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ عَلَى حِرَاءٍ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، فَتَحَرَّكَتْ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اهْدَأْ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ» (رواه مسلم). وفي رواية أخرى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ عَلَى جَبَلِ حِرَاءٍ فَتَحَرَّكَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اسْكُنْ حِرَاءُ فَمَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ»، وَعَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنهم -. (رواه مسلم). فِي هَذَا الْحَدِيث بَيَان فَضِيلَة هَؤُلَاءِ وَفِيهِ مُعْجِزَاتٌ لِرَسُولِ اللهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -:مِنْهَا إِخْبَاره أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاء، وَمَاتُوا كُلُّهُمْ غَيْر النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَبِي بَكْر شُهَدَاء؛ فَإِنَّ عُمَر وَعُثْمَان وَعَلِيًّا وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر - رضي الله عنهم - قُتِلُوا ظُلْمًا شُهَدَاء؛ فَقَتْل الثَّلَاثَة مَشْهُور، وَقُتِلَ الزُّبَيْر بِوَادِي السِّبَاع بِقُرْبِ الْبَصْرَة مُنْصَرِفًا تَارِكًا لِلْقِتَالِ، وَكَذَلِكَ طَلْحَة اِعْتَزَلَ النَّاس تَارِكًا

لِلْقِتَالِ، فَأَصَابَهُ سَهْم فَقَتَلَهُ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ مَنْ قُتِلَ ظُلْمًا فَهُوَ شَهِيدٌ، وَالْمُرَاد شُهَدَاء فِي أَحْكَام الْآخِرَة، وَعَظِيم ثَوَاب الشُّهَدَاء. وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ. وَأَمَّا ذِكْرُ سَعْدِ بْن أَبِي وَقَّاص فِي الشُّهَدَاء فإِنَّمَا سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ. إني أُحبُّ أبا حَفْصٍ وشِيعَتَهُ ... كما أحِب عَتِيقًا صَاحِبَ الغَارِ وقدْ رضِيتُ عليًا قُدوةً عَلَمًا ... ومَا رَضِيتُ بقَتْلِ الشيْخِ في الدَّارِ كلُّ الصحَابَةِ سَادَاتِي ومُعْتَقَدِي ... فهَلْ عَلَيَّ بهذَا القَوْلِ مِنْ عَارِ (أبا حفص: عمر، العتيق: أبو بكر، الشيخ: عثمان - رضي الله عنهم -). 13 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقُلْتُ: لَأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَلَأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا. قَالَ: فَجَاءَ الْمَسْجِدَ فَسَأَلَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقَالُوا: خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا. فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ وَتَوَسَّطَ قُفّهَا وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلَّاهُمَا فِي الْبِئْرِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ فَقُلْتُ لَأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْيَوْمَ. فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ»، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لِأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَعَهُ فِي الْقُفِّ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ. ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدْ اللهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا ـ يُرِيدُ أَخَاهُ ـ يَأْتِ بِهِ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هَذَا

عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ»، فَجِئْتُ فَقُلْتُ: ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بالْجَنَّةِ، فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ. ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ إِنْ يُرِدْ اللهُ بِفُلَانٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ»، فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ: ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ (وفي رواية فَقُمْتُ فَفَتَحْتُ لَهُ وَبَشَّرْتُهُ بِالْجَنَّةِ فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي قَالَ، قَالَ: اللهُ الْمُسْتَعَانُ، وفي رواية: فَقَالَ: اللَّهُمَّ صَبْرًا أَوْ اللهُ الْمُسْتَعَانُ)، فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ فَجَلَسَ وِجَاهَهُ مِنْ الشَّقِّ الْآخَرِ» قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: «فَتَأَوَّلْتُ ذَلِكَ قُبُورَهُمْ اجْتَمَعَتْ هَا هُنَا وَانْفَرَدَ عُثْمَانُ». (رواه البخاري ومسلم). (خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا) أَيْ تَوَجَّهَ أَوْ وَجَّهَ نَفْسه. (حَتَّى دَخَلَ بِئْر أَرِيس) بِفَتْحِ الْأَلِف وَكَسْر الرَّاء: بُسْتَان بِالْمَدِينَةِ مَعْرُوف. (وَتَوَسَّطَ قُفّهَا) بِضَمِّ الْقَاف وَتَشْدِيد الْفَاء، هُوَ حَافَّة الْبِئْر، وَأَصْله مَا غَلُظَ مِنْ الْأَرْض وَارْتَفَعَ. (عَلَى رِسْلك) بِكَسْرِ الرَّاء وَفَتْحهَا، لُغَتَانِ، الْكَسْر أَشْهَرُ، وَمَعْنَاهُ تَمَهَّلْ، وَتَأَنَّ. الرِّسْل بالكسر: الْهِينَة والتأنّي. يقال: أفْعل كذا وكذا على رِسْلِك: أي اتَّئد فيه. (فَجَلَسَ وِجَاهه) أَيْ مُقَابِله. (قَالَ سَعِيد بْن الْمُسَيِّب: فَأَوَّلْتهَا قُبُورهمْ) فِيهِ وُقُوع التَّأْوِيل فِي الْيَقِظَة وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْفِرَاسَة، وَالْمُرَاد اِجْتِمَاع الصَّاحِبَيْنِ مَعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الدَّفْن وَانْفِرَاد عُثْمَان عَنْهُمْ فِي الْبَقِيع. 14 - عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي دِينِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَقْضَاهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،

وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» (صحيح رواه ابن ماجه). (أَرْحَمُ أُمَّتِي) أَيْ أَكْثَرُهُمْ رَحْمَةً. (وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللهِ) أَيْ أَقْوَاهُمْ فِي دِينِ اللهِ. (وَأَفْرَضُهُمْ) أَيْ أَكْثَرُهُمْ عِلْمًا بِالْفَرَائِضِ (أي المواريث). (وَأَقْرَؤُهُمْ) أَيْ أَعْلَمُهُمْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. (وَأَصْدَقهمْ حَيَاء) أَيْ أَكْثَرهمْ حَيَاء. (وَأَقْضَاهُمْ) قِيلَ: هَذِهِ مَنْقَبَة عَظِيمَة لِأَنَّ الْقَضَاء بِالْحَقِّ وَالْفَصْل بَيْنه وَبَيْن الْبَاطِل يَقْتَضِي عِلْمًا كَثِيرًا وَقُوَّة عَظِيمَة فِي النَّفْس. وَهَذَا الْحَدِيث صَرِيح فِي تَعَدُّد جِهَات الْخَيْر فِي الصَّحَابَة وَاخْتِصَاص بَعْضهَا بِبَعْضٍ، لَكِنَّ الْفَضِيلَة بِمَعْنَى كَثْرَة الثَّوَاب عِنْد اللهُ عَلَى التَّرْتِيب وَذَلِكَ شَيْء آخَر. 15 - عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي ـ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ـ وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ» (صحيح رواه الترمذي). وعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ؛ فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي ـ وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ـ وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَمَا حَدَّثَكُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ» (صحيح رواه الترمذي). (اِقْتَدُوا بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي) أَيْ بِالْخَلِيفَتَيْنِ اللَّذَيْنِ يَقُومَانِ مِنْ بَعْدِي (أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) أَيْ لِحُسْنِ سِيرَتِهِمَا وَصِدْقِ سَرِيرَتِهِمَا. (وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ) أَيْ اِبْنِ يَاسِرٍ وَالْهَدْيُ ـ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِ الدَّالِ ـ السِّيرَةُ وَالطَّرِيقَةُ، وَالْمَعْنَى أَيْ سِيرُوا سِيرَتَهُ وَاخْتَارُوا طَرِيقَتَهُ. (وَمَا حَدَّثَكُمْ اِبْنُ مَسْعُودٍ فَصَدِّقُوهُ) أَيْ صَدِّقُوا حَدِيثَهُ وَاعْتَقِدُوهُ صِدْقًا وَحَقًّا. (وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ اِبْنِ مَسْعُودٍ) أَيْ بِوَصِيَّتِهِ. يُرِيدُ عَهْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَا يَعْهَدُ إِلَيْهِ فَيُوصِيهِمْ بِهِ، وَأَشْبَهَ الْأَشْيَاءِ بِمَا يُرَادُ مِنْ عَهْدِهِ أَمْرَ الْخِلَافَةِ؛ فَإِنَّه أَوَّلَ مَنْ شَهِدَ بِصِحَّتِهَا وَأَشَارَ إِلَى اِسْتِقَامَتِهَا مِنْ أَفَاضِلِ الصَّحَابَةِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا الدَّلِيلَ فَقَالَ: لَا نُؤَخِّرُ مَنْ قَدَّمَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، أَلَا نَرْضَى لِدُنْيَانَا مَنْ اِرْتَضَاهُ لِدِينِنَا، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْمُنَاسَبَةُ الْوَاقِعَةُ بَيْنَ أَوَّلِ الْحَدِيثِ وَآخِرِهِ فَفِي أَوَّلِهِ: «اِقْتَدُوا بِالَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» وَفِي آخِرِهِ: «وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ اِبْنِ مَسْعُودٍ)». 16 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ مَنْ مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ فِي سَبِيلِ اللهِ نُودِيَ فِي الْجَنَّةِ: يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ». قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ». (رواه البخاري ومسلم). (زَوْجَيْنِ):أَيْ شَيْئَيْنِ. (مَنْ شَيْء مِنْ الْأَشْيَاء) أَيْ مِنْ أَصْنَاف الْمَال. (فِي سَبِيل اللهُ) أَيْ فِي طَلَب ثَوَاب اللَّه. (هَذَا خَيْر) الْمَعْنَى هَذَا خَيْر مِنْ الْخَيْرَات، وقيل: مَعْنَاهُ: لَك هُنَا خَيْر وَثَوَاب وَغِبْطَة. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ هَذَا الْبَاب فِيمَا نَعْتَقِدهُ خَيْر لَك مِنْ غَيْره مِنْ الْأَبْوَاب لِكَثْرَةِ ثَوَابه وَنَعِيمه، فَتَعَالَ فَادْخُلْ مِنْهُ. (فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْل الصَّلَاة دُعِيَ مِنْ بَاب الصَّلَاة) وَذَكَرَ مِثْله فِي الصَّدَقَة وَالْجِهَاد وَالصِّيَام. قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ: مَنْ كَانَ الْغَالِب عَلَيْهِ فِي عَمَله وَطَاعَته ذَلِكَ. (وَأَرْجُو أَنْ تَكُون مِنْهُمْ) قَالَ الْعُلَمَاء: الرَّجَاء مِنْ اللهُ وَمِنْ نَبِيّه وَاقِع، وَبِهَذَا التَّقْرِير يَدْخُل الْحَدِيث فِي فَضَائِل أَبِي بَكْر.

17 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -:أَنَا. قَالَ: فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -:أَنَا. قَالَ: فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -:مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ.» (رواه مسلم). 18 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ، وَأَنْعَمَا». (صحيح رواه الترمذي). (إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. (وَأَنْعَمَا) أَيْ زَادَا وَفَضْلًا يُقَالُ أَحْسَنْت إِلَيَّ وَأَنْعَمْت أَيْ زِدْت عَلَى الْإِنْعَامِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ صَارَا إِلَى النَّعِيمِ وَدَخَلَا فِيهِ. 19 - عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذْ طَلَعَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رضي الله عنهما - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ إِلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ، يَا عَلِيُّ لَا تُخْبِرْهُمَا» (صحيح رواه الترمذي). 20 - عن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذْ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ، فَقَالُوا: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا»، فَبَكَى عُمَرُ وَقَالَ: أَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللهِ». (رواه البخاري ومسلم).

21 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا أَنَا بِقَصْرٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ قَالُوا: لِشَابٍّ مِنْ قُرَيْشٍ، فَظَنَنْتُ أَنِّي أَنَا هُوَ، فَقُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ فَقَالُوا: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» (صحيح رواه الترمذي). 22 - عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثّدِيَّ وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ»، قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: الدِّينَ» (رواه البخاري ومسلم). 23 - قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ سَالِكًا فَجًّا قَطُّ إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» (رواه البخاري ومسلم). الْفَجّ: الطَّرِيق الْوَاسِع، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْمَكَان الْمُنْخَرِق بَيْن الْجَبَلَيْنِ، وَهَذَا الْحَدِيث مَحْمُول عَلَى ظَاهِره أَنَّ الشَّيْطَان مَتَى رَأَى عُمَر سَالِكًا فَجًّا هَرَبَ هَيْبَة مِنْ عُمَر، وَفَارَقَ ذَلِكَ الْفَجّ، وَذَهَبَ فِي فَجّ آخَر لِشِدَّةِ خَوْفه مِنْ بَأْس عُمَر - رضي الله عنه - أَنْ يَفْعَلَ فِيهِ شَيْئًا. 24 - عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عُثْمَانَ - رضي الله عنه - حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: «أَنْشُدُكُمْ اللهَ وَلَا أَنْشُدُ إِلَّا أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الْجَنَّةُ»، فَحَفَرْتُهَا، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَلَهُ الْجَنَّةُ»، فَجَهَّزْتُهُمْ».قَالَ فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ. (رواه البخاري). (أَنْشُدُكُمْ):أسألكم وأقسم عليكم. قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: « ... وَلِلنَّسَائِيِّ مِنْ طَرِيق الْأَحْنَف بْن قَيْس أَنَّ الَّذِينَ صَدَقُوهُ بِذَلِكَ هُمْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسَعْد بْن أَبِي وَقَّاص». 25 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِأَلْفِ دِينَارٍ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ فَيَنْثُرُهَا فِي حِجْرِهِ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُقَلِّبُهَا فِي حِجْرِهِ وَيَقُولُ: «مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ» مَرَّتَيْنِ. (حسن رواه الترمذي). (فَنَثَرَهَا) أَيْ وَضَعَ الدَّنَانِيرَ مُتَفَرِّقَاتٍ. (يُقَلِّبُهَا) أَيْ الدَّنَانِيرَ. (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ) أَيْ فَلَا عَلَى عُثْمَانَ بَأْسٌ الَّذِي عَمِلَ بَعْدَ هَذِهِ مِنْ الذُّنُوبِ فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ مُكَفَّرَةٌ. 26 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا، فَقَالَ: «أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاء». قَالَ: «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي» (رواه البخاري ومسلم). قَالَ الْقَاضِي عياض: هَذَا الْحَدِيث مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ سَائِر فِرَق الشِّيعَة فِي أَنَّ الْخِلَافَة كَانَتْ حَقًّا لِعَلِيٍّ - رضي الله عنه -، وَأَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِهَا. ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَكَفَّرَتْ الرَّوَافِض سَائِر الصَّحَابَة فِي تَقْدِيمهمْ غَيْره، وَزَادَ بَعْضهمْ فَكَفَّرَ عَلِيًّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِي طَلَب حَقّه بِزَعْمِهِمْ. وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ مَنْ قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَفَّرَ الْأُمَّةَ كُلّهَا وَالصَّدْر الْأَوَّل فَقَدْ أَبْطَلَ نَقْل الشَّرِيعَة، وَهَدَمَ الْإِسْلَام. وَهَذَا الْحَدِيث لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ فِيهِ إِثْبَات فَضِيلَة لِعَلِيٍّ - رضي الله عنه -، وَلَا تَعَرُّض فِيهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَل مِنْ غَيْره أَوْ مِثْله، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَة لِاسْتِخْلَافِهِ بَعْده، لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِعَلِيٍّ - رضي الله عنه - حِين اِسْتَخْلَفَهُ فِي الْمَدِينَة فِي غَزْوَة تَبُوك. وَيُؤَيِّد هَذَا أَنَّ هَارُون الْمُشَبَّه بِهِ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَة بَعْد مُوسَى، بَلْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاة مُوسَى، وَقَبْل وَفَاة مُوسَى بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَة عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور عِنْد أَهْل الْأَخْبَار وَالْقَصَص. قَالُوا: وَإِنَّمَا اِسْتَخْلَفَهُ حِين ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبّه لِلْمُنَاجَاةِ».اهـ بتصرف من (شرح صحيح مسلم للنووي). 27 - عن عَلِيٌّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - قَالَ: «وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ» (رواه مسلم). (فَلَق الْحَبَّة) شَقَّهَا بِالنَّبَاتِ. (وَبَرَأَ النَّسَمَة) خَلَقَ النَّسَمَة وَهِيَ الْإِنْسَان، وَقِيلَ: النَّفْس.

28 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» (رواه مسلم). 29 - وعن الْبَرَاءَ بن عازب - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَنْصَارِ: «لَا يُحِبُّهُمْ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ، مَنْ أَحَبَّهُمْ أَحَبَّهُ اللهُ وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ اللهُ» (رواه مسلم). وَمَعْنَى هَذَه الأحَادِيث: أَنَّ مَنْ عَرَفَ مَرْتَبَة الْأَنْصَار وَمَا كَانَ مِنْهُمْ فِي نُصْرَة دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالسَّعْيِ فِي إِظْهَارِهِ وَإِيوَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَقِيَامِهِمْ فِي مُهِمَّاتِ دِينِ الْإِسْلَامِ حَقّ الْقِيَام، وَحُبِّهِمْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَحُبّه إِيَّاهُمْ، وَبَذْلهمْ أَمْوَالهمْ وَأَنْفُسهمْ بَيْن يَدَيْهِ، وَقِتَالهمْ وَمُعَادَاتهمْ سَائِر النَّاس إِيثَارًا لِلْإِسْلَامِ. وَعَرَفَ مِنْ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب - رضي الله عنه - قُرْبه مِنْ رَسُول اللهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَحُبّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَهُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي نُصْرَة الْإِسْلَام وَسَوَابِقه فِيهِ، ثُمَّ أَحَبَّ الْأَنْصَارَ وَعَلِيًّا لِهَذَا، كَانَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِل صِحَّة إِيمَانِهِ وَصِدْقِهِ فِي إِسْلَامِهِ لِسُرُورِهِ بِظُهُورِ الْإِسْلَامِ وَالْقِيَام بِمَا يُرْضِي اللهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى، وَرَسُوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَمَنْ أَبْغَضهمْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى نِفَاقه وَفَسَاد سَرِيرَته. 30 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» (صحيح رواه الترمذي). مَعْنَاهُ مَنْ كُنْت أَتَوَلَّاهُ فِعْلِيٌّ يَتَوَلَّاهُ ـ مِنْ الْوَلِيِّ ضِدُّ الْعَدُوِّ. أَيْ مَنْ كُنْت أُحِبُّهُ فِعْلِيٌّ يُحِبُّهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: مَنْ يَتَوَلَّانِي فِعْلِيٌّ يَتَوَلَّاهُ. قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ - رحمه الله -:يَعْنِي بِذَلِكَ وَلَاءَ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} وَقَوْلُ عُمَرَ لِعَلِيٍّ - رضي الله عنهما -:أَصْبَحْت مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ» أَيْ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ.

31 - عن أَبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (رواه البخاري). 32 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا» (صحيح رواه ابن ماجه). 33 - وعَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلَتْنِي أُمِّي: مَتَى عَهْدُكَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقُلْتُ: مَا لِي بِهِ عَهْدٌ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا، فَنَالَتْ مِنِّي وَسَبَّتْنِي، فَقُلْتُ لَهَا: دَعِينِي، فَإِنِّي آتِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأُصَلِّي مَعَهُ الْمَغْرِبَ ثُمَّ لَا أَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لِي وَلَكِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ، فَصَلَّى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْعِشَاءَ، ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَعَرَضَ لَهُ عَارِضٌ، فَنَاجَاهُ ثُمَّ ذَهَبَ فَاتَّبَعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِي. فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟». فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ. قَالَ: «مَا لَكَ؟» فَحَدَّثْتُهُ بِالْأَمْرِ. فَقَالَ: «غَفَرَ اللهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ». ثُمَّ قَالَ: «أَمَا رَأَيْتَ الْعَارِضَ الَّذِي عَرَضَ لِي قُبَيْلُ؟» قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: «فَهُوَ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَهْبِطْ الْأَرْضَ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ، وَيُبَشِّرَنِي أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ». فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَصَلَّيْتُ مَعَهُ الْمَغْرِبَ فَصَلَّى حَتَّى صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ انْفَتَلَ فَتَبِعْتُهُ فَسَمِعَ صَوْتِي فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟ حُذَيْفَةُ؟». قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: «مَا حَاجَتُكَ غَفَرَ اللهُ لَكَ وَلِأُمِّكَ».

قَالَ: «إِنَّ هَذَا مَلَكٌ لَمْ يَنْزِلْ الْأَرْضَ قَطُّ قَبْلَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيَّ، وَيُبَشِّرَنِي بِأَنَّ فَاطِمَةَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي). (مَتَى عَهْدُك بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -) يُقَالُ: مَتَى عَهْدُك بِفُلَانٍ؟ أَيْ مَتَى رُؤْيَتُك إِيَّاهُ؟. (فَنَالَتْ مِنِّي) أَيْ ذَكَرَتْنِي بِسُوءٍ. (فَصَلَّى) أَيْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - النَّوَافِلَ. (ثُمَّ اِنْفَتَلَ) أَيْ اِنْصَرَفَ. (فَتَبِعْته) أَيْ مَشَيْت خَلْفَهُ. (فَسَمِعَ صَوْتِي) أَيْ صَوْتَ حَرَكَةِ رِجْلِي. 34 - وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إلا ابْنَي الخَالَةِ عِيسَى بْنِ مَرْيَم ويحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَفَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَائِهِمْ إِلَّا مَا كَانَ لِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ» (صحيح رواه الإمام أحمد وغيره). 35 - عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنْ الْأَرَاكِ ـ وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ ـ فَجَعَلَتْ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟»، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ» (صحيح رواه الإمام أحمد). 34 - قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ - رضي الله عنه -:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ مِنْ صَالِحِي قُرَيْشٍ» (صحيح رواه الترمذي). 35 - عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ» (حسن رواه الترمذي). وفي هذا الحديث منقبة عظيمة لعمرو بن العاص - رضي الله عنه -، إذ شهد له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنه مؤمن، فإن هذا يستلزم الشهادة له بالجنة، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مُؤْمِنٌ» متفق عليه. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} (النساء:122). وعلى هذا فلا يجوز الطعن في عمرو بن العاص - رضي الله عنه - كما يفعل بعض الكتاب المعاصرين، وغيرهم من المخالفين، بسبب ما وقع له من الخلاف بل القتال مع علي - رضي الله عنه -؛ لأن ذلك لا ينافي الإيمان، فإن الإيمان لا يستلزم العصمة كما لا يخفى، لاسيما إذا قيل: إن ذلك وقع منه بنوع من الاجتهاد، وليس اتباعًا للهوى. 36 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ. قَالَ: «ابْسُطْ رِدَاءَكَ»، فَبَسَطْتُهُ، فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «ضُمَّهُ»، فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ. (رواه البخاري). 37 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ: «يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَإِنِّي سَمِعْتُ دَفَّ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ؟» قَالَ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ طَهُورًا فِي سَاعَةِ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كُتِبَ لِي أَنْ أُصَلِّيَ» (رواه البخاري). ولفظ مسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِبِلَالٍ عِنْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ: «يَا بِلَالُ حَدِّثْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ عِنْدَكَ فِي الْإِسْلَامِ مَنْفَعَةً؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ اللَّيْلَةَ خَشْفَ نَعْلَيْكَ بَيْنَ يَدَيَّ فِي الْجَنَّةِ». قَالَ بِلَالٌ: مَا عَمِلْتُ عَمَلًا فِي الْإِسْلَامِ أَرْجَى عِنْدِي مَنْفَعَةً مِنْ أَنِّي لَا أَتَطَهَّرُ طُهُورًا تَامًّا فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ إِلَّا صَلَّيْتُ بِذَلِكَ الطُّهُورِ مَا كَتَبَ اللهُ لِي أَنْ أُصَلِّيَ» (قَالَ لِبِلَالٍ) أَيْ اِبْن رَبَاح الْمُؤَذِّن. وَقَوْله «عِنْد صَلَاة الْفَجْر» فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ فِي الْمَنَام لِأَنَّ عَادَته - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ كَانَ يَقُصّ مَا رَآهُ وَيُعَبِّر مَا رَآهُ أَصْحَابه. (دَفَّ نَعْلَيْك) الدَّفّ الْحَرَكَة الْخَفِيفَة وَالسَّيْر اللَّيِّن.

والْخَشْف: الْحَرَكَة الْخَفِيفَة. 38 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» (صحيح رواه الترمذي وغيره). 39 - عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى شَهِيدٍ يَمْشِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ» (صحيح رواه الترمذي). (مَنْ سَرَّهُ) أَيْ أَحَبَّهُ وَأَعْجَبَهُ وَأَفْرَحَهُ. (فَلْيُنْظَرْ إِلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ) هَذَا مَعْدُودٌ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فَإِنَّهُ سدد خطاكم اُسْتُشْهِدَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. 40 - عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ» (رواه البخاري ومسلم). قال الإمام النووي - رحمه الله -: «اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي تَأْوِيله، فَقَالَتْ طَائِفَة: هُوَ عَلَى ظَاهِره، وَاهْتِزَاز الْعَرْش تَحَرُّكُهُ فَرَحًا بِقُدُومِ رُوح سَعْد، وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْعَرْش تَمْيِيزًا حَصَلَ بِهِ هَذَا، وَلَا مَانِع مِنْهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ} وَهَذَا الْقَوْل هُوَ ظَاهِر الْحَدِيث، وَهُوَ الْمُخْتَارُ». 41 - عن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - جُبَّةٌ مِنْ سُنْدُسٍ ـ وَكَانَ يَنْهَى عَنْ الْحَرِيرِ ـ فَعَجِبَ النَّاسُ مِنْهَا؛ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ مَنَادِيلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا» (رواه مسلم). وفي رواية: «أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - حُلَّةُ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَلْمِسُونَهَا وَيَعْجَبُونَ مِنْ لِينِهَا، فَقَالَ: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ لِينِ هَذِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنْهَا وَأَلْيَنُ» رواه مسلم). الْمَنَادِيل جَمْع مِنْدِيل، وَهُوَ هَذَا الَّذِي يُحْمَل فِي الْيَد.

وَقَالَ الْعُلَمَاء: هَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى عَظِيم مَنْزِلَة سَعْد فِي الْجَنَّة، وَأَنَّ أَدْنَى ثِيَابه فِيهَا خَيْر مِنْ هَذِهِ، لِأَنَّ الْمِنْدِيل أَدْنَى الثِّيَاب، لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْوَسَخِ وَالِامْتِهَان، فَغَيْرُهُ أَفْضَلُ. وَفِيهِ إِثْبَات الْجَنَّة لِسَعْدٍ - رضي الله عنه -. حكم سب الصحابة - رضي الله عنهم - (¬1) سب الصحابة - رضي الله عنهم - دَرَكَاتٌ بعضها شر من بعض. أولًا: مَن سَبَّ الصحابة بالكفر والردة أو الفسق ـ جميعهم أو معظمهم ـ: فلا شك في كفر من قال بذلك؛ لأمور من أهمها: أن في هذا تكذيبًا لما نَصَّ عليه القرآن من الرضا عنهم والثناء عليهم. ثانيًا: مَن سَبَّ بعضهم سبًا يطعن في دينهم: كأن يتهمهم بالكفر ـ وكان ممن تواترت النصوص بفضله كالخلفاء، فذلك كفر على الصحيح؛ لأن في هذا تكذيبًا لأمر متواتر وإنكارًا لمعلوم من الدين بالضرورة .. ثالثًا: سب صحابي لم يتواتر النقل بفضله سبًا يطعن في الدين: قول جمهور العلماء بعدم كفر مَن سبه، وذلك لعدم إنكاره معلومًا من الدين بالضرورة. أما إن سبه من حيث صحبته لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنه يكفر. رابعًا: مَن سبهم سبًا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم ـ مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك ـ فهذا يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك. بعض أقوال أهل العلم: * قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قول الله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ ¬

_ (¬1) انظر: (الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -) لشيخ الإسلام ابن تيمية، (اعتقاد أهل السنة والجماعة في الصحابة) للدكتور محمد بن عبد الله الوهيبي.

تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (النور:23 - 25) هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات ـ خُرِّج مخرج الغالب ـ المؤمنات. فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة، ولا سيما التي كانت سبب النزول، وهي عائشة بنت الصديق - رضي الله عنها -. وقد أجمع العلماء ـ رحمهم الله ـ قاطبةً على أن مَنْ سَبَّها بعد هذا ورماها بما رماها به، بعد هذا الذي ذُكر في هذه الآية، فإنه كافر؛ لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كَهِيَ، والله أعلم». * قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (الصارم المسلول):أما من اقترن بسبه دعوى أن عليًا - رضي الله عنه - إله أو أنه كان هو النبي وإنما غلط جبرائيل في الرسالة، فهذا لا شك في كفره بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم أن القرآن نُقِصَ منه آياتٌ وكُتِمَتْ، أو زعم أن له تأويلاتٍ باطنة تُسقِط الأعمال المشروعة ونحو ذلك وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية وهؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما مَن سَبَّهم سبًّا لا يقدح في عدالتهم ولا في دينهم ـ مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك ـ فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا نحكم بكفره بمجرد ذلك وعلى هذا يحمل كلام من لم يُكَفّرْهم من أهل العلم. وأما مَن لعن وقبَّح مطلقًا فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما مَن جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلا نفرًا قليلًا يبلغون بضعة عشر نفسًا، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب

أيضًا في كفره؛ لأنه كذَّب لما نصَّه القرآن في غير موضع: من الرضا عنهم والثناء عليهم بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين. فإن مضمون هذه المقالة أن نَقَلَة الكتاب والسنة كفار أو فساق، وأن هذه الآية التي هي {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} (آل عمران:110) ـ وخيرُها هو القرنُ الأول ـ كان عامتهم كفارًا أو فُساقًا، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم وأن سابقي هذه الأمة هم شرارهم، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام. ولهذا تجد عامة من ظهر عليه شيء من هذه الأقوال فإنه يتبين أنه زنديق، وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم». أنا مُسْلِمٌ وأقُولُها مِلءَ الوَرَى ... وعقيدَتِي نورُ الحيَاةِ وسُؤْدُدِي سَلْمَانُ فيهَا مِثْلَ عَمْرٍو لا تَرَى ... جِنْسًا عَلَى جِنْسٍ يَفُوقُ بِمَحْتَدِ وبِلالُ بالإيمانِ يَشْمَخُ عِزُّةً ... ويَدُقُّ تِيجَانَ العَنِيدِ المُلْحِدِ وخُبيبُ أخْمَدَ في القَنَا أنْفَاسَهُ ... لَكِنَّ صَوْتَ الحَقِّ لَيْسَ بمُخْمَدِ ورمَى صُهَيْبُ بِكُلِّ مَالٍ لِلْعِدَا ... ولِغَيْرِ رِبْحِ عَقِيدَةٍ لَمْ يَقْصِدِ إن العقيدَةَ في قُلوبِ رجَالِهَا ... مِنْ ذَرَّةٍ أقْوَى وألِفِ مُهَنَّدِ (السُّؤْدُد: المجد والشرف، المحتد: الأصل، القَنَا: الرماح، مُهَنَّدِ: سيف)

8 - اتق الله حيثما كنت

8 - اتق الله حيثما كنت ولَسْتُ أرَى السعادةَ جَمْعَ مَالٍ ... ولكِنَّ التّقِيَّ هوَ السعِيدُ وتَقْوَى اللهِ خيرُ الزادِ ذُخْرًا ... وعندَ اللهِ للأتقَى مَزِيدُ عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ - رضي الله عنهما -:أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». (حسن رواه التِّرمِذيُّ) ويدخل في هذا المعنى حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه سُئِلَ: ما أَكْثَرُ مَا يُدخِلُ الناسَ الجنّةَ؟ قالَ: «تَقْوَى اللهِ وحُسْنُ الخُلُقِ» (صحيح رواه أحمد وابن ماجه والترمذي). فهذه الوصية وصيةٌ عظيمةٌ جامعة لحقوق الله وحقوق عباده، فإنَّ حقَّ الله على عباده أنْ يتقوه حقَّ تقاته، والتقوى وصيةُ الله للأوّلين والآخرين؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} (النساء:131). مَنْ كانَ يعلمُ أنّ الموتَ يُدركهُ ... والقبرَ مسكنُه والبعثَ يُخْرِجُهُ وأنه بين جناتٍ مُزخرفةٍ ... يومَ القيامةِ أو نارٍ ستُنْضِجُهُ فكُلّ شيء سِوَى التقوى به سَمِجٌ ... ومَن أقامَ عليه منه أسْمَجُهُ ترَى الذي اتخذَ الدنيا له وطنًا لم ... يدْرِ أنّ المنايا سوف تُزْعِجُهُ • أصلُ التّقوى: أنْ يجعل العبدُ بينَه وبينَ ما يخافُه ويحذره وقايةً تقيه منه، فتقوى العبد لربه أنْ يجعل بينه وبينَ ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعلُ طاعته واجتنابُ معاصيه. وتارة تُضافُ التقوى إلى اسم اللهِ - عز وجل -، كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المائدة:96)، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18). فإذا أضيفت التقوى إليه - سبحانه وتعالى -، فالمعنى: اتقوا سخطه وغضبه، وهو أعظم ما يُتَّقَى، وعن ذلك ينشأ عقابه الدنيوي والأخروي، قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ} (آل عمران:28)، وقال تعالى: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (المدثر:56)، فهو سبحانه أهل أنْ يُخشى ويُهاب ويُجلَّ ويُعَظَّمَ في صدورِ عباده حتَّى يعبدوه ويُطيعوه، لما يستحقُّه من الإجلالِ والإكرامِ، وصفاتِ الكبرياءِ والعظمة وقوَّةِ البطش، وشِدَّةِ البأس. وتارةً تُضافُ التقوى إلى عقاب الله وإلى مكانه، كالنار، أو إلى زمانه، كيوم القيامة، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (آل عمران:131)، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة:24)، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ} (البقرة:281)، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (المجادلة:9)، {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئا} (البقرة:48 و123). إذا المرءُ لم يلبسْ ثِيابًا من التُقَى ... تجرَّد عُرْيانًا وإنْ كانَ كاسِيَا وخيرُ خِصالِ المرءِ طاعةُ ربِّهِ ... ولا خيرَ فيمَنْ كانَ للهِ عاصيَا • ويدخل في التقوى الكاملة: فعلُ الواجبات، وتركُ المحرمات والشبهات، وربما دَخَلَ فيها بعد ذلك فعلُ المندوبات، وتركُ المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى، قال الله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة:1 - 4). وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي

الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177). • مَنِ المتَّقون؟ قيل لمُعاذ بن جبل: مَنِ المتَّقون؟ قال: «قومٌ اتَّقوا الشِّركَ وعبادةَ الأوثان، وأخلصوا للهِ بالعبادة». وقال ابنُ عباس: المتَّقون الذين يَحْذَرون من الله عقوبتَه في ترك ما يعرفون من الهدى، ويَرجون رحمَته في التصديق بما جاء به. وقال الحسن: المتقون اتَّقَوا ما حُرِّم عليهم، وأدَّوا ما افْتُرِض عليهم. وقال عُمَر بن عبد العزيز: ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليطِ فيما بَيْنَ ذلك، ولكن تقوى اللهِ تَرْكُ ما حرَّم الله، وأداءُ ما افترضَ الله، فمن رُزِقَ بعد ذلك خيرًا، فهو خيرٌ إلى خير. وقال طلقُ بنُ حبيب: التقوى أنْ تعملَ بطاعةِ الله، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله، وأنْ تتركَ معصيةَ الله على نورٍ من الله تخافُ عقابَ الله. وعن أبي الدرداء قال: تمامُ التقوى أنْ يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه من مثقال ذرَّةٍ، حتى يتركَ بعضَ ما يرى أنَّه حلالٌ خشيةَ أنْ يكون حرامًا يكون حجابًا بينه وبينَ الحرام، فإنَّ الله قد بَيَّن للعباد الذي يُصيرهم إليه فقال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة:7 - 8)، فلا تحقرن شيئًا من الخير أنْ تفعله، ولا شيئًا من الشرِّ أنْ تتقيه. وقال الحسنُ: ما زالت التقوى بالمتقين حتَّى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام. وقال موسى بنُ أَعْيَن: المتقون تنزَّهوا عن أشياء من الحلال مخافة أنْ يقعوا في الحرام، فسماهم الله متقين. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ؛ فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ

فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». (رواه البخاري ومسلم) وقال ميمونُ بنُ مِهران: «المُتَّقي أشدُّ محاسبةً لنفسه من الشريكِ الشحيحِ لِشريكه. وقال ابن مسعود في قوله تعالى: {اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (آل عمران:102)، قال: «أنْ يُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا ينسى، وأن يُشكر فلا يُكفر». وشكرُه يدخلُ فيه جميعُ فعل الطاعات. ومعنى ذكره فلا ينسى: ذكر العبد بقلبه لأوامر الله في حركاته وسكناته وكلماته فيمتثلها، ولنواهيه في ذلك كله فيجتنبها. • قد يغلِبُ استعمالُ التقوى على اجتناب المحرَّمات: كما قال أبو هريرةَ ـ وقد سُئِلَ عن التقوى ـ فقال: هل أخذتَ طريقًا ذا شوكٍ؟ قالَ: نعم، قالَ: فكيف صنعتَ؟ قال: إذا رأيت الشوكَ عدلْتُ عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه، قال: ذاك التقوى. وأخذ هذا المعنى ابنُ المعتز فقال: خلِّ الذنوب صغيرَها ... وكبيرَها فهو التُقَى واصنع كماشٍ فوقَ أرضِ ... الشوك يحذرُ ما يرَى لا تحقِرَنَّ صغيرةً ... إن الجبالَ مِن الحصَى وأصلُ التقوى: أنْ يعلم العبدُ ما يُتَّقى ثم يتقي، قال عونُ بنُ عبد الله: تمامُ التقوى أنْ تبتغي علمَ ما لم يُعلم منها إلى ما عُلِمَ منها. وذكر معروفٌ الكرخيُّ عن بكر بن خُنيسٍ، قال: كيف يكون متقيًا من لا يدري ما يَتَّقي؟ ثُمَّ قالَ معروفٌ: إذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي أكلتَ الربا، وإذا كنتَ لا تُحسنُ تتقي لقيتكَ امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرك، وإذا كنت لا تُحسن تتقي وضعتَ سيفك على عاتقك، وقد قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لمحمد بن مسلمة: «إذا رأيْتَ أُمَّتِي قَدْ اخْتَلَفَتْ، فَاعْمِدْ إلى سَيْفِكَ فاضْرِبْ بِهِ أُحُدًا» (حسن رواه أحمد وابن ماجه).

معنى ذلك: أن الفتن يجب اعتزالها وعدم الخوض فيها، فجاءت الوصية النبوية بضرب جبل أحد عند حصول الفتن، أي: كسره؛ لئلا يضرب به أحدًا من المسلمين. • التقوى: هي وصيةُ الله لجميع خلقه، ووصيةُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمته: فالتقوى: هي وصيةُ الله لجميع خلقه، ووصيةُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأمته، وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا بَعَثَ أميرًا على سَرِيَّةٍ أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا» (رواه مسلم). ولما خطبَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - في حَجَّةِ الوداع يومَ النحر وصَّى الناس بتقوى الله وبالسمع والطاعة لأئمتهم. (رواه مسلم). ولما وَعَظَ الناسَ، وقالوا له: كأنَّها موعِظَةُ مودِّع فأوصنا، قال: «أُوصِيكُمْ بتَقْوَى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعَة» (صحيح رواه أحمد والترمذي وابن ماجه). ولم يزل السَّلفُ الصالح يتَواصَوْنَ بها، وكان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول في خطبته: «أما بعد، فإني أُوصيكم بتقوى الله، وأنْ تُثنوا عليه بما هو أهلُه، وأنْ تَخلِطُوا الرغبةَ بالرهبة، وتجمعوا الإلحافَ بالمسألة، فإنَّ الله - عز وجل - أثنى على زكريا وأهل بيته، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:90). ولمَّا حضرته الوفاةُ، وعهد إلى عمر، دعاه، فوصَّاهُ بوصيةٍ، وأوَّلُ ما قالَ له: «اتَّقِ الله يا عمر». وكتب عُمَرُ إلى ابنه عبد الله: «أما بعدُ، فإني أُوصيك بتقوى الله - عز وجل -، فإنَّه من اتقاه وقاه، ومَنْ أقرضه جزاه، ومَنْ شكره زاده، فاجعل التقوى نصبَ عينيك وجلاء قلبك». واستعمل عليُّ بن أبي طالب رجلًا على سَريَّة، فقال له: أُوصيك بتقوى الله الذي لابُدَّ لك من لقائه، ولا منتهى لك دونَه، وهو يَملِكُ الدنيا والآخرة.

وكتب عُمَرُ بنُ عبد العزيز إلى رجلٍ: «أُوصيك بتقوى الله - عز وجل - التي لا يَقبلُ غَيرَها، ولا يَرْحَمُ إلاَّ أهلَها، ولا يُثيبُ إلا عليها، فإنَّ الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإيَّاك من المتقين». ولما وُلِّي خطب، فحَمِد الله، وأثنى عليه، وقال: «أُوصيكُم بتقوى الله - عز وجل -، فإنَّ تقوى الله - عز وجل - خَلفٌ من كلِّ شيءٍ، وليس من تقوى الله خَلَفٌ». وقال رجل ليونس بن عُبيد: أوصني، فقال: «أُوصيك بتقوى الله والإحسّان، فإنَّ الله مَعَ الذين اتَّقَوا والَّذينَ هُمْ مُحسِنُون». وقال له رجل يُريدُ الحجَّ: أوصني، فقال له: «اتَّقِ الله، فمن اتقى الله، فلا وحشة عليه». وقيل لرجل من التابعين عندَ موته: أوصنا، فقال: «أوصيكم بخاتمة سورةِ النحل: {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128). وكتب رجلٌ من السَّلف إلى أخٍ له: «أوصيكَ بتقوى الله، فإنّها أكرم ما أسررتَ، وأزينُ ما أظهرتَ، وأفضلُ ما ادَّخرتَ، أعاننا الله وإيَّاكَ عليها، وأوجب لنا ولك ثوابَها». يريدُ المرءُ أن يُعطى مُناه ... ويأبى اللهُ إلا ما أرادَ يقول المرءُ فائدتي ومالي ... وتقوى اللهِ أفضلُ ما استفادَ وكتب رجلٌ إلى أخٍ له: «أُوصيكَ وأنفسَنا بالتقوى، فإنَّها خيرُ زادِ الآخِرَةِ والأُولى، واجعلها إلى كلِّ خيرٍ سبيلَك، ومِن كلِّ شرٍّ مهرَبك، فقد تكفل الله - عز وجل - لأهلها بالنجاة مما يحذرون، والرزق من حيث لا يحتسبون». وقال شعبة: كنتُ إذا أردتُ الخروجَ، قلتُ للحكم: ألك حاجةٌ، فقال أوصيك بما أوصى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - معاذَ بنَ جبل: «اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».

وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أنَّه كان يقولُ في دعائه: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» وفِي رِوَاية: «وَالْعِفَّةَ» (رواه مسلم). • معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتَّق الله حيثما كُنت»: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ» أي في السرِّ والعلانية حيث يراه الناسُ وحيث لا يرونه، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في دعائه: «أسألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ والشَّهَادَة» (صحيح رواه النسائي). وخشية الله - عز وجل - في الغيب والشهادة هي من المنجيات فعن سعيد بن يزيد الأنصاري: «أن رجلا قال: يا رسول الله أوصني، قال: «أوصِيكَ أنْ تَسْتَحِي مِنَ اللهَ - عز وجل - كَمَا تَسْتَحِي رَجُلًا مِنْ صَالِحي قَوْمِكَ». (أخرجه أحمد في «الزهد» وإسناده جيد). وهذا هو السببُ الموجب لخشية الله في السر، فإنَّ مَنْ عَلِمَ أنَّ الله يراه حيث كان، وأنَّه مُطَّلعٌ على باطنه وظاهره، وسرِّه وعلانيته، واستحضَرَ ذلك في خلواته، أوجب له ذلك تركَ المعاصي في السِّرِّ، وإلى هذا المعنى الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل -: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:1). والمقصود: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لما وصَّى معاذًا بتقوى الله سِرًَّا وعلانيةً، أرشده إلى ما يُعينه على ذلك وهو أنْ يستحييَ من الله كما يستحيي من رجلٍ ذي هيبةٍ من قومه. ومعنى ذلك: أنْ يستشعِرَ دائمًا بقلبه قُرْبَ الله منه واطلاعه عليه فيستحيي من نظره إليه. ومن صار له هذا المقام حالًا دائمًا أو غالبًا، فهو من المحسنين الذين يعبدون الله كأنَّهم يرونه، ومن المحسنين الذين يجتنبون كبائرَ الإثم والفواحِشَ إلا اللممَ. • أقوال لبعض السلف: كان بعضُ السَّلف يقولُ لأصحابه: «زَهَّدَنا الله وإيَّاكم في الحرام زُهْدَ مَنْ قَدَرَ عليه في الخلوة، فَعَلِم أنَّ الله يراه، فتركه من خشيته». وقال الشافعي: «أعزُّ الأشياء ثلاثة: الجودُ من قِلَّة، والورعُ في خَلوة، وكلمةُ الحقِّ عند من يُرجى ويُخاف».

وكتب ابنُ السَّماك الواعظ إلى أخٍ له: «أما بعدُ، أُوصيكَ بتقوى الله الذي هو نَجِيُّكَ في سريرتك ورقيبُك في علانيتك، فاجعلِ الله من بالك على كُلِّ حالك في ليلك ونهارك، وخَفِ الله بقدر قُربه منك، وقُدرته عليك، واعلم أنَّك بعينه ليس تَخرُجُ من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى مُلك غيره، فليَعْظُم منه حَذَرُك، وليكْثُر منه وَجَلُكَ، والسلام». فما بال العاصي يستر الذنوبَ من خلق الله، ويُظهرها لله، إنْ كان يرى أن الله لا يراه، فهو مشرك به، وإنْ كان يرى أنه يراه فلِمَ جعله أهونَ الناظرين إليه؟ وكان وهيبُ بن الورد يقول: «خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قُربه منك». وقال له رجل: عِظني، فقال: «اتَّقِ الله أنْ يكونَ أهونَ الناظرين إليك». وقال بعضُهم: «ابنَ آدم، إنْ كنتَ حيث ركبتَ المعصية لم تَصْفُ لك مِن عينٍ ناظرةٍ إليك، فلما خلوتَ بالله وحده صَفَتْ لك معصيتُهُ، ولم تستحي منه حياءك من بعض خلقه، ما أنت إلا أحدُ رجلين: إنْ كنت ظننتَ أنَّه لا يراك، فقد كفرتَ، وإنْ كنت علمتَ أنَّه يراك فلم يمنعك منه ما منعك مِن أضعف خلقه لقد اجترأت عليه». راود بعضُهم أعرابيةً، وقال لها: ما يرانا إلا الكواكبُ، قالت: فأين مُكوكِبُها؟ رأى محمد بن المنكدر رجلًا واقفًا مع امرأة يُكلمها فقال: «إنَّ الله يراكما سترنا الله وإياكما». وسُئِل الجنيد بما يُستعانُ على غضِّ البصر، قال: بعلمك أنَّ نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى ما تنظره. وكان الإمامُ أحمد يُنشِدُ: إذا ما خَلَوْتَ الدَّهرَ يومًا فلا تَقُلْ ... خَلَوتُ ولكِنْ قُلْ: عَلَيَّ رَقِيبُ ولا تَحْسَبَنَّ الله يَغْفُلُ سَاعةً ... ولا أنَّ ما يَخْفَى ـ عَلَيْهِ يَغِيبُ وكان ابنُ السَّماك ينشد:

يا مُدمِنَ الذَّنْبِ أما تَستَحِي ... والله في الخَلْوَةِ ثَانِيكَا غَرَّكَ مِنْ رَبِّكَ إمْهَالُهُ ... وستْرُهُ طولَ مَساوِيكَا • تقوى الله في السرِّ علامةُ كمالِ الإيمانِ: تقوى الله في السرِّ علامةُ كمالِ الإيمانِ، ولها تأثيرٌ عظيم في إلقاء الله لصاحبها الثناءَ في قلوب المؤمنين. قال أبو الدرداءسدد خطاكم: «لِيَتَّقِ أحدُكم أنْ تلعنه قلوبُ المؤمنين وهو لا يشعر، يخلو بمعاصي الله، فيلقي الله له البغضَ في قلوب المؤمنين». قال سليمانُ التيميُّ: «إنَّ الرجل لَيُصيب الذنبَ في السرِّ فيصبح وعليه مذلتُه». وقال غيره: «إنَّ العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبينَ الله، ثم يجيءُ إلى إخوانه، فيرون أَثَرَ ذلك عليه». وهذا مِن أعظم الأدلة على وجودِ الإِله الحقِّ المجازي بذرَّات الأعمال في الدنيا قبل الآخرة، ولا يضيع عندَه عملُ عاملٍ، ولا ينفع من قدرته حجاب ولا استتار، فالسعيدُ مَنْ أصلح ما بينَه وبينَ الله، فإنَّه من أصلح ما بينه وبينَ الله أصلح الله ما بينه وبين الخلق، ومن التمس محامدَ الناسِ بسخط الله، عاد حامده من النَّاس له ذامًا. قال أبو سليمان: الخاسرُ من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو أقربُ إليه من حبل الوريد. ومِنْ أعجب ما رُوي في هذا ما رُوي عن أبي جعفر السائح قال: كان حبيبٌ أبو محمد تاجرًا يَكْرِي الدراهمَ، فمرَّ ذات يوم، فإذا هو بصبيان يلعبون، فقال بعضهم لبعض: قد جاء آكِلُ الربا، فنكس رأسه، وقال: يا ربِّ، أفشيت سرِّي إلى الصبيان، فرجع فجمع ماله كُلَّه، وقال: يا ربِّ إنِّي أسيرٌ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المال فأعتِقْني، فلما أصبح، تصدَّق بالمال كلّه وأخذ في العبادة. ثم مرَّ ذات يوم بأولئك الصبيان، فلما رأوه قال بعضهم لبعض: اسكتوا فقد جاء حبيبٌ العابد، فبكى وقال: يا ربّ أنتَ تَذُمّ مرَّةً وتَحْمِدُ مرَّةً، وكله من عندك.

9 - أتبع السيئة الحسنة تمحها

9 - أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا يا مَن يرَى مَد البعوضِ جناحَها في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الألْيَلِ ويرَى مناطَ عروقِها في نَحْرِها والمخَّ في تلك العظامِ النُحَّلِ ويرَى خرِيرَ الدمِّ في أوْداجِها متنقلًا مِن مِفصَلٍ في مِفصَلِ ويرَى مكانَ الوطءِ مِن أقدامِها في سيرِها وحثيثِها المستعجِلِ ويرَى ويسمعُ حِسَّ ما هُو دُونَها في قاعِ بحرٍ مظلِمٍ متهوِّلِ امنُنْ عليَّ بتوبةٍ تمحو بها ما كان مِنِّي في الزمانِ الأوَّلِ (ليلٌ ألْيَل: شديد الظلمة، أوداجها: عروقها، ناحل ونحيل: هزيل نحيف). عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ - رضي الله عنهما -:أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».رواه التِّرمِذيُّ (حسن) • إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ: لما كان العبدُ مأمورًا بالتقوى في السرِّ والعلانية مع أنَّه لابُدَّ أنْ يقع منه أحيانًا تفريط في التقوى، إما بترك بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات، فأمره أنْ يفعل ما يمحو به هذه السيئة وهو أنْ يتبعها بالحسنة، قال الله - عز وجل -: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} (هود:114) وفي الصحيحين عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنْ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَخْبَرَهُ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ {أَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلِي هَذَا؟ قَالَ: «لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ». وفي رواية: فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: «يَا نَبِيَّ اللهِ هَذَا لَهُ خَاصَّةً؟» قَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً».

شكوتُ إلَى إلهِي سوءَ حالِي ... فقَدْ فاقَتْ مصيباتِي احتمالِي فقلتُ وقد دنا فجرٌ جديدٌ ... ألا رفقًا إلهي ذا الجلالِ فمرَّ بخاطري شيءٌ يقولُ: ... ألم تذْكُرْ ذُنُوبًا كالجبالِ فكم يومٍ عصيتَ الله جهرًا ... بإتيانِ المحرَّمِ لم تُبالِ وترجو بعدَها عيشًا هنيئًا ... بلا تَوبٍ ولا تغييرِ حالِ • وَيلٌ للمُصِرّين: وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصَّى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذه الوصية في قوله - عز وجل -: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران:133 - 136). فوصَف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسّان إليهم بالإنفاق، وكظمِ الغيظ، والعفو عنهم، فجمَع بين وصفهم ببذل النَّدى، واحتمال الأذى، وهذا هو غايةُ حسن الخلق الذي وصى به النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم وصفهم بأنَّهم: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ولم يُصرُّوا عليها، فدلَّ على أنَّ المتقين قد يَقَعُ منهم أحيانًا كبائر وهي الفواحش، وصغائر وهي ظُلمُ النفس، لكنَّهم لا يُصرُّون عليها، بل يذكرون الله عَقِبَ وقوعها، ويستغفرونه ويتوبون إليه منها، والتوبة: هي تركُ الإصرار على الذنبِ. ومعنى قوله - عز وجل -: {ذَكَرُوا اللهَ} أي: ذكروا عظمته وشِدَّة بطشه وانتقامِه، وما توعد به على المعصية من العقابِ، فيوجب ذلك لهم الرجوعَ في الحال والاستغفارَ وتركَ

الإصرار، وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} (الأعراف:201). وفي (الصحيحين) عن أَبَي هُرَيْرَةَ سدد خطاكمقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا ـ وَرُبَّمَا قَالَ: أَذْنَبَ ذَنْبًا ـ فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ـ وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ فَاغْفِرْ لِي. فَقَالَ رَبُّهُ: «أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي». ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا ـ أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا ـ فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ ـ أَوْ أَصَبْتُ ـ آخَرَ فَاغْفِرْهُ. فَقَالَ: «أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي». ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا ـ وَرُبَّمَا قَالَ أَصَابَ ذَنْبًا ـ قَالَ: قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ ـ أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ آخَرَ ـ فَاغْفِرْهُ لِي. فَقَالَ: «أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ـ ثَلَاثًا ـ فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ» هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: عن أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ - عز وجل - قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ». ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ». ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ» قَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى: «لَا أَدْرِي أَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ أَوْ الرَّابِعَةِ «اعْمَلْ مَا شِئْتَ».

«اعْمَلْ مَا شِئْتَ» يعني: ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبًا استغفر منه. وعن عُقبة بنِ عامر - رضي الله عنه - أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسولَ الله أحدُنا يُذنب، قال: «يُكْتَبُ عَلَيْهِ»، قال: ثم يستغفرُ منه، قال: «يُغْفَرُ لَهُ ويُتَابُ عَلَيْهِ»، قال: فيعود فيذنب، قال: «يُكْتَبُ عَلَيْهِ»، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: «يُغْفَرُ لَهُ ويُتَابُ عَلَيْهِ، ولا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا». (إسناده حسن رواه الحاكم). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنبَ لَهُ» (حسن رواه ابن ماجه). وقيل للحسن: ألا يستحيي أحدُنا من ربه يستغفِرُ من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود. فقال: «ودَّ الشيطانُ لو ظَفِرَ منكم بهذه، فلا تملّوا من الاستغفار». وروي عنه أنَّه قال: «ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين»، يعني: أنّ المؤمن كلما أذنب تاب. وقال عمرُ بنُ عبد العزيز في خطبته: «من أحسن منكم فليَحْمَدِ الله، ومن أساء فليستغفر الله ولْيَتُبْ، فإنَّه لابُدَّ لأقوامٍ من أنْ يعملوا أعمالًا وظَّفها الله في رقابهم، وكتبها عليهم». وفي رواية أخرى عنه أنَّه قال: «أيُّها الناسُ مَنْ ألَمَّ بذنبٍ فليستغفرِ اللهَ وَلْيَتُبْ، فإنْ عاد فليستغفر الله وَلْيَتُبْ، فإنْ عادَ فليستغفر الله وَلْيَتُبْ، فإنَّما هي خطايا مطوَّقة في أعناقِ الرجال، وإنَّ الهلاك كُلَّ الهلاك في الإصرار عليها». ومعنى هذا أنَّ العبدَ لابُدَّ أنْ يفعل ما قُدِّرَ عليه من الذنوب كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَى، فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالةَ» (رواه البخاري ومسلم). ولكنَّ الله جعل للعبد مخرجًا مما وقع فيه من الذنوب بالتوبة والاستغفار، فإنْ فعل، فقد تخلص من شرِّ الذنب، وإنْ أصرَّ على الذنب، هلك.

وعن عبد الله بن عمرو، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ارحَمُوا تُرْحَمُوا، واغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُم، وَيْلٌ لأقْماعِ القَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وهُمْ يَعْلَمُونَ» (حسن رواه الإمام أحمد)، وأقماعُ القول من كانت أذناه كالقمع لما يسمع من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا دخل شيء من ذلك في أذنه خرج من الأخرى، ولم ينتفع بشيء مما سمع. رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوبَ ... وقد يُورِثُ الذلَّ إدمانُها وتَرْكُ الذنوبِ حياةُ القلوبِ ... وخيرٌ لنفْسِكَ عصيانُها • معنى أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنة: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنة» قد يُراد بالحسنة: 1 - التوبة من تلك السيئة: قال قتادة: قال سلمان: «إذا أسأتَ سيئةً في سريرةٍ، فأحسن حسنة في سريرةٍ، وإذا أسأتَ سيئةً في علانية، فأحسن حسنةً في علانية، لكي تكونَ هذه بهذه». وهذا يحتمِلُ أنَّه أراد بالحسنة التوبة أو أعمَّ منها. وقد أخبر الله في كتابه أنَّ من تاب من ذنبه، فإنَّه يُغفر له ذنبه أو يتاب عليه في مواضع كثيرةٍ، كقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ} (النساء:17)، وقوله {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (النحل:119)، وقوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان:70)، وقوله: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} (طه:82)، وقوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (مريم:60)، وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ

يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} (آل عمران:135 - 136). ويُروى عن ابن مسعودٍ سدد خطاكمقال: «هذه الآية خيرٌ لأهل الذنوب من الدنيا وما فيها». وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج:78)، قال: «هو سعةُ الإسلامِ، وما جعل الله لأمة محمد من التوبة والكفارة». وظاهر هذه النصوص تدلُّ على أنَّ من تاب إلى الله توبةً نصوحًا، واجتمعت شروطُ التوبة في حقه، فإنَّه يُقطع بقبولِ الله توبته، كما يُقطع بقبول إسلام الكافر إذا أسلم إسلامًا صحيحًا، وهذا قولُ الجمهور، وكلامُ ابن عبدِ البرِّ يدلُّ على أنَّه إجماع. 2 - قد يُراد بالحسنة في قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ» ما هو أعمُّ من التوبة، كما في قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114) وعن أبي بكر الصدِّيق سدد خطاكم، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا، ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَطهَّر، ثُمَّ يُصَلِّي، ثمَُّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ إلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ» ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (إسناده حسن رواه الإمامُ أحمدُ، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابنُ ماجه). وعَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ - رضي الله عنه - دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (رواه البخاري ومسلم).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟» قَالُوا: لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ. قَالَ: «فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا». (رواه البخاري ومسلم) وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ؛ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ». (رواه مسلم). وفي (الصحيحين) أنّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه ِ، ومَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (رواه البخاري ومسلم) وعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، قال: ... فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقُلْتُ ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ، فَبَسَطَ يَمِينَهُ فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟»، قَالَ: قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟»، قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ». (رواه مسلم).

وفي رواية: «يَا عَمْرُو، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ، يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ» (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» (رواه مسلم). روى الإمامُ أحمد من حديث عُقبة بن عامر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ» (سنده جيد). • ذكرُ الله - عز وجل - يُكفِّرُ الخطايا: ومما يُكفِّرُ الخطايا ذكرُ الله - عز وجل - فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» (رواه البخاري). وَالْمُرَاد بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَإِنْ كَانَتْ مِثْل زَبَد الْبَحْر» الْكِنَايَة عَنْ الْمُبَالَغَة فِي الْكَثْرَة. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» (رواه البخاري ومسلم). وروى الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن أَنَسٌ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَخَذَ غُصْنًا فَنَفَضَهُ فَلَمْ يَنْتَفِضْ ثُمَّ نَفَضَهُ فَلَمْ يَنْتَفِضْ ثُمَّ نَفَضَهُ فَانْتَفَضَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ

سُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ تَنْفُضُ الْخَطَايَا كَمَا تَنْفُضُ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا». وسُئِلَ الإمام أحمد عن رجلٍ اكتسب مالًا من شبهةٍ: صلاتُه وتسبيحُهُ يَحُطُّ عنه شيئًا من ذلك؟ فقالَ: إنْ صلَّى وسبَّح يريد به ذَلِكَ، فأرجو، قالَ الله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} (التوبة:102). • هل تُكفّرُ الأعمالُ الصالحةُ الكبائرَ والصغائرَ أم لا تكفر سوى الصغائر؟ لا تُكفر سوى الصغائر، وأما الكبائر، فلابدَّ لها من التوبة؛ لأنَّ الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالمًا؛ قال - عز وجل -: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11) واتفقت الأمةُ على أنَّ التوبة فرض، والفرائضُ لا تُؤدى إلا بنيةٍ وقصدٍ، ولو كانت الكبائرُ تقع مكفرةً بالوضوء والصلاة، وأداء بقية أركان الإسلام، لم يُحْتَجْ إلى التوبة، وهذا باطلٌ بالإجماع. وأيضا فلو كُفِّرَت الكبائرُ بفعل الفرائض لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قولَ المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البرِّ في كتابه (التمهيد) وحكى إجماع المسلمين على ذلك، واستدلَّ عليه بأحاديث: منها: قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ» (رواه البخاري ومسلم). وهذا يدلُّ على أنَّ الكبائرَ لا تكفرها هذه الفرائضُ. وعن عثمان - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَا مِنْ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً، وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ» (رواه مسلم). وقال سلمان: «حافظوا على هذه الصلوات الخمس، فإنَّهنَّ كفَّارات لهذه الجراح ما لم تُصب المقتلة».

وقال ابنُ عمر لرجل: أتخاف النارَ أنْ تدخلها، وتحبُّ الجنَّةَ أنْ تدخلها؟ قال: نعم، قال: برَّ أمَّك فوالله لَئِنْ ألنتَ لها الكلام وأطعمتها الطَّعام، لتدخلن الجنَّة ما اجتنبت الموجبات. وقال قتادة: «إنَّما وعد الله المغفرةَ لمن اجتنب الكبائر». ومما يُستدلُّ به على أنَّ الكبائر لا تُكَفَّرُ بدونِ التوبة منها، أو العقوبة عليها حديثُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ؛ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ»، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك. (رواه البخاري ومسلم). وَالْعِصَابَة بِكَسْرِ الْعَيْن: الْجَمَاعَة مِنْ الْعَشَرَة إِلَى الْأَرْبَعِينَ. والْبُهْتَان: الْكَذِب يَبْهَت سَامِعه، وَخَصَّ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُل بِالِافْتِرَاءِ لِأَنَّ مُعْظَم الْأَفْعَال تَقَع بِهِمَا. وفي روايةٍ لمسلم: «وَمَنْ أَتَى مِنْكُمْ حَدًّا فَأُقِيمَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَفَّارَتُهُ».وهذا يدلُّ على أنَّ الحدود كفارات. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَعُوقِبَ بِهِ» يعمُّ العقوبات الشرعية، وهي الحدود المقدَّرةُ أو غير المقدَّرة، كالتعزيزات، ويشمل العقوبات القدرية، كالمصائب والأسقام والآلام، فإنَّه صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه قال: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» (رواه البخاري). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللهُ فَهُوَ إِلَى اللهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» صريحٌ في أنَّ هذه الكبائر من لقي الله بها كانت تحتَ مشيئتِهِ، وهذا يدلُّ على أنَّ إقامةَ الفرائضِ لا تكفِّرها ولا تمحوها، فإنَّ عموم المسلمين يُحافظون على

الفرائض، لاسيما مَنْ بايعهُم النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وخرج مِنْ ذلك مَنْ لقي الله وقد تاب منها بالنُّصوص الدَّالَّةِ من الكتاب والسنة على أنَّ من تابَ إلى الله، تاب الله عليه، وغفر له، فبقى مَنْ لم يتُبْ داخلًا تحت المشيئة. • حال كثير مِنَ الخائفين مِنَ السَّلف: * قال ابن مسعود سدد خطاكم: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ، قَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ». (رواه البخاري وغيره). قَوْله (إِنَّ الْمُؤْمِن يَرَى ذُنُوبه كَأَنَّهُ قَاعِد تَحْت جَبَل يَخَاف أَنْ يَقَع عَلَيْهِ) السَّبَب فِي ذَلِكَ أَنَّ قَلْب الْمُؤْمِن مُنَوَّر، فَإِذَا رَأَى مِنْ نَفْسه مَا يُخَالِف مَا يُنَوِّر بِهِ قَلْبه عَظُمَ الْأَمْر عَلَيْهِ، وَالْحِكْمَة فِي التَّمْثِيل بِالْجَبَلِ أَنَّ غَيْره مِنْ الْمُهْلِكَات قَدْ يَحْصُل التَّسَبُّب إِلَى النَّجَاة مِنْهُ بِخِلَافِ الْجَبَل إِذَا سَقَطَ عَلَى الشَّخْص لَا يَنْجُو مِنْهُ عَادَة. وَحَاصِله أَنَّ الْمُؤْمِن يَغْلِب عَلَيْهِ الْخَوْف لِقُوَّةِ مَا عِنْده مِنْ الْإِيمَان فَلَا يَأْمَن الْعُقُوبَة بِسَبَبِهَا، وَهَذَا شَأْن الْمُسْلِم أَنَّهُ دَائِم الْخَوْف وَالْمُرَاقَبَة، يَسْتَصْغِر عَمَله الصَّالِح وَيَخْشَى مِنْ صَغِير عَمَله السَّيِّئ. قَوْله (وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ) أَيْ ذَنْبه سَهْل عِنْده لَا يَعْتَقِد أَنَّهُ يَحْصُل لَهُ بِسَبَبِهِ كَبِير ضَرَر، كَمَا أَنَّ ضَرَر الذُّبَاب عِنْده سَهْل، وَكَذَا دَفْعه عَنْهُ. قَوْله (فَقَالَ بِهِ هَكَذَا) أَيْ نَحَّاهُ بِيَدِهِ أَوْ دَفَعَهُ، هُوَ مِنْ إِطْلَاق الْقَوْل عَلَى الْفِعْل قَالُوا وَهُوَ أَبْلَغ. والسَّبَب فِي ذَلِكَ أَنَّ قَلْب الْفَاجِر مُظْلِم فَوُقُوع الذَّنْب خَفِيف عِنْده، وَلِهَذَا تَجِد مَنْ يَقَع فِي الْمَعْصِيَة إِذَا وُعِظَ يَقُول: هَذَا سَهْل. وَالْحِكْمَة فِي تَشْبِيهِ ذُنُوب الْفَاجِر بِالذُّبَابِ كَوْن الذُّبَاب أَخَفّ الطَّيْر وَأَحْقَره، وَهُوَ مِمَّا يُعَايَن وَيُدْفَع بِأَقَلّ الْأَشْيَاء، قَالَ: وَفِي ذِكْر الْأَنْف مُبَالَغَة فِي اِعْتِقَاده خِفَّة الذَّنْب

عِنْده؛ لِأَنَّ الذُّبَاب قَلَّمَا يَنْزِل عَلَى الْأَنْف وَإِنَّمَا يَقْصِد غَالِبًا الْعَيْن، قَالَ: وَفِي إِشَارَته بِيَدِهِ تَأْكِيد لِلْخِفَّةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ بِهَذَا الْقَدْر الْيَسِير يُدْفَع ضَرَره. * قال بعضهم لرجلٍ: هل أذنبت ذنبًا؟ قال: نعم، قال: فعلمتَ أنَّ الله كتبه عليك؟ قال: نعم، قال: فاعمل حتّى تعلمَ أنَّ الله قد محاه. * وكانوا يتَّهمُون أعمالهم وتوباتهم، ويخافون أنْ لا يكونَ قد قُبِلَ منهم ذلك، فكان ذلك يُوجِبُ لهم شدَّةَ الخوف، وكثرةَ الاجتهاد في الأعمال الصالحة. * قال الحسن: «أدركتُ أقوامًا لو أنفق أحدهم ملءَ الأرض ما أمِنَ لِعظم الذنب في نفسه». * وقال ابنُ عون: «لا تَثِقْ بكثرة العمل، فإنَّك لا تدري أيُقبل منك أم لا، ولا تأمن ذنوبك، فإنَّك لا تدري كُفِّرَتْ عنك أم لا، إنَّ عملك مُغَيَّبٌ عنك كله». • بشرى للتائبين: سيئاتُ التائب توبةً نصوحًا تُكفَّر عنه، وتبقى له حسناتُه: قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (الأحقاف:15 - 16) وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الزمر:33 - 35)، فلمَّا وصف هؤلاء بالتَّقوى والإحسّانَ، دلَّ على أنَّهم ليسوا بمصرِّين على الذُّنوب، بل هم تائبون منها. إذا كنتَ في نعمةٍ فأرْعَها فإن الذنوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ وحافِظْ عليها بتقْوَى الإله فإن الإلاهَ سريعُ النِّقَمْ فإن تُعْطِ نفسَكَ آمالَهَا فعندَ مُناها تَحِلُّ النِّقَمْ

10 - خالق الناس بخلق حسن

10 - خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ عَنْ أَبي ذَرٍّ ومعاذِ بن جَبَلٍ - رضي الله عنهما -:أنَّ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ». (حسن رواه التِّرمِذيُّ). قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» هذا من خصال التقوى، ولا تَتِمُّ التقوى إلا به، وإنَّما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإنَّ كثيرًا من النَّاس يظنُّ أنَّ التقوى هي القيامُ بحقِّ اللهِ دونَ حقوق عباده، فنصَّ له على الأمر بإحسان العشرة للناس؛ فإنَّه كان قد بعثه إلى اليمن مُعلمًا لهم ومُفقهًا وقاضيًا، ومَنْ كان كذلك، فإنَّه يحتاج إلى مخالقَةِ النَّاسِ بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيرُه ممن لا حاجةَ للنَّاس به ولا يُخالطهم. وكثيرًا ما يغلب على من يعتني بالقيامِ بحقوق الله، والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكُلِّيَّة أو التقصير فيها، والجمعُ بَيْنَ القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جدًا لا يَقوى عليه إلاَّ الكُمَّلُ مِنَ الأنبياءِ والصديقين. للخيرِ أهْلٌ لا تزالُ ... وجوهُهُم تدعُو إليْه طوبَى لمن جَرَتِ الأمورُ ... الصالحاتُ على يدَيْه ما لم يضِقْ خُلُقُ الفتَى ... فالأرضُ واسعةٌ عليْه • فضائل حسن الخلق: وقد عدَّ الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى، بل بدأ بذلك في قوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:133 - 134). وقد جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - حسن الخلق من أحسن خصال الإيمانِ فقال: «أكْمَلُ المُؤْمِنِينَ إيمَانًا أحْسَنُهُمْ خُلُقًا» (إسناده حسن رواه الإمام أحمد وأبو داود).

وعن أسامة بن شريك - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسولَ الله، ما أفضلُ ما أعطِي المرءُ المسلمُ؟ قال: «الخُلُقُ الحَسَنُ» (صحيح رواه أحمد، وأبو داود، والنَّسائي، وابنُ ماجه). وأخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّ صاحبَ الخلق الحسن يَبلُغُ بِخلقِه درجةَ الصَّائم القائم لئلا يشتغِلَ المريدُ للتقوى عن حسن الخلق بالصَّوم والصلاة، ويَظُنُّ أنَّ ذلك يقطعه عن فضلهما، فروى الإمام أحمد، وأبو داود، من حديث عائشة - رضي الله عنها -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إنَّ المؤْمِنَ ليُدرِكَ بحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الصَّائِمِ القَائِمِ» (حسن). وأخبر - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّ حسن الخُلق أثقلُ ما يُوضَعُ في الميزان، وأنَّ صاحبَه أحبُّ الناسِ إلى الله وأقربهم من النبيين مجلسًا، فروى الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «ما مِنْ شيءٍ يوضَعُ في الميزَانِ أثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ، وإنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ والصَّلَاةِ» (صحيح). وروى ابن حبان في (صحيحه) من حديث عبدِ الله بن عمرو - رضي الله عنهما -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ألَا أخْبِرُكُمْ بأحَبِّكُمْ إلَى اللهِ وأقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ القِيَامَةِ؟» قالوا: بلى، قال: «أحسَنُكُم خُلُقًا» (حسن). وسُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: «تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ». وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ، فَقَالَ: «الْفَمُ وَالْفَرْجُ». (حسن) وقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (حسن رواه أبو داود). قال ابن القيم: «وهذه كلها يشملها حسن الخلق». (أَنَا زَعِيم): أَيْ ضَامِن وَكَفِيل (بِبَيْتٍ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَيْت هَا هُنَا الْقَصْر.

(فِي رَبَضِ الْجَنَّة): مَا حَوْلهَا خَارِجًا عَنْهَا تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُون حَوْل الْمُدُن وَتَحْت الْقِلَاع. (الْمِرَاء): أَيْ الْجِدَال؛ كَسْرًا لِنَفْسِهِ كَيْلَا يَرْفَع نَفْسه عَلَى خَصْمه بِظُهُورِ فَضْله. • تفسيرُ السلف لحُسنِ الخُلق: عن الحسن قال: حُسنُ الخلق: الكرمُ والبذلة والاحتمالُ. وعن الشعبي قال: حسن الخلق: البذلة والعطية والبِشرُ الحسن. وعن ابن المبارك قال: هو بسطُ الوجه، وبذلُ المعروف، وكفُّ الأذى. وسئل سلامُ بن أبي مطيع عن حسن الخلق، فأنشد: تراهُ إذا ما جئتَهُ متهَلِّلًا ... كأنَّك تُعطِيهِ الذي أنتَ سائِلُه ولَوْ لَم يَكُنْ في كَفِّه غيرُ رُوحِهِ ... لَجَادَ بِها فَليَتَّق الله سائِلُه هُو البَحرُ مِنْ أيِّ النَّواحِي أتيتَهُ فَلُجَّتُه المعروفُ والجُودُ سَاحِلُه وقال الإمامُ أحمد: حُسنُ الخلق أنْ لا تَغضَبَ ولا تحْتدَّ، وعنه أنَّه قال: حُسنُ الخلق أنْ تحتملَ ما يكونُ من الناس. وقال إسحاق بن راهويه: هو بسطُ الوجهِ، وأنْ لا تغضب. وقال بعضُ أهل العلم: حُسنُ الخلق: كظمُ الغيظِ لله، وإظهار الطلاقة والبشر إلا للمبتدع والفاجر، والعفوُ عن الزَّالين إلا تأديبًا أو إقامة حدٍّ، وكفُّ الأذى عن كلّ مسلم أو معاهَدٍ إلا تغييرَ منكر أو أخذًا بمظلمةٍ لمظلومٍ من غير تعدٍّ. وروى الحاكم من حديث عُقبة بن عامر الجهني، قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا عُقْبَةُ، ألَا أخْبِرُكَ بأفْضَلَ أخْلَاقِ أهْلِ الدُنْيَا والآخِرَةِ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ، وتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ» (حسن). إن شأن الأخلاق عظيم، وإن منزلتها لعالية، فالدين هو الخلق، وأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم أخلاقًا، وأحسنهم أخلاقًا أقربهم من النبي يوم القيامة.

أيها الطالبُ فخرًا بالنسبْ إنما الناسُ لأمٍ ولأبْ هل تراهم خُلِقوا مِن فضةٍ أو حديدٍ أو نُحاسٍ أو ذهبْ أو ترى فضْلَهُمو في خَلْقهم هل سوى لحمٍ وعظمٍ وعصبْ إنما الفضلُ بعقلٍ راجحٍ وبأخلاقٍ كرامٍ وأدبْ ذاك مَن فاخَرَ في الناسِ به فاقَ مَن فاخَر منهم وغلبْ • نصوص الشرع تحث على محاسن الأخلاق: لقد تظاهرت نصوص الشرع في الحديث عن الأخلاق، فحثّت وحضّت ورغّبت في محاسن الأخلاق، وحذّرت ونفّرت ورهّبت من مساوئ الأخلاق، بل إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بيّن أن الغاية من بعثته إنما هي لإتمام مكارم الأخلاق، فقال: «إنَّمَا بُعِثْتُ لأتَمِّمَ صَالِحَ الأخلاقِ» (صحيح رواه الحاكم وغيره). وقال الله - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، قال ابن عباس ومجاهد: لعلى دين عظيم، وقال الحسن: هو آداب القرآن. وسئلت عائشة - رضي الله عنها - عن خلق النبي فقالت: «كَانَ خُلُقُهُ القُرْآنُ». (رواه مسلم وأحمد وأبو داود). وقال - عز وجل - عن عباده: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} (الفرقان:63). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْه - رضي الله عنه - ٍ قَالَ: «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَشْرَ سِنِينَ وَاللهِ مَا قَالَ لِي أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية: «خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلَا: لِمَ صَنَعْتَ، وَلَا: أَلَّا صَنَعْتَ» (رواه البخاري). وفي رواية: «فَخَدَمْتُهُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ وَاللهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا، وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا» (رواه البخاري ومسلم).

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاء ِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللهَ لَيُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» (صحيح رواه الترمذي). (الْفَاحِشَ) الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِمَا يَكْرَهُ سَمَاعَهُ أَوْ مَنْ يُرْسِلُ لِسَانَهُ بِمَا لَا يَنْبَغِي. (الْبَذِيءُ) هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْفُحْشِ، وَالْبَذَاءُ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ. وَمِنْ الْمُقَرَّرِ أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مَبْغُوضًا للهِ لَيْسَ لَهُ وَزْنٌ وَقَدْرٌ كَمَا أَنَّ كُلَّ مَا يَكُونُ مَحْبُوبًا لَهُ يَكُونُ عِنْدَهُ عَظِيمًا، قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ الْكُفَّارِ {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} (الكهف:105).وَفِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ» (رواه البخاري). وعَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» (رواه مسلم). قَالَ الْعُلَمَاء: الْبِرّ يَكُون بِمَعْنَى الصِّلَة، وَبِمَعْنَى اللُّطْف وَالْمَبَرَّة وَحُسْن الصُّحْبَة وَالْعِشْرَة، وَبِمَعْنَى الطَّاعَة، وَهَذِهِ الْأُمُور هِيَ مَجَامِع الْخُلُق. وَمَعْنَى (حَاكَ فِي صَدْرك) أَيْ تَحَرَّكَ فِيهِ، وَتَرَدَّدَ، وَلَمْ يَنْشَرِح لَهُ الصَّدْر، وَحَصَلَ فِي الْقَلْب مِنْهُ الشَّكّ، وَخَوْف كَوْنه ذَنْبًا. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ» (صحيح رواه الترمذي). (عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ) أَيْ إِلَى النَّاسِ. (هَيِّنٍ) أَيْ تُحَرَّمُ عَلَى كُلِّ سَهْلٍ طَلْقٍ حَلِيمٍ لَيِّنِ الْجَانِبِ (سَهْلٍ) هُوَ ضِدُّ الصَّعْبِ، أَيْ سَهْلِ الْخُلُقِ كَرِيمِ الشَّمَائِلِ. • حسن الخلق يقوم على أربعة أمور: وهي الصبر والعفّة والشجاعة والعدل. فالصبر يحمل صاحبه على الاحتمال وكظم الغيظ وكفّ الأذى والحلم والأناة والرفق وعدم الطيش والعجلة.

والعفة تحمله على اجتناب الرذائل من القول والفعل، وتحمله على الحياء وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء والبخل والكذب والغيبة والنميمة. والشجاعة تحمله على عزّة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشِّيَم وعلى البذل الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ والحلم؛ فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عِنَانها، ويكبحها بلِجَامِها عن النزغ والبطش، كما أنه ليس الشديد بالصرعة، أي: ليس الشجاع الذي يصرع الناس، إنما الشديد الذي يملك ويمسك نفسه عند الغضب. والعدل يحمله على الإنصاف وعدم الظلم وتوسّطه بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على وسطية التصرّف بين التهوّر والجبن والإسراف والإقتار، وبين الغضب والمهانة وسقوط النفس. فهذه الأركان الأربعة هي منشأ الأخلاق الحسنة الفاضلة. • منشأ الأخلاق السافلة على أربعة أركان: الجهل والظلم والشهوة والغضب. فالجهل يُرِي صاحبه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، ويُريه الكمالَ نقصًا، والنقصَ كمالًا، يقول القائل: فلا تصحبْ أخَا الجهلِ وإياكَ وإياهُ فكم مِن جاهلٍ أرْدَى حَلِيمًا حين آخاهُ يُقاس المرءُ بالْمرءِ إذا ما الْمرءُ ماشاهُ والظلم يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل. والشهوة تحمله على الحرص والشحّ والبخل وعدم العفّة والنّهبة والجشع والذل والدناءات. وأما الغضب فيحمله على الكبر والحقد والحسد والعداوة والسَّفَه.

• هل يمكن تغيّر الأخلاق من قبيح إلى حسن؟ الجواب: إن الناس على رأيين: الأول: أنها لا تتغير، والثاني: أنها تتغيّر، وهذا هو الصحيح؛ لأن الأخلاق على ضَربين: منها ما هو جِبِلِّي، ومنها ما هو اكتسابي يأتي بالتدريب والممارسة والمحاكاة، بل كيف يُنكَر عدم تغيّر خلق الإنسان وتغيّر خلق الحيوان البَهِيم ممكن؟! فالبازِيّ يُنقَل من الاستِيحاش إلى الأُنس، والكلب من شَرَهِ الأكل إلى التأدّب والإمساك عن الصيد بعد إمساكه، والفرس من الجِمَاح إلى السلاسة؛ فإذا كان هذا شأن الحيوان فأجدر بالإنسان أن يغيّر خلقه. • أسباب اكتساب حسن الخلق: أولًا: سلامة العقيدة: فشأن العقيدة عظيم وأمرها جليل، فكل انحراف في السلوك إنما هو ناتج عن خلل في العقيدة؛ فآداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر؛ فالناس إذا صحّت عقائدهم زَكَت نفوسهم، واستقامت أخلاقهم تبعًا لذلك. ثانيًا: الدعاء: فهذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ أكمل الناس وأعظمهم أخلاقًا ـ يدعو ربه أن يرزقه حسن الخلق، فمن دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللَّهُمَّ أَنْتَ الْمَلِكُ لَا إِلَهَ لِي إِلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي؛ فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي جَمِيعًا؛ إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ» (صحيح رواه أبو داود). ثالثًا: المجاهدة: فمجاهدة النفس على حسن الخلق وكبحها عن سيئها يجعلها تتحلّى بأحسن الأخلاق، ويقرّب عون الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت:69).والمجاهدة لا تعني أن يجاهد العبد نفسه مرّة أو مرّتين، بل تعني أن يجاهد نفسه حتى يموت، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ

الْيَقِينُ} (الحجر:99).ومن ذلك المحاسبة بنقد النفس إذا ارتكبت أخلاقًا ذميمة، وحملها على عدم العودة. رابعًا: التفكّر في عواقب سوء الخلق بتأمّلٍ فيما يجلبه من الأسف الدائم والهمّ اللازم والحسرة والندامة والبُغض في قلوب الخلق. خامسًا: إنّ أعظم سبب لحسن الخلق الترفّع عن السِّباب. واسمع لهذه النماذج العجيبة في تحمّل السِّباب والإعراض عن الجاهلين. خرج عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - ليلةً في السحر فَعَثَر في رجل نائم على الأرض، فقال له الرجل: أمجنون أنت؟! قال عمر: لا. فَهَمَّ الحرسُ به، فقال عمر: اتركوه؛ سألني فأجبته. وقال الأصمعي: بلغني أن رجلًا قال لآخر: والله لئن قلت واحدة لتسمعنّ عشرًا، فقال الآخر: لكنك إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة. واسمع إلى الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: إذا سبّني نَذْلٌ تزايَدتُ رِفْعَة وما العَيبُ إلا أن أكون مُسَابِبُه ولو لم تكن نفسي عليّ عزيزةً لمكّنْتُها مِن كُلِّ نَذْلٍ تُحَارِبُه وآخر يقول: ولست مُشاتِمًا أحدًا لأني رأيتُ الشتمَ مِن عِيّ الرجالِ إذا جعل اللئيمُ أباه نَصْبًا لشاتِمِه فدَيْتُ أبي بمالِي

11 - احفظ الله يحفظك

11 - احفَظِ الله يَحْفَظْكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلَامُ، إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (صَحيحٌ رواه الترمذيُّ). هذا الحديث رواه الإمامُ أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا غُلَامُ ـ أَوْ يَا غُلَيِّمُ «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ» فَقُلْتُ: «بَلَى». فَقَالَ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (إسناده صحيح). هذا الحديث يتضمن وصايا عظيمة وقواعد كلية من أهمِّ أمور الدين، حتى قال بعض العلماء: تدبرتُ هذا الحديثَ، فأدهشني وكِدتُ أطيشُ، فوا أسفى من الجهل بهذا الحديث، وقِلَّةِ التفهم لمعناه. • معنى: «احفظِ الله»: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «احْفَظِ اللهَ» يعني: احفظ حدودَه، وحقوقَه، وأوامرَه، ونواهيَه، وحفظُ ذلك: هو الوقوفُ عندَ أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتنابِ، وعندَ حدوده، فلا يتجاوزُ ما أمر به، وأذن فيه إلى ما نهى عنه، فمن فعل ذلك، فهو مِنَ الحافظين لحدود الله الذين مدحهمُ الله في كتابه؛ قال - عز وجل -: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ

حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (ق:32 - 33) وفُسِّر الحفيظ ها هنا: بالحافظ لأوامرِ الله، وبالحافظ لذنوبه ليتوب منها. • حفظ الصلاة: ومن أعظم ما يجبُ حِفظُه من أوامر الله الصَّلاةُ، وقد أمر الله بالمحافظة عليها، فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} «البقرة:238» ومدح المحافظين عليها بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المعارج:34). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» (حسن رواه أحمد). شعبٌ بغيرِ عقيدةٍ وَرَقٌ تُذَرِّيهِ الرياحْ من خانَ (حيَّ على الصلاةِ) يخونُ حيَّ على الكِفاحْ • حفظ الطهارة: الطهارة مفتاحُ الصلاة، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يُحافِظُ على الوضوء إلاَّ مؤمن» (صحيح رواه أحمد). • حفظ الأيمان: وممَّا يُؤمر بحفظه الأيمانُ، قال الله - عز وجل -: {واحْفَظوا أَيْمَانَكُم} (المائدة:89)، فإنَّ الأيمان يقع الناس فيها كثيرًا، ويُهْمِل كثيرٌ منهم ما يجب بها، فلا يحفظه، ولا يلتزمه. • حفظُ الرأس والبطن: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ»، قَالَ: قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَسْتَحْيِي، وَالْحَمْدُ للهِ». قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا؛ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ». (حسن رواه الترمذي).

وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظُ السَّمع والبصر واللسان من المحرمات، وحفظُ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عَنِ الإصرار على محرم. قال الله - عز وجل -: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} «البقرة:235»، وقد جمع الله ذلك كُلَّه في قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} (الإسراء:36).ويتضمن أيضًا حفظُ البطنِ من إدخال الحرام إليه من المآكل والمشارب. لسانك لا تذْكرْ به عورةَ امرءٍ فكُلّكَ عوراتٌ وللناسٍ ألسُنُ وعينُك إن أبدتْ إليك معائبًا فصُنْها وقُلْ يا عينُ للناسِ أعيُنُ وعاشِر بمعروفٍ وسامِحْ مَن اعتدَى وفَارِقْ ولَكِنْ بالتي هي أحسنُ ********** كل الحوادثِ مبدؤُها مِن النظرِ ومعظمُ النارِ مِن مُستصغَرِ الشررِ كم نظرةٍ فتَكَتْ في قلبِ صاحبِها فتْكَ السهامِ بلا قوسٍ ولا وترِ؟ والعبدُ مادامَ ذا عيْنٍ يقَلّبُها في أعْيُنِ الغِيدِ موقوفٌ على الخطرِ يُسِر مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَتَهُ لا مرحبًا بسرورٍ عادَ بالضررِ (الغَيْداء المرأَة المتثنية في مَشْيِها، والغادَةُ الفتاة الناعمة اللينة). ********* تفنى اللذاذةُ ممنْ نالَ لذتَها ... مِنَ الحرامِ ويبقى الإثمُ والعارُ تُبْقِى عواقبَ سُوءٍ مِن مَغبّتِها ... لاخيرَ في لذةٍ مِن بعدِها النارُ ********* وسمعك صُنْ عن سَمَاعِ القَبيحِ كصَوْنِ اللسانِ عن النطقِ بِهْ فإنَّكَ عندَ سماعِ القبيحِ شريكٌ لقائلِه فانْتَبِهْ

• حفظ اللسانُ والفرجُ: ومِنْ أعظم ما يجبُ حفظُه من نواهي الله - عز وجل -:اللسانُ والفرجُ، وفي حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ حَفِظَ َ مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ، ومَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» (صحيح رواه الحاكم). احْفَظْ لسانَك أيها الإنسانُ لا يلدَغَنَّكَ إنه ثعبانُ كم في المقابرِ مِنْ قَتيلِ لسانهِ كانتْ تَهَابُ لقاءَهُ الشجعانُ وأمَر الله - عز وجل - بحفظ الفروج، ومدحَ الحافظين لها، فقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور:30)، وقال: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:35)، وقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} (المؤمنون:1 - 6). عَفّوا تعفّ نساؤُكم في المحْرمِ وتجنَّبُوا ما لا يليقُ بمسلمِ إن الزّنَى دَيْنٌ فإنْ أقرضْتَهُ كانَ الوفَا مِنْ أهْلِ بيتِكَ فاعلمِ مَنْ يَزْنِ في قومٍ بألفَيْ دِرْهَمٍ في بيتهِ يُزنَى برُبْعِِِِِ الدرهمِ يا هاتكًا حَرَمَ الرجالِ وتابعًا طُرُقَ الفسادِ تعيش غيرَ مُكَرَّمِ لو كنتَ حرًا من سلالةِ ماجدٍ ما كنت هتَّاكًا لحرمةِ مسلمِ • الجزاء من جنس العمل: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَحْفَظْكَ» يعني: أنَّ من حفظَ حدود الله، وراعى حقوقَه، حفظه الله، فإنَّ الجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} «البقرة:40»، وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} (البقرة:152)، وقال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} (محمد:7).

• حفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان: النوع الأول: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله - عز وجل -: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ} (الرعد:11). قال ابن عباس: هم الملائكة يحفظونَهُ بأمرِ الله، فإذا جاء القدر خَلُّوْا عنه. وقال عليٌّ - رضي الله عنه -:إنَّ مع كلِّ رجلٍ ملكين يحفظانه مما لم يقدرْ فإذا جاء القدر خلّيا بينه وبينَه، وإنَّ الأجل جُنَّةٌ حصينة. وقال مجاهد: ما مِنْ عبدٍ إلاَّ له مَلَكٌ يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإنس والهوامِّ، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئًا أذن الله فيه فيصيبه. عن ابْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي» (صحيح رواه أبو داود). قَالَ أَبُو دَاوُد: قَالَ وَكِيعٌ: يَعْنِي الْخَسْفَ. (مِنْ بَيْن يَدَيَّ):أَيْ أَمَامِي، (أَنْ أُغْتَال):بِصِيغَةِ الْمَجْهُول: أَيْ أُوخَذ بَغْتَة وَأَهْلَكَ غَفْلَة (قَالَ وَكِيع: يَعْنِي الْخَسْف):أَيْ يُرِيد النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِالِاغْتِيَالِ مِنْ الْجِهَة التَّحْتَانِيَّة: الْخَسْف. قَالَ فِي الْقَامُوس: خَسَفَ اللهُ بِفُلَانٍ الْأَرْض غَيَّبَهُ فِيهَا. قَالَ الطِّيبِيُّ: عَمَّ الْجِهَات لِأَنَّ الْآفَات مِنْهَا وَبَالَغَ فِي جِهَة السُّفْل لِرَدَاءَةِ الْآفَة. • احفظ الله في صغرك يحفظْكَ في كبَرك: ومَنْ حفظ الله في صباه وقوَّته، حفظه الله في حال كبَره وضعفِ قوّته، ومتَّعه بسمعه وبصره وحولِه وقوَّته وعقله.

كان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتَّعٌ بقوَّتِه وعقله، فوثب يومًا وثبةً شديدةً، فعُوتِبَ في ذلك، فقال: هذه جوارحُ حفظناها عَنِ المعاصي في الصِّغر، فحفظها الله علينا في الكبر. وعكس هذا أنَّ بعض السَّلف رأى شيخًا يسأل الناسَ، فقال: إنَّ هذا ضيَّع الله في صغره، فضيَّعه الله في كبره. • وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحًا: وقد يحفظُ الله العبدَ بصلاحه بعدَ موته في ذريَّته كما قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ أَبُوْهُمُا صَالِحًا} (الكهف:82):أنَّهما حُفِظا بصلاح أبيهما. قال عمرُ بن عبد العزيز: ما من مؤمن يموتُ إلاَّ حفظه الله في عقبه وعقبِ عقبه. ومتى كان العبد مشتغلًا بطاعة الله، فإنَّ الله يحفظه في تلك الحال؛ ففي (مسند الإمام أحمد عَنْ حُمَيْدٍ بْنَ هِلَالٍ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنْ الطُّفَاوَةِ طَرِيقُهُ عَلَيْنَا فَأَتَى عَلَى الْحَيِّ فَحَدَّثَهُمْ، قَالَ: «قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي عِيرٍ لَنَا فَبِعْنَا بِيَاعَتَنَا ثُمَّ قُلْتُ لَأَنْطَلِقَنَّ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَلَآتِيَنَّ مَنْ بَعْدِي بِخَبَرِهِ، قَالَ: فَانْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِذَا هُوَ يُرِينِي بَيْتًا. قَالَ: «إِنَّ امْرَأَةً كَانَتْ فِيهِ فَخَرَجَتْ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ عَنْزًا لَهَا وَصِيصِيَتَهَا كَانَتْ تَنْسِجُ بِهَا، قَالَ: «فَفَقَدَتْ عَنْزًا مِنْ غَنَمِهَا وَصِيصِيَتَهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ إِنَّكَ قَدْ ضَمِنْتَ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِكَ أَنْ تَحْفَظَ عَلَيْهِ، وَإِنِّي قَدْ فَقَدْتُ عَنْزًا مِنْ غَنَمِي وَصِيصِيَتِي وَإِنِّي أَنْشُدُكَ عَنْزِي وَصِيصِيَتِي» قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَذْكُرُ شِدَّةَ مُنَاشَدَتِهَا لِرَبِّهَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَأَصْبَحَتْ عَنْزُهَا وَمِثْلُهَا وَصِيصِيَتُهَا وَمِثْلُهَا» (إسناده صحيح). والصيصية: هي الصِّنارة التي يُغزل بها ويُنسج. فمن حفظ الله حَفِظَهُ الله من كُلِّ أذى.

قال بعضُ السَّلف: من اتقى الله، فقد حَفِظَ نفسه، ومن ضيَّع تقواه، فقد ضيَّع نفسه، والله الغنىُّ عنه. ومن عجيب حفظِ الله لمن حفظه أنْ يجعلَ الحيوانات المؤذية بالطبع حافظةً له من الأذى، كما جرى لِسَفِينةَ مولى النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - حيث كُسِرَ به المركبُ، وخرج إلى جزيرة، فرأى الأسدَ، فجعل يمشي معه حتَّى دلَّه على الطريق، فلمَّا أوقفه عليها، جعل يُهَمْهِمُ كأنَّه يُوَدِّعُهُ، ثم رجع عنه. (رواه الحاكم وصححه). ورؤي إبراهيمُ بن أدهم نائمًا في بستان وعنده حَيَّةٌ في فمها طاقةُ نَرجِس، فما زالت تذبُّ عنه حتَّى استيقظ. (النَّرْجِسُ من الرياحين). وعكسُ هذا أنَّ من ضيع الله، ضيَّعهُ الله، فضاع بين خلقه حتى يدخلَ عليه الضررُ والأذى ممن كان يرجو نفعه من أهله وغيرهم، كما قال بعض السَّلف: «إني لأعصي الله، فأعرِفُ ذلك في خُلُقِ خادمي ودابَّتي». النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظُ الله للعبد في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المُضِلَّة، ومن الشهوات المحرَّمة، ويحفظ عليه دينَه عندَ موته، فيتوفَّاه على الإيمان. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه أمره أنْ يقولَ عندَ منامه: «بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ». (رواه البخاري ومسلم). وفي حديث عمر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - علمه أنْ يقول: «اللهُمَّ احْفَظْنِي بالإسْلَامِ قَائِمًا، واحْفَظْنِي بالإسْلَامِ قَاعِدًا، واحْفَظْنِي بِالإسْلَامِ رَاقِدًا، ولا تُشَمِّتْ فيَّ عَدُوًّا ولَا حَاسِدًا» (حسن رواه ابن حبان). وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يودِّع من أراد سفرًا، فيقول: «أسْتَوْدِعُ اللهَ دِينَكََ وأمَانَتَكَ وخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ»، وكان يقول: «إنَّ اللهَ إذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ». (صحيح رواه النَّسائي وغيره).

وفي الجملة، فالله - عز وجل - يحفظُ المؤمن الحافظ لحدود دينَه، ويحولُ بينَه وبين ما يُفسد عليه دينَه بأنواعٍ مِنَ الحفظ، وقد لا يشعرُ العبدُ ببعضها، وقد يكونُ كارهًا له، كما قال في حقِّ يوسُف - عليه السلام -: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24). قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} (الأنفال:24)، قال: يحول بين المؤمن وبين المعصية التي تجره إلى النار. وقال الحسن ـ عن أهل المعاصي ـ: «هانوا عليه، فعَصَوْه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم». وقال أبو سليمان الداراني: «هانوا عليه فتركهم وعصوا، ولو كرموا عليه منعهم عنها». • احفظ الله تجده تجاهك: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ»، وفي رواية: «أمامك» معناه: أنَّ مَنْ حَفِظَ حُدودَ الله، وراعى حقوقه، وجد الله معه في كُلِّ أحواله حيث توجَّه يَحُوطُهُ وينصرهُ ويحفَظه ويوفِّقُه ويُسدده فـ {إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} (النحل:128) قال قتادة: «من يتق الله يكن معه، ومن يكن الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل». كتبَ بعضُ السَّلف إلى أخٍ له: «أمَّا بعد، فإنْ كان الله معك فمن تخاف؟ وإنْ كان عليك فمن ترجو؟». وهذه المعيةُ الخاصة هي المذكورةُ في قوله تعالى لموسى وهارون: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه:46)، وقول موسى: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} (الشعراء: 62). وفي قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبي بكر وهما في الغار: «ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثالثُهُما؟ لا تحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا» (رواه البخاري ومسلم).

فهذه المعيةُ الخاصةُ تقتضي النَّصر والتَّأييدَ، والحفظ والإعانة بخلاف المعية العامة المذكورة في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (المجادلة:7). فإنَّ هذه المعية تقتضي علمَه واطِّلاعه ومراقبته لأعمالهم، فهي مقتضيةٌ لتخويف العباد منه، والمعية الأولى تقتضي حفظ العبد وحياطَتَه ونصرَه، فمن حفظ الله، وراعى حقوقه، وجده أمامَه وتُجاهه على كُلِّ حالٍ، فاستأنس به، واستغنى به عن خلقه. وقيل لآخر: نراكَ وحدكَ؟ فقال: من يكن الله معه، كيف يكونُ وحده؟ • تعرَّف إلى الله في الرَّخاء، يعرفكَ في الشِّدَّةِ: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَعَرَّفْ إلَى اللهِ في الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ» يعني: أنَّ العبدَ إذا اتَّقى الله، وحَفِظَ حدودَه، وراعى حقوقه في حال رخائه، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وصار بينه وبينَ ربه معرفةٌ خاصة، فعرفه ربَّه في الشدَّة، ورعى له تَعَرُّفَهُ إليه في الرَّخاء، فنجَّاه من الشدائد بهذه المعرفة، وهذه معرفة خاصة تقتضي قربَ العبدِ من ربِّه، ومحبته له، وإجابته لدعائه. فمعرفة العبد لربه نوعان: أحدُهما: المعرفةُ العامة: وهي معرفةُ الإقرار به والتَّصديق والإيمان، وهذه عامةٌ للمؤمنين. والثاني: معرفة خاصة تقتضي ميلَ القلب إلى الله بالكلية، والانقطاع إليه والأنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له، وهذه المعرفة الخاصة هي التي يدور حولها العارفون، كما قال بعضهم: مساكينُ أهلُ الدُّنيا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيبَ ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفةُ الله - عز وجل -. وقال أحمدُ بنُ عاصم الأنطاكيُّ: أحبُّ أنْ لا أموتَ حتّى أعرفَ مولاي، وليس معرفتُه الإقرار به، ولكن المعرفة التي إذا عرفته استحييت منه.

ومعرفة الله أيضًا لعبده نوعان: الأول: معرفة عامة: وهي علمه سبحانه بعباده، واطِّلاعه على ما أسرُّوه وما أعلنوه، كما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} (ق:16)، وقال: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} (النجم:32). والثاني: معرفة خاصة: وهي تقتضي محبته لعبده وتقريبَه إليه، وإجابةَ دعائه، وإنجاءه من الشدائد، وهي المشار إليها بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يحكى عن ربِّه: «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ؛ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» (رواه البخاري). ولما هرب الحسنُ من الحجاج دخلَ إلى بيت حبيب أبي محمد، فقال له حبيب: يا أبا سعيد، أليس بينك وبينَ ربِّك ما تدعوه به فيَستركَ مِنْ هؤلاء؟ ادخل البيتَ، فدخل، ودخل الشُّرَطُ على أثره، فلم يرَوْهُ، فذُكِرَ ذلك للحجاج، فقال: «بل كان في البيت، إلا أنَّ الله طَمَسَ أعينهم فلم يروه». فمن عامل الله بالتقوى والطاعة في حال رخائه، عامله الله باللطف والإعانة في حال شدَّته. قال الضحاك بن قيس: اذكروا الله في الرَّخاء، يذكركُم في الشِّدَّة، فإنَّ يونس - عليه السلام - كان يذكُرُ الله تعالى، فلمَّا وقعَ في بطن الحوت، قال الله - عز وجل -: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (الصافات:143 - 144)، وإنَّ فرعون كان طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق، قال: آمنتُ، فقال الله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} (يونس:91). وقال رجل لأبي الدرداء: أوصني، فقال: اذكر الله في السرَّاء يذكُرْك الله - عز وجل - في الضَّرَّاء.

وعنه أنَّه قال: ادعُ الله في يوم سرَّائك لعله أنْ يستجيب لك في يوم ضرَّائك. وأعظمُ الشدائد التي تنْزل بالعبد في الدنيا الموتُ، وما بَعده أشدُّ منه إنْ لم يكن مصيرُ العبد إلى خيرٍ، فالواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى والأعمال الصالحة، قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر:18 - 19). فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه، واستعدَّ حينئذٍ للقاء الله بالموت وما بعده، ذكره الله عندَ هذه الشدائد، فكان معه فيها، ولَطَفَ به، وأعانه، وتولاَّه، وثبته على التوحيد، فلقيه وهو عنه راضٍ. ومن نسيَ الله في حال صحته ورخائه، ولم يستعدَّ حينئذٍ للقائه، نسيه الله في هذه الشدائد، بمعنى أنَّه أعرض عنه، وأهمله. فإذا نزل الموتُ بالمؤمنِ المستعدِّ له، أحسن الظنَّ بربه، وجاءته البُشرى مِنَ اللهِ، فأحبَّ لقاءَ الله، وأحبَّ الله لقاءه، والفاجرُ بعكس ذلك، وحينئذٍ يفرحُ المؤمنُ، ويستبشر بما قدمه مما هو قادمٌ عليه، ويَنْدَمُ المفرطُ، ويقول: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ} (الزمر:56). كَم نطلبُ اللهَ في خيرٍ يَحِلُّ بنا فإنْ تَولَّتْ بلايَانَا نَسِينَاهُ نرجوه في البحرِ أن يَرعَى سفينتَنا فإنْ رجَعْنَا إلى الشاطِي عصَيْناهُ ونركبُ الجوَّ في أمْنٍ وفي دَعَةٍ فما سقطْنا لأنَّ الحافظَ اللهُ ننساهُ بعد نجاحٍ في امتحانِ غدٍ وإن رسَبْنَا وأكْمَلْنَا دعَوْناهُ عُمْيٌ عن الذكرِ والأياتُ تندبُنَا لو كلَّم الذكرُ جُلْمُودًا لأحياهُ (الجُلْمود: الصخر). ختم آدمُ بن أبي إياس القرآن وهو مُسَجَّى للموت، ثم قال: بحُبِّي لك، إلا رفقتَ بي في هذا المصرع؟ كنت أؤمِّلُك لهذا اليوم، كنتُ أرجوكَ، لا إله إلاَّ الله»، ثم قُضِى.

ولما احتُضِرَ زكريا بنُ عديٍّ، رفع يديه، وقال: اللهمَّ إنِّي إليك لمشتاقٌ. وقال عبدُ الصمد الزاهد عند موته: سيدي لهذه الساعة خبَّأتك، ولهذا اليوم اقتنيتُك، حقِّق حُسْنَ ظنِّي بك. قال قتادة في قول الله - عز وجل -: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق:2) قال: من الكرب عندَ الموت. وقال عليُّ بن أبي طلحَة، عن ابن عباس في هذه الآية: يُنجيه من كُلِّ كَربٍ في الدنيا والآخرة. وقال زيدُ بن أسلم في قوله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} (فصلت:30) الآية. قال: يُبشر بذلك عند موته، وفي قبره، ويوم يُبعث، فإنَّه لفي الجنة، وما ذهبت فرحة البِشارة من قلبه.

12 - إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله

12 - إذا سَأَلْتَ فاسْألِ الله وإذا اسْتََعَنْتَ فاستَعِنْ باللهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (صَحيحٌ رواه الترمذيُّ). هذا الحديث رواه الإمامُ أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا غُلَامُ ـ أَوْ يَا غُلَيِّمُ «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ» فَقُلْتُ: «بَلَى». فَقَالَ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (إسناده صحيح). • اسأل الله لا تسأل غيره: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ» هذا مُنْتَزَعٌ من قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة:5)، فإنَّ السؤال لله هو دعاؤُه والرغبةُ إليه، و «الدُّعاء هو العبادة»، كما قال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60)» (صحيح رواه الترمذي).

فتضمن هذا الكلام أنْ يُسأل الله - عز وجل -، ولا يُسأل غيره، وأنْ يُستعان بالله دونَ غيره. وأما السؤال فقد أمر الله بمسألته، فقال: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء:32). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ لَا يَسْأَلِ اللهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» (حسن رواه الترمذي). إذا أذِنَ اللهُ في حاجةٍ ... أتاك النجاح على رِسْلِهِ فلا تسأل الناسَ من فضلِهِمْ ولكن سَلِ اللهَ مِن فضلِهِ وفي النَّهي عن مسألة المخلوقين أحاديثُ كثيرة صحيحة، وقد بايع النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جماعةً من أصحابه على أنْ لا يسألوا النَّاسَ شيئًا، منهم: أبو بكر الصدِّيق، وأبو ذر، وثوبان، وكان أحدهم يسقط سوطُه أو خِطام ناقته، فلا يسأل أحدًا أنْ يُناوله إياه. عن عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيُّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً فَقَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟»، وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: «قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ»، ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟»، فَقُلْنَا: «قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ». ثُمَّ قَالَ: «أَلَا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ؟» قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: «قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَعَلَامَ نُبَايِعُكَ؟». قَالَ: «عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَتُطِيعُوا» وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً، «وَلَا تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا».فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ. (رواه مسلم). إذا عَرِضَتْ لي في زَمَانيَ حَاجةٌ ... وقد أشكِلَتْ فيها عَليَّ المقاصِدُ وقَفْتُ ببابِ اللهِ وقفَةَ ضَارِعٍ ... وقلتُ: إلهِي إنَّنِي لَكَ قاصِدُ ولستَ ترانِي واقفًا عند باب مَنْ ... يقول فَتَاهُ: سيِّدِي اليَوْمَ راقدُ واعلم أنَّ سؤالَ اللهِ تعالى دونَ خلقه هوَ المتعين؛ لأنَّ السؤال فيهِ إظهار الذلِّ من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعترافُ بقدرةِ المسئول على دفع هذا

الضَّرر، ونيل المطلوب، وجلبِ المنافع، ودرء المضارِّ، ولا يصلح الذلُّ والافتقار إلاَّ لله وحدَه؛ لأنَّه حقيقة العبادة. وكان الإمامُ أحمد يدعو ويقول: اللهمَّ كما صُنتَ وجهي عَنِ السُّجود لغيرك فصُنْه عن المسألة لغيرك. ولا يقدر على كشف الضرِّ وجلب النفع سواه. كما قال: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} (يونس:107)، وقال: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (فاطر:2). • الله - عز وجل - يحبّ أنْ يُسأل: والله سبحانه يحبّ أنْ يُسأل ويُرْغَبَ إليه في الحوائج، ويُلَحَّ في سؤاله ودُعائه، ويَغْضَبُ على من لا يسأله، ويستدعي مِنْ عباده سؤاله، وهو قادر على إعطاء خلقه كُلِّهم سُؤْلَهم من غير أنْ يَنْقُصَ من ملكه شيء. والمخلوق بخلاف ذلك كله: يكره أنْ يُسأل، ويُحبُّ أنْ لا يُسألَ، لعجزه وفقره وحاجته. ولهذا قال وهب بن منبه لرجل كان يأتي الملوك: ويحك، تأتي من يُغلِقُ عنك بابَه، ويُظهِرُ لك فقرَه، ويواري عنك غناه، وتَدَعُ من يفتحُ لك بابه بنصف الليل ونصف النهار، ويظهر لك غناه، ويقول: ادعني أستجب لك؟! وقال طاووس لعطاء: إياك أنْ تطلب حوائجك إلى من أغلق دونك بابه ويجعل دونها حجابه، وعليك بمن بابه مفتوح إلى يوم القيامة، أمرك أنْ تسأله، ووعدك أنْ يُجيبك. لا تَسْألَنَّ بُنَيَّ آدَمَ جاجةً ... وسَلِ الذِي أبوابُه لا تُحْجَبُ اللهُ يغضبُ إن تركْتَ سؤالَه ... وبُنَيَّ آدمَ حينَ يُسْأَلُ يغضبُ • لماذا الاستعانة بالله - عز وجل - دونَ غيره من الخلق؟ لأنَّ العبدَ عاجزٌ عن الاستقلال بجلب مصالحه، ودفع مضارّه، ولا معين له على مصالح دينه ودنياه إلا الله - عز وجل -، فمن أعانه الله، فهو المُعانُ، ومن خذله فهو المخذولُ،

وهذا تحقيقُ معنى قول: «لا حول ولا قُوَّةَ إلا بالله»، فإنَّ المعنى: لا تَحوُّلَ للعبد مِنْ حال إلى حال، ولا قُوَّة له على ذلك إلا بالله، وهذه كلمةٌ عظيمةٌ، وهي كنز من كنوز الجنة. فالعبدُ محتاجٌ إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات، وترك المحظورات، والصبر على المقدورات كلِّها في الدنيا وعندَ الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله - عز وجل -، فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه. وفي الحديث الصحيح عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاْسْتَعِنْ بِاللهِ وَلَا تَعْجَزْ» (رواه مسلم). ومَن ترك الاستعانة بالله، واستعان بغيرِه، وكَلَهُ الله إلى من استعان به فصار مخذولًا. كتب الحسنُ إلى عُمَرَ بنِ العزيز: لا تستعِنْ بغيرِ الله، فيكِلَكَ الله إليه. ومن كلام بعضِ السَّلف: يا ربِّ عَجبت لمن يعرفُك كيف يرجو غيرك، عجبتُ لمن يعرفك كيف يستعينُ بغيرك. • أنواع الدعاء: النوع الأول: دعاء العبادة: وهو طلب الثواب بالأعمال الصالحة: كالنطق بالشهادتين والعمل بمقتضاهما، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والذبح لله، والنذر له، وبعض هذه العبادات تتضمن الدعاء بلسان المقال مع لسان الحال كالصلاة. فمن فعل هذه العبادات وغيرها من أنواع العبادات الفعلية فقد دعا ربه وطلبه بلسان الحال أن يغفر له، والخلاصة أنه يتعبد لله طلبًا لثوابه وخوفًا من عقابه. وهذا النوع لا يصح لغير الله تعالى، ومن صرف شيئًا منه لغير الله فقد كفر كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، وعليه يقع قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين}. (غافر:60).وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} الأنعام:162، 163) النوع الثاني: دعاء المسألة: وهو دعاء الطلب: طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر، وطلب الحاجات، ودعاء المسألة فيه تفصيل كالتالي: أ- إذا كان دعاء المسألة صدر من عبد لمثله من المخلوقين وهو قادر حي حاضر فليس بشرك. كقولك: اسقني ماءً، أو يا فلان أعطني طعامًا، أو نحو ذلك فهذا لا حرج فيه، ولهذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ آتَى إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَادْعُوا اللهَ لَهُ حَتَّى تَعْلَمُوا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ» (صحيح رواه أبو داود). ب - أن يدعو الداعي مخلوقًا ويطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله وحده، فهذا شرك سواء كان المدعو حيًّا أو ميتًا، أو حاضرًا أو غائبًا، كمن يقول: يا سيدي فلان اشْفِ مريضي، رُدّ غائبي، أعطني ولدًا، وهذا كفر أكبر مخرج من الملة، قال الله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُير} الأنعام:17).وقال سبحانه: {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ، وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس:106، 107). وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (الأعراف، الآية:194) وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلآ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} (الأعراف:197). وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ، يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ، يَدْعُواْ لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} (الحج:11 - 13).

وقال تعالى: {يَآ أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج:73 - 74). وقال تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ، إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت:41 - 43). وقال سبحانه: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ، وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}) سبأ:22، 23). قال - عز وجل -: {ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ، إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُواْ دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر:13، 14). (القطمير: هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة، أي: لا يملكون من السموات والأرض شيئًا، ولا بمقدار هذا القطمير). قال الله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ، وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآء وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} (الأحقاف:5، 6). فمن الشرك الاستغاثة بغير الله ودعاء غير الله دعاء عبادة أو دعاء مسألة فيما لا يقدر عليه إلا الله قال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَآئِيلَ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}. (المائدة:72).

وقال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا} (النساء:116). وقال تعالى: {فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} (الشعراء:213). وقال - عز وجل -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ} (الزمر:65، 66). وقال سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (الأنعام:88). والفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة، لأنه يكون من المكروب وغيره. • فضل الدعاء: جاء في فضل الدعاء آيات وأحاديث كثيرة منها: 1 ـ قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة، الآية:186). 2 ـ وقال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60). 3 ـ وقال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِين، وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:55، 56). 6 ـ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر:60)» (صحيح رواه الترمذي). 7 ـ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ» (حسن رواه الترمذي).

8 ـ عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا عَلَى الْأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللهُ إِيَّاهَا، أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: «اللهُ أَكْثَرُ». (حسن صحيح رواه الترمذي). (مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ: أَيْ بِمَعْصِيَةٍ). 9 ـِ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» (صحيح رواه الترمذي). (إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ) أَيْ كَثِيرُ الْحَيَاءِ، وَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالْحَيَاءِ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَلِيقُ لَهُ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نُكَيِّفُهَا. (كَرِيمٌ) هُوَ الَّذِي يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَكَيْفَ بَعْدَهُ. (صِفْرًا) أَيْ خَالِيَتَيْنِ. (خَائِبَتَيْنِ) مِنْ الْخَيْبَةِ وَهُوَ الْحِرْمَانُ. • الدعاء من أنفع الأدوية: والدعاء من أقوى الأسباب في دفع المكروه، وحصول المطلوب، وهو من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدافعه ويعالجه، ويمنع نزوله، ويرفعه، أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن، وللدعاء مع البلاء ثلاث مقامات: أ- أن يكون الدعاء أقوى من البلاء فيدفعه. ب- أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء فيصاب به العبد، ولكن يخففه وإن كان ضعيفًا. جـ- أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يُغْني حَذَرٌ مِنْ قدَر، وَالدُعَاءُ يَنْفَعُ ممَّا نَزَلَ ومِمَّا لمْ يَنْزِِلْ، وإنَّ البَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَاهُ الدُعَاء فَيَعْتَلِجَانِ إلىَ يَوْمِ القِيَامَةِ» (حسن رواه الحاكم). (الدُعَاءُ يَنْفَعُ ممَّا نَزَلَ) من المصائب والمكاره أي يسهّل تحمل ما نزل من البلاء فيصبّره أو يرضيه (ومِمَّا لمْ يَنْزِِلْ) منها بأن يصرف ذلك عنه، أو يمده قبل النزول بتأييد إلهي من عنده حتى لا يعبأ به إذا نزل. (فَيعْتَلِجَان) أي يَتَصارَعان.

وعَنْ سَلْمَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلَّا الْبِرُّ» (حسن رواه الترمذي). (لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ) الْقَضَاءُ هُوَ الْأَمْرُ الْمُقَدَّرُ. وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ إِنْ أَرَادَ بِالْقَضَاءِ مَا يَخَافُهُ الْعَبْدُ مِنْ نُزُولِ الْمَكْرُوهِ بِهِ وَيَتَوَقَّاهُ، فَإِذَا وُفِّقَ لِلدُّعَاءِ دَفَعَهُ اللهُ عَنْهُ فَتَسْمِيَتُهُ قَضَاءً مَجَازٌ عَلَى حَسَبِ مَا يَعْتَقِدُهُ الْمُتَوَقَّى عَنْهُ، يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الرُّقَى: «هُوَ مِنْ قَدَرِ اللهِ» وَقَدْ أَمَرَ بِالتَّدَاوِي وَالدُّعَاءِ مَعَ أَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ لِخَفَائِهِ عَلَى النَّاسِ وُجُودًا وَعَدَمًا. وَلَمَّا بَلَغَ عُمَرُ الشَّامَ وَقِيلَ لَهُ إِنَّ بِهَا طَاعُونًا رَجَعَ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَتَفِرُّ مِنْ الْقَضَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: لَوْ غَيْرَك قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ!! نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَضَاءِ اللهِ إِلَى قَضَاءِ اللهِ. أَوْ أَرَادَ بِرَدِّ الْقَضَاءِ إِنْ كَانَ الْمُرَادُ حَقِيقَتَهُ تَهْوِينَهُ وَتَيْسِيرَ الْأَمْرِ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ، يُؤَيِّدُهُ حَدِيثِ أَنَّ «الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ». (حسن رواه الحاكم). وَقِيلَ: الدُّعَاءُ كَالتُّرْسِ وَالْبَلَاءُ كَالسَّهْمِ وَالْقَضَاءُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَزَلِ. (وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ) وَهُوَ الْإِحْسَانُ وَالطَّاعَةُ. قِيلَ: يُزَادُ حَقِيقَةً فتكون أَعْمَالَ الْبِرِّ سَبَبًا لِطُولِ الْعُمُرِ كَمَا قَدَّرَ الدُّعَاءَ سَبَبًا لِرَدِّ الْبَلَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّهُ إِذَا بَرَّ لَا يَضِيعُ عُمُرُهُ فَكَأَنَّهُ زَادَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُبَارَكُ لَهُ فِي عُمُرِهِ، فَيُيَسِّرُ لَهُ فِي الزَّمَنِ الْقَلِيلِ مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مَا لَا يَتَيَسَّرُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ. • سؤال: كيف يرد الدعاء القضاء؟ إذا كان الله - عز وجل - قدر على الإنسان وقضى عليه سابقًا بشيء، ثم دعا الله وردّ عنه هذا البلاء، فكيف يجمع بين هذا وذاك؟ الجواب: الجمع بين هذا وذاك بإيجاز: الوجه الأول: هو ما جاء ذكره في قوله تعالى: {يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد:39). فأُم الكتاب هو اللوح المحفوظ وهذا لا تغيير فيه ولا تبديل، لكن هناك تقدير سنوي حولي في السنة، ويكون في ليلة القدر، وهناك تقدير عمري، وهذا يقدر إذا نفخ الملك الروح في الإنسان، وهناك التقدير الكوني، وهو الذي في اللوح المحفوظ.

فيجوز أن يكون في التقدير العمري أو التقدير الحولي أو التقدير اليومي، الذي يقدره الله أمر معلق، ولكنه في اللوح المحفوظ ثابت، والأمر المعلق مثل أن يقدر الله على إنسان بمرض في التقدير الحولي أو العمري أو اليومي، لكنه يعلق بالدعاء، فإذا دعا الإنسان صرف عنه هذا التقدير، وإلا فإنه يحلّ به. أما التقدير الكوني فإنه لا بد إما أنه مكتوب بأنه يدعو، فينجو من المرض ـ مثلًا ـ أو لا يدعو فيصيبه المرض، فيكون هذا حافزًا لنا أن ندعو الله - عز وجل - دائمًا، ندعو الله تعالى ونستيقن أن هذا الدعاء سيصرف الله تعالى عنا به شيئًا من الشر، أو يحقق لنا شيئًا من الخير، أو يدخره لنا عنده. الوجه الثاني: شرع الله - عز وجل - الدعاء وأمر به، فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر:60) وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة:186)، فإذا فعل العبد السبب المشروع ودعا فإن ذلك من القضاء، فهو رد القضاء بقضاء إذا أراد الله ذلك. فالدعاء سبب من الأسباب المشروعة شرعها الله - عز وجل - لنا، فنتخذه لندرأ به ما نتوقعه من الشرور، فإن لله - عز وجل - أقدارًا تمشي وفق السنن المعروفة لدينا، ونحن نعلم من السنة الربانية ـ وكل إنسان يعلم هذا ـ أن كثيرًا من الناس دعوا الله - عز وجل - فجنبهم الله مصائب حاقَتْ بمن حولهم، وهذا بفضل دعائهم لله - عز وجل -، بل حتى المشركين إذا دعوا الله - عز وجل - في البحر فإنه ينجيهم. فمثلًا نحن نخشى أن تقع في مصيبة ـ عافانا الله وإياكم ـ فلو أنك ركبت سيارتك في آخر الليل وأنت سهران، لربما وقع لك حادث، لكن لو قلت: أنا لن أقود السيارة وأنا سهران! فإنك تنجو بإذن الله، فهذا سبب تتخذه فتنجو بإذن الله. إذًا: الدعاء سبب واضح مجرب يدفع بعض ما يقتضي في علمنا الإنساني البشري وقوع الشر ووقوع المصيبة، التي قد تكون مكتوبة عند الله أنها لا تقع، فالمسلم مطلوب منه أن يدعو الله - عز وجل - ويتخذ ذلك الدعاء سببًا لدفع الشر، ودفع البلاء الذي يتوقعه.

13 - شروط الدعاء وموانع الإجابة

13 - شروط الدعاء وموانع الإجابة أتَهْزَأ بالدعاءِ وتزدَرِيهِ ... وما تدرِي بما صنعَ الدعاءُ سهامُ الليلِ لا تخْطِي ولكنْ ... لها أجلٌ وللأجَلِ انْقِضاءُ إن الأدعية والتعوذات بمنزلة السلاح، والسلاحُ بضاربه، لا بحده فقط، فمتى كان السلاحُ سلاحًا تامًّا لا آفة به، والساعدُ ساعدًا قويًا، والمانعُ مفقودًا، حصلت به النكاية في العدو، ومتى تخلَّف واحدٌ من هذه الثلاثة تخلَّف التأثير، فإن كان الدعاءُ في نفسه غير صالح، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه، أو كان ثَمَّ مانعٌ من الإجابة، لم يحصل التأثير. • شروط الدعاء: الشرط الأول: الإخلاص: وهو تصفية الدعاء والعمل من كل ما يشوبه، وصرف ذلك كله لله وحده، لا شرك فيه، ولا رياء ولا سمعة، ولا طلبًا للعَرَضِ الزائل، ولا تصنعًا وإنما يرجو العبد ثواب الله ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه. وقد أمر الله تعالى بالإخلاص في كتابه الكريم فقال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} (الأعراف:29). وقال: {فَادْعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (غافر:14). وقال تعالى: {أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللهِ زُلْفَى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (الزمر:3). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ،

وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (صَحيحٌ رواه الترمذيُّ). وسؤال الله تعالى: هو دعاؤه والرغبة إليه كما قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (النساء:32). الشرط الثاني: المتابعة، وهي شرط في جميع العبادات، لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف:110). والعمل الصالح هو ما كان موافقًا لشرع الله تعالى ويُراد به وجه الله سبحانه؛ فلا بد أن يكون الدعاء والعمل خالصًا لله صوابًا على شريعة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولهذا قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك:1، 2) قال: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: «إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة».ثم قرأ قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (الكهف:110). فيجب على المسلم أن يكون متبعًا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كل أعماله، لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} (الأحزاب:21) وقال: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31).

وقال تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} الأعراف:158). ولا شك أن العمل الذي لا يكون على شريعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكون باطلًا، لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ». (رواه البخاري ومسلم). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). الشرط الثالث: الثقة بالله تعالى واليقين بالإجابة: فمِن أعظم الشروط لقبول الدعاء الثقة بالله تعالى، وأنه على كل شيء قدير، لأنه تعالى يقول للشيء كن فيكون، قال سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (النحل:4)، وقال سبحانه: {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس:82)، ومما يزيد ثقة المسلم بربه تعالى أن يعلم أن جميع خزائن الخيرات والبركات عند الله تعالى، قال سبحانه: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَآئِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} (الحجر:21). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث القدسي الذي رواه عن ربه تبارك وتعالى: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» (رواه مسلم). وهذا يدل على كمال قدرته سبحانه وتعالى، وكمال ملكه، وأن ملكه وخزائنه لا تنفد ولا تنقص بالعطاء، ولو أعطى الأولين والآخرين: من الجن والإنس جميع ما سألوه في مقام واحد، ولهذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ يَمِينَ اللهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ مَا فِي يَمِينِهِ» (رواه البخاري ومسلم). (سحَّاءُ: أي دائمة الصب تصب العطاء صبًّا، ولا ينقصها العطاء الدائم في الليل والنهار). فالمسلم إذا علم ذلك فعليه أن يدعو الله وهو موقن بالإجابة، لما تقدم، ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» (حسن رواه الترمذي). الشرط الرابع: حضور القلب والخشوع والرغبة فيما عند الله من الثواب والرهبة مما عنده من العقاب، فقد أثنى الله تعالى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُواْ لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء:89 - 90). فلا بد للمسلم في دعائه من أن يحضر قلبه، وهذا أعظم شروط قبول الدعاء، وقد جاء في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» (حسن رواه الترمذي). وقد أمر الله تعالى بحضور القلب والخشوع في الذكر والدعاء، فقال سبحانه: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف:205). الشرط الخامس: العزمُ والجَزم ُوالجِدُّ في الدعاء: المسلم إذا سأل ربه فإنه يجزم ويعزم بالدعاء، ولهذا نهى - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الاستثناء في الدعاء؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَليَعْزِمْ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا مُكْرِهُ لَهُ» (رواه البخاري). وعَنْه - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، وَلْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ» (رواه البخاري ومسلم). قَالَ الْعُلَمَاء: عَزْم الْمَسْأَلَة الشِّدَّة فِي طَلَبهَا، وَالْجَزْم مِنْ غَيْر ضَعْف فِي الطَّلَب، وَلَا تَعْلِيق عَلَى مَشِيئَة وَنَحْوهَا، وَقِيلَ: هُوَ حُسْن الظَّنّ بِاللهِ تَعَالَى فِي الْإِجَابَة. وَمَعْنَى الْحَدِيث: اِسْتِحْبَاب الْجَزْم فِي الطَّلَب، وَكَرَاهَة التَّعْلِيق عَلَى الْمَشِيئَة، قَالَ الْعُلَمَاء: سَبَب كَرَاهَته أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّق اِسْتِعْمَال الْمَشِيئَة إِلَّا فِي حَقِّ مَنْ يَتَوَجَّه عَلَيْهِ الْإِكْرَاه، وَاللهُ تَعَالَى مُنَزَّه عَنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي آخِر الْحَدِيث: فَإِنَّهُ لَا

مُسْتَكْرِه لَهُ، وَقِيلَ: سَبَب الْكَرَاهَة أَنَّ فِي هَذَا اللَّفْظ صُورَة الِاسْتِعْفَاء عَلَى الْمَطْلُوب وَالْمَطْلُوب مِنْهُ. • موانع إجابة الدعاء: المانع الأول: التوسع في الحرام: أكلًا، وشربًا، ولبسًا، وتغذية. عَنْ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا، وإنَّ الله تعالى أمرَ المُؤْمِنينَ بما أمرَ به المُرسَلين، فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا} (المؤمنون:51)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم} (البقرة:172)، ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يمُدُّ يدَيهِ إلى السَّماءِ: يا رَب يا رب، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حرامٌ، وَغُذِّيَ بالحَرَامِ، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ؟». (رواهُ مُسلمٌ). وقد قيل في معنى هذا الحديث: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا طاهرًا من المفسدات كلها: كالرياء، والعجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيبًا حلالًا، فإن الطيب توصف به الأعمال، والأقوال، والاعتقادات. والمراد بهذا أن الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات والابتعاد عن الخبائث والمحرمات، ثم ذكر في آخر الحديث استبعاد قبول الدعاء مع التوسع في المحرمات: أكلًا، وشربًا، ولبسًا، وتغذيةً. ففي هذا الحديث أن هذا الرجل الذي قد توسع في أكل الحرام قد أتى بأربعة أسباب من أسباب الإجابة: أحدها: إطالةُ السفر، والسفر بمجرَّده يقتضي إجابةَ الدعاء، كما في حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثلاثُ دَعْوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنّ: دَعْوَةُ الَمظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ لِوَلَدِهِ» (حسن رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي). ومتى طال السفر، كان أقربَ إلى إجابةِ الدُّعاء؛ لأنَّه مَظنِّةُ حصول انكسار النفس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاق، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء.

والثاني: حصولُ التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشعث والإغبرار، وهو - أيضًا - من المقتضيات لإجابة الدُّعاء، كما في الحديث المشهور عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ، مَدْفُوعٍ بِالأبْوَابِ، لَوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأبَرَّهُ» (رواه مسلم). ولما خرج النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - للاستسقاء، خرج متبذِّلًا متواضعًا متضرِّعًا (رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي وإسناده حسن). الثالث: مدُّ يديه إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابته، فعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي إِذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إِلَيْهِ يَدَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْنِ» (صحيح رواه الترمذي). (إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ) أَيْ كَثِيرُ الْحَيَاءِ، وَوَصْفُهُ تَعَالَى بِالْحَيَاءِ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَلِيقُ لَهُ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ نُؤْمِنُ بِهَا وَلَا نُكَيِّفُهَا. (كَرِيمٌ) هُوَ الَّذِي يُعْطِي مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَكَيْفَ بَعْدَهُ. (صِفْرًا) أَيْ خَالِيَتَيْنِ. (خَائِبَتَيْنِ) مِنْ الْخَيْبَةِ وَهُوَ الْحِرْمَانُ. والرابع: الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته وهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء ومع ذلك كله قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ؟» وهذا استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد. فعلى العبد المسلم التوبة إلى الله تعالى من جميع المعاصي والذنوب، ويرد المظالم إلى أهلها حتى يسلم من هذا المانع العظيم الذي يحول بينه وبين إجابة دعائه. المانع الثاني: الاستعجال وترك الدعاء: من الموانع التي تمنع إجابة الدعاء أن يستعجل الإنسان المسلم ويترك الدعاء، لتأخر الإجابة، فقد جعل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا العمل مانعًا من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دُعائه ولو طالت المدة، فإنه سبحانه يحب الملحين في الدعاء.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْه - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الِاسْتِعْجَالُ؟ قَالَ: «يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ وَقَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ أَرَ يَسْتَجِيبُ لِي فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ» (رواه مسلم). اسْتَحْسَرَ: أَعْيَا وَانْقَطَعَ عَنْ الشَّيْء، وَالْمُرَاد هُنَا أَنَّهُ يَنْقَطِع عَنْ الدُّعَاء. فالعبد لا يستعجل في عدم إجابة الدعاء، لأن الله قد يؤخر الإجابة لأسباب: إما لعدم القيام بالشروط، أو الوقوع في الموانع، أو لأسباب أخرى تكون في صالح العبد وهو لا يدري، فعلى العبد إذا لم يستجب دعاؤه أن يراجع نفسه ويتوب إلى الله تعالى من جميع المعاصي، ويبشر بالخير العاجل والآجل، والله تعالى يقول: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف:56) فما دام العبد يلحُّ في الدعاء ويطمعُ في الإجابة من غير قطع فهو قريب من الإجابة، ومن أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له. وقد تُؤخرُ الإجابة لمدة طويلة كما أخر سبحانه إجابة يعقوب في رد ابنه يوسف إليه، وهو نبي كريم، وكما أخر إجابة نبيه أيوب عليه الصلاة والسلام في كشف الضر عنه، وقد يُعطى السائل خيرًا مما يسأل، وقد يُصرف عنه من الشر أفضل مما سأل. المانع الثالث: ارتكاب المعاصي والمحرمات: قد يكون ارتكاب المحرمات الفعلية مانعًا من الإجابة، ولهذا قال بعض السلف: لا تستبطئ الإجابة وقد سددت طريقها بالمعاصي، وأخذ هذا بعض الشعراء فقال: نحنُ ندعُو الإلَه في كلِّ كربٍ ثمَّ ننْساهُ عندَ كشْفِ الكرُوبِ كيف نرجُو إجابةً لدُعاءٍ قد سددْنا طريقَها بالذنوبِ

ولا شك أن الغفلة والوقوع في الشهوات المحرمة من أسباب الحرمان من الخيرات. وقد قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (الرعد:11). المانع الرابع: ترك الواجبات التي أوجبها الله: كما أن فعل الطاعات يكون سببًا لاستجابة الدعاء فكذلك ترك الواجبات يكون مانعًا من موانع استجابة الدعاء، ولهذا جاء عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا المعنى، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (حسن رواه الترمذي). وَالْمَعْنَى: وَاللهِ إنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَاقِعٌ إِمَّا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْكُمْ، وَإِمَّا إِنْزَالُ الْعَذَابِ مِنْ رَبِّكُمْ، ثُمَّ عَدَمُ اِسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ لَهُ فِي دَفْعِهِ عَنْكُمْ، بِحَيْثُ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يَرْتَفِعَانِ فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ لَمْ يَكُنْ عَذَابٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا كَانَ عَذَابٌ عَظِيمٌ. المانع الخامس: الدعاء بإثم أو قطيعة رحم. المانع السادس: الحكمة الربانية فيُعطى أفضل مما سأل: عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا عَلَى الْأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ إِلَّا آتَاهُ اللهُ إِيَّاهَا، أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ؟ قَالَ: «اللهُ أَكْثَرُ». (حسن صحيح رواه الترمذي).مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ: أَيْ بِمَعْصِيَةٍ. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللهَ بِدُعَاءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، أَوْ يَسْتَعْجِلْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ يَسْتَعْجِلُ؟ قَالَ: «يَقُولُ دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لِي» (صحيح رواه الترمذي). ُفقد يظن الإنسان أنه لم يجب وقد أجيب بأكثر مما سأل أو صرف عنه من المصائب والأمراض أفضل مما سأل أو أخَّره له إلى يوم القيامة.

14 - رفعت الأقلام وجفت الصحف

14 - رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا فَقَالَ: «يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (صَحيحٌ رواه الترمذيُّ). هذا الحديث رواه الإمامُ أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا غُلَامُ ـ أَوْ يَا غُلَيِّمُ «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ» فَقُلْتُ: «بَلَى». فَقَالَ: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (إسناده صحيح). • لو أنفقت مثل أحُد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ» وفي روايةٍ أخرى: «رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» هو كنايةٌ عن تقدُّم كتابة المقادير كلِّها، والفراغ منها من أمدٍ بعيد، فإنَّ الكتابَ إذا فُرِغَ من كتابته، ورفعت الأقلامُ عنه، وطال عهده، فقد رُفعت عنه الأقلام، وجفتِ الأقلام التي كتب بها مِنْ مدادها، وجفت الصَّحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغِها.

وقد دلَّ الكتابُ والسننُ الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى، قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} (الحديد:22). عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ». (رواه مسلم). عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ، فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ؟ أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟ قَالَ: «لَا بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ». قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ. وفي رواية: «كُلُّ عَامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ» (رواه مسلم). عَنْ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ: قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: «اكْتُبْ». قَالَ: «رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟». قَالَ: «اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ». يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي» (صحيح رواه أبو داود). • الضر والنفع مقَدّر: معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَلَوْأَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ».

أنَّ ما يُصيب العبدَ في دنياه مما يضرُّه أو ينفعه، فكلُّه مقدَّرٌ عليه، ولا يصيبُ العبدَ إلا ما كُتِبَ له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعًا. وقد دلَّ القرآنُ على مثل هذا في قوله - عز وجل -: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} (التوبة:51)، وقوله: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} (الحديد:22)، وقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} (آل عمران:154). عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» (صحيح رواه الإمام أحمد). وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» (صحيح رواه الترمذي). وعَنْ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ دِينِي وَأَمْرِي فَأَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: «أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَخَشِيتُ عَلَى دِينِي وَأَمْرِي فَحَدِّثْنِي مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ». فَقَالَ «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ـ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ؛ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ أَخِي عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَتَسْأَلَهُ». فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَيٌّ وَقَالَ لِي: «وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ حُذَيْفَةَ»، فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا وَقَالَ: «ائْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَاسْأَلْهُ».

فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّه ِ؛ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ» (صحيح رواه ابن ماجه). واعلم أنَّ مدارَ جميع هذه الوصية على هذا الأصل، وما ذُكِر قبلَه وبعدَه، فهو متفرِّعٌ عليه، وراجعٌ إليه، فإنَّ العبد إذا علم أنَّه لن يُصيبَه إلا ما كتبَ الله له مِنْ خير وشرٍّ، ونفعٍ وضرٍّ، وأنَّ اجتهادَ الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد البتة، علم حينئذٍ أنَّ الله وحده هو الضَّارُّ النَّافعُ، المعطي المانع، فأوجبَ ذلك للعبدِ توحيدَ ربِّه - عز وجل -، وإفرادَه بالطاعة، وحفظَ حدوده. فإنَّ المعبود إنَّما يقصد بعبادته جلبَ المنافع ودفع المضار، ولهذا ذمَّ الله من يعبدُ من لا ينفعُ ولا يضرُّ، ولا يُغني عن عابدِهِ شيئًا، فمن علم أنَّه لا ينفعُ ولا يضرُّ، ولا يُعطي ولا يمنعُ غيرُ الله، أوجبَ له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرُّع والدعاء، وتقديم طاعته على طاعةِ الخلق جميعًا، وأنْ يتّقي سخطه، ولو كان فيه سخطُ الخلق جميعًا، وإفراده بالاستعانة به، والسؤال له، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرَّخاء، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عندَ الشدائد، ونسيانه في الرخاء، ودعاء من يرجون نفعَه مِنْ دُونِه، قال الله - عز وجل -: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} (الزمر:38.). • فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا» يعني: أنَّ ما أصاب العبدَ مِنَ المصائب المؤلمةِ المكتوبة عليه إذا صبر عليها، كان له في الصبر خيرٌ كثير.

فحصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يُعين العبد على أنْ ترضى نفسُه بما أصابه، فمن استطاع أنْ يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل، فإنْ لم يستطع الرِّضا، فإنَّ في الصَّبر على المكروه خيرًا كثيرًا. فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب: إحداهما: أنْ يرضى بذلك، وهذه درجةٌ عاليةٌ رفيعة جدًا، قال الله - عز وجل -: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (التغابن:11). قال علقمة: هي المصيبة تصيبُ الرَّجلَ، فيعلم أنَّها من عند الله، فيسلِّمُ لها ويرضى. وقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» (حسن رواه الترمذي). (إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ) أَيْ كَثْرَتَهُ (مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ) فَمَنْ اِبْتِلَاؤُهُ أَعْظَمُ فَجَزَاؤُهُ أَعْظَمُ. (اِبْتَلَاهُمْ) أَيْ اِخْتَبَرَهُمْ بِالْمِحَنِ وَالرَّزَايَا (فَمَنْ رَضِيَ) بِمَا اِبْتَلَاهُ بِهِ (فَلَهُ الرِّضَى) مِنْهُ تَعَالَى وَجَزِيلُ الثَّوَابِ (وَمَنْ سَخِطَ) أَيْ كَرِهَ بَلَاءَ اللهِ وَفَزِعَ وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ (فَلَهُ السُّخْطُ) مِنْهُ تَعَالَى وَأَلِيمُ الْعَذَابِ، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ، وَالْمَقْصُودُ الْحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا التَّرْغِيبُ فِي طَلَبِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ. وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في دعائه: «أسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ» (صحيح رواه الإمام أحمد). وممَّا يدعو المؤمن إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانه بمعنى قول النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه مسلم). قال أبو الدرداء: «إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أنْ يُرضى به». وقال ابن مسعود: «إنَّ الله بقسطه وعدله جعلَ الرَّوْحَ والفرح في اليقين والرضا، وجعل الهم والحزن في الشكِّ والسخط».

فالرَّاضي لا يتمنّى غيرَ ما هو عليه من شدَّةٍ ورخاء. وقال عمر بن عبد العزيز: أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر. فمن وصل إلى هذه الدرجة، كان عيشُه كلُّه في نعيمٍ وسرورٍ، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل:97). قال بعض السَّلف: الحياة الطيبة: هي الرضا والقناعة. وقال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين. وأهل الرضا تارةً يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده في البلاء، وأنَّه غير متَّهم في قضائه، وتارةً يُلاحظون ثوابَ الرِّضا بالقضاء، فيُنسيهم ألم المقتضي به، وتارةً يُلاحظون عظمةَ المبتلي وجلالَه وكمالَه، فيستغرقون في مشاهدة ذلك، حتى لا يشعرون بالألم، وهذا يصلُ إليه خواصُّ أهل المعرفة والمحبَّةِ، حتى ربَّما تلذَّذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم. سئل بعضُ التابعينَ عن حاله في مرضه، فقال: أحَبُّه إليهِ أحَبُّه إليَّ. وسُئلَ السريّ: هل يجد المحبُّ ألم البلاء؟ فقالَ: لا. وقال بعضهم: عذابُه فيكَ عَذْبُ ... وبُعْدُهُ فيكَ قُرْبُ وأَنْتَ عِندي كرُوحي ... بل أَنْتَ مِنها أَحَبُّ حسْبي مِنَ الحُبِّ أنِّي ... لِمَا تُحِبُّ أُحِبُّ والدرجة الثانية للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب: أنْ يصبرَ على البلاء: وهذه لمن لم يستطع الرِّضا بالقضاء، فالرِّضا فضلٌ مندوبٌ إليه مستحب، والصبرُ واجبٌ على المؤمن حتمٌ، وفي الصَّبر خيرٌ كثيرٌ، فإنَّ الله أمرَ به، ووعدَ عليه جزيلَ الأجر. قال الله - عز وجل -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10)،

وقال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:155 - 157). قال الحسن: الرِّضا عزيزٌ، ولكن الصبر معولُ المؤمن. الفرق بين الرضا والصبر: أنَّ الصَّبر: كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخط مع وجود الألم، وتمنِّي زوال ذلك، وكفُّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع. والرضا: انشراح الصدر وسعته بالقضاء، وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم، وإنْ وجدَ الإحساسُ بالألم، لكن الرضا يخفِّفُه لما يباشر القلبَ من رَوح اليقين والمعرفة، وإذا قوي الرِّضا، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية. • اعلم أنَّ النَّصر مع الصَّبر: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ» هذا موافق لقول الله - عز وجل -: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة:249)، وقوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:66). وقال عمرُ لأشياخ من بني عبس: بم قاتلتُمُ الناس؟ قالوا: بالصبر، لم نلق قومًا إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا. وقال بعض السَّلف: كلنا يكره الموت وألم الجراح، ولكن نتفاضل بالصَّبر. وقيل: الشجاعةُ صبرُ ساعة. وهذا في جهاد العدوِّ الظاهر، وهو جهادُ الكفار، وكذلك جهاد العدوِّ الباطن، وهو جهاد النَّفس والهَوى، فإنَّ جهادَهُما من أعظم الجهاد، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «المجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللهِ» (رواه أحمد والترمذي وإسناده صحيح). وقال عبد الله بنُ عمر لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزُها.

فهذا الجهاد يحتاجُ أيضًا إلى صبر، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه، وحصل له النصر والظفر، وملَكَ نفسه، فصار عزيزًا ملكًا، ومن جَزِعَ ولم يَصبر على مجاهدة ذلك، غُلِب وقُهر وأُسر، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه، كما قيل: إذا المَرءُ لم يَغلِبْ هواهُ أقامَه ... بمنْزلةٍ فيها العَزيزُ ذَليلُ قال ابن المبارك: من صبر، فما أقلَّ ما يصبر، ومن جزع، فما أقل ما يتمتع. فقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ» يشمل النصرَ في الجهادين: جهادُ العدوِّ الظاهر، وجهادُ العدوِّ الباطن، فمن صبرَ فيهما، نُصِرَ وظفر بعدوِّه، ومن لم يصبر فيهما وجَزِعَ، قُهِرَ وصار أسيرًا لعدوّه، أو قتيلًا له. • الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ» يشهد له قوله - عز وجل -: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} (الشورى:28). وهذه الوصية تمحو وتحجب اليأس، فإن الليل كلما اشتد سواده كان مؤذنا بفجر جديد. وكم قَصَّ اللهُ - عز وجل - مِن قصص تفريج كربات أنبيائه عند تناهِي الكروب بإنجاء نوح ومن معه في الفلك، وإنجاء إبراهيم - عليه السلام - من النار، وفدائه لولده الذي أمر بذبحه، وإنجاء موسى - عليه السلام - وقومه من اليَمِّ، وقصة يونس - عليه السلام - وقصص محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مع أعدائه، وإنجائه منهم كقصة الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين وغير ذلك. صَبرًا جميلًا ما أقربَ الفَرَجَا ... مَن راقبَ اللهَ في الأمرِ نجَا مَنْ صَدَقَ اللهَ لمْ يَنَلْهُ أذًى ... وَمَنْ رَجَاهُ يَكونُ حيثُ رجَا • إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» هو منتزع من قوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق:7)، وقوله - عز وجل -: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (الشرح:5 - 6).

وعن ابن مسعود قال: لو أنَّ العسر دخل في جُحر لجاء اليسر حتى يدخل معه، ثُمَّ قال: قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}. وحُصِرَ أبو عبيدة فكتب إليه عمرُ يقول: مهما ينْزل بامرئٍ شدَّةٌ يجعل الله بعدها فرجًا، وإنَّه لن يَغلِبَ عسرٌ يُسرين، وإنَّه يقول: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران:200). ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليُسر بالعسر: أنَّ الكربَ إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى، وحصل للعبد الإياسُ من كَشفه من جهة المخلوقين، وتعلق قلبُه بالله وحده ـ وهذا هو حقيقةُ التوكُّل على الله، وهو من أعظم الأسباب التي تُطلَبُ بها الحوائجُ ـ فإنَّ الله يكفي من توكَّل عليه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق:3). قال الفضيل: والله لو يئستَ مِنَ الخلق حتَّى لا تريد منهم شيئًا، لأعطاك مولاك كُلَّ ما تُريد. وأيضًا فإنَّ المؤمن إذا استبطأ الفرج، وأيس منه بعدَ كثرة دعائه وتضرُّعه، ولم يظهر عليه أثرُ الإجابة يرجع إلى نفسه باللائمة، وقال لها: إنَّما أُتيتُ من قِبَلِكَ، ولو كان فيك خيرٌ لأُجِبْتُ، وهذا اللومُ أحبُّ إلى الله من كثيرٍ من الطّاعاتِ، فإنَّه يُوجبُ انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنَّه أهلٌ لما نزل به من البلاء، وأنَّه ليس بأهلٍ لإجابة الدعاء، فلذلك تُسرِعُ إليه حينئذٍ إجابةُ الدعاء وتفريجُ الكرب، فإنَّه تعالى عندَ المنكسرةِ قلوبهم من أجله. عسَى ما ترَى أنْ لا يَدومَ وأنْ تَرَى ... لهُ فَرجًا مِمَّا أَلحَّ به الدَّهرُ عَسى فَرَجٌ يأتِي به اللهُ إنَّه ... لَهُ كُلَّ يَومٍ في خَليقتِهِ أَمْرُ إذا لاحَ عسرٌ فارْجُ يُسرًا فإنَّه ... َقضَى اللهُ أنَّ العُسرَ يَتبَعُهُ اليُسرُ

15 - القناعة

15 - القناعة اقْنَعْ بأيسرِ رِزقٍ أنت نائلُه ... واحذرْ ولا تتعرضْ للإراداتِ فما صفَا البحرُ إلا وهو منتقصٌ ... ولا تعكَّرَ إلا في الزياداتِ يزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رزقوا إذا قلت فيهم القناعة. وحينئذ لا يرضيهم طعام يشبعهم، ولا لباس يواريهم، ولا مراكب تحملهم، ولا مساكن تكنّهُم؛ إذ يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء، ولن يشبعهم شيء؛ لأن أبصارهم وبصائرهم تنظر إلى من هم فوقهم، ولا تبصر من هم تحتهم؛ فيزدرون نعمة الله عليهم، ومهما أوتوا طلبوا المزيد، فهم كشارب ماء البحر لا يرتوي أبدًا. ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبدًا؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء، وهذا من أبعد المحال؛ ذلك أن أي إنسان إن كَمُلت له أشياء قصُرَت عنه أشياء، وإن علا بأمور سَفُلَت به أمور؛ لذا كانت القناعة والرضى من النعم العظيمة، والمنح الجليلة التي يغبط عليها صاحبها. • مفهوم القناعة: توجد علاقة متينة بين القناعة وبين الزهد والرضى، ولذلك عرف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى، والقانع بالراضي. وقيل: القناعةألا تتجاوز إرادتك ما هو لك في وقتك. والقناعة قد تكون على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن يقتنع بالبُلْغَة من دنياه ويصرف نفسه عن التعرض لما سواه؛ وهذا أعلى منازل أهل القناعة. قال مالك ابن دينار: «أزهدُ الناس من لا تتجاوز رغبته من الدنيا بُلْغَته». الوجه الثاني: أن تنتهي به القناعة إلى الكفاية، ويحذف الفضول والزيادة. وهذا أوسط حال المقتنع، وذكر فيه قول بعضهم: «من رضي بالمقدور قنع بالميسور».

الوجه الثالث: أن تنتهي به القناعة إلى الوقوف على ما سنح، فلا يكره ما أتاه وإن كان كثيرًا، ولا يطلب ما تعذر وإن كان يسيرًا. وهذه الحال أدنى منازل أهل القناعة؛ لأنها مشتركة بين رغبة ورهبة، فأما الرغبة: فلأنه لا يكره الزيادة على الكفاية إذا سنحت، وأما الرهبة، فلأنه لا يطلب المتعذر عن نقصان المادة إذا تعذرت. وبناءً على هذا فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يضرب المسلم في الأرض يطلب رزقه، ولا أن يسعى المرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومرغوب. وإنما الذي يتعارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته، وأن يتسخط الموظف من مرتبته، وأن يتبرم العامل من مهنته، وأن ينافق المسؤول من أجل منصبه، وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو يميِّع مبدأه رغبة في مال أو جاه، وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته، وأن يذلّ المرء نفسه لغير الله - عز وجل - لحصول مرغوب. وليس القانع ذلك الذي يشكو خالقه ورازقه إلى الخلق، ولا الذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا الذي يغضب إذا لم يبلغ ما تمنى من رُتَب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى. • القناعة في القلب لا في اليد: وفي المقابل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة، ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال، ولا أن تمسك يداه الملايين؛ ولكن القناعة تأبى أن تَلجَ هذه الأموال قلبه، وتملك عليه نفسه؛ حتى يمنع حق الله فيها، ويتكاسل عن الطاعات، ويفرط في الفرائض! من أجلها، ويرتكب المحرمات من ربًا ورشوة وكسب خبيث حفاظا عليها أو تنمية لها. وكم من صاحب مال وفير، وخير عظيم، رُزق القناعة! فلا غشّ في تجارته، ولا منع أجَراءه حقوقهم، ولا أذل نفسه من أجل مال أو جاه، ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضًا وندبًا، مع محافظةٍ على الفرائض، واجتناب للمحرمات، إن ربح شكر

، وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون. وكم من مستور يجد كفافًا؛ ملأ الطمع قلبه حتى لم يرضه ما قُسِم له! فجزع من رزقه، وغضب على رازقه، وبث شكواه للناس، وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا بملك درهمًا ولا فلسًا. هيَ القَنَاعَةُ فالْزَمْها تَكُنْ مَلِكًا لو لم يَكنْ لك فيها إلا راحةَ البدنِ وانظرْ لمن مَلَكَ الدنْيا بأكْمَلِها هل راحَ منها بغيرِ القُطنِ والكفنِ • آيات وأحاديث في القناعة والعَفاف وذم السؤال من غير ضرورة: قَالَ الله تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (هود:6). أخبر - عز وجل - أنه متكفل بأرزاق المخلوقات، من سائر دواب الأرض، صغيرها وكبيرها، بَحْرِيّها، وبَرِّيِّها، وأنه {يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} أي: يعلم أين مُنتهى سيرها في الأرض، وأين تأوي إليه من وكرها، وهو مستودعها. وقيل: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا} أي: حيث تأوي، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} حيث تموت. وقيل: {مُسْتَقَرَّهَا} في الرحم، {وَمُسْتَوْدَعَهَا} في الصلب. وقال تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ الْحَافًا» (البقرة:273). «لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ» يعني: المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم و «لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْض» يعني: سفرًا للتسبب في طلب المعاش. والضرب في الأرض: هو السفر. وقوله - عز وجل -: «يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ» أي: الجاهلُ بأمْرهم وحالهم يحسبهم أغنياء، من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم. وقوله - عز وجل -: «تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ» أي: بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم.

وقوله - عز وجل -: «لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ الْحَافًا» أي: لا يُلِحُّون في المسألة ويكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن السؤال، فقد ألحف في المسألة. وعن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ تُلْحِفُوا في الْمَسْأَلَةِ، فَوَاللهِ لاَ يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئًا، فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنِّي شَيْئًا وَأنَا لَهُ كَارهٌ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أعْطَيْتُهُ» رواه مسلم. (وَالْإلْحَاف: الْالْحَاح). وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَيْسَ الغِنَى عَن كَثرَةِ العَرَض، وَلكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (متفقٌ عَلَيْهِ). (العَرَضُ):هُوَ المَالُ. وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -:أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وقَنَّعَهُ الله بِمَا آتَاهُ» (رواه مسلم). النفسُ تْجزَعُ أنْ تكونَ فقيرةً ... والفقرُ خيرٌ مِنْ غِنًى يُطْغِيهَا وغِنَى النفوسِ هو الكفافُ فإنْ أبَتْ فجميعُ ما في الأرضِ لا يكفِيهَا وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه -، قَالَ: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَألْتُهُ فَأعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيم، إنَّ هَذَا المَالَ خَضِرٌ حُلْوٌ، فَمَنْ أخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أخَذَهُ بإشرافِ نَفسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالَّذِي يَأكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَاليَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى». قَالَ حكيم: فقلتُ: يَا رسول الله، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ أرْزَأُ أحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدْعُو حَكيمًا لِيُعْطِيَه العَطَاء، فَيَأبَى أنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - دَعَاهُ لِيُعْطِيَه فَأَبَى أنْ يَقْبَلَهُ، فقالَ: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أُشْهِدُكُمْ عَلَى حَكيمٍ أنّي أعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ الَّذِي قَسَمَهُ اللهُ لَهُ في هَذَا الفَيء فَيَأبَى أنْ يَأخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكيمٌ أحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حَتَّى تُوُفِّي». (متفقٌ عَلَيْهِ). (يَرْزَأُ)؛ أيْ: لَمْ يَأخُذْ مِنْ أحَدٍ شَيْئًا، وَأصْلُ الرُّزءِ: النُّقْصَان، أيْ: لَمْ يَنقُص أحَدًا شَيْئًا بالأخذِ مِنْهُ، وَ (إشْرَافُ النَّفْسِ):تَطَلُّعُهَا وَطَمَعُهَا بالشَّيْء. وَ (سَخَاوَةُ النَّفْسِ):هِيَ

عَدَمُ الإشرَاف إِلَى الشَيء، وَالطَّمَع فِيهِ، وَالمُبَالاَةِ بِهِ وَالشَّرَهِ. وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه -:أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، وَخَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنىً، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ الله، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغنهِ الله» (متفقٌ عَلَيْهِ وهذا لفظ البخاري). وعن عوف بن مالِك الأَشْجَعِيِّ - رضي الله عنه -، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: «ألاَ تُبَايِعُونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» وَكُنَّا حَديثِي عَهْدٍ ببَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رسولَ اللهِ، ثمَّ قالَ: «ألا تُبَايِعُونَ رسولَ اللهِ» فَبَسَطْنا أيْدينا، وقلنا: قدْ بايعناكَ فَعَلامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَالصَّلَوَاتِ الخَمْسِ وَتُطِيعُوا الله» وأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيفَةً «وَلاَ تَسْألُوا النَّاسَ شَيْئًا» فَلَقَدْ رَأيْتُ بَعْضَ أُولئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوطُ أحَدِهِمْ فَمَا يَسأَلُ أحَدًا يُنَاوِلُهُ إيّاهُ. (رواه مسلم). وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -:أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَ: «لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلةُ بأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَلَيْسَ في وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» (متفقٌ عَلَيْهِ). (المُزْعَةُ: القِطْعَةُ). وعنه أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ، وَذَكَرَ الصَّدَقَةَ وَالتَّعَفُّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ: «اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، وَاليَدُ العُلْيَا هِيَ المُنْفِقَةُ، وَالسُّفْلَى هِيَ السَّائِلَةُ. (متفقٌ عَلَيْهِ). وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ سَألَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فإنَّمَا يَسْألُ جَمْرًا؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» رواه مسلم. مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُعَاقَب بِالنَّارِ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون عَلَى ظَاهِره. وَأَنَّ الَّذِي يَأْخُذهُ يَصِير جَمْرًا يُكْوَى بِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي مَانِع الزَّكَاة. وعن ثوبان - رضي الله عنه -، قَالَ: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَكَفَّلَ لِي أنْ لاَ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟» فقلتُ: أنَا، فَكَانَ لاَ يَسْأَلُ أحَدًا شَيْئًا. (صحيح رواه أَبُو داود).

• صور من قناعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أكمل الناس إيمانًا ويقينًا، وأقواهم ثقة بالله - عز وجل - وأصلحهم قلبًا، وأكثرهم قناعة ورضًى بالقليل، وأنداهم يدا، وأسخاهم نفسًا؛ حتى كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يفرق المال العظيم: الوادي والواديين من الإبل والغنم، وكان الرجل يسلم من أجل عطائه - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم يَحسن إسلامه. قال صفوان بن أمية - رضي الله عنه -: «وَاللهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ» (رواه مسلم). قال الزهري: «وَأَعْطَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَئِذٍ (أي يوم حنين) صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنَ النَّعَمِ ثُمَّ مِائَةً ثُمَّ مِائَةً.» (رواه مسلم). وقال أنس - رضي الله عنه -: «مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ» (رواه مسلم). (فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْن جَبَلَيْنِ: أَيْ كَثِيرَة كَأَنَّهَا تَمْلَأُ مَا بَيْن جَبَلَيْنِ، والفاقَةُ: الفَقْرُ والحاجَةُ). إن تلك الصور الرائعة من بذله - صلى الله عليه وآله وسلم - جعلت أقوامًا وسادة وعتاة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق، وأمامها صور عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته - صلى الله عليه وآله وسلم - ورضاه بالقليل، وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا، ومن ذلك: أولًا: قناعته - صلى الله عليه وآله وسلم - في أكله: أ- عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: «ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَارٌ». فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - جِيرَانٌ مِنْ

الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ» (رواه البخاري ومسلم). (وَالْمَنِيحَة هِيَ الْعَطِيَّة، وَتَكُون فِي الْحَيَوَان وَفِي الثِّمَار وَغَيْرهمَا، وقَدْ تَكُون الْمَنِيحَة عَطِيَّة لِلرَّقَبَةِ بِمَنَافِعِهَا وَهِيَ الْهِبَة، وَقَدْ تَكُون عَطِيَّة اللَّبَن أَوْ الثَّمَرَة مُدَّة، وَتَكُون الرَّقَبَة بَاقِيَة عَلَى مِلْك صَاحِبهَا وَيَرُدّهَا إِلَيْهِ إِذَا اِنْقَضَى اللَّبَن أَوْ الثَّمَر الْمَأْذُون فِيهِ). ب- وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» (رواه مسلم). جـ- قَالَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ: أَلَسْتُمْ فِي طَعَامٍ وَشَرَابٍ مَا شِئْتُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُ نَبِيَّكُمْ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَا يَجِدُ مِنْ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ» (رواه مسلم). (الدَّقَل: تَمْر رَدِيء). ثانيًا: قناعته - صلى الله عليه وآله وسلم - في فراشه: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «كَانَ فِرَاشُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ أَدَمٍ وَحَشْوُهُ مِنْ لِيفٍ» (رواه البخاري). وعن عَبْدِ اللهِ ابن مسعود - رضي الله عنه - قَالَ: نَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى حَصِيرٍ فَقَامَ وَقَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً؟، فَقَالَ: «مَا لِي وَمَا لِلدُّنْيَا، مَا أَنَا فِي الدُّنْيَا إِلَّا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (صحيح رواه الترمذي) ثالثا: تربيته - صلى الله عليه وآله وسلم - أهله على القناعة: لقد ربى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أهله على القناعة بعد أن اختار أزواجه البقاء معه، والصبر على القلة، والزهد في الدنيا حينما خيرهن بين الإمساك على ذلك أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب:28، 29). فاخترن رضي الله عنهن الآخرة، وصبرن على لأواء الدنيا، وضعف الحال، وقلة

المال طمعًا في الأجر الجزيل من الله - عز وجل -. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه مسلم). ولم يقتصر - صلى الله عليه وآله وسلم - في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده رباهم على القناعة؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ فَاطِمَةَ - رضي الله عنها - أَتَتْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - تَسْأَلُهُ خَادِمًا وَشَكَتْ الْعَمَلَ فَقَالَ: «أَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ خَادِمٍ: تُسَبِّحِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدِينَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرِينَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ حِينَ تَأْخُذِينَ مَضْجَعَكِ» (رواه مسلم). • صورة من قناعة الصحابة والسلف الصالح: وسار على منهج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صحابته الكرام - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان؛ فقد عاشوا أول الأمر على الفقر والقلة، ثم لما فتحت الفتوح واغتنى المسلمون بقوا على قناعتهم وزهدهم، وأنفقوا الأموال الطائلة في سبيل الله. عن أَبي بردة، عن أَبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في غَزاةٍ وَنَحْنُ سِتَّةُ نَفَرٍ بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ، فَنقِبَت أقدَامُنَا وَنَقِبَت قَدَمِي، وسَقَطت أظْفَاري، فَكُنَّا نَلُفُّ عَلَى أرْجُلِنا الخِرَقَ، فَسُمِّيَت غَزْوَةَ ذَاتِ الرِّقَاعِ لِمَا كُنَّا نَعْصِبُ عَلَى أرْجُلِنَا مِنَ الخِرَقِ، قَالَ أَبُو بُردَة: فَحَدَّثَ أَبُو مُوسَى بِهَذَا الحَدِيثِ، ثُمَّ كَرِه ذَلِكَ، وقال: مَا كُنْتُ أصْنَعُ بِأنْ أذْكُرَهُ! قَالَ: كأنَّهُ كَرِهَ أنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ عَمَلِهِ أفْشَاهُ. (متفقٌ عَلَيْهِ). (فَنقِبَت أقدَامُنَا: أي قرحت من الحفاء). وبعث معاوية - رضي الله عنه - إلى عائشة - رضي الله عنها - بمائة ألف درهم. قال عروة بن الزبير: «فوالله ما أمست حتى فرقتها، فقالت لها مولاتها: «لو اشتريت لنا منها بدرهم لحمًا»! فقالت: «ألا قلتِ لي؟». لقد نسيَت نفسها - رضي الله عنها - وفرقت مالها، واستمرت على قناعتها بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.فهل تقتدي نساء المسلمين بعائشة - رضي الله عنها - بدلًا من سرف الإنفاق على النفس وحظوظها والزينة؟!

وعن عامر بن عبد الله أن سلمان الخير (أي سلمان الفارسي) - رضي الله عنه - حين حضره الموت عرفوا منه بعض الجزع، قالوا: ما يجزعك يا أبا عبد الله، وقد كانت لك سابقة في الخير؟ شهدت مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مغازي حسنةً، وفتوحًا عظامًا! قال: يجزعني أن حبيبنا - صلى الله عليه وآله وسلم - حين فارقنا عهد إلينا قال: «ليَكْفِ الْمَرْءَ مِنْكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ» فهذا الذي أجْزَعَني؛ فجُمعَ مالُ سلمان فكان قيمته خمسة عشر درهمًا». (صحيح رواه ابن حبان). وعن يحيى بن جعدة قال: عاد خبابًا ناسٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالوا: أبْشِرْ أبا عبد الله! تَرِدُ على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الحوض، قال: كيف بها أو بهذا، وأشار إلى أعلى بيته وإلى أسفله، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لْيَكْفِ المَرْءَ مِنْكُمْ كَزَادِ الرَّاكِبِ». (إسناده صحيح رواه أبو يعلى والطبراني). وسَأَلَ رَجُلٌ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنهما - فَقَالَ: أَلَسْنَا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: أَلَكَ امْرَأَةٌ تَأْوِي إِلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَلَكَ مَسْكَنٌ تَسْكُنُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ. قَالَ: فَإِنَّ لِي خَادِمًا. قَالَ: فَأَنْتَ مِنْ الْمُلُوكِ. (رواه مسلم). وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم - رحمه الله - يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه فكتب إليه: «قد رفعْتُ حوائجي إلى مولاي، فما أعطاني منها قبِلتُ، وما أمسك منها عني قنعْتُ». لَبَيْتٌ تخفقُ الأرواحُ فيهِ ... أحبُّ إليَّ مِنْ قصرٍ مَنِيفِ ولبسُ عباءةٍ وتقرُّ عينِي ... أحبُّ إليَّ مِنْ لبس الشفُوفِ

16 - فوائد القناعة والسبيل إليها

16 - فوائد القناعة والسبيل إليها • فوائد القناعة: إن للقناعة فوائد كثيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا، ومن تلك الفوائد: 1 - امتلاء القلب بالإيمان بالله - عز وجل - والثقة به، والرضى بما قدر وقَسَم، وقوة اليقين بما عنده - سبحانه وتعالى - ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله تعالى قد ضمن أرزاق العباد وقسمها بينهم حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئًا. يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: «إنَّ أرجَى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقيق». وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: «أصل الزهد الرضى من الله - عز وجل -». وقال الحسن - رحمه الله -: «إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله - عز وجل -». 2 - الحياة الطيبة: قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون} (النحل:97)، فَسَّر الحياة الطيبة عليٌّ وابن عباس والحسن - رضي الله عنهم - فقالوا: «الحياة الطيبة هي القناعة». وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي - رحمه الله -: «من قنع طاب عيشه، ومن طمع طال طيشه». العبدُ حرٌ إنْ قنعْ ... والحرُّ عبدٌ إنْ طمعْ فاقْنَعْ ولا تطمعْ فلا ... شيءٌ يشينُ سِوَى الطَمعْ 3 - تحقيق شكر الله - عز وجل -؛ ذلك أن من قنع برزقه شكر الله - عز وجل - عليه، ومن تقالّه قصَّر في الشكر، وربما جزع وتسخط ـ والعياذ بالله ـ ولذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْ وَرِعًا تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ

لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ». (صحيح رواه ابن ماجه). ومن تسخط مِن رِزْقِه فإنما هو يسخط على مَن رَزَقَه، ومن شكا قلّته للخلق فإنما هو يشكو خالقه - عز وجل - للخلق. وقد شكا رجل إلى قوم ضيقًا في رزقه فقال له بعضهم: «شكوت من يرحمك إلى من لا يرحمك». 4 - الفلاح والبشرى لمن قنع: فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» (رواه مسلم). (الْكَفَاف: الْكِفَايَة بِلَا زِيَادَة وَلَا نَقْص). 5 - الوقاية من الذنوب التي تفتك بالقلب وتذهب الحسنات: كالحسد، والغيبة، والنميمة، والكذب، وغيرها من الخصال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غالبًا ما يكون استجلاب دنيا أو دفع نقصها. فمن قنع برزقه لا يحتاج إلى ذلك الإثم، ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له. قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: «اليقين ألا تُرضِي الناس بسخط الله؛ ولا تحسد أحدًا على رزق الله، ولا تلم أحدًا على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يردّه كراهة كاره؛ فإن الله ـ تبارك وتعالى ـ بقسطه وعلمه وحكمته جعل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط». (الرَّوْح: أي: الراحة). قال بعض الحكماء: «وجدت أطول الناس غمًّا الحسود، وأهنأهم عيشًا القنوع». 6 - حقيقة الغنى في القناعة: ولذا رزقها الله - عز وجل - نبيه محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - وامتن عليه بها فقال - عز وجل -: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (الضحى:8).فقد نزَّلها بعض العلماء على غنى النفس؛ لأن الآية مكية، ولا يخفى ما كان فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال. وذهب بعض المفسرين إلى أن الله - عز وجل - جمع له الغنائين: غنى القلب، وغنى المال بما

يسر له من تجارة خديجة - رضي الله عنها -. وقد بين - صلى الله عليه وآله وسلم - أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ». (رواه مسلم). (الْعَرَض هُوَ مَا يُنْتَفَع بِهِ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا). وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا أبَا ذَرٍّ، أتَرَى كَثْرَةَ المَالِ هُوَ الغِنَى؟». قلتُ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ». قال: «فَتَرَى قِلَّةَ المَالِ هُوَ الفَقْر؟».قلت: «نَعَمْ يا رَسُولَ اللهِ». قال: «إنما الغِنَى غِنَى القَلْبِ، والفَقْرُ فقْرُ القَلْبِ». (صحيح رواه ابن حبان). وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه، ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته، ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يجد قوت غدِه! فالعلة في القلوب: رضًى وجزعًا، واتساعًا وضيقًا، وليست في الفقر والغنى. ولأهمية غنى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطيبًا في الناس على المنبر يقول: «إن الطمع فقر، لأن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه». وأوصى سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - ابنه فقال: «يا بني، إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد». رأيتُ القناعةَ رأسَ الغِنَى ... فصِرْتُ بأذيالِها ممتَسِكْ فلا ذا يرانِي على بابِهِ ... ولا ذا يرانِي به منهَمِكْ فصِرْتُ غنِيًّا بلا دِرْهَمٍ ... أمُرُّ علَى الناسِ شبهَ الملكْ وسئل أبو حازم فقيل له: «ما مالك؟». قال: «لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله، واليأس مما في أيدي الناس». وقيل لبعض الحكماء: «ما الغنى؟».قال: «قلة تمنِّيك، ورضاك بما يكفِيك».

7 - العز في القناعة، والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزًا بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وّأحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتََ فَإِنّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَاعْلَمْ أنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَيْلِ وَعِزّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النّاسِِ». (حسن رواه الحاكم وغيره) وكان محمد بن واسع - رحمه الله - يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: «من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد». وقال الحسن - رحمه الله -: «لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك». فمن سأل الناس ما بأيدهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال محبوب لنفوس بني آم، فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك. والإمامة في الدين، والسيادة والرفعة لا يحصلها المرء إلا إذا استغنى عن الناس، واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ. قال أعرابي لأهل البصرة: «من سيد أهل هذه القرية؟».قالوا: «الحسن»، قال: «بِمَ سادهم؟» قالوا: «احتاج الناس إلى علمه، واستغنى هو عن دنياهم». 8 - القناعة والرضا بعطاء الله سبب للبركة: يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيهِ وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ» (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني). • أسباب تحول دون القناعة: 1 - منازعة الشهوات التي لا تنال إلا بزيادة المال وكثرة المادة، فإذا نازعته الشهوة طلب من المال ما يوصله إليها، وليس للشهوات حد مُتَنَاهٍ، فيصير ذلك ذريعة إلى أن ما يطلبه من الزيادة غير متناه، ومن لم يتَناهَ طلبه، استدام كدّه وتعبه، فلم يفِ التذاذه بنيل شهواته بما يعانيه من استدامة كده وأتعابه، مع ما قد لزمه من ذم الانقياد لمغالبة

الشهوات، والتعرض لاكتساب التبعات، حتى يصير كالبهيمة التي قد انصرف طلبها إلى ما تدعو إليه شهوتها فلا تنزجر عنه بعقل، ولا تنكف عنه بقناعة. 2 - أن يطلب الزيادة ويقتني الأموال ليدخرها لولده، ويخلفها لورثته، مع شدة ضنه على نفسه، وكفه عن صرف ذلك في حقه، وإشفاقًا عليهم من كدح الطلب، وسوء المنقلب، وهذا شقي بجمعها، مأخوذ بوزرها، قد استحق اللوم من وجوه لا تخفى على ذي لب، منها: أ- سوء ظنه بخالقه: أنه لا يرزقهم إلا من جهته. ب- الثقة ببقاء ذلك على ولده مع نوائب الزمان ومصائبه. ج- ما حُرم من منافع ماله، وسلب من وفور حاله، وقد قيل: «إنما مالك لك أو للوارث أو للجائحة؛ فلا تكن أشقى الثلاثة». د- ما لحقه من شقاء جمعه، وناله من عناء كده حتى صار ساعيًا محرومًا، وجاهدًا مذمومًا. هـ- ما يؤاخذ به من وزره وآثامه، ويحاسب عليه من تبعاته وإجرامه. قال رجل للحسن - رحمه الله -: «إني أخاف الموت وأكرهه»، فقال: «إنك خلفت مالك، ولو قدّمته لَسَرك اللحاق به». 3 - أن يجمع المال ويطلب المكاثرة اسْتِحْلَالًا لِجَمْعِهِ، وَشَغَفًا بِاحْتِرَامِهِ، فهذا أسوأ الناس حالًا فيه، وأشدهم حرمانًا له، قد توجهت إليه سائر الملاوم، وفي مثله قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيم} (التوبة:34). • السبيل إلى القناعة: إني رأيتُ الصبرَ خيرَ مِعْوَلٍ ... في النائباتِ لمنْ أرادَ مِعوَلَا ورأيتُ أسبابَ القناعةِ أكِّدَّتْ بعُرَى الغِنَى فجعلتُها لي معْقِلَا فإذا نَبَا بي منزلٌ جاوزْتُهُ وجعلتُ مِن غيرِهِ لي منزلَا

وإذا غلَا شيءٌ عليَّ تركْتُهُ فيكونَ أرخصَ ما يكونُ إذا غلَا التزام القناعة عسير على بني آدم ـ إلا من وفقه الله للهدى وكفاه شر نفسه وشحها وطمعها ـ لأن بني آدم مفطورون على محبة التملك؛ ولكن مجاهدة النفس مطلوبة لتخفيف طمعها وتقريبها من الزهد والقناعة. ولذلك طرق إذا سلكها العبد مع إخلاصه تحققت له القناعة بإذن الله تعالى، فمن ذلك: 1 - تقوية الإيمان بالله تعالى، وترويض القلب على القناعة والغنى؛ فإن حقيقة الفقر والغنى تكون في القلب؛ فمن كان غني القلب نَعِمَ بالسعادة وتحلى بالرضى، وإن كان لا يجد قوت يومه، ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهما واحدا لرأى أن غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيرًا حتى يناله. فعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا أبَا ذَرٍّ، أتَرَى كَثْرَةَ المَالِ هُوَ الغِنَى؟». قلتُ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ». قال: «فَتَرَى قِلَّةَ المَالِ هُوَ الفَقْر؟».قلت: «نَعَمْ يا رَسُولَ اللهِ». قال: «إنما الغِنَى غِنَى القَلْبِ، والفَقْرُ فقْرُ القَلْبِ». (صحيح رواه ابن حبان). اذا ما كنتَ ذا قلبٍ قنُوعٍ فأنتَ ومالكُ الدنيا سواءُ ومَنْ نَزَلَتْ بساحتِه المنايَا فلا أرضٌ تقِيهِ ولا سماءُ وأرضُ اللهِ واسعةٌ ولكنْ ... إذا نزلَ القضَا ضاق الفضاءُ 2 - اليقين بأن الرزق مكتوب والإنسان في رحم أمه، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» (رواه البخاري ومسلم). فالعبد مأمور بالسعي والاكتساب مع اليقين بأن الله هو الرازق وأن رزقه مكتوب.

3 - تدبر آيات القرآن العظيم ولا سيما الآيات التي تتحدث عن قضية الرزق والاكتساب: ومن ذلك قول الله - عز وجل -: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (فاطر:35)، وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (يونس:107)، وقوله تعالي: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (هود:6) وقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} (الطلاق:7) 4 - معرفة حكمة الله - عز وجل - في تفاوت الأرزاق والمراتب بين العباد؛ حتى تحصل عمارة الأرض، ويتبادل الناس المنافع والتجارات، ويخدم بعضهم بعضًا. قال الله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (الزخرف32). وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الأنعام:165). 5 - الإكثار من سؤال الله - عز وجل - القناعة، والإلحاح بالدعاء في ذلك فنبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو أكثر الناس قناعة وزهدًا ورضى، وأقواهم إيمانًا ويقينًا؛ كان يسأل ربه القناعة. فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يدعو: «اللهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وبَارِكْ لِي فِيهِ، واخْلُفْ عَلَى كُلِّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ» (رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي). ولأجل قناعته - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنه ما كان يسأل ربه إلا الكفاف من العيش، والقليل من الدنيا كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللَّهُمَّ ارْزُقْ آلَ مُحَمَّدٍ قُوتًا» (رواه البخاري ومسلم). (الْقُوت مَا يَسُدّ الرَّمَق، وَفِي الحديث فَضِيلَة التَّقَلُّل مِنْ الدُّنْيَا وَالِاقْتِصَار عَلَى الْقُوت مِنْهَا وَالدُّعَاء بِذَلِكَ).

وقال الشافعي - رحمه الله -: قنعتُ بالقوتِ مِنْ زمانِي ... وصُنْتُ نفْسِي عن الهوانِ خَوفًا مِن الناسِ أنْ يقولُوا ... فضلُ فلانٍ علَى فلانِ مَن كنتُ عن مالِه غَنيًّا ... فلا أبَالِي إذَا جَفَانِي 6 - العلم بأن الرزق لا يخضع لمقاييس البشر من قوة الذكاء، وكثرة الحركة، وسعة المعارف، وإن كان بعضها أسبابًا؛ إلا أن الرزق ليس معلقًا بها بالضرورة. وهذا يجعل العبد أكثر قناعة خاصة عندما يرى من هو أقل منه خبرة وذكاء أو غير ذلك وأكثر منه رزقا فلا يحسده ولا يتبرم من رزقه. 7 - النظر إلى حال من هو أقل منك في أمور الدنيا، وعدم النظر إلى من هو فوقك فيها؛ ولذا قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (رواه مسلم). مَعْنَى (أَجْدَر) أَحَقّ، و (تَزْدَرُوا) تُحَقِّرُوا. قَالَ اِبْن جَرِير وَغَيْره: هَذَا حَدِيث جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْر؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا رَأَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَتْ نَفْسه مِثْل ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْده مِنْ نِعْمَة اللهُ تَعَالَى، وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَاد لِيَلْحَق بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبهُ. هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي غَالِب النَّاس. وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونه فِيهَا ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَة اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ، وَفَعَلَ فِيهِ الْخَيْر. وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيرا ففي الناس من هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا أو معذبا ففيهم من هو أشد منك مرضًا وأكثر تعذيبًا، فلماذا ترفع رأسك لتنظر من هو فوقك، ولا تخفضه لتبصر من هو تحتك؟! إن كنت تعرف من نال من المال والجاه ما لم تنله أنت وهو دونك ذكاءً ومعرفة وخلقًا، فلم لا تذكر من أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم ينل بعض ما نلت؟!

لله دَرُّّ القَنُوعِ مِنْ خُلُقٍ! كَمْ مِنْ وَضِيعٍ بِه ارْتَفَعَا؟! يضيق صدرالفتى بحاجته ومَن تأسَّى بدونِه اتَّسَعَا 8 - قراءة سير السلف الصالح وأحوالهم مع الدنيا، وزهدهم فيها، وقناعتهم بالقليل منها، وهم قد أدركوا الكثير منها فرفضوه إيثارا للباقية على العاجلة. وعلى رأسهم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وإخوانه من الأنبياء - عليهم السلام - ثم الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - والتابعون لهم بإحسان؛ فإن معرفة أحوالهم، وكيف كانت حياتهم ومعيشتهم تحفز العبد إلى التأسي بهم، وترغبه في الآخرة، وتقلل عنده زخرف الحياة الدنيا ومُتَعِها الزائلة. 9 - العلم بأن عاقبة الغنى شر ووبال على صاحبه إذا لم يكن الاكتساب والصرف منه بالطرق المشروعة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ» (صحيح رواه أبو داود). (وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ: كَانَ الشَّبَابُ فِي قُوَّتِهِ كَالثَّوْبِ الْجَدِيدِ فَلَمَّا وَلَّى الشَّبَابُ وَضَعُفَ الْبَدَنُ فَكَأَنَّمَا بَلِيَ). فمشكلة المال أن الحساب عليه من جهتين: جهة الاكتساب ثم جهة الإنفاق، وهذا ما يجعل تبعته عظيمة، وعاقبته وخيمة إلا من اتقى الله فيه وراعى حدود الله اكتسابًا وإنفاقًا. ثم ليتفكر في أنه كلما تَخفف من هذا المال وكان أقل كان حسابه أيسر، وأسرع، وذلك كمن سافر في الطائرة وحمل متاعا كثيرًا؛ فإنه إذا بلغ مقصده احتاج وقتًا طويلًا لاستلامه وتفتيشه بخلاف من كان خفيفًا ليس معه شيء، وحساب الآخرة أعسر، والوقوف فيها أطول. ولينظر أيضا إلى من كان المال والجاه سبب شقائه وأمراضه وهمومه وغمومه؛ فهو يشقى ويتعب في جمع المال ونيل المناصب، ثم يحمل هم الحفاظ على المال والمنصب فيقضي عمره مهتمًا مغتما.

ثم انظر ماذا يحدث له إذا خسر ماله أو أقيل من منصبه! وكم من شخص كان ذلك سببا في هلاكه وعطبه! نسأل الله العافية. 10 - النظر في التفاوت البسيط بين الغني والفقير على وجه التحقيق؛ فالغني لا ينتفع إلا بالقليل من ماله، وهو ما يسد حاجته. وما فَضَلَ عن ذلك فليس له، وإن كان يملكه. فلو نظرنا إلى أغنى رجل في العالم لا نجد أنه يستطيع أن يأكل من الطعام أكثر مما يأكل متوسط الحال أو الفقير؛ بل ربما كان الفقير أكثر منه!! وبعبارة أخرى: هل يستطيع الغني أن يشتري مائة وجبة فيأكلها في آن واحد، أو مائة ثوب فيلبسها في آن واحد؛ أو ألف مركبة فيركبها في آن واحد؛ أو مائة دار فيسكنها في وقت واحد؟! كلا؛ بل له من الطعام في اليوم ثلاث وجبات تزيد قليلًا أو تنقص، وللمستور كذلك مثله، وله من اللباس ثلاث قطع تزيد قليلًا أو تنقص، ولا يستهلك من الأرض في وقت واحد إلا مترا في مترين سواء كان قائمًا أم قاعدًا أم مضطجعًا، فعَلامَ يحسد وهو سيحاسب على كل ما يملك؟! وقد فهم هذا المعنى حكيم هذه الأمة أبو الدرداء - رضي الله عنه - حينما قال: «أهل الأموال يأكلون ونأكل، ويشربون ونشرب، ويلبسون ونلبس، ويركبون ونركب، ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر إليها معهم، وحسابهم عليها ونحن منها برَاء».وقال أيضًا: «الحمد لله الذي جعل الأغنياء يتمنون أنهم مثلنا عند الموت، ولا نتمنى أننا مثلهم حينئذ». بل جاء هذا المعنى في السنة النبوية، قال عبد الله بن الشخير - رضي الله عنه -:أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ يَقْرَأُ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي»، قَالَ: «وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» (رواه مسلم). إن القانع قد لا ينال من الطعام أطيبه، ولا من اللباس أحسنه، ولا من العيش أرغده؛ ولكنه ينعم بالرضى أكثر من الطماع وإن كان الطماع أرغد عيشا منه؛ لأن القانع

ينظر إلى الموسر وما يملك، فيراه لا ينتفع إلا بقليل مما يملك؛ لكنه سيحاسب عن كل ما يملك. ثم ليعلم العاقل أن كل حال إلى زوال، فلا يفرح غني حتى يطغى ويبطر، ولا ييأس فقير حتى يعصي ويكفر، فإنه لا فقر يدوم ولا غنى يدوم!! وكم من رجال نشؤوا على فرش حرير وشربوا بكؤوس الذهب، وورثوا كنوز المال، وأذلوا أعناق الرجال، وتعبدوا الأحرار! فما ماتوا حتى اشتهوا فراشًا خشنا يقي الجنب عض الأرض، ورغيفًا من خبز يحمي البطن من قرص الجوع!! وآخرون قاسوا المحن البلايا، وذاقوا الألم والحرمان، وطووا الليالي بلا طعام! فما ماتوا حتى ازدحمت عليهم النعم، وتكاثرت الخيرات، وصاروا من سراة الناس!! وسيسوي الموت بين الأحياء جميعا: الغني والفقير؛ فدود الأرض لا يفرق بين المالك والأجير، ولا بين الصعلوك والأمير، ولا بين الكبير والصغير، فلا يجزع فقير بفقره، ولا يبطر غني بغناه. وما أجمل القناعة! من التزمها نال السعادة، ولو تحلى بها الناس لزالت منهم الضغائن والأحقاد، وحلّت بينهم الألفة والمودة؛ إذ أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الناس بسبب الدنيا والتنافس عليها، وما ضعف الدين في القلوب إلا من مزاحمة الدنيا له، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما قال: «وَاللهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» (رواه البخاري ومسلم). فهل من مدّكر؟ وهل من معتبر يجعل ما يملك من دنيا في يديه، ويحاذر أن تقترب إلى قلبه فتفسده؟ قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» (رواه البخاري ومسلم).

17 - الإصلاح بين الناس

17 - الإصلاح بين الناس • عبادة فرطنا فيها: إن إصلاح ذات البين والإصلاح بين المتخاصمين عبادة عظيمة جدًا فرط فيها الكثير، ولذلك عمت الفرقة والشتات في كثيرٍ من طبقات المجتمع ونواحيه، وتفككت كثيرٌ من الأسر، ولو أن المسلمين تدخلوا كما أمر الله - عز وجل - لَتَفادَيْنا كثيرًا من الشر. كونُوا جميعًا يا بَنِيَّ إذا اعْتَرَى خَطْبٌ ولا تتفرقُوا آحَادَا تأبَى الرماحُ إذا اجْتَمَعْنَ تكسُّرًا وإذا افترقْنَ تكسَّرتْ أفرادَا • الضغينة حرمان من المغفرة: إن الشريعة الإسلامية قد جعلت أمر مصارمة المسلم لأخيه أمرًا خطيرًا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» (رواه مسلم).فيحرم المتصارمان من مغفرة الله تعالى بسبب الشقاق الذي قام بينهما وبسبب الهجران الذي حل بينهما. • لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» (صحيح رواه أبو داود). (فَمَاتَ): أَيْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَة مِنْ غَيْر تَوْبَة. (دَخَلَ النَّار): أَيْ اِسْتَوْجَبَ دُخُول النَّار. وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» (صحيح رواه الترمذي). (أَخَاهُ) أَيْ الْمُسْلِمَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أُخُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَالصَّحَابَةِ. (فَوْقَ ثَلَاثٍ) فِي رِوَايَةِ الشَّيْخَيْنِ: «فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ» وَالْمُرَادُ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ الْهَجْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَإِبَاحَتُهَا فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلُ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، قَالُوا: «وَإِنَّمَا عَفَا عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ مِنْ الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَعَفَا عَنْ الْهَجْرِ الثَّلَاثَ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ الْعَارِضُ». (يَلْتَقِيَانِ) أَيْ يَتَلَاقَيَانِ. (فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا) مَعْنَى يَصُدُّ يُعْرِضُ أَيْ يُوَلِّيهِ عُرْضَهُ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَهُوَ جَانِبُهُ، وَالصُّدُّ بِضَمِّ الصَّادِ، وَهُوَ أَيْضًا الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ. (وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) أَيْ هُوَ أَفْضَلُهُمَا. • الخصومة من سعي الشيطان: والشيطان أيس أن يعبده المسلمون في جزيرة العرب، ولكنه رضي بالتحريش فيما بينهم وبما يحقرون من الأمور المنكرة، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (رواه مسلم). وَمَعْنَاهُ: أَيِس أَنْ يَعْبُدهُ أَهْل جَزِيرَة الْعَرَب، وَلَكِنَّهُ سَعَى فِي التَّحْرِيش بَيْنهمْ بِالْخُصُومَاتِ وَالشَّحْنَاء وَالْحُرُوب وَالْفِتَن وَنَحْوهَا. وذلك هو واقع كثير من المسلمين اليوم عندما ابتعدوا عن الكتاب والسنة وتحكيمهما في حياتهم في كل صغيرة وكبيرة، فلعدم الإنصاف بين المتخاصمين وظلمهم لبعضهم، ولعدم تدخل المصلحين بينهم امتلأت المحاكم بالخصومات والدعاوى الكيدية، وفشا الظلم وانتشر. وساعدهم على ذلك المماطلة وعدم معرفة الحق ودراسته ومعرفة الحق من الباطل، أو الوقوف بجانب الباطل من قبل ضعاف النفوس، وتدخل جهات للفصل في الخصومات ليس لها علاقة شرعية، حيث تعددت الاختصاصات وتباينت، والمعروف في الإسلام والواجب الذي يجب أن يكون التحاكم إليه هو الكتاب والسنة.

كُلٌ يرَى رأيًا وينصرُ قولَه وله يعادِي سائرَ الإخوانِ ولو أنهم عند التنازعِ وُفِّقُوا ... لَتَحاكموا للهِ دونَ توانِ ولَأصبحوا بعد الخصامِ أحِبَّةً غيظَ العِدَا ومذَلّةَ الشيطانِ • الإصلاح بين الناس: إن الإصلاح بين الناس واجب، قال الله تعالى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال:1) وهذا أمرٌ لابد منه، أصلحوا ما بينكم وبين إخوانكم، أصلحوا بين النفوس، قربوا بينها، أزيلوا أسباب العداوة. والصلح يكون بين متغاضبين كالزوجين، ويكون في الجراحات كالعفو على مال، ويكون لقطع الخصومة، كما إذا وقعت المزاحمة في الأملاك أو المشتركات، وقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقوم بذلك، وقد دلَّ الكتاب والسنة على فضل الإصلاح بين الناس. • حث الكتاب والسنة وترغيبهما في الإصلاح بين الناس: وإصلاح ذات البين من العبادات الجليلة التي رغب عنها الكثير من الناس، مع ما فيها من الأجر الجزيل والخير العميم؛ فإن من مقاصد التشريع تحقيق المودة والألفة بين الناس، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (الأنفال:1). فقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} أي واتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أي في قسمه بينكم على ما أراده الله فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «هذا تحريض من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم»، وكذا قال مجاهد. وقال الله تعالى في فضل الإصلاح: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ

نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء:114) إن كثيرًا من الناس الذين يتسارون ويتناجون ليس في نجواهم خير إلا من قام بالتناجي في الخير وإصلاح ذات البين، فإن هذا مأجور ونجواه مأجورٌ عليها، وقد قال الله تعالى في أجر المصلح بين الناس: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء:114) أي ثوابا جزيلًا كثيرًا واسعًا. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري ومسلم). فالشاهد من الحديث قوله: «يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ» حينما قال بأن على كل مفصل في الجسم صدقة في كل يوم تطلع فيه الشمس، وذلك شكرًا لله - عز وجل - على نعمه التي لا تعدّ ولا تحصى. فجعل الله طرق الخير متعددة وكثيرة من أجل كسب الحسنات بالأعمال الصالحة التي تُنال بها الدرجات الرفيعة. فمن الأشياء التي ذكرها الرسول من الصدقات التي يُزكّي بها الإنسان عن مفاصله وعظامه وجسمه كله، ويحمد بها ربّه لأداء كل عضو من أعضائه وظيفته، ذلك هو الإصلاح بين الاثنين والحكم بالعدل لا بالجور والظلم، وكان البدء به في أول الصدقات والحسنات وعمل الخيرات لأهميته. • إصلاح ذات البين أعلى درجة من الصلاة والصيام والصدقة، وفساد ذات البين تحلق الدين: وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أن إصلاح ذات البين أعلى درجة من الصلاة والصيام والصدقة. عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُوا: «بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ، لَاأقُولُ إنَّها تحلِقُ الشَّعْرَ ولَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ» (صحيح رواه الترمذي وأبو داود وابن حبان وأحمد).

نعم، إنها تحلق الدين وتذهب به؛ لأن العناد والخصومة قد يؤديان إلى الكفر، وهذا أمر مشاهَد وواقع في مجتمعات المسلمين عندما يذهب لبّ الخصم ولا يردعه إيمانه فهو يُجانب الحق والعدل والإنصاف، ولا يقول كلمة الحق في الغضب والرضا، بل يتكلم في خصمه بما يسوغ له من إلحاق التّهم به والكذب والبهتان وقول الزور والفحش والبذاءة وسلاطة اللسان ونشر قالة السوء بين الناس كذبًا وزورًا، وتحريض العامة والتحرش بالمسلم لتدعيم باطله، ليخرج ذلك الباطل أمام الناس لابسًا ثوب الحق. ومِن جهل أو تجاهل الظالم لنفسه وغيره استطالته في عرض أخيه المسلم، وتدبير المكائد، ونصب شباك الباطل في الخفاء، وما يبيّته ويضمره هو وأهل الباطل الذين يدفعونه إلى الشر دفعًا ليكون هو المنتصر، وليظهر أمام الناس بأنه صاحب الحق، ولو أدى ذلك إلى ارتكاب ما حرم الله. كل ذلك جعله يقدم على هذه الأفعال المشينة لما غاب عنه الخوف من الله ومن أليم عقابه، وما علم أنه وأعوانه الخاسرون في الدنيا والآخرة، وأن الله لهم بالمرصاد، هذا شأن من يبيّت سوءًا، ويضمر عداوة، ويحمل بين جنبيه قلبًا أسود لاختلال إيمانه وضعف عقيدته وقلة حظه من الفقه في دينه. وهذه العلاقة والصفة عدها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من علامات النفاق حين عدّد صفات المنافق فقال: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (رواه البخاري). «وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ» أَيْ مَال عَنْ الْحَقّ، وَقَالَ الْبَاطِل وَالْكَذِب. أما المؤمن الحق فهو على العكس من ذلك؛ لا يحمل الغل والحقد والبغضاء لسلامة صدره من ذلك، قلبه أبيض ناصع، لا يبيت وفي قلبه على مسلم شيء مما يجده الأعداء محترقًا متغلغلًا في سويداء قلوبهم، لا يطيش به عقله، ولا يخرج عن العدل

وقول الحق قدر أنملة، منصف فيما يقول ويدلي به، سواء كان الخصم غائبًا أو حاضرًا، يخشى الله في سره وعلنه، لا يهمه أمر البشر؛ لأن إيمانه وخوفه من الله يردعه عن الوقوع فيما حرم الله، فهو ينتصب للدفاع عن نفسه ودفع الظلم عنه بالكلمة الصادقة والقول الحق العدل السديد. وما المرءُ إلا بإخوانِه كما يَقبِضُ الكفُّ بالمعصمِ ولا خيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خيرَ في الساعدِ الأجْذَمِ • الإنسان لو حلف على ما فيه إفساد ذات البين فعليه أن يُكَفّر عن يمينه ويأت الذي هو خير: قال تعالى: {ولا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 224) المعنى: لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (النور: 22). قالت عائشة - رضي الله عنها - ـ في أثناء حديثها عن حادثة الإفك ـ: « ... فَأَنْزَلَ اللهُ - عز وجل - {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسِبُوهُ} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه - ـ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ ـ: «وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ». فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «بَلَى وَاللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي»، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا» (رواه البخاري). فالاستمرار على اليمين آثَم (أي أكثر إثمًا) لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما روى البخاري عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «وَاللهِ لَأَنْ يَلِجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللهِ

مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ». «وَاللهِ لَأَنْ يَلِجَّ» مِنْ اللَّجَاجِ وَهُوَ أَنْ يَتَمَادَى فِي الْأَمْر وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ، (آثَم) أَيْ أَشَدُّ إِثْمًا. ومَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا تَتَعَلَّق بِأَهْلِهِ بِحَيْثُ يَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ حِنْثِهِ فِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ فَيَفْعَلَ ذَلِكَ الشَّيْء وَيُكَفِّرَ عَنْ يَمِينه، فَإِنْ قَالَ لَا أَحْنَثُ بَلْ أَتَوَرَّعُ عَنْ اِرْتِكَاب الْحِنْث خَشْيَةَ الْإِثْم فَهُوَ مُخْطِئٌ بِهَذَا الْقَوْل بَلْ اِسْتِمْرَاره عَلَى عَدَم الْحِنْث وَإِقَامَة الضَّرَر لِأَهْلِهِ أَكْثَر إِثْمًا مِنْ الْحِنْث، وَلَا بُدّ مِنْ تَنْزِيله عَلَى مَا إِذَا كَانَ الْحِنْث لَا مَعْصِيَة فِيهِ. والْمُرَاد أَنَّ الرَّجُل إِذَا حَلَفَ عَلَى شَيْء يَتَعَلَّق بِأَهْلِهِ وَأَصَرَّ عَلَيْهِ كَانَ أَدْخَلَ فِي الْوِزْرِ وَأَفْضَى إِلَى الْإِثْم مِنْ الْحِنْث؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ اللهُ عُرْضَة لِيَمِينِهِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ. وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله: {ولا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأيْمَانِكُمْ} قال: لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ولكن كفر عن يمينك واصنع الخير. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أَعْتَمَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَ الصِّبْيَةَ قَدْ نَامُوا فَأَتَاهُ أَهْلُهُ بِطَعَامِهِ فَحَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ أَجْلِ صِبْيَتِهِ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَأَكَلَ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِهَا وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» (رواه مسلم) (أَعْتَمَ: تأخر). • فضّ الخصومة بين المتنازعين المتداينين: عن عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ فَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ: «يَا كَعْبُ»، فَقَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه. فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ فَقَالَ كَعْب: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُمْ فَاقْضِه». (رواه البخاري ومسلم). معنى تقاضاه طالبه به وأراد قضاءه، سِجْفَ: ستر، والمراد بالشطر النصف. ... وقوله: «قم» خطاب لابن أبي حدرد، وفيه إشارة إلى أنه لا يجتمع الوضيعة والتأجيل. وفي هذا الحديث جواز المطالبة بالدين في المسجد والشفاعة إلى صاحب الحق والإصلاح بين الخصوم وحسن التوسط بينهم وقبول الشفاعة في غير معصية. وعن عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يَقُول: «وَاللهِ لا أَفْعَلُ»، فَخَرَجَ عَلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَقَالَ أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ»، فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ». (رواه البخاري ومسلم). (يَسْتَوْضِع الْآخِر وَيَسْتَرْفِقهُ) أَيْ يَطْلُب مِنْهُ أَنْ يَضَع عَنْهُ بَعْض الدَّيْن، وَيَرْفُق بِهِ فِي الِاسْتِيفَاء وَالْمُطَالَبَة. وَفِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْس بِمِثْلِ هَذَا، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْتَهِي إِلَى الْإلْحَاح وَإِهَانَة النَّفْس أَوْ الْإِيذَاء وَنَحْو ذَلِكَ إِلَّا مِنْ ضَرُورَة. والْمُتَأَلِّي: الْحَالِف وَفِي هَذَا كَرَاهَة الْحَلِف عَلَى تَرْك الْخَيْر، وَإِنْكَار ذَلِكَ، وَأَنَّهُ يُسْتَحَبّ لِمَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَل خَيْرًا أَنْ يَحْنَث فَيُكَفِّر عَنْ يَمِينه. وَفِيهِ الشَّفَاعَة إِلَى أَصْحَاب الْحُقُوق، وَقَبُول الشَّفَاعَة فِي الْخَيْر. • اقتراح ما فيه مصلحة الطّرفين: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ قَالَ أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا». (رواه البخاري). العقار المراد به هنا الدار (ألكما ولد)؟ المعنى ألكل منكما ولد؟ وفي الحديث: فضل الإصلاح بين المتنازعين.

18 - الإصلاح بتن الناس وآداب المصلح

18 - الإصلاح بتن الناس وآداب المصلح • التدخل الحكيم من أهل الزوجين وذِكر ما يدل على التعامل بحكمة مع الخلافات الزوجية وغيرها من الخلافات بين الناس: ومن أنواع الإصلاح الإصلاح بين الزوجين المختلفين؛ لأن الإصلاح بين الزوجين تبنى عليه البيوت، وتترابط به الأسر التي هي أسس المجتمعات البشرية، وفساد ما بين الزوجين يترتب عليه فساد البيوت وتفكك الأسر وتشتتها، قال تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (النساء:128)، وقال تعالى: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء:129). وفي أي خصومة بين الزوجين ينبغي أن لا تخرج المرأة من بيت زوجها لئلا يدخل شياطين الإنس والجن ويفسدون العلاقة بين الزوجين بإلقاء العداوة بينهما بما يزينونه من الباطل من القول لكل منهما لكي يفرقوا بينهما، والإفساد بين الزوجين أو المتخاصمين هو شأن شياطين الإنس والجن في كل زمان ومكان، وذلك بالإيحاء بزخرف القول غرورًا. ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيت الزوجية، ولا أن يُخرجها زوجها عندما يطلقها الطلقة الأولى أو الثانية؛ لئلا تتسع الشُّقّة والخلاف بينهما، ولئلا يجد المغرضون والمفسدون مدخلًا لإفساد العلاقة الزوجية بينهما، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا يحبانه ويرتاحان له بدخولهما وخروجهما ولقائهما ببعض خلال العدة، فيرجع إليها ويراجعها، هذا إذا كان في الطلاق فما بالنا في غيره من الأمور الأخرى التي لا يخلو منها بيت من البيوت؟! وهذا أمر يغفل عنه كثير من المسلمين، فيقع الشقاق والخلافات والخصومات، وهذا ما يسعى إليه الشيطان وجنوده كل ليلة وهو على عرشه في البحر، حيث ينتشرون

للفتنة بين الناس، ويكون أقربهم وأحبهم إليه من سعى بالتحريش بين المرء وزوجه حتى يقع الطلاق والفراق بين الزوجين. فعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: «فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا» فَيَقُولُ: «مَا صَنَعْتَ شَيْئًا». قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: «مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ». قَالَ: «فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ». قَالَ الْأَعْمَشُ: «أُرَاهُ قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ» (رواه مسلم). قَوْله: (فَيُدْنِيه مِنْهُ وَيَقُول: نِعْمَ أَنْتَ) هُوَ بِكَسْرِ النُّون وَإِسْكَان الْعَيْن وَهِيَ نِعْمَ الْمَوْضُوعَة لِلْمَدْحِ، فَيَمْدَحهُ لِإِعْجَابِهِ بِصُنْعِهِ، وَبُلُوغه الْغَايَة الَّتِي أَرَادَهَا. قَوْله: (فَيَلْتَزِمهُ) أَيْ: يَضُمّهُ إِلَى نَفْسه وَيُعَانِقهُ. • ولْنتأمل هذا الموقف: فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَيْتَ فَاطِمَةَ فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا - رضي الله عنه - فِي الْبَيْتِ فَقَالَ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّك؟ ِ قَالَت: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي. فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لإِنْسَان: انْظُرْ أَيْنَ هُوَ فَجَاءَ فَقَال: يَا رَسُولَ اللهِ هُوَ فِي الْمَسْجِدِ رَاقِدٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ وَأَصَابَهُ تُرَابٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَمْسَحُهُ عَنْهُ وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ. قُمْ أَبَا تُرَابٍ». (رواه البخاري ومسلم). (فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي: مِنْ الْقَيْلُولَة، وَهُوَ نَوْم نِصْف النَّهَار). قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّك؟ ِ» فيه إطلاق ابن العم على أقارب الأب لأنه ابن عم أبيها لا ابن عمها وفيه إرشادها إلى أن تخاطبه بذلك لما فيه من الاستعطاف بذكر القرابة وكأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - فهم ما وقع بينهما فأراد استعطافها عليه بذكر القرابة القريبة التي بينهما.

وفي هذا الحديث: أن أهل الفضل قد يقع بين الكبير منهم وبين زوجته ما طبع عليه البشر من الغضب وقد يدعوه ذلك إلى الخروج من بيته ولا يعاب عليه. ويحتمل أن يكون سبب خروج عليٍّ - رضي الله عنه - خشية أن يبدو منه في حالة الغضب ما لا يليق بجناب فاطمة - رضي الله عنها -، فحسم مادة الكلام بذلك إلى أن تسكن فورة الغضب من كل منهما. وفيه كرم خلق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأنه توجه نحو عليٍّ سدد خطاكم ليترضاه ومسح التراب عن ظهره ليبسطه وداعبه بالكنية المذكورة المأخوذة من حالته ولم يعاتبه على مغاضبته لابنته مع رفيع منزلتها عنده - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فيؤخذ منه استحباب الرفق بالأصهار وترك معاتبتهم إبقاء لمودتهم لأن العتاب إنما يخشى ممن يخشى منه الحقد لا ممن هو منزه عن ذلك. • التحكيم بين الزوجين من أجل الإصلاح: والصلح بين الزوجين المتخاصمين من أعظم أنواع الصلح؛ فإن الأسر تقوم على المحبة والألفة وتدوم بدوامها، فإذا انتهت المحبة والألفة وحل الشقاق، صار الفراق، ولابد للمصلحين من القيام بواجبهم تجاه الأسر المتفككة والسعي في الإصلاح بين الأزواج. وقد قال الله - عز وجل - عند حصول الشقاق: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} (النساء:35).إذا كانت النية طيبة جاءت النتيجة طيبة: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} (النساء:35). فماذا يفعل الحكمان؟ يقوم كل واحدٍ منهما بالالتقاء بوكيله أو مندوبه الذي انتدبه، أو طرفه الذي ينوب عنه ـ وإذا قلنا: إنه حاكم، فإن كلام الحكمين معتمد ـ ويسمع منه سبب الشقاق والخلاف، ثم يجتمع الحكمان فيعتمدان أمورًا، ويتوصلان إلى صاحب الخطأ، من هو الطرف المخطئ لأجل وعظه ونصحه، أو وعظ الطرفين إذا كان كلاهما مخطئ، والسعي في تقريب وجهات النظر.

ولذلك فإن من الحكمة أن يذكّر الحكمان الزوج بوصية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنساء، وبقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الوصية بالزوجة: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي» (صحيح رواه الترمذي وابن ماجه). ويقولان له: إن عليك يا أيها الزوج أن تعامل زوجتك بالفضل لا بالعدل؛ الواحدة بواحدة، وإذا فعلت ترد عليها، وإنما تتعامل معها بالفضل وبالمسامحة وبالزيادة منك والتغاضي، لأن أهلها استودعوها عندك، وائتمنوك عليها، ووثقوا أنك لن تسبب لهم المتاعب بسببها، وأنها أم أولادك، أو أنها ستكون كذلك مستقبلًا، والولد الصالح مما ينتفع به أبوه في الحياة وبالدعاء له بعد الممات. ويذكرونه بأن الزوجة كالأسيرة بيد زوجها، وليس من الإسلام ولا من المروءة ولا من الشجاعة التي جاء بها الإسلام أن يسيء المسلم إلى أسيرته، أو أسيره، فكيف إذا كانت الأسيرة الزوجة؟ وأن الزوج الكريم هو الذي لا يستغل قوته وبطشه ولا يتعسف باستعمال سلطته على زوجته على نحوٍ يلحق بها الضرر. فهذه المعاني إذا قدمها الحكمان إلى الزوج بأسلوبٍ لطيف وقولٍ لين، فالغالب أنها ستؤثر في نفس الزوج، وسيقلع عما أدى إلى الشقاق. وكذلك ينبغي للحكم من أهل الزوجة أن يكلم الزوجة بمعاني الإسلام، ويذكرها بأحكامه المتعلقة بالزوجة في علاقتها بزوجها، وأن يذكرها بعظيم حق الزوج عليها، وأن من حسن معاشرتها له بالمعروف أن تُسمعه الكلمة الطيبة اللينة، وأن تسارع إلى طاعته فيما أوجبه الشرع عليها من طاعته، وفيما يأمرها به زوجها من المباحات، وألا تثقل عليه بطلباتها الكثيرة، وأن تتحمل عبوسه وصدوده وإساءته وأن تقابل ذلك بابتسامتها وإحسانها وخدمتها. فإن الزوج إذا رأى ذلك منها، فسرعان ما يزول عنه العبوس والصدود ويكف عن الإساءة، وعليها ألا تستقصي في طلب الحقوق، وإذا أحست بكراهتها له، فلتطرد

هذا الإحساس، ولتذكر نفسها بأنه قد يجعل الله لها فيما تكرهه الخير الكثير، فيرزقها الله منه ولدًا تقر به عينها، ويزول عن قلبها ما تحسه من كراهة لزوجها. فتذكير الطرفين بحق كل واحدٍ منهما على الآخر وبالمعاشرة بالمعروف التي أمر الله بها، مما يجعل أمرهما لينًا سهلًا، والصلح بينهما وشيكًا. • الإصلاح بين الجماعات والقبائل: ومن أنواع الإصلاح بين الناس الإصلاح بين الطوائف المقتتلة من المسلمين صغرت أم كبرت في داخل الدولة الواحدة أو على مستوى الدول، واجب المسلمين السعي للإصلاح بين المتقاتلين من أجل القضاء على أسباب الفتنة بالعدل الذي يعطي كل ذي حق حقه؛ لكي يستتبّ الأمن، وتُحقن الدماء، ويؤخذ على يد المعتدي، ويكف عن الظلم والتعدي على غيره فيما بعد، ويتم إنصاف المُعْتَدَى عليه، ولئلا تضعف شوكة المسلمين أمام أعدائهم، وعندها يتربصون بهم الدوائر. قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الحجرات:9، 10). وعن أَنَس - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ؟»، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَرَكِبَ حِمَارًا فَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «إِلَيْكَ عَنِّي وَاللهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِك».َ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الأنْصَارِ مِنْهُم: وَاللهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَطْيَبُ رِيحًا مِنْك. فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَشَتَمَه، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأيْدِي وَالنِّعَالِ فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}» (رواه البخاري ومسلم). سَبِخَةٌ أَيْ ذَات سِبَاخ، وَهِيَ الْأَرْض الَّتِي لَا تُنْبِت.

وَفِي الْحَدِيث بَيَان مَا كَانَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَيْهِ مِنْ الصَّفْح وَالْحِلْم وَالصَّبْر عَلَى الْأَذَى فِي اللهُ وَالدُّعَاء إِلَى اللهُ وَتَأْلِيف الْقُلُوب عَلَى ذَلِكَ. وَفِيهِ مَا كَانَ الصَّحَابَة عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيم رَسُول اللهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَالْأَدَب مِنْهُ وَالْمَحَبَّة الشَّدِيدَة. وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ». (رواه البخاري). وعن أَبَي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (رواه البخاري). سَلَّمَ الْحَسَن - رضي الله عنه - لِمُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - الْأَمْر وَبَايَعَهُ عَلَى إِقَامَة كِتَاب اللهُ وَسُنَّة نَبِيّه، وَدَخَلَ مُعَاوِيَة الْكُوفَة وَبَايَعَهُ النَّاس فَسُمِّيَتْ سَنَة الْجَمَاعَة لِاجْتِمَاعِ النَّاس وَانْقِطَاع الْحَرْب. العيدُ يومَ نعودُ قلبًا واحدًا والحب يَعْمُرُه معَ التوحيدِ حُبٌ لغيرِ مصالحٍ تُرجَى به حبٌ لوجهِ إلهِنا المعبودِ • جواز الكذب للإصلاح: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ الْكَذابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا» (رواه البخاري ومسلم). نَمَيْت الحديث إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نمَّيته بالتشديد. قال العلماء: المراد هنا أنه يخبر بما علمه من الخير ويسكت عما علمه من الشر ولا يكون ذلك كذبًا؛ لأن الكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به وهذا ساكت ولا ينسب لساكت قول.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا». (رواه مسلم). قال بعض العلماء: لَا يَجُوز الْكَذِب فِي شَيْء أَصْلًا. قَالُوا: وَمَا جَاءَ مِنْ الْإِبَاحَة فِي هَذَا الْمُرَاد بِهِ التَّوْرِيَة، وَاسْتِعْمَال الْمَعَارِيض، لَا صَرِيح الْكَذِب، مِثْل أَنْ يَعِد زَوْجَته أَنْ يُحْسِن إِلَيْهَا وَيَكْسُوهَا كَذَا، وَيَنْوِي إِنْ قَدَّرَ اللهُ ذَلِكَ. وَحَاصِله أَنْ يَأْتِي بِكَلِمَاتٍ مُحْتَمَلَة، يَفْهَم الْمُخَاطَب مِنْهَا مَا يُطَيِّب قَلْبه. وَإِذَا سَعَى فِي الْإِصْلَاح نَقَلَ عَنْ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَلَامًا جَمِيلًا، وَمِنْ هَؤُلَاءِ إِلَى هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ وَوَرَّى، وَكَذَا فِي الْحَرْب بِأَنْ يَقُول لِعَدُوِّهِ: مَاتَ إِمَامكُمْ الْأَعْظَم، وَيَنْوِي إِمَامهمْ فِي الْأَزْمَان الْمَاضِيَة: أَوْ غَدًا يَأْتِينَا مَدَد أَيْ طَعَام وَنَحْوه. هَذَا مِنْ الْمَعَارِيض الْمُبَاحَة. وَأَمَّا كَذِبه لِزَوْجَتِهِ وَكَذِبهَا لَهُ فَالْمُرَاد بِهِ فِي إِظْهَار الْوُدّ وَالْوَعْد بِمَا لَا يَلْزَم وَنَحْو ذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُخَادَعَة فِي مَنْع مَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا، أَوْ أَخْذ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ لَهَا فَهُوَ حَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وذهبت طائفة من العلماء إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال وقالوا: الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة أو ما ليس فيه مصلحة. واتفق العلماء على جواز الكذب عند الاضطرار كما لو قصد ظالم قتل رجل وهو مختَفٍ عنده فله أن ينفيَ كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم. • ثمرات الصلح بين المسلمين: إن فوائد الصلح كثيرة، فإنه يثمر إحلال الألفة مكان الفرقة، واستئصال داء النزاع قبل أن يستفحل، وحقن الدماء التي تراق، وتوفير الأموال التي تنفق للمحامين بالحق وبالباطل، والحماية من شهادة الزور، وتجنب المشاجرات والاعتداءات على الحقوق والنفوس، بل إن الشريعة جعلت للمُصلِح حقًا من الزكاة أو من بيت المال،

لأداء ما تحمله من الديون بسبب الإصلاح، وإن كان قادرًا على أدائها من ماله، فقال الله تعالى: {وَالْغَارِمِينَ} (التوبة:60) وهم من تحملوا الديات لأجل الإصلاح بين الناس، وكف بعضهم عن قتل بعض. • المصلح بين الناس .. وآدابه: إذا كان المتدخل في الخصومة غير عاقل لا يحسن التصرف، فإن إفساده أكثر من إصلاحه، وهذا أمرٌ مشاهد، فإن عددًا من الناس يتدخل في القضية لأجل الإصلاح ـ بزعمه ـ، فإذا به يباعد الشُقّة، ويتسبب في مزيدٍ من الفرقة، ويحصل الكثير من الخلاف بعد أن كان شيئًا محدودًا، فإذا به يستشري وينتشر. فنذكّر المصلحين الذين يريدون التدخل للإصلاح: أولًا: أن يبتغوا وجه الله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا} (النساء:35) أي: إذا كانت النية صافية ومُخْلَصَةً لله كانت النتيجة طيبة {يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا} (النساء:35). ثانيًا: الحكمة في التعامل في الأمور، فإن في كثيرٍ من الأشياء بين المتخاصمين حساسيات. ثالثًا: التكتم: النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، «اسْتَعِينُوا على إنْجَاحِ الحَوَائِجِ بالكِتْمَانِ» (صحيح رواه البيهقي والطبراني وغيرهما) فلكي تنجح القضية، لابد من التكتم وعدم نشر التفاصيل بين الناس. رابعًا: أن يذكر كل واحد من المتخاصمين بالله - عز وجل -، وبحق الآخر عليه، إن كان أخًا في الله يذكر بحقوق الأخوة، وإن كان زوجًا يذكر بحقوق الزوجة، وإن كانت زوجة تذكر بحقوق الزوج. وكذلك فإنه لا بأس أن تنقل إليه كلمات من الخير على لسان الطرف الآخر، وتكتم عنه أمورًا من الشر جاءت على لسان الطرف الآخر، هذا من الحكمة والسياسة في الإصلاح بين المتخاصمين.

19 - الأمانة

19 - الأمانة • عناية القرآن الكريم ببيان صفات المؤمنين وصفات غيرهم: في كتاب ربِّنا - عز وجل - بيانٌ لأخلاق المؤمنين، بيانٌ لصفاتِهم الحميدة وأخلاقِهم الكريمة، وذاك دعوةٌ للأمّة المؤمنة أن تأخذَ بتلكم الأخلاق وتتَّصف بتلكم الصفات؛ فيذكُر الله أهلَ الإيمان، يذكر أخلاقَهم وأعمالهم، وهو حثٌّ لنا جميعًا على الأخذ بها والعمل بمقتضاها، كما يذكر أخلاقَ المنافقين وصفاتِهم وأخلاقَ الكافرين، ليكونَ المسلم على علمٍ بتلكم الصفات والأخلاق، فيبتعد كلَّ البُعد عنها. • خلق رعاية الأمانة: أيّها المسلم، وأنت تقرأ كتابَ الله تمرُّ بك آية، وهي قول الله جلّ جلاله في صفات المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ} (المؤمنون:8). لقد وصف الله - عز وجل - أهلَ الإيمان بأنّهم راعون لأماناتهم، حافظون لأماناتهم، {وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ}، فهم يرعَون الأمانَة حقَّ الرعاية، ويقومون بمقتضاها حقَّ القيام. • الخيانة من صفات المنافقين: إنّ من خصال المنافق خيانةَ الأمانة، ولذا يقول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (رواه البخاري ومسلم)، فلمّا فقد الإيمانَ كان خائنًا لأمانته فيما بينَه وبين الله، وفيما بينه وبين عباد الله. كم خان المنافقون أماناتِهم، وكم شمَتوا بالمسلمين، وكم أرجفوا برسول الله وصحابتِه الكرام، وكم قالوا وافترَوا، ولكنّ الله لهم بالمرصاد؛ لأنّهم أظهَروا الإيمانَ وأبطنوا الكفرَ المحض، فالخيانة من أخلاقهم، أمّا المؤمنُ فبعكس ذلكَ، الأمانة خلقُه، والخيانة بعيدٌ عنها كلَّ البعد، فلنتّق الله فيما اؤتمنَّا عليه. • خطر الأمانة وفضل حفظها:

قال - عز وجل -: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء:58) والآية في كل أمانة فعلى كل مؤتمن على شىء أن يحفظه ويرعاه حتى يؤديه إلى صاحبه. وقال - عز وجل -: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب:73). يعظم - عز وجل - شأن الأمانة، التي ائتمن الله عليها المكلفين، والتي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية، كحال العلانية، وأنه - عز وجل - عرضها على المخلوقات العظيمة، السماوات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، وأنك إن قمتِ بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلك الثواب، وإن لم تقومي بها، ولم تؤديها فعليكِ العقاب. {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أي: خوفًا أن لا يقُمْنَ بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعرضها الله على الإنسان، على ذلك الشرط المذكور، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل فانقسم الناس ـ بحسب قيامهم بها وعدمه ـ إلى ثلاثة أقسام: منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون، قائمون بها ظاهرًا وباطنًا، فذكر الله تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال: {لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ». (صحيح رواه الإمام أحمد وابن حبان).

«لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ» أي لا إيمان كامل؛ فالأمانة لب الإيمان، وهي منه بمنزلة القلب من البدن، والأمانة الجوارح السبع العين والسمع واللسان واليد والرجل والبطن والفرج فمن ضيع جزءا منها سقم إيمانه وضعف بقدره. ومعنى (وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ) أن من جرى بينه وبين أحد عهد ثم غدر لغير عذر شرعي فدينه ناقص. وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلَا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنْ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُهْرٍ» (صحيح رواه أحمد). وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة، قال: يؤتى العبد يوم القيامة وإن قتل في سبيل الله فيقال: أدِّ أمانتك، فيقول: أيْ رب، كيف وقد ذهبَت الدنيا؟ فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطَلق به إلى الهاوية وتُمَثَّل له أمانته كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها فيهوي في أثرها حتى يدركها فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج زَلَّتْ عن منكبيه فهو يهوي في أثرها أبد الآبدين، ثم قال: الصلاة أمانة والوضوء أمانة والوزن أمانة والكيل أمانة وأشياء عددها وأشد ذلك الودائع». قال زاذان: فأتيت البراء بن عازب - رضي الله عنه - فقلت: ألا ترى إلى ما قال ابن مسعود - رضي الله عنه - قال كذا؟»، قال: صدق، أما سمعت الله يقول: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء:58)» (رواه أحمد والبيهقي موقوفًا، وذكر عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب الزهد أنه سأل أباه عنه فقال إسناده جيد، وحسنه الألباني). أيّها المسلم، الأمانةُ التي كُلِّفتَ بها والتي طُلِبَ منك رعايتُها أمانةٌ عامّة فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين عباد الله، أمانةٌ شاملةٌ لخيرَي الدنيا

والآخرة، شاملة لمصالح الدين والدنيا معًا، فالمؤمن في هذه الحياة يحمِل أعباءَ هذه الأمانة، ويرعاها حقَّ الرّعاية، ويقوم بها خيرَ قيام، طاعةً لله وتقرّبًا إلى الله. أدِّ الأمانةَ، والخيانةَ فاجتنبْ ... واعدِلْ ولا تظلمْ يطيبُ المكسبُ واحذَرْ من المظلومِ سهمًا صائبًا ... واعلمْ بأنَّ دعاءَه لا يُحْجَبُ • أداء أمانة التوحيد: أيّها المسلم، العباداتُ الشرعيّة أمانةٌ عندك بأن تؤدِّيها إخلاصًا لله، وموافقةً لشرع الله، لا تبتدِعُ فيها، لا تزيدُ فيها، ولا تنقصُ منها، وإنما تؤدّيها على وفقِِ ما شرع الله ورسوله، فأنت مخلِصٌ لله في عبادتك، في توحيدِك لله مخلصٌ في ذلك، معتقد حقًا أنّ الله المعبودُ بحقّ، وأنّ ما سواه معبودٌ بالباطل، معتقدٌ اتباعَ سنّة محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنّه عبد الله ورسوله الذي أرسله الله ليقيمَ حجَّته على العباد، وأنَّ الواجبَ اتباعُه والعمل بشريعته. فأنت مؤتَمَنٌ على هذا الأصل العظيم، فأنت تؤمِن بذلك إيمانًا ظاهرًا وباطنًا، تنطِق بكلمةِ التوحيد «لا إله إلا الله»، تنطق بها بلسانك، معتقِدًا معناها بقلبك، عاملًا بمقتضى ما دلَّت عليه، تنطِق شهادةَ أنَّ محمدًا رسول الله مخلِصًا لله في ذلك، قولًا وعملًا واعتقادًا، تعتقِد أنّه رسول الله حقًا، فتتبع سنّتَه، وتسير على نهجه ظاهرًا وباطنًا، تؤدِّي عبادةَ الله من صلاةٍ وزكاةٍ وصوم وحجٍّ وبرّ وصِلة، وكلّ الواجبات الشرعيّة تؤدّيها بإخلاصٍ لله، واتّباع لشريعة محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنّ الله لا يقبَل العملَ إلا إذا كان خالصًا له وكان على وفق ما شرع الله، {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} (الكهف:110). أيّها المسلم، ففيما بينك وبين الله في عبادتِه الإخلاصُ والاتّباع. • أداء الأمانة في العبادات الشرعية: إنّك تتوضّأ للصلاة، والوضوء الذي هو شرطٌ لصحّة الصلاة أنتَ مؤتمنٌ عليه في إسباغ الوضوء وإتمامِه وعدمِ الإخلال بشيء منه، رأى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:بعضَ أصحابه

وقد تركُوا غسلَ بعض القدم، فنادى فيهم: «وَيْلٌٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم). (وَالْعَقِب: مُؤَخَّر الْقَدَم)، ومَعْنَى الحديث: وَيْل لِأَصْحَابِ الْأَعْقَاب الْمُقَصِّرِينَ فِي غَسْلهَا. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أسْبِغِ الوُضُوءَ، وخَلِّلْ بَيْنَ الأصَابِعْ، وبَالِغْ فِي الاسْتِنْشَاقِ إلَّا أنْ تَكُونَ صَائِمًا» (صحيح رواه أبو داود والترمذي). فالوضوء أمانةٌ تؤدِّيه كما أمرَ الله صادقًا مخلصًا. والغسل من الجنابة قد ورد أنَّه أداء الأمانة؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ» قَالُوا: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟» قَالَ: «الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ». (حسن، رواه أبو داود). تؤدّي الصلواتِ الخمس بأمانة، بأن تؤدِّيَها في الوقت الذي عيَّنه الله لأدائها، تؤدّيها في وقتِها، فأنت مؤتمنٌ على وقتِها، فلا تؤخِّرها عن وقتها بلا عذر شرعيّ، فإنّ الله وقَّتها بأوقات، طالبنا بأن نوقعَها فيها، {إِنَّ الصَّلَو?ةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَـ?بًا مَّوْقُوتًا} (النساء:103).تؤدّيها بأمانة، فلا تخِلُّ بأركانها ولا بواجباتها ولا بشيء مطلوبٍ فيها، ولذا لمّا رأى النبيّ المسيءَ في صلاته الذي لا يُتمّ الركوعَ والسجود قال له: «صَلِّ فإِنّكَ لَمْ تُصَلِِّّ»، فلمّا قال الرّجل ثلاثَ مرّات: «يا رسول الله، والذي بعثك بالحقّ نبيًّا ما أحسنُ غيرَ هذا فعلِّمني»، فعلّمه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صفةَ أداء الصلاة، وأمره بالطّمأنينة في كلِّ أركانها وواجباتها. (رواه البخاري ومسلم). أيّها المسلم، وأنت مؤتمَنٌ على زكاةِ مالك، فالله سيحاسبك على ذلك، فاتّق الله في أدائها وإخراجها على وفق ما شرع الله، على وفق ما أمرك الله به، وأحصِها وأخرِج

زكاتها طيِّبة بذلك نفسُك، فإنّك أمين، والله يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14). أيّها المسلم، والصومُ أمانةٌ والحجّ أمانة، كلّ هذه الأركان الإسلاميّة أمانةٌ عند المسلم، يؤدّيها كما شرع الله. البرّ والصّلة والواجبات الشرعيّة كلّها يؤدّيها المسلم؛ لأنّه مؤتمنٌ على أدائها، فلا بدّ من الأداء. أيّها المسلم، واعلم أنّ الله مطَّلع عليك وعالم بسرِّك وعلانيتك، {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْو?هُم بَلَى? وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} (الزخرف:80). تتركُ المحرّمَات طاعةً لله في موضع لا يراك إلا الله، إنّما ذلك خشية من الله، {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (الملك:13). • أداء الأمانة فيما بينك وبين الخلق: وإنَّ أمانتك فيما بينك وبين الخلق أن تعاملُهم بما تحبّ أن يعاملوكَ به، تعاملهم بالصِّدق والأمانة كما تحبُّ أن يعاملوك به، فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يؤمِنُ أحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ». (رواه البخاري ومسلم)، فلا تكن غاشًا لهم، ولا خائنًا لهم، ولا ساعيًا في المكائد لهم، وإنما تعاملهم بمثل ما تحبُّ أن يعاملوك به، فتلك الأمانة في التعامل مع العِباد. أيّها المسلم، إنّك مؤتمنٌ في أحوالك كلِّها، ففي البَيع والشّراء مؤتمنٌ على بيعك، بأن يكون بيعك بيعًا صادقًا، لا غشَّ ولا خيانة، لا تدليسَ ولا خِداع، ولكن بيعُ المؤمن الصادِق، يعرض سلعتَه فلا كذب ولا أيْمان فاجِرة يروّج بها سلعتَه، ولكن الصدق والبرّ خلقُ المؤمن. وأنت ـ أيّها المشتري ـ أمين أيضًا في إعطاء الناس حقوقَهم وعدم المماطلة وعدم الكذب والغشّ والخداع. وأنت ـ أيّها المؤمن ـ مؤتمنٌ فيما تعامِل به النّاس، فيما اؤتمِنتَ عليه، فأنت ـ أيها المستأجِر للدّور ـ مؤتَمن على ما استأجرتَه بأن تسلِّم ما استأجرتَه من غير إخلال ولا

إلحاق ضرَر بما استلمتَه من ذلك العقار، استأجرتَ مسكنا تسكنه فأدِّ أمانتَه بأن تسلِّمه لمؤجِّره من غير نقصٍ لحِق به، من غير إخلال بذلك. • أداء أمانة العمل والوظيفة: أيّها المسلم، أنتَ مؤتمنٌ على ما وُكِل إليك من أعمال، فاحرص على أكل الحلال وأداء العمل الذي أخذتَ الأجر عليه كما يجب وهذا من أسباب البركة. يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ» (رواه الترمذي وصححه الألباني). يعنى أن الذي يأخذها بغير حقها لن يبارك له فيها، سواءً كانت وظيفة أو صنعة أو غيرها. وقَوْلُهُ: (الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) لَيْسَ هُوَ صِفَةَ الْمَالِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّشْبِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ الْمَالُ كَالْبَقْلَةِ الْخَضْرَاءِ الْحُلْوَةِ. • من الأمانة أن يحافظ المسلم على زوجته ويمنعها من الاختلاط بالرجال غير المحارم: أيّها المسلم، أنت مُؤتمنٌ على زوجتِك من حيث النصيحة، من حيث التوجيهِ والقيام بالواجب وإعطائها حقَّها المشروع وعدم الإضرار والمماطلة بذلك، كما أنتَ مؤتمنٌ على أخلاقِها وأعمالِها لأنّك راعٍ والله سائلك عن رعيّتك، كما أنَّ المرأةَ المؤمنةَ مؤتمنةٌ على بيتها ومال زوجها وفراش زوجها، فتؤدِّي أمانتَها على الوجه المرضيّ. فقد أمر الله زوجات النبي بالحجاب فقال تعالى آمرًا أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذَالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}. (الأحزاب:53). وهذه الآية ليست خاصة بأزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإن تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله تعالى: {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنّ} قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم، إذ لم يقُلْ أحدٌ

من جميع المسلمين، إن غير أزواج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن. ولا يستطيع أحد اليوم أن يزعم أن قلبه أو قلب غيره أطهر من قلوب الصحابة - رضي الله عنهم -، ولا أن قلب امرأته أو قلب غيرها أطهر من قلوب نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ورضي الله عنهن. وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟»، قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» (رواه البخاري ومسلم) قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: «وَتَقْدِير الْكَلَام اِتَّقُوا أَنْفُسكُمْ أَنْ تَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاء وَالنِّسَاء أَنْ يَدْخُلْنَ عَلَيْكُمْ ... وَتَضَمَّنَ مَنْعَ الدُّخُول مَنْع الْخَلْوَة بِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى».اهـ. الْحَمو أَخُو الزَّوْج، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِب الزَّوْج: اِبْن الْعَمّ وَنَحْوه. (الْحَمو الْمَوْت) مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَوْف مِنْهُ أَكْثَر مِنْ غَيْره، وَالشَّرّ يُتَوَقَّع مِنْهُ، وَالْفِتْنَة أَكْثَر لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُول إِلَى الْمَرْأَة وَالْخَلْوَة مِنْ غَيْر أَنْ يُنْكِر عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيّ. وَالْمُرَاد بِالْحَمْوِ هُنَا أَقَارِب الزَّوْج غَيْر آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ. فَأَمَّا الْآبَاء وَالْأَبْنَاء فَمَحَارِم لِزَوْجَتِهِ تَجُوز لَهُمْ الْخَلْوَة بِهَا، وَلَا يُوصَفُونَ بِالْمَوْتِ، وَإِنَّمَا الْمُرَاد الْأَخ، وَابْن الْأَخ، وَالْعَمّ، وَابْنه، وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ. وَعَادَة النَّاس الْمُسَاهَلَة فِيهِ، وَيَخْلُو بِامْرَأَةِ أَخِيهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَوْت، وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ. لا تأمنَنَّ على النساءِ ولو أخًا ... ما في الرجالِ علَى النساءِ أمينُ إنّ الأمينَ وإن تحفّظَ جهدَهُ ... لا بد أنْ بنَظْرةٍ سيخُونُ • أداء أمانة الأولاد: أيّها المسلم، أمانتُك تصحبُك أيضًا في أولادك من بنين وبنات، أنت مؤتمنٌ على الأولاد من بنين وبنات، تربيةً وتعليمًا وتوجيهًا وحملًا على الخير وتحذيرًا من أسبابِ

الشّرّ، {ي?أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (التحريم:6)، فإنّك مؤتمَن على أولادك، أن تربِّيَهم التربية الإسلامية، أن تكون قدوةً لهم في الخير وأسوةً لهم في الهدى ليقتدوا بك ويتأسَّوا بك في أعمالِك الطيّبة، فما مِن مولود إلا يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه. أنت مؤتمنٌ عليهم في تأليف قلوبِهم وإصلاح ذاتِ بينهم، فلا تفضِّل أحدًا على أحد، ولا تجعَل لأحدٍ فضلًا على أحَد، بل اتَّق الله واعدِل في أولادك في العطاء والهبات، حتى يكونوا لك قلبًا واحدًا، واحذَر أن توقِد بينهم نارَ العداوة والبغضاء بأن تفضِّل بعضًا على بعض، تُقرِّب ذا وتُقصي ذا، وتترك النّار تشتعل في نفوسهم، فتكون سببًا للقطيعة بينهم والعياذ بالله. أنت مؤتمنٌ فيما توصي به من وصايا، فلا تكُن وصيتُك وصية جَور وظلم، بل تكون وصيةً عادلة، متَّقيًا الله فيها، {إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فاللهُ أَوْلَى? بِهِمَا} (النساء:135)، لا تحابِ ولا تجُر ولا تفضِّل أحدًا بأيّ طريقة سلكتَ، فإنّ الله مطّلع عليك وعالم بسرّك ونجواك. أنت مؤتمَن على البنات فتختار لهنّ مَن فيه خير لهنّ في أمرِ الدين والدنيا، لا تردَّ كُفئًا تقدَّم إليك تعلم خيرَه وصلاحَه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» (حسن رواه ابن ماجه). وكم من معوِّق لزواج الفتيات لمصالحَ يريدها منهم، إمّا اكتسابٌ من راتبهنَ أو طمعًا في خدمتهنَ أو نحو ذلك، ويردّ الكفءَ في الصلاح والدين لمصلحة دنيويّة حقيرة، فتلك خيانة لأمانتِك أيها المسلم. • أمانة الشهادة والولاية: أيّها المسلم، إنَّ الشهادةَ التي تؤدّيها أنت مؤتمن عليها، فتتَّقي الله، وتصدق في شهادتك، وتؤدِّي الشهادةَ على علم وبصيرة، لا على ظنٍّ ومجاملة، قال الله جلّ وعلا

في كتابه العزيز: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (الزخرف:86)، وحذَّرنا من كتمان الشهادة، {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَـ?دَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة:283).فلا تشهَد إلا بما تعلم، ولا تشهَد بلا علم ولا لمجاملة، فإنّ الشهادة أمانة عند الشاهد، أن ينطق بالحقّ لا يخاف في الله لومةَ لائم. • السر أمانة: السرُّ بينك وبين من ائتمنك على سرِّه أمانةٌ فلا تفشِ ذلك، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ» (صحيح رواه أبوداود). «إِذَا حَدَّثَ الرَّجُل»:أَيْ عِنْد أَحَد «بِالْحَدِيثِ»:أَيْ الَّذِي يُرِيد إِخْفَاءَهُ «ثُمَّ اِلْتَفَتَ»:أَيْ يَمِينًا وَشِمَالًا اِحْتِيَاطًا «فَهِيَ»:أَيْ ذَلِكَ الْحَدِيث «أَمَانَة»:أَيْ عِنْد مَنْ حَدَّثَهُ أَيْ حُكْمه حُكْم الْأَمَانَة فَلَا يَجُوز إِضَاعَتهَا بِإِشَاعَتِهَا؛ لِأَنَّ اِلْتِفَاته إِعْلَام لِمَنْ يُحَدِّثهُ أَنَّهُ يَخَاف أَنْ يَسْمَع حَدِيثه أَحَد وَأَنَّهُ قَدْ خَصَّهُ سِرّه، فَكَانَ الِالْتِفَات قَائِمًا مَقَام (اُكْتُمْ هَذَا عَنِّي) أَيْ خُذْهُ عَنِّي وَاكْتُمْهُ وَهُوَ عِنْدك أَمَانَة. وما بين الرّجل وبين امرأتِه فيما يجري بينهما أمانة، حرامٌ عليها أن تفضيَ للناس ما بينها وبين زوجها، أو أن يفضيَ هو للناسَ ما بينه وبين امرأته مِنْ أُمُور الِاسْتِمْتَاع، وَوَصْف تَفَاصِيل ذَلِكَ وَمَا يَجْرِي فِيهِ مِنْ قَوْل أَوْ فِعْل وَنَحْوه؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَةِ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» (رواه مسلم) وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» (رواه مسلم) وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عسَى رَجُلٌ يُحَدِّثُ بِمَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أهْلِهِ، أوْ عَسَى امْرَأةٌ تُحَدِّثُ بِمَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا، فَلَا تَفْعَلُوا؛ فإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانٍ لَقِيَ شَيْطَانَةٍ فِي ظَهْرِ الطَرِيقِ فَغَشِيَهَا وَالنَاسُ يَنْظُرُونَ». (حسن رواه الطبراني). • أمانة الأبوين:

الأبوان أمانة عند الأولاد لا سيّما في كبر سنِّهما وضعفِهما، فالأبناء مسئولون جميعًا عن آبائهم وأمّهاتهم، البرّ والإحسان والقيام بالواجب، فإنّ الأبوين أمانةٌ عند الأبناء؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ» قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم). و (رَغِمَ أَنْفُهُ):ذَلَّ وَقِيلَ: كُرِهَ وَخُزِيَ، وَفِي الحديث الْحَثّ عَلَى بِرّ الْوَالِدَيْنِ، وَعِظَم ثَوَابه. وَمَعْنَاهُ أَنَّ بِرّهمَا عِنْد كِبَرهمَا وَضَعْفهمَا بِالْخِدْمَةِ، أَوْ النَّفَقَة، أَوْ غَيْر ذَلِكَ سَبَب لِدُخُولِ الْجَنَّة، فَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ فَاتَهُ دُخُول الْجَنَّة وَأَرْغَمَ اللهُ أَنْفه. • أمانة التعليم: أيّها المعلّم، إنّك أمين على ما تقول، وعلى ما تلقِي من دروس، وعلى ما توجِّه به النشء، فالمعلم والمعلّمة أمناء على التلاميذ جميعًا بالتّوجيه والقيام بالواجب والدّعوة إلى الخير والطّريق المستقيم، ليكن المعلّم ولتكن المعلّمة كلّ منهما حريصًا على الخير وساعيًا في تثقيف الأمّة وتوجيهها وإبعادها عن كلِّ ما يخالِف شرعَ الله، من غلوّ غالٍ وجفاء جافٍ وإفراط مفرّط وبعدِ من بَعُدَ عن الهدى. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا» (رواه مسلم). • أمانة المال: أيّها المسلم، إنّ نبيّنا - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ» (رواه البخاري)، فجعل - صلى الله عليه وآله وسلم - الأمانة مع القيام بالواجب نوعٌ من الصّدقة وإن كان ذلك عملَه، وتلك وظيفته، لكن لمّا اتقى الله وأدّى الأمانة التي حُمِّلها ودفع ما أُمِر بدفعِه طيّبةً بذلك نفسه صار أحدَ المتصدّقَين، فالحمد لله على فضله.

فاتّق الله فيما اؤتُمنت عليه من قليل أو كثير، اتّق الله في أمورك كلّها، فإنّك حامل لتلك الأمانة، فاسعَ في حفظِها، لتلقى الله وأنت من المحافظين عليها، لتلقى الله وأنت من أهل الأمانة الصّادقة. • أمانة أداء حقوق العمال: أيّها المسلم، إنَّ مِن الأمانة إعطاءَ العمّال حقوقَهم، وعدمَ التلاعب والتهاون بذلك، فالعمّال الأجراء عندك هم (أمانة) تحت يدك، أنت مسؤول عن حقوقهم وواجباتِهم، فإن أخللتَ بشيء أو ماطلت بشيء أو حاولتَ التهرُّب أو النقص أو الإساءة فاعلم أن الله قادر عليك، واتق الله، ولا تبخَس الناسَ أشياءهم، وأعطِ الناسَ حقوقَهم، أعطِ العامل أجرَه، أعطه حقوقه وإيّاك والتهاونَ وعدم المبالاة بحجّة ضعفه وقدرتِك على التهرّب، اتّق الله في نفسك، وأعطِ الناس حقوقهم، فتلك أمانة اللهُ سائلك عنها، {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء:58). قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ». (حسن رواه ابن ماجه). (أَعْطُوا الْأَجِير) أَيْ يَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ فِي إِعْطَاء حَقّه بَعْد الْفَرَاغ مِنْ الْحَاجَة. (قَبْل أَنْ يَجِفَّ عَرَقه) الْحَاصِل بِالِاشْتِغَالِ بِالْحَاجَةِ؛ لأن أجره عمالة جسده وقد عجل منفعته فإذا عجلها استحق التعجيل، ومن شأن الباعة إذا سلموا قبضوا الثمن عند التسليم فهو أحق وأولى؛ إذ كان ثمن مهجته لا ثمن سلعته فيحرم مَطْلُه والتسويف به مع القدرة، فالأمر بإعطائه قبل جفاف عرقه إنما هو كناية عن وجوب المبادرة عقب فراغ العمل إذا طلب وإن لم يعرق، أو عرق وجف. • أمانة حفظ الدِين: إنّ الأمة المسلمة قد كلّفها الله - عز وجل - وشرفها بحفظ هذا الدين، والقيام بواجب هذا الدين، وذلك بتطبيق شرع الله - عز وجل -، والدعوة إلى الله، والنصيحة للأمة والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحقّ أطرًا، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانةٌ في أعناق الأمّة، قال - عز وجل -: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} (آل عمران:110).

وقال - عز وجل -: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْر?ءيلَ عَلَى? لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذ?لِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـ?هَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} (المائدة:78، 79). يا أمَّةَ الإسلامِ إني ناصِحٌ ... أنا لسْتُ بالهَاجِي ولا اللوامِ لكنَّهُ عَتْبُ الغيورِ لدينِه ... يا ليْتَ مِنْ واعٍ لقصدِ مَرامِي يا مالِكي أمرَ العبادِ تذكَّرُوا: ... للهِ نقضُ الحُكمِ والإبرامِ فَسَتُسألونَ عنِ الأمانةِ فاعملُوا ... خيرًا ليومِ تزاحُمِ الأقدامِ فَوَحقِّ مَنْ لَبَّى الحجيجُ ببيْتِهِ ... ما العِزُّ إلا نصرةُ الإسلامِ • إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ»، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ؟». قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ». قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ». (رواه البخاري). (إِذَا وُسِّدَ) أَيْ: أُسْنِدَ. كلّ صاحب وِلايةٍ ما من ولايات الأمّة المسلمة قَلَّت تلك الولاية أو كثُرَت صغُرت أم كبرت، فكلُّ مسؤول مؤتمَنٌ على مسؤوليّته، والله سائله يوم القيامة، {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمَـ?نَـ?تِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بالْعَدْلِ} (النساء:58).وحذَّرنا الله من خيانة الأمانة فقال: {ي?أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـ?نَـ?تِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (الأنفال:27). إذا خانَ الأميرُ وكاتباهُ وقاضِى الأرضِ داهَنَ في القَضاء فويلٌ ثُمَّ وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ لقاضِى الأرضِ مِن قاضِى السماء

20 - السعادة الوهمية

20 - السعادة الوهمية (¬1) • هل السعادة وهم أم حقيقة؟ إن كل إنسان على وجه البسيطة يسعى إلى السعادة. قد يختلف الناس في مذاهبهم، يختلفون في أعراقهم، يختلفون في مشاربهم، بل قد يختلفون في مبادئهم، وغاياتهم، ومقاصدهم، إلا غاية واحدة ربما اتفقوا عليها، من أولهم إلى آخرهم، إنها: طلب السعادة. المؤمن والكافر، البر والفاجر، كل واحد منهم يريد السعادة لو سألته: لِمَ تعمل هذا؟ ولأي شيء تفعل ذاك؟ لقال: أريد السعادة!! سواء أقالها بحروفها أم بمعناها، بمدلولها أم بحقيقتها. وإن كثيرًا من الناس يخطئ طريق السعادة، كل الناس يريدون السعادة، ولكن كثيرا منهم يخطئ هذا الطريق، بل إن القلة القليلة هي التي تسلك سبيل السعادة الحقيقية. • تعريف السعادة: السعادة هي ذلك الشعور المستمر بالغبطة، والطمأنينة، والأرْيَحِيَّة، والبهجة، وهذا الشعور السعيد يأتي نتيجة للإحساس الدائم بخيرية الذات، وخيرية الحياة، وخيرية المصير. إن هناك سعادة وهمية، وسعادة حقيقية. • أوهام السعادة: السعادة في المال: هل السعادة في تكديس المال؟ وفي جمع الثروات، وبناء العقارات والقصور؟ هل هذه هي السعادة؟ كثير من الناس يتوهم ذلك، فهذا سعيد لأنه يملك الأرصدة في البنوك. ¬

_ (¬1) هذه الخطبة والتي بعدها مقتبسة بتصرف من رسالة (السعادة بين الوهم والحقيقة) للدكتور ناصر العمر.

وفلان سعيد لأنه يملك كذا من الأراضي، وكذا من العمارات. فلان سعيد لأنه يملك كذا وكذا. كثير من الناس يطلق هذا الوهم بلسانه، وكثير منهم يعتقده بقلبه، فيتصرف من هذا المنطلق الخاطئ. أقول: ليست السعادة في جمع المال، على حد قول الشاعر: ولَسْتُ أرَى السَّعَادةَ جَمْعَ مَالٍ ... ولَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ وتقوَى اللهِ خَيْرُ الزَّادِ ذُخْرًا ... وعِنْدَ اللهِ للأتْقَى مَزِيدُ أخي المسلم: أقف معك حول هذه القضية - أعني قضية أن السعادة في المال - لأنها من أهم القضايا في أوهام السعادة. وجملة القول: «ليس كل صاحب مالٍ سعيدًا». فكثير من أرباب المال وأصحاب الثروات يعيشون في شقاء وتعاسة دائمة في حياتهم الدنيا قبل الآخرة لماذا؟ لأنهم يتعبون في:1 - جمع المال.2 - حفظه واستثماره. 3 - القلق والخوف من فوات هذا المال وزواله. كم من إنسان يملك المليارات ولكنه خائف! قلق! لماذا كل هذا الخوف!؟ ولم كل هذا القلق!؟ إنه يخاف على هذا المال، يخاف أن تأتي هزة سياسية، أو يأتي لصوص فيسرقون هذا المال؛ فهو يعيش في شقاء، خوف، قلق، هم، غم، بل إنه لا ينام الليل، وهذا أمر مجرب، مشاهَد، ترونه بأعينكم، بل قد يكون المال سبب هلاكه ومماته!! كم من غني خطف أو قتل بسبب تجارته، بل كم من غني حُرم من لذاته بسبب أمواله، تجده لا يمشي طليقا، لا يمشي حرًا، لا يسافر كما يريد، لا ينام كما يريد، كل هذا بسبب أمواله!! ثم كم من إنسان صاحب مال زال ماله، وزالت ثرواته بسبب أو بآخر فعاش بقية حياته في تعاسة وشقاء. وإليكم هذه النماذج الناطقة: 1 - قصة قارون: تلك القصة التي أوردها القرآن الكريم عن قارون، حيث قال - سبحانه وتعالى -: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} (القصص: من الآية79) في قمة سعادته، حتى إن قائلهم يقول: {إِنَّهُ لَذُو

حَظٍّ عَظِيمٍ} (القصص: من الآية79).خرج في زينته فهو ذو حظ عظيم، كل هذا من أوهام السعادة، والنتيجة لكفره بأنعم الله كما يقول الله - سبحانه وتعالى -: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} (القصص:81).أي سعادة هذه وأي نهاية!؟ 2 - قصة كرستينا أوناسيس: تلك القصة العجيبة، التي تؤكد أن المال مهما زاد وكثر، لا يمكن أن يكون - وحده - سببا للسعادة. «كرستينا أوناسيس» تلك الفتاة اليونانية، ابنة المليونير المالي المشهور «أوناسيس» ذلك الذي يملك المليارات، يملك الجزر، يملك الأساطيل. هذه الفتاة مات أبوها، وقبل ذلك ماتت أمها، وبينهما مات أخوها، وبقيت هي الوريثة الوحيدة - مع زوجة أبيها - لهذه الثروات الطائلة. أتدري كم ورثت؟ لقد ورثت من أبيها ما يزيد على خمسة آلاف مليون ريال!!! فتاة تملك أسطولًا بحريًا ضخمًا!! تملك جزرًا كاملة!!! تملك شركات طيران!! أخي الكريم: امرأة تملك أكثر من خمسة آلاف مليون ريال، بقصورها وسفنها، وطائراتها، أليست ـ في مقاييس كثير من الناس ـ أسعد امرأة في العالم؟؟ السؤال هو: هل هذه المرأة سعيدة؟ أما أمها: فقد ماتت بعد حياة مأساوية، كان آخر فصولها الطلاق. وأما أخوها: فقد هلك بعدما سقطت به طائرته، التي كان يلعب بها. وأما أبوها: فقد اختلف مع زوجته الجديدة التي هي «جاكلين كندي» زوجة الرئيس الأمريكي السابق «كندي»، تلك الزوجة التي تزوجها بملايين الدولارات، يبحث عن الشهرة فقط، ليقال: إنه تزوج بزوجة الرئيس الأمريكي «جون كندي». ومع ذلك فقد عاش معها في شقاء دائم.

تصور أن من بنود عقد الزواج: ألا تنام معه في فراش، وألا يسيطر عليها، وأن ينفق عليها الملايين ـ حسب رغبتها ـ ومع ذلك فقد اختلفت معه، وعندما مات، اختلفت مع ابنته. وخلاصة القول: أن هذه الفتاة كانت قد تزوجت في حياة أبيها - برجل أمريكي، وعاش معها شهورا، ثم طلقها ـ أو طلقته ـ. وبعد وفاة أبيها تزوجت برجل آخر يوناني، وعاش معها شهورا ثم طلقها ـ أو طلقته ـ ثم انتظرت طويلا تبحث عن السعادة. أتعلمون من تزوجت؟ للمرة الثالثة، «أغنى أمرأة في العالم على الإطلاق»، أتعلمون من تزوجت؟ لقد تزوجت شيوعيًا روسيًا، يا للعجب!! قمة الرأسمالية تلتقي مع قمة الشيوعية!!! وعندما سألها الناس، والصحفيون ـ بشكل خاص ـ عندما سألوها: أنت تمثلين الرأسمالية فكيف تتزوجين بشيوعي؟ عندها قالت: أبحث عن السعادة!!! نعم، لقد قالت: أبحث عن السعادة. وبعد الزواج ذهبت معه إلى روسيا، وبما أن النظام هناك لا يسمح بامتلاك أكثر من غرفتين، ولا يسمح بخادمة، فقد جلست تخدم في بيتها ـ بل في غرفتيها ـ فجاءها الصحفيون ـ وهم يتابعونها في كل مكان ـ فسألوها: كيف يكون هذا؟ قالت: أبحث عن السعادة. وعاشت معه سنة، ثم طلقها ـ بل طلقته ـ. ثم بعد ذلك أقيمت حفلة في فرنسا، وسألها الصحفيون: هل أنت أغنى امرأة؟ قالت: نعم. أنا أغنى امرأة ولكني أشقى امرأة!!! وآخر فصل من فصول المسرحية الحقيقية، تزوجت برجل فرنسي. لاحظوا أنها تزوجت من أربع دول وليس من دولة واحدة لعلها تجرب حظها. أقول: تزوجت بغَنِي فرنسي (أحد رجال الصناعة) وبعد فترة يسيرة أنجبت بنتًا، ثم طلقها ـ بل طلقته ـ.

ثم عاشت بقية حياتها في تعاسة، وهَمّ، وبعد فترة وجدوها ميتة في شالية في الأرجنتين، لا يعلمون هل ماتت مِيتة طبيعية، أم أنها قُتِلت، حتى إن الطبيب الأرجنتيني قد أمر بتشريح جثتها، ثم دفنت في جزيرة أبيها!! انظر إلى هذه المرأة هل أغنى عنها مالها؟ إذن، المال وحده لا يكفي، المال وحده لا يجلب السعادة، ولا يوفرها، فمن أكبر أوهام السعادة قضية الثراء والتجارة. قالوا: السعادةُ في الغِنَى ... فأخو الثَّرَاءِ هوَ السعيدْ الأصفرُ الرنَّانُ في كَفَّيْه يَلْوِي كلّ جِيدْ يرمِي به شرَكًا يصيدُ ... مِن الرغائبِ ما يصيدْ وبه يَدِينُ له العَصِيّ ... وقد يلِينُ له الحديدْ فإذا أرادَ ... فكلّ مَا في هذه الدنيا يُريدْ وإذا تمنَّى الشيءَ جَاءَ كما تمنَّى ... أو يزيدْ قلت: الغِنَى في النَّفْسِ وهْوَ ... واللهِ العيشُ الرغيدْ كَمْ عائِلٍ راضٍ، وكَمْ ... مُثْرٍ على بُؤْسٍ قَعِيدْ فيذوبُ في أطماعِهِ ... هي نارُه وهو الوقودْ فهو الشقِيُّ بوَهْمِهِ ... وبحرصِه العاني الكدُودْ وهو الفقيرُ وإنْ بَدا في ... مَالِ قارونَ العديدْ يَعْدُو هُنا وهناك في ... شُغْلٍ، كطَوَّافِ البريدْ يبغي المئاتِ، فإن وفَتْ يَبْغِ الألوفَ من النقودْ جَشِع به كجهنم ... يشكو: ألا هل مِن مزيدْ؟ أفَبَعْدَ ذاك تَظُنُّ أنّ ... أخَا الثراءِ هو السعيدْ؟ •

هل السعادة في الشهرة، كالرياضة والفن؟ لا؛ لأن الشهرة شقاء لا سعادة، ولأن الشهرة لا حقيقة لها إن لم ترتبط بتقوى الله - سبحانه وتعالى - والذي يتقي الله - سبحانه وتعالى - لا يريد الشهرة؛ لأن الشهرة إذا ارتبطت بغير سبب أصيل فإنها تزول سريعًا، وإذا زالت عن صاحبها عاش في شقاء، وتعاسة. قد يتوهم كثير من الناس أن السعادة موجودة عند صنفين من الناس هم أهل الرياضة وأهل الفن، ولكن: 1 - أهل الرياضة: معظمهم يعيش الشقاء في أيامه ولياليه. فمن معسكر إلى معسكر ومن سفر إلى سفر فلا يكاد يستقر مع أهله إلا قليلا. ويضطر أغلبهم إلى التفريط بمستقبلهم الدراسي وعدم مواصلته بسبب الانشغال الكامل بالرياضة. أضف إلى ذلك: اضطرابهم عند كل مباراة. وكآبتهم عند كل هزيمة. ثم إن الإصابات تتقاذفهم من كل جانب. كما أن الخوف من رأي الجماهير ونظرتها عند أي هبوط في المستوى يجعلهم يعيشون شقاءً متواصلًا. ثم ماذا بعد ذلك؟ إن الناس سرعان ما ينسونهم بعد الاعتزال فيزدادون ألمًا وحزنًا. إذن فليست السعادة عند أهل الرياضة وإن ظن الكثيرون أنها عندهم. 2 - أهل الفن: أهل الغناء والطرب، والتمثيل. إن حياتهم أسوأ حياة يعيشها البشر! فشل أسري، مخدرات، انحلال، انعدام حياء، موت فضيلة. وليس هذا الكلام افتراءٌ عليهم، بل هو من مذكراتهم التي تعج بها الصحف صباحَ مساء. «أنور وجدي» زوج الممثلة ليلى مراد، هذه الزوجة التي قالت عنه في مذكراتها: «إن زوجي كان ممثلًا بسيطًا، فقال: أتمنى أن أملك مليون جنيه حتى ولو أصِبْتُ بمرض، فقلت له: ما ينفعك المال إذا جاءك المرض؟ فقال: أنفِقُ جزءًا من المال في علاج المرض، وأعيش في بقيته سعيدًا»، فملك أكثر من مليون جنيه، وابتلاه الله بسرطان الكبد،

فأنفق المليون جنيه وزيادة، ولم يجد السعادة حتى إنه كان لا يأكل إلا شيئًا يسيرًا من الطعام، فهو ممنوع من أكل كثير من الأطعمة، وأخيرًا، مات بهذا المرض حسيرًا نادمًا. • هل السعادة في نيل أعلى الشهادات، في أن يصبح الإنسان دكتورًا!!. الإجابة - بكل ثقة - لا. طبيبة تصرخ، تقول: خذوا شهاداتي وأعطوني زوجًا!!! انظروا كيف تقول هذه الطبيبة، وربما كانت في نظر كثير من الناس «سعيدة جدًا». لأن الطب ـ في نظر كثير من الناس ـ أعلى العلوم، وشهاداته أفضل الشهادات، وهذه نظرة خاطئة، إنما هذه نظرة الكثير من الناس، أن الإنسان إذا كان «دكتورًا»، وفي الطب، فإنه يعيش في قمة السعادة. تقول تلك الطبيبة: خذوا شهاداتي ومعاطفي، وكل مراجعي، وجالب السعادة الزائفة (تعني المال)، وأسمعوني كلمة «ماما».ثم تقول هذه الأبيات: لقد كنْتُ أرجُو أنْ يُقالَ طبيبةٌ ... فقد قِيل فما نالني مِن مقالِها فَقُل للتي كانتْ ترَى في قدوةً ... هي اليومَ بينَ الناسِ يُرثَى لحالِها وكلّ مُناها بعضُ طِفْلٍ تَضُمُّهُ ... فهل ممكنٌ أنْ تشتريه بمالِها • هل أصحاب السعادة هم أصحاب المناصب العالية المرموقة من قادة ووزراء وغيرهم؟ لا. أتدرون لماذا؟ لأن المسئولية هَمٌّ في الدنيا، وإن لم يقُمْ صاحبها بحقها فهي حسرة وندامة يوم القيامة. صاحب المنصب والسلطان لا يفارقه الهمّ خوفًا من زواله، تجده يشقى للمحافظة عليه، وإذا زال منصبه ـ ولابد أن يزول ـ عاش بقية عمره تعيسًا. والمنصب قد يكون سببًا في هلاك صاحبه، ولذلك يعيش في خوف وقلق دائمين. وكفانا على ذلك قصة: فرعون وهامان صاحبا المناصب العالية المرموقة اللذان خلد القرآن قصتيهما. أما في العصر الحاضر، فشاه إيران مثال واضح: الرجل الذي أقام حفلًا ليعيد فيه ذكرى مرور ألفين وخمسمائة سنة على قيام الدولة الفارسية، وأراد أن يبسط نفوذه على الخليج، ثم على العالم العربي بعد ذلك،

ليلتقي مع اليهود. ذلك الرجل الذي كان يتغنى ويتقلب كالطاووس، كيف كانت نهايته. لقد تشرد!! طُرد!! لم يجد بلدًا يأويه، حتى أمريكا التي كان أذل عميل لها. وظل على هذه الحال حتى مات شريدًا طريدًا في مصر، بعد أن أنهكه الهم، وفتك به السرطان. أما أولاده وأهله وحاشيته فقد أصبحوا أشتاتا متفرقين في عدة قارات!!! قالوا: السعادةُ في النفوذِ وسلطةِ الجاهِ العتيدْ مَن كالأميرِ وكالوزيرِ وكالمديرِ وكالعميدْ؟ يرنُو إلى مَن دونَهُ فيُسَابقون لما يريدْ وإذا رأى رأيًا فذلك ـ وحدَه ـ الرأيُ الرشيد كلٌ يُسَارعُ في هواهُ وعن رضاه لا يحِيدْ قلت: اطرحوا هذي المظاهرَ واسمعوا بيتَ القَصيدْ فأخو النفوذِ بجاهِهِ يَشْقَى وإنْ سحبَ البُرودْ ما عاش يحرصُ أنْ يدومَ له النفُوذُ ويستزيدْ متمَلّقًا مَن فوقَه ... طمَعَ المثوبةِ والمزيدْ ومخافةَ أن يَسقطَ ... الكرسيُّ يومًا أو يميدْ مُتَرضِّيًا مَنْ دُونَه ... بعطائِه أو بالوعودْ يبغِي رضا كلّ الورى ... ورِضَاهُمُو شيءٌ بعيدْ فتراه يبْسُم للبغيض ... كأنه الحِبُّ الودودْ وتراهُ يمْتَدحُ الغبيَّ ... كأنه الفَطِنُ الرشيدْ فاعجَبْ لأزياءِ الملوكِ ... وتحتها نَفْسُ العبيدْ لا يخدَعَنَّك ثُلّة ... حاطوا به مثلَ الجنودْ أبصِرْهُمُو ـ إن شئتَ ـ حينَ ... يجيءُ بالعزلِ البريدْ تجد النفوذَ هوى كما ... تهوي وتنفرطُ العقودْ

ذهب البطانةُ واختفى ... الزوارُ، وانفضَّ الحشودْ وافَوْهُ يومَ نفاقِهِ ... وجَفَوْه أيامَ الرُّكودْ وإذا رأوْه دعَوْا: ألا بعدًا ... كما بعِدَتْ ثمودْ أفبعدَ ذاكَ تَظُنُّ أنّ ... أخَا النفوذِ هو السعيدْ؟ إذن هذه هي السعادة الوهمية التي يتصور الناس أنها حقيقة السعادة. كثير من الناس يبدو لأول وهلة أنهم سعداء، وهم في الواقع يتجرعون غصص الشقاء والبؤس والحسرة. ومن أوضح الأمثلة على السعادة الوهمية، ما تعيشه أوربا، وبخاصة الدول الإسكندنافية، فهي أغنى الدول، سواء على مستوى الدولة، أو على مستوى دخل الفرد، ومع ذلك فهي تمثل أعلى نسب الانتحار. فدولة السويد مثلا هي أغنى دولة من حيث دخل الفرد، ولكنها أعلى دولة في نسب الانتحار!! بينما نجد الدول الإسلامية - مع أن أكثرها فقيرة - تسجل أقل نسبة من نسب الانتحار في العالم. وهكذا نرى من خلال الواقع أن السعادة الحقيقية ليست في المال ولا في الشهرة، ولا في الشهادات، ولا في المناصب، ولا ما أشبه ذلك من حطام الدنيا. • موانع السعادة: لا ريب أن هناك موانع كثيرة للسعادة تحول دون الوصول إليها، والتنعم بالعيش فيها. وأهمها: 1 - الكفر: يقول الله - سبحانه وتعالى -: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (الأنعام: من الآية125). هكذا يصور القرآن التعاسة والشقاء تصويرا دقيقا. 2 - عمل المعاصي والآثام والجرائم: إن المعاصيَ التي يقترفها الناس آناء الليل وأطراف النهار لها آثار مدمرة على الفرد والمجتمع والحياة كلها، وذلك أنّ قوام الحياة

وصلاحها إنما هو في الطاعة والاستقامة على أمر الله والتقيد بشرعه الحنيف، وكلّ انحراف عن أمره، وكل اتباع لنزغات الشيطان وكل تفلُّت من دينه إنما هو ركض وراء السراب، وضرب في تيه الشقاء، ولا بد أن يلمس الإنسان آثارها النكرة في نفسه وحياته ثم في أخراه يوم لقاء ربه. 3 - الحسد والغيرة: وأمر الحسد خطير، حتى إن الله -تعالى- يأمرنا بالاستعاذة من شر الحاسد، قال - سبحانه وتعالى -: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق:5). وقال الله - سبحانه وتعالى -: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: من الآية54).قال ذلك عن الكفار. وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - موجها أمته: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» (متفق عليه) 4 - الحقد والغل: قال - سبحانه وتعالى - في سورة الحشر: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (الحشر: من الآية10). يصف الله - سبحانه وتعالى - المؤمنين في هذه الآية بأنهم يقولون هذا الدعاء، لأن الغل من موانع السعادة. ويقول - سبحانه وتعالى - واصفًا المؤمنين في حياتهم الأبدية، في جنة الخلد: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} (الأعراف: من الآية43). إن الحاقد يظل طوال وقته لا يفكر إلا في النَّيْل من الذي يحقد عليه، فقد يكذب عليه، وقد يضر به، ولا يهاب في سبيل ذلك ما يفعل. 5 - الغضب: فلا شك أن الغضب من حواجب السعادة والانشراح، ولذلك امتدح الله المؤمنين قائلا عنهم: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى: 37). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» (متفق عليه).

(بِالصُّرَعَةِ) بِضَمِّ الصَّاد وَفَتْح الرَّاء: الَّذِي يَصْرَع النَّاس كَثِيرًا بِقُوَّتِهِ، وَالْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَة، وَالصُّرْعَة بِسُكُونِ الرَّاء بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَنْ يَصْرَعهُ غَيْره كَثِيرًا. 6 - الظلم: فإن الظلم مرتعه وخيم. وعاقبته سيئة إلى أبعد الحدود. فلنقف على مثالين معاصرين يصوران عقبى الظلم ومآل الظلمة، هما (حمزة البسيوني، وصلاح نصر)، فقد كانا من جنود زعيمهما (جمال عبد الناصر) صبَّا على الدعاة إلى الله من الظلم والعذاب ما تقشعر له الأبدان. ولكن: كيف كانت حياتهم؟ شر حياة والله. أما حمزة البسيوني فقد بلغ به التجبر والطغيان إلى حد أنه كان يقول للمؤمنين ـ وهو يعذبهم حينما يستغيثون بالله ـ يقول: أين إلهكم لأضعه في الحديد! وأما صلاح نصر فقد كان يعقد على زوجات الناس عقودًا وهمية، وهن في عصمة رجال آخرين، ويتزوجهن!!! لكن كيف كانت نهاية أولئك الطغاة؟ حمزة البسيوني اصطدمت سيارته، وهو خارج من القاهرة إلى الإسكندرية، بشاحنة تحمل حديدًا، فدخل الحديد في جسمه، من أعلى رأسه إلى أحشائه، وعجز المنقذون أن يخرجوه إلا قطعًا. هكذا أهلكه الله بالحديد، وهو الذي كان يقول إنه سيضع الله في الحديد، تعالى الله عما يقول الظالمون. وأما صلاح نصر فقد أصيب بأكثر من عشرة أمراض مؤلمة، مزمنة، عاش عدة سنوات من عمره في تعاسة، ولم يجد له الطب علاجًا، حتى مات سجينًا، مزجوجًا به في زنزانات زعمائه الذين كان يخدمهم. 7 - الخوف من غير الله - عز وجل -: إن الخوف من غير الباري - سبحانه وتعالى - يورث الشقاء والذلة، قال - سبحانه وتعالى -: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران:175).

وقال إبراهيم - عليه السلام - لقومه: {وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} (الأنعام: من الآية80). 8 - التشاؤم: كم كان التشاؤم سببًا في التعاسة والمتاعب. ولهذا كان المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - يعجبه الفأل، ويكره التشاؤم. (رواه البخاري ومسلم). فالمتشائم يتحمل بفعل اتجاهه التشاؤمي متاعب عدة، هي أشد وقعًا على أعصابه من الكوارث والملمات التي قد تقع به. 9 - سوء الظن: فالله - سبحانه وتعالى - يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: من الآية12). ويقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إيَّاكُمْ والظَّنَّ، فَإِنَّ الظّنَّ أكْذَبُ الْحَدِيثَ» (متفق عليه). 10 - الكبر: المتكبر يعيش في شقاء دائم، وتعاسة أبدية، وإن تغطرس، وتعالى على الناس، وغمطهم حقوقهم. 11 - تعلق القلب بغير الله: كتعلق قلب العاشق بمعشوقته. ويكفي لتصوير خطورة الأمر أن نقرأ قصة مجنون ليلى، لنعلم كيف عاش هذا الرجل شريدًا طريدًا، حتى جُنَّ، ومات وهو عاشق. وكم من عاشق مات في عشقه، وقدم على الله وقلبه معلق بغيره. فيالها من خسارة دنيوية وأخروية. 12 - المخدرات: إن كثيرًا من الناس يتوهم أن السعادة تجتلب بمعاقرة المخدرات والمسكرات، فيقبلون عليها، قاصدين الهروب من هموم الدنيا ومشاغلها وأتراحها، وإذا بهم يجدون أنفسهم كالمتجير من الرمضاء بالنار. إن المخدرات في الحقيقة تجلب الشقاء، واليأس، والانحلال، والدمار: دمار الفرد والمجتمع والأمة، وإن لنا في الواقع الحاضر لخير شاهد على ذلك فليعتبر أولو الألباب.

21 - أسباب السعادة وصفات السعداء

21 - أسباب السعادة وصفات السعداء إن من يريد أن ينال السعادة، وهو لم يأخذ بأسبابها يصدق عليه قول الشاعر: ترجُو النجاةَ ولم تسلُكْ مسالكَها ... إنّ السفينةَ لا تجري على اليَبَسِ فلنقف معا على أسباب السعادة وصفات السعداء لعل الله - عز وجل - أن يوفقنا للأخذ بها إنه جواد كريم: 1 - الإيمان بالله، والعمل الصالح: يقول الله تعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: من الآية97) أي فلنحيينه حياة سعيدة. وكلنا يريد الحياة الطيبة، فعلينا بالعمل الصالح مع الإيمان: {مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (المائدة: من الآية69). وفي حديث أبي يحيى صهيب بن سنان - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه مسلم). وكان الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يجد راحته ولذته في الصلاة والطاعة، كان يقول: «أقِمِ الصَّلَاةَ يَا بِلَالُ، أرِحْنَا بِالصَّلَاة» (رواه أحمد وأبو داود). بينما نجد كثيرًا من الناس يقول: أرحنا من الصلاة، نحن في غم، في هم، نحن مشغولون عن الصلاة - هكذا يقولون - والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (رواه أحمد والنسائي). ولنعرّج على مثال حي واقعي، لنرى كيف يفعل الإيمان بأصحابه، كيف يجعلهم يشعرون بالسعادة في كل الأحوال!! الإمام ابن تيمية - رحمه الله - عُذب وسُجن وطُرد، ومع هذا نجده يقول، وهو في قلعة دمشق، في آخر مرحلة من مراحل إيذائه وجهاده،

يقول: «ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحلتُ فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة». 2 - الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره: فكله من الله - سبحانه وتعالى - فاعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك. وهذه الصفة من أهم صفات السعداء، إذ لا يمكن أن تحصل السعادة إلا لمن يؤمن بالله، ومن الإيمان بالله الإيمان بقضائه وقدره، والرضا بقسمه، لأن الإنسان في هذه الحياة لا بد أن ينتابه شيء من الهموم والمصائب، فإن لم يؤمن بالقضاء والقدر، هلك. ولنضرب مثلا للإيمان بالقضاء والقدر، وأثره في سعادة الإنسان: وفي الحكاية الصحيحة الثابتة ـ كما يقول الشيخ أبو إسحق الحويني ـ: أن عروة بن الزبير بن العوام ـ وهو أحد التابعين الكبار ـ - رحمه الله - ورضي عن أبيه ـ رحل إلى الوليد عبد الملك بن مروان، وكان في رجله مرض ودبت إلى رِجْله الآكلة (السرطان)، فلما وصل إلى عبد الملك بن مروان استشرى المرض في رجله، فقال الطبيب له: لا حل إلا أن نقطعها لك، قال: وكيف ذلك؟ قالوا: تشرب خمرًا حتى نستطيع أن نقطعها لك فلا تتألم. فقال: ما كنت لأستعين على دفع بلاء الله بمعصية الله، ولكن دعوني حتى إذا دخلت في الصلاة فاقطعوها. فلما دخل في الصلاة قطعوها فما أحس بها، وبعد أيام من قطع رِجْله، سقط ولده من على سطح الدار فمات، ـ وكان عنده سبعة أولاد ـ فبلغ ذلك عروة فقال: «اللهم لك الحمد، أخذت واحدًا وأبقيت ستة، وأخذت عضوًا وأبقيت ثلاثة، اللهم لئن ابتليت فلقد عافيت، ولئن أخذت فلقد أبقيت». قال الشيخ أبو إسحق الحويني: «لولا أن أسانيد هذه القصة صحيحة لما كاد المرء يصدقها!».

هذا هو الإيمان الصادق بالقضاء والقدر، ولكن أين أمثال هؤلاء التقاة الخاضعين لله، المسَلّمين لمشيئته، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} (فصلت:35). 3 - الإكثار من ذكر الله - عز وجل - وقراءة القرآن: قال - عز وجل -: {أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28). إن من داوم على ذكر الله يعش سعيدا مطمئن القلب. أما من أعرض عن ذكر الله، فهو من التعساء البؤساء. {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} (الزخرف:36). {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (طه:124). {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} (الزمر: من الآية22). 5 - انشراح الصدر وسلامته من الأدغال: في القرآن الكريم آيات عديدة في مقام الانشراح، فقد حكى الله - عز وجل - عن موسى - عليه السلام -؛ قوله {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} (طه: من الآية25). وقال تعالى ممتنا على رسوله محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} (الشرح:1). وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} (الأنعام:125).ويقول - عز وجل -: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} (الزمر:22). فانشراح الصدر وطلبه من علامات السعادة وصفات السعداء. 5 - الإحسان إلى الناس: وهذا أمر مجرب، ومشاهد، فإننا نجد الذي يحسن إلى الناس من أسعد الناس، ومن أكثرهم قبولا في الأرض. 6 - النظر إلى من هو دونك في أمور الدنيا وإلى من هو فوقك في أمور الآخرة: كما ورد في التوجيه النبوي الكريم حين قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (رواه مسلم).

هذا في أمور الدنيا، لأنك إذا تذكرت من هو دونك، علمت فضل الله عليك فإنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم). أما في أمور الآخرة فانظر إلى من هو أعلى منك، لتدرك تقصيرك وتفريطك، لا تنظر إلى من هلك كيف هلك، ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا. 7 - قصر الأمل وعدم التعلق بالدنيا، والاستعداد ليوم الرحيل: فالحياة قصيرة. فلا تقصرها بالهم والأكدار. وهاك يا أخي هذه المحاورة القيمة التي دارت بين نفر، من المتخلين عن الدنيا، المتأهبين ليوم الرحيل. جلس نفر من الصالحين يتذاكرون، ويتساءلون حول قصر الأمل. فقيل لأحدهم: ما بلغ منك قصر الأمل؟ فقال: بلغ مني قصر الأمل أنني إذا رفعت اللقمة إلى فمي، لا أدري أأتمكن مِن أكلِها أم لا!! ووجه السؤال نفسه إلى آخر، فأجاب بقريب من ذلك. ولما سئل ثالثهم عن مبلغ قصر الأمل في نفسه. قال: بلغ مني قصر الأمل أني إذا خرج مني النفس، لا أدري أيرجع أم لا!! إن الحياة ـ يا أخي ـ قصيرة، فلا تزِدْها قصرًا ومحقًا بالهموم والأكدار. 8 - اليقين بأن سعادة المؤمن الحقيقية في الآخرة لا في الدنيا: قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} (هود:108). ويقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الدُنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» (رواه مسلم). وهنا قصة عجيبة للحافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله -:خرج يوما بأبهته ـ وكان رئيس القضاة بمصر ـ فإذا برجل يهودي، في حالة رَثّة، فقال اليهودي: قف. فوقف ابن حجر. فقال له: كيف تفسر قول رسولكم: «الدُنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الْكَافِرِ»، وها أنت تراني في حالة رثة وأنا كافر، وأنت في نعيم وأبهة مع أنك مؤمن؟!».

فقال ابن حجر: «أنت مع تعاستك وبؤسك تعد في جنة، لما ينتظرك في الآخرة من عذاب أليم ـ إن مِتَّ كافرًا ـ. وأنا مع هذه الأبهة ـ إن أدخلني الله الجنة ـ فهذا النعيم الدنيوي يعد سجنا بالمقارنة مع النعيم الذي ينتظرني في الجنات». فقال اليهودي: أكذلك؟ قال: نعم. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. 9 - مصاحبة الأخيار والرفقة الصالحة: ولا يستطيع أحد أن ينكر أثر القرين على قرينه، فهو مشهود، ومجرب، وواضح من خلال الواقع، ومن خلال التاريخ. ولذلك قال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ؛ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً» (متفق عليه). 10 - أن تعلم أن أذى الناس خير لك ووبال عليهم: قال إبراهيم التيمي: «إن الرجل ليظلمني، فأرحمه». ويروى أن الإمام ابن تيمية - رحمه الله - أساء إليه عدد من العلماء وعدد من الناس، وسجن في الإسكندرية، فلما خرج، قيل له: أتريد أن تنتقم ممن أساء إليك؟ فقال: «قد أحللت كل من ظلمني، وعفوت عنه» تحية طيبة وبعد أحَلَّهم جميعًا؛ لأنه يعلم أن ذلك سعادة له في الدنيا والآخرة. ويحكي الفضيل بن عياض: أنه كان في الحرم، فجاء خراساني يبكي، فقال له: لماذا تبكي؟ قال: فقدت دنانير، فعلمت أنها سرقت مني، فبكيت. قال: أتبكي من أجل الدنانير؟ قال: لا، لكني بكيت، لعلمي أني سأقف بين يدي الله أنا وهذا السارق، فرحمت السارق، فبكيت. وبلغ أحد السلف أن رجلًا اغتابه، فبحث عن هدية جميلة ومناسبة، ثم ذهب إلى الذي اغتابه، وقدم إليه الهدية، فسأله عن سبب الهدية.

فقال: إن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ أتَى إليْكُمْ مَعْرُوفًا فَكافِئُوه» (¬1) وإنك أهديت لي حسناتك، وليس عندي مكافأة لك إلا من الدنيا. سبحان الله!! 11 - الكلمة الطيبة، ودفع السيئة بالحسنة: قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت:34).فتأمل يا أخي هذا الإرشاد الإلهي العظيم. وقال تعالى واصفًا عباده المؤمنين: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (الفرقان: 72). 12 - الالتجاء إلى الله - عز وجل - وكثرة الدعاء: وقد كان ذلك من هدي الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلْ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلْ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» (رواه مسلم). وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ». (حسن رواه أبو داود) وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ أَخْدِمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ «اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَضَلْعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» (صحيح رواه أبو داود). (ضَلْعِ الدَّيْنِ) أَيْ ثِقَله وَشِدَّته وَذَلِكَ حِين لَا يَجِدُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْن وَفَاءَهُ لَا سِيَّمَا مَعَ الْمُطَالَبَة. (وَغَلَبَة الرِّجَال): أَيْ قَهْرهمْ وَشِدَّة تَسَلُّطهمْ عَلَيْهِ. وَالْمُرَاد بِالرِّجَالِ الظَّلَمَة أَوْ الدَّائِنُونَ. • وختامًا: أدعوك أيها المسلم لتلحق بركب السعداء، سعادة حقيقية غير وهمية. لتفوز بالحياة الطيبة الهانئة بعيدا عن الأكدار والمنغصات وذلك بتحقيق معنى الإيمان بالله ¬

_ (¬1) ((قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أتَى إليْكُم معروفًا فكافئُوه، فإن لم تجِدُوا فادْعُوا لَهُ». (صحيح رواه الطبراني).

والعمل الصالح في نفسك. فإن الله - عز وجل - يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97). قُل للذي يبْغِي السعادةَ ... هل علِمتَ مَنِ السعيدْ؟ إنّ السعادةَ أنْ تعيش ... لفكرةِ الحقِّ التليدْ لعقيدةٍ كبرَى تحلّ قضيةَ الكونِ العتيدْ وتجيبُ عما يسألُ الحيرانَ ... في وعيٍ رشيدْ مِن أينَ جئتُ؟ وأين أذهبُ؟ ... لِم خلقتُ؟ وهل أعودْ؟ فتشيعُ في النفسِ اليقينَ وتطردُ الشكَّ العنيدْ وتعلم الفكرَ السوِيَّ ... وتصنعُ الخُلُقَ الحميدْ هذِي العقيدةُ للسعيدِ ... هي الأساسُ هي العمودْ مَن عاشَ يحملُها ويهتفُ ... باسمِها فهو السعيدْ المالُ والجاهُ الحلالُ يراهُ أدْنَى ما يُريدْ فإذا استفادَ المالَ ... فهو لخيرِ أمتِه رصيدْ والجاهُ عدتُه لنفعِ الناسِ ... مِن بِيضٍ وسُودْ فيعيش مِن معروفِه ... في مِثْل سلطانِ الرشيدْ مَلِكًا تحيط به القلوبُ ... ولا تحيطُ به الجنودْ ويعيش مِن أخلاقِه ... في عالمِ الخيرِ المديدْ حُلْوَ الشمائلِ في حياءِ ... الزهرِ، في طُهْرِ الوليدْ يحيا بقلبٍ مِن حريرٍ ... لا بقلبٍ مِن حديدْ يحنُو على العانِي كما ... يحنُو النسيمُ على الورودْ ويذوبُ للشاكي كما قد ... ذابَ في الشمسِ الجليدْ هو في الرخاءِ وفي ... الشدائدِ للجميعِ أخٌ ودودْ لا الفقرُ يُذْهلُه ولا ... الإثراءُ يُنسيهِ العهودْ

22 - نحن والمزاح

22 - نحن والمزاح إن الإنسان مدني بطبعة، ومع اتساع المدن وكثرة الفراغ لدى بعض الناس، وانتشار أماكن التجمعات العامة كالمنتزهات والاستراحات، وكثرة الرحلات البرية، والاتصالات الهاتفية، واللقاءات المدرسية، والتجمعات الشبابية، توسع كثير من الناس في المزاح مع بعضهم البعض، دون ضابط لهذا الأمر الذي قد يؤدي إلى المهالك، ويورث العداوة والبغضاء. والمراد بالمزاح: الملاطفة والمؤانسة، وتطييب الخواطر، وإدخال السرور. وقد كان هذا من هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما ذكر ذلك البخاري في (بَاب الِانْبِسَاطِ إِلَى النَّاسِ) عن أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: «إِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النّغَيْرُ» (رواه البخاري). النّغَيْر: طَائِر مَعْرُوف يُشْبِه الْعُصْفُور. وَفِي الحديث جَوَاز الْمُمَازَحَة وَتَكْرِير الْمَزْح وَأَنَّهَا إِبَاحَة سُنَّة لَا رُخْصَة، وَأَنَّ مُمَازَحَة الصَّبِيّ الَّذِي لَمْ يُمَيِّز جَائِزَة. وَفِيهِ تَرْك التَّكَبُّر وَالتَّرَفُّع. عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، احْمِلْنِي»، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّا حَامِلُوكَ عَلَى وَلَدِ نَاقَةٍ» قَالَ: وَمَا أَصْنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟». فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَهَلْ تَلِدُ الْإِبِلَ إِلَّا النُّوقُ؟» (صحيح رواه أبو داود). (اِحْمِلْنِي): أَيْ عَلَى دَابَّة وَالْمَعْنَى اِعْطِنِي حَمُولَة أَرْكَبهَا. (قَالَ وَمَا أَصْنَع بِوَلَدِ النَّاقَة): لَمَّا كَانَ الْمُتَعَارَف عِنْد الْعَامَّة فِي بَادِي الرَّأْي اِسْتِعْمَال وَلَد النَّاقَة فِيمَا كَانَ صَغِيرًا لَا يَصْلُح لِلرُّكُوبِ وَإِنَّمَا يُقَال لِلصَّالِحِ الْإِبِل، تَوَحّش الرَّجُل عَلَى فَهْم الْمَعْنَى.

(وَهَلْ تَلِد الْإِبِلَ): بِالنَّصْبِ مَفْعُول مُقَدَّم، (إِلَّا النُّوقُ): بِضَمِّ النُّون جَمْع نَاقَة وَهِيَ أُنْثَى الْإِبِل. وَقَوْله (إِلَّا النُّوقُ) بِالرَّفْعِ فَاعِل مُؤَخَّر؛ فَالْإِبِل وَلَوْ كِبَارًا أَوْلَاد النَّاقَة فَيَصْدُق وَلَد النَّاقَة بِالْكَبِيرِ وَالصَّغِير. وَالْمَعْنَى إِنَّك لَوْ تَدَبَّرْت لَمْ تَقُلْ ذَلِكَ، فَفِيهِ الْإِشَارَة إِلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَ قَوْلًا أَنْ يَتَأَمَّلهُ وَلَا يُبَادِر إِلَى رَدّه. وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال له: «يَا ذَا الأذُنَيْنِ» يمازحه. (صحيح رواه الترمذي).وهَذَا الْقَوْلَ مِنْ جُمْلَةِ مُدَاعَبَاتِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَلَطِيفِ أَخْلَاقِهِ. ولا شك أن التبسط لطرد السأم والملل، وتطيب المجالس بالمزاح الخفيف فيه خير كثير فإن مَنْ اسْتَعَانَ بِالْمُبَاحِ الْجَمِيلِ عَلَى الْحَقِّ فَهَذَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»، قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟»، قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْر» (رواه مسلم). البُضْع: الْجِمَاع، وَيُطْلَق عَلَى الْفَرْج نَفْسه وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَات تَصِير طَاعَات بِالنِّيَّاتِ الصَّادِقَات، فَالْجِمَاع يَكُون عِبَادَة إِذَا نَوَى بِهِ قَضَاء حَقّ الزَّوْجَة وَمُعَاشَرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ، أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ صَالِحٍ، أَوْ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ إِعْفَاف الزَّوْجَة وَمَنْعَهُمَا جَمِيعًا مِنْ النَّظَر إِلَى حَرَام، أَوْ الْفِكْر فِيهِ، أَوْ الْهَمّ بِهِ، أَوْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الْمَقَاصِد الصَّالِحَة. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ لَهُ: «إنَّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إلَّا ازْدَدْت بِهَا دَرَجَةً وَرِفْعَةً حَتَّى اللُّقْمَةُ تَضَعُهَا فِي فِي امْرَأَتِك». وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. فَالْمُؤْمِنُ إذَا كَانَتْ لَهُ نِيَّةٌ أَتَتْ عَلَى عَامَّةِ أَفْعَالِهِ وَكَانَتْ الْمُبَاحَاتُ مِنْ صَالِحِ أَعْمَالِهِ لِصَلَاحِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ». •

ضوابط المزاح: وقد اعتبر بعض الفقهاء المزاح من المروءة وحسن الصحبة، ولاشك أن لذلك ضوابط منها: 1 - ألا يكون المزاح إلا صدقًا: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ» (حسن رواه أبو داود). (وَيْل): أَيْ هَلَاك عَظِيم أَوْ وَادٍ عَمِيق فِي جَهَنَّم (فَيَكْذِب): أَيْ فِي تَحْدِيثه وَإِخْبَاره (لِيَضْحَك): بِفَتْحِ الْيَاء وَالْحَاء (بِهِ): أَيْ بِسَبَبِ تَحْدِيثه أَوْ الْكَذِب (الْقَوْم): بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ فَاعِل، وَيَجُوز بِضَمِّ الْيَاء وَكَسْر الْحَاء (لِيُضْحِكَ) وَنَصْب الْقَوْم عَلَى أَنَّهُ مَفْعُول. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّكَ تُدَاعِبُنَا؟ قَالَ: «إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا» (صحيح رواه الترمذي) (إِنَّك تُدَاعِبُنَا) مِنْ الدُّعَابَةِ أَيْ تُمَازِحُنَا. ومن الكذب في المزاح ما يسمونه بالنكت، وهي مواقف مضحكة لم تحدث، ويكون فيها ـ في الغالب ـ سخرية واستهزاء بطائفة من الناس، بل وقد يكون فيها ما يخدش الحياء ويشجع على انتشار الفاحشة بتهوين أمر الغيرة على الأعراض، والتهوين من قبح المعاصي، بل أحيانًا يكون فيها استهزاء بأمور الدين ـ والعياذ بالله. 2 - ألا يكون فيه شيء من الاستهزاء بالدين: فإن ذلك من نواقض الإسلام قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ *لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة:65 - 66)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه». وكذلك الاستهزاء ببعض السنن، ومما انتشر الإستهزاء باللحية أو الحجاب، أو بتقصير الثوب أو غيرها؛ فجانب الربوبية والرسالة والوحي والدين جانب محترم لا يجوز لأحد أن يبعث فيه لا باستهزاء، ولا بإضحاك، ولا بسخرية، فإن فعل فإنه كافر،

لأنه يدل على استهانته بالله - عز وجل - ورسله وكتبه وشرعه، وعلى من فعل هذا أن يتوب إلى الله - عز وجل - مما صنع، لأن هذا من النفاق، فعليه أن يتوب إلى الله ويستغفر ويصلح عمله ويجعل في قلبه خشية الله - عز وجل - وتعظيمه وخوفه ومحبته. 3 - عدم الترويع: خاصة ممن لديهم نشاط وقوة أو بأيديهم سلاح أو قطعة حديد، أو يستغلون الظلام وضعف بعض الناس ليكون ذلك مدعاة إلى الترويع والتخويف. عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» (صحيح رواه أبو داود). (لَا يَحِلّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّع مُسْلِمًا): أَيْ يُخَوِّفهُ؛ وَلَوْ هَازِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِيذَاء. 4 - الإستهزاء والغمز واللمز: الناس مراتب في مداركهم وعقولهم وتتفاوت شخصياتهم، وبعض ضعاف النفوس ـ أهل الاستهزاء والغمز واللمز ـ قد يجدون شخصا يكون لهم سلما للإضحاك والتندر - والعياذ بالله - وقد نهى الله - عز وجل - عن ذلك فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (الحجرات:11)، قال ابن كثير في تفسيره: «المراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم والاستهزاء بهم، وهذا حرام، ويعد من صفات المنافقين» والبعض يستهزي بالخلقة أو بالمشية أو المركب ويُخْشَى على المستهزىء أن يجازيه الله - عز وجل - بسبب استهزائه. وحذر - صلى الله عليه وآله وسلم - من السخرية والإيذاء؛ لأن ذلك طريق العداوة والبغضاء قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا ـ وَيُشِيرُ إِلَى

صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ـ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» (رواه مسلم). 5 - أن لا يكون المزاح كثيرًا: فإن البعض يغلب عليهم هذا الأمر ويصبح ديدنًا لهم، وهذا عكس الجد الذي هو من سمات المؤمنين، والمزاح فسحة ورخصة لاستمرار الجد والنشاط والترويح عن النفس. قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: «اتقوا المزاح، فإنه حمقة تورث الضغينة». قال الإمام النووي - رحمه الله -: «المزاحُ المنهِيُّ عنه هو الذي فيه إفراط ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى: ويؤول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد، ويسقط المهابة والوقار، فأما من سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعله». قَدِّمْ لنفسِكَ في الحياةِ تزَوُّدًا ... فلقد تُفارقُها وأنتَ موَدَّعُ وَاهْتَمَّ لِلسَّفرِ القَرِيبِ فإِنَّهُ ... أنآى مِن السفرِ البعيدِ وأشْسَعُ واجعَلْ تزوُّدَك المخافةَ والتّقَى ... وكأن حَتْفَك مِن مسائِكَ أسْرَعُ والصمتُ يُحْسِنُ كلَّ ظنٍّ بالفتَى ... ولعلهُ خَرِقٌ سفِيهٌ أرْقَعُ وَدَعِ المُزَاحَ فَرُبَّ لفظة ِ مازحٍ ... جَلَبَتْ إليكَ مساوئًا لا تُدْفعُ (الشَّاسِع والشَّسُوع: البَعِيد). (الأَخْرَقُ والخَرِقِ: الأحمق، ومَن لا يُحْسِنُ الصَّنْعَةَ). (الرقيع: الأحمقُ). 6 - أن يكون المزاح بمقدار الملح للطعام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ»، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -:فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ» فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ

تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» (حسن رواه الترمذي). (هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) أَيْ الْأَحْكَامَ الْآتِيَةَ لِلسَّامِعِ الْمُصَوَّرَةَ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ. (وَقَالَ اِتَّقِ الْمَحَارِمَ) أَيْ اِحْذَرْ الْوُقُوعَ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْك (تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ) أَيْ مِنْ أَعْبَدْهُمْ. (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَك) أَيْ أَعْطَاك (تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) فَإِنَّ مَنْ قَنَعَ بِمَا قُسِمَ لَهُ وَلَمْ يَطْمَعْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ اِسْتَغْنَى عَنْهُمْ، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (رواه البخاري ومسلم). والْعَرَض هُوَ مَا يُنْتَفَع بِهِ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا. (وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِك) بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ (تَكُنْ مُؤْمِنًا) أَيْ كَامِلَ الْإِيمَانِ. (وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك) مِنْ الْخَيْرِ (تَكُنْ مُسْلِمًا) أَيْ كَامِلَ الْإِسْلَامِ. (وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ) أَيْ تُصَيِّرُهُ مَغْمُورًا فِي الظُّلُمَاتِ، بِمَنْزِلَةِ الْميِّتِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ بِنَافِعَةٍ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا مَكْرُوهًا، وَهَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ. وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «من كثر ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عُرِف به». الرفقُ يُمنٌ وخيرُ القولِ أصدقُه وكَثْرةُ المزحِ مفتاحُ العداواتِ والصدقُ برٌ وقولُ الزورِ صاحبُه يومَ المعادِ حَرِيٌّ بالعقوباتِ 7 - معرفة مقدار الناس: فإن البعض يمزح مع الكل بدون اعتبار، فللعالم حق، وللكبير تقديره، وللشيخ توقيره، ولهذا يجب معرفة شخصية المقابل فلا يمازح السفيه ولا الأحمق ولا من لا يعرف. وفي هذا الموضوع قال عمر بن عبد العزيز: «اتقو المزاح، فإنه يذهب المروءة».

وقال سعد بن أبي وقاص: «اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجَرّىء عليك السفهاء». فإياكَ إياكَ، المزاحَ فإنّه يُجَرِّىءُ ... عليكَ الطفلَ والدنِسَ النَذْلَا ويُذْهِبُ ماءَ الوجهِ بعدَ بهاءِه ... ويورثُه مِن بعدِ عزتِه ذلا 8 - ألا يكون فيه غيبة: وهذا مرض خبيث، ويزين لدى البعض إنه يحكى ويقال بطريقة المزاح، وإلا فهو داخل في حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ذِكْرُكَ أخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» (رواه مسلم) 9 - اختيار الأوقات المناسبة للمزاح: كأن تكون في رحلة برية، أو في حفل سمر، أو عند ملاقاة صديق، تتبسط معه بنكتة صادقة لطيفة، أو طرفة عجيبة، أو مزحة خفيفة، لتدخل المودة على قلبه والسرور على نفسه، أو عندما تتأزم المشاكل الأسرية ويغضب أحد الزوجين، فإن الممازحة الخفيفة تزيل الوحشة وتعيد المياه إلى مجاريها. قال رجل لسفيان بن عيينة - رحمه الله -: «المزاح هُجْنَة ـ أي مستنكر ـ» فأجابه قائلًا: «بل هو سنة، لكن لمن يحسنه ويضعه في مواضعه». والأمة اليوم وإن كانت بحاجة إلى زيادة المحبة بين أفرادها وطرد السأم من حياتها، إلا أنها أغرقت في جانب الترويح والضحك والمزاح فأصبح دَيْدَنَها وشغل مجالسها وسمرها، فتضيع الأوقات، وتفنى الأعمار، وتمتلىء الصحف بالهزل واللعب. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» (رواه البخاري). والمراد بالعلم هنا ما يتعلق بعظمة الله وانتقامه ممن يعصيه، والأهوال التي تقع عند النزع والموت وفي القبر ويوم القيامة «وعلى المسلم والمسلمة أن ينزع إلى اختيار الرفقة الصالحة الجادة في حياتها ممن يعينون على قطع ساعات الدنيا والسير فيها إلى الله - عز وجل - بجد وثبات، ممن يتأسون بالأخيار والصالحين، قال بلال بن سعد: «أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا». وسُئِلَ ابن عمر - رضي الله عنهما -: «هل كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يضحكون؟ قال: نعم، والإيمان في قلوبهم مثل الجبال». فعليك بأمثال هؤلاء، فرسان النهار، رهبان الليل. يا أُمتي وجب الكفاحْ فدعي التشدق والصياحْ ودعي التقاعُس ليس يُنْصَرُ من تقاعسَ واستراحْ ما عادَ يُجدينا البكاءُ على الطُلُولِ ولا النُّواحْ يا قومْ .. إن الأمرَ جِدٌّ قد مضَى زمنُ المِزاحْ سقط القِناعُ عن الوجوهِ ... وفِعلُهم بالسرِّ باحْ عادَ الصليبيّونَ ثانيةً ... وجالوا في البِطاحْ عادوا وما في الشرقِ (نور ... الدين) يحكُمُ أو (صلاحْ) عاثوا فسادًا في الديار كأنها كلْاٌ مُباحْ لم يخجَلوا من ذبحِ شيخٍ ... لو مشى في الريح طاحْ أو صِبْيَةٍ كالزهرِ لم ... يَنْبٌتْ لهم ريشُ الجناحْ ذبحوا الصبيَّ وأمَّهُ وفتاتها ذاتَ الوشاحْ عبثوا بأجسادِ الضحايا ... في انتِشاءٍ وانشِراحْ لم يَشْفِ حِقدَهُمُ دمٌ ... سفحوه في صَلَفٍ وقاحْ فغدَوْا على الأعراضِ لم ... يَخْشَوا قِصاصًا أو جُناحْ لم يعبأوا بقرار أمنٍ داَنهم أو باقْتراحْ يا أمة الإسلامِ هُبُّوا ... واعملوا، فالوقتُ راحْ الكفرُ جَمَّعَ شَمْلَهُ ... فلِمَ النِّزاعُ والانتطاحْ فتجمَّعوا وتجهَّزوا ... بالمُستطاعِ وبالمُتاحْ يا ألفَ مِليونٍ وأينَ هُمو إذا دعت الجِراحْ

23 - إن الله كتب الإحسان على كل شيء

23 - إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ عَنْ أَبي يَعْلَى شَدَّاد بنِ أوسٍ - رضي الله عنه -، عَنْ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إنَّ الله كَتَبَ الإحسّانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذَا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَة، وإذا ذَبَحْتُم فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وليُحِدَّ أحدُكُمْ شَفْرَتَهُ، ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» (رواهُ مُسلم). (الذِّبْحَةَ) بكسر الذال والهاء كالقتلةِ، وهي الهيئة، ويروى: «الذَّبْحَ» بفتح الذال بغير هاء. • معنى الحديث: قولُه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ الله كَتَبَ الإحسانَ على كُلِّ شيءٍ» ظاهرُهُ يقتضي أنَّه كتب على كلِّ مخلوق الإحسان، فيكون كُلُّ شيءٍ، أو كُلُّ مخلوق هو المكتوبَ عليه، والمكتوب هو الإحسّانُ. وقيل: إنَّ المعنى: أنَّ الله كتب الإحسانَ إلى كلِّ شيء، أو في كلّ شيء، أو كتب الإحسانَ في الولاية على كُلِّ شيءٍ، فيكون المكتوبُ عليه غيرَ مذكور، وإنَّما المذكورُ المحسَن إليه. ولفظ: «الكتابة» يقتضي الوجوب عندَ أكثرِ الفقهاء والأصوليين، وإنَّما يعرف استعمالُ لفظة الكتابة في القرآن فيما هو واجب حتمٌ إمَّا شرعًا، كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء:103)، وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} (البقرة:183)، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} (البقرة:216)، أو فيما هو واقع قدرًا لا محالة، كقوله: {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (المجادلة:21)، وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (الأنبياء:105)، وقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَان} (المجادلة:22). وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في قيام شهر رمضانَ: «إنِّي خشيتُ أنْ يُكْتَبَ عَلَيكُمْ» (رواه البخاري ومسلم).

فهذا الحديث نصٌّ في وجوب الإحسان، وقد أمر الله تعالى به، فقال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} (النحل:90)، وقال: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة:195). وهذا الأمرُ بالإحسّانِ تارةً يكونُ للوجوب كالإحسّان إلى الوالدين والأرحام بمقدار ما يحصل به البرُّ والصِّلَةُ، والإحسّانُ إلى الضيف بقدر ما يحصل به قِراه. وتارةً يكونُ للندب كصدقةِ التطوعِ ونحوها. • دلالة الحديث: وهذا الحديثُ يدلّ على وجوب الإحسانِ في كل شيء من الأعمال، لكن إحسانُ كُلِّ شيء بحسبه، فالإحسانُ في الإتيان بالواجبات الظاهرة والباطنةِ: الإتيانُ بها على وجه كمال واجباتها، فهذا القدرُ من الإحسان فيها واجب، وأمَّا الإحسانُ فيها بإكمالِ مستحباتها فليس بواجب. والإحسانُ في ترك المحرَّمات: الانتهاءُ عنها، وتركُ ظاهرها وباطنها، كما قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} (الأنعام:120).فهذا القدرُ من الإحسّان فيها واجب. وأما الإحسانُ في الصبر على المقدورات، فأنْ يأتي بالصبر عليها على وجهه من غير تَسَخُّطٍ ولا جَزَع. والإحسانُ الواجبُ في معاملة الخلق ومعاشرتهم: القيامُ بما أوجب الله من حقوق ذلك كلِّه، والإحسانُ الواجب في ولاية الخلق وسياستهم، القيام بواجبات الولاية كُلِّها، والقدرُ الزائد على الواجب في ذلك كلِّه إحسانٌ ليس بواجب. والإحسانُ في قتل ما يجوزُ قتله من الناس والدواب: إزهاقُ نفسه على أسرعِ الوجوه وأسهلِها من غير زيادةٍ في التعذيب، فإنَّه إيلامٌ لا حاجة إليه. وهذا النوعُ هو الذي ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث، ولعله ذكره على سبيلِ المثال، أو لحاجته إلى بيانه في تلك الحال فقال: «فإذَا قَتَلْتُم فَأَحْسِنُوا القِتْلَة، وإذا ذَبَحْتُم

فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ» والقِتلة والذِّبحة بالكسر، أي: الهيئة، والمعنى: أحسنوا هيئة الذبح، وهيئة القتل. وهذا يدلُّ على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يُباحُ إزهاقُها على أسهلِ الوجوه. وقد حكى ابنُ حَزمٍ الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة. وأسهلُ وجوه قتل الآدمي ضربه بالسيف على العنق، قال الله تعالى في حقِّ الكفار: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (محمد:4)، وقال تعالى: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} (الأنفال:12) وقد قيل: إنَّه عين الموضع الذي يكونُ الضربُ فيه أسهلَ على المقتول وهو فوقَ العظام دونَ الدماغ، ووصى دريدُ بنُ الصِّمة قاتله أنْ يَقْتُلَهُ كذلك. وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا بعث سريةً تغزوا في سبيل الله قال لهم: «لا تُمَثِّلُوا وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا» (رواه مسلم). وروى الإمام أحمد وأبو داود من حديث عمران بنِ حُصينٍ وسَمُرَة بنِ جُندبٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يَنْهَى عن المُثْلةِ». (صحيح). ورواه البخاري من حديث عبد الله بن يزيد، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه: نَهى عن المُثْلَةِ. • القتلَ المباحَ يقع على وجهين: أحدُهما: أنْ يكون قصاصًا، فلا يجوزُ التمثيلُ فيه بالمقتص منه، بل يُقتَلُ كما قَتَلَ. فإنْ كان قد مَثَّلَ بالمقتولِ، فهل يُمثَّلُ به كما فعل أمْ لا يُقتل إلا بالسيف؟ فيهِ قولان مشهوران للعلماء: أحدُهما: لا قَوَدَ إلاَّ بالسيف. والقول الثاني: أنَّه يُفعَلُ به كما فَعَلَ، وفي «الصحيحين» عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: خَرَجَتْ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا أَوْضَاحٌ بِالْمَدِينَةِ قَالَ فَرَمَاهَا يَهُودِيٌّ بِحَجَرٍ، فَجِيءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَبِهَا رَمَقٌ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فُلَانٌ قَتَلَكِ؟»، فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا فَأَعَادَ

عَلَيْهَا قَالَ: «فُلَانٌ قَتَلَكِ؟» فَرَفَعَتْ رَأْسَهَا، فَقَالَ لَهَا فِي الثَّالِثَةِ: «فُلَانٌ قَتَلَكِ؟»، فَخَفَضَتْ رَأْسَهَا فَدَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَتَلَهُ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ. وفي روايةٍ لهما: «عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: عَدَا يَهُودِيٌّ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى جَارِيَةٍ فَأَخَذَ أَوْضَاحًا كَانَتْ عَلَيْهَا، وَرَضَخَ رَأْسَهَا فَأَتَى بِهَا أَهْلُهَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَقَدْ أُصْمِتَتْ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ قَتَلَكِ؟ فُلَانٌ؟»، لِغَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لَا. قَالَ: فَقَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ غَيْرِ الَّذِي قَتَلَهَا، فَأَشَارَتْ أَنْ لَا، فَقَالَ فَفُلَانٌ ـ لِقَاتِلِهَا ـ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ الله - رضي الله عنه - فَرُضِخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ» (رواه البخاري ومسلم). وفي روايةٍ لمسلم: عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَتَلَ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى حُلِيٍّ لَهَا ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي الْقَلِيبِ، وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ فَأُخِذَ فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ حَتَّى يَمُوتَ، فَرُجِمَ حَتَّى مَاتَ». (الْأَوْضَاح): قِطَع فِضَّة، (رَمَق): بَقِيَّة الْحَيَاة وَالرُّوح. وَالْقَلِيب: الْبِئْر. (رَضَخَهُ بَيْن حَجَرَيْنِ وَرَضَّهُ بِالْحِجَارَةِ وَرَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ) هَذِهِ الْأَلْفَاظ مَعْنَاهَا وَاحِد؛ لِأَنَّهُ إِذَا وَضَعَ رَأْسه عَلَى حَجَر وَرُمِيَ بِحَجَرٍ آخَر فَقَدْ رَجَمَ، وَقَدْ رَضَّ، وَقَدْ رَضَخَ. وَقَدْ يَحْتَمِل أَنَّهُ رَجَمَهَا الرَّجْم الْمعْرُوف مَعَ الرَّضْخ؛ لِقَوْلِهِ: ثُمَّ أَلْقَاهَا فِي قَلِيب. وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد مِنْهَا: أَنَّ الْجَانِي عَمْدًا يُقْتَل قِصَاصًا عَلَى الصِّفَة الَّتِي قَتَلَ، فَإِنْ بِسَيْفٍ قُتِلَ هُوَ بِالسَّيْفِ، وَإِنْ قُتِلَ بِحَجَرٍ أَوْ خَشَب أَوْ نَحْوهمَا قُتِلَ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيّ رَضَخَهَا فَرُضِخَ هُوَ. الوجه الثاني من وجهَي القتلَ المباحَ: أنْ يكون القتلُ للكفر، إما لكفر أصلي، أو لردَّة عن الإسلام، فأكثرُ العلماء على كراهة المُثلة فيه، وأنَّه يُقتل فيه بالسيف. وكان النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أَذِنَ في التحريق بالنار، ثم نهى عنه كما في (صحيح البخاري) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: «بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي بَعْثٍ وَقَالَ لَنَا إِنْ

لَقِيتُمْ فُلَانًا وَفُلَانًا لِرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ سَمَّاهُمَا فَحَرِّقُوهُمَا بِالنَّارِ» قَالَ: ثُمَّ أَتَيْنَاهُ نُوَدِّعُهُ حِينَ أَرَدْنَا الْخُرُوجَ فَقَالَ: «إِنِّي كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ أَنْ تُحَرِّقُوا فُلَانًا وَفُلَانًا بِالنَّارِ وَإِنَّ النَّارَ لَا يُعَذِّبُ بِهَا إِلَّا اللهُ فَإِنْ أَخَذْتُمُوهُمَا فَاقْتُلُوهُمَا». وصحَّ عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنَّه حرَّق المرتدين، وأنكر ذلك ابنُ عباس - رضي الله عنه - عليه فروى البخاري عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -:أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تُعَذّبُوا بِعَذَابِ اللهِ - عز وجل -». وقيل: إنَّ عليًا - رضي الله عنه - لم يُحرّقهم، وإنَّما دَخَّنَ عليهم حتى ماتوا. (ذكره البيهقي). وروى الإمام أحمد، وأبو داود، والنَّسائي من حديث ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: «كُنَّا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فمَرَرْنَا بِقَرْيَةِ نَمْلٍ قَدْ أُحْرِقَتْ، فغَضِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وقَالَ: إنَّه لَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ أنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللهِ - عز وجل -» (صحيح). وأكثرُ العلماء على كراهةِ التحريق بالنار حتى للهوام، وقال إبراهيم النَّخعيُّ: تحريقُ العقرب بالنار مُثلةٌ. ونهت أمُ الدرداء عن تحريق البرغوث بالنار. وقال الإمام أحمد: لا يُشوى السمكُ في النار وهو حيٌّ. • الرفق بالحيوان: وقد ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه نهى عن صَبْرِ البهائِمِ، وهو: أنْ تحبس البهيمة، ثُمَّ تُضرب بالنبل ونحوه حتَّى تموتَ. ففي «الصحيحين» عن أنسٍ - رضي الله عنه -:أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَهَى أنْ تُصْبَرَ البَهَائِم. وفيهما أيضًا عن ابن عمر: أنَّه مرَّ بقوم نصبوا دجاجةً يرمونها، فقال ابنُ عمر: «مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَعَنَ مَنْ فَعَلَ هَذَا». وروى مسلم من حديث ابنِ عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - «أنَّه نَهَى أنْ يُتَخَّذَ شَيْءٌ فِيهِ الرُوحُ غَرَضًا»، والغرض: هو الذي يرمى فيه بالسهام. وأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنْ تُحَدَّ الشَّفْرةُ، وأنْ تُوَارَى عَنِ البَهَائِمِ. (رواه أحمد وإسناده صحيح)، فالذبح بالآلة الحادة يُرِيحُ الذبيحة بتعجيل زهوق نفسها.

وقال عمر - رضي الله عنه -: «لا تَعْجلُوا الأنْفُسَ قَبْلَ أنْ تُزْهَقَ». (رواه البيهقي وقال الألباني: إسناده يحتمل التحسين). وروى الخلالُ والطبرانيُّ من حديث عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «مَرَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى رَجُلٍ وَاضِعٍ رِجْلَهُ عَلَى صَفْحَةِ شَاةٍ، وَهُوَ يَحُدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَلْحَظُ إِلَيْهِ بِبَصرِها، فقال: «أفَلَا قَبْلَ هَذَا؟ تُرِيدُ أنْ تُمِيتَهَا مَوْتَتَيْنِ؟» (صحيح). وقال الإمام أحمد: تُقاد إلى الذبح قودًا رفيقًا، وتُوارى السكينُ عنها، ولا تُظهر السكين إلا عندَ الذبح، أمر رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك: «أنْ تُوَارَى الشّفَارُ».وقال: ما أبهمت عليه البهائم فلم تبهم أنَّها تعرف ربها، وتعرف أنَّها تموت. وروى عبدُ الرزاق عن ابن سيرين: أنَّ عُمَرَ رأى رجلًا يسحب شاةً برجلها ليذبحها، فقال له: وَيْلَكَ قُدْها إلى الموت قودًا جميلًا. وروى محمدُ بنُ زيادٍ: أنَّ ابن عمر رأى قصَّابًا يجُرُّ شاةً، فقال: سُقها إلى الموت سوقًا جميلًا، فأخرج القصابُ شفرة، فقال: ما أسوقها سوقا جميلًا وأنا أريد أنْ أذبحها الساعة، فقال: سقها سوقًا جميلًا. وفي «مسند الإمام أحمد» عن معاوية بنِ قُرة، عن أبيه: أنَّ رجلًا قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:يا رسولَ اللهِ إني لأذبحُ الشاةَ وأنا أرحمها، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «والشَاةُ إنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ». (إسناده صحيح). وقال مطرف بنُ عبد الله: إنَّ الله ليرحم برحمة العصفور. وقد رُوي من غير وجه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه نهى أنْ تُولَّه والدة عن ولدها، (أي يفرق بينهما) وهو عام في بني آدم وغيرهم. فروى البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والحاكم عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتْ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تُفَرِّشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - َ فَقَالَ: «مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا، رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا».

وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ: «مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟»، قُلْنَا: «نَحْنُ»، قَالَ: «إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ» (سنده صحيح). (الْحُمَّرَةُ):بضم الحاء وفتح الميم المشددة: طائر صغير كالعصفور أحمر اللون. (تُفَرِّش):أي ترفرف بجناحيها وتقترب من الأرض. وَسُئِلَ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ الْفَرَعِ قَالَ: «وَالْفَرَعُ حَقٌّ، وَأَنْ تَتْرُكُوهُ حَتَّى يَكُونَ بَكْرًا شُغْزُبًّا ابْنَ مَخَاضٍ أَوْ ابْنَ لَبُونٍ، فَتُعْطِيَهُ أَرْمَلَةً، أَوْ تَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي سَبِيلِ اللهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذْبَحَهُ فَيَلْزَقَ لَحْمُهُ بِوَبَرِهِ، وَتَكْفَأَ إِنَاءَكَ، وَتُولِهُ نَاقَتَكَ». (حسن رواه أبو داود). والمعنى: أنَّ ولد الناقة إذا ذبح وهو صغير عندَ ولادته لم يُنتفع بلحمه، وتضرَّر صاحبُه بانقطاع لبنِ ناقته، فتُكفِئ إناه وهُوَ المِحْلَبُ الذي تُحلَب فيه الناقة، وتولَّه الناقة على ولدها بفقدها إيَّاه. وعن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟» فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ» (صحيح رواه أبو داود). (حَائِطًا): أَيْ بُسْتَانًا (فَإِذَا): لِلْمُفَاجَأَةِ (فَلَمَّا رَأَى): أَيْ الْجَمَل (النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -). (حَنَّ): أَيْ رَجَّعَ صَوْته وَبَكَى (وَذَرَفَتْ): أَيْ جَرَتْ (عَيْنَاهُ): أَيْ عَيْنًا الْجَمَل. (ذِفْرَاهُ): الذِّفْرَى مِنْ الْبَعِير مُؤَخِّر رَأْسه وَهُوَ الْمَوْضِع الَّذِي يُعْرَف مِنْ قَفَاهُ. وقيل: ذِفْرَى الْبَعِير أَصْل أُذُنه. (وَتُدْئِبهُ): أَيْ تُكْرِههُ وَتُتْعِبهُ. وعَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ فَقَالَ: «اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً وَكُلُوهَا صَالِحَةً». (صحيح رواه أبو داود). (قَدْ لَحِقَ ظَهْره بِبَطْنِهِ): أَيْ مِنْ الْجُوع. (الْمُعْجَمَة): أَيْ الَّتِي لَا تَقْدِر عَلَى النُّطْق. وَالْمعْنَى: خَافُوا اللهُ فِي هَذِهِ الْبَهَائِم الَّتِي لَا تَتَكَلَّم فَتَسْأَل مَا بِهَا مِنْ الْجُوع وَالْعَطَش وَالتَّعَب وَالْمَشَقَّة. وأصل الأعجم: الذي لا يفصح بالعربية ولا يجيد التكلم بها عجميًا كان أو عربيًا سمي به لعجمة لسانه، والتباس كلامه. (وَكُلُوهَا صَالِحَة): أَيْ حَال كَوْنهَا صَالِحَة لِلْأَكْلِ أَيْ سَمِينَة. قال الألباني: «قوله (كلوها) قيَّدُوها بضم الكاف من الأكل وعليه جرى المناوي في شرح هذه الكلمة، فإذا صحت الرواية بذلك فلا كلام، وإلا فالأقرب عندي أنها (كِلوها) بكسر الكاف من وكل يكل كل أي اتركوها، هذا هو المتبادر من سياق الحديث. وروى البخاري في «الأدب المفرد» أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ، رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» (سنده حسن). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ». (رواه البخاري ومسلم). (فِي هِرَّة) أَيْ بِسَبَبِ هِرَّة. (خَشَاشِ الْأَرْضِ): هَوَامّ الْأَرْض وَحَشَرَاتهَا. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «بَيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ، فَقَالَ: «لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي». فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَى الْكَلْبَ؛ فَشَكَرَ الله لَهُ؛ فَغَفَرَ لَهُ». قَالُوا: «يَا رَسُولَ الله، وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا؟» قَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ». (رواه البخاري) بَيْنَا: بَيْنَمَا. يَلْهَث: لَهَثَ الْكَلْبُ: أَخْرَجَ لِسَانه مِنْ الْعَطَش.

الثَّرَى: الْأَرْض النَّدِيَّة. خُفّه: الخُفّ: ما يُلبَس في الرِّجْل من جِلْدٍ رقيق. ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ: أَيْ أمسك أَحَد خُفَّيْهِ الَّذِي فِيهِ الْمَاء بفمه، وَإِنَّمَا اِحْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُعَالِج بِيَدَيْهِ لِيَصْعَد مِنْ الْبِئْر، وَهُوَ يدل على أَنَّ الصُّعُود مِنْهَا كَانَ عَسِرًا. رَقِيَ: صَعِدَ. وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِم أَجْرًا: أَيْ فِي سَقْي الْبَهَائِم أَوْ الْإِحْسَان إِلَى الْبَهَائِم. فِي كُلّ كَبِد رَطْبَة أَجْر: أَيْ كُلّ كَبِد حَيَّة، وَالْمُرَاد رُطُوبَة الْحَيَاة، أَوْ لِأَنَّ الرُّطُوبَة لَازِمَة لِلْحَيَاةِ فَهُوَ كِنَايَة، أَيْ الْأَجْر ثَابِت فِي إِرْوَاء كُلّ كَبِد حَيَّة. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: الْمَعْنَى: فِي كُلّ كَبِد حَيّ أَجْر، وَهُوَ عَامّ فِي جَمِيع الْحَيَوَان. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِنَّ عُمُومه مَخْصُوص بِالْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَم ـ وَهُوَ مَا لَمْ يُؤْمَر بِقَتْلِهِ ـ فَيَحْصُل الثَّوَاب بِسَقْيِهِ، وَيَلْتَحِق بِهِ إِطْعَامه وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ وُجُوه الْإِحْسَان إِلَيْهِ. وَقَالَ اِبْن التِّين: لَا يَمْتَنِع إِجْرَاؤُهُ عَلَى عُمُومه، يَعْنِي: فَيُسْقَى ثُمَّ يُقْتَل لِأَنَّا أُمِرْنَا بِأَنْ نُحْسِن الْقِتْلَة وَنُهِينَا عَنْ الْمُثْلَة. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنْ الْمَاءِ؛ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ». (رواه البخاري). ولفظ مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنَّ امْرَأَةً بَغِيًّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارٍّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ، قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنْ الْعَطَشِ، فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا فَغُفِرَ لَهَا» (رواه مسلم). الْبَغِيّ: الزَّانِيَة، وَالْبِغَاء هُوَ الزِّنَا. رَكِيٍّ: ِبِئْرٍ. يُطِيفُ بِبِئْرٍ: يَدُور حَوْلهَا. أَدْلَعَ لِسَانه: أَيْ أَخْرَجَهُ لِشِدَّةِ الْعَطَش. الْمُوق: الْخُفّ: وهو ما يُلْبَس في الرِّجْل من جلد رقيق. نَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا: أي أخْرَجَتْ له الماءَ بِخُفِّها مِن البِئْرِ.

• ومن الآثار في الرفق بالحيوان (ذكرها الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة): أ - عن المسيب بن دارم قال: رأيت عمر بن الخطاب ضرب جمّالا، وقال: لم تحمل على بعيرك مالا يطيق؟! (رواه ابن سعد في «الطبقات» وسنده صحيح). ب - عن عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رجلًا حَدَّ شفرة وأخذ شاة ليذبحها، فضربه عمر - رضي الله عنه - بالدِّرّة وقال أتعذب الروح؟! ألا فعلت هذا قبل أن تأخذها؟! (رواه البيهقي). (الدِّرَّة: السوط). ج - عن محمد بن سيرين: أن عمر - رضي الله عنه - رأى رجلًا يجر شاة ليذبحها فضربه بالدِّرَّة وقال: سُقْها ـ لا أمَّ لك ـ إلى الموت سوقًا جميلًا. (رواه البيهقي). د - عن وهب بن كيسان: أن ابن عمر رأى راعي غنم في مكان قبيح، وقد رأى ابن عمر مكانا أمثل منه، فقال ابن عمر: ويحك يا راعي حوِّلْها، فإني سمعتُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «كُلُّ رَاعٍ مَسْؤُولٌ عَنْ َرِعَّيِتِهِ». (رواه أحمد وسنده حسن). هـ - عن معاوية بن قرة قال: كان لأبي الدرداء جمل يقال له: (دمون)، فكان إذا استعاروه منه قال: لا تحملوا عليه إلا كذا وكذا، فإنه لا يطيق أكثر من ذلك، فلما حضرته الوفاة قال: يا دمون لا تخاصمني غدًا عند ربي، فإني لم أكن أحمل عليك إلا ما تطيق. (رواه أبو الحسن الأخميمي في «حديثه»). قال الشيخ الألباني: تلك هي بعض الآثار، وهي تدل على مبلغ تأثر المسلمين الأولين بتوجيهات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الرفق بالحيوان، وهي في الحقيقة نقطة من بحر، وفي ذلك بيان واضح أن الإسلام هو الذى وضع للناس مبدأ (الرفق بالحيوان)، خلافا لما يظنه بعض الجهال بالإسلام أنه من وضع الكفار الأوربيين، بل ذلك من الآداب التي تلقوها عن المسلمين الأولين، ثم توسعوا فيها، ونظموها تنظيمًا دقيقًا، وتبنتها دولهم حتى صار الرفق بالحيوان من مزاياهم اليوم، حتى توهم الجهال أنه من خصوصياتهم! وغرهم في ذلك أنه لايكاد يُرَى هذا النظام مطبقا في دولة من دول الإسلام، وكانوا هم أحق بها وأهلها!

24 - المستقبل لهذا الدين رغم مرارة الواقع

24 - المستقبل لهذا الدين رغم مرارة الواقع ألمْ يَأْنِ للكفرِ أن يُهزَما ... ألم يأْنِ للدينِ أن يَحكما؟ فقدْ طالَ من أمتي نومُها ... وليلُ الجهالةِ قد خيّما وأنظرُ حوليَ في حسرةٍ ... وأستعجلُ النصرَ مُسترحما ليَعلمَ مَنْ لم يزلْ جاهلًا ... ويُبصرَ مَنْ لم يزلْ في عَمَى بأنَّ السبيلَ لمستنصر ... بأن يَنصرَ اللهَ ربَّ السما وأنَّ الذي لم يزلْ عاصيًا ... حريّ وأجدرُ أن يُهزما ومنْ لم يقاومْ هَوى نفسِه ... يَظلَّ أسيرَ الهوى دائمًا ولنْ تَستقيمَ لعودٍ ظلال ... إذا لم يكنْ جذعُه قائما يغيِّرُ ربُّ إذا غيّروا ... ولن ينصرَ اللهُ مستسلما • البشارة بمستقبل الدين رغم مرارة الواقع: كثيرًا ما يرد على أسماع المصلحين والدعاة وطلاب العلم أن المستقبل لهذا الدين، وأن المستقبل للإسلام، وأن النصر قادم إن شاء الله تعالى. فيقول القائل في مرارة وحسرة: أيّة بشرى بمستقبل الإسلام والمذابح الوحشية تلاحق المسلمين في كل مكان، أية بشرى وأيّ أمل وقد بُتر من جسد الأمة القدس الحبيب، أولى القبلتين ومسرى الرسول الأمين - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد بترت العراق والشيشان وأفغانستان وغيرهم؟ أية بشرى وأي أمل وقد اتفق أعداء الإسلام ـ على اختلاف مشاربهم وتعدد دياناتهم ـ على القضاء على الإسلام واستئصال شأفة المسلمين، أية بشرى وأي أمل وقد مات ثلة من علماء الأمة الربانيين والمصلحين المخلصين واحدًا تلو الآخر رحمهم الله تعالى جميعا، وبالرغم من كل هذا بل وأكثر من هذا نقول: لئِنْ عرفَ التاريخُ أوسًا وخزرجَا فلِلّهِ أوسٌ قادمونَ وخزرجُ وإن كنوز الغيب تُخْفِي طلائعًا صابرةً رغمَ المكائدِ تخرجُ •

كيف يكون المستقبل للإسلام والأعداء قد اجتمعوا عليه وتكالبوا من كل جهة؟ كيف والأعداء يملكون القنابل النووية والأسلحة الفتاكة، والمسلمون عزّلٌ من السلاح؟ إن هذا السائل ينسى: 1 - أن الذي ينصر المسلمين هو الله لا بجهدهم ولا قوتهم قال الله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} (التوبة:14) فالمسلمون سبب لتحقيق قدر الله وإرادته {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَنًا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأنفال:17). 2 - وينسى هذا السائل أن الله يُسبِّح له من في السموات ومن في الأرض، ومما يسبح له قنابل هؤلاء وأسلحتهم. 3 - وينسى أن الله إذا أراد أمرًا فإنما يقول له كن فيكون {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر:50) {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21). 4 - وينسى أن الأعداء وصلوا إلى هذه القوة الهائلة والتمكين بجهدهم البشري، وهو ليس حكرًا على أحد، وحركة التاريخ لا تتوقف قال الله تعالى: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (آل عمران:140). وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ، فمهما كادوا للإسلام وأهله واجتمعوا لحربه فإن الله ناصرٌ دينه ومُعْلي كلمته، من كان يظن ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مع قلة مؤمنة في مكة يُعَذّبون ويُضطَهَدون ويحارَبون بل ويُطرَدون من بيوتهم وبلدهم، بل ونال الأذى والبلاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ووضع التراب وسلى الجزور على رأسه وهو ساجد وفي تلك الحالة يعدهم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بكنوز كسرى وقيصر.

فما هي إلا سنوات قليلة ويعود برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى مكة فاتحًا منتصرًا يحيط به عشرة آلاف رجل، ويدخل الحبيب - صلى الله عليه وآله وسلم - المسجد الحرام فتشرق شمس التوحيد حول الكعبة وتتبعثر الأصنام والآلهة المكذوبة في ذل وخزي شديد، ويردد الحبيب قول الله - عز وجل -: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء81). وبعد فترة يموت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتبرز فتنة الردة بوجهها الكالح حتى ظنّ بعض مَن في قلبه مرض أنه لن تقوم للإسلام قائمة، فنهض الصديق - رضي الله عنه -، ووقف وقفته الخالدة، وانتهت الفتنة، وازداد الإسلام رفعةً وعزةً. ومن كان يظن أن تقوم للمسلمين قائمة بعد ما استولى الصليبيون على كثير من بلدان المسلمين ودنسوا المسجد الأقصى ما يقارب قرنًا من الزمان حتى حرر الله الأرض وطهر المسجد الأقصى على يد البطل الكبير صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - في معركة حطين الحاسمة التي سطرها التاريخ. أيها المسلمون: إن الإسلام قادم والله الذي لا إله إلا هو، لأنه الدين الذي ارتضاه الله للبشرية دينًا. إن الدين عند الله الإسلام، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} (المائدة 3). • تنسم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - النصر في أضيق الظروف وأصعب الأوقات: لقد كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عند تناهي الكرب والشدائد يبشر أصحابه بالنصر والتمكين؛ فعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ لَا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثُمَّ هَبَطَ إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ» فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ، وَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي هَذَا». ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ» وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ فَارِسَ وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ، وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الْأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا».

ثُمَّ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ»، وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: «اللهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللهِ إِنِّي لَأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» (إسناده حسن رواه الإمام أحمد). وعَنْ رَجُلٍ مَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ ثُلُثُ الْحَجَرِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَرْقَةٌ. ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْآخَرُ فَبَرَقَتْ بَرْقَةٌ فَرَآهَا سَلْمَانُ. ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ وَقَالَ: «تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ. قَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ مَا تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلَّا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا سَلْمَانُ رَأَيْتَ ذَلِكَ؟»، فَقَالَ: «إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَى رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ». قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: «يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ»، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِذَلِكَ ـ «ثُمَّ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الثَّانِيَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ قَيْصَرَ وَمَا حَوْلَهَا حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ»، قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ اللهَ أَنْ يَفْتَحَهَا عَلَيْنَا وَيُغَنِّمَنَا دِيَارَهُمْ وَيُخَرِّبَ بِأَيْدِينَا بِلَادَهُمْ»، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِذَلِكَ ـ «ثُمَّ ضَرَبْتُ الثَّالِثَةَ فَرُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ الْحَبَشَةِ وَمَا حَوْلَهَا مِنْ الْقُرَى حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ».

قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ: «دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ» (حسن رواه النسائي). (حَالَتْ بَيْنهمْ وَبَيْن الْحَفْر) أَيْ مَنَعَتْهُمْ مِنْ الْحَفْر. (الْمِعْوَل) آلَة. (فَنَدَرَ) أيْ سَقَطَ (فَبَرَقَ) مِنْ الْبَرِيق بِمَعْنَى اللَّمَعَان. (رُفِعَتْ) أيْ أظْهِرَتْ. (دَعُوا الْحَبَشَةَ مَا وَدَعُوكُمْ وَاتْرُكُوا التُّرْكَ مَا تَرَكُوكُمْ) أَيْ اُتْرُكُوا الْحَبَشَة وَالتُّرْك مَا دَامُوا تَارِكِينَ لَكُمْ. أيها المؤمنون، إن أشد ساعات الليل سوادًا هي الساعة التي يليها ضوء الفجر، وفجر الإسلام قادم لا محالة كقدوم الليل والنهار، وإن أمة الإسلام قد تمرض وتعتريها فترات من الركود الطويل، ولكنها بفضل الله - عز وجل - لا تموت، وإن الذي يفصل في الأمر في النهاية ليس هو قوة الباطل وإنما الذي يفصل في الأمر هو قوة الحق، ولا شك أنه معنا الحق الذي من أجله خلقت السماوات والأرض، والجنة والنار، ومن أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل، معنا رصيد الفطرة. يوم جاء الإسلام أول مرة وقف في وجهه واقع ضخم، وقفت في وجهه عقائد وتصورات، ووقفت في وجهه قيم وموازين، ووقفت في وجهه أنظمة وأوضاع، ووقفت في وجهه مصالح وعصبيات، كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع الناس مسافة هائلة سحيقة، ولو أنه قيل لكائن من كان في ذلك الزمان أن هذا الدين الجديد هو الذي سينتصر لما لقي هذا القول إلا السخرية والاستهزاء والاستنكار! ولكن هذا الواقع سرعان ما تزحزح عن مكانه ليخليه للوافد الجديد، فكيف وقع هذا الذي يبدو مستحيلًا، كيف استطاع رجل واحد أن يقف وحده في وجه الدنيا كلها، إنه لم يتملق عقائدهم، ولم يداهن مشاعرهم، ولم يهادن آلهتهم، ولم يوزع الوعود بالمناصب والمغانم لمن يتبعونه، فكيف إذن وقع الذي وقع؟ لقد وقع الذي وقع من غلبة هذا المنهج لأنه تعامل من وراء الواقع الظاهري مع رصيد الفطرة.

إذن معنا رصيد الفطرة، وقبل ذلك كله معنا الله، ويا لها من معية كريمة جليلة مباركة، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. • وعد الله - عز وجل -: إنه وعد الله وكلمته {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} (الصافات: 171ـ173) إن هذا الوعد المبارك سنة من سنن الله الكونية الثابتة التي لا تتبدل ولا تتغير، وإن هذا النصر سُنّة ماضية كما تمضي الكواكب والنجوم في أفلاكها بدقة وانتظام. دَعْنا نسافرُ في دُروبِ آبائِنا ولنا مِن الهممِ العظيمةِ زادُ ميعادُنا النصرُ المبينُ فإنْ يكنْ موتٌ فعِندَ إلهِنا الميعادُ • أسباب تأخر النصر لن تمنع تحققه ولو بعد حين: قد يبطئ النصر لأسباب كثيرة جدًا، ولكنه آت بإذن الله تعالى في نهاية المطاف مهما رصد الباطل وأهله من قوى الحديد والنار، ونحن لا نقول ذلك رجمًا بالغيب ولا من باب الأحلام الوردية لتسكين الآلام وتضميد الجراح كلا، ولكنه القرآن الكريم يتحدث، والرسول الصادق الأمين يبشر، والتاريخ والواقع يشهد. • البشائر في كتاب الله: فمع بشائر القرآن العظيم: قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} (التوبة: 33) وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (الصف:8) ووعد الله - عز وجل - المؤمنين بالنصر فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:47) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7). ففي هذه الآيات أخبر الله - سبحانه وتعالى - أن من سنته في خلقه أن ينصر عباده المؤمنين إذا قاموا بنصرة دينه وسعوا لذلك، ولئن تخلفَتْ هذه السنة لحكمة يريدها الله في بعض الأحيان فهذا لا ينقض القاعدة، وهي أن النصر لمن ينصر دين الله.

25 - المستقبل لهذا الدين ولكن ما السبيل إليه؟

25 - المستقبل لهذا الدين ولكن ما السبيل إليه؟ ومن البشائر وعد الله للمؤمنين بالتمكين في الأرض {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور55)، وقد وعد الله في هذه الآية وهو الذي لا يخلف الميعاد وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض، وأن يمكن لهم دينهم، وأيّ أمل للمسلمين فوق وعد الله - عز وجل -، وأيّ رجاء بعد ذلك للمؤمن الصادق. ومن البشائر في كتاب الله الإشارة إلى ضعف كيد الكافرين وضلال سعيهم، إن مما يجلب اليأس لكثير من المسلمين ما يراه من اجتماع الكفار على اختلاف طوائفهم ومشاربهم على الكيد للإسلام وأهله، وما يقومون به من جهود لحرب المسلمين في عقيدتهم وإفساد دينهم، في حين أن المسلمين غافلون عما يكاد لهم ويراد بدينهم. • ما يبذله الأعداء من مال وجهد إلى تباب: وحين يرى المرء ثمرات هذا الكيد تتتابع حينئذٍ يظن أن أيّ محاولة لإعادة مجد المسلمين ستواجه بالحرب الشرسة وتقتل في مهدها، فيا من تفكر في هذا الأمر استمع لهذه الآيات: قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال:36) فكم من المليارات أنفقت ولا زالت تنفق بسخاء رهيب للصد عن سبيل الله لتنحية دين الله - عز وجل -، ولكن بموعود الله - عز وجل -: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}. فكم من المليارات أنفقت وبذلت لتنصير المسلمين، وكم من المليارات أنفقت لتدمير كيان الأسرة المسلمة، وكم من المليارات أنفقت لتقويض صرح الأخلاق بإشاعة الرذيلة عن طريق القنوات الفضائية وعن طريق الأفلام الداعرة والمسلسلات

الفاجرة والصور الخليعة الماجنة والقصص الهابطة، والآن عن طريق شبكات الإنترنت، يعرض كل هذا وأكثر، ويدخل لا أقول كل بيت، بل كل غرفة بيسر وسهولة ودون رقيب، ولكن ما هي النتيجة؟ النتيجة بإذن الله - عز وجل - وموعوده:: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}، وتأمل في قول الله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا* فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} (الطارق: 15 - 17) وقوله - عز وجل -: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} (الأنفال: 18) فمهما كاد هؤلاء لدين الله ومهما بذلوا لمحاربته، فالله لهم بالمرصاد، وهم أعداء الله قبل أن يكونوا أعداء المسلمين. • وإليك هذه الدلائل: * ها هو الأستاذ بكلية اللاهوت بأسيوط: القسيس الذي أسلم على يديه 13 قسيسًا: كان القس إبراهيم خليل فيلبس راعيًا لإحدى الكنائس وأستاذًا للعقائد واللاهوت بكلية اللاهوت بمدينة أسيوط أشهر إسلامه وغيَّرَ اسمه من إبراهيم خليل فيلبس إلى إبراهيم خليل أحمد، وقام إبراهيم خليل بعد إسلامه بإلقاء عدد من المحاضرات في علم «الأديان المقارن» بالمساجد في مدن الإسكندرية والمحلة الكبرى وأسيوط والمنيا وسوهاج وأسوان وفي بعض كليات الجامعات المصرية، فاعتنق كثير من الشباب النصراني الإسلام عندما استبانت له الحقيقة. * وفي عام 1975م طُلِب منه تقديم محاضرة بكلية أسيوط، فتكلم عن المسيح - عليه السلام - وعن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - من خلال الأناجيل والتوراة، وكان للمحاضرة صدى واسع انتهى بإعلان 17 من الشبان أبناء الجامعة إسلامهم. * التقي ـ مع الدكتور جميل غازي - رحمه الله - ـ بـ 13 قسيسًا عام 1401هـ بالسودان في مناظرة مفتوحة انتهت باعتناقهم الإسلام جميعًا وهؤلاء كانوا سبب خير وهداية لغرب السودان حيث دخل الألوف من الوثنيين وغيرهم دين الله على أيديهم. * وها هي (ميري واتسون) معلمة اللاهوت سابقًا بإحدى جامعات الفلبين،

والمنصِّرة والقسيسة، تحولت بفضل الله إلى داعية إسلامية، كان اسمها قبل الإسلام «ميري»، وهي أمريكية المولد في ولاية أوهايو، والآن بعد الإسلام اسمها خديجة. وأسلم كثيرون غيرهم ... منهم: 1 - سفير ألمانيا السابق في المغرب الذي أصبح اسمه بعد إسلامه «مراد هوفمان» من مؤلفاته (يوميات مسلم ألماني)، و (الإسلام عام ألفين) و (الطريق إلى مكة) وكتاب (الإسلام كبديل) الذي أحدث ضجة كبيرة في ألمانية. 2 - المغني البريطاني المشهور «كات ستيفنس» الذي أصبح اسمه بعد إسلامه «يوسف إسلام» وأصبح له نشاط ملحوظ في الدعوة إلى الإسلام. 3 - «دا?يد بنيامين الكلداني»، كان قسيسًا للروم من طائفة الكلدان، وبعد إسلامه تسمى بـ «عبد الأحد داود». 4 - القس المصري «فوزي صبحي سمعان» الذي أصبح بعد إسلامه معلمًا للدين الإسلامي. ولقد أسلم والده وأسلمت شقيقته وتزوجت من شاب نصراني (مسيحي) هداه الله للإسلام فاعتنقه وصار داعية له، وهو يعمل حاليًا إمامًا لأحد المساجد بمدينة الدوحة بدولة قطر. 5 - القسيس الأمريكي «كِنِث چنكِنز» الذي أصبح اسمه بعد إسلامه «عبد الله الفاروق». 6 - قالت صحيفة «الصنداي تايمز» البريطانية أن 14 ألف بريطاني أبيض، بعضهم من صفوة المجتمع ومن الطبقات المثقفة والعليا قد أعلنوا إسلامهم، وبعضهم من كبار ملاك الأرض أو من المشاهير أو من الأثرياء، ومنهم «يحيى بِرت» مدير إذاعة BBC الأسبق الذي كان اسمه قبل إسلامه «جوناثان برت». 7 - نشرت صحيفة «لوفيجارو» الفرنسية تقريرًا سريًا للمخابرات الفرنسية يفصح عن القلق الشديد من انتشار الإسلام في فرنسا حيث يعلن حوالي ثلاثين إلى خمسين ألف فرنسي إسلامهم سنويًا.

8 - أسلم خلال السنوات الأربع التالية لأحداث 11 سبتمبر حوالي نصف مليون شخص في أوربا وأمريكا. * في وثيقة التنصير الكنسي صرخ بابا الفاتيكان بذعر لكل المنصرين على وجه الأرض قائلًا: «هيا تحركوا بسرعة لوقف الزحف الإسلامي الهائل في أنحاء أوربا». سبحان الله!! إنه دين الله، تأمل أخي الحبيب جهود بسيطة لكنها مباركة تفعل فعلها في نفوس الكافرين، ترعبهم وتزعجهم، إنه دين الله، ووالله الذي لا إله إلا هو لو بذل الآن للإسلام مثل ما يبذله أعداء الإسلام لأديانهم لم يبق على وجه الأرض إلا الإسلام. • أحاديث البشارة النبوية بانتصار الإسلام: وتأتي البشائر النبوية الكريمة لتؤكد هذه الحقيقة: فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ سدد خطاكمقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلَا يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، وَذُلًّا يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ». (صحيح رواه الإمام أحمد). ومن البشائر النبوية أحاديث الطائفة المنصورة، ومنها قَولُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (رواه مسلم). وفي رواية: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» (رواه مسلم) وإن المسلم عندما يطرق سمعه هذا الوصف ليتمنى من أعماق قلبه أن يكون من هذه الطائفة وأن يضرب معها بسهم في نصرة دين الله وإعلاء كلمته، فتتحول هذه الأمنية وقودًا تشعل في نفسه الحماسة والسعي الدؤوب للدعوة لدين الله على منهج الطائفة الناجية أهل السنة والجماعة.

وقد جاءت أحاديث تبشر بانتصار الإسلام في حالات خاصة، فمن ذلك مثلًا قتال اليهود؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ» (رواه البخاري) وفي رواية للبخاري أيضًا: «تُقَاتِلُكُمْ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الْحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية لمسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ» (رواه مسلم) (الْغَرْقَد نَوْع مِنْ شَجَر الشَّوْك مَعْرُوف بِبِلَادِ بَيْت الْمَقْدِس، وَهُنَاكَ يَكُون قَتْل الدَّجَّال وَالْيَهُود). وعن أَبي قَبِيلٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضي الله عنه - وَسُئِلَ: «أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟». فَدَعَا عَبْدُ اللهِ بِصُنْدُوقٍ لَهُ حَلَقٌ، قَالَ: فَأَخْرَجَ مِنْهُ كِتَابًا، قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَكْتُبُ إِذْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: أَيُّ الْمَدِينَتَيْنِ تُفْتَحُ أَوَّلًا قُسْطَنْطِينِيَّةُ أَوْ رُومِيَّةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَدِينَةُ هِرَقْلَ تُفْتَحُ أَوَّلًا»، يَعْنِي قُسْطَنْطِينِيَّةَ» (صحيح رواه الإمام أحمد). (رُومِيَّةُ: روما عاصمة إيطاليا الآن). قال الشيخ الألباني - رحمه الله -:وقد تحقق الفتح الأول على يد محمد الفاتح العثماني كما هو معروف، وذلك بعد ثمانمائة سنة من إخبار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالفتح، وسيتحقق الفتح الثاني بإذن الله تعالى ولا بد، ولتعلمن نبأه بعد حين. وقد جاءت البشائر النبوية أيضًا بأن للمسلمين صولة وجولة وملاحم عظيمة مع الروم تكون فيها الغلبة للمسلمين والنصر لعباده المؤمنين، فعَنْ يُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: «هَاجَتْ رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى إِلَّا: «يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ، جَاءَتْ السَّاعَةُ». قَالَ: فَقَعَدَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: «إِنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ حَتَّى لَا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ، وَلَا يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَنَحَّاهَا نَحْوَ الشَّأْمِ فَقَالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَيَجْمَعُ لَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ. قُلْتُ: الرُّومَ تَعْنِي؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمْ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ. ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لَا تَرْجِعُ إِلَّا غَالِبَةً فَيَقْتَتِلُونَ حَتَّى يُمْسُوا فَيَفِيءُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الرَّابِعِ نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَيَجْعَلُ اللهُ الدَّيْرَةَ عَلَيْهِمْ فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً إِمَّا قَالَ لَا يُرَى مِثْلُهَا ـ وَإِمَّا قَالَ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا ـ حَتَّى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فَمَا يُخَلِّفُهُمْ حَتَّى يَخِرَّ مَيْتًا، فَيَتَعَادُّ بَنُو الْأَبِ كَانُوا مِائَةً فَلَا يَجِدُونَهُ بَقِيَ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ أَوْ أَيُّ مِيرَاثٍ يُقَاسَمُ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ فَجَاءَهُمْ الصَّرِيخُ إِنَّ الدَّجَّالَ قَدْ خَلَفَهُمْ فِي ذَرَارِيِّهِمْ فَيَرْفُضُونَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَيُقْبِلُونَ فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ فَوَارِسَ طَلِيعَةً. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنِّي لَأَعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ ـ أَوْ مِنْ خَيْرِ فَوَارِسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ» (رواه مسلم). (لَيْسَ لَهُ هِجِّيرَى إِلَّا: يَا عَبْد اللهُ بْن مَسْعُود) أَيْ شَأْنه وَدَأْبه ذَلِكَ. (فَيَشْتَرِط الْمُسْلِمُونَ شُرْطَة لِلْمَوْتِ) الشُّرْطَة بِضَمِّ الشِّين طَائِفَة مِنْ الْجَيْش تُقَدَّم لِلْقِتَالِ. (فَيَفِيء هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ) أَيْ يَرْجِع. (نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّة أَهْل الْإِسْلَام) هُوَ بِفَتْحِ النُّون وَالْهَاء أَيْ نَهَضَ وَتَقَدَّمَ.

(فَيَجْعَل اللهُ الدَّيْرَة عَلَيْهِمْ) بِفَتْحِ الدَّال وَالْيَاء أَيْ الْهَزِيمَة، وَرَوَاهُ بَعْض رُوَاة مُسْلِم (الدَّائِرَة) بِالْأَلِفِ وَبَعْدهَا هَمْزَة، وَهُوَ بِمَعْنَى الدَّيْرَة. (جَنَبَاتهمْ) أَيْ نَوَاحِيهمْ. (فَمَا يَخْلُفهُمْ) أَيْ يُجَاوِزهُمْ. • واقع الإنسانية وإفلاس المدنيات المختلفة يبشر بالنصر القادم: وهناك بشائر أخرى تعرف من طبيعة هذا الدين وفطرة الله وسنته في خلقه، ومن ذلك أن الدين الإسلامي هو الذي يتوافق مع الفطرة ويحقق للناس مصالحهم في الدنيا والآخرة، فالرسالات السماوية قد نسخت وحُرِّفَ فيها وبُدِّّل، والأنظمة البشرية يكفي في تصور قصورها وفشلها أنها من صنع البشر، فمن طبيعة هذا المنهج الإسلامي نستمد نحن يقيننا الذي لا يتزعزع أن المستقبل لهذا الدين، وأن له دورًا في هذه الأرض هو منزّل لأدائه، أراده أعداؤه أم لم يريدوه. ومن البشائر: أن العالم اليوم يشكو من إفلاس الأنظمة البشرية ويتجرع مرارة وويلات هذه النظم التي دمرت الإنسانية وقضت على كل جوانب الخير لديها، ومن أقرب الشواهد على ذلك انهيار الأنظمة الشيوعية واحدةً تلو الأخرى، وحقٌ على الله ما ارتفع شيء إلا وضعه، والدمار قادم بإذن الله لمن على شاكلتهم من الكفر والضلال ومحاربة الإسلام وأهله، قال الله - عز وجل -: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (الرعد: 31) والعالم اليوم يتطلع إلى المنقذ الذي يخلصه من ذلك، ولا منقذ إلا الإسلام. • الصحوة الإسلامية العارمة تبشر باقتراب النصر: أيها المسلمون، ومن البشائر بأن المستقبل لهذا الدين: هذا الذي يلوح في الأفق ويشرق كالفجر ويتحرك كالنسيم، بعد كل هذه المؤامرات والضربات المتلاحقة، كان هذا الحدث الكبير الذي هز كيان العالم كله متمثلًا في هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي نسأل الله أن يبارك فيها. تلك الصحوة الكريمة التي يغذيها كل يوم بل كل ساعة شباب في ريعان الشباب وفتيات في عمر الزهور، ينسابون من كل حدب وصوب، يمشون على الشوك

، ويقبضون على الجمر في كثير من البلدان تمسكًا بدين الله - عز وجل - وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، إنه الأمل إنه هذا الجيل الذي تفتحت عينه على نور الإسلام وانشرحت بصيرته لتقبل الحق ولم يخدع بصره بريق الحضارة الغربية الزائف الخاطف للأبصار. صُبْحٌ تنفسَ بالضياءِ وأشرقَا وهذه الصحوةُ الكبرَى تَهُزُّ البيرقَا وشبيبةُ الإسلامِ هذا فيلقٌ ... في ساحةِ الأمجادِ يتبعُ فيلقَا وقوافلُ الإيمان تتخذُ المَدَى ضربًا وتصنعُ للمحيطِ الزورقَا وما أمرُ هذهِ الصحوةِ الكبرَى سوَى وعدٌ مِن اللهِ الجليلِ تحقَّقَا هى نخلةٌ طاب الثّرَى فنمَى لها جِذْعٌ طويلٌ في الترابِ وأعذَقَا هى في رياضِ قلوبِنا زيتونةٌ في جِذعِها غُصنُ الكرامةِ أوْرَقَا فجرٌ تدفّقَ من سيحبِسُ نورَه؟! أرِنِى يَدًا سدَّتْ علينا المشرِقَا (البيرق: راية أو علم، أعذَقَ: خَرَجَ ثمرهُ). وبعد ذلك كله نقول دون شك أو تردد إن المستقبل لهذا الدين، وإن العزة ستكون لأولياء الله، أوليس الله - عز وجل - قد قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم:47)، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا} (النساء:122)، وهو الذي لا يخلف الميعاد. • ولكن متى يقترب النصر؟ ولكن السؤال هو متى يكون هذا؟ اليوم أم غدًا أم بعد سنوات؟ الجواب: في ذلك اليوم سيعود الناس إلى الدين سيعودون إلى الإسلام، وتلك قوة أكبر من إرادة البشر لأنها مبنية على السنّة التي أودعها الله في الفطرة وتركها تعمل في النفوس، وحين يجيء ذلك اليوم فماذا يعني في حساب العقائد عمر جيل من البشر أو أجيال، ليس المهم متى يحدث ذلك، إنما المهم أنه سيحدث بمشيئة الله وعد صادق

وخبر يقين، وحين يجيء ذلك اليوم وهو آتٍ إن شاء الله، فماذا تساوي كل التضحيات والآلام التي تحملتها أجيال من المسلمين، إنها تضحيات مضمونة في السماء والأرض. ولكن هل يتنزل النصر كما ينزل المطر، ويمكّن للمسلمين وهم قاعدون خاملون لم يبذلوا أي جهد ولم يسلكوا أي سبيل للنصر، لنقرأ الإجابة في قوله - عز وجل -: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف 110). إنها سنة الله في هذا الكون التي لا تتبدل ولا تتغير، لقد شاء الله وقضى أن يقوم هذا الدين على أشلاء وجماجم أوليائه وأحبابه وعلى أن توقد مصابيح الهداية بدم الشهداء الأبرار الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} (البقرة 214) {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} (آل عمران 142). عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ؛ قُلْنَا لَهُ: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (رواه البخاري). ما أحسن الكلمة وما أروع العبارة، لقد كان لها وقع كبير في قلوب المستضعفين في كل زمان ومكان «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» استدراك عجيب منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ليخبر الصالحين والمصلحين أن الصبر هو الوسيلة العظمى والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب

الشاق الوعر، ذاك الطريق ـ الاستقامة على شرع الله والدعوة إليه ـ المليء بالعقبات، وذكّرهم - صلى الله عليه وآله وسلم - بمن سبقهم من المستضعفين ليكون لهم زادًا في طريقهم الطويل، ويسليهم حتى يعلموا أن هناك من صبر أكثر منهم وبشرهم ووعدهم حتى لا ييأسوا من العاقبة والعاقبة للمتقين. وسيرة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خير شاهد على ذلك، فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لقي ما لقي من الأذى والبلاء، وهو خليل الله وسيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه، إن من رحمة الله أن جعل طريق النصر محفوفًا بالأشواك والمصائب، وهذا من كمال حكمته وعلمه، وهو الذي لا يُسأل عما يفعل، وقد أشار الله في كتابه إلى شيء من هذه الحكم، فمنها تمييز الصادقين من غيرهم، واتخاذ الشهداء والأجر والمثوبة من عند الله، والهداية والتوفيق لأنصار دينه، وأن ذلك سبب لهم في دخول الجنة، إلى غير ذلك من الحكم العظيمة. يا فتَى الإسلامِ هلّا قلتَ لي أيُّ ذنبٍ بالمخازِي ضَيَّعَكْ أيُّها السادِرُ في لذّاتِهِ هل ترَى عَيْشَ المعاصِي أعجَبَكْ أمَّتي قد علّقَتْ فيك المُنَى فاسْتَفِقْ وانهَضْ وغادِرْ مضْجَعَكْ عُدْ إلى الرحمنِ في طُهرٍ تجِدْ مركبَ النصرِ إلى العَليَا معكْ وترى الأبطالَ آسَادَ الشّرَا تشتهِي يومَ الفِدَى أنْ تَتْبَعَكْ نسألُ اللهَ صلاحًا عادلًا إنما الغافلُ في البلوَى هلكْ قد كفانا ما مضَى مِن بُؤْسِنا ربَّنا اكشِفْ ما بِنَا فالأمرُ لكْ أيها المسلمون: إن المستقبل بل كل المستقبل للإسلام، فلتكن كُلّكَ للإسلام دينُك لحمَك، دينُك عرضَك، دينُك دمَك. قد نهضْنا للمعالِي ومضَى عنّا الجمُودْ ورَسَمْناها خُطىً للعزِّ والنصرِ تقُودْ فتقدَّمْ يا أخَا الإسلامِ قَدْ سارَ الجنودْ ومَضَوْا للمجدِ إنَّ المجدَ بالعزمِ يعودْ

26 - لا ضرر ولا ضرار

26 - لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -:أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قالَ: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ» (حَسَنٌ، رَواهُ ابنُ ماجه والدَّارقطنيُّ وغيرهما). وفي المعنى أيضًا حديثُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - «مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللهُ بِهِ وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ». (حسن رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه). (مَنْ ضَارَّ) أَيْ مَنْ أَدْخَلَ عَلَى مُسْلِم جَارًا كَانَ أَوْ غَيْره مَضَرَّة فِي مَاله أَوْ نَفْسه أَوْ عِرْضه بِغَيْرِ حَقّ (أَضَرَّ اللهُ بِهِ): أَيْ جَازَاهُ مِنْ جِنْس فِعْله وَأَدْخَلَ عَلَيْهِ الْمَضَرَّة. (وَمَنْ شَاقَّ) أَيْ مَنْ نَازَعَ مُسْلِمًا ظُلْمًا وَتَعَدِّيًا (شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ): أَيْ أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ الْمَشَقَّة جَزَاء وِفَاقًا. وَالْحَدِيث فِيهِ دَلِيل عَلَى تَحْرِيم الضِّرَار عَلَى أَيّ صِفَة كَانَ، مِنْ غَيْر فَرْق بَيْن الْجَار وَغَيْره. • هل بين اللفظتين ـ الضَّرر والضرار ـ فرقٌ أم لا؟ من العلماء من قال: هما بمعنى واحد على وجه التأكيد، والمشهورُ أنَّ بينهما فرقًا، ثم قيل: إنَّ الضَّرر هو الاسم، والضِّرار: الفعل، فالمعنى أنَّ الضَّرر نفسَه منتفٍ في الشَّرع، وإدخال الضَّرر بغير حقٍّ كذلك. وقيل: الضَّرر: أنْ يُدخِلَ على غيرِه ضررًا بما ينتفع هو به، والضِّرار: أن يُدخل على غيره ضررًا بما لا منفعةَ له به، كمن منع ما لا يضرُّه ويتضرَّرُ به الممنوع. وقيل: الضَّرر: أنْ يضرّ بمن لا يضره، والضِّرار: أن يضرَّ بمن قد أضرَّ به على وجهٍ غيرِ جائزٍ. وبكلِّ حال فالنَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إنَّما نفى الضرر والضِّرار بغير حق. • إدخالُ الضرر على أحدٍ بحق وبغير حق: فأما إدخالُ الضرر على أحدٍ بحق، إمَّا لكونه تعدَّى حدودَ الله، فيعاقَبُ بقدر جريمته، أو كونه ظلمَ غيره، فيطلب المظلومُ مقابلتَه بالعدلِ، فهذا غير مرادٍ قطعًا، وإنما المرادُ: إلحاقُ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ.

وهذا على نوعين: أحدهما: أنْ لا يكونَ في ذلك غرضٌ سوى الضَّررِ بذلك الغير، فهذا لا ريبَ في قُبحه وتحريمه، وقد ورد في القرآن النَّهيُ عن المضارَّة في مواضع منها: 1 - في الوصية: قال الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَار} (النساء:12)، وعن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «الضرار في الوصية من الكبائر، ثم تلى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللهِ}. (رواه ابن أبي شيبة وإسناده صحيح). والإضرار في الوصيَّةِ تارةً يكون بأنْ يَخُصَّ بعضَ الورثةِ بزيادةٍ على فرضِهِ الذي فرضَهُ الله له، فيتضرَّرُ بقيَّةُ الورثة بتخصيصه، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ اللهَ قَدْ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» (صحيح رواه ابن ماجه). بل إن بعض الناس يحرم الإناث من الميراث بحجج واهية وهذا ظلم واضح. وتارة بأن يُوصي لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث، فتنقص حقوقُ الورثةِ، ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الثُّلث، والثُّلُثُ كَثِيرٌ» (رواه البخاري ومسلم). ومتى وصَّى لوارثٍ أو لأجنبيٍّ بزيادةٍ على الثُّلث، لم ينفّذ ما وصَّى به إلاَّ بإجازة الورثةِ، وسواءٌ قصدَ المضارَّةَ أو لم يقصد، وأما إن قصدَ المضارَّة بالوصيّة لأجنبيٍّ بالثلث، فإنَّه يأثم بقصده المضارَّة، وهل تُرَدُّ وصيَّتُه إذا ثبتَ ذلك بإقراره أم لا؟ حكى ابنُ عطية روايةً عن مالكٍ أنَّها تُردُّ، وقيل: إنَّه قياسُ مذهب أحمد. 2 - في الرجعة في النِّكاح: قال تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (البقرة:231)، وقال: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} (البقرة:228) فدلَّ ذلك على أنَّ من كان قصدُه بالرجعة المضارَّة، فإنَّه آثمٌ بذلك، وهذا كما كانوا في أوَّل الإسلام ـ قبل حصْرِ الطَّلاق في ثلاث ـ يطلِّقُ الرَّجلُ امرأتَه، ثم يتركُها حتّى تقارب انقضاءَ عدَّتها، ثم يُراجعها، ثم

يطلِّقُها، ويفعل ذلك أبدًا بغير نهاية، فيدعُ المرأةَ لا مُطلَّقةً ولا ممسكةً، فأبطل الله ذلك، وحصر الطَّلاق في ثلاث مرات. 3 - في الرضاع: قال تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (البقرة:233)، قال مجاهد في قوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} قال: لا يَمنَعُ أمَّه أن تُرضِعَه ليحزُنَها وقوله: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} (البقرة:233)، يدخلُ فيه أنَّ المطلَّقة إذا طَلبت إرضاع ولدها بأجرة مثلها، لَزِم الأبَ إجابتها إلى ذلك، وسواءٌ وُجِدَ غيرُها أو لم يُوجَدْ. فإن طلبت زيادةً على أجرةِ مثلها زيادةً كثيرةً، ووجدَ الأب من يُرضعُه بأجرةِ المثل، لم يلزمِ الأبَ إجابتُها إلى ما طلبت، لأنَّها تقصد المضارَّة. والنوع الثاني من نوعي إلحاقُ الضَّررِ بغيرِ حقٍّ: أنْ يكون له غرضٌ آخرُ صحيحٌ، مثل أنْ يتصرَّف في ملكه بما فيه مصلحةٌ له، فيتعدَّى ذلك إلى ضرر غيرِه، أو يمنع غيرَه من الانتفاع بملكه توفيرًا له، فيتضرَّر الممنوعُ بذلك. ومما يدخل في عمومِ قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا ضَرَرَ» أنّ الله لم يكلِّف عبادَه فعلَ ما يَضُرُّهم البتَّة، فإنَّ ما يأمرهم به هو عينُ صلاحِ دينهم ودنياهم، وما نهاهم عنه هو عينُ فساد دينهم ودنياهم، لكنَّه لم يأمر عبادَه بشيءٍ هو ضارٌّ لهم في أبدانهم أيضًا، ولهذا أسقط الطَّهارة بالماء عَنِ المريض، وقال: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} (المائدة:6)، وأسقط الصيام عن المريض والمسافر، وقال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة:185)، وأسقط اجتناب محظورات الإحرام، كالحلق ونحوه عمن كان مريضًا، أو به أذى من رأسه، وأمرَ بالفدية. وعن عائشة - رضي الله عنها - أن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إنِّي أرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ» (رواه الإمام أحمد وإسناده حسن).

وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:أيُّ الأديان أحبُّ إلى الله - عز وجل -؟ قال: «الحنيفيَّةُ السَّمْحَةُ». (رواه البخاري في صحيحه تعليقًا ووَصَلَهُ فِي كِتَاب (الْأَدَب الْمُفْرَد)، وَكَذَا وَصَلَهُ أَحْمَد بْن حَنْبَل وَغَيْره وَإِسْنَاده حَسَن). وَالْمُرَاد بِالْأَدْيَانِ الشَّرَائِع الْمَاضِيَة قَبْل أَنْ تُبَدَّل وَتُنْسَخ. وَالْحَنِيفِيَّة مِلَّة إِبْرَاهِيم، وَالْحَنِيف فِي اللُّغَة مَنْ كَانَ عَلَى مِلَّة إِبْرَاهِيم، وَسُمِّيَ إِبْرَاهِيم حَنِيفًا لِمَيْلِهِ عَنْ الْبَاطِل إِلَى الْحَقّ؛ لِأَنَّ أَصْل الْحَنَف الْمَيْل، وَالسَّمْحَة السَّهْلَة، أَيْ: أَنَّهَا مَبْنِيَّة عَلَى السُّهُولَة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّين مِنْ حَرَج مِلَّة أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيم} (المائدة:6). ومن هذا المعنى ما في (الصحيحين) عن أنسٍ: أنَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:رأى رجلًا يمشي، قيل: إنّه نذرَ أن يحجَّ ماشيًا، فقال: «إنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ مَشْيِهِ، فَلْيَرْكَبْ»، وفي رواية: «إنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَه». وفي (السنن) عن عُقبة بن عامر أنَّ أختَه نذرت أنْ تمشي إلى البيت، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ اللهَ لا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أخْتِكَ شَيْئًا فَلْتَرْكَبْ» (حسن). • من الضرر شرب الدخان: وشرب الدخان من الضرر الواضح الذي ابتُلي به ـ للأسف ـ كثير من المسلمين. ظهر الدخان على الوجه المعروف به اليوم عام 1492م تقريبًا حيث رأى بعض البحارة الأسبانيين شجرة الدخان عند اكتشافهم القارة الأمريكية. وأول ما ظهر الدخان في البلاد الإسلامية كان في أواخر المائة العاشرة من الهجرة النبوية وأول من جلبه للبلاد الإسلامية هم النصارى. والدخان هو مجموعة من المواد السامة ويتكون من مئات المواد الكيماوية المختلفة، فيها مواد سامة مسببة للسرطان، ويتوهم الناس ـ أو يظن بعضهم ـ بأن مادة النيكوتين هي المادة السامة الوحيدة، ولكن الحقيقة أن هناك أكثر من خمسة عشر نوعًا من السموم وأهمها:

1ـ النيكوتين: وهو مركب سام جدًا وخطر على جميع المخلوقات إذ يكفي منه جرام واحد لقتل عشرة كلاب من الحجم الكبير، وحقنة واحدة تقدر بواحد سنتيمتر مكعب (1سم3) كافية لقتل حصان. 2ـ غاز أول أكسيد الفحم: وهو معروف بتأثيره السام. 3ـ القطران: وهي المادة اللزجة الصفراء التي تؤدي إلى اصفرار الأسنان ونخرها وإلى التهاب اللثة وهي أشد المواد خطرًا. والقطران يتكون من الاحتراق غير المكتمل للتبغ يضاف إليه ما يتكون من احتراق ورق اللفافة وهو السبب لتلون أصابع المدمنين بالصفرة. 4ـ عنصر الرصاص الثقيل السام: الذي يتجمع في الجسم فلا يستطيع إفرازه. 5ـ الزرنيخ: وهذه المادة تستعمل من أجل إبادة الحشرات وينفذ من هذه المادة السامة (10%) ويدخل الرئتين. 6ـ عنصر البلوكنيوم: وهو عنصر مشع ويتركز في رئة المدخن ويفتك بها. 7ـ البنزوبيرين: والتي أجمع الأطباء على تأثيرها الفعال في ظهور السرطان. وهي مادة سامة جدًا لدرجة أن 50 مليجرامًا منها تقتل إنسانًا إذا حُقن بها دفعةً واحدة في الشريان. وهناك كحول ومواد مطيبة تضيفها المصانع من أجل الاحتفاظ بالرطوبة في التبغ وغير ذلك من مواد سامة ضارة. • الأضرار الصحية للدخان: إن الدخان له مضار على سائر الجسد وأن نسبة التدخين تتسبب في عدد كبير من الأمراض الخطيرة، بلغ مجموعها تسعة وتسعين مرضًا. وهذا السلوك هو اتجاه خاطئ وعادة خطيرة، سواء على مستوى الفرد أو المجتمع، بل إنه انتحار بطيء مع سبق الإصرار والتصميم وقتل النفس، وطريق للهلاك، والدمار. يقول تعالى: {ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195).

والتأثير الضار للتدخين يكون باتجاهين: 1 - تأثير ضار موضعي مباشر عن طريق استنشاق أغبرة ودخان السجاير أو الشيشة. 2 - تأثير ضار عام بما يحتويه من مواد كيماوية ضارة ومسرطنة كالنيكوتين والقطران وتأثيراتها على الجسم وأجهزته. وطبقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية، فإن التدخين يعتبر أخطر وباء عرفه الجنس البشري، والوفيات الناتجة عنه تعد أكثر الوفيات التي عرفها تاريخ الأوبئة. • موقف الإسلام من الدخان: قال العلماء بتحريم الدخان؛ لأنه مضر بالصحة ومن قواعد الشرع الأساسية والمعلومة من الدين بالضرورة أن كل ضار حرام، وأن التحريم يدور مع الضرر فالنتيجة الحتمية هي حرمة تعاطي التبغ واستدلوا بالآيات والأحاديث والإجماع والقياس وإليكم الأدلة بالتفصيل على تحريم الدخان. من القرآن الكريم: قال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195). فالآية تدل على النهي عن كل ما يؤدي إلى ضرر والدخان من الضرر والهلاك. وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (الأعراف:157). وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (النساء:29). من السنة النبوية: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ» (حَسَنٌ، رَواهُ ابنُ ماجه والدَّارقطنيُّ وغيرهما). • فتوى الشيخ جاد الحق علي جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق - رحمه الله -: أصبح واضحًا وجليًا أن شرب الدخان، وإن اختلفت أنواعه وطرق استعماله يلحق بالإنسان ضررًا بالغًا إن عاجلًا أو آجلًا في نفسه وماله، ويصيبه بأمراض كثيرة متنوعة؛ وبالتالي يكون تعاطيه ممنوعا بمقتضى هذه النصوص، ومن ثم فلا يجوز تعاطيه

للمسلم واستعماله بأي وجه من الوجوه وأيا كان نوعه حفاظًا على الأنفس والأموال وحرصًا على اجتناب الأضرار التي أوضح الطب حدوثها وإبقاء على كيان الأسر والمجتمعات، بإنفاق الأموال فيما يعود بالفائدة على الإنسان في جسده ويعينه على الحياة سليما معافا يؤدي واجباته نحو الله ونحو أسرته فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف». وهذه رسالة من مدخن: قد يستلذُّ الفتى ما اعتادَ من ضررٍ ... حتى يرى في تعاطيه المَسَرَّاتِ إن الدخَان لثانٍ في البلاءِ إذا ... ما عُدَّتِ الخمرُ أولَى في البَلِيَّاتِ وربَّ بيضاءَ قيدِ الأصبعِ احترقَتْ ... في الكفِّ وهي احتراقٌ في الحُشاشاتِ إن مرَّ بين شفاهِ القوم أسوَدُها ... ألقى اصفرارًا على بِيضِ الثَنِيّاتِ عوائدُ عمَّتِ الدنيا مصائبُها ... وإنما أنا في تلك المصيباتِ إن كلَّفَتْنِي السُّكارَى شُربَ خَمْرَتِهم ... شربتُ لكنْ دخانًا مِن سِجَاراتي واخترتُ أهونَ شرٍّ بالدخانِ ... وإنْ أحْرَقْتُ ثَوْبي مِنْه بالشراراتِ وقلتُ يا قوم تكفيكم مشاركتي ... إياكم في التذاذٍ بالمضراتِ إني لأمتصُّ جَمْرًا لُفَّ في وَرَقٍ ... إذ تشربون لهيبًا ملءَ كاساتِ كلاهما حُمْقُ يفترُ عن ضررٍ ... يسمّ مِن دمِنا تلك الكُرَيَّاتِ حسْبي مِن الحمْقِ المعتادِ أهونُه ... إنْ كان لابدَّ مِن هذِي الحماقاتِ يا مَن يُدَخّن مثلي كلَّ آونةٍ ... لُمْنِي بألَمِكَ ولا تَرْضَ اعتذاراتي إنّ العوائدَ كالأغلالِ تجمعُنا ... على قلوبٍ لنا منهنَّ أشتاتِ الحُرُّ مَن خرق العادات منتهجًا ... نَهْجَ الصوابِ ولو ضدِّ الجماعاتِ (الحُشَاشَةُ: بَقِيَّةُ الرُّوحِ في المَرِيضِ والجَرِيحِ، الثَّنِيَّة: إحدى الأسنان الأربَعُ التي في مُقَدَّمِ الفَمِ: ثِنْتانِ من فَوْقُ، وثِنْتانِ من أسْفَلَ).

27 - وفاة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -

27 - وفاة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - • الحدث: يجتمع في شهر ربيع الأول أحداث ثلاثة، وهي مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهجرته إلى المدينة ووفاته. ولا ريب أن كلًا منها كان حدثًا مهمًّا في حياة المسلمين، لا بل وفي حياة الثقلين أجمعين. ويوافق بعض المسلمين النصارى وغيرَهم من الوثنيين، فيجعلون حدث المولد أهمَّ الأحداث الثلاثة، بل ويعتبره بعضهم أهمَّ أحداث السيرة النبوية قاطبة. والحق أن ميلاد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حدثٌ مبارك، حيث أشرق - صلى الله عليه وآله وسلم - على الأرض بمولده، لكن هذا الحدث ليس له تميز عن سائر ولادات الناس لو لم يبعث ويرسل - صلى الله عليه وآله وسلم -. * والحدث الأهم من ولادته هو هجرته - صلى الله عليه وآله وسلم - التي أوجدت لنا المجتمع المسلم والدولة المسلمة التي استمرت قرونًا طويلة، وقدمت للإنسانية حضارة فريدة على مرّ الزمن، ولأهمية هذا الحدث أرخ به عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - والمسلمون بعده التاريخ الإسلامي. وقد روى ابن أبي شيبة في (المصنَّف) عن الشّعبيّ أنّ أبا موسى كتب إلى عمر - رضي الله عنهما -:إنّه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر - رضي الله عنه - النّاس فقال بعضهم: أرِّخ بالمبعث وبعضهم: أرِّخ بالهجرة فقال عمر: (الهجرة فرّقت بين الحقّ والباطل فأرّخوا بها). والحدث الأهم في سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن وفاته - صلى الله عليه وآله وسلم - ليست كوفاة سائر الناس، ولا كسائر الأنبياء؛ إذ بموته - صلى الله عليه وآله وسلم - انقطعت النبوات، وانقطع خبر السماء ووحي الله عن الأرض. • أعظم مصيبة حلت بالمسلمين: وقد نبه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى عظم هذه المصيبة التي حلت بالمسلمين فقال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّمَا أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ـ أَوْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ـ أُصِيبَ بِمُصِيبَةٍ فَلْيَتَعَزَّ بِمُصِيبَتِهِ بِي عَنْ

الْمُصِيبَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ بِغَيْرِي؛ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِي لَنْ يُصَابَ بِمُصِيبَةٍ بَعْدِي أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُصِيبَتِي» (صحيح رواه ابن ماجه). «فَلْيَتَعَزَّ» أي يخفِّف على نفسه مؤونة تلك المصيبة بتذكّر هذه المصيبة العظيمة، إذ الصّغيرة تضمحلّ في جنب الكبيرة فحيث صبر على الكبيرة لا ينبغي أن يبالي بالصّغيرة. قال أبو العتاهية: اصْبِرْ لكلِ مصيبةٍ وتجلَّدِ ... واعلمْ بأن المرءَ غيرَ مخلَّدِ واصبِرْ كما صبَر الكرامُ فإنها ... نُوَبٌ تنوبُ اليومَ تُكشَفُ في غدِ أوَما ترى أنّ المصائبَ جمَّةٌ ... وترى المنيةَ للعبادِ بمرصدِ فإذا أتتْك مصيبةٌ تُشْجَى بها ... فاذكُر مُصَابَك بالنبي محمدِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وها هي أُمَّ أَيْمَنَ - رضي الله عنها - بَكَتْ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقِيلَ لَهَا: «تَبْكِينَ»، فَقَالَتْ: «إِنِّي وَاللهِ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - سَيَمُوتُ وَلَكِنْ إِنَّمَا أَبْكِي عَلَى الْوَحْيِ الَّذِي انْقَطَعَ عَنَّا مِنْ السَّمَاءِ» (رواه الإمام أحمد، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح). قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «النُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ فَإِذَا ذَهَبَتْ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ، وَأَنَا أَمَنَةٌ لِأَصْحَابِي فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ، وَأَصْحَابِي أَمَنَةٌ لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ» (رواه مسلم). مَعْنَى الْحَدِيث: أَنَّ النُّجُوم مَا دَامَتْ بَاقِيَة فَالسَّمَاء بَاقِيَة. فَإِذَا اِنْكَدَرَتْ النُّجُوم، وَتَنَاثَرَتْ فِي الْقِيَامَة، وَهَنَتْ السَّمَاء، فَانْفَطَرَتْ، وَانْشَقَّتْ، وَذَهَبَتْ. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَأَنَا أَمَنَة لِأَصْحَابِي، فَإِذَا ذَهَبْتُ أَتَى أَصْحَابِي مَا يُوعَدُونَ) أَيْ مِنْ الْفِتَن وَالْحُرُوب، وَارْتِدَاد مَنْ اِرْتَدَّ مِنْ الْأَعْرَاب، وَاخْتِلَاف الْقُلُوب، وَنَحْو ذَلِكَ مِمَّا أَنْذَرَ بِهِ صَرِيحًا، وَقَدْ وَقَعَ كُلّ ذَلِكَ. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَأَصْحَابِي أَمَنَة لِأُمَّتِي فَإِذَا ذَهَبَ أَصْحَابِي أَتَى أُمَّتِي مَا يُوعَدُونَ) مَعْنَاهُ مِنْ ظُهُور الْبِدَع، وَالْحَوَادِث فِي الدِّين، وَالْفِتَن فِيهِ، وَطُلُوع قَرْن الشَّيْطَان،

وَظُهُور الرُّوم وَغَيْرهمْ عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَاك الْمَدِينَة وَمَكَّة وَغَيْر ذَلِكَ. وَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ مُعْجِزَاته - صلى الله عليه وآله وسلم -. • معرفة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - باقتراب أجله: بُشِّرَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - باقتراب أجله في آيات عدة في القرآن الكريم، منها قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} (الزمر:30)، وقوله سبحانه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مّتَّ فَهُمُ الْخَـ?لِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (الأنبياء:34، 35)، وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَـ?بِكُمْ} (آل عمران:144)، وقوله: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْو?جًا * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا} (سورة النصر). عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - سَأَلَهُمْ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} قَالُوا: فَتْحُ الْمَدَائِنِ وَالْقُصُورِ. قَالَ مَا تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ قَالَ: أَجَلٌ أَوْ مَثَلٌ ضُرِبَ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - نُعِيَتْ لَهُ نَفْسُهُ (رواه البخاري). وقد أشعر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أصحابه في أكثر من موطن بقرب أجله وانتقاله إلى جوار ربه، فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: «يَا مُعَاذُ إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا أَوْ لَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا أَوْ قَبْرِي»، فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (رواه أحمد وإسناده صحيح). وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَرْحَبًا بِابْنَتِي»، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَبَكَتْ، فَقُلْتُ لَهَا: لِمَ تَبْكِينَ؟ ثُمَّ أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَضَحِكَتْ، فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ فَرَحًا أَقْرَبَ مِنْ حُزْنٍ، فَسَأَلْتُهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَتْ: «مَا كُنْتُ لِأُفْشِيَ سِرَّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، حَتَّى قُبِضَ النَّبِيُّ

- صلى الله عليه وآله وسلم - فَسَأَلْتُهَا فَقَالَتْ: «أَسَرَّ إِلَيَّ: «إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي الْقُرْآنَ كُلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِ بَيْتِي لَحَاقًا بِي»؛ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ»؛ فَضَحِكْتُ لِذَلِكَ». (رواه البخاري ومسلم). • بداية المرض بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وسببه: كان سبب مرض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مؤامرة اليهودية حين دست له السم في طعامه - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي دعَتْهُ إليه، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكمقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ؛ فَأَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً مَصْلِيَّةً سَمَّتْهَا فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْهَا وَأَكَلَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ؛ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْنِي أَنَّهَا مَسْمُومَةٌ». فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ الْأَنْصَارِيُّ فَأَرْسَلَ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ: «مَا حَمَلَكِ عَلَى الَّذِي صَنَعْتِ»، قَالَتْ: «إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ الَّذِي صَنَعْتُ، وَإِنْ كُنْتَ مَلِكًا أَرَحْتُ النَّاسَ مِنْكَ»، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقُتِلَتْ، ثُمَّ قَالَ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «مَازِلْتُ أَجِدُ مِنْ الْأَكْلَةِ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ فَهَذَا أَوَانُ قَطَعَتْ أَبْهَرِي» (صحيح رواه أبو داود). (مَا زِلْت أَجِد): أَيْ أَلَمًا (قَطَعَتْ أَبْهَرَيَّ) الأَبْهَر: عِرْق فِي الظَّهْر وَهُمَا أَبْهَرَانِ، وَقِيلَ هُمَا الْأَكْحَلَانِ اللَّذَانِ فِي الذِّرَاعَيْنِ، وَقِيلَ هُوَ عِرْق مُسْتَبْطِن الْقَلْب فَإِذَا اِنْقَطَعَ لَمْ تَبْقَ مَعَهُ حَيَاة. وفي الحديث أن أم مبشِّر - رضي الله عنها - دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي وَجَعِهِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ فَقَالَتْ: «بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ مَا تَتَّهِمُ بِنَفْسِكَ، فَإِنِّي لَا أَتَّهِمُ إِلَّا الطَّعَامَ الَّذِي أَكَلَ مَعَكَ بِخَيْبَرَ»، وَكَانَ ابْنُهَا مَاتَ قَبْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَ: «وَأَنَا لَا أَتَّهِمُ غَيْرَهُ هَذَا أَوَانُ قَطْعِ أَبْهَرِي» (رواه أحمد وإسناده صحيح). فجمع الله لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - بين الشهادة على يد قَتَلَةِ الأنبياء من اليهود، وبين المرض والحمى وفيهما ما فيهما من رفع الدرجات.

وأما أول معالم عود المرض إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - فكان بعد رجوعه من دفن أحد أصحابه، فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «رَجَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ مِنْ جَنَازَةٍ بِالْبَقِيعِ وَأَنَا أَجِدُ صُدَاعًا فِي رَأْسِي، وَأَنَا أَقُولُ: «وَارَأْسَاهْ»، قَالَ: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ»، قَالَ: «مَا ضَرَّكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي فَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ ثُمَّ صَلَّيْتُ عَلَيْكِ وَدَفَنْتُكِ؟» قُلْتُ: «لَكِنِّي ـ أَوْ لَكَأَنِّي بِكَ ـ وَاللهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَقَدْ رَجَعْتَ إِلَى بَيْتِي فَأَعْرَسْتَ فِيهِ بِبَعْضِ نِسَائِكَ»، قَالَتْ: «فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثُمَّ بُدِئَ بِوَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ» (رواه أحمد وإسناده صحيح). • تخيير النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بين الموت والخلد: عَنْ أَبِي مُوَيْهِبَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَقَالَ: «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ؛ فَانْطَلِقْ مَعِي». فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ قَالَ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْمَقَابِرِ، لِيَهْنِ لَكُمْ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ مِمَّا أَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمْ اللهُ مِنْهُ، أَقْبَلَتْ الْفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يَتْبَعُ أَوَّلُهَا آخِرَهَا، الْآخِرَةُ شَرٌّ مِنْ الْأُولَى». قَالَ: ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ «يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الدُّنْيَا، وَالْخُلْدَ فِيهَا، ثُمَّ الْجَنَّةَ، وَخُيِّرْتُ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ لِقَاءِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةِ». قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي فَخُذْ مَفَاتِيحَ الدُّنْيَا وَالْخُلْدَ فِيهَا ثُمَّ الْجَنَّةَ. قَالَ: «لَا وَاللهِ يَا أَبَا مُوَيْهِبَةَ، لَقَدْ اخْتَرْتُ لِقَاءَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ وَالْجَنَّةَ». ثُمَّ اسْتَغْفَرَ لِأَهْلِ الْبَقِيعِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَبُدِئَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي وَجَعِهِ الَّذِي قَضَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ حِينَ أَصْبَحَ» (إسناده صحيح رواه أحمد). عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ»، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رضي الله عنه -، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: «مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ، إِنْ يَكُنْ اللهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ»، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - هُوَ الْعَبْدَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا» (رواه البخاري ومسلم).

وعن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ وَهُوَ صَحِيحٌ: «إِنَّهُ لَمْ يُقْبَضْ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُخَيَّرُ»، فَلَمَّا نَزَلَ بِهِ وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ، فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى»، قُلْتُ: إِذًا لَا يَخْتَارُنَا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَدِيثُ الَّذِي كَانَ يُحَدِّثُنَا بِهِ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَوْلُهُ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» (رواه البخاري). عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ نَبِيٍّ يَمْرَضُ إِلَّا خُيِّرَ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»، وَكَانَ فِي شَكْوَاهُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ أَخَذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيدَةٌ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فَعَلِمْتُ أَنَّهُ خُيِّرَ. (رواه البخاري ومسلم). واختلف العلماء في مراده - صلى الله عليه وآله وسلم - بالرفيق الأعلى على أقوال، فقيل: الله - عز وجل -، وقيل: ملائكته، وقيل: أنبياؤه، وقيل: الجنة، ولكل منها دليل. • وصايا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مرض وفاته: لا ريب أن أقوال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جميعًا موضع للعبرة والعظة، لكنه - صلى الله عليه وآله وسلم - اختص أمته ببعض النصح وهو في مرض موته، وهو مقبل على الآخرة مدبر عن الدنيا، فما هي آخر وصاياه - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: «لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسْجِدًا» قَالَتْ: «وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَبْرَزُوا قَبْرَهُ غَيْرَ أَنِّي أَخْشَى أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا» (رواه البخاري ومسلم). وقد ذكر ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِإِخْرَاجِ ِالْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ. (رواه البخاري ومسلم). عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ بِمِلْحَفَةٍ قَدْ عَصَّبَ بِعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ وَيَقِلُّ الْأَنْصَارُ حَتَّى يَكُونُوا فِي النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ، فَمَنْ

وَلِيَ مِنْكُمْ شَيْئًا يَضُرُّ فِيهِ قَوْمًا وَيَنْفَعُ فِيهِ آخَرِينَ فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئِهِمْ»، فَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (رواه البخاري). (عِصَابَة) مَا يُشَدّ بِهِ الرَّأْس وَغَيْرهَا. وَقِيلَ: الْمُرَاد بِالْعِصَابَةِ الْعِمَامَة وَمِنْهُ حَدِيث الْمَسْح عَلَى الْعَصَائِب. (دَسْمَاء) أَيْ لِكَوْنِهَا كَلَوْنِ الدَّسَم وَهُوَ الدُّهْن، وَقِيلَ: الْمُرَاد أَنَّهَا سَوْدَاء لَكِنْ لَيْسَتْ خَالِصَة السَّوَاد، وَيَحْتَمِل أَنْ تَكُون اِسْوَدَّتْ مِنْ الْعَرَق أَوْ مِنْ الطِّيب. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: كَشَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - السِّتَارَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ، أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا؛ فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» (رواه مسلم). (السِّتَارَة) السِّتْر الَّذِي يَكُون عَلَى بَاب الْبَيْت وَالدَّار. قَمِنٌ: حَقِيق وَجَدِير. وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ. (صحيح رواه ابن ماجه). (الصَّلَاة) أَيْ اِلْزَمُوهَا وَاهْتَمُّوا بِشَأْنِهَا وَلَا تَغْفُلُوا عَنْهَا. (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانكُمْ) مِنْ الْأَمْوَال أَيْ أَدُّوا زَكَاتهَا وَلَا تُسَامِحُوا فِيهَا وَهَذَا هُوَ الْمُوَافِق لِقِرَانِ الصَّلَاة فَإِنَّ الْمُتَعَارَف فِي عُرْف الطُّرُق وَالشَّرْع قِرَانهمَا، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون وَصِيَّة بِالْعَبِيدِ وَالْإِمَاء أَيْ أُدُّوا حُقُوقهمْ وَحَسَن مَلْكَتهمْ فَإِنَّ الْمُتَبَادِر مِنْ لَفْظ مَا مَلَكَتْ الْأَيْمَان فِي عُرْف الْقِرَان هُمْ الْعَبِيد وَالْإِمَاء. (حَتَّى مَا يُفِيض بِهَا لِسَانه) أَيْ مَا يَجْرِي وَلَا يَسِيل بِهَذِهِ الْكَلِمَة لِسَانه مِنْ فَاضَ الْمَاء إِذَا سَالَ وَجَرَى، حَتَّى لَمْ يَقْدِر عَلَى الْإِفْصَاح بِهَذِهِ الْكَلِمَة. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَتْ عَامَّةُ وَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ وَهُوَ يُغَرْغِرُ بِنَفْسِهِ: «الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» (صحيح رواه ابن ماجه).

28 - موتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -

28 - موتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - • مرض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: بدأ المرض بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مطلع شهر ربيع الأول، وقد نُقل إلينا بعض أخباره وأحواله - صلى الله عليه وآله وسلم - في مرضه: من أحواله - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل اشتداد المرض: عن عُبَيْدُ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ. قَالَ عُبَيْدُ اللهِ: فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ أَتَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الْآخَرُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رضي الله عنه -. وَكَانَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها - تُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ بَعْدَمَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ»، وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ. (رواه البخاري ومسلم). (ثَقُلَ) أَيْ: فِي الْمَرَض، اِشْتَدَّ مَرَضه. (فِي أَنْ يُمَرَّض) أَيْ: يُخْدَم فِي مَرَضه. (فَأَذِنَّ) الْأَزْوَاج، (حَتَّى طَفِقَ) يُقَال طَفِقَ يَفْعَل كَذَا إِذَا شَرَعَ فِي فِعْل وَاسْتَمَرَّ فِيهِ. وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ عَاصِبٌ رَأْسَهُ بِخِرْقَةٍ، فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ مِنْ أَبِي بكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ النَّاسِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ خُلَّةُ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ، سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ غَيْرَ خَوْخَةِ أَبِي بَكْرٍ» (رواه البخاري).

وقَالَتْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -:لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَأُذِّنَ فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ»، فَقِيلَ لَهُ: «إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ، إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ»، وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - فَصَلَّى فَوَجَدَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنْ الْوَجَعِ، فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنْ مَكَانَكَ»، ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ. قِيلَ لِلْأَعْمَشِ: وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلَاتِهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاةِ أَبِي بَكْرٍ؟ فَقَالَ بِرَأْسِهِ: نَعَمْ» (رواه البخاري ومسلم). (أَسِيفٌ):رَقِيق الْقَلْب. (إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ):الْمُرَاد أَنَّهُنَّ مِثْلُ صَوَاحِب يُوسُف فِي إِظْهَار خِلَاف مَا فِي الْبَاطِن. ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْخَطَّاب وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْع فَالْمُرَاد بِهِ وَاحِد وَهِيَ عَائِشَة فَقَطْ، كَمَا أَنَّ (صَوَاحِب) صِيغَة جَمْع وَالْمُرَاد زُلَيْخَا ـ امرأة العزيز ـ فَقَطْ. وَوَجْه الْمُشَابَهَة بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ زُلَيْخَا اِسْتَدْعَتْ النِّسْوَة وَأَظْهَرَتْ لَهُنَّ الْإِكْرَام بِالضِّيَافَةِ وَمُرَادُهَا زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَنْظُرْنَ إِلَى حُسْن يُوسُف وَيَعْذُرْنَهَا فِي مَحَبَّته، وَأَنَّ عَائِشَة أَظْهَرَتْ أَنَّ سَبَب إِرَادَتهَا صَرْف الْإِمَامَة عَنْ أَبِيهَا كَوْنه لَا يُسْمِعُ الْمَأْمُومِينَ الْقِرَاءَة لِبُكَائِهِ، وَمُرَادهَا زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ ما صَرَّحَتْ هِيَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَتْ: «لَقَدْ رَاجَعْته وَمَا حَمَلَنِي عَلَى كَثْرَة مُرَاجَعَته إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَع فِي قَلْبِي أَنْ يُحِبَّ النَّاس بَعْدَهُ رَجُلًا قَامَ مَقَامَهُ أَبَدًا». وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمْ يَخْرُجْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثَلَاثًا، فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ. فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - حِينَ وَضَحَ لَنَا فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَأَرْخَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْحِجَابَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ» (رواه البخاري ومسلم). (فَقَالَ نَبِيُّ اللهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِالْحِجَابِ) هُوَ مِنْ إِجْرَاءِ قَالَ مَجْرَى فَعَلَ. وقالت عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «إن رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ إِذَا اشْتَكَى نَفَثَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ، فَلَمَّا اشْتَكَى وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ طَفِقْتُ أَنْفِثُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ الَّتِي كَانَ يَنْفِثُ وَأَمْسَحُ بِيَدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْهُ» (رواه البخاري ومسلم). • شدة وجعه - صلى الله عليه وآله وسلم -: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشَدَّ عَلَيْهِ الْوَجَعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ عَبْدِ اللهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ يُوعَكُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: «إِنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا»، قَالَ: «أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلَانِ مِنْكُمْ»، قُلْتُ: «ذَلِكَ أَنَّ لَكَ أَجْرَيْنِ؟» قَالَ: «أَجَلْ ذَلِكَ كَذَلِكَ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ - عليها السلام -: «وَاكَرْبَ أَبَاهُ»، فَقَالَ لَهَا: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ» (رواه البخاري). • مدة مرضه - صلى الله عليه وآله وسلم -: قال ابن حجر - رحمه الله - في (فتح الباري): «وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّة مَرَضه، فَالْأَكْثَر عَلَى أَنَّهَا ثَلَاثَة عَشَر يَوْمًا، وَقِيلَ بِزِيَادَةِ يَوْم وَقِيلَ بِنَقْصِهِ ... وَقِيلَ عَشَرَة أَيَّام وَبِهِ جَزَمَ سُلَيْمَان التَّيْمِيُّ فِي (مَغَازِيه) وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيح». • اليوم الأخير من حياته - صلى الله عليه وآله وسلم -: عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ - رضي الله عنه - ـ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ ـ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الِاثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلَاةِ، فَكَشَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ

وَرَقَةُ مُصْحَفٍ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ، فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ، وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَارِجٌ إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ» (رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية أخرى: « ... وَتُوُفِّيَ مِنْ آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ». (رواه البخاري). قال ابن كثير: «وهذا الحديث في الصحيح، وهو يدل على أن الوفاة وقعت بعد الزوال». وكَانَتْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - تَقُولُ: إِنَّ مِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - تُوُفِّيَ فِي بَيْتِي وَفِي يَوْمِي وَبَيْنَ سَحْرِي وَنَحْرِي وَأَنَّ اللهَ جَمَعَ بَيْنَ رِيقِي وَرِيقِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ. دَخَلَ عَلَيَّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبِيَدِهِ السِّوَاكُ وَأَنَا مُسْنِدَةٌ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَرَأَيْتُهُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ السِّوَاكَ فَقُلْتُ: «آخُذُهُ لَكَ»، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ. فَتَنَاوَلْتُهُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وَقُلْتُ: «أُلَيِّنُهُ لَكَ»، فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ، فَأَمَرَّهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ أَوْ عُلْبَةٌ ـ يَشُكُّ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ ـ أحد رواة الحديث ـ فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ» ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ: «فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى» حَتَّى قُبِضَ وَمَالَتْ يَدُهُ» (رواه البخاري ومسلم). وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضي الله عنه - أَنَّ اللهَ - عز وجل - تَابَعَ الْوَحْيَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَبْلَ وَفَاتِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَأَكْثَرُ مَا كَانَ الْوَحْيُ يَوْمَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ وَهُوَ مُسْنِدٌ إِلَى صَدْرِهَا وَأَصْغَتْ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى» (رواه البخاري ومسلم والترمذي). قال النووي: الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّ الْمُرَاد بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى الْأَنْبِيَاء السَّاكِنُونَ أَعْلَى عَلِيِّينَ.

قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: فَلَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَرَأْسُهُ عَلَى فَخِذِي غُشِيَ عَلَيْهِ سَاعَةً ثُمَّ أَفَاقَ فَأَشْخَصَ بَصَرَهُ إِلَى السَّقْفِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» فَكَانَتْ تِلْكَ آخِرُ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَوْلَهُ: «اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى» (رواه البخاري ومسلم). وكانت وفاته يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول، والجمهور أنها في الثاني عشر منه. • عُمْر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين مات: عن عائشة - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - توفي وهو ابن ثلاث وستين. (رواه البخاري ومسلم).وصح مثله عن ابن عباس - رضي الله عنه -. (رواه البخاري) وفي رواية أخرى عن ابن عباس: توفي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو ابن خمس وستين. (رواه مسلم) وصح عن أنس - رضي الله عنه - أنها ستون سنة. (رواه البخاري) وجمع النووي بين الأقوال، فقال: «توفي - صلى الله عليه وآله وسلم - وله ثلاث وستون سنة، وقيل: خمس وستون سنة، وقيل: ستون سنة، والأول أصح وأشهر، وقد جاءت الأقوال الثلاثة في الصحيح. قال العلماء: الجمع بين الروايات أن من روى ستين لم يعد معها الكسور، ومن روى خمسًا وستين عد سنتي المولد والوفاة، ومن روى ثلاثًا وستين لم يعدهما، والصحيح ثلاث وستون». • حزن الصحابة على فقد حبيبهم وحبيبنا - صلى الله عليه وآله وسلم -: ولما توفي - صلى الله عليه وآله وسلم - اضطرب المسلمون، فمنهم من دهش فخولط، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية. عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَاتَ وَأَبُو بَكْرٍ بِالسُّنْح ِـ يَعْنِي بِالْعَالِيَةِ ـ فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: «وَاللهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ، وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ»، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَبَّلَهُ قَالَ: «بِأَبِي

أَنْتَ وَأُمِّي طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا»، ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: «أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ»، فَلَمَّا تَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ جَلَسَ عُمَرُ فَحَمِدَ اللهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: «أَلَا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ». وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ}. قَالَ فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ. قَالَتْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها -: «فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلَّا نَفَعَ اللهُ بِهَا، لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمْ لَنِفَاقًا فَرَدَّهُمْ اللهُ بِذَلِكَ ثُمَّ لَقَدْ بَصَّرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ الْهُدَى وَعَرَّفَهُمْ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ وَخَرَجُوا بِهِ يَتْلُونَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ... إِلَى الشَّاكِرِينَ}. (رواه البخاري). وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ فَقَالَتْ فَاطِمَةُ - رضي الله عنها -: وَاكَرْبَ أَبَاهُ، فَقَالَ لَهَا: «لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ»، فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ: «يَا أَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ»، فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ - رضي الله عنها -: «يَا أَنَسُ أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - التُّرَابَ» (رواه البخاري). أَشَارَتْ - رضي الله عنها - بِذَلِكَ إِلَى عِتَابهمْ عَلَى إِقْدَامهمْ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدُلّ عَلَى خِلَاف مَا عَرَفَتْهُ مِنْهُمْ مِنْ رِقَّة قُلُوبهمْ عَلَيْهِ لِشِدَّةِ مَحَبَّتهمْ لَهُ، وَسَكَتَ أَنَس عَنْ جَوَابهَا رِعَايَة لَهَا وَلِسَان حَاله يَقُول: لَمْ تَطِبْ أَنْفُسنَا بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّا قَهَرْنَاهَا عَلَى فِعْله اِمْتِثَالًا لِأَمْرِهِ. قَالَ الْمُثَنَّي سَمِعْتُ أَنَسًا - رضي الله عنه - يَقُولُ: «قَلّ لَيْلَةٌ تَأْتِي عَلَيَّ إِلَّا وَأَنَا أَرَى فِيهَا خَلِيلِي - صلى الله عليه وآله وسلم -»، وَأَنَسٌ يَقُولُ ذَلِكَ وَتَدْمَعُ عَيْنَاهُ. (رواه أحمد وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاري , رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي سعيد فمن رجال البخاري).

وعَنْ أَبِي ذُؤَيْب الْهُذَلِيّ قَالَ: قَدِمْت الْمَدِينَة وَلِأَهْلِهَا ضَجِيج بِالْبُكَاءِ كَضَجِيجِ الْحَجِيج، فَقُلْت مَهْ؟ فَقَالُوا. قُبِضَ رَسُول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. (فتح الباري 8/ 580). وقال عثمان - رضي الله عنه -:توفي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فحزن عليه رجال من أصحابه حتى كان بعضهم يوسوس، فكنت ممن حزن عليه، فبينما أنا جالس في أطم من آطام المدينة ـ وقد بويع أبو بكر ـ إذ مر بي عمر فسلم عَلَيَّ، فلم أشعر به لِمَا بي من الحزن. (الطبقات الكبرى 2/ 84). لكن حزن الصحابة وعظيم المصاب لم يخرجهم عن الصبر والتصبر إلى النواح والجزع، قال قيس بن عاصم: «لا تنُوحوا عَلَيَّ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يُنَحْ عليه». (رواه النسائي وإسناده صحيح). • غسل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتكفينه ودفنه: عن عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - تَقُولُ: لَمَّا أَرَادُوا غَسْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالُوا: «وَاللهِ مَا نَدْرِي أَنُجَرِّدُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ ثِيَابِهِ كَمَا نُجَرِّدُ مَوْتَانَا أَمْ نَغْسِلُهُ وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ». فَلَمَّا اخْتَلَفُوا أَلْقَى اللهُ عَلَيْهِمْ النَّوْمَ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَذَقْنُهُ فِي صَدْرِهِ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ مُكَلِّمٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْبَيْتِ لَا يَدْرُونَ مَنْ هُوَ أَنْ اغْسِلُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَعَلَيْهِ ثِيَابُهُ، فَقَامُوا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَغَسَلُوهُ وَعَلَيْهِ قَمِيصُهُ يَصُبُّونَ الْمَاءَ فَوْقَ الْقَمِيصِ وَيُدَلِّكُونَهُ بِالْقَمِيصِ دُونَ أَيْدِيهِمْ». وَكَانَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها - تَقُولُ: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا غَسَلَهُ إِلَّا نِسَاؤُهُ» (حسن رواه أبو داود). وعَنْها - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهِنَّ قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» (رواه البخاري).

وعَنْهَا - رضي الله عنها - قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - (أي في مرض موته) فَقَالَ: فِي كَمْ كَفَّنْتُمْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قَالَتْ: فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَقَالَ لَهَا: فِي أَيِّ يَوْمٍ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَتْ: يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. (رواه البخاري) سحولية: نسبة إلى قرية يقال لها سحول باليمن، والكرسف القطن. قال ابن كثير في (البداية والنهاية): «والمشهور عن الجمهور أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - توفي يوم الإثنين ودفن ليلة الأربعاء». وقَالَ أَبُو عَسِيبٍ ـ وكَانَ قَدْ شَهِدَ الصَّلَاةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ: « ... َكَانُوا يَدْخُلُونَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فَيُصَلُّونَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْ الْبَابِ الْآخَرِ». (رواه الإمام أحمد وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة فمن رجال مسلم). وعن سعيد بن المسيب قال: «لما توفي رسول الله وضع على سريره، فكان الناس يدخلون زمرًا زمرًا يصلون عليه ويخرجون ولم يؤُمُّهم أحد». (مصنف ابن أبي شيبة 7/ 430). قال ابن كثير في (البداية والنهاية): «وهذا الصنيع ـ وهو صلاتهم عليه فرادى لم يؤمهم أحد عليه ـ أمر مجمع عليه لا خلاف فيه». وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَلْحَدُ وَآخَرُ يَضْرَحُ فَقَالُوا: «نَسْتَخِيرُ رَبَّنَا وَنَبْعَثُ إِلَيْهِمَا فَأَيُّهُمَا سُبِقَ تَرَكْنَاهُ»، فَأرْسِلَ إِلَيْهِمَا فَسَبَقَ صَاحِبُ اللَّحْدِ فَلَحَدُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (حسن صحيح رواه ابن ماجه). (يَضْرَح) ضَرَحَ لِلْمَيِّتِ كَمَنَعَ حَفَرَ لَهُ ضَرِيحًا، وَالضَّرِيح: الشِّقّ. ورُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: «وَنَزَلَ فِى حُفْرَتِهِ ـ أي قبره - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ عَلِىُّ بْنُ أَبِى طَالِبٍ وَالْفَضْلُ وَقُثَمُ ابْنَا الْعَبَّاسِ وَشُقْرَانُ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني).

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «لَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ أَضَاءَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَظْلَمَ مِنْهَا كُلُّ شَيْءٍ، وَلَمَّا نَفَضْنَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْأَيْدِي ـ وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ ـ حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا» (صحيح رواه الترمذي وابن ماجه). (وَمَا نَفَضْنَا) أَيْ مَا خَلَصْنَا مِنْ دَفْنه، مِنْ النَّفْضِ وَهُوَ تَحْرِيكُ الشَّيْءِ لِيَزُولَ مَا عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ وَالْغُبَارِ وَنَحْوِهِمَا (وَإِنَّا لَفِي دَفْنِهِ) أَيْ مَشْغُولُونَ بَعْدُ. (حَتَّى أَنْكَرْنَا قُلُوبَنَا) يُرِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا قُلُوبَهُمْ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ الصَّفَاءِ وَالْأُلْفَةِ لِانْقِطَاعِ مَادَّةِ الْوَحْيِ وَفِقْدَانِ مَا كَانَ يَمُدُّهُمْ مِنْ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ التَّأْيِيدِ وَالتَّعْلِيمِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنْ التَّصْدِيقِ. وقيل: لَمْ يُرِدْ عَدَمَ التَّصْدِيقِ الْإِيمَانِيِّ بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ وِجْدَانِ النّورَانِيَّةِ وَالصَّفَاءِ الَّذِي كَانَ حَاصِلًا مِنْ مُشَاهَدَتِهِ وَحُضُورِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِتَفَاوُتِ حَالِ الْحُضُورِ وَالْغَيْبَةِ. • موتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: إن كان نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - قد مات فقد ترك لنا دين الحق دين الإسلام؛ فلْنَمُتْ على ما مات عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - بلا تبديل ولا تغيير، ولْنُضَحّ في سبيل نصرة هذا الدين. هذا أنس بن النضر - رضي الله عنه - قال عنه ابن أخيه أنس بن مالك - رضي الله عنه -: «غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ؛ لَئِنْ اللهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ». فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ ـ يَعْنِي أَصْحَابَهُ ـ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ ـ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ»، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: «يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ، الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ، إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ». قَالَ سَعْدٌ: «فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللهِ مَا صَنَعَ». قَالَ أَنَسٌ بن مالك: «فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ»، قَالَ أَنَسٌ: «كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ}. (رواه البخاري ومسلم). إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ: مَحْمُول عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ اللهُ تَعَالَى أَوْجَدَهُ رِيحهَا مِنْ مَوْضِع الْمَعْرَكَة، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيث أَنَّ رِيحهَا تُوجَد مِنْ مَسِيرَة خَمْسمِائَةِ عَام. وذكر ابن إسحاق أن أنس بن النضر ـ عم أنس بن مالك ـ انتهى يوم أحد إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم فقال: فما يجلسكم؟ قالوا: قتل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. قال: فما تصنعون بالحياة بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ثم استقبل فقاتل حتى قتل، وبه سمى أنس بن مالك». ولكن الحقيقة أن رسول الله لم يقتل، وخلص المشركون إلى رسول الله، وثبت في وجه العدو وقاتلهم قتالًا شديدًا فظل يرمي بالنبل حتى فني نبله وانكسر قوسه، ثم ظل يرمي بالحجارة حتى دفعهم عنه. أيها المسلمون موتوا على ما مات عليه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، اتبعوا سنته ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، ولا تشغلنكم الدنيا عن نصرة دينه؛ إن حال بعضنا ينطبق عليه قول من قال: تكدّرَ مِن بعدِ النبيِّ محمدِ ... عليه سلامُ اللهِ ما كان صافيَا فكم مِن منارٍ كان أوضحَه لنَا ... ومِن علمٍ أمسى وأصبح عافيَا ركنَّا إلى الدنيا الدّنِيَّةِ بعدهُ ... وكَشَفَتِ الأطماعُ مِنا المساوِيَا وإنا لنَمُرّ في كل يومٍ بنكبةٍ ... نراها فما نزدادُ إلا تَعامِيَا لقد ساد الصحابة والتابعون يوم أن كانوا أسودًا للإسلام وحماة للدين وسياجًا واقيًا قويًا للعقيدة وذُلِلنا يوم أن اتخذنا العزة بالدنيا والدرهم، وهُنَّا على الله - عز وجل - وعلى

الناس يوم أن اتخذنا الدنيا وطنًا وسكنًا، ووالينا لأجلها وعادينا لأجلها، فلأجلها نرضى ولأجلها نغضب؛ فها نحن لنا في كل موضع من جسدنا ضربة ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف، ورمية بسهم، أو وكزة بعصا. فها نحن نسمع بين حين وآخر نواحِ الثكالى وبكاء اليتامى ولا مجيب. أَحَلَّ الْكُفْرُ بِالْإِسْلَامِ ضَيْمًا ... يَقُولُ بِهِ عَلَى الدِّينِ النَّحِيبُ فَحَقٌّ ضَائِعٌ وَحِمًى مُبَاحٌ ... وَسَيْفٌ قَاطِعٌ وَدَمٌ صَبِيبُ وَكَمْ مِنْ مُسْلِمٍ أَضْحَى سَلِيبًا ... وَمُسْلِمَةٍ لَهَا حَرَمٌ سَلِيبُ وَكَمْ مِنْ مَسْجِدٍ جَعَلُوهُ دِيرًا ... عَلَى مِحْرَابِهِ نُصِبَ الصَّلِيبُ دَمُ الْخِنْزِيرِ فِيهِ لَهُمْ خُلُوفٌ ... وَتَحْرِيقُ الْمَصَاحِفِ فِيهِ طِيبُ أُمُورٌ لَوْ تَأَمَّلَهُنَّ طِفْلٌ ... لَطَفِلَ فِي عَوَارِضِهِ الْمَشِيبُ أَتُسْبَى الْمُسْلِمَاتُ بِكُلِّ ثَغْرٍ ... وَعَيْشُ الْمُسْلِمِينَ إِذًا يَطِيبُ أَمَا لِلهِ وَالْإِسْلَامِ حَقٌّ ... يُدَافِعُ عَنْهُ شُبَّانٌ وَشِيبُ فَقُلْ لِذَوِي الْكَرَامَةِ حَيْثُ كَانُوا ... أَجِيبُوا اللهَ وَيْحَكُمُوا أَجِيبُوا إنه لا عزة للأمة الإسلامية ولا مكانة لها ما دامت لا تضحي لدينها، ولا تثأر لعقيدتها. ولن تنال العزة والقوة والتمكين في يوم من الأيام، بالمال والجاه، أو الانهزامية، والخذلان، لقد كانت المبادئ عند الصحابة والتابعين، والغايات التي يسعون لتحقيقها هي رفعة الدين، ونصرة الدعوة وحماية العقيدة فبذلوا لتحقيقها كل غاية ووسيلة صغرت أم كبرت. أيها المسلمون: اربؤوا بأنفسكم أن تكونوا أذلاء صاغرين لا قيمة لكم ولا عزة لكم، وارفعوا أنفسكم عن سفاسف الأمور، وتطلعوا إلى معاليها، وإياكم والمعاصي والاستسلام للمحرمات صغُرَت أم كبُرَت، وإن الخلق لا يهونون عند الله إلا حينما يخالفون أمره، كما قال أبو الدرداء: «ما أهون الخلق على الله إذا هم خالفوا أمره». وإذا كتب الله علينا الهون فمن يكرمنا، ومن يهن الله فما له من مكرم.

29 - إذا لم تستحي، فاصنع ما شئت

29 - إذا لَم تَستَحْيِ، فاصْنَعْ ما شِئْتَ • ارتباط الأخلاق والآداب بالعقيدة: أيها المسلمون: إن للآداب والأخلاق صلة وثيقة بعقيدة الأمة ومبادئها، بل هي التجسيد العملي لقيمها ومثلها. الأخلاق والآداب هي عنوان التمسك بالعقيدة، ودليل الالتزام بالمبادئ والمثل. والحكم على مقدار الفضل وحسن السيرة راجع إلى الخلق العالي. ولا يتم التحلي بالخلق الفاضل والأدب الرفيع إلا بالترويض على نبيل الصفات، وكريم العوائد بالتعليم والتهذيب والاقتداء الحسن. • اشتمال أخلاق الإسلام على جميع أحوال المسلم: إن الإسلام قد شمل في أخلاقه أحوال المسلم كلها؛ صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فردًا وأسرة ومجتمعًا، فالاستئذان والسلام، والمصافحة والصدق، والتأدب في المزاح والمداعبة، وحفظ حقوق الإخوان، والأدب مع الأقارب والجيران، وصلة الأرحام، وإطعام الطعام، وتجنب الظلم والاحتقار والعدوان، كل ذلك وغيره باب واسع عظيم، وهو ثابت لا يتغير بتغير الزمان ولا بتحول المكان. غير أن لهذا الباب الواسع مفتاحًا وأن لهذه الأخلاق عنوانًا وعليها دليلا .. ذلكم هو خلق الحياء من الله والحياء من الناس. أيها المسلم: عندما ترى الرجل يتحرج من فعل ما لا ينبغي ويكسو الخجل وجهه إذا بدر ما لا يليق، فاعلم أنه حي الضمير، زكي العنصر نقي المعدن. أما اذا رأيته صفيقًا، بليد الشعور، معوج السلوك، لا يبالي ما يأخذ أو يترك، فهو بعيد عن الخير ليس لديه حياء يردعه، ولا وازع يمنعه، يقع في الآثام، ويسف في ارتكاب الدنايا. إن المرء حين يفقد حياءه يتدرج من سيئ إلى أسوأ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدركات السفلى.

عَنْ أبي مَسعودٍ البَدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلام النُّبُوَّةِ الأُولَى: إذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» (رَواهُ البُخاريُّ). • كلام الأنبياء: قولُه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ مِمَّا أدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلام النُّبُوَّةِ الأُولَى» يشيرُ إلى أنَّ هذا مأثورٌ عن الأنبياء المتقدمين، وأنَّ الناس تداولوه بينهم، وتوارثوه عنهم قرنًا بعد قرنٍ، وهذا يدلُّ على أنَّ النبوات المتقدِّمة جاءت بهذا الكلام، وأنَّه اشتهر بَيْنَ الناسِ حتى وصل إلى أوَّل هذه الأمة. • معنى الحديث: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ» في معناه قولان: أحدهما: أنَّه ليس بمعنى الأمر: أنْ يصنع ما شاء، ولكنه على معنى الذمِّ والنهي عنه، وأهل هذه المقالة لهم طريقان: 1 - أنَّه أمرٌ بمعنى التهديد والوعيد، والمعني: إذا لم يكن لك حياء، فاعمل ما شئت، فإنَّ الله يُجازيك عليه، كقوله: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (فصلت:40)، وقوله: {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} (الزمر:15). 2 - أنَّه أمرٌ، ومعناه: الخبر، والمعنى: أنَّ من لم يستحي، صنع ما شاء، فإنَّ المانعَ من فعل القبائح هو الحياء، فمن لم يكن له حياءٌ، انهمك في كُلِّ فحشاء ومنكر، وما يمتنع من مثله من له حياء على حدِّ قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمِّدًا، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم)، فإنَّ لفظه لفظُ الأمر، ومعناه الخبر، وإنَّ من كذب عليه تبوأ مقعده من النار. وعن ابن عباس قال: «الحياءُ والإيمانُ في قَرَنٍ، فإذا نُزِعَ الحياءُ، تبعه الآخر». إذا لم تخْشَ عاقبةَ الليالي ... ولم تستحْي فاصنَعْ ما تشاءْ فلا واللهِ ما في العيشِ خيرٌ ... ولا الدنيا إذا ذهبَ الحياءْ يعيش المرءُ ما استحيَا بخيرٍ ... ويبقَى العودُ ما بَقِىَ اللحَاءْ

والقول الثاني في معنى قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذَا لَمْ تَسْتَحْيِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»:أنّه أمر بفعل ما يشاء على ظاهرِ لفظه، وأنَّ المعنى: إذا كان الذي تريدُ فعله مما لا يُستحيى من فعله، لا من الله ولا من الناس، لكونه من أفعال الطاعات، أو من جميل الأخلاق والآداب المستحسنة، فاصنعْ منه حينئذٍ ما شئتَ. ومن هذا قولُ بعض السَّلف ـ وقد سئل عن المروءة ـ فقال: أنْ لا تعملَ في السرِّ شيئًا تستحيي منه في العلانية. وعن أسامةَ بنِ شريك - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا كَرِهَ اللهُ مِنْكَ شَيْئًا، فَلَا تَفْعَلْه إذَا خَلَوْتَ». (حسن رواه ابن حبان). • الحياء من الإيمان: وقد جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الحياءَ مِنَ الإيمان كما في (الصحيحين) عن ابن عمر: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مرَّ على رجلٍ وهو يُعاتِبُ أخاه في الحياء يقولُ: إنَّك لتستحيي، كأنَّه يقول: قد أضرَّ بك، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَعْهُ، فإنَّ الحياءَ مِنَ الإيمانِ». فقَالَ لَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - «دَعْهُ» أَيْ: اُتْرُكْهُ عَلَى هَذَا الْخُلُق السُّنِّيّ، ثُمَّ زَادَهُ فِي ذَلِكَ تَرْغِيبًا لِحُكْمِهِ بِأَنَّهُ مِنْ الْإِيمَان، وَإِذَا كَانَ الْحَيَاء يَمْنَع صَاحِبه مِنْ اِسْتِيفَاء حَقّ نَفْسه جَرَّ لَهُ ذَلِكَ تَحْصِيل أَجْر ذَلِكَ الْحَقّ، لَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَتْرُوك لَهُ مُسْتَحِقًّا. وَقَالَ اِبْنُ قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحَيَاء يَمْنَع صَاحِبه مِنْ اِرْتِكَاب الْمَعَاصِي كَمَا يَمْنَع الْإِيمَان، فَسُمِّيَ إِيمَانًا كَمَا يُسَمَّى الشَّيْء بِاسْمِ مَا قَامَ مَقَامه. وَقَالَ الْحَلِيمِيّ: حَقِيقَة الْحَيَاء خَوْف الذَّمّ بِنِسْبَةِ الشَّرّ إِلَيْهِ، وَقَالَ غَيْره: إِنْ كَانَ فِي مُحَرَّم فَهُوَ وَاجِب، وَإِنْ كَانَ فِي مَكْرُوه فَهُوَ مَنْدُوب، وَإِنْ كَانَ فِي مُبَاح فَهُوَ الْعُرْفِيّ، وَهُوَ الْمُرَاد بِقَوْلِهِ «الْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ». وَيَجْمَع كُلّ ذَلِكَ أَنَّ الْمُبَاحَ إِنَّمَا هُوَ مَا يَقَع عَلَى وَفْق الشَّرْع إِثْبَاتًا وَنَفْيًا. وَحُكِيَ عَنْ بَعْض السَّلَف: رَأَيْت الْمَعَاصِيَ مَذَلَّة، فَتَرَكْتهَا مُرُوءَة، فَصَارَتْ دِيَانَة.

وَقَدْ يَتَوَلَّد الْحَيَاء مِنْ اللهُ تَعَالَى مِنْ التَّقَلُّب فِي نِعَمِهِ فَيَسْتَحِي الْعَاقِل أَنْ يَسْتَعِينَ بِهَا عَلَى مَعْصِيَته، وَقَدْ قَالَ بَعْض السَّلَف: خَفْ اللهُ عَلَى قَدْر قُدْرَته عَلَيْك. وَاسْتَحْيِ مِنْهُ عَلَى قَدْر قُرْبه مِنْك. والْمُرَاد بِالْحَيَاءِ فِي هَذِا الْحَديث مَا يَكُون شَرْعِيًّا، وَالْحَيَاءُ الَّذِي يَنْشَأ عَنْهُ الْإِخْلَال بِالْحُقُوقِ لَيْسَ حَيَاءً شَرْعِيًّا بَلْ هُوَ عَجْز وَمَهَانَة، وَإِنَّمَا يُطْلَق عَلَيْهِ حَيَاء لِمُشَابَهَتِهِ لِلْحَيَاءِ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ خُلُق يَبْعَث عَلَى تَرْك الْقَبِيح. وفي (الصحيحين) عن أبي هُريرة قال: «الحياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ». وفي (الصحيحين) عن عمران بن حصين، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «الحَيَاءُ لَا يَأتِي إلاَّ بِخَيْرٍ». قَالَ أَشَجُّ بْنُ عَصَرٍ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ فِيكَ خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» قُلْتُ: «مَا هُمَا؟» قَالَ: «الْحِلْمُ وَالْحَيَاءُ»، قُلْتُ: «أَقَدِيمًا كَانَ فِيَّ أَمْ حَدِيثًا؟» قَالَ: «بَلْ قَدِيمًا» قُلْتُ: «الْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا». (صحيح رواه الإمام أحمد). • الحياء نوعان: أحدهما: ما كان خَلْقًا وجِبِلَّةً غيرَ مكتسب، وهو من أجلِّ الأخلاق التي يَمْنَحُها الله العبدَ ويَجبِلُه عليها، ولهذا قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْحَيَاء لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ»، فإنَّه يكفُّ عن ارتكاب القبائح ودناءةِ الأخلاق، ويحثُّ على استعمال مكارم الأخلاق ومعاليها، فهو مِنْ خصال الإيمان بهذا الاعتبار، وقد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: «من استحيى اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وُقي». وقال الجَرَّاح بنُ عبد الله الحكمي ـ وكان فارس أهل الشام ـ: «تركتُ الذنوب حياءً أربعين سنة، ثم أدركني الورع». ورُب قبيحةٍ ما حالَ بينِي ... وبينَ ركوبِها إلا الحياء فكان هو الداءُ لها ولكنْ ... إذا ذهبَ الحياءُ فلا دواء

والنوع الثاني من الحياء: ما كان مكتسبًا من معرفة اللهِ، ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمِه بخائنة الأعين وما تُخفي الصدور، فهذا من أعلى خصالِ الإيمان، بل هو مِنْ أعلى درجات الإحسّان. • علامة الحياء وفقده، وأثر ذلك: أيها المسلمون: إن من أعظم ما يستحي منه ربكم مولي النعم ومسديها. ولا يتولد هذا الحياء إلا حين يطالع العبد نعم الله عليه، ويتفكر فيها، ويدرك تمامها وشمولها، ثم يراجع نفسه ويحاسبها على التقصير، ويخجل من ربه، ولاسيما إذا رزق العبد توفيقًا فأدرك عظمة الله، وإحاطته، واطلاعه على عباده، وقربه منهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور. يقول الجنيد - رحمه الله -: «الحياء رؤية النعم ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء». ويقول بعض السلف: «خَفِ اللهَ على قدْر قدرتِه عليك واسْتَحِ منه على قدر قُربِه منك». ومن الحياء أن يطهر المسلم لسانه من الفحش ومعيب الألفاظ، فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها وآثارها. ومن الحياء القصد في الحديث في المجالس، فمن أطلق للسانه العنان فإنه لا يسلم من التزيد، ولا ينجو من الادعاء والرياء. ومن الحياء أن يتوقى الإنسان ويتحاشى أن يؤْثَر عنه سوء، أو تتلطخ سمعته بما لا يليق، وليبق بعيدًا عن موارد الشبه ومواطن الإشاعات السيئة. وإن من الحياء أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم ومراتبهم، فيؤتى كل ذي فضل فضله. فالابن يوقر أباه، والتلميذ يحترم المعلم، والصغير يتأدب مع الكبير. ومن أحيا الحياء محافظة المرأة المسلمة على كرامتها وحشمتها، ومراقبة ربها، وحفظ حق بعلها، والبعد عن مسالك الريبة ومواطن الرذيلة، لئلا يغيض ماء الحياء

ويذهب بالعفاف والبهاء. فاتقين الله يا نساء المؤمنين، والزَمْنَ العفاف والحياء فذلك خير وأبقى. يابْنَتِي إِنْ أردْتِ آية َ حُسْنٍ ... وجَمالًا يَزِينُ جِسْمًا وعَقْلاَ فانْبِذِي عادة َ التَّبرجِ نَبْذًا ... فجمالُ النُّفوسِ أسْمَى وأعْلَى واجعَلِي شِيمة َ الْحَيَاءِ خِمارًا ... فَهْوَ بِالْغَادة الكَريمة ِ أَوْلَى ليس لِلْبِنْت في السَّعادة حَظٌّ ... إِن تَنَاءَى الحياءُ عَنْها ووَلَّى والْبَسِي مِنْ عَفَاف نَفْسِكِ ثوْبًا ... كلُّ ثوبٍ سِوَاه يَفْنَى ويَبْلَى • ويقابل الحياء البذاء والجفاء: إن منزوع الحياء لا تراه إلا على قبح، ولا تسمع منه إلا لغوًا وتأثيمًا، عين غمازة، ونفس همازة، ولسان بذيء؛ يتركه الناس اتقاء فحشه، مجالسته شر، وصحبته ضُر، وفعله عدوان، وحديثه بذاء. ويزيد الأمر ويعظم الخطب حين يكون اللهو والتفحش في الطرب والغناء واتخاذ القينات والمعازف وقصائد المجون حيث الخروج عن الفضيلة، وخلع جلباب الحياء، ومن لا حياء له لا إيمان له. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَالْبَذَاءُ مِنْ الْجَفَاءِ، وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ» (صحيح رواه الترمذي). (الْحَيَاءُ مِنْ الْإِيمَانِ) أَيْ بَعْضُ الإيمان أَوْ مِنْ شُعَبِهِ. (وَالْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ) أَيْ أَهْلُهُ. (وَالْبَذَاءُ) خِلَافُ الْحَيَاءِ وَالنَّاشِئُ مِنْهُ الْفُحْشُ فِي الْقَوْلِ، وَالسُّوءُ فِي الْخُلُقِ. (مِنْ الْجَفَاءِ) وَهُوَ خِلَافُ الْبِرِّ الصَّادِرِ مِنْهُ الْوَفَاءُ. (وَالْجَفَاءُ فِي النَّارِ) أَيْ أَهْلُهُ التَّارِكُونَ لِلْوَفَاءِ. الثَّابِتُونَ عَلَى غِلَاظَةِ الطَّبْعِ وَقَسَاوَةِ الْقَلْبِ. • استحيوا من الله حق الحياء: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ».قَالَ: قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّا نَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ للهِ».

قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» (حسن رواه الترمذي). (اِسْتَحْيُوا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ) أَيْ حَيَاءً ثَابِتًا لَازِمًا صَادِقًا، وَقِيلَ أَيْ اِتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ. (قُلْنَا يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّا لَنَسْتَحْيِي) لَمْ يَقُولُوا حَقَّ الْحَيَاءِ اِعْتِرَافًا بِالْعَجْزِ عَنْهُ. (وَالْحَمْدُ للهِ) أَيْ عَلَى تَوْفِيقِنَا بِهِ. (قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ) أَيْ لَيْسَ حَقَّ الْحَيَاءِ مَا تَحْسَبُونَهُ بَلْ أَنْ يَحْفَظَ جَمِيعَ جَوَارِحِهِ عَمَّا لَا يَرْضَى. (وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ) أَيْ عَنْ اِسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللهِ بِأَنْ لَا تَسْجُدَ لِغَيْرِهِ وَلَا تُصَلِّيَ لِلرِّيَاءِ وَلَا تَخْضَعَ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ وَلَا تَرْفَعَهُ تَكَبُّرًا. (وَمَا وَعَى) أَيْ جَمَعَهُ الرَّأْسُ مِنْ اللِّسَانِ وَالْعَيْنِ وَالْأُذُنِ عَمَّا لَا يَحِلُّ اِسْتِعْمَالُهُ. (وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ) أَيْ عَنْ أَكْلِ الْحَرَامِ. (وَمَا حَوَى) أَيْ مَا اِتَّصَلَ اِجْتِمَاعُهُ بِهِ مِنْ الْفَرْجِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ وَالْقَلْبِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ مُتَّصِلَةٌ بِالْجَوْفِ، وَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا تَسْتَعْمِلَهَا فِي الْمَعَاصِي بَلْ فِي مَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى. (وَتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى) يَعْنِي تَتَذَكَّرَ صَيْرُورَتَك فِي الْقَبْرِ عِظَامًا بِالِيَةِ. (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا) فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى لِلْأَقْوِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمَا ضَرَّتَانِ فَمَتَى أَرْضَيْت إِحْدَاهُمَا أَغْضَبْت الْأُخْرَى. (فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنْ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ. وقد يتولَّدُ من الله الحياءُ من مطالعة نِعمه ورؤية التقصير في شكرها، فإذا سُلِبَ العبدُ الحياءَ المكتسب والغريزي لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح، والأخلاق الدنيئة، فصار كأنَّه لا إيمانَ له.

• ليس من الحياء: والحياءَ الممدوح في كلام النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الخُلُقَ الذي يَحُثُّ على فعل الجميل، وتركِ القبيح، فأمَّا الضعف والعجزُ الذي يوجب التقصيرَ في شيء من حقوق الله أو حقوق عباده، فليس هو من الحياء، إنَّما هو ضعفٌ وخَوَرٌ، وعجزٌ ومهانة. إن المسلم عفيفٌ حَيِيٌّ، يفعل الجميل، ويجتنب القبيح. ولا ينبغي أن يكون الحياء حائلًا عن طلب العلم أو مانعًا من قول الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. بل لقد قرر أهل العلم أن من امتنع عن مواجهة الحق وأخَلّ بالواجبات على زعم منه أن هذا من الحياء، فقد ضل السبيل، فما هذا إلا عجز وخور، وضعف واستكانة، بل خنوع وتقصير ومهانة. فحقيقة الحياء ما بعث على ترك القبيح، ومنع من التقصير في حق كل ذي حق. لقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - أشَدَّ حيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا (رواه البخاري ومسلم). (أَشَدّ حَيَاء مِنْ الْعَذْرَاء) أَيْ الْبِكْر، (فِي خِدْرهَا) أَيْ فِي سِتْرهَا، وَأَخْرَجَ الْبَزَّار مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس قَالَ: «كَانَ رَسُول اللهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَغْتَسِل مِنْ وَرَاء الْحُجُرَات، وَمَا رَأَى أَحَد عَوْرَته قَطّ» وَإِسْنَاده حَسَن. وَمَحَلّ وُجُود الْحَيَاء مِنْهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي غَيْر حُدُود اللهُ لكن لم يمنعه أن يقول لحبه أسامة: «أتَشْفَعُ فِي حَدٍ مِنْ حُدُودِ اللهِ» (رواه البخاري ومسلم). لم يمنع الحياء أم سليم الأنصارية من أن تأتي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ». قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «نَعَمْ، إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ» (رواه البخاري ومسلم). فاتقوا الله أيها المسلمون وتمسكوا بوصايا دينكم، وتأسوا بهدي نبيكم، فقد كان صادق اللهجة، حسن العشرة، ليس بغماز ولا لماز ولا فاحش ولا متفحش، وصلوا عليه وسلموا تسليمًا كثيرًا.

30 - عظيم ولكنه يسير على من يسره الله عليه

30 - عَظيمٌٍ ولَكِنّه يَسيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ الله عليه عَنْ مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال: قُلتُ: يا رَسولَ الله أَخبِرني بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني مِنَ النَّارِ، قال: «لقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ وإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وتَصُومُ رَمضَانَ، وتَحُجُّ البَيْتَ». ثمَّ قَالَ: «ألا أَدُلُّكَ على أبوابِ الخير؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَما يُطْفِئُ الْمَاءُ النارَ، وصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتَّى بَلَغَ: {يَعْمَلُوْنَ} (السجدة:16 - 17). ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُ برَأْسِ الأمْرِ وعَمودِهِ وذِرْوَةِ سِنَامِهِ؟» قُلتُ: بَلَى يا رَسولَ الله، قال: «رَأسُ الْأمْرِ الإسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وذِرْوَةُ سَنامِهِ الْجِهَادُ» تحية طيبة وبعد ثم قال: «ألَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟»، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قال: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» تحية طيبة وبعد قُلْتُُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِما نَتَكَلَّمُ بهِ؟ فقالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ». (صَحيحٌ رواهُ الترمذيُّ). • حرص معاذٍ - رضي الله عنه - على الأعمال الصَّالحة: قول معاذ - رضي الله عنه -: «أَخبِرني بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني مِنَ النَّارِ» يدلُّ على شدَّةِ اهتمامِ معاذٍ - رضي الله عنه - بالأعمال الصَّالحة، وفيه دليلٌ على أنَّ الأعمالَ سببٌ لدخول الجنَّة، كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الزخرف:72). وأما قولُه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ مِنْكُمُ الجَنَّةَ بِعَمَلِه» (رواه البخاري ومسلم) فالمراد ـ والله أعلم ـ أنَّ العملَ بنفسه لا يستحقُّ به أحدٌ الجنَّة لولا أنَّ الله جعله ـ بفضله ورحمته ـ سببًا لذلك، والعملُ نفسُه من رحمة الله وفضله على عبده، فالجنَّةُ وأسبابُها كلٌّ من فضل الله ورحمته.

• أمرٌ عظيم جدًا: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ» وذلك لأنَّ دخولَ الجنَّة والنَّجاةَ من النار أمرٌ عظيم جدًا، ولأجله أنزل الله الكتب، وأرسلَ الرُّسلَ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لِرَجُلٍ: «مَا تَقُولُ فِي الصَّلَاةِ؟». قَالَ: «أَتَشَهَّدُ ثُمَّ أَسْأَلُ الله الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِهِ مِنْ النَّارِ، أَمَا وَالله مَا أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ وَلَا دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ». فَقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ» (صحيح رواه ابن ماجه). (مَا أَحْسَن دَنْدَنَتك) أَيْ كَلَامك الْخَفِيّ. يشير إلى كثرة دعائهما واجتهادهما في الدعاء. (حَوْلهَا) وَفِي بَعْض النُّسَخ (حَوْلهمَا) بِالتَّثْنِيَةِ فَعَلَى الْأَوَّل مَعْنَاهُ حَوْل مَقَالَتك أَيْ كَلَامنَا قَرِيب مِنْ كَلَامك، وَعَلَى الثَّانِي مَعْنَاهُ حَوْل الْجَنَّة وَالنَّار أَيْ كَلَامنَا أَيْضًا لِطَلَبِ الْجَنَّة وَالتَّعَوُّذ مِنْ النَّار. • التَّوفيقَ كُلَّه بيد الله - عز وجل -: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ» إشارةٌ إلى أنَّ التَّوفيقَ كُلَّه بيد الله - عز وجل -، فمن يسَّرَ الله عليه الهدى اهتدى، ومن لم يُيسره عليه، لم يتيسَّر له ذلك، قالَ الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل:5 - 10). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنْ الْجَنَّةِ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ «أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا وَنَدَعُ الْعَمَلَ». قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ»، ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الْآيَةَ» (رواه البخاري ومسلم). وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقولُ في دعائه: «واهْدِنِي وَيَسِّرِ الْهُدَى لِي» (صحيح رواه أبو داود والترمذي). وأخبر الله - عز وجل - عن نبيه موسى؛ أنَّه قال في دعائه: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} (طه:25 - 26). وكان ابنُ عمر يدعو: «اللهمَّ يسرني لليُسرى، وجنِبني العُسرى». • الطريق إلى الجنَّة: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وتَصُومُ رَمضَانَ، وتَحُجُّ البَيتَ» دل على أن دخول الجنَّة مترتب على الإتيان بأركان الإسلام الخمسة، وهي: التَّوحيدُ، والصَّلاةُ، والزَّكاةُ، والصِّيام، والحجُّ. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ألا أدُلُّكَ عَلَى أبْوَابِ الخَيْرِ» لمَّا رتَّبَ دخولَ الجنَّة على واجبات الإسلام، دلَّه بعد ذلك على أبواب الخيرِ مِنَ النَّوافِل، فإنَّ أفضلَ أولياءِ الله هُمُ المقرَّبون، الذين يتقرَّبون إليه بالنَّوافل بعدَ أداءِ الفرائض. • الصومُ جُنَّة: قوله: «الصَّوْمُ جُنَّة» هذا الكلام ثابتٌ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من وجُوهٍ كثيرةٍ، وخرَّجاه في «الصحيحين» ورواه الإمام أحمد بزيادة، وهي: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ وحِصْنٌ حَصِينٌ مِنَ النَّارِ» (صحيح)، ورواه عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ، كَجُنَّة أحَدِكُمْ مِنَ القِتَالِ» (إسناده صحيح). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» (رواه البخاري ومسلم) وقال بعضُ السَّلف: الغيبةُ تخرقُ الصِّيامَ، والاستغفارُ يرقَعُهُ، فمن استطاع منكم أنْ لا يأتي بصوم مخرَّقٍ فليفعل. وقال ابنُ المنكدر: الصائمُ إذا اغتاب خرق، وإذا استغفر رقع. فالجُنَّة: هي ما يستجنُّ بها العبد، كالمجنِّ الذي يقيه عندَ القتالِ من الضَّرب، فكذلك الصيام يقي صاحبه منَ المعاصي في الدُّنيا، كما قال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:183)، فإذا

كان له جُنَّةٌ من المعاصي، كان له في الآخرة جُنَّةٌ من النار، وإنْ لم يكن له جُنَّةٌ في الدنيا من المعاصي، لم يكن له جُنَّةٌ في الآخرة من النار. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا وَيَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنَّهُ كَادَ أَنْ يُبْطِئَ بِهَا فَقَالَ عِيسَى: إِنَّ اللهَ أَمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ لِتَعْمَلَ بِهَا وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهَا فَإِمَّا أَنْ تَأْمُرَهُمْ وَإِمَّا أَنْ آمُرَهُمْ، فَقَالَ يَحْيَى: أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي بِهَا أَنْ يُخْسَفَ بِي أَوْ أُعَذَّبَ. فَجَمَعَ النَّاسَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَامْتَلَأَ الْمَسْجِدُ وَتَعَدَّوْا عَلَى الشُّرَفِ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ فَقَالَ: «هَذِهِ دَارِي وَهَذَا عَمَلِي فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ»، فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ. وَإِنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا؛ فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ. وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ فِي عِصَابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيهَا مِسْكٌ فَكُلُّهُمْ يَعْجَبُ أَوْ يُعْجِبُهُ رِيحُهَا، وَإِنَّ رِيحَ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَوْثَقُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ فَقَالَ: «أَنَا أَفْدِيهِ مِنْكُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ»، فَفَدَى نَفْسَهُ مِنْهُمْ. وَآمُرُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا اللهَ؛ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ الْعَدُوُّ فِي أَثَرِهِ سِرَاعًا حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأَحْرَزَ نَفْسَهُ مِنْهُمْ كَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ» (صحيح رواه الترمذي والنسائي). • الصدقةُ تُطفئُ الخطيئةَ: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «والصَّدَقةُ تُطْفِئُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ المَاءُ النَّارَ»: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صَنَائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وصَدَقَةُ السِّرِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمْرِ». (حسن رواه الطبراني). ورُوي عن عليِّ بنِ الحسين - رضي الله عنه -:أنَّه كان يحملُ الخبزَ على ظهرهِ باللَّيل يتَّبِعُ به المساكين في ظُلمة الليل، ويقول: إنَّ الصَّدقة في ظلامِ اللَّيلِ تُطفئُ غضبَ الرَّبِّ - عز وجل -. وقد قال الله - عز وجل -: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (البقرة:271)، فدلَّ على أنَّ الصدقة يُكفَّر بها من السيئات: إما مطلقًا، أو صدقة السر. • الصلاة في جوف الليل: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ»، يعني: أنَّها تُطفئ الخطيئة أيضًا كالصَّدقة، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «أفضلُ الصَّلاةِ بَعْدَ المَكْتُوبَةِ قِيَامُ اللّيْلِ». وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلّيْتُمُ الصُبْحَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلّيْتُمُ الظُهْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلّيْتُمُ العَصْرَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلّيْتُمُ فَإِذَا صَلّيْتُمُ المَغْرِبَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلّيْتُمُ العِشَاءَ غَسَلَتْهَا، ثُمَّ تَنَامُونَ فَلَا يُكْتَبُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَسْتَيْقِظُوا» (رواه الطبراني وإسناده حسن). وكذلك قيامُ الليل يُكفر الخطايا؛ لأنَّه أفضلُ نوافل الصلاة. عَنْ بِلَالٍ بْنِ رَبَاحٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ فَإِنَّهُ دَأَبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ، وَمَنْهَاةٌ عَنْ الْإِثْمِ، وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ» (صحيح رواه الترمذي). (عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ) أَيْ التَّهَجُّدِ فِيهِ (فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ) أَيْ عَادَتُهُمْ وَشَأْنُهُمْ. (وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللهِ) أَيْ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللهِ تَعَالَى (وَمَنْهَاةٌ) أَيْ نَاهِيَةٌ (عَنْ الْإِثْمِ) أَيْ عَنْ اِرْتِكَابِهِ قَالَ اللهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.

(وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ) أَيْ مُكَفِّرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَسَاتِرَةٌ لَهَا. (وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْجَسَدِ) أَيْ طَارِدٌ وَمُبْعِدٌ لِلدَّاءِ عَنْ الْبَدَنِ. وقد تقدَّم أنَّ صدقة السِّرِّ تُطفئُ الخطيئة، وتُطفئ غضبَ الرَّبِّ، فكذلك صلاةُ الليل. وقوله: «ثُمَّ تَلَا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة:16 - 17)، يعني: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - تلا هاتين الآيتين عندَ ذكره فضلَ صلاة الليل، ليبيِّنَ بذلك فضل صلاة الليل، وقد رُويَ عن أنس أنَّ هذه الآية نزلت في انتظار صلاةِ العشاء، (رواه الترمذي وإسناده جيد).ورُوي عنه أنَّه قال في هذه الآية: كانوا يتنفلون بينَ المغرب والعشاء. (رواه أبو داود وإسناده صحيح). وكلُّ هذا يدخل في عموم لفظ الآية، فإنَّ الله مدح الذين تتجافى جنوبُهم عن المضاجع لدعائه، فيشملُ ذلك كلَّ مَنْ ترك النَّومَ بالليل لذكر الله ودُعائه، فيدخلُ فيه مَنْ صلَّى بين العشاءين، ومن انتظرَ صلاة العشاءِ فلم يَنَمْ حتَّى يُصليها لاسيما مع حاجته إلى النوم، ومجاهدة نفسه على تركه لأداء الفريضة، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لمنِ انتظرَ صلاةَ العشاء: «إنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ» (رواه البخاري ومسلم). ويدخلُ فيه مَنْ نامَ ثمَّ قام مِنْ نومه باللَّيل للتهجُّدِ، وهو أفضلُ أنواع التطوُّع بالصَّلاة مطلقًا. وربما دخل فيه من ترك النَّوم عندَ طُلوع الفجر، وقام إلى أداء صلاةِ الصُّبح، لاسيما مع غَلَبَةِ النَّوم عليه، ولهذا يُشرع للمؤذِّن في أذان الفجر أنْ يقولَ في أذانه: الصَّلاة خَيرٌ مِن النوم. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وصَلاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ» ذكر أفضلَ أوقات التهجُّد بالليل، وهو جوفُ الليل.

عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ؟ قَالَ: «جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ» (صحيح رواه الترمذي). (أَيُّ الدُّعَاءِ أَسْمَعُ) أَيْ أَوْفَقُ إِلَى السَّمَاءِ أَوْ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ. وعن عَمْرو بْنُ عَبَسَةَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ» (صحيح رواه الترمذي). وقد قيل: إنَّ جوف الليل إذا أطلق، فالمرادُ به وسطُه، وإنْ قيل: جوف الليل الآخر، فالمرادُ وسط النِّصف الثاني، وهو السدسُ الخامسُ من أسداس الليل، وهو الوقتُ الذي ورد فيه النزول الإلهي. آدِمِ الصيامَ مع القيامِ تعبدًا فكلاهما عملانِ مقبولانِ قُمْ في الدُجَى واتْلُ الكتابَ ولا تَنَمْ إلا كنَوْمةِ حائرٍ ولهَانِ فلربما تأتِي المنِيَّةُ بغتَةً فَتُسَاقُ مِنْ فُرُشٍ إلى الأكفانِ يا حبَّذا عَيْنانِ في غَسَقِ الدُجَى مِن خشيةِ الرحمنِ باكيتانِ • رأسِ الأمر وعموده وذِروة سنامه: ثُمَّ قالَ: «أَلا أُخْبِرُكُ برَأْسِ الأمْرِ وعَمُودِه وذِرْوَة سِنَامِهِ؟» قُلتُ: بَلَى يا رَسولَ الله، قال: «رَأسُ الأمْرِ الإسْلامُ، وعَمُودُه الصَّلاةُ، وذِرْوَةُ سَنامِهِ الجهادُ» فأخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عن ثلاثة أشياء: رأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه. فأمَّا رأس الأمر، ويعني بالأمر: الدين الذي بعث به وهو الإسلام، وقد جاء تفسيرُه في رواية أخرى بالشهادتين، فمن لم يقرَّ بهما ظاهرًا وباطنًا، فليسَ من الإسلام في شيء. وأمَّا قِوام الدين الذي يقومُ به الدِّين كما يقومُ الفسطاطُ على عموده، فهو الصلاة. وأمَّا ذِروة سنامه ـ وهو أعلى ما فيه وأرفعه ـ فهو الجهاد، وهذا يدلُّ على أنَّه أفضلُ الأعمال بعدَ الفرائض.

ففي «الصحيحين» عن أبي ذرٍّ، قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ العمل أفضلُ؟ قال: «إيمَانٌ بِاللهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ». وفيهما عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «أفْضَلُ الأعْمَالِ إيمانٌ بِاللهِ، ثُمَّ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ».والأحاديث في هذا المعنى كثيرةٌ جدًا. ولستُ أبالي حين أُقتَلُ مسلماٌ على أي جنبٍ كان في اللهِ مصرعِي وذلكَ في ذاتِ الإلهِ وإنْ يَشَأ يُبارِكْ علَى أوصالِ شِلوٍ مُمَزَّعِ • أصلُ الخير كُلّه كفَّ اللسان وضبطه وحبسه: وقوله: «ألا أُخْبِرُكَ بملَاكِ ذلِكَ كُلِّه» قلتُ: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه فقال: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» إلى آخر الحديث. هذا يدلُّ على أنَّ كفَّ اللسان وضبطه وحبسه هو أصلُ الخير كُلِّه، وأنَّ من ملك لسانه، فقد ملك أمره وأحكمه وضبطه، وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» (رواه البخاري ومسلم). • حصائد الألسنة: والمرادُ بحصائد الألسنة: جزاءُ الكلام المحرَّم وعقوباته؛ فإنَّ الإنسانَ يزرع بقوله وعمله الحسنات والسَّيِّئات، ثم يَحصُدُ يومَ القيامة ما زرع، فمن زرع خيرًا من قولٍ أو عملٍ حَصَد الكرامةَ، ومن زرع شرًَّا مِنْ قولٍ أو عملٍ حصد غدًا النَّدامة. لسانُك لا تذْكُرْ به عَوْرةَ امرِءٍ فكُلّكَ عوْراتُ وللناسِ ألسُنُ وعينُك إنْ أبْدَتْ إليكَ مَعَائِبًا فَصُنْها وقُلْ يا عَيْنُ للناسِ أعيُنُ وعاشِرْ بمعروفٍ وسامِحْ مَن اعتدَى وفارِق ولكنْ بالتي هيَ أحسنُ وظاهرُ حديثِ معاذ يدلُّ على أنَّ أكثر ما يدخل النَّاسُ به النار النُّطقُ بألسنتهم، فإنَّ معصية النُّطق يدخل فيها الشِّركُ وهو أعظمُ الذنوب عندَ الله - عز وجل -، ويدخل فيها القولُ على الله بغير علم، وهو قرينُ الشِّركِ، ويدخلُ فيه شهادةُ الزُّور، ويدخلُ فيها السِّحر والقذفُ، وغيرُ ذلك مِنَ الكبائر كالكذب والغيبةِ والنَّميمة، وسائرُ المعاصي الفعلية لا يخلو غالبًا من قول يقترن بها يكون معينًا عليها.

وفي حديث أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «أكْثَرُ مَا يُدخِلُ النَّاسَ النَارَ الأجْوَفَانِ: الفَمُ والفَرْجُ» (صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي). وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «إنَّ الرَجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيها، يَزِلُّ بها في النَّارِ أبْعَدَ مَا بَيْنَ المَشْرِقِ والَمْغْرِبِ» ورواه الترمذي، ولفظه: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأسًا، يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ» (صحيح). وقال ابن مسعود: «والله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان».وكان يقول: «يا لسان قُل خيرًا تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم». وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: «أنصف أذنيك من فِيكَ (فمك)، وإنما جُعل لك أذنان وفم واحد لتسمع أكثر مما تتكلم». وقال شميط بن عجلان: يا ابن آدم إنك ما سكت فأنت سالم، فإذا تكلمت فخذ حذرك إما لك وإما عليك». وقال الحسن: «اللسان أميرُ البدن، فإذا جنَى على الأعضاء شيئًا جنَتْ، وإذا عفَّ عفَّتْ». وقال يحيى بن أبي كثير: «ما صلح منطقُ رجل إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطقُ رجل قطُّ إلاَّ عرفت ذلك في سائر عمله». وقال المبارك بن فضالة، عن يونس بن عبيد: «لا تجدُ شيئًا مِنَ البرِّ واحدًا يتَّبعه البِرُّ كلّه غيرَ اللسان، فإنَّك تَجِدُ الرجل يصومُ النهار، ويُفطر على حرام، ويقومُ الليل ويشهد بالزور بالنهار ـ وذكرَ أشياءَ نحو هذا ـ ولكن لا تجده لا يتكلَّم إلا بحقٍّ فَيُخالف ذلك عمله أبدًا». احفَظْ لسانَكَ أيُّها الإنْسانُ لا يلْدَغَنَّكَ إنَّهُ ثعبانُ كَمْ في المقابرِ مِن قتيلِ لسانهِ كانتْ تهابُ لقاءَه الشجعانُ

31 - قل: آمنت بالله، ثم استقم

31 - قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثمَّ استقِمْ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه -، قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الإسْلَامِ قَوْلًا لَا أسْألُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قال: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ» (رواهُ مُسلم). ولفظ الترمذي: عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، حَدِّثْنِي بِأَمْرٍ أَعْتَصِمُ بِهِ، قَالَ: «قُلْ رَبِّيَ اللهُ ثُمَّ اسْتَقِمْ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: «هَذَا» (صحيح رواه الترمذي). • كلام جامع: طلب سفيان بن عبد الله - رضي الله عنه - من النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنْ يُعلمه كلامًا جامعًا لأمر الإسلام كافيًا حتّى لا يحتاجَ بعدَه إلى غيره، فقالَ لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ». وهذا منتزع من قوله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} (فصلت:30)، وقوله - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأحقاف:13 - 14). قال أبو بكر الصديق سدد خطاكم في تفسير {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: لم يشركُوا بالله شيئًا. وعنه قال: لم يلتفتوا إلى إله غيره. وعنه قال: ثم استقاموا على أنَّ الله رَبُّهم. ورُوي عن عمر بن الخطاب سدد خطاكمأنَّه قرأ هذه الآية على المنبر {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} فقال: لم يَروغوا رَوَغَانَ الثَّعلب. وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله تعالى {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: استقاموا على أداءِ فرائضه. وعن أبي العالية، قال: ثمَّ أخلصوا له الدينَ والعملَ. وعن قتادة قال: استقاموا على طاعة الله. وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال: اللهمَّ أنت ربُّنا فارزقْنا الاستقامة. ولعل من قال: إنَّ المرادَ الاستقامة على التوحيد إنَّما أرادَ التوحيدَ الكاملَ الذي يُحرِّمُ صاحبَه على النار، وهو تحقيق معنى لا إله إلا الله، فإنَّ الإله هو الذي يُطاعُ، فلا يُعصى خشيةً وإجلالًا ومهابةً ومحبةً ورجاءً وتوكُّلًا ودعاءً. والمعاصي كلُّها قادحة في هذا التوحيد؛ لأنَّها إجابة لداعي الهوى وهو الشيطان، قال الله - عز وجل -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (الجاثية:23) قالَ الحسن وغيره: «هوَ الذي لا يهوى شيئًا إلاَّ ركبه»، فهذا يُنافي الاستقامة على التوحيد. قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُلْ: آمنْتُ بِاللِه» الإيمانَ يدخل فيه الأعمالُ الصالحة؛ فالإيمان قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، واعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح، مع الإخلاص بالنية الصادقة. وقال الله - عز وجل -: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (هود:112).فأمره أنْ يستقيمَ هوَ ومن تاب معه، وأنْ لا يُجاوزوا ما أُمِروا به، وهو الطغيانُ، وأخبر أنَّه بصيرٌ بأعمالهم، مطَّلعٌ عليها. وقال تعالى: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} (الشورى:15).قال قتادة: أُمِرَ محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أنْ يستقيمَ على أمر الله. وقال الثوري: على القرآن. وقال - عز وجل -: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} (فصلت:6). وقد أمرَ الله تعالى بإقامةِ الدِّين عمومًا كما قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (الشورى:13)، وأمر بإقام الصلاة في غير موضعٍ من كتابه، كما أمر بالاستقامة على التوحيد في تلك الآيتين.

• معنى الاستقامة: الاستقامة: هي سلوكُ الصِّراطِ المستقيمِ، وهو الدِّينُ القيِّم من غير تعريجٍ عنه يَمنةً ولا يَسرةً، ويشمل ذلك فِعلَ الطَّاعات كلّها، الظاهرة والباطنة، وتركَ المنهيات كُلِّها كذلك، فصارت هذه الوصيةُ جامعةً لخصال الدِّين كُلِّها. وفي قوله - عز وجل -: {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} إشارةٌ إلى أنَّه لابُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها، فيُجبَرُ ذلك بالاستغفار المقتضي للتَّوبة والرُّجوع إلى الاستقامة، فهو كقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لمعاذ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأتْبِعِ السَّيِّئةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا» (حسن رواه التِّرمِذيُّ). وقد أخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّ الناس لن يُطيقوا الاستقامة حق الاستقامة، فعَنْ ثَوْبَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةَ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ». (صحيح رواه ابن ماجه). فالِاسْتِقَامَة اِتِّبَاع الْحَقّ وَالْقِيَام بِالْعَدْلِ وَمُلَازَمَة الْمَنْهَج الْمُسْتَقِيم مِنْ الْإِتْيَان بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَات وَالِانْتِهَاء عَنْ جَمِيع الْمَنَاهِي، وَذَلِكَ خَطْب عَظِيم لَا يُطِيقهُ إِلَّا مَنْ اِسْتَضَاءَ قَلْبه، وَتَخَلَّصَ عَنْ الظُّلُمَات، وَأَيَّدَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ عِنْده، وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، فَأَخْبَرَ بَعْد الْأَمْر بِذَلِكَ أَنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى إِيفَاء حَقّه وَالْبُلُوغ إِلَى غَايَته بِقَوْلِهِ: (وَلَنْ تُحْصُوا) أَيْ وَلَنْ تُطِيقُوا، وَأَصْل الْإِحْصَاء الْعَدْل وَالْإِحَاطَة بِهِ لِئَلَّا يَغْفُلُوا عَنْهُ فَلَا يَتَّكِلُوا عَلَى مَا يُوفُونَ بِهِ وَلَا يَيْأَسُوا مِنْ رَحْمَته فِيمَا يَذَرُونَ عَجْزًا وَقُصُورًا لَا تَقْصِيرًا، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَنْ تُحْصُوا ثَوَابه. (وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةَ) أَيْ إِنْ لَمْ تُطِيقُوا بِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنْ الِاسْتِقَامَة فَحَقّ عَلَيْكُمْ أَنْ تَلْزَمُوا فَرْضهَا وَهِيَ الصَّلَاة الْجَامِعَة لِأَنْوَاعِ الْعِبَادَات الْقِرَاءَة وَالتَّسْبِيح وَالتَّهْلِيل وَالْإِمْسَاك عَنْ كَلَام الْغَيْر.

وقَوْله (وَلَا يُحَافِظ عَلَى الْوُضُوء) أَيْ فِي أَوْقَاته (إِلَّا مُؤْمِنٌ) فَإِنَّ الظَّاهِر عِنْوَان الْبَاطِن فَطَهَارَة الظَّاهِر دَلِيل عَلَى طَهَارَة الْبَاطِن سِيَّمَا الْوُضُوء عَلَى الْمَكَارِه كَمَا فِي أَيَّام الْبَرْد. وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا». فالسَّدادُ: هو حقيقةُ الاستقامة، وهو الإصابةُ في جميع الأقوالِ والأعمال والمقاصد، كالذي يرمي إلى غرض، فيُصيبه، وقد أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عليًّا - رضي الله عنه - بأنْ يسألَ الله - عز وجل - السَّداد والهدى، فعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُلْ اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ» (رواه مسلم). وَسَدَاد السَّهْم: تَقْوِيمه، وَمَعْنَى (سَدِّدْنِي):وَفِّقْنِي وَاجْعَلْنِي مُنْتَصِبًا فِي جَمِيع أُمُورِي مُسْتَقِيمًا، وَأَصْل السَّدَاد الِاسْتِقَامَة وَالْقَصْد فِي الْأُمُور، وَأَمَّا الْهُدَى هُنَا فَهُوَ الرَّشَاد. وَمَعْنَى (اُذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتك الطَّرِيق وَالسَّدَاد سَدَاد السَّهْم) أَيْ: تَذَكَّر فِي حَال دُعَائِك بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، لِأَنَّ هَادِي الطَّرِيق لَا يَزِيغ عَنْهُ، وَمُسَدِّد السَّهْم يَحْرِص عَلَى تَقْوِيمه، وَلَا يَسْتَقِيم رَمْيه حَتَّى يُقَوِّمهُ، وَكَذَا الدَّاعِي يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِص عَلَى تَسْدِيد عِلْمه وَتَقْوِيمه، وَلُزُومه السُّنَّة، وَقِيلَ: لِيَتَذَكَّر بِهَذَا لَفْظ السَّدَاد وَالْهُدَى لِئَلَّا يَنْسَاهُ. والمقاربة: أنْ يُصيبَ ما قَرُبَ مِنَ الغرض إذا لم يُصِبِ الغرضَ نفسَه، ولكن بشرط أنْ يكونَ مصمِّمًا على قصد السَّداد وإصابة الغرض، فتكون مقاربتُه عن غير عمدٍ، ويدلُّ عليه قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ لَنْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تُطِيقُوا كُلَّ مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَلَكِنْ سَدِّدُوا وَأَبْشِرُوا» (حسن رواه الإمام أحمد). والمعني: اقصِدُوا التَّسديدَ والإصابةَ والاستقامةَ، فإنَّهم لو سدَّدُوا في العمل كلِّه، لكانوا قد فعلوا ما أُمِرُوا به كُلِّه.

• أصلُ الاستقامةِ: أصلُ الاستقامةِ استقامةُ القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصِّديق وغيرُه قولَه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (الأحقاف:13) بأنَّهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلبُ على معرفةِ الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكُّلِ عليه، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارحُ كلُّها على طاعته، فإنَّ القلبَ هو ملكُ الأعضاء، وهي جنودهُ، فإذا استقامَ الملك، استقامت جنودُه ورعاياه. وكذلك فسَّر قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} (الروم:30) بإخلاص القصد لله وإرادته وحدَه لا شريكَ له. والإخلاص شرط في قبول الله تعالى للعمل الصالح، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5). وقال: {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ* أَلَا لِله الدِّينُ الْخَالِصُ} (الزمر:2 - 3). {فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي: أخلص لله تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد الله وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد. {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أنه له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به، لأنه متضمن للتأله لله في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.

وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها، دون الشرك به في شيء من العبادة. فإن الله بريء منه، وليس لله فيه شيء، فهو أغنى الشركاء عن الشرك، وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة، مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: أنَا أغْنَى الشُرَكَاءِ عَنِ الشِركِ؛ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْري تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ» (رواه مسلم). وَمَعْنَاهُ: أَنَا غَنِيّ عَنْ الْمُشَارَكَة وَغَيْرهَا، فَمَنْ عَمِلَ شَيْئًا لِي وَلِغَيْرِي لَمْ أَقْبَلهُ، بَلْ أَتْرُكهُ لِذَلِكَ الْغَيْر. وَالْمُرَاد أَنَّ عَمَل الْمُرَائِي بَاطِل لَا ثَوَاب فِيهِ، وَيَأْثَم بِهِ. قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: «ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافِيَك الله منهما» (¬1). وإن تمام الاستقامة بشهادة أن لا إلَه إلاّ الله أن لا ينوي حينما يفعل إحسانا الاّ أن ذلك لله وحده، ولا يترك فعلا إلا لله، ولا يتأثر بفعل ما سواء حضر الناس أم غابوا. ¬

_ (¬1) جاء في (فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) إجابة السؤال الأول من الفتوى رقم (3419): «أما قوله: «إن العمل من أجل الناس شرك» فهو صحيح؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة تدل على وجوب إخلاص العبادة لله وحده وتحريم الرياء، وقد سماه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: الشرك الأصغر، وذكر أنه أخوف ما يخاف على أمته - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأما قوله: «إن ترك العمل من أجل الناس رياء» فليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل، والمعول في ذلك على النية؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّمَا الْأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلّ امْرِئٍ مَا نَوَى» مع العناية بتحري موافقة الشريعة في جميع الأعمال؛ لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْه أمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»، فإذا وقع للإنسان حالة ترك فيها العمل الذي لا يجب عليه؛ لئلا يظن به ما يضره فليس هذا الرياء، بل هو من السياسة الشرعية، وهكذا لو ترك بعض النوافل عند بعض الناس خشية أن يمدحوه بما يضره أو يخشى الفتنة به، أما الواجب فليس له أن يتركه إلا لعذر شرعي».

وعلى المؤمن أن يكون عمله خالصًا من أي رياء أو مَنٍّ على أحد، وأن يكون له من أعمال السر ما لا يعلم به أحد إلاّ الله كصدقة السر أو صلاة التهجد منفردًا أو إحسان لا يعلم به أحد حتى من يستفيد منه، ويجاهد نفسه على أن تكون الأعمال الظاهرة الأخرى خالصة من الشوائب قدر استطاعته فتلك خطوة أخرى على طريق الاستقامة. كما أن عليه أن لا يترك عملا صالحًا من أجل الناس قال الله تعالى عن المؤمنين: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ} (المائدة54) فهو لا يرى لغير الله إرادة أو استطاعة لضرر إلاّ بإذنه وكلما ازداد المؤمن إيمانًا، كلما وضحت عنده تلك الحقيقة وفتح الله له بحيث يرى براهين جديدة تطمئن إليها نفسه. كَتَبَ مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَان - رضي الله عنهما - إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها - أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها - إِلَى مُعَاوِيَةَ: «سَلَامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ»، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ» (صحيح رواه الترمذي). (مَنْ اِلْتَمَسَ) أَيْ طَلَبَ (بِسَخَطِ النَّاسِ) السَّخَطُ وَالسُّخُطُ وَالسُّخْطُ وَالْمَسْخَطُ الْكَرَاهَةُ لِلشَّيْءِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِهِ (كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ) لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ حِزْبِ اللهِ وَهُوَ لَا يَخِيبُ مَنْ اِلْتَجَأَ إِلَيْهِ، أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ. (وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ) أَيْ سَلَّطَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤْذُوهُ وَيَظْلِمُوا عَلَيْهِ. • استقامة اللسان: وأعظم ما يُراعى استقامتُه بعدَ القلبِ مِنَ الجوارح اللسانُ، فإنَّه ترجمانُ القلب والمعبِّرُ عنه، ولهذا لما أمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بالاستقامة، وصَّاه بعدَ ذلك بحفظ لسانه، وفي (مسند الإمام أحمد) عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «لا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، ولَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُه حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» (إسناده حسن).

وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ اتَّقِ اللهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» (حسن رواه الترمذي). قَوْلُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا أَصْبَحَ اِبْنُ آدَمَ» أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ (فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ) جَمْعُ عُضْوٍ كُلُّ عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمِه ِ (كُلَّهَا) تَأْكِيدٌ (تُكَفِّرُ اللِّسَانَ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ تَتَذَلَّلُ وَتَتَوَاضَعُ لَهُ، والتَّكْفِيرُ هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْإِنْسَانُ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ قَرِيبًا مِنْ الرُّكُوعِ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُرِيدُ تَعْظِيمَ صَاحِبِهِ. (فَتَقُولُ) أَيْ الْأَعْضَاءُ لَهُ (اِتَّقِ اللهَ فِينَا) أَيْ خَفْهُ فِي حِفْظِ حُقُوقِنَا (فَإِنَّمَا نَحْنُ بِك) أَيْ نَتَعَلَّقُ وَنَسْتَقِيمُ وَنَعْوَجُّ بِك (فَإِنْ اِسْتَقَمْت) أَيْ اِعْتَدَلَتْ (اِسْتَقَمْنَا) أَيْ اِعْتَدَلْنَا تَبَعًا لَك (وَإِنْ اعْوَجَجْت) أَيْ مِلْت عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى (اعْوَجَجْنَا) أَيْ مِلْنَا عَنْهُ اِقْتِدَاءً بِك. • ما يعين على الاستقامة: 1 - التمسك بكتاب الله: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللهِ» (رواه مسلم) وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللهِ أحِلُوا حَلَالَه وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ» (صحيح رواه الطبراني)، فكتاب الله تعالى ففيه خبر الأمم السالفة وفيه التحذير من غوائل ما سيقع وفيه حكم ما بيننا وفيه الترغيب والترهيب وفيه الدعوة إلى مكارم الأخلاق وفيه الأحكام لكل الأزمنة والأمكنة فهو كلام رب العالمين الذي يعلم ما يصلح للناس في دنياهم وأخراهم. 2 - اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ أمَّتِي يَدخُلُونَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ أبَى»، قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: «مَنْ أطَاعَنِي دَخَلَ الجَنّة، ومَنْ عَصَانِي فَقَد أبَى» (رواه البخاري) واتباع السنة الذي يشير إليه هذا الحديث، ثابت بالقرآن: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران:31)

{وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (النساء: 115). والمسلم يهرع إلى سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مستفتيًا كلما طرأ له أمر ذي بال إذ أن حياته المعنوية قائمة بين المسلمين متمثلة بكتب السنة. وعليه أن يرضى بعد ذلك بحكم رسول الله الوارد في سنته. 3 - محبة الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا للهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ» (متفق عليه). ومحبة العبد لربه نور يقذفه الله في قلوب من يحب من عباده الصالحين حتى إن العبد ليجد حلاوة ذلك فلا يعبأ بما يلاقي من أذى في سبيل الله. اسمع قوله ـ جل شأنه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة:54) فإن محبة العبد لربه مقترنة بمحبة الله تعالى لعبده، ومحبة العبد لربه دليل على معرفته به. قال الحسن البصري: «من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها، والمؤمن لا يلهو حتى يغفل، فإذا تفكر حزن». ولكن ما الدليل على صدق من يدعي محبة الله تعالى؟ إن جواب ذلك في كتاب الله: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (آل عمران: 31)، ومن يصدق في محبته لله ولرسوله يرخص عنده كل غالٍ في سبيل الله؛ استمع إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ

مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (التوبة:24) وقد أحسن من قال: تَعْصِي الإلَهَ وأنتَ تزعُمُ حُبَّهُ ... هذَا ـ ورَبِّي ـ في القياسِ شنيعُ لو كان حبُّكَ صادقًا لأطعْتَهُ ... إن المحبَّ لِمَنْ يُحبُّ مطيعُ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ السَّاعَةِ فَقَالَ: «مَتَى السَّاعَةُ»، قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟»، قَالَ: «لَا شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: «فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ». قَالَ أَنَسٌ: «فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ». (رواه البخاري ومسلم). 4ـ جهاد النفس: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69)، وقال أيضا: {وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} (الطلاق: 4). وكلما ازداد المؤمن تقوى، كلما ازداد عون الله له وتسديدهُ لخطاهُ، فإذا أحَسَن وجد الثواب سريعا كإجابة الدعاء أو تيسير المزيد من الصالحات أو وقايته من السيئات، قال تعالى: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} (الليل:5 - 7). أما إذا غفل المؤمن التقي فأخطأ، فإن تسديد الله له يكون بتذكره لخطئه بشكل ما، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (الأعراف:201). 5 - الرضا: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -» إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» (حسن رواه الترمذي).

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ»، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -:فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ» فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» (حسن رواه الترمذي). (هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ) أَيْ الْأَحْكَامَ الْآتِيَةَ لِلسَّامِعِ الْمُصَوَّرَةَ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ. (وَقَالَ اِتَّقِ الْمَحَارِمَ) أَيْ اِحْذَرْ الْوُقُوعَ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْك. (تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ) أَيْ مِنْ أَعْبَدْهُمْ. (وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَك) أَيْ أَعْطَاك (تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ) فَإِنَّ مَنْ قَنَعَ بِمَا قُسِمَ لَهُ وَلَمْ يَطْمَعْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ اِسْتَغْنَى عَنْهُمْ، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» (رواه البخاري ومسلم). والْعَرَض هُوَ مَا يُنْتَفَع بِهِ مِنْ مَتَاع الدُّنْيَا. (وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِك) بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ (تَكُنْ مُؤْمِنًا) أَيْ كَامِلَ الْإِيمَانِ. (وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك) مِنْ الْخَيْرِ (تَكُنْ مُسْلِمًا) أَيْ كَامِلَ الْإِسْلَامِ. (وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ) أَيْ تُصَيِّرُهُ مَغْمُورًا فِي الظُّلُمَاتِ، بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ بِنَافِعَةٍ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا مَكْرُوهًا، وَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «ارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، واجتنب ما حرم الله عليك تكن مِن أورعِ الناس، وأدِّ ما افترض الله عليك تكن من أعبدَ الناس، ولا تَشْكُ مَن هو أرحمُ بك (الله - عز وجل -) إلى من لا يرحمك (الناس)، واستعن بالله تكن من أهل خاصته». وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى أبي موسى الأشعري: «أما بعد فإن الخير كله في الرضا، فإن إستطعت أن ترضى وإلاّ فاصبر».

وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يدعو: «أللهُمّ إنّي أسْألُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ» (صحيح رواه أحمد). إن عدم الرضا بمصائب الدنيا قد يصحبه الجزع، ومَن جزعَ من مصائب الدنيا تحولت مصيبته في دينه، لأن الجزع نفسه هو مصيبة في الدين، فالمؤمن يرضى عن ربه وعن ما يقضي به ربه، فالخير ما يختاره الله لعبده المؤمن لا ما يحبه هو لنفسه 5 - القناعة: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قَالَ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ» (رواه مسلم).الْكَفَاف: الْكِفَايَة بِلَا زِيَادَة وَلَا نَقْص. والقناعة متعلقة بالرضا، فإذا رضي العبد عن ربه قنع بما قسم الله له وقلبه مطمئن مرتاح لذلك، والقناعة تناقض التكالب على الدنيا سعيًا وراء متاعها الزائل، سواء كان حلالًا أم حرامًا؛ فالمؤمن يقنع بالحلال ولو كان قليلًا، ويمقت الحرام ولو كان كثيرًا. وقناعته لا تقعده عن الكسب ولا عن أخذ ما هو صالح من غيره، لكنها تناقض الحسد لمن آتاه الله رزقًا وفيرًا، وتناقض تكليف النفس فوق طاقتها طمعًا في المزيد من متاع الدنيا، وتناقض الكسب مع التفريط بفرائض الله وعبادته. والقناعة يحتاجها الغني والفقير وكذلك يحتاجها من كان رزقه كفافًا بين الغِنَى والفقر؛ لأن القناعة في القلب ولا علاقة لها بما في اليد من مال. ومن قنع بما آتاه الله وجد طمأنينة القلب والسعادة، قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل: 97). 6 - الصبر: عَنْ صُهَيْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه مسلم).

وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «ما أصابتني مصيبة إلاّ رأيتُ أن لله عَلَيّ فيها ثلاث نِعَم: أن لم تكن المصيبة في ديني، ولم يكن ما هو أكبر منها فدفع الله بها ما هو أعظم منها، والثالثة ما جعل الله فيها من الكفارة لما كنا نتوقاه من سيئات أعمالنا». 7 - الزهد: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَاسُ» (صحيح رواه ابن ماجه وغيره). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِمَنْكِبِي فَقَالَ: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ»، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ» (رواه البخاري). ومعنى ذلك أن لا يتعلق القلب بالدنيا، إلاّ كما يتعلق الغريب في غير وطنه حيث لا ينبغي له أن يشتغل بما لا ضرورة له، والدار الآخرة هي وطن المؤمن وليست الدنيا. قال سفيان الثوري: «الزهد في الدنيا ليس بأكل الغليظ ولا بلبس العباء ولكنه قصر الأمل». 8 - الخوف: عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خُطْبَةً مَا سَمِعْتُ مِثْلَهَا قَطُّ، قَالَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالَ: فَغَطَّى أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وُجُوهَهُمْ لَهُمْ خَنِينٌ» (رواه البخاري ومسلم). والخنين: هو الصَّوْت الَّذِي يَرْتَفِع بِالْبُكَاءِ مِنْ الأنْفِ. 9 - الرجاء: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ، وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا، فَمِنْ

ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ» (متفق عليه). لقد خبأ الله تعالى تسعة وتسعين بالمائة من رحمته يرحم بها عباده يوم القيامة، فحسن الظن بالله تعالى مطلوب على الدوام ما لم يتخذ المرء من ذلك ذريعة لكي يستحل المحارم ويرتكب الآثام، وإذا ما وعظه أحد أو نهاه عن ذلك قال إن الله غفور رحيم. قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر: 53). والرجال بحسب أعمالهم ثلاثة: رجُل عمل حسنة فهو يرجو قبولها، ورجل عمل سيئة ثم تاب فهو يرجو المغفرة، والثالث الرجل الكاذب يتمادى في الذنوب ويقول: أرجو المغفرة. إن الموازنة بين الخوف والرجاء مطلوبة على الدوام، فالخوف يردع عن ارتكاب الذنوب والرجاء يشجع الإنسان على التوبة والإقلاع عن الذنوب. خَفِ اللهَ وارجوه لكلِّ عظيمةٍ ... ولا تطِعِِ النَّفسَ الّلجوجَ فتَنْدَمَا وكُنْ بينَ هَاتَيْنِ مِن الخوفِ والرَّجَا ... وأبْشِرْ بعفوِ اللهِ إنْ كُنتَ مُسلمَا

32 - كل الناس يغدو فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها

32 - كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبائعٌ نَفْسَهُ، فمُعْتِقُها أو مُوبِقها عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآَنِ ـ أَوْ تَمْلَأُ ـ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» (رواه مسلم). • الطُّهورُ شَطْرُ الإيمانِ: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ» المراد بالطهور ها هنا: التَّطهُّر بالماء من الأحداث. واختلف الناسُ في معنى كون الطهور بالماء شطرَ الإيمان. فمنهم من قال: المرادُ بالإيمان هاهنا: الصلاة، كما في قوله - عز وجل -: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} (البقرة:143)، والمراد: صلاتُكم إلى بيتِ المقدس، فإذا كان المرادُ بالإيمان الصلاةَ، فالصلاةُ لا تُقبل إلا بطهور، فصار الطُّهور شطر الصلاة بهذا الاعتبار. وأيضًا فالصلاةُ تُكفّر الذنوبَ والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه، فصار شطرَ الصلاة بهذا الاعتبار أيضًا، كما في «صحيح مسلم» عن عثمان، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ فَيُتِمُّ الطُّهُورَ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهَا».وفي روايةٍ لمسلم: «مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ». وأيضًا كلٌّ من الصلاة والوضوء مُوجِبٌ لفتح أبواب الجنَّة كما في (صحيح مسلم) عن عُقبة بن عامر سمع النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ».

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فُتِّحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ». (صحيح رواه النسائي وابن ماجه). وعن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ». (رواه البخاري ومسلم). (وَرُوحٌ مِنْهُ: أَيْ مَخْلُوقَة مِنْ عِنْده، وَعَلَى هَذَا يَكُون إِضَافَتهَا إِلَيْهِ إِضَافَة تَشْرِيف كَنَاقَةِ اللهُ وَبَيْت الله. فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبًا لفتح أبواب الجنَّة، صار الوضوءُ نصفَ الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار. وأيضًا فالوضوء من خِصال الإيمان الخفيَّة التي لا يُحافِظُ عليها إلاَّ مُؤمنٌ، كما في حديث ثوبان وغيره، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يُحافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إلا مُؤْمِنٌ» (صحيح رواه الإمام أحمد، وابن ماجه). والغسل من الجنابة قد ورد أنَّه أداء الأمانة؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ» قَالُوا: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟» قَالَ: «الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ». (حسن، رواه أبو داود). ويحتمل أنْ يُقال: إنَّ خصالَ الإيمان من الأعمال والأقوال كُلّها تُطَهِّرُ القلبَ وتُزكيه، وأما الطهارةُ بالماء، فهي تختصُّ بتطهير الجسدِ وتنظيفه، فصارت خصالُ الإيمان قسمين: أحدُهما يُطهِّرُ الظاهر، والآخر يُطهِّرُ الباطن، فهما نصفان بهذا الاعتبار، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كُلِّه.

• الحمدُ لله تملأ الميزانَ: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «والْحَمْدُ للهِ تَملأُ المِيزانَ، وسُبحَانَ اللهِ، والْحَمْدُ للهِ، تَملآنِ أوْ تَملأ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ» فهذا شكٌّ مِن الراوي في لفظه. فأما الحمدُ لله، فاتفقت الأحاديثُ كلُّها على أنَّه يملأ الميزانَ، وقد قيل: إنَّه ضَرْبُ مَثَل، وأنَّ المعنى: لو كان الحمدُ جسمًا لملأ الميزان، وقيل: بل الله - عز وجل - يُمثِّلُ أعمالَ بني آدم وأقوالهم صُوَرًا تُرى يومَ القيامة وتوزَنُ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَأتِي القُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقْدُمُهُ الْبَقَرَةُ وآلُ عِمْرَانَ كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أوْ غَيَايَتَانِ أوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَّافّ» (رواه مسلم). (غمامتان أو غَيَايتانِ: كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها، فِرْقان أي: قطعتان). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ» (رواه البخاري ومسلم). وأما سبحان الله، ففي رواية مسلم: «وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآَنِ ـ أَوْ تَمْلَأُ ـ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، فشكَّ الراوي في الذي يملأ ما بين السماءِ والأرض: هل هو الكلمتان أو إحداهما؟ وفي رواية النَّسائي وابنِ ماجه: «وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» (صحيح)، وهذه الروايةُ أشبه، وهل المرادُ أنَّهما معًا يملآن ما بينَ السماء والأرض، أو أنَّ كلًا منهما يملأُ ذلك؟ هذا محتمل. • الصلاةُ نورٌ: وقولُه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «والصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ»، هذه الأنواع الثلاثةُ من الأعمال أنوارٌ كلُّها، لكن منها ما يختصُّ بنوعٍ من أنواع النُّور: فالصَّلاةُ نورٌ مطلق، فهي للمؤمنين في الدُّنيا نورٌ في قلوبهم وبصائرهم، تُشرِق بها قلوبُهم، وتستنير بصائرُهم ولهذا كانت قرَّة عين المتقين، كما كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (حسن رواه أحمد والنَّسائي). وروى أبو داود أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «يَا ِبلَالُ، أقِمِ الصَّلَاةَ، وأرِحْنَا بِهَا». (صحيح).

والصلاة في الآخرة نورٌ للمؤمنين في ظلمات القيامة، وعلى الصراط، فإنَّ الأنوارَ تُقسم لهم على حسب أعمالهم. وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» (سنده حسن رواه الإمام أحمد). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَشِّرِ الَمشّائِينَ فِي الظُلَمِ إلَى الَمسَاجِدِ بِالنُورِ التَّامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (صحيح رواه أبو داود والترمذي). • الصدقةُ برهانٌ: وأمَّا الصدقة، فهي برهان، والبرهان: هو الشُّعاعُ الذي يلي وجهَ الشَّمس، ومنه سُمِّيَت الحُجَّةُ القاطعةُ برهانًا؛ لوضوح دلالتها على ما دلَّت عليه، فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان، وطيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان وطعمه. قال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ، وَلَا يُعْطِي الْهَرِمَةَ وَلَا الدَّرِنَةَ وَلَا الْمَرِيضَةَ وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ، وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ». (صحيح رواه أبو داود). (رَافِدَة عَلَيْهِ):الرَّافِدَة فَاعِلَة مِنْ الرَّفْد وَهُوَ الْإِعَانَة، أَيْ تُعِينُهُ نَفْسه عَلَى أَدَاء الزَّكَاة (وَلَا الدَّرِنَة) هِيَ الْجَرْبَاء، (وَلَا الشَّرَط) هِيَ صِغَار الْمَال وَشِرَارُهُ. (اللَّئِيمَة):الْبَخِيلَة بِاللَّبَنِ. (وَلَكِنْ مِنْ وَسَط أَمْوَالكُمْ):فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاة مِنْ أَوْسَاط الْمَال لَا مِنْ شِرَارِهِ وَلَا مِنْ خِيَارِهِ.

فالمالَ تحبُّه النُّفوسُ، وتبخَلُ به، فإذا سمحت بإخراجه لله - عز وجل - دلَّ ذلك على صحَّة إيمانها بالله ووعده ووعيده، ولهذا منعت العربُ الزكاة بعدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقاتلهم الصدِّيقُ - رضي الله عنه - على منعها. • الصبرُ ضياءٌ: والضياءُ: هو النُّورُ الذي يحصلُ فيه نوعُ حرارةٍ وإحراقٍ كضياء الشمس بخلاف القمر، فإنَّه نورٌ محضٌ، فيه إشراقٌ بغير إحراقٍ، قال الله - عز وجل -: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} (يونس:5) ومِن هُنا وصف الله شريعةَ موسى بأنَّها ضياءٌ، كما قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} (الأنبياء:48) وإنْ كان قد ذكر أنَّ في التوراة نورًا كما قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} (المائدة:44)، ولكن الغالب على شريعتهم الضياءُ لما فيها مِنَ الآصار والأغلال والأثقال. ووصف شريعةَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنَّها نورٌ لما فيها من الحَنيفيَّةِ السمحة، قال تعالى: {قَدْ جَاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} (المائدة:15) وقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الأعراف:157). ولما كان الصبر شاقًّا على النفوس، يحتاجُ إلى مجاهدةِ النفس وحبسِها، وكفِّها عمَّا تهواهُ، كان ضياءً، فإنَّ معنى الصَّبر في اللغة: الحبسُ، ومنه قَتْلُ الصبر: وهو أنْ يُحبَسَ الرَّجلُ حتى يقتل. والصبر المحمود أنواع: منه صبرٌ على طاعةِ الله - عز وجل -، ومنه صبرٌ عن معاصي الله - عز وجل -، ومنه صبرٌ على أقدار الله - عز وجل -.

إذا اشتمَلَتْ على اليأسِ القلوبُ وضاقَ بما به الصدرُ الرحيبُ وأوطنَت المكارهُ واطمأنَّتْ وأرْسَتْ في أماكنِها الخطوبُ ولم تَرَ لانكشافِ الضرِّ نَفْعًا وما أجْدَى بحيلتِه الأريبُ أتاك على قنوطِ منكَ غَوثٌ يَمُنُّ به اللطيفُ المستجيبُ وكلّ الحادثاتِ وإنْ تَنَاهَتْ فمَوْصولٌ بها فَرَجٌ قَرِيبُ والصبرُ على الطاعات وعنِ المحرَّماتِ أفضلُ من الصَّبرِ على الأقدار المؤلمة، صرّح بذلك السَّلفُ، منهم: سعيدُ بنُ جبير، وميمون بن مهران. ومن أفضل أنواع الصبر: الصيامُ، فإنَّه يجمعُ الصبرَ على الأنواعِ الثَّلاثةِ؛ لأنَّه صبرٌ على طاعةِ الله ?، وصبرٌ عن معاصي الله؛ لأنَّ العبدَ يتركُ شهواتِه لله ? ونفسه قد تنازعه إليها، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» (رواه البخاري ومسلم).وفيه أيضًا صبرٌ على الأقدار المؤلمة بما قد يحصُلُ للصَّائم من الجوع والعطشِ. إني رأيتُ ـ وفي الأيامِ تجربةٌ ـ للصبرِ عاقبةً محمودةَ الأثرِ وقَلّ مَن جَدَّ في أمرٍ يحاولهُ واستصحبَ الصبرَ إلا فازَ بالظفَرِ • القرآنُ حجةٌ لك أو عليك: قال الله - عز وجل -: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا} (الإسراء:82). قال بعضُ السَّلف: ما جالسَ أحدٌ القرآنَ فقام عنه سالمًا؛ بل إمَّا أنْ يربح أو أنْ يخسرَ، ثمَّ تلا هذه الآية. وقال ابنُ مسعود: «القرآنُ شافع مُشفَّع وماحِلٌ مصدَّق، فمن جعله أمامَه، قادَه إلى الجنَّةِ، ومن جعله خَلْفَ ظهره، قاده إلى النار».

وعنه قال: «يجيءُ القرآنُ يومَ القيامة، فيشفع لِصاحبه، فيكون قائدًا إلى الجنَّة، أو يشهد عليه، فيكون سائقًا إلى النار». وقال أبو موسى الأشعري: «إنَّ هذا القرآن كائنٌ لكم أجرًا، وكائنٌ عليكم وِزرًا، فاتَّبِعوا القرآن، ولا يتَّبعكُم القرآن، فإنَّه مَنِ اتَّبعَ القرآنَ هبط به على رياضِ الجنَّةِ، ومن اتَّبعه القرآنُ، زخَّ في قفاه، فقذفه في النار». سمعتُكَ يا قرآنُ والليلُ واجمُ سرَيْتَ تهُزّ الكونَ سبحانَ مَن أسرَى فتحْنا بك الدنيا فأشرقَ نورُها وسِرْنا على الأفلاكِ نملؤُها أجْرَا • كلُّ النَّاس يغدو: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» روى الإمامُ أحمد عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «النَّاسُ غَادِيَانِ، فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا» (سنده صحيح). وقال الله - عز وجل -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس:7 - 10)، والمعنى: قد أفلح من زكى نفسَه بطاعة الله، وخابَ من دسَّاها بالمعاصي، فالطاعةُ تُزكي النفس وتُطهرها، فترتفع، والمعاصي تُدسِّي النفس، وتقمعها، فتنخفض، وتصيرُ كالذي يُدسُّ في التراب. ودلَّ الحديثُ على أن كلَّ إنسان فهو ساعٍ في هلاك نفسه، أو في فِكاكِها، فمن سعى في طاعة الله، فقد باع نفسَه للهِ، وأعتقها من عذابه، ومن سعى في معصيةِ الله، فقد باعَ نفسَه بالهوان، وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه، قال الله - عز وجل -: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة:111)، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة:207)، وقال

تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (الزمر:15). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللهِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللهِ، يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ـ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ ـ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللهِ، لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللهِ شَيْئًا، سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا» (رواه البخاري ومسلم). وقد اشترى جماعةٌ من السَّلف أنفسَهم من الله - عز وجل - بأموالهم، فمنهم مَنْ تصدَّق بوزنه فضة ثلاثَ مرَّاتٍ أو أربعًا، كخالد الطحَّان. ومنهم من كان يجتهد في الأعمال الصالحة ويقول: إنَّما أنا أسيرٌ أسعى في فكاك رقبتي، منهم عمرو بنُ عُتبة. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالأسير، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمنُ شيئًا حتّى يلقى الله - عز وجل - وقال: ابنَ آدم، إنَّك تغدو أو تروحُ في طلب الأرباح، فليكن همُّك نفسك، فإنَّك لن تربح مثلها أبدًا. قال أبو بكر بن عيّاش: قال لي رجل مرَّة وأنا شابٌّ: «خلِّص رقبتَك ما استطعتَ في الدنيا من رقِّ الآخرة، فإنَّ أسيرَ الآخرةِ غيرُ مفكوكٍ أبدًا»، قال: فوالله ما نسيتُها بعدُ. وكان بعضُ السَّلف يبكي، ويقول: «ليس لي نفسان، إنَّما لي نفسٌ واحدةٌ، إذا ذهبت لم أجد أخرى». وقال محمد بن الحنفية: «إنَّ الله - عز وجل - جعل الجنَّة ثمنًا لأنفسكم، فلا تبيعُوها بغيرها».وقال: «من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر». وقيل له: من أعظمُ الناس قدرًا؟ قالَ: «من لم يرَ الدُّنيا كُلَّها لنفسه خطرًا». أثامِنُ بالنفْسِ النفيسةِ ربََّها ... ولَيسَ لها في الخلقِ كُلِّهمُ ثَمَنْ بها تُملَك الأخرَى فإنْ أنا بِعتُهَا ... بشيءٍ مِن الدُّنيا، فذَاكَ هُوَ الغَبَنْ لَئِنْ ذَهَبَتْ نفسي بدُنيا أُصيبُها ... لقَدْ ذَهَبَتْ نفسي وقد ذَهَبَ الثَّمنْ

33 - كثرة النعم وكثرة طرق الشكر

33 - كثرة النعم وكثرة طرق الشكر • على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ» (رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ). وعن عَائِشَةَ قالت: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِ مِائَةِ السُّلَامَى فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنْ النَّارِ» (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى» (رواه مسلم). وعن سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ»، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ». قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ». قَالُوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: «فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري ومسلم). وروى ابن حبان أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إلَا عَلَيْهَا صَدَقَةٌَ فِي كُلِّ يَوْمٍٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَمْسُ»، قيل: يا رسولَ الله، ومِنْ أيْنَ لنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟ قال: «إنَّ أبْوَابَ الخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ: التَّسْبِيحُ، والتَّحْمِيدُ، والتَّكْبِيرُ، والتَّهْلِيلُ، والأمْرُ

بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ، وتُميطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وتُسْمِعُ الأصَمَّ، وتَهْدِي الأعْمَى، وتَدُلُّ المُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ، وتَسْعَى بِشِدَّة سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْمُسْتَغِيثِ، وتَحْمِلُ بِشِدَّة ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعَيفِ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ». (صحيح). السلامى: جمع سلامية، وهي الأنملة من أنامل الأصابع، وقيل: واحده وجمعه سواء، ويجمع على سلاميات: وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان، وقيل: السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام، ومعنى الحديث: على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة. ومعنى الحديث: أنَّ تركيب هذه العظام وسلامتها مِن أعظم نِعَمِ الله على عبده، فيحتاج كلُّ عظم منها إلى صدقة يتصدق ابنُ آدم عنه، ليكونَ ذلك شكرًا لهذه النعمة. قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} (الانفطار:6 - 8)، وقال - عز وجل -: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (الملك:23)، وقال: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل:78)، وقال: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} (البلد:8 - 9). قال مجاهد: هذه نِعَمٌ من الله متظاهرةٌ يقرِّرُكَ بها كَيْمَا تَشكُر. وقرأ الفُضيلُ ليلةً هذه الآية، فبكى، فسئل عن بكائِهِ، فقال: هل بِتَّ ليلةً شاكرًا للهِ أنْ جعل لك عينين تُبصر بهما؟ هل بِتَّ ليلةً شاكرًا لله أنْ جعل لك لسانًا تنطق به؟ وجعل يعدِّد من هذا الضَرْب. (الضرب: النوع). وعن أبي الدرداء أنَّه كان يقول: الصِّحَّةُ غِنى الجسد. وعن يونس بن عبيد: أنَّ رجلًا شكا إليه ضِيقَ حاله، فقال له يونس: «أيسُرُّك أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مئة ألف درهم؟»، قال الرجل: لا، قال: «فبيدك مئة

ألف درهم؟»، قال: لا، قال: «فبرجليك؟»، قال: لا، قال: فذكَّره نِعَمَ الله عليه، فقال يونس: «أرى عندك مئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجة». وعن بكر المزني قال: «يا ابن آدم، إنْ أردتَ أنْ تعلمَ قدرَ ما أنعمَ اللهُ عليك، فغمِّضْ عينيك». وفي بعض الآثار: كم مِنْ نِعمَةٍ لله في عِرْقٍ ساكن. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (رواه البخاري) والغَبْنُ في البيع والشراء: الوَكْسُ، غَبَنَه يَغْبِنُه غَبْنًا أَي خدَعه، وقد غُبِنَ فهو مَغْبُونٌ. ومَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْمَرْء لَا يَكُون فَارِغًا حَتَّى يَكُون مَكْفِيًّا صَحِيح الْبَدَن فَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَحْرِصْ عَلَى أَنْ لَا يَغْبِن بِأَنْ يَتْرُك شُكْر اللهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَمِنْ شُكْره اِمْتِثَال أَوَامِره وَاجْتِنَاب نَوَاهِيه، فَمَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْمَغْبُون. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ «كَثِيرٌ مِنْ النَّاس» إِلَى أَنَّ الَّذِي يُوَفَّق لِذَلِكَ قَلِيل. وَقَدْ يَكُون الْإِنْسَان صَحِيحًا وَلَا يَكُون مُتَفَرِّغًا لِشُغْلِهِ بِالْمَعَاشِ، وَقَدْ يَكُون مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُون صَحِيحًا، فَإِذَا اِجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَل عَنْ الطَّاعَة فَهُوَ الْمَغْبُون، وَتَمَام ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَة الْآخِرَة، وَفِيهَا التِّجَارَة الَّتِي يَظْهَر رِبْحهَا فِي الْآخِرَة، فَمَنْ اِسْتَعْمَلَ فَرَاغه وَصِحَّته فِي طَاعَة اللهُ فَهُوَ الْمَغْبُوط، وَمَنْ اِسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَة اللهُ فَهُوَ الْمَغْبُون، لِأَنَّ الْفَرَاغ يَعْقُبهُ الشُّغْل وَالصِّحَّة يَعْقُبهَا السَّقَم، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْهَرَم كَمَا قِيلَ: يَسُرّ الْفَتَى طُول السَّلَامَة وَالْبَقَا ... فَكَيْف تَرَى طُول السَّلَامَة يَفْعَلُ يَرُدّ الْفَتَى بَعْد اِعْتِدَال وَصِحَّة ... يَنُوء إِذَا رَامَ الْقِيَام وَيُحْمَلُ ضَرَبَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِلْمُكَلَّفِ مَثَلًا بِالتَّاجِرِ الَّذِي لَهُ رَأْس مَال، فَهُوَ يَبْتَغِي الرِّبْح مَعَ سَلَامَة رَأْس الْمَال، فَطَرِيقه فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَحَرَّى فِيمَنْ يُعَامِلهُ وَيَلْزَم الصِّدْق وَالْحِذْق لِئَلَّا يُغْبَن، فَالصِّحَّة وَالْفَرَاغ رَأْس الْمَال، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَامِل اللهَ بِالْإِيمَانِ، وَمُجَاهَدَة

النَّفْس؛ لِيَرْبَح خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِب مُطَاوَعَة النَّفْس وَمُعَامَلَة الشَّيْطَان لِئَلَّا يُضَيِّع رَأْس مَاله مَعَ الرِّبْح. واُخْتُلِفَ فِي أَوَّل نِعْمَة اللهُ عَلَى الْعَبْد فَقِيلَ الْإِيمَان، وَقِيلَ الْحَيَاة، وَقِيلَ الصِّحَّة، وَالْأَوَّل أَوْلَى فَإِنَّهُ نِعْمَة مُطْلَقَة، وَأَمَّا الْحَيَاة وَالصِّحَّة فَإِنَّهُمَا نِعْمَة دُنْيَوِيَّة، وَلَا تَكُون نِعْمَة حَقِيقَة إِلَّا إِذَا صَاحَبَتْ الْإِيمَان وَحِينَئِذٍ يُغْبَن فِيهَا كَثِير مِنْ النَّاس أَيْ يَذْهَب رِبْحهمْ أَوْ يَنْقُص، فَمَنْ اِسْتَرْسَلَ مَعَ نَفْسه الْأَمَّارَة بِالسُّوءِ الْخَالِدَة إِلَى الرَّاحَة فَتَرَكَ الْمُحَافَظَة عَلَى الْحُدُود وَالْمُوَاظَبَة عَلَى الطَّاعَة فَقَدْ غُبِنَ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فَارِغًا فَإِنَّ الْمَشْغُول قَدْ يَكُون لَهُ مَعْذِرَة بِخِلَافِ الْفَارِغ فَإِنَّهُ يَرْتَفِع عَنْهُ الْمَعْذِرَة وَتَقُوم عَلَيْهِ الْحُجَّة. اغتنِمْ في الفراغِ فضلَ ركوعٍ فعسَى أنْ يكونَ موتُك بغتَة كم صحيحٍ رأيتَ مِن غيرِ سُقْمٍ ذهبَتْ نفسُهُ العزيزةُ فلتَة وهذه النِّعم مما يُسألُ الإنسانُ عن شكرها يومَ القيامة، ويُطالب بها كما قال تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8). قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ـ يَعْنِي الْعَبْدَ ـ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ: «أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ» (صحيح رواه الترمذي). (مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ) أَيْ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَائِك وَلَوْلَاهُ لَفَنِيَتْ بَلْ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا». (حسن رواه الترمذي). (آمِنًا) أَيْ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ عَدُوٍّ (فِي سِرْبِهِ) أَيْ فِي نَفْسِهِ، وَقِيلَ: السِّرْبُ الْجَمَاعَةُ، فَالْمَعْنَى فِي أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ، وَقِيلَ بِفَتْحِ السِّينِ أَيْ فِي مَسْلَكِهِ وَطَرِيقِهِ، وَقِيلَ: بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ فِي بَيْتِهِ. وَفِي الْقَامُوسِ: السَّرْبُ الطَّرِيقُ وَبِالْكَسْرِ الطَّرِيقُ وَالْبَالُ وَالْقَلْبُ وَالنَّفْسُ وَالْجَمَاعَةُ، وَبِالتَّحْرِيكِ جُحْرُ الْوَحْشِيِّ وَالْحَفِيرُ تَحْتَ الْأَرْضِ. والْمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الْمُبَالَغَةَ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ وَلَوْ فِي بَيْتٍ تَحْتَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ كَجُحْرِ الْوَحْشِ أَوْ التَّشْبِيهِ بِهِ فِي خَفَائِهِ وَعَدَمِ ضَيَاعِهِ. (مُعَافًى فِي جَسَدِهِ) أَيْ صَحِيحًا سَالِمًا مِنْ الْعِلَلِ وَالْأَسْقَامِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا. (عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ) أَيْ كِفَايَةُ قُوتِهِ مِنْ وَجْهِ الْحَلَالِ. (فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا) أَيْ جُمِعَتْ لَهُ بِتَمَامِهَا. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -:النعيمُ: الأمنُ والصحة. وقال عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} (التكاثر:8)، قال: النعيم: صحَّةُ الأبدان والأسماع والأبصار، يسأَلُ الله العبادَ: فيما استعملوها؟ وهو أعلمُ بذلك منهم، وهو قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} (الإسراء:36). إنَّ الله تعالى قد أنعمَ على عباده بما لا يُحصونَه كما قال: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} (إبراهيم:34، والنحل:18)، وطلب منهمُ الشُّكرَ، ورضي به منهم. قال سليمان التيمي: إنَّ الله أنعم على العباد على قدره، وكلَّفهم الشكر على قدرهم حتى رَضِيَ منهم مِنَ الشُّكرِ بالاعتراف بقلوبهم بنعمه، وبالحمد بألسنتهم عليها. «كلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ». يعني: أنَّ الصَّدقةَ على ابنِ آدمَ عن هذه الأعضاء في كُلِّ يومٍ من أيَّامِ الدُّنيا. • الشُّكر على درجتين: ظاهرُ الحديث يدلُّ على أنَّ هذا الشُّكر بهذه الصَّدقة واجبٌ على المسلم كلَّ يوم، ولكن الشُّكر على درجتين: إحداهما: واجب، وهو أنْ يأتي بالواجبات، ويجتنب المحارم، فهذا لابدَّ منه، ويكفي في شكر هذه النِّعم، ويدلُّ على ذلك ما رواه أبو داود من حديث أَبِى الأَسْوَدِ الدُّؤَلِىِّ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ أَبِى ذَرٍّ قَالَ «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ فِى كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، فَلَهُ بِكُلِّ صَلاَةٍ صَدَقَةٌ، وَصِيَامٍ صَدَقَةٌ، وَحَجٍّ صَدَقَةٌ، وَتَسْبِيحٍ صَدَقَةٌ، وَتَكْبِيرٍ

صَدَقَةٌ، وَتَحْمِيدٍ صَدَقَةٌ». فَعَدَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ هَذِهِ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ثُمَّ قَالَ «يُجْزِئُ أَحَدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَا الضُّحَى». (صححه الألباني). وفي حديث أبي موسى: «فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري ومسلم).وهذا يدلُّ على أنَّه يكفيه أنْ لا يفعل شيئًا من الشرِّ، وإنَّما يكون مجتنبًا للشرِّ إذا قام بالفرائض، واجتنبَ المحارمَ، فإنَّ أعظمَ الشرِّ تركُ الفرائض، ومن هنا قال بعضُ السَّلف: الشُّكرُ ترك المعاصي. وقال بعضهم: الشُّكرُ أنْ لا يُستعانَ بشيءٍ مِنَ النِّعَمِ على معصية. وذكر أبو حازمٍ الزاهد شُكْرَ الجوارح كُلِّها، وأنْ تُكفَّ عن المعاصي وتُستعمل في الطاعات، ثم قال: وأمَّا مَن شكر بلسانه، ولم يشكر بجميع أعضائه، فمَثَلُه كمَثَل رجل له كِساءٌ، فأخذ بطرفه، فلم يلبسه، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لينظر العبدُ في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصرِه ويديه ورجليه وغير ذلك، ليس من هذا شيءٌ إلاَّ وفيه نعمةٌ من الله - عز وجل -، حقٌّ على العبد أنْ يعملَ بالنِّعم التي في بدنه لله - عز وجل - في طاعته، ونعمة أخرى في الرزق، حق عليه أنْ يعمل لله - عز وجل - فيما أنعم عليه مِنَ الرِّزق في طاعته، فمن عمل بهذا، كان قد أخذ بحزم الشّكر وأصله وفرعه. ورأى الحسن رجلًا يتبختر في مشيته، فقال: للهِ في كُلِّ عُضوٍ منه نعمة، اللهمَّ لا تجعلنا ممن يتقوَّى بنعمك على معصيتك. همومُكَ بالعيشِ مقرونةٌ فما تقطعُ العيشَ إلا بِهَمّ حلاوَةُ دُنياكَ مسمومةٌ فما تأكلُ الشهدَ إلا بِسُمّ إذا كُنتَ في نعمةٍ فأرْعَها فإنَّ الذنوبَ تزيلُ النِّعَمْ وحافِظْ عليها بتقوَى الإلَه فإنَّ الإلَهَ سريعُ النِّقَمْ فإنْ تُعْطِ نفسَكَ آمالَها فعندَ مُنَاها تَحِلّ النِّقَمْ فأينَ القرونُ ومَن حولهمْ تفانَوا جميعًا وربِّي الحَكَمْ

الدرجة الثانية من الشكر: الشكر المستحبُّ: وهو أنْ يعملَ العبدُ بعد أداءِ الفرائض، واجتنابِ المحارم بنوافل الطَّاعات، وهذه درجةُ السَّابقين المقرَّبين، وهي التي أرشد إليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكذلك كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يجتهد في الصَّلاة، ويقوم حتَّى تتفطَّر قدماه، فإذا قيل له: أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: «أفَلَا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟» (رواه البخاري ومسلم). وقال بعضُ السَّلف: لما قال الله - عز وجل -: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} (سبأ:13)، لم يأتِ عليهم ساعةٌ من ليلٍ أو نهارٍ إلاَّ وفيهم مصلٍّ يُصلي. إذا كان شكرِي نعمةَ الله نعمةً عليَّ له في مِثلِها يجبُ الشكرُ فكيف بلوغُ الشكرِ إلا بفضلِهِ وإنْ طالتْ الأيامُ واتصلَ العُمرُ إذا مَسّ بالسراءِ عَمَّ سرورُها وإنْ مَسَّ بالضراءِ أعقبَها الأجرُ فما مِنهُما إلا له فيه نِعمَةٌ تضيقُ بها الأوهامُ والسرُّ والجهرُ • أنواع الصدقة: هذه الأنواع التي أشار إليها النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصدقة، منها: 1 - ما نفعُهُ متعدٍّ كالإصلاح، وإعانةِ الرَّجُلِ على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها، والكلمة الطيبة، ويدخل فيها السلام، وتشميتُ العاطس، وإزالة الأذى عن الطَّريق، والأمر بالمعروف، والنَّهيُ عن المنكرِ، ودفنُ النُّخامة في المسجد، وإعانة ذي الحاجة الملهوف، وإسماع الأصمّ، والبصر للمنقوص بصره، وهداية الأعمى أو غيره الطريق. 2 - ومنه ما هو قاصرُ النَّفع: كالتَّسبيحِ، والتَّكبير، والتَّحميد، والتَّهليل، والمشي إلى الصَّلاةِ. وصلاة ركعَتَي الضُّحى إنَّما كانتا مجزئتين عن ذلك كلِّه؛ لأنَّ في الصَّلاة استعمالًا للأعضاء كلِّها في الطَّاعة والعبادة، فتكون كافيةً في شكر نعمه سلامة هذه الأعضاء.

وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرُها استعمالٌ لبعض أعضاء البدن خاصَّةً، فلا تكمُلُ الصدقة بها حتَّى يأتيَ منها بعدد سُلامى البدن، وهي ثلاث مئة وستون كما في حديث عائشة - رضي الله عنها -. وقال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ هَدَى زُقَاقًا كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ» (صحيح رواه الترمذي وقال: وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ» إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ، قَوْلُهُ: «أَوْ هَدَى زُقَاقًا» يَعْنِي بِهِ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ). وعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الْجَنَّةَ». (رواه البخاري). والمنيحة عند العرب على وجهين أحدهما: أنْ يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له، والآخر: أنْ يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحليبها ووبرها زمانًا ثم يردها. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ» (رواه مسلم) وقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ». (صحيح رواه الإمام أحمد). وقال النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْحَبْلِ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ، وَلَوْ أَنْ تَنْزِعَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوُحْشَانَ فِي الْأَرْضِ» (إسناده صحيح رواه الإمام أحمد). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أحَبُّ النَاسِ إلَى اللهِ أنْفَعُهُمْ، وأحَبُّ الأعْمَالِ إلَى اللهِ - عز وجل - سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلَأَنْ أمْشِي مَعَ أخِي المسْلِمِ فِي حَاجَةٍ أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ شَهْرًًا، ومَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَلَوْ شَاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أمْضَاهُ مَلَأ اللهُ قَلْبَهُ رِضًى يَوْمَ

القِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أخِيهِ المُسْلِمِ فِي حَاجَتِه حَتَّى يُثْبِتَهَا لَهْ أثْبَتَ اللهُ تَعَالَى قَدَمَهُ يَوْمَ تَزِلّ الأقْدَامُ، وإنّ سُوءَ الخُلُقِ لَيُفْسِدُ العَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الخَلّ العَسَلَ». (حسن رواه الطبراني). 3 - ومِنْ أنواع الصَّدقة: كف الأذى عن الناس باليد واللسان: عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ». قَالَ: قُلْتُ: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا». قَالَ: قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: «تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ». قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: «تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ». (رواه البخاري). (الأخرق: الذي لا صنعة له). 4 - ومن أنواع الصدقة: أداءُ حقوق المسلم على المسلم: فعن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» (رواه البخاري ومسلم). وفي روايةٍ لمسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ»، قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ».

وعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَمَرَنَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِسَبْعٍ: بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ، وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ، وَرَدِّ السَّلَامِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ». (رواه البخاري ومسلم). 5 - ومن أنواع الصَّدقة: إنظارُ المعسر: عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ، وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ» (صحيح رواه ابن ماجه). (وَمَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا) أَيْ أَجَّلَ دَيْنه اِبْتِدَاء (بَعْد حِلّه) أَيْ بَعْد حُلُولِ الدَّيْن بِحُضُورِ حِلّ الْأَجَل الْأَوَّل، أَيْ أَجَّلَ ثَانِيًا. وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُظِلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ فَلْيُنْظِرْ مُعْسِرًا أَوْ لِيَضَعْ لَهُ» (صحيح رواه ابن ماجه). (فَلْيُنْظِرْ) مِنْ الْإِنْظَار (أَوْ لِيَضَعْ لَهُ) أَيْ الدَّيْن. 6 - ومن أنواع الصَّدقة: الإحسّان إلى البهائم، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لما سُئِلَ عن سقيها، فقال: «في كُلِّ كَبِدٍ رِطْبَةٍ أجْرٌ» (رواه البخاري ومسلم)، وأخبر أنَّ بغيًّا سقت كلبًا يلهثُ مِن العطش، فغفر لها» (رواه البخاري ومسلم). وأمَّا الصَّدقة القاصرةُ على نفس العامل بها، فمثل أنواع الذكر مِن التَّسبيح، والتكبير، والتحميد، والتهليل، والاستغفار، والصلاة على النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكذلك تلاوةُ القرآن، والمشي إلى المساجد، والجلوسُ فيها لانتظار الصلاة، أو لاستماع الذكر. ومن ذلك: التَّواضعُ في اللِّباس، والمشي، والهدي، والتبذل في المهنة، واكتساب الحلال، والتحرِّي فيه. ومنها أيضًا: محاسبةُ النفس على ما سلف من أعمالها، والندم والتوبة من الذنوب السالفة، والحزن عليها، واحتقار النفس، والازدراء عليها، ومقتها في الله - عز وجل -، والبكاء من خشية الله تعالى، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وفي أمور الآخرة، وما فيها مِنَ الوعد والوعيد ونحوِ ذلك مما يزيد الإيمانَ في القلب، وينشأ عنه كثيرٌ من أعمال القلوب، كالخشية، والمحبَّةِ، والرَّجاء، والتوكُّل، وغير ذَلِكَ.

34 - أكل الميراث بالباطل

34 - أكل الميراث بالباطل النفسُ تجزعُ أنْ تكونَ فقيرةً ... والفقرُ خيرٌ مِن غِنًى يُطغِيهَا وغِنَى النفوسِ هو الكفافُ فإنْ أبَتْ ... فجميعُ ما في الأرضِ لا يَكفِيها أموالُنا لذوِي الميراثِ نجمعُها ... ودُورُنا لخرابِ الدهرِ نبنِيها كم مِن مدائنَ في الإقامةِ قد بُنِيَتْ ... أمسَتْ خرابًا وأفْنَى الموتُ أهلِيها • وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا: يقول الله - عز وجل -: {فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلا بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر:15 - 20). يقول تعالى منكرًا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان. كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ} (المؤمنون:55، 56). وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضَيَّق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله - عز وجل -: {كَلّا} أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين، إذا كان غنيا بأن يشكر الله على ذلك، وإذا كان فقيرًا بأن يصبر. وقوله: {بَل لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} فيه أمر بالإكرام له؛ فعن مَالِكٌ عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِىِّ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا الْغَيْثِ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِي الْجَنَّةِ»، وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى» (رواه مسلم). {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} يعني: لا تأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، ويحث بعضكم على بعض في ذلك، {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} يعني: الميراث {أَكْلًا لَمًّا} أي: من أي جهة حصل لهم، من حلال أو حرام، {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} أي: كثيرًا. {كَلا إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * َقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي * فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ * يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} (الفجر:21 - 30). يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة، فقال: {كَلَّا} أي: حقًا {إِذَا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا} أي: وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال، وقام الخلائق من قبورهم لربهم، {وَجَاءَ رَبُّكَ} يعني: لفصل القضاء بين خلقه، فيجيء الرب تعالى لفصل القضاء كما يشاء، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفا صفوفا. وقوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» (رواه مسلم). وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسَانُ} أي: عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} أي: وكيف تنفعه الذكرى؟ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} يعني: يندم على ما كان سلف منه من المعاصي ـ إن كان عاصيًا ـ ويود لو كان ازداد من الطاعات ـ إن كان طائعًا فقد قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَحَقَّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (حسن رواه الإمام أحمد). قال الله - عز وجل -: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} أي: ليس أحد أشد عذابًا من تعذيب الله من عصاه، {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} أي: وليس أحد أشد قبضًا ووثقًا من الزبانية لمن كفر بربهم - عز وجل -، هذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين. فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق فيقال لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} أي: إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته، {رَاضِيَةً} أي: في نفسها {مَرْضِيَّةً} أي: قد رضيت عن الله ورضي عنها وأرضاها، {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} أي: في جملتهم، {وَادْخُلِي جَنَّتِي} وهذا يقال لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضًا، كما أن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره، وكذلك هاهنا. • منع المرأة من حقها في الميراث صورة من صور ظلم المرأة في بعض المجتمعات الإسلامية: بَيَّن تعالى في كتابه أن جميع الأوامر وجميع النواهي هي للرجال وللنساء على السواء، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أرسِلَ إلى الرجال والنساء، والقرآن أنزل للرجال والنساء، فالله ذكر كل ذلك في القرآن. وعند الكلام عن جزاء أهل الإيمان فإنه سبحانه ذكر الجميع: {وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مّنَ اللهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 72). وفي الحديث عن المساواة في الحقوق المادية الخاصة قال تعالى: {لِلرّجَالِ نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا اكْتَسَبْنَ} (النساء: 32). وعند الميراث قال - عز وجل -: {لِلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (النساء: 7). وقال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} (النساء:11). قال سعيد بن جبير وقتادة: «كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار، ولا يورِّثون النساء ولا الأطفال شيئًا، فأنزل الله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ

وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا}. أي: الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله - عز وجل - لكل منهم، بما يدلي به إلى الميت من قرابة، أو زوجية، أو ولاء؛ فإنه لُحْمَة كَلُحمة النسب. هذا هو المبدأ العام الذي أعطى الإسلام به «النساء» منذ أربعة عشر قرنًا حق الإرث كالرجال ـ من ناحية المبدأ ـ كما حفظ به حقوق الصغار الذين كانت الجاهلية تظلمهم وتأكل حقوقهم؛ لأن الجاهلية كانت تنظر إلى الأفراد حسب قيمتهم العملية في الحرب والإنتاج. وفي هذه الأيام اعتدى الرجال على حق من حقوق المرأة وهو حقها في الميراث، حقها من مال أبيها وأخيها وزوجها وابنها، زاعمين أن ذلك فضيحة وعار، والعار مَن عارض شريعة الجبار - عز وجل -، العار من كره ما أنزل الله حتى أدخله الله النار، العار من حرم الأنثى الضعيفة، واستغل حياءها، وأكل أموالها ليقيم عليها تجارته ومشاريعه، ذاكم هو العار، أما مطالبة المرأة بحقها وإرثها فهو حق مشروع شرعه الله من فوق عرشه {لِلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ وَلِلنّسَاء نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالاْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (النساء:7). إن الله - عز وجل - الذي يأمر بالعدل أعطى كل ذي حق حقه، سواء كان رجلًا أم امرأة، وإن الواجب علينا أن نعطي الحقوق لأهلها، وأن ندرك أن الله محاسبنا يوم القيامة، رجالًا ونساءً، وأنه لا يرضى أن يعتدي أحد على أحد، بل لا يرضى أن يعتدي إنسان على حيوان، بل لا يرضى أن يعتدي حيوان على حيوان، فقد جاء في الحديث الصحيح أن الله يقتص يوم القيامة للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ:» لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» (رواه مسلم) وَالْجَلْحَاء هِيَ الْجَمَّاء الَّتِي لَا قَرْن لَهَا. وهَذَا تَصْرِيح بِحَشْرِ الْبَهَائِم يَوْم الْقِيَامَة، وَإِعَادَتهَا يَوْم الْقِيَامَة كَمَا يُعَاد أَهْل التَّكْلِيف مِنْ الْآدَمِيِّينَ، وَكَمَا يُعَاد الْأَطْفَال وَالْمَجَانِين وَمَنْ لَمْ تَبْلُغهُ دَعْوَة، وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِل الْقُرْآن وَالسُّنَّة. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا الْوُحُوش حُشِرَتْ} (التكوير:5). قَالَ الْعُلَمَاء: وَلَيْسَ مِنْ شَرْط الْحَشْر وَالْإِعَادَة فِي الْقِيَامَة الْمُجَازَاة وَالْعِقَاب وَالثَّوَاب، وَأَمَّا الْقِصَاص مِنْ الْقَرْنَاء لِلْجَلْحَاءِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِصَاص التَّكْلِيف؛ إِذْ لَا تَكْلِيف عَلَيْهَا، بَلْ هُوَ قِصَاص مُقَابَلَة. وبعد هذا نقول لكل رجل يظلم أخته باحتقارها وازدرائها وحرمانها من حقها: إنه إنسان بعيد عن الحق، يأخذه الشيطان إلى طريق الجاهلية ومفاهيم الجاهلية، وعليه أن يعلم أنه بظلمه لأخته أو ابنته، عليه أن يعلم أنه ربما قد يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام وحج فيجعلها الله هباء منثورًا، بسبب ظلمه وطغيانه، والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (الأحزاب:58). إن الإساءة إلى المرأة إساءة عظيمة، لماذا؟ لأنها ضعيفة، ولأنها لا تستطيع أن تردّ كيد الرجل أو تتظلم أو تجهر بالشكوى، ولا أن تخرج فتسيح في الأرض، لأنها عِرض، إنها امرأة، لذلك كان ظلمها أشد الظلم، وكان إلحاق الضرر بها مصيبة أكبر من كل المصائب، فلتتقوا الله أيها الرجال، فإن كانت تلك المرأة أختًا فدخول الجنة موقوف على

الإحسان إليها، وإن كانت بنتًا فهذا حقها، وإن كانت أمًّا فالجنة تحت قدميها (¬1)،فليؤدِّ إليها حقها، وإلا فقد ظلمها وأساء إليها، والويل له من ربه. ونقول لهؤلاء الذين يحرمون النساء من حقهن في الميراث: تفكروا فيمن كان قبلكم، كم عمَّروا على هذه الدنيا، وأين هم الآن؟! اعتبروا بمن كان قبلكم، بماذا سينفعك الولد إذا تواريت التراب؟! ماذا ستفعل بتلك الأمتار التي تركتها ولأختك حق فيها، وستطوق بها يوم القيامة إن شاء الله تعالى؟! قال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» (رواه البخاري) ولفظ مسلم: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ طُوِّقَهُ فِي سَبْعِ أَرَضِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَالتَّطْوِيق الْمَذْكُور فِي الْحَدِيث يَحْتَمِل أَنَّ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَحْمِل مِثْله مِنْ سَبْع أَرْضِينَ، وَيُكَلَّف إِطَاقَة ذَلِكَ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون يُجْعَل لَهُ كَالطَّوْقِ فِي عُنُقه كَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة} وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَنَّهُ يُطَوَّق إِثْم ذَلِكَ وَيَلْزَمهُ كَلُزُومِ الطَّوْق بِعُنُقِهِ. ماذا ستقول لرب العالمين إذا سألك: لماذا حرمْتَ أختَك من حقها؟! تذكّر حديث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَتْ: هَذَا ¬

_ (¬1) ((عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ: جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ»، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟»، قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ: «الْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا»، ثُمَّ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فِي مَقَاعِدَ شَتَّى كَمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ» (حسن رواه الإمام أحمد والنسائي). (المقصود بالغزو هنا جهاد طلب الكفار في عقر دارهم، وليس جهاد دفع الكفار عن بلاد المسلمين، (فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا) أَيْ نَصِيبُك مِنْهَا لَا يَصِل إِلَيْك إِلَّا بِرِضَاهَا، بِحَيْثُ كَأَنَّهُ لَهَا وَهِيَ قَاعِدَة عَلَيْهِ، فَلَا يَصِل إِلَيْك إِلَّا مِنْ جِهَتهَا، فَإِنَّ الشَّيْء إِذَا صَارَ تَحْت رِجْل أَحَد، فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَصِل إِلَى آخَر إِلَّا مِنْ جِهَته. أما حديث: «الجنة تحت أقدام الأمهات» فحديث ضعيف ضعفه الشيخ الألباني - رحمه الله - في ضعيف الجامع رقم 2666.

مَقَامُ الْعَائِذِ مِنْ الْقَطِيعَةِ، قَالَ: «نَعَمْ، أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ»، قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: «فَذَاكِ لَكِ»، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}» (رواه البخاري ومسلم). من مِنّا سيخلد في الدنيا؟! من مِنّا يأمن عذاب الله؟! لماذا ينسى هؤلاء الظلمة ذلك اليوم العظيم، ذلك اليوم الذي يَفِرُّ فيه الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ، لِكُلّ امْرِئ مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ؟! {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْمًا لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحياةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ} (لقمان:33)، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (المؤمنون:99، 100)، وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} (فاطر:37). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِيمَا رَوَى عَنْ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» (رواه مسلم).

• المماطلة بالحقوق: ومِن أنواع الظلم المماطلةُ بالحقوق، كتأخير قِسمةِ الميراث أحيانًا؛ لأن بعضَهم قد يريد بها ظلمَ الآخرين والتحايلَ عليهم ومحاولةَ تنازلهم عن بعض حقوقِهم، لأجل المصالح الشخصيّة، فالمسلم يتباعَدُ عن هذا، وإن ائتُمِنَ أدَّى أمانته بصدقٍ وإخلاص. قال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ» (رواه مسلم). وقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِي لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»، ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. (هود:102). رقَدَتْ عيونُ الظالمينَ ولَمْ ... ترقُدْ لمظلومٍ مظالمُهُ ومَن اعتدى فالله خاذلُه ... ومَن اتقَى فالله عاصِمُهُ وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ». (رواه البخاري). أمَا واللهِ إنَّ الظلمَ شُؤْمٌ وما زالَ الظلومُ هو الملومُ إلى ديَّانِ يومِ الدينِ نمضي ... وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ ستعلمُ في الميعادِ إذِ التقَيْنَا ... غدًا عند المليكِ مَن الظلومُ • الميراث الحقيقي ميراث النبوة: ولقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّ له تركة وميراثًا، لا يمكن أن يُختص بها إلا من أراد الله له الخير وأخبر أن هذا الميراث ليس من فئة الدينار والدرهم، وإنما هو العلم الذي من تحصل عليه فإنما وفق لخير عظيم قال: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وافر» (صحيح رواه أبو داود). (وَرَّثُوا الْعِلْم): لِإِظْهَارِ الْإِسْلَام وَنَشْر الْأَحْكَام (فَمَنْ أَخَذَهُ): أَيْ أَخَذَ الْعِلْم مِنْ مِيرَاث النُّبُوَّة (أَخَذَ بِحَظٍّ): أَيْ بِنَصِيبٍ (وَافِر): كَثِير كَامِل.

35 - إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا

35 - إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا تفنى اللذاذةُ ممنْ ذاقَ صفْوتَها مِن الحرامِ ويبقَى الإثمُ والعارُ تبقى عواقِبَ سوءٍ في مَغَبَّتِها لا خيرَ في لذَّةٍ بعدها النارُ • نعم المال الصالح للمرء الصالح: لقد جبل الله - عز وجل - الخلق على حب المال، ورَكَّب في الطباع الحرص على طلبه وتحصيله؛ لأن به قوام حياة الناس وانتظام أمر معايشهم وتمام مصالحهم. ويجب على المسلم أن يطلب المال ويسعى في أسباب تحصيله مما أذن الله به وشرعه من طرق الكسب الحلال والعمل المباح؛ حتى يستغني المرء به عن ذل السؤال للغير والحاجة للخلق، فطلب الرزق وتحصيله شرف للمؤمن وعزة للمسلم، به تُصان الأعراض وتحفظ الكرامة، وبه يُستَعان على كثيرٍ من أعمال البر والطاعة، فنعم المال الصالح للمرء الصالح. عن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ سدد خطاكم قال: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ ثُمَّ ائْتِنِي»، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ فَقَالَ: «إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللهُ وَيُغْنِمَكَ وَأَرْغَبُ لَكَ مِنْ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً». قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». فَقَالَ: «يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ» رواه الإمام أحمد وصححه الألباني). • إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا: الكسب الطيب والمال الحلال ينير القلب، ويشرح الصدر، ويورث الطمأنينة والسكينة والخشية من الله - عز وجل -، ويعين الجوارح على العبادة والطاعة، ومن أسباب قبول العمل الصالح وإجابة الدعاء.

أما الكسب الخبيث فإنه شؤم وبلاء على صاحبه، بسببه يقسو القلب، وينطفئ نور الإيمان، ويحل غضب الجبار، ويمنع إجابة الدعاء. عَنْ أبي هُرَيرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا، وإنَّ اللهَ تَعَالَى أمَرَ المُؤْمِنَينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (المؤمنون:51)، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة:172)، ثُمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يمُدُّ يدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبّ يَا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بالحَرَامِ، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ؟» (رواهُ مُسلمٌ). قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ اللهَ طَيِّبٌ» المعنى: أنَّه تعالى مقدَّسٌ منَزَّه عن النقائص والعيوب كلها، وهذا كما في قوله: {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُون} (النور:26)، والمراد: المنزهون من أدناس الفواحش. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا» قد ورد معناه في قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلَّا الطَّيِّبُ فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» (رواه البخاري).الفُلُوّ: الْمُهْرُ. والمراد أنه تعالى لا يقبل من الصدقات إلا ما كان طيبًا حلالًا. وقد قيل: إنَّ المراد بقوله: «لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا» أعمُّ مِنْ ذلك، وهو أنَّه لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيبًا طاهرًا من المفسدات كلِّها، كالرياء والعُجب، ولا من الأموال إلا ما كان طيبًا حلالًا، فإنَّ الطيب تُوصَفُ به الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ، فكلُّ هذه تنقسم إلى طيِّبٍ وخبيثٍ. وقد قيل: إنَّه يدخل في قوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} (المائدة:100) هذا كلُّه. • الكلام منه طيب وخبيث: قد قسَّم الله تعالى الكلام إلى طيب وخبيث، فقال: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَة} (إبراهيم:24)، {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} (إبراهيم:26)،

وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (فاطر:10)، ووصف الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنَّه يحلُّ الطيبات ويحرِّمُ الخبائث. وقد قيل: إنَّه يدخل في ذلك الأعمالُ والأقوالُ والاعتقاداتُ أيضًا. • المؤمن كله طيِّبٌ: ووصف الله تعالى المؤمنين بالطيب بقوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ} (النحل:32) ولقد أخبرنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّ «الْمَيِّتُ تَحْضُرُهُ الْمَلَائِكَةُ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَالِحًا قَالُوا: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الطَّيِّبِ» (صحيح رواه ابن ماجه) وإنَّ الملائكة تسلِّمُ عليهم عندَ دُخول الجنة، فيقولون لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (الزمر:73). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِي اللهِ، نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنْ الْجَنَّةِ مَنْزِلًا» (صحيح رواه الترمذي وابن ماجه). (مَنْ عَادَ مَرِيضًا) أَيْ مُحْتَسِبًا (أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ) أَيْ فِي الدِّينِ (فِي اللهِ) أَيْ لِوَجْهِ اللهِ لَا لِلدُّنْيَا (مُنَادٍ) أَيْ مَلَكٌ (أَنْ طِبْت) دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ عَيْشِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى (وَطَابَ مَمْشَاك) كِنَايَةٌ عَنْ سَيْرِهِ وَسُلُوكِهِ طَرِيقَ الْآخِرَةِ بِالتَّعَرِّي عَنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّحَلِّي بِمَكَارِمِهَا (وَتَبَوَّأْت) أَيْ تَهَيَّأْت (مِنْ الْجَنَّةِ) أَيْ مِنْ مَنَازِلِهَا الْعَالِيَةِ (مَنْزِلًا) أَيْ مَنْزِلَةً عَظِيمَةً وَمَرْتَبَةً جَسِيمَةً بِمَا فَعَلْت. وَهذا دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الْأُخْرَى كَمَا أَنَّ طِبْت دُعَاءٌ لَهُ بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا. فالمؤمن كله طيِّبٌ قلبُه ولسانُه وجسدُه بما سكن في قلبه من الإيمان، وظهر على لسانه من الذكر، وعلى جوارحه من الأعمال الصالحة التي هي ثمرة الإيمان، وداخلة في اسمه، فهذه الطيباتِ كلُّها التي هي الإيمان والعمل الصالح يقبلها الله - عز وجل -. ومن أعظم ما يحصل به طيبةُ الأعمَال للمؤمن طيبُ مطعمه، وأنْ يكون من حلال، فبذلك يزكو عملُه. •

لا يُقبل العملُ ولا يزكو إلاَّ بأكل الحلال: في هذا الحديث إشارةٌ إلى أنَّه لا يُقبلُ العملُ ولا يزكو إلاَّ بأكل الحلال، وإنَّ أكل الحرام يفسد العمل، ويمنع قبولَه، فإنَّه بعد تقريره: «إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا» قال: وإنَّ اللهَ تَعَالَى أمَرَ الْمُؤْمِنَينَ بِمَا أمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (المؤمنون:51) وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة:172). والمراد بهذا أنَّ الرسل وأممهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعمل الصالح، فما دام الأكل حلالًا، فالعملُ صالح مقبولٌ، فإذا كان الأكلُ غير حلالٍ، فكيف يكون العمل مقبولًا؟ وما ذكره بعد ذَلِكَ من الدعاء، وأنَّه كيف يتقبل مع الحرام، فهوَ مثالٌ لاستبعاد قَبُولِ الأعمال مع التغذية بالحرام. ولقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يحرصون أشد الحرص على أن يأكلوا من الحلال ويبتعدوا عن الحرام، فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنه - قَالَتْ: كَانَ لِأَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنه - غُلَامٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ (أي يأتيه بما يكسبه والخراج ما يقرره السيد على عبده من مال يحضره له من كسبه).وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ. فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيْءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - فَقَالَ لَهُ الْغُلَامُ: أَتَدْرِي مَا هَذَا؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لِإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلَّا أَنِّي خَدَعْتُهُ فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ». فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ (أي أدخلها في حلقه) فَقَاءَ كُلَّ شَيْءٍ فِي بَطْنِهِ». (رواه البخاري). وفي رواية لأبي نُعيم في الحلية وأحمد في الزهد: «فقيل له: يرحمك الله كلُّ هذا من أجل هذه اللقمة؟ قال: لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتُها، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -

يقول: «كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أوْلَى بِهِ» فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة. (صحيح). رُوحٌ تَغَذَّتْ بتقوَى اللهِ طيبةٌ ... قويةٌ ولها الرحمنُ حَرّاسُ وجُثّةٌ نَبتَتْ مما يحِلّ لها ... مِنَ المآكِلِ ما في ضعفِها بَاسُ اجعَلْ طعامَك مِنْ غيرِ الحرامِ علَى ... مقدارِ علمِك واترُكْ ما به الباسُ وأبْشِرْ فإنك إنْ تحيَا مُنَاكَ تَنَلْ ... وإنْ تمَّتْ لكَ مِن مولاكَ إيناسُ والحِلُّ يُنْبِتُ في الأعضَا موافقةً ... أمّا الحرامُ فعصيانٌ وأرجاسُ الباس: البأس ومنه حديث عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ إِذَا أَتَى مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ قَالَ: «أَذْهِبْ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ ـ وَأَنْتَ الشَّافِي ـ لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ ـ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» (رواه البخاري). • من حجَّ بمالٍ حرام، ومن صلَّى في ثوب حرام، هل يسقط عنه فرضُ الصلاة والحج بذلك؟ إذا حجَجْتَ بمال أصلُه دنَسٌ فما حجَجْتَ ولكن حجَّت العيرُ ما يقبلُ اللهُ إلا كلّ طيِّبَةٍ ما كُلّ مَن حجّ بيتَ اللهِ مبرورُ قد اختلفَ العلماءُ في حجِّ من حجَّ بمالٍ حرام، ومن صلَّى في ثوب حرام، هل يسقط عنه فرضُ الصلاة والحج بذلك، وفيه عن الإمام أحمد روايتان، وهذه الأحاديث المذكورة تدلُّ على أنَّه لا يتقبل العملُ مع مباشرة الحرام، لكن القبول قد يُراد به الرضا بالعمل، ومدحُ فاعله، والثناءُ عليه بين الملائكة والمباهاةُ به، وقد يُراد به حصولُ الثواب والأجر عليه، وقد يراد به سقوط الفرض به من الذمة. فإنْ كان المراد هاهنا القبولَ بالمعنى الأوَّل أو الثاني لم يمنع ذلك من سقوط الفرض به من الذمة، كما ورد في صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ

تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ».وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (رواه مسلم) (¬1). والمراد ـ والله أعلم ـ نفي القبول بالمعنى الأوَّل أو الثاني، وهو المراد ـ والله أعلم ـ من قوله - عز وجل -: {إنَّما يَتقبَّلُ الله من المتَّقين} (المائدة:27). ¬

_ (¬1) لا يجوز أن يذهب المريض إلى الكهنة والعرافين الذين يزعمون معرفة الغيب؛ ليعرف منهم مرضه، ولا يجوز له أن يصدقهم فيما يخبرونه به فإنهم يتكلمون رجمًا بالغيب أو يستحضرون الجن؛ ليستعينوا بهم على ما يريدون، وهؤلاء شأنهم الكذب، والاستعانة بالجن شرك أكبر، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» (رواه مسلم). وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» (صحيح رواه ابن ماجه وغيره). والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل ويزعم أنه يعلم المغيبات أو يعلم ما في الضمير. والعراف: هو الذي يدعي معرفة تتعلق بعلم الغيب، فيدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها. والعراف قيل: هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المسقيل. وقيل: هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم، ويدل عليه الاشتقاق، إذ هو مشتق من المعرفة، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور وادعى بها المعرفة. وأكثر ما يكون ذلك ممن ينظرون في النجوم لمعرفة الحوادث أو يستخدمون من يسترقون السمع من شياطين الجن، ومثل هؤلاء من يخط في الرمل وينظر في الفنجان أو في الكف ومن يفتح الكتاب زعمًا منهم أنهم يعرفون بذلك الغيب، وهم كفار لزعمهم أنهم شاركوا الله في صفة من صفاته الخاصة به وهي علم الغيب، ولتكذيبهم بقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا الله} (النمل: 65) وبقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (الجن:26، 27) وقوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} (الأنعام: 59) ومن أتاه وصدقه بما يقول من الكهانة فهو كان كافر أيضًا؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» (صحيح رواه ابن ماجه وغيره) إلى غير ذلك من الأحاديث في كفر العرافين والكهان ومن صدقهم.

ولهذا كانت هذه الآية يشتدُّ منها خوفُ السَّلف على نفوسهم، فخافوا أنْ لا يكونوا من المتَّقين الذين يُتقبل منهم. وسُئل أحمد عن معنى (المتقين) فيها، فقال: يتقي الأشياء، فلا يقع فيما لا يَحِلُّ له. قال أبو عبد الله الناجي الزاهد - رحمه الله -: «خمسُ خصال بها تمامُ العمل: الإيمان بمعرفة الله - عز وجل - ومعرفةُ الحقِّ، وإخلاصُ العمل للهِ، والعمل على السُّنَّةِ، وأكلُ الحلالِ، فإن فُقدَتْ واحدةٌ، لم يرتفع العملُ، وذلك أنَّك إذا عرَفت الله - عز وجل -، ولم تَعرف الحقَّ، لم تنتفع، وإذا عرفتَ الحقَّ، ولم تَعْرِفِ الله، لم تنتفع، وإنْ عرفتَ الله، وعرفت الحقَّ، ولم تُخْلِصِ العمل، لم تنتفع، وإنْ عرفت الله، وعرفت الحقَّ، وأخلصت العمل، ولم يكن على السُّنة، لم تنتفع، وإنْ تمَّتِ الأربع، ولم يكن الأكلُ من حلال لم تنتفع». وقال وُهيب بن الورد: «لو قمتَ مقام هذه السارية لم ينفعك شيء حتى تنظر ما يدخل بطنك حلال أو حرام». • الصدقة بالمال الحرام هل تُقبل؟ وأما الصدقة بالمال الحرام، فغيرُ مقبولةٍ كما في «صحيح مسلم» عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَقبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، ولَا صَدَقةً مِنْ غُلُولٍ». وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ـ وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ـ فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» (رواه البخاري ومسلم). (الفَلُوُّ: المُهْرُ). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ كَسَبَ مَالًا حَرَامًا فَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ أجْرٌ، وَكَانَ إصْرُهُ عَلَيْهِ» (رواه ابن حبان في صحيحه، وإسناده جيد). ورُوي عن أبي الدرداء، ويزيد بن مَيْسَرَة أنَّهما جعلا مثلَ من أصاب مالًا من غير حلِّه، فتصدَّق به مثلَ من أخذ مال يتيم، وكسَا بهِ أرملةً.

وسُئِلَ ابنُ عباس عمَّن كان على عمل، فكان يَظلِمُ ويأخُذُ الحرام، ثم تابَ، فهو يحجُّ ويعتِق ويتصدَّق منه، فقال: إنَّ الخبيث لا يُكَفِّرُ الخبيثَ. وكذا قال ابن مسعود: إنَّ الخبيثَ لا يُكفِّر الخبيث، ولكن الطَّيِّبَ يُكفِّرُ الخبيث. وقال الحسنُ: أيها المتصدِّق على المسكين يرحمُه، ارحم من قد ظَلَمْتَ. الصدقة بالمال الحرام تقع على وجهين: أحدهما: أنْ يتصدَّقَ به الخائنُ أو الغاصبُ ونحوهما عن نفسه، فهذا هو المراد من هذه الأحاديث أنه لا يُتُقبَّلُ منه، بمعنى: أنَّه لا يُؤجَرُ عليه، بل يأثمُ بتصرفه في مال غيره بغير إذنه، ولا يحصلُ للمالك بذلك أجرٌ؛ لعدم قصده ونيته، كذا قاله جماعةٌ من العلماء. الوجه الثاني من تصرفات الغاصب في المال المغصوب: أنْ يتصدَّق به عن صاحبه إذا عجز عن ردِّه إليه أو إلى ورثته، فهذا جائزٌ عند أكثر العلماء، منهم: مالكٌ، وأبو حنيفة، وأحمد وغيرهم. وروي عن مالك بن دينار، قال: سألتُ عطاء بن أبي رباح عمن عنده مالٌ حرام، ولا يعرف أربابه، ويريدُ الخروج منه؟ قال: يتصدق به ولا أقول: إنَّ ذلك يُجزئ عنه. قال مالك: كان هذا القول من عطاء أحبَّ إليَّ من وزنه ذهبًا. وقال سفيان فيمن اشترى من قوم شيئًا مغصوبًا: يردُّه إليهم، فإنْ لم يقدر عليهم، تصدَّق به كلَّه، ولا يأخذ رأس ماله. • آداب الدعاء: قوله: «ثُمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يمُدُّ يدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبّ يَا رَبّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بالحَرَامِ، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ؟» هذا الكلام أشار فيه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابَته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء أربعة:

أحدها: إطالةُ السفر: والسفر بمجرَّده يقتضي إجابةَ الدعاء، كما في حديث أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ» وفي رواية: «وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» (حسن رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي). ومتى طال السفر، كان أقربَ إلى إجابةِ الدُّعاء؛ لأنَّه مَظنِّةُ حصول انكسار النفس بطول الغُربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاق، والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء. الثاني: حصولُ التبذُّل في اللِّباس والهيئة بالشعث والإغبرار: وهو ـ أيضًا ـ من المقتضيات لإجابة الدُّعاء، كما في الحديث المشهور عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ، مَدْفُوعٍ بِالأبْوَابِ، لُوْ أقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأبَرَّهُ» (رواه مسلم). ولما خرج النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - للاستسقاء، خرج متبذِّلًا متواضعًا متضرِّعًا (رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي، والنسائي وإسناده حسن). وكان مُطَرِّفُ بنُ عبد الله قد حُبِسَ له ابنُ أخٍ، فلبس خُلْقان ثيابه، وأخذ عكازًا بيده، فقيل له: ما هذا؟ قالَ: «أستكين لربي، لعلَّه أنْ يشفِّعني في ابن أخي». الثالث: مدُّ يديه إلى السَّماء: وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابته، وفي حديث سلمانَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ اللهَ تَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي إذَا رَفَعَ الرَّجُلُ إلَيْهِ يَدَيْهِ أنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْن»، (صحيح رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه). وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يرفع يديه في الاستسقاء حتى يُرى بياضُ إبطيه (رواه البخاري ومسلم)، ورَفَعَ يديه يومَ بدرٍ يستنصرُ على المشركين حتى سقط رداؤه عن منكبيه (رواه مسلم). وقد روي عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في صفة رفع يديه في الدُّعاء أنواعٌ متعددة، فمنها:

1 - أنَّه كان يُشير بأصبعه السَّبَّابةِ فقط (رواه مسلم)، وكان يفعل ذلك على المنبر فعَنْ عُمَارَةَ بْنِ رُؤَيْبَةَ سدد خطاكم قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ بِيَدِهِ هَكَذَا. وَأَشَارَ بِإِصْبَعِهِ الْمُسَبِّحَةِ. (رواه مسلم). (الْمُسَبِّحَةِ) يعني: السبابة التي تلي الإبهام. وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «مَرَّ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَنَا أَدْعُو بِأُصْبُعَيَّ فَقَالَ: «أَحِّدْ أَحِّدْ» وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ». (رواه أبو داود، والنسائي وصححه الألباني). «أَحِّدْ أَحِّدْ»: أَيْ أَشِرْ بِوَاحِدَةٍ لِيُوَافِقَ التَّوْحِيد الْمَطْلُوب بِالْإِشَارَةِ. 2 - أنَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - رفع يديه وجعل ظُهورَهما إلى جهةِ القبلة وهو مستقبلها، وجعل بطونَهما ممَّا يلي وجهَه. فقد روى ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا دعا جعل باطن كفيه إلى وجهه. (رواه الطبراني وصححه الألباني). وقد رُويت هذه الصَّفةُ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في دعاء الاستسقاء فعَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَسْتَسْقِي عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ قَرِيبًا مِنْ الزَّوْرَاءِ، قَائِمًا يَدْعُو يَسْتَسْقِي، رَافِعًا كَفَّيْهِ، لَا يُجَاوِزُ بِهِمَا رَأْسَهُ، مُقْبِلٌ بِبَاطِنِ كَفَّيْهِ إِلَى وَجْهِهِ». (رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه الألباني). 3 - رفْع يديه، وجعْلُ كفَّيه إلى السَّماء وظهورهما إلى الأرض. قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «إِذَا سَأَلْتُمْ اللهَ فَاسْأَلُوهُ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا». (رواه أبو داود وصححه الألباني). 4 - عكسُ ذلك، وهو قلب كفيه وجعل ظهورهما إلى السماء وبطونهما مما يلي الأرض. وفي (صحيح مسلم) عن أنس - رضي الله عنه - قال: «إِنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - اسْتَسْقَى فَأَشَارَ بِظَهْرِ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاء». قال النووي: «قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَصْحَابنَا وَغَيْرهمْ: السُّنَّة فِي كُلّ دُعَاء لِرَفْعِ بَلَاء كَالْقَحْطِ وَنَحْوه أَنْ يَرْفَع يَدَيْهِ وَيَجْعَل ظَهْر كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاء، وَإِذَا دَعَا لِسُؤَالِ شَيْء وَتَحْصِيله جَعَلَ بَطْن كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاء واحْتَجُّوا بِهَذَا الْحَدِيث».

وعَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَسْتَسْقِى هَكَذَا ـ يَعْنِى وَمَدَّ يَدَيْهِ وَجَعَلَ بُطُونَهُمَا مِمَّا يَلِى الأَرْضَ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ. (رواه أبو داود وصححه الألباني). الرابع من الأسباب التي تقتضي إجابة الدعاء: الإلحاح على الله بتكرير ذكر ربوبيته: وهو مِنْ أعظم ما يُطلب به إجابةُ الدعاء. فعن عطاءٍ قال: ما قال عبدٌ يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ ثلاث مرات، إلاّ نظر الله إليه، فذُكر ذلك للحسن، فقال: أما تقرءون القرآن؟ ثم تلا قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ}. (آل عمران:191 - 195). ومن تأمَّل الأدعية المذكورة في القرآن وجدها غالبًا تفتتح باسم الرَّبِّ، كقوله تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة:201). ومثل هذا في القرآن كثير. وسئل مالك وسفيان عمَّن يقول في الدعاء: يا سيدي، فقالا: يقول: يا ربّ. زاد مالك: كما قالت الأنبياء في دعائهم. • من موانع إجابة الدعاء: 1 - قد أشار - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث إلى أنّ منها التوسُّع في الحرام أكلًا وشربًا ولبسًا وتغذيةً. وقيل لسعد بن أبي وقاص: تُستجابُ دعوتُك من بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟، فقال: «ما رفعتُ إلى فمي لقمةً إلا وأنا عالمٌ من أين مجيئُها، ومن أين خرجت». وعن وهب بن مُنبِّه قال: من سرَّه أنْ يستجيب الله دعوته، فليُطِب طُعمته.

وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ؟»، معناه: كيف يُستجاب له؟ فهوَ استفهامٌ وقع على وجه التَّعجُّب والاستبعاد، وليس صريحًا في استحالة الاستجابة، ومنعها بالكلية، فَيُؤْخَذُ من هذا أنَّ التوسُّع في الحرام والتغذي به من جملة موانع الإجابة، وقد يُوجد ما يمنعُ هذا المانع من منعه. 2 - وقد يكونُ ارتكابُ المحرمات الفعلية مانعًا من الإجابة أيضًا، وكذلك ترك الواجبات كما في الحديث: أنَّ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمنع استجابة دعاء الأخيار، فعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). وفعل الطاعات يكون موجبًا لاستجابة الدعاء؛ ولهذا لمَّا توسَّل الذين دخلوا الغارَ، وانطبقت عليهمُ الصخرةُ بأعمالهم الصالحةِ التي أخلصوا فيها لله تعالى ودَعُوا الله بها، أجيبت دعوتهم. (القصة رواها البخاري ومسلم). وقال وهب بن مُنبِّه: مَثَلُ الذي يدعو بغير عمل، كمثل الذي يرمي بغير وَتَر. وعنه قال: العملُ الصالحُ يبلغ الدعاء، ثم تلا قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه} (فاطر:10). وعن عمر - رضي الله عنه - قال: بالورع عما حرَّم الله يقبلُ الله الدعاء والتسبيحَ. وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: يكفي مع البرِّ من الدعاء مثلُ ما يكفي الطعامُ من الملح. وقال محمد بن واسع: يكفي من الدعاء مع الورع اليسيرُ. وقال بعض السَّلف: لا تستبطئ الإجابة، وقد سددتَ طُرُقها بالمعاصي. وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال: نحن نَدْعُو الإله في كُلِّ كَربٍ ... ثُمَّ نَنساهُ عِندَ كَشفِ الكُروبِ كَيْفَ نَرجُو إجابةً لدُعاءٍ ... قَدْ سَدَدْنا طرِيقَها بالذُّنوب

36 - لا تحاسدوا

36 - لا تَحَاسَدُوا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا» ـ وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» (رواه مسلم). • لا تحاسدوا: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَحَاسَدُوا» يعني: لا يحسُدْ بعضُكم بعضًا، والحسدُ مركوزٌ في طباع البشر، وهو أنَّ الإنسان يكرهُ أن يفوقَهُ أحدٌ منْ جنسهِ في شيءٍ من الفضائل. ثم ينقسم الناس بعدَ هذا إلى أقسام: فمنهم من يسعى في زوال نعمةِ المحسودِ بالبغي عليه بالقول والفعل. ثمَّ منهم من يسعى في نقلِ ذلك إلى نفسه. ومنهم من يَسعى في إزالته عن المحسودِ فقط من غيرِ نقل إلى نفسه، وهو شرُّهما وأخبثهما. والحسدُ المذمومُ المنهيُّ عنه كان ذنبَ إبليس حيث حسدَ آدم - عليه السلام - لمَّا رآه قد فاق على الملائكة بأنْ خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكتَه، وعلَّمه أسماء كلِّ شيءٍ، وأسكنه في جواره، فما زال يسعى في إخراجه من الجنَّة حتَّى أخرج منها. وقد وصف الله اليهودَ بالحسد في مواضع من كتابه القرآن، كقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقّ} (البقرة:109)، وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء:54). كلّ العداوةِ قد تُرجَى إماتَتُها إلا عداوةَ مَن عاداك مِن حسدِ فإنّ في القلبِ منها عُقدةٌ عُقِدَتْ وليسَ يفتحُها راقٍ الى الأبدِ إلا الإلهُ فإنْ يرحمْ تحلّ به وإن أباه فلا ترجُوه مِن أحدِ وعن الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكُمْ لَكُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ». (حسن رواه الترمذي)؟. (دَبَّ إِلَيْكُمْ) أَيْ سَرَى وَمَشَى بِخُفْيَةٍ (الْحَسَدُ) أَيْ فِي الْبَاطِنِ. (وَالْبَغْضَاءُ) أَيْ الْعَدَاوَةُ فِي الظَّاهِرِ. (وَهِيَ) أَيْ الْبَغْضَاءُ، أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. (لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ) أَيْ تَقْطَعُ ظَاهِرَ الْبَدَنِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ سَهْلٌ. (وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ) وَضَرَرُهُ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. أَيْ الْبَغْضَاءُ تَذْهَبُ بِالدِّينِ كَالْمُوسَى تَذْهَبُ بِالشَّعْرِ. (وَلَا تُؤْمِنُوا) أَيْ إِيمَانًا كَامِلًا (حَتَّى تَحَابُّوا) أَيْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. (أَفَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ) مِنْ التَّثْبِيتِ (ذَلِكَ) أَيْ التَّحَابُبَ. (أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ) أَيْ أَعْلِنُوهُ وَعُمُّوا بِهِ مَنْ عَرَفْتُمُوهُ وَغَيْرَهُ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ الضَّغَائِنَ وَيُورِثُ التَّحَابُبَ. أيا حاسدًا لي علَى نِعمَتِي أتَدْري علَى مَنْ أسَأتَ الأدَبْ أسَأتَ علَى اللهِ في حُكمِهِ لأنّكَ لمْ تَرْضَ لي مَا وَهَبْ وقسم آخر من الناسِ إذا حسدَ غيره، لم يعمل بمقتضى حسده، ولم يبغِ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ، وهذا على نوعين: أحدهما: أنْ لا يمكنه إزالةُ الحسدِ من نفسِه، فيكون مغلوبًا على ذَلِكَ، فلا يأثمُ به.

والثاني: من يُحدِّثُ نفسَه بذلك اختيارًا، ويُعيده ويُبديه في نفسه مُستروِحًا إلى تمنِّي زوالِ نعمة أخيه، فهذا شبيهٌ بالعزم المصمِّم على المعصية، وفي العقاب على ذلك اختلافٌ بين العلماء، لكن هذا يَبعُدُ أن يَسلَمَ من البغي على المحسود، ولو بالقول، فيأثم بذلك. وقسم آخر: إذا حسد لم يتمنَّ زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، ويتمنَّى أنْ يكونَ مثله، فإن كانتِ الفضائلُ دنيويَّةً، فلا خيرَ في ذلك، كما قال الَّذينَ يُريدُونَ الحياةَ الدُّنيا: {يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} (القصص:79)، وإنْ كانت فضائلَ دينيَّةً، فهو حسن، وقد تمنَّى النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الشَّهادة في سبيل الله - عز وجل -. وعن عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» (رواه البخاري ومسلم).وهذا هو الغبطة، وسماه حسدًا من باب الاستعارة. وقسم آخر: إذا وجدَ من نفسه الحسدَ سعى في إزالته، وفي الإحسان إلى المحسود بإسداءِ الإحسان إليه، والدُّعاء له، ونشر فضائله، وفي إزالة ما وَجَدَ له في نفسه مِنَ الحسدِ حتّى يبدلَه بمحبَّة أنْ يكونَ أخوه المسلمُ خيرًا منه وأفضلَ، وهذا مِنْ أعلى درجات الإيمان، وصاحبه هو المؤمنُ الكاملُ الذي يُحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (رواه البخاري ومسلم). اصبِرْ علَى حَسَدِ الحسُودِ ... فإنّ صبرَك قاتِلُه كالنارِ تأكلُ بعضَها إنْ لمْ تَجِدْ ما تأكُلُه • لا تناجَشوا: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَلَا تَنَاجَشُوا»:فسَّره كثيرٌ من العلماء بالنَّجْشِ في البيع، وهو: أن يزيدَ في السِّلعة من لا يُريدُ شِراءها، إمَّا لنفع البائع بزيادةِ الثَّمن له، أو بإضرارِ المشتري بتكثير الثمن عليه، وفي «الصحيحين» عن ابنِ عمرَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه نَهَى عَن النَّجَشِ.

وقال ابن أبي أوفى - رضي الله عنه -: «النَّاجش: آكِلُ رِبًا خَائِنٌ» (ذكره البخاري في صحيحه معلقًا). قال ابنُ عبد البرِّ: أجمعوا أنَّ فاعلَه عاصٍ لله - عز وجل - إذا كان بالنَّهي عالمًا. ويحتمل أن يُفسَّرَ التَّناجُشُ المنهيُ عنه في هذا الحديث بما هو أعمُّ من ذلك، فإنَّ أصلَ النَّجش في اللُّغة: إثارةُ الشَّيءِ بالمكرِ والحيلةِ والمخادعةِ، ومنه سُمِّي النَّاجِشُ في البيع ناجشًا، ويسمّى الصَّائدُ في اللغة ناجشًا؛ لأنَّه يُثير الصَّيد بحيلته عليه، وخِداعِه له، وحينئذٍ. فيكونُ المعنى: لا تتخادَعوا، ولا يُعامِلْ بعضُكُم بعضًا بالمكرِ والاحتيال. وإنَّما يُرادُ بالمكر والمخادعة إيصالُ الأذى إلى المسلم: إمَّا بطريقِ الأصالة، وإما اجتلاب نفعه بذلك، ويلزم منه وصولُ الضَّرر إليه، ودخولُه عليه. وقد قال الله - عز وجل -: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} (فاطر:43).وفي حديث ابن مسعودٍ عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالْمَكرُ والخِدَاعُ فِي النَّارِ» (حسن رواه ابن حبان). فيدخل على هذا التقدير في التناجش المنهي عنه جميعُ أنواع المعاملات بالغشِّ ونحوه، كتدليس العيوب، وكِتمانها، وغشِّ المبيع الجيد بالرديء، وغَبْنِ المسترسل الذي لا يَعرِفُ المماكسة، وقد وصف الله تعالى في كتابه الكفَّار والمنافقين بالمكر بالأنبياء وأتباعهم، وما أحسنَ قول من قال: لَيس دُنيا إلاَّ بدينٍ ولَيْـ ... ـسَ الدِّين إلاَّ مَكارمُ الأخْلاقِ إنَّما المَكْرُ والخَديعَةُ في النَّارِ ... هُمَا مِنْ خِصالِ أهْلِ النِّفاقِ وإنَّما يجوزُ المكرُ بمن يجوزُ إدخالُ الأذى عليه، وهم الكفَّارُ المحاربون، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الحَرْبُ خُدْعَةٌ» (رواه البخاري ومسلم).

• لا تَباغضوا: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَلَا تَبَاغَضُوا»:نهى المسلمين عَنِ التَّباغض بينهم في غير الله، بل على أهواءِ النُّفوسِ، فإنَّ المسلمينَ جعلهمُ الله إخوةً، والإخوةُ يتحابُّونَ بينهم، ولا يتباغضون، وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ: أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (رواه مسلم). وقد حرَّم الله على المؤمنين ما يُوقع بينهم العداوة والبغضاء، كما قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:91).وامتنَّ على عباده بالتَّأليف بين قلوبهم، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (آل عمران:103)، وقال: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} (الأنفال:62 - 63). كم مِن أخٍ لكَ لم يَلِدْهُ أبُوكَا وأخٌ أبُوه أبُوكَ قد يجْفُوكَا صافِ الكرامَ إذا أردتَ إخاءَهُم وأعلَمْ بأنَّ أخَا الحفاظِ أخوكَا كم إخوةٌ لك لم يلدْك أبوهُم وكأنما آباءَهم ولدُوكَا ولهذا المعنى حرم المشي بالنَّميمة، لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، ورُخِّصَ في الكذب في الإصلاح بين النَّاس، ورغَّب الله في الإصلاح بينهم، كما قال تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (النساء:114)، وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات:9)، وقال: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} (الأنفال:1).

وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟»، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ» (صحيح رواه الترمذي). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِيَّاكُمْ وَسُوءَ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ». (حسن رواه الترمذي). • البغض في الله من أوثق عرى الإيمان: وأمَّا البغض في الله، فهو من أوثق عرى الإيمان، وليس داخلًا في النَّهي؛ قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أوْثَقُ عًرَى الإيمَانِ: المُوَالَاةُ فِي اللهِ والمُعَادَاةُ فِي اللهِ وَالحُبُّ فِي اللهِ والبُغْضُ فِي اللهِ - عز وجل -» (صحيح رواه الطبراني). ولو ظهر لرجل من أخيه شرٌّ، فأبغضه عليه، وكان الرَّجُل معذورًا فيه في نفس الأمر، أثيب المبغضُ له، وإن عُذِرَ أخوه، كما قال عمر - رضي الله عنه -: «إنَّا كُنَّا نعرفكُم إذ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين أظهُرنا، وإذ ينْزل الوحيُ، وإذ يُنبِّئُنا الله مِنْ أخبارِكُم ألا وإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قدِ انطُلِقَ به، وانقطعَ الوحيُ، فإنَّما نَعْرفكم بما نَخْبُركم، ألا مَنْ أظهرَ منكم لنا خيرًا ظننَّا به خيرًا، وأحببناه عليه، ومَنْ أظهر منكم شرًّا، ظننا به شرًا، وأبغضناه عليه، سرائرُكم بينكم وبينَ ربِّكم - عز وجل -». وقال الربيع بن خُثَيْم: «لو رأيتَ رجلًا يُظهر خيرًا، ويُسرُّ شرًّا، أحببتَه عليه، آجرَك الله على حبِّك الخيرَ، ولو رأيتَ رجلًا يُظهر شرًّا، ويسرُّ خيرًا أبغضته عليه، آجرَك الله على بُغضك الشرَّ». • لا تدابروا: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَلَا تَدَابَرُوا» التَّدابر: المصارمة والهجران، مأخوذ من أن يُولِّي الرَّجلُ صاحبَهُ دُبُرَه، ويُعرِض عنه بوجهه، وهو التَّقاطع. وروى مسلم من حديث أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وكُونُوا عِبَادَ اللهِ إخْوَانًا كَمَا أمَرًَكُمُ اللهُ». وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» (رواه البخاري).

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ». (صحيح رواه أبوداود) وقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ هَجَرَ أخَاهُ سَنَةً، فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ». (صحيح رواه أبو داود). «مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ»:أَيْ أَخَاهُ فِي الإسلام (سَنَةً) أي بغير عذر شرعي «فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ»:أَيْ كَإِرَاقَةِ دَمه فِي اِسْتِحْقَاق مَزِيد الْإِثْم لَا فِي قَدْره، أي مهاجرته سنة توجب العقوبة كما أن سفك دمه يوجبها، والمراد اشتراك الهاجر والقاتل في الإثم لا في قدره ولا يلزم التساوي بين المشبه والمشبه به. • التَّقاطع لأجلِ الدِّين: في التَّقاطع لأجلِ الدِّين تجوزُ الزِّيادةُ على الثلاثِ، نصَّ عليه الإمام أحمدُ، واستدلَّ بقصَّةِ الثَّلاثةِ الَّذينَ خُلِّفوا، وأمر النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بهجرانهم لمَّا خاف منهمُ النِّفاق، وأباح هِجران أهلِ البدع المغلَّظة والدعاة إلى الأهواء، وذكر الخطابي أنَّ هِجران الوالدِ لولده، والزَّوج لزوجته، وما كان في معنى ذلك تأديبًا تجوزُ الزِّيادة فيه على الثَّلاث؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - هجر نساءه شهرًا. • هل ينقطع الهِجران بالسَّلام؟ واختلف العلماء: هل ينقطع الهِجران بالسَّلام؟ فقالت طائفةٌ: يَنقطِعُ بذلك، فعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَكُونُ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ مُسْلِمًا فَوْقَ ثَلَاثَةٍ، فَإِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ كُلُّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ، فَقَدْ بَاءَ بِإِثْمِهِ» (حسن رواه أبوداود). ولكن هذا فيما إذا امتنع الآخرُ من الرَّدِّ عليهِ، فأمَّا معَ الرَّدِّ إذا كانَ بينهما قبل الهجرةِ مودَّةٌ، ولم يعودا إليها، ففيه نظر، وقد قال َالإمام أحمد في رواية الأثرم، وسئل عن السَّلام: يقطعُ الهِجران؟ فقال: قد يُسلم عليه وقد صَدَّ عنه، ثم قال: النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا»، فإذا كان قد عوَّده أنْ يُكلِّمه أو يُصافحه ـ وكذلك رُوي عن مالكٍ ـ أنَّه لا تنقطعُ الهجرة بدونِ العود إلى المودَّة. وفرَّق بعضُهم بين الأقارب والأجانب، فقال في الأجانب: تزول الهجرةُ بينهم بمجرَّد السَّلام، بخلافِ الأقارب، وإنَّما قال هذا لوجوب صلة الرَّحِمِ.

37 - كونوا عباد الله إخوانا

37 - كُونُوا عِبادَ اللهِ إِخْوانًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا» ـ وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ» (رواه مسلم). • لا يبِعْ بعضُكم على بيع بعض: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» قد تكاثرَ النَّهي عَنْ ذلك، فعن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «وَلَا يَبِيعُ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ»، (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية لمسلم: «لَا يَسُمْ الْمُسْلِمُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ». معنى السَّوْم عَلَى سَوْم أَخِيهِ: أَنْ يَكُون قَدْ اِتَّفَقَ مَالِكُ السِّلْعَةِ وَالرَّاغِبُ فِيهَا عَلَى الْبَيْع وَلَمْ يَعْقِدَاهُ، فَيَقُول الْآخَر لِلْبَائِعِ: أَنَا أَشْتَرِيه وَهَذَا حَرَام بَعْد اِسْتِقْرَار الثَّمَن. وَأَمَّا السَّوْم فِي السِّلْعَة الَّتِي تُبَاع فِيمَنْ يَزِيد فَلَيْسَ بِحَرَامٍ. عن ابْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما - كَانَ يَقُولُ: «نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ يَبِيعَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَلَا يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ» (رواه البخاري ومسلم). هلِ النَّهيُ للتَّحريم، أو للتَّنزيه؟ الصَّحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماء: أنَّه للتَّحريمِ. ومعنى البيع على بيع أخيه: أنْ يكونَ قد باع منه شيئًا، فيبذُل للمشتري سلعتَه ليشتريها، ويفسخ بيعَ الأوَّلِ.

• كونوا عباد الله إخوانًا: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا»:هذا ذكره النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كالتَّعليل لِما تقدَّم، وفيه إشارةٌ إلى أنَّهم إذا تركُوا التَّحاسُدَ، والتَّناجُشَ، والتَّباغُضَ، والتدابرَ، وبيعَ بعضِهم على بيعِ بعضٍ، كانوا إخوانًا. وفيه أمرٌ باكتساب ما يصيرُ المسلمون به إخوانًا على الإطلاق، وذلك يدخلُ فيه أداءُ حقوقِ المسلم على المسلم مِنْ رَدِّ السلامِ، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، وإجابةِ الدَّعوة، والابتداء بالسَّلام عندَ اللِّقاء، والنُّصح بالغيب. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَهَادُوا تَحَابُّوا» (حسن رواه أبو يعلى). وقال الحسن: المصافحةُ تزيد في الودِّ. • المسلمُ أخو المسلم: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ» هذا مأخوذ من قوله - عز وجل -: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} (الحجرات:10)، فإذا كان المؤمنون إخوةً، أُمِروا فيما بينهم بما يُوجب تآلُفَ القلوب واجتماعَها، ونُهوا عمَّا يوجبُ تنافرَ القلوب واختلافَها، وهذا من ذلك. وأيضًا، فإنَّ الأخ مِنْ شأنه أنْ يوصِلَ إلى أخيه النَّفع، ويكفَّ عنه الضَّرر، ومن أعظم الضرِّ الذي يجبُ كفُّه عَنِ الأَخِ المسلم الظُّلم، وهذا لا يختصُّ بالمسلم، بل هو محرَّمٌ في حقِّ كلِّ أحَدٍ، فعَنْ أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يَروي عَنْ ربِّه - عز وجل - أنَّه قالَ: «يَا عِبَادِي إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظّالَمُوا» (رواه مسلم). ومِنْ ذلك: خِذلانُ المسلم لأخيه، فإنَّ المؤمن مأمورٌ أنْ يَنصُرَ أخاه، فعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا». فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: «تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» (رواه البخاري وغيره).

وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرًَا مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ» (حسن رواه أبو داود). ومن ذلك: كذِبُ المسلم لأخيه، فلا يَحِلُّ له أن يُحدِّثه فيكذبه، بل لا يُحدِّثه إلاَّ صدقًا. ومن ذلك: احتقارُ المسلم لأخيه المسلم، وهو ناشئٌ عن الكِبْرِ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النّاسِ» (رواه مسلم)، وغمط النَّاس: الطَّعنُ عليهم وازدراؤهم، وقال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنّ} (الحجرات:11)، فالمتكبر ينظرُ إلى نفسه بعين الكمال، وإلى غيره بعين النَّقصِ، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلًا لأنْ يقومَ بحقُوقهم، ولا أن يقبلَ مِنْ أحد منهم الحقَّ إذا أورده عليه. • التَّقوى أصلُها في القلب: وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «التَّقْوَى هَا هُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ـ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»:فيه إشارةٌ إلى أنَّ كرم الخَلْق عند الله بالتَّقوى، فربَّ من يحقِرُه الناس لضعفه، وقلَّةِ حظِّه من الدُّنيا، وهو أعظمُ قدرًا عند الله تعالى ممَّن له قدرٌ في الدُّنيا، فإنَّ الناسَ إنّما يتفاوتُون بحسب التَّقوى، كما قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات:13)، وسئل النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:مَنْ أكرمُ النّاسِ؟ قال: «أتْقَاهُمْ للهِ - عز وجل -» (رواه البخاري ومسلم). والتَّقوى أصلُها في القلب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32). وإذا كان أصلُ التَّقوى في القُلوب، فلا يطَّلعُ أحدٌ على حقيقتها إلا الله - عز وجل - كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» (رواه مسلم).

وحينئذ، فقد يكونُ كثيرٌ ممَّن له صورةٌ حسنةٌ، أو مالٌ، أو جاهٌ، أو رياسةٌ في الدنيا، قلبه خرابًا من التقوى، ويكون من ليس له شيء من ذلك قلبُه مملوءًا مِنَ التَّقوى، فيكون أكرمَ عند الله تعالى، بل ذلك هو الأكثر وقوعًا، كما في (الصحيحين) عن حارثةَ بن وهبٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ: كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ: كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ». وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ»، قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي». وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ لرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٍ: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟». فَقَالَ: «رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ». قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا رَأْيُكَ فِي هَذَا؟»، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَوْلِهِ». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا» (رواه البخاري). وقال محمد بنُ كعب القُرَظيُّ في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} (الواقعة:1ـ3)، قال: تَخفِضُ رجالًا كانوا في الدُّنيا مرتفعين، وترْفَعُ رجالًا كانوا في الدُّنيا مخفوضين. قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنْ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» يعني: يكفيه مِنَ الشرِّ احتقارُ أخيه المسلم، فإنَّه إنَّما يحتقرُ أخاه المسلم لتكبُّره عليه، والكِبْرُ من أعظمِ

خِصالِ الشَّرِّ، وفي «صحيح مسلم» عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه قال: «لا يدخلُ الجنَّة من في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من كِبْرٍ». يا مُظْهِرَ الكبرِ إعجابًا بصورتِه ... أبْصِرْ خَلاءَك إنّ الميْن تثريبُ لو فكّر النّاس فيما في بطونِهِم ... ما استشعرَ الكِبْرَ شُبّانٌ ولا شِيبُ (المين: الكذب، التَّثْرِيبُ: الإِفْسادُ). وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ قَالَ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أهْلَكُهُمْ» (أي أشدهم هلاكًا) قال مالك: إذا قال ذلك تحزُّنًا لما يرى في الناس، يعني في دينهم فلا أرى به بأسًا، وإذا قال ذلك عُجبًا بنفسه، وتصاغُرًا للناس، فهو المكروهُ الذي نُهي عنه. • كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»» هذا ممَّا كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يخطب به في المجامع العظيمةِ، فإنَّه خطب به في حَجَّة الوداع يومَ النَّحر، ويومَ عرفةَ، ويوم الثاني من أيَّام التَّشريق، وقال: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا» (رواه البخاري ومسلم). عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» (صحيح رواه أبو داود). وعن السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لَاعِبًا أَوْ جَادًّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ» (حسن رواه الترمذي). قال أبو عبيد: يعني أن يأخذ شيئًا لا يريد سرقتَه، إنَّما يريدُ إدخالَ الغيظِ عليه، فهو لاعبٌ في مذهب السرقة، جادٌ في إدخال الأذى والروع عليه. وقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الْآخَرِ حَتَّى تَخْتَلِطُوا بِالنَّاسِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُحْزِنَهُ» (رواه البخاري ومسلم، ولفظه لمسلم).

وفي لفظ لمسلم: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ». وعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ». وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ» (صحيح رواه الترمذي). (صَعِدَ) أَيْ طَلَعَ (فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ) أَيْ عَالٍ (يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ) يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ (وَلَمْ يُفْضِ) أَيْ لَمْ يَصِلْ (الْإِيمَانُ) أَيْ أَصْلُهُ وَكَمَالُهُ (إِلَى قَلْبِهِ) (لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ) أَيْ الْكَامِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ الَّذِينَ أَسْلَمُوا بِلِسَانِهِمْ وَآمَنُوا بِقُلُوبِهِمْ (وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ) مِنْ التَّعْيِيرِ وَهُوَ التَّوْبِيخُ وَالتَّعْيِيبُ عَلَى ذَنْبٍ سَبَقَ لَهُمْ مِنْ قَدِيمِ الْعَهْدِ، سَوَاءٌ عُلِمَ تَوْبَتُهُمْ مِنْهُ أَمْ لَا. وَأَمَّا التَّعْيِيرُ فِي حَالِ الْمُبَاشَرَةِ أَوْ بُعَيْدَهُ قَبْلَ ظُهُورِ التَّوْبَةِ فَوَاجِبٌ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ. وَرُبَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ أَوْ التَّعْزِيرُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ (وَلَا تَتَّبِعُوا) أَيْ لَا تَجَسَّسُوا (عَوْرَاتِهِمْ) فِيمَا تَجْهَلُونَهَا وَلَا تَكْشِفُوهَا فِيمَا تَعْرِفُونَهَا. (مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ) أَيْ ظُهُورَ عَيْبِ أَخِيهِ (الْمُسْلِمِ) أَيْ الْكَامِلِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْحَذَرُ وَالتَّحْذِيرُ عَنْهُ. (تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ) أَيْ كَشَفَ عُيُوبَهُ وَمِنْ أَقْبَحِهَا تَتَبُّعُ عَوْرَةِ الْأَخِ الْمُسْلِمِ. (وَمَنْ يَتَّبِعْ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ) أَيْ يَكْشِفُ مَسَاوِيهِ. (وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ) أَيْ وَلَوْ كَانَ فِي وَسَطِ مَنْزِلِهِ مُخْفِيًا مِنْ النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور:19).

فتضمَّنت هذه النُّصوص كلُّها أنَّ المسلمَ لا يحِلُّ إيصالُ الأذى إليه بوجهٍ مِنَ الوجوهِ من قولٍ أو فعلٍ بغير حقٍّ، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (الأحزاب:58). وإنَّما جعلَ اللهُ المؤمنين إخوةً ليتعاطفوا ويتراحموا، وفي «الصحيحين» عن النعمان بن بشير، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». وفي رواية لمسلم: «الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». وفي رواية له أيضا: «الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» وفيهما عن أبي موسى سدد خطاكم عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وما المرءُ إلا بإخْوانِه كما يقبضُ الكفّ بالمِعْصَمِ ولَا خَيرَ في الكفِّ مقطوعةً ولا خيرَ في الساعدِ الأجذَمِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ يَكُفُّ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ» (حسن رواه أبو داود). (الْمُؤْمِن مِرْآة الْمُؤْمِن) أَيْ آلَة لِإِرَاءَةِ مَحَاسِن أَخِيهِ وَمَعَائِبِهِ لَكِنْ بَيْنه وَبَيْنه، فَإِنَّ النَّصِيحَة فِي الْمَلَأ فَضِيحَة، وَأَيْضًا هُوَ يَرَى مِنْ أَخِيهِ مَا لَا يَرَاهُ مِنْ نَفْسه، كَمَا يَرْسُم فِي الْمِرْآة مَا هُوَ مُخْتَفٍ عَنْ صَاحِبه فَيَرَاهُ فِيهَا، أَيْ إِنَّمَا يَعْلَم الشَّخْص عَيْب نَفْسه بِإِعْلَامِ أَخِيهِ كَمَا يَعْلَم خَلَل وَجْهه بِالنَّظَرِ فِي الْمِرْآة. (يَكُفّ عَلَيْهِ ضَيْعَته) أَيْ يَمْنَع تَلَفه وَخُسْرَانه، فَهُوَ مَرَّة مِنْ الضَّيَاع، وَقَالَ فِي النِّهَايَة: وَضَيْعَة الرَّجُل مَا يَكُون مِنْ مَعَاشه كَالصَّنْعَةِ وَالتِّجَارَة وَالزِّرَاعَة وَغَيْر ذَلِكَ أَيْ يَجْمَع إِلَيْهِ مَعِيشَته وَيَضُمّهَا لَهُ. (وَيَحُوطهُ مِنْ وَرَائِهِ): أَيْ يَحْفَظهُ وَيَصُونَهُ وَيَذُبّ عَنْهُ بِقَدْرِ الطَّاقَة.

قال رجل لعمر بن عبد العزيز: «اجعل كبيرَ المسلمين عندَك أبًا، وصغيرهم ابنًا، وأوسَطَهم أخًا، فأيُّ أولئك تُحبُّ أنْ تُسيء إليه؟». ومن كلام يحيى بن معاذ الرازي: «ليكن حظُّ المؤمن منك ثلاثة: إنْ لم تنفعه، فلا تضرَّه، وإنْ لم تُفرحه، فلا تَغُمَّه، وإنْ لم تمدحه فلا تَذُمَّه». • ثمرات الأخوة: لو صحت لنا الأخوة الإيمانية المرجوة، لو سعينا في زرع بساتينها في قلوبنا لأثمرت فينا حياة أخرى غير تلك التي نحياها، فإنَّ القلوب تحيا وتترابط وتتآلف فيورثها الله من النعيم ما لا يستشعره إلا من ذاقه، فمن ذلك: (1) أن يتذوق حلاوة الإيمان فيحيا حياة السعداء: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم). (2) أن يحيطه الله تعالى برحمته، ويقيه عاديات وشدائد يوم القيامة: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» (رواه مسلم). (3) أن الله - عز وجل - يظله بظله يوم القيامة: فمن السبعة الذين يظلهم الله بظله، يوم لا ظله إلا ظله: «رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» (رواه البخاري ومسلم). (4) أن يرزق العبد محبة الله: قال الله تعالى في الحديث القدسي: «وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ» (صحيح رواه الإمام أحمد وغيره).

38 - لا تظالموا

38 - لا تَظالموا عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِيمَا رَوَى عَنْ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ ... لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» (رواهُ مسلمٌ). • حرم الله - عز وجل - الظلم على نفسه: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يروي عن ربه: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي»، يعني: أنَّه منع نفسه من الظلم لعباده، كما قال - عز وجل -: {وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} (ق:29)، وقال: {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} (غافر:31) وقال: {وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران:108)، وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت:46)، وقال: {إِنَّ اللهَ

لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} (يونس:44)، وقال: {إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} (النساء:40)، وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} (طه:112)، والهضمُ: أنْ يُنقَصَ من جزاء حسناته، والظُّلم: أنْ يُعاقب بذنوب غيره، ومثل هذا كثير في القرآن، وهو مما يدلُّ على أنَّ الله قادرٌ على الظلم، ولكنَّه لا يفعلُه فضلًا منه وجودًا، وكرمًا وإحسانًا إلى عباده. وقد فسَّر كثيرٌ من العلماء الظلمَ: بأنَّه وضعُ الأشياء في غير موضعها. وعَنْ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ دِينِي وَأَمْرِي فَأَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ: «أَبَا الْمُنْذِرِ إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَخَشِيتُ عَلَى دِينِي وَأَمْرِي فَحَدِّثْنِي مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ». فَقَالَ «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ـ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ؛ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ، وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ أَخِي عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَتَسْأَلَهُ». فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَيٌّ وَقَالَ لِي: «وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ حُذَيْفَةَ»، فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا وَقَالَ: «ائْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَاسْأَلْهُ». فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلّه ِ؛ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ» (صحيح رواه ابن ماجه).

• الظُّلم نوعان: وقوله - عز وجل -: «وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا» يعني: أنَّه تعالى حَرَّم الظلم على عباده، ونهاهم أنْ يتظالموا فيما بينهم، فحرامٌ على كلِّ عبدٍ أنْ يظلِمَ غيره، مع أنَّ الظُّلم في نفسه محرَّم مطلقًا، وهو نوعان: أحدهما: ظلمُ النفسِ، وأعظمه الشِّرْكُ، كما قال تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان:13)، فإنَّ المشركَ جعل المخلوقَ في منزلةِ الخالق، فعبده وتألَّهه، فوضع الأشياءَ في غيرِ موضعها، وأكثر ما ذُكِرَ في القرآن مِنْ وعيد الظالمين إنَّما أُريد به المشركون، كما قال الله - عز وجل -: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة:254)، ثمَّ يليه المعاصي على اختلاف أجناسها من كبائرَ وصغائرَ. والثاني: ظلمُ العبدِ لغيره، وهو المذكورُ في هذا الحديث، وقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبته في حجة الوداع: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ» (رواه البخاري ومسلم). وفي (الصحيحين) عن ابنِ عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّه قال: «الظُلمُ ظُلُماتٌ يَوْمَ القِيَامَةِ».وفيهما عن أبي موسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إنَّ اللهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذَا أخَذَهُ لم يُفْلِتْه»، ثمَُّ قَرَأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. (هود:102). رقدتْ عيونُ الظالمينَ ولم ... ترقدْ لمظلومٍ مظالمُهُ ومَن اعتدَى فاللهُ خاذلُهُ ... ومَن اتقَى فاللهُ عاصمُهُ وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ لَا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ». (رواه البخاري).

أمَا واللهِ إنّ الظلمَ شُؤْمٌ وما زال الظلومُ هو الملومُ إلى ديَّانِ يومِ الدينِ نمضي وعند اللهِ تجتمعُ الخصومُ ستعلمُ في الميعادِ إذِ التقَيْنا ... غدًا عند المليكِ مَن الظلومُ • جميعَ الخلق مُفتقرون إلى الله: «يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ». هذا يقتضي أنَّ جميعَ الخلق مُفتقرون إلى الله تعالى في جلب مصالحهم، ودفع مضارِّهم في أمور دينهم ودُنياهم، وإنَّ العباد لا يملِكُون لأنفسهم شيئًا مِنْ ذلك كلِّه، وإنَّ مَنْ لم يتفضَّل اللهُ عليه بالهدى والرزق، فإنَّه يُحرمهما في الدنيا، ومن لم يتفضَّل اللهُ عليه بمغفرة ذنوبه، أوْبَقَتْهُ خطاياه في الآخرة. قال الله تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} (الكهف:17)، ومثل هذا كثيرٌ في القرآن، وقال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (فاطر:2)، وقال: {إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات:58)، وقال: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ} (العنكبوت:17)، وقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} (هود:6) وقال تعالى حاكيًا عن آدم وزوجه أنَّهما قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف:23)، وعن نوح - عليه السلام - أنَّه قال: {وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (هود:47). وقد استدلَّ إبراهيمُ الخليلُ - عليه السلام - بتفرُّد الله - عز وجل - بهذه الأمور على أنَّه لا إله غيره، وإنَّ كلَّ ما أشرك معه، فباطل، فقال لقومه: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ

الأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (الشعراء:75 - 82). فإنَّ من تفرَّد بخلق العبد وبهدايته وبرزقه وإحيائه وإماتته في الدنيا، وبمغفرة ذنوبه في الآخرة، مستحقٌّ أنْ يُفرَدَ بالإلهية والعبادة والسؤال والتضرُّع إليه، والاستكانة له. قال الله - عز وجل -: {اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الروم:40). وفي الحديث دليلٌ على أنَّ اللهَ يحبُّ أنْ يسألَه العبادُ جميعَ مصالح دينهم ودنياهم، مِنَ الطَّعام والشراب والكسوة وغير ذلك، كما يسألونه الهداية والمغفرة. وكان بعضُ السَّلف يسأل الله في صلاته كلَّ حوائجه حتّى ملحَ عجينه وعلفَ شاته؛ فإنَّ كلَّ ما يحتاج العبد إليه إذا سأله من الله فقد أظهرَ حاجتَه فيه، وافتقاره إلى الله، وذلك يحبُّه الله - عز وجل -. • الهدايةَ نوعان: قوله - عز وجل -: «كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ». أما سؤالُ المؤمن من الله الهداية، فإنَّ الهدايةَ نوعان: هداية مجملة: وهي الهدايةُ للإسلام والإيمان وهي حاصلة للمؤمن. وهدايةٌ مفصلة: وهي هدايته إلى معرفة تفاصيلِ أجزاء الإيمان والإسلام، وإعانتُه على فعل ذلك، وهذا يحتاج إليه كلُّ مؤمن ليلًا ونهارًا، ولهذا أمر الله عباده أنْ يقرؤوا في كُلِّ ركعةٍ من صلاتهم قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}. وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في دعائه بالليلِ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جَبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنْ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (رواه مسلم)، ولهذا يُشمَّتُ العاطس، فيقال له: «يَرْحَمُكَ الله» فيقول: «يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» كما جاءت السنة بذلك.

وقد أمرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عليًّا - رضي الله عنه - بأنْ يسألَ الله - عز وجل - السَّداد والهدى، فعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُلْ اللهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ» (رواه مسلم). وقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رضي الله عنهما -:عَلَّمَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ». (صحيح رواه أصحاب السنن). «يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ». الاستغفارُ من الذنوب، هو طلبُ المغفرة، والعبدُ أحوجُ شيءٍ إليه؛ لأنَّه يخطئ بالليل والنهار، وقد تكرَّر في القرآن ذكرُ التوبة والاستغفارِ، والأمرُ بهما، والحثُّ عليهما، وقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَابُونَ» (حسن رواه الترمذي وابن ماجه). «يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي». يعني: أنَّ العباد لا يَقدِرُونَ أنْ يُوصِلُوا إلى الله نفعًا ولا ضرًّا، فإنَّ الله تعالى في نفسه غنيٌّ حميدٌ، لا حاجةَ له بطاعات العباد، ولا يعودُ نفعُها إليه، وإنَّما هُم ينتفعون بها، ولا يتضرَّرُ بمعاصيهم، وإنَّما هم يتضررون بها، قال الله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا} (آل عمران:176). وقال - عز وجل -: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا} (آل عمران:144). وقال الله - عز وجل -: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} (النساء:131)، وقال حاكيًا عن موسى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم:8)، وقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:97)، وقال: {لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج:37).

والمعنى: أنَّه تعالى يُحبُّ من عباده أنْ يتَّقوهُ ويُطيعوه، كما أنَّه يكره منهم أنْ يَعْصُوه، ولهذا يفرح بتوبة التائبين أشدَّ من فرح من ضَلَّتْ راحلته التي عليها طعامُه وشرابُه بفلاةٍ مِنَ الأرض، وطلبها حتى أعيى وأيِسَ منها، واستسلم للموت، وأيس من الحياة، ثم غلبته عينُه فنام، فاستيقظ وهي قائمةٌ عنده، وهذا أعلى ما يتصوره المخلوقُ من الفرح. هذا كلُّه مع غناه عن طاعات عباده وتوباتهم إليه، وإنَّه إنَّما يعودُ نفعُهَا إليهم دونه، ولكن هذا من كمال جوده وإحسّانه إلى عباده، ومحبته لنفعهم، ودفع الضَّرر عنهم، فهو يُحِبُّ من عباده أنْ يعرفوه ويحبُّوه ويخافوه ويتَّقوه ويطيعوه ويتقرَّبوا إليه، ويُحِبُّ أنْ يعلموا أنَّه لا يغفر الذنوب غيره، وأنَّه قادرٌ على مغفرة ذنوب عباده. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ - عز وجل - قَالَ: «أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا فَقَالَ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ»، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا فَعَلِمَ أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِالذَّنْبِ؛ اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ». (رواه البخاري ومسلم). قوْله - عز وجل - لِلَّذِي تَكَرَّرَ ذَنْبه: (اِعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك) مَعْنَاهُ: مَا دُمْت تُذْنِب ثُمَّ تَتُوب غَفَرْتُ لَك. وفي الصحيحين عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «واللهِِ لَلهُ أرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا». وتأملوا حال صبي يبكي وأمه تضرِبهُ، ثُمَّ أخرجَتْه من الدار، وأغلقت البابَ دونه، فجعل الصبيُّ يتلفَّتُ يمينًا وشمالًا لا يدري أين يذهب ولا أين يقصِدُ، فرجع إلى باب الدار، فجعلَ يبكي ويقول: يا أماه من يَفْتَحُ لي الباب إذا أغلقت عني بابَك؟ ومن يُدنيني من نفسه إذا طردتيني؟ ومن الذي يدنيني بعد أنْ غضبت عليَّ؟ فرَحِمَتْه أمُّه، فقامت، فنظرَتْ من خَلَلِ الباب، فوجدت ولدها تجري الدموعُ على خديه متمعِّكًا في التراب، ففتحت البابَ، وأخذته حتى وضعته في حجرها، وجعلت تُقبِّله، وتقول: يا قُرَّة عيني، ويا عزيز نفسي، أنتَ الذي حملتني على نفسك، وأنتَ الذي تعرَّضت لما حلَّ بك، لو كنتَ أطعتني لم تلقَ مني مكروهًا. وتفكروا في قوله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ} (آل عمران:135)، فإنَّ فيه إشارةً إلى أنَّ المذنبين ليس لهم من يلجؤون إليه، ويُعوِّلون عليه في مغفرة ذنوبهم غيره، وكذلك قوله في حقِّ الثلاثة الذين خُلِّفوا: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة:118)، فرتَّب توبته عليهم على ظنِّهم أنْ لا ملجأ من الله إلا إليه. فإنَّ العبدَ إذا خاف من مخلوقٍ، هرب منه، وفرَّ إلى غيره، وأمَّا من خاف من الله، فما له منْ ملجأ يلجأُ إليه، ولا مهرب يهربُ إليه إلاَّ هو، فيهرُب منه إليه، كما قَالَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلْ: اللهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَالْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ» قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَلَمَّا بَلَغْتُ: اللهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ» قُلْتُ: «وَرَسُولِكَ»، قَالَ: «لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» (رواه البخاري ومسلم). وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «أعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ، وَبِكَ مِنْكَ» (رواه مسلم). أسأتُ ولم أُحْسِنْ وجئتُكَ تائبًا ... وأنَّى لِعَبْدٍ عن مواليه مَهْرَبُ يُؤَمِّلُ غُفَرانًا فإنْ خَابَ ظَنُّه ... فما أَحَدٌ منه على الأرضِ أخيَبُ

39 - إنما هي أعمالكم أحصيها لكم

39 - إنَّما هي أعمالُكُم أُحصيها لكم قوله - عز وجل -: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا»: هو إشارةٌ إلى أنَّ مُلكه - سبحانه وتعالى - لا يزيدُ بطاعة الخلق، ولو كانوا كلُّهم بررةً أتقياءَ، قلوبُهم على قلب أتقى رجلٍ منهم، ولا يَنْقُصُ مُلكُهُ بمعصية العاصين، ولو كان الجنُّ والإنسُ كلُّهم عصاةً فجرةً قلوبُهم على قلبِ أفجرِ رجلٍ منهم، فإنَّه سبحانه الغنيُّ بذاته عمَّن سواه، وله الكمالُ المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فَمُلكُهُ ملكٌ كاملٌ لا نقص فيه بوجه من الوجوه على أيِّ وجهٍ كان. وفي الحديث أنَّ جميعَ الخلق لو كانوا على صفةِ أكمل خلقه من البرِّ والتقوى، لم يزد ذلك ملكه شيئًا، ولا قدر جناح بعوضة، ولو كانوا على صفة أنقصِ خلقه من الفجور، لم ينقص ذلك من ملكه شيئًا، فدلَّ على أنَّ ملكه كاملٌ على أيِّ وجهٍ كان لا يزداد ولا يكمل بالطاعات، ولا يَنقُصُ بالمعاصي، ولا يؤثِّرُ فيه شيء. وفي هذا الكلام دليلٌ على أنَّ الأصل في التَّقوى والفجور هو القلبُ، فإذا برَّ القلبُ واتَّقي برَّت الجوارحُ، وإذا فجر القلب، فجرت الجوارحُ، كما قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «التَّقْوَى هَا هُنَا»، وأشَارَ إلَى صَدرِه (رواه مسلم). قوله - عز وجل -: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» المرادُ بهذا ذكرُ كمال قدرته سبحانه، وكمال ملكه، وإنَّ مُلكَهُ وخزائنَه لا تَنفَدُ، ولا تَنقُصُ بالعطاء، ولو أعطى الأوَّلين والآخرين من الجنِّ والإنس جميعَ ما سألوه في مقامٍ واحدٍ، وفي ذلك حثٌّ للخلق على سؤالِه وإنزالِ حوائجهم به. وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «يَدُ اللهِ مَلْأَى لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَقَالَ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ». (لَا يَغِيضهَا) لَا يُنْقِصهَا، (سَحَّاء) أَيْ دَائِمَة الصَّبّ، (يَغِضْ) أَيْ يَنْقُص. وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ». وقال أبو سعيدٍ الخدريُّ: «إذا دعوتُم الله، فارفعوا في المسألة، فإنَّ ما عنده لا يَنْفَدُه شيء، وإذا دعوتم فاعزموا، فإنَّ الله لا مستكره له». قوله - عز وجل -: «مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» تحقيق لأنَّ ما عنده لا ينقُصُ البتَّة، كما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاقٍ} (النحل:96)، فإنَّ البحرَ إذا غُمِسَ فيه إبرةٌ، ثم أُخرجتْ، لم ينقص من البحر بذلك شيءٌ، وكذلك لو فرض أنَّه شرب منه عصفورٌ مثلًا، فإنَّه لا ينقص البحر البتة، وهذا لأنَّ البحر لا يزال تمدُّهُ مياه الدُّنيا وأنهارُها الجاريةُ، فمهما أُخِذَ منه، لم يَنْقُصْهُ شيءٌ؛ لأنَّه يمدُّه ما هو أزيدُ ممَّا أخذ منه. وهكذا طعامُ الجنَّة وما فيها، فإنَّه لا ينفدُ، كما قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} (الواقعة:32 - 33)،، فهي لا تنقُصُ أبدًا ويشهد لذلك قولُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبة الكسوف: «وأرِيتُ الجَنَّة، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أخَذْتُه لأكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا» (رواه البخاري ومسلم). وقال بعضهم: لا تَخضَعَنَّ لِمخلُوقٍ على طَمَعٍ ... فإنَّ ذَاكَ مُضِرٌّ مِنْكَ بالدِّينِ واستَرْزِقِ الله مِمَّا في خَزَائِنِهِ ... فإنَّما هيَ بَيْنَ الكَافِ والنُّونِ

وقوله: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا» يعني: أنَّه سبحانه يُحصي أعمالَ عبادِه، ثمَّ يُوفيهم إياها بالجزاء عليها، وهذا كقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة:7 - 8)، وقوله: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (الكهف:49)، وقوله: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (آل عمران:30)، وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَميعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ} (المجادلة:6). وقوله - عز وجل -: «ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا» الظاهرُ أنَّ المرادَ توفيتُها يوم القيامة كما قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (آل عمران:185). ويحتمل أنَّ المرادَ: أنَّه يوفي عبادَه جزاءَ أعمالِهم في الدُّنيا والآخرة كما في قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} (النساء:123). وقد قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (رواه مسلم). وتوفية الأعمال هي توفية جزائها من خيرٍ أو شرٍ، فالشرُّ يُجازى به مثلَه من غير زيادةٍ، إلاَّ أنْ يعفوَ الله عنه، والخيرُ تُضاعف الحسنة منه بعشر أمثالها إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ إلى أضعافٍ كثيرةٍ لا يعلم قدرها إلا الله، كما قال - عز وجل -: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} (الزمر:10). وقوله - عز وجل -: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» إشارةٌ إلى أنَّ الخيرَ كلَّه من الله فضلٌ منه على عبدِه، من غير استحقاقٍ له، والشرُّ كلُّه من عند ابنِ آدم من اتَّباع هوى نفسه، كما قال - عز وجل -: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} (النساء:79) وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: «لا يرجُوَنَّ عبدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه».

فالله سبحانه إذا أراد توفيقَ عبد وهدايته أعانه، ووفَّقه لطاعته، فكان ذلك فضلًا منه، وإذا أراد خِذلانَ عبدٍ، وكلَهُ إلى نفسه، وخلَّى بينَه وبينَها، فأغواهُ الشيطانُ لغفلته عن ذكرِ الله، واتَّبع هواه، وكان أمره فُرُطًا، وكان ذلك عدلًا منه، فإنَّ الحجَّةَ قائمةٌ على العبدِ بإنزالِ الكتاب، وإرسال الرسول، فما بقي لأحدٍ مِنَ النَّاس على الله حجةٌ بعد الرُّسُلِ. فقوله - عز وجل - بعد هذا: «فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ» إنْ كان المرادُ: مَنْ وجدَ ذلك في الدُّنيا، فإنَّه يكونُ حينئذٍ مأمورًا بالحمد لله على ما وجده من جزاءِ الأعمال الصالحة الذي عجل له في الدُّنيا كما قال: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97)، ويكون مأمورًا بلوم نفسه على ما فَعَلَتْ من الذُّنوب التي وجد عاقبتها في الدنيا، كما قال تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (السجدة:21)، فالمؤمن إذا أصابه في الدُّنيا بلاءٌ، رجع على نفسه باللوم، ودعاه ذلك إلى الرجوع إلى الله بالتوبة والاستغفار. وقال سلمان الفارسي: إنَّ المسلمَ ليُبتلى، فيكون كفارةً لما مضى ومستعتبًا فيما بقي، وإنَّ الكافر يُبتلى، فمثله كمثل البعير أُطلِقَ، فلم يدر لما أطلق، وعقل، فلم يدر لم عُقِلَ. وإنْ كان المرادُ من وجد خيرًا أو غيرَه في الآخرة، كان إخبارًا منه بأنَّ الذين يجدون الخيرَ في الآخرة يحمَدُونَ الله على ذلك، وأنَّ مَنْ وجدَ غير ذلك يلوم نفسه حين لا ينفعُهُ اللومُ، فيكونُ الكلام لفظه لفظُ الأمر، ومعناه الخبرُ، كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًًا، فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم) والمعنى: أنَّ الكاذبَ على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يتبوَّأ مقعده من النار.

وقد أخبر الله تعالى عن أهل الجنَّة أنَّهم يحمَدُون الله على ما رزقهم من فضله، فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللهُ} (الأعراف:43)، وقال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (الزمر:74)، وقال: {وَقَالُوا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} (فاطر:34 - 35). وأخبر عن أهل النار أنَّهم يلومون أنفسهم، ويمقُتونها أشدَّ المقت، فقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} (إبراهيم:22)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} (غافر:10). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ أَنَّ رَجُلًا يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ يَمُوتُ هَرَمًا فِي مَرْضَاةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لَحَقّرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (حسن رواه الإمام أحمد). يقول ذلك لما يرى عظيم عطاء الله - عز وجل -. وقد كان السَّلفُ الصالح يجتهدون في الأعمال الصالحة؛ حذرًا من لوم النفس عندَ انقطاع الأعمال على التقصير. قيل لمسروق: لو قصرتَ عن بعض ما تصنع من الاجتهاد، فقال: «والله لو أتاني آتٍ، فأخبرني أنْ لا يعذبني، لاجتهدت في العبادة، قيل: كيف ذاك؟ قال: حتى تَعْذرني نفسي إنْ دخلت النار أنْ لا ألومها، أما بلغك في قول الله تعالى: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (القيامة:2) إنَّما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنَّمَ، فاعتنقتهم الزَّبانيةُ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، وانقطعت عنهم الأماني، ورفعت عنهم الرحمة، وأقبل كلُّ امرئٍ منهم يلومُ نفسَه».

وكان عامر بن عبد قيس يقول: «والله لأجتهدنَّ، ثم والله لأجتهدنَّ، فإنْ نجوت فبرحمة الله، وإلاَّ لم ألُمْ نفسي». وكان مُطرِّف بن عبد الله يقول: «اجتهدوا في العمل، فإنْ يكن الأمرُ كما نرجو من رحمة الله وعفوه، كانت لنا درجات في الجنَّة، وإنْ يكن الأمرُ شديدًا كما نخاف ونُحاذِرُ، لم نقل: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} (فاطر:37)، نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك». إلهَنا ما أعدلكْ مليكَ كلِّ من مَلَكْ لبيكَ قد لبيتُ لكْ لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والمُلكَ، لا شريكَ لكْ ما خابَ عبدٌ سألكْ أنت له حيثُ سَلَكْ لولاكَ يا ربِّ هلَكْ لبيكَ إنّ الحمدَ لكْ والمُلكَ، لا شريكَ لكْ كلّ نبيٍّ وملكْ وكلُّ مَن أهَلَّ لكْ وكلّ عبدٍ سألكْ سبَّحَ أو لبَّى فلَكْ لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والمُلكَ لا شريكَ لكْ والليلُ لمّا أنْ حَلكْ والسّابحاتُ في الفَلَكْ لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والمُلكَ، لا شريك لكْ يا مُخْطِئًا مَا أجْهَلَكْ عصِيْتَ ربًّا عدَّلك وأقْدَرك وأمهلكْ عَجِّلْ وبادِرْ أجلَكْ واختم ْ بخيرٍ عملكْ إلهَنا ما أعدلكْ مليكَ كلِّ من مَلَكْ لبيكَ إنَّ الحمدَ لكْ والمُلكَ لا شريكَ لكْ

40 - لا تغضب

40 - لا تَغْضَبْ عَنْ أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَجُلًا قالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أوصِني، قال: «لا تَغْضَبْ» فردَّد مِرارًا قال: «لا تَغْضَبْ».رواهُ البُخاريُّ. وخرَّج الترمذي هذا الحديثَ ولفظُه: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا رسول الله علِّمني شيئًا ولا تُكثر عليَّ لَعَلِّي أعيه، قال: «لا تَغْضَبْ» فردد ذلك مرارًا كلُّ ذلك يقول: «لا تَغَضَبْ». وفي رواية أخرى لغير الترمذي قال: قلتُ: يا رسولَ الله، دلني على عمل يُدخلني الجنَّة ولا تُكثِرْ عليَّ، قال: «لا تَغْضَبْ» (صحيح). • الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ: هذا الرجلُ طلب مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنْ يُوصِيهَ وصيةً وجيزةً جامعةً لِخصال الخيرِ، ليحفظها عنه خشيةَ أنْ لا يحفظها؛ لكثرتها، فوصَّاه النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنْ لا يغضب، ثم ردَّد هذه المسألة عليه مرارًا، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يردِّدُ عليه هذا الجوابَ، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضب جِماعُ الشرِّ، وأنَّ التحرُّز منه جماعُ الخير. وروى الإمامُ أحمد عن عبد اللهِ بن عمرو: أنَّه سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:ماذا يُبَاعِدُني مِنْ غَضَبِ اللهِ - عز وجل - قال: «لا تَغْضَبْ» (إسناده جيد). قال جعفر بنُ محمد: الغضبُ مفتاحُ كلِّ شرٍّ. وقيل لابنِ المبارك: اجْمَعْ لنا حسنَ الخلق في كلمة، قال: تركُ الغضبِ. وكذا فسَّر الإمام أحمد، وإسحاقُ بنُ راهويه حسنَ الخلق بتركِ الغضب. فقولُه - صلى الله عليه وآله وسلم - لمن استوصاه: «لا تَغْضَبْ» يحتَمِلُ أمرين: أحدُهما: أنْ يكونَ مرادُه الأمرَ بالأسباب التي توجب حُسْنَ الخُلُقِ من الكرم والسخاء والحلمِ والحياء والتواضع والاحتمال وكفِّ الأذى، والصفح والعفو، وكظم

الغيظ، والطَّلاقةِ والبِشْرِ، ونحوِ ذلك من الأخلاق الجميلة، فإنَّ النفسَ إذا تخلَّقت بهذه الأخلاق، وصارت لها عادة أوجب لها ذلك دفع الغضب عند حصول أسبابه. والثاني: أنْ يكونَ المرادُ: لا تعمل بمقتضى الغضب إذا حَصَل لك، بل جاهد نفسَك على ترك تنفيذه والعمل بما يأمر به، فإنَّ الغضب إذا ملك ابنَ آدم كان كالآمر والناهي له. ولهذا المعنى قال الله - عز وجل -: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ} (الأعراف:154) فإذا لم يمتثل الإنسانُ ما يأمره به غضبُه، وجاهد نفسه على ذلك، اندفع عنه شرُّ الغضب، وربما سكن غَضَبُهُ، وذهب عاجلًا، فكأنَّه حينئذٍ لم يغضب، وإلى هذا المعنى وقعت الإشارةُ في القرآن بقوله - عز وجل -: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37)، وبقوله - عز وجل -: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134). • أسبابٍ تدفعُ الغضبَ: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمرُ من غضبَ بتعاطي أسبابٍ تدفعُ عنه الغضبَ، وتُسَكِّنُهُ، ويمدح من ملك نفسَه عند غضبه، ففي «الصحيحين» عن سليمانَ بن صُرَد قال: استَبَّ رجلانِ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ونحنُ عنده جلوسٌ، وأحدُهما يَسُبُّ صاحبهُ مغضبًا قد احمرَّ وجهُهُ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنِّي لأعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَها لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ». وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذَا غَضِبَ الرَّجُلُ فَقَالَ: «أعُوذُ بِاللهِ»، سَكَنَ غَضَبُهُ» (صححه الألباني في صحيح الجامع). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذَا غَضِبْتَ فَاجْلِسْ» (صححه الألباني في صحيح الجامع) وروى الإمامُ أحمدُ، وأبو داود: أنَّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ، فَلْيَجْلِسْ، فإنْ ذَهَبَ عَنْهُ الغَضَبُ وإلّا فَلْيَضْطَجِعْ» (صحيح).

وقد قيل: إنَّ المعنى في هذا أنَّ القائم متهيِّئ، للانتقام والجالس دونَه في ذلك، والمضطجع أبعدُ عنه، فأمره بالتباعد عن حالةِ الانتقام. ولهذا المعنى قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في الفتن: «إنَّ المضْطَجِعَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَاعِدِ، والقَاعِدَ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمَ خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، والمَاشِي خَيرٌ مِنَ السَّاعِي» (رواه البخاري ومسلم)، وإنْ كان هذا على وجه ضرب المثالِ في الإسراع في الفتن، إلا أنَّ المعنى: أنَّ من كان أقرب إلى الإسراع فيها، فهو شرٌّ ممن كان أبعد عن ذلك. وروى الإمامُ أحمد من حديث ابنِ عباس، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ، فليَسْكُتْ» قالها ثلاثًا. (صحيح). وهذا أيضًا دواء عظيم للغضب؛ لأنَّ الغضبان يصدر منه في حال غضبه من القول ما يندم عليهِ في حال زوال غضبه كثيرًا من السِّباب وغيره مما يعظم ضَرَرُهُ، فإذا سكت زال هذا الشرّ كله عنه. وما أحسنَ قولَ مورق العجلي - رحمه الله -: «ما امتلأتُ غيضًا قَطُّ ولا تكلَّمتُ في غضبٍ قطُّ بما أندمُ عليهِ إذا رضيتُ». ولم أرَ في الأعداءِ حينَ اختبرتُهم عدوًا لعقلِ المرءِ أعْدَى مِن الغضبْ ليسَتِ الأحلامُ في حالِ الرضا إنما الأحلامُ في حالِ الغضبْ وغضب يومًا عمرُ بن عبد العزيز فقالَ لهُ ابنُه عبدُ الملكِ ـ رحمهما الله ـ: «أنتَ يا أميرَ المؤمنين مع ما أعطاك الله وفضَّلك به تغضبُ هذا الغَضبَ؟». فقال له: «أوَمَا تغضبُ يا عبدَ الملك؟». فقال عبد الملك: «وما يُغني عني سعةُ جوفي إذا لم أُرَدِّدْ فيه الغضبَ حتى لا يظهر؟». فهؤلاء قوم ملكوا أنفسهم عند الغضب - رضي الله عنهم -. وفي (الصحيحين) عن أبي هُريرة، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لَيْسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الَّذي يَملِكُ نَفْسَهُ عندَ الغَضَبِ».

وفي «صحيح مسلم» عن ابن مسعودٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «ما تَعُدُّوَن الصُّرَعَةَ فِيكُمْ؟» قُلْنَا: الذِي لا تَصْرَعُهُ الرِّجالُ، قال: «لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّه الذِي يَملِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ». وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الصُّرَعَةُ كُلُّ الصُّرَعَةِ الَّذِي يَغْضَبُ فَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، وَيَقْشَعِرُّ شَعْرُهُ، فَيَصْرَعُ غَضَبَهُ» (حسن رواه الإمام أحمد). (بِالصُّرْعَةِ) بِضَمِّ الصَّاد وَفَتْح الرَّاء: الَّذِي يَصْرَع النَّاس كَثِيرًا بِقُوَّتِهِ، وَالْهَاء لِلْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَة، وَالصُّرْعَة بِسُكُونِ الرَّاء بِالْعَكْسِ وَهُوَ مَنْ يَصْرَعُهُ غَيْره كَثِيرًا. • وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ: قال الله - عز وجل -: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (آل عمران:134). {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} أي: إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم ـ وهو امتلاء قلوبهم من الحنق، الموجب للانتقام بالقول والفعل ـ، هؤلاء لا يعملون بمقتضى الطباع البشرية، بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ، ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم. {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كل من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم، لأن العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلى بالأخلاق الجميلة، وتخلى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشورى:40). ثم ذكر - عز وجل - حالة أعم من غيرها، وأحسن وأعلى وأجل، وهي الإحسان، فقال - عز وجل -: {وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} والإحسان نوعان: الإحسان في عبادة الخالق. والإحسان

إلى المخلوق، فالإحسان في عبادة الخالق فسرها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (رواه البخاري ومسلم). وأما الإحسان إلى المخلوق، فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم، ودفع الشر الديني والدنيوي عنهم، فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتعليم جاهلهم، ووعظ غافلهم، والنصيحة لعامتهم وخاصتهم، والسعي في جمع كلمتهم، وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة إليهم، على اختلاف أحوالهم وتباين أوصافهم، فيدخل في ذلك بذل الندى وكف الأذى، واحتمال الأذى، كما وصف الله به المتقين في هذه الآيات، فمن قام بهذه الأمور، فقد قام بحق الله وحق عبيده. وقال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُو يَسْتَطِيعُ أنْ يُنفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقَيامَةِ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ يُزَوِّجُهُ مِنْهَا مَا شَاءَ». (حسن رواه الإمامُ أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه). وروى الإمامُ أحمد من حديث ابن عمر، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ما تَجَرَّع عَبْدٌ جُرعَةً أفْضَلَ عِنْدَ اللهِ مِنْ جُرعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُها ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ - عز وجل -» (إسناده جيد) ومِن حديث ابن عباسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَا مِنْ جُرْعَةٍ أحبَّ إلى اللهِ مِنْ جُرْعَةِ غَيْظٍ يَكْظِمُهَا عَبْدٌ، مَا كَظَمَ عَبْدٌ للهِ إلّا مَلَأ اللهُ جَوْفَهُ إِيمَانًا» (قال ابن كثير: إسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن). وقال ميمون بن مِهران: جاء رجلٌ إلى سلمان، فقال: يا أبا عبدِ الله أوصني، قال: لا تغضب، قال: أمَرْتَني أنْ لا أغضب وإنَّه ليغشاني ما لا أملِكُ، قال: فإنْ غضبتَ، فامْلِكْ لِسانك ويَدَك». وملكُ لسانه ويده هو الذي أشار إليه النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بأمره لمن غَضِبَ أنْ يجلس، ويضطجع وبأمره له أنْ يسكت.

أُحِبُّ مكارمَ الأخلاقِ جُهدي وأكرهُ أنْ أعيبَ وأنْ أعَابَا وأصفحُ عن سبابِ الناسِ حِلمًا وشرُّ الناسِ مَن يهوَى السِبابَا ومَن هابَ الرجالَ تهيَّبوه ومَن حَقَر الرجالَ فلن يُهابا قال عمرُ بنُ عبد العزيز: «قد أفلحَ مَنْ عُصِمَ من الهوى، والغضب، والطمع». وقال الحسن: «أربعٌ من كُنَّ فيه عصمه الله من الشيطان، وحرَّمه على النار: مَنْ ملك نفسَه عندَ الرغبة، والرهبة، والشهوةِ، والغضبِ». فهذه الأربع التي ذكرها الحسن هي مبدأ الشرِّ كُلِّه، فإنَّ الرغبةَ في الشيء هي ميلُ النفس إليه لاعتقاد نفعه، فمن حصل له رغبةٌ في شيءٍ، حملته تلك الرغبة على طلب ذلك الشيء من كل وجه يَظُنُّه موصلًا إليه، وقد يكون كثير منها محرمًا، وقد يكون ذلك الشيءُ المرغوبُ فيه مُحرَّمًا. والرهبة: هي الخوفُ من الشيء، وإذا خاف الإنسان من شيء تسبب في دفعه عنه بكلِّ طريق يظنه دافعًا له، وقد يكون كثير منها محرَّمًا. والشهوة: هي ميلُ النفس إلى ما يُلائمها، وتلتذُّ به، وقد تميل كثيرًا إلى ما هو محرَّم كالزنا والسرقة وشرب الخمر، بل وإلى الكفر والسحر والنفاق والبدع. والغضب: هو غليانُ دم القلب طلبًا لدفع المؤذي عندَ خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعدَ وقوعه، وينشأ من ذلك كثيرٌ من الأفعال المحرمة كالقتل والضربِ وأنواعِ الظلم والعُدوان، وكثيرٍ من الأقوال المحرَّمة كالقذفِ والسبِّ والفحش، وكالأيمان التي لا يجوزُ التزامُها شرعًا، وكطلاق الزوجة الذي يُعقب الندمَ، وربما ارتقى إلى درجة الكفر، كما جرى لجبلة بن الأيهم وهو ابن الحارث بن أبي شعر، واسمه المنذر بن الحارث. قالوا: كتب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى جبلة بن الأيهم ملك غسان يدعوه إلى الإسلام، فأسلم وكتب بإسلامه إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأهدى له هدية، ثم لم يزل مسلمًا حتى كان

زمن عمر بن الخطاب، فبينا هو في سوق دمشق إذ وطيء رَجلًا من مزينة، فوثب المزني فلطمه، فأخذ فانطلق به إلى أبي عبيدة بن الجراح، فقالوا: هذا لطم جبلة. قال: فليلطمه. قالوا: أو ما يقتل؟ قال: لا. فقالوا: أفما تقطع يده؟ قال: لا، إنَّما أمر الله بالقوَد. قال جبلة: أترون أني جاعل وجهي ندًا لوجه جدي جاء من عمق؟ بئس الدين هذا! ثم ارتد نصرانيًا، وترحل بقومه حتى دخل أرض الروم. (انظر: تاريخ دمشق 11/ 19). والواجبُ على المؤمن أنْ تكون شهوتُه مقصورةً على طلب ما أباحه الله له، وربما تناولها بنيةٍ صالحةٍ، فأثيب عليها، وأنْ يكونَ غضبه دفعًا للأذى في الدين له أو لغيره وانتقامًا ممن عصى الله ورسولَه، كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} (التوبة:14 - 15) وهذه كانت حالَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنَّه كان لا ينتقِمُ لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرماتُ الله لم يَقُمْ لِغضبه شيء (رواه البخاري ومسلم). ولم يضرب بيده خادمًا ولا امرأة إلا أنْ يجاهِدَ في سبيل الله. (رواه مسلم). وخدمه أنس عشرَ سنين، فما قال له: «أفٍّ» قط، ولا قال له لشيء فعله: «لِمَ فعلتَ كذا» ولا لشيء لم يفعَله: «ألا فعلتَ كذا» (رواه البخاري ومسلم). وسئلت عائشةُ عن خُلُقِ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقالت: «كَانَ خُلُقُهُ القُرْآن» (رواه مسلم) تعني: أنَّه كان تأدَّب بآدابه، وتخلَّق بأخلاقه، فما مدحه القرآن، كان فيه رضاه، وما ذمَّه القرآنُ، كان فيه سخطه.

وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - لِشدَّةِ حيائه لا يُواجِهُ أحدًا بما يكره، بل تعرف الكراهة في وجهه، كما في (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري قال: كان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أشدَّ حياءً من العذراءِ في خِدْرها، فإذا رأى شيئًا يكرهه، عرفناه في وجهه». ولما بلَّغَه ابنُ مسعودٍ قَولَ القائل: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، شقَّ عليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتَغيَّر وجهه، وغَضِبَ، ولم يَزِدْ على أنْ قال: «قَدْ أوذِيَ مُوسَى بِأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ» (رواه البخاري ومسلم). وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا رأى، أو سَمِعَ ما يكرهه الله، غَضِبَ لذلك، وقال فيه، ولم يَسْكُتْ، وقد دخل بيتَ عائشة فرأى سترًا فيه تصاويرُ، فتَلَوَّنَ وجهُهُ وهتكه، وقال: «إنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُصَوِّرُونَ هَذِه الصُّوَرَ» (رواه البخاري ومسلم). ولما شُكِيَ إليه الإمامُ الذي يُطيل بالناس صلاته حتى يتأخرَ بعضهم عن الصَّلاة معه، غَضِبَ، واشتد غضبُه، ووَعَظَ النَّاسَ، وأمر بالتَّخفيف (رواه البخاري ومسلم). وكان من دعائه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أسألُكَ كَلِمَةَ الحَقِّ فِي الغَضَبِ وَالرِّضَا» (صحيح رواه النسائي) وهذا عزيز جدًا، وهو أنَّ الإنسان لا يقول سوى الحقِّ سواء غَضِبَ أو رضي، فإنَّ أكثرَ الناس إذا غَضِبَ لا يَتوقَّفُ فيما يقول. وعن أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا، فَقَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لَكَ أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا، وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ».

قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سدد خطاكم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ» (صحيح رواه أبو داود).فكان أبو هريرة سدد خطاكم يُحَذِّرُ الناسَ أنْ يقولوا مثلَ هذه الكلمة في غضب. فهذا غَضِبَ لله، ثم تكلَّم في حال غضبه لله بما لا يجوزُ، وحتم على الله بما لا يعلم، فأحبط الله عمله، فكيف بمن تكلَّم في غضبه لنفسه، ومتابعة هواه بما لا يجوز. وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاقَةٍ فَضَجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا، فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَةٌ». قَالَ عِمْرَانُ: «فَكَأَنِّي أَرَاهَا الْآنَ تَمْشِي فِي النَّاسِ مَا يَعْرِضُ لَهَا أَحَدٌ» (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنَمَا جَارِيَةٌ عَلَى نَاقَةٍ عَلَيْهَا بَعْضُ مَتَاعِ الْقَوْمِ إِذْ بَصُرَتْ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَتَضَايَقَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَقَالَتْ: «حَلْ، اللَّهُمَّ الْعَنْهَا». قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُصَاحِبْنَا نَاقَةٌ عَلَيْهَا لَعْنَةٌ». (رواه مسلم). (حِلْ) كَلِمَة زَجْرٍ لِلْإِبِلِ وَاسْتِحْثَاث. (خُذُوا مَا عَلَيْهَا وَدَعُوهَا فَإِنَّهَا مَلْعُونَة) (لَا تُصَاحِبنَا نَاقَة عَلَيْهَا لَعْنَة) إِنَّمَا قَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم - هَذَا زَجْرًا لَهَا وَلِغَيْرِهَا، وَكَانَ قَدْ سَبَقَ نَهْيهَا وَنَهْي غَيْرهَا عَنْ اللَّعْن، فَعُوقِبَتْ بِإِرْسَالِ النَّاقَة، وَالْمُرَاد النَّهْي عَنْ مُصَاحَبَته لِتِلْكَ النَّاقَة فِي الطَّرِيق، وَأَمَّا بَيْعهَا وَذَبْحهَا وَرُكُوبهَا فِي غَيْر مُصَاحَبَته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَات الَّتِي كَانَتْ جَائِزَة قَبْل هَذَا فَهِيَ بَاقِيَة عَلَى الْجَوَاز؛ لِأَنَّ الشَّرْع إِنَّمَا وَرَدَ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُصَاحَبَة، فَبَقِيَ الْبَاقِي كَمَا كَانَ. وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي غَزْوَة ورَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى نَاضِحٍ لَهُ فَأَنَاخَهُ فَرَكِبَهُ ثُمَّ بَعَثَهُ، فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْضَ التَّلَدُّنِ؛ فَقَالَ لَهُ: «شَأْ لَعَنَكَ اللهُ» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ هَذَا اللَّاعِنُ بَعِيرَهُ؟». قَالَ: «أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ».

قَالَ: «انْزِلْ عَنْهُ فَلَا تَصْحَبْنَا بِمَلْعُونٍ، لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنْ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ». (رواه مسلم). (فَتَلَدَّنَ عَلَيْهِ بَعْض التَّلَدُّن) أَيْ تَلَكَّأَ وَتَوَقَّفَ. (شَأْ) كَلِمَة زَجْر لِلْبَعِيرِ. وَفِي هَذَا الْحَدِيث النَّهْي عَنْ لَعْن الدَّوَابّ. فهذا كله يدلُّ على أنَّ دعاء الغضبانِ قد يُجاب إذا صَادف ساعةَ إجابةٍ، وأنَّه ينهى عن الدعاء على نفسه وأهله وماله في الغضب. وقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا غَضِبَ أحَدُكُمْ، فليَسْكُتْ» (صحيح رواه الإمامُ أحمد) يدلُّ على أنَّ الغضبانَ مُكَلَّفٌ في حال غضبه بالسكوت، فيكون حينئذٍ مؤاخذًا بالكلام، وقد صحَّ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أنَّه أمر من غضب أنْ يتلافى غضبَه بما يُسكنه من أقوال وأفعال، وهذا هو عينُ التكليف له بقطع الغضب. وقال عطاءُ بنُ أبي رباح: «ما أبكى العلماءَ بكاء آخرِ العمرِ من غضبة يغضبُها أحدُهُم فتهدِمُ عملَ خمسين سنة، أو ستين سنة، أو سبعين سنة، وربَّ غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله». وعن خويلة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أنَّها راجعت زوجَها، فغَضِبَ، فظاهر منها، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خُلُقُه وضَجِرَ، وأنَّها جاءت إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فجعلت تشكو إليه ما تلقى من سوء خلقه، فأنزل الله آيةَ الظهار، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بكفارة الظِّهار (حسن رواه الإمام أحمد). فهذا الرجل ظاهر في حال غضبه، وكان النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يرى حينئذ أنَّ الظهارَ طلاق، وقد قال: إنَّها حَرُمَتْ عليه بذلك، يعني: لزمه الطلاق، فلما جعله الله ظهارًا مكفرًا ألزمه بالكفارة، ولم يُلْغِهِ. وروى مجاهد عن ابنِ عباس: أنَّ رجلًا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثًا وأنا غضبان، فقال: إنَّ ابنَ عباس لا يستطيع أنْ يُحِلَّ لك ما حرَّم الله عليك، عصيتَ ربَّك وحرمت عليك امرأتك. (رواه الدارقطني بإسناد على شرط مسلم).

• حصاد الغضب: قلة الحلم وكثرة الغضب آفتان عظيمتان، إذا انتشرتا في مجتمعٍ ما قوَّضَتَا بُنيانه، وهدَمَتا أركانه، وقادتا المجتمع إلى هوة سحيقة، ونخَرتا كما ينخر السوس في جسد المجتمع المسلم حتى يؤدي به إلى الهلاك والعياذ بالله. ألسنا نرى ضياع المجتمعات الإسلامية، واندثار آدابها وكثرة الخلافات بين دولها وشعوبها فساعد ذلك على تقطيع الأواصر والروابط، وإشاعة أجواء التباغض والتدابر والتحاسد وإظهار الشماتة على الأمة المسلمة من قبل أعدائها. انظروا مثلا إلى الحالات المتعددة والمنتشرة للطلاق أو ما يكون بين الزوجين من شقاق، مما أدى إلى التفريق، وهدم البيوت، وتفويض الأسر، أليس ذلك في الغالب نتيجة من الغضب وقلة الحلم؟ حيث ترى الزوج بعد ذهاب غضبه يندم ولاتَ ساعةَ مَنْدَم، ويتأسف على ما مضى، ويرى أنه قد جنى على نفسه بالحرمان وعلى زوجته بالعقوبة ولا ذنب لها، ويَتَّمَ أولاده وهو لم يزل حيًّا ثم يبحث لنفسه عن المعاذير، ويقلب في الفتاوى لدى المفتين لمحو غلطة ارتكبها دون تفكير أو روية، أو تدرُجٍ في التأديب، مما تسبب في هدمٍ كان بإمكانه علاجه لو ملك عقله، وأشهر حلمه، وكف غضبه. وقد يغضب الإنسان غضباً شديداً فيعاقب أبناءه بما يندم عليه، أو يموت منه كمداً، وإن من نتائج الغضب وثمراته أنك ترى إخوة من أب واحد يختلفون فيما بينهم لأتفه الأسباب فيعمل الغضب فيهم عمله فيتعادون ويتقاطعون، فيتبدد بذلك شمل الأسر وتراهم يتسابُّون ويتشاتمون وقد أخذهم الغضب كل مأخذ. بل أحيانًا يقتل المسلم أخاه أو زوجته نتيجة الغضب. قال أحد السلف: ما تكلمت في غضبي قط بما أندم عليه إذا رضيت. وقال بعض الحكماء لابنه: «يا بني لا يثبُتُ العقلُ عند الغضب كما لا تَثْبُتُ روحُ الحي في التَنَانِير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم». (التَنّور: الفرن يُخبَزُ فيه).

خطب مناسبات

خطب مناسبات 41 - الزكاة (¬1) • الغنى والفقر ابتلاء: إن الله - عز وجل - قد خلق الغنى والفقر مَطِيَّتَيْنِ للابتلاء والامتحان ولم ينزل المال لمجرد الاستمتاع به فعَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَيُحَدِّثُنَا، فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: «إِنَّ اللهَ - عز وجل - قَالَ: «إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» (صحيح رواه الإمام أحمد). (وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ) أي لا يزال حريصًا على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره. والمراد بابن آدم الجنس باعتبار طبعه وإلا فكثير منهم يَقْنَعُ بما أعطِي ولا يطلب زيادة، لكن ذلك عارضٌ له من الهداية إلى التوبة كما يومئ إليه قوله - عز وجل - (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ) أي يقبل التوبة من الحرص المذموم ومن غيره، أو (تَابَ) بمعنى وُفِّق، يقال تاب الله عليه أي وفقه، ىيعني: جُبِل الآدمي على حب الحرص إلا من وفق اللهُ وعصمه. وفي ذكر ابن آدم دون الإنسان إيماء إلى أنه خلق من تراب طبعه القبض واليُبْس، وإزالته ممكنة بأن يمطر الله عليه من غمام توفيقه. فأخبر - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث أن الله - عز وجل - أنزل المال ليُستَعَانَ به على إقامة حقه بالصلاة وإقامة حق عباده بالزكاة لا للاستمتاع والتلذذ كما تأكل الأنعام. فإذا خرج المال عن هذين المقصودين فإن الغرض والحكمة التي أنزِل لها كان التراب أولى به. دَعِ الحرْصَ على الدنيَا ... وفي العَيْشِ فلا تَطْمَعْ ولا تَجْمَعْ من المالِ ... فلا تَدْري لمن تَجْمَعْ • ما هي الزكاة: الزكاة اسم لما يخرجه الانسان من حق الله تعالى إلى الفقراء، وسميت زكاة لما يكون فيها من رجاء البركة، وتزكية النفس وتنميتها بالخيرات. فإنها مأخوذة من الزكاة، وهو النماء والطهارة والبركة، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة:103). أي خذ ـ أيها الرسول ـ من أموال المؤمنين صدقة معينة كالزكاة المفروضة، أو غير معينة، وهي التطوع، تطهرهم بها من دنس البخل والطمع، والدناءة والقسوة على الفقراء والبائسين، وما يتصل بذلك من الرذائل، وتزكي أنفسهم بها، أي تنميها وترفعها بالخيرات والبركات الخلقية والعملية، حتى تكون بها أهلا للسعادة الدنيوية والأخروية. • حكمة الزكاة: المسلم الغنى ينظر إلى ثروته وأمواله كأمانة استأمنه الله عليها ينبغي عليه أن يؤدى حقها ويستعملها فيما يُرضي الله تعالى، ويحث الله ¬

_ (¬1) إذا ثبت لرجل أو لامرأة الصحبة فلا يمكن أن يقبل لمزة بالنفاق إلا بإسناد صحيح، ولهذا لا يصح قول من قال: إن ثعلبة بن حاطب الأنصاري - رضي الله عنه - ـ وهو ممن شهد غزوة بدر ـ هو المقصود بقوله - عز وجل -: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} (التوبة: 75). وهذه القصة ـ التي يذكرها كثير من الخطباء في أثناء حديثهم عن الزكاة ـ لا تصح سندًا ولا مَتْنًا، أما سندًا فهى من طريق معان بن رفاعة عن على بن يزيد، وكلاهما لا يصح حديثه. وأما متنًا فالنبى - صلى الله عليه وآله وسلم - قرر أن مانع الزكاة تؤخذ منه قسرًا، وحارب أبو بكر الصديق سدد خطاكم مانعي الزكاة، فكيف يرفض أخذها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -؟

تعالى المسلمين على الإنفاق من أموالهم ليسدوا حاجات الفقراء والمحتاجين، قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (البقرة 2 - آية 245). والزكاة في الإسلام هى أول نظام عرفته البشرية لتحقيق الرعاية للمحتاجين والعدالة الاجتماعية بين أفراد المجتمع حيث يعاد توزيع جزء من ثروات الأغنياء على الطبقات الفقيرة والمحتاجين. والزكاة طهرة لأموال المزكيَ وطهرة لنفسه من الأنانية والطمع والحرص وعدم المبالاة بمعاناة الغير، وهى كذلك طهرة لنفس الفقير أو المحتاج من الغيرة والحسد والكراهية لأصحاب الثروات، وتؤدى الزكاة إلى زيادة تماسك المجتمع وتكافل أفراده والقضاء على الفقر وما يرتبط به من مشاكل اجتماعية واقتصادية وأخلاقية إذا أحسن استغلال أموال الزكاة وصرفها لمستحقيها. يا جامعَ المالِ في الدنيا لوارثهِ ... هل أنتَ بالمالِ قبل الموتِ منتفعُ؟ قدِّمْ لنفسِكَ قبلَ الموتِ في مَهَلٍ ... فإِن حظكَ بعد الموتِ منقطعُ • أسماء الزكاة: منها: الزكاة قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة:43). ومنها: الحق، قال تعالى: {آَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} (الأنعام:1241). ومنها: النفقة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة (34:.ومنها: الصدقة قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة:103). والزكاة هي أحد أركان الإسلام الخمسة، وقرنت بالصلاة في اثنتين وثمانين آية، وقد فرضها الله تعالى بكتابه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإجماع أمته فمن جحدها فقد كفر. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَعَثَ مُعَاذًا - رضي الله عنه - إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «ادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ

افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ». (رواه البخاري ومسلم). وكانت فريضة الزكاة بمكة في أول الإسلام مطلقة، لم يحدد فيها المال الذي تجب فيه، ولا مقدار ما ينفق منه، وإنما ترك ذلك لشعور المسلمين وكرمهم. وفي السنة الثانية من الهجرة ـ على المشهور ـ فرض مقدارها من كل نوع من أنواع المال، وبُيِّنَتْ بيانًا مُفَصَّلًا. • حكم مانعها: الزكاة من الفرائض التي أجمعت عليها الأمة واشتهرت شهرة جعلتها من ضروريات الدين، بحيث لو أنكر وجوبها أحد خرج عن الإسلام، وقتل كفرًا، إلا إذا كان حديث عهد بالإسلام، فإنه يعذر لجهله بأحكامه. أما من امتنع عن أدائها ـ مع اعتقاده وجوبها ـ فإنه يكون بامتناعه قد ارتكب كبيرة من الكبائر، دون أن يخرجه ذلك عن الإسلام، وعلى الحاكم أن يأخذها منه قهرا ويعزِّره، ويأخذ نصف ماله، عقوبة له. قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الزكاة: « ... وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ» (حسن رواه أبو داود). (مِنْ عَزْمَاتِ رَبِّنَا): أَيْ حُقُوقِهِ وَوَاجِبَاتِهِ. ولو امتنع قوم عن أدائها ـ مع اعتقادهم وجوبها ـ، وكانت لهم قوة ومنعة فإنهم يقاتَلون عليها حتى يعطوها؛ قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ

رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ». فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: «وَاللهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ». فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: «فَوَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ» (رواه مسلم). العِقال: حَبْلٌ تُثْنى به يد البعير إِلى ركبته فتُشَدُّ به. نَاظَرَ عُمَر أَبَا بَكْر - رضي الله عنه - وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أُمِرْت أَنْ أُقَاتِل النَّاس حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَه إِلَّا اللهُ، فَمَنْ قَالَ لَا إِلَه إِلَّا اللهُ فَقَدْ عَصَمَ نَفْسه وَمَاله»، وَكَانَ هَذَا مِنْ عُمَر - رضي الله عنه - تَعَلُّقًا بِظَاهِرِ الْكَلَام قَبْل أَنْ يَنْظُر فِي آخِره وَيَتَأَمَّل شَرَائِطه. فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْر - رضي الله عنه -: إِنَّ الزَّكَاة حَقّ الْمَال، يُرِيد أَنَّ الْقَضِيَّة قَدْ تَضَمَّنَتْ عِصْمَة دَم وَمَال مُعَلَّقَة بِإِيفَاءِ شَرَائِطهَا. وَالْحُكْم الْمُعَلَّق بِشَرْطَيْنِ لَا يَحْصُل بِأَحَدِهِمَا وَالْآخَر مَعْدُوم. ثُمَّ قَايَسَهُ بِالصَّلَاةِ وَرَدّ الزَّكَاة إِلَيْهَا، وَكَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْله دَلِيل عَلَى أَنَّ قِتَال الْمُمْتَنِع مِنْ الصَّلَاة كَانَ إِجْمَاعًا مِنْ الصَّحَابَة، فَلَمَّا اِسْتَقَرَّ عِنْد عُمَر صِحَّة رَأْي أَبِي بَكْر - رضي الله عنهما - وَبَانَ لَهُ صَوَابه تَابَعَهُ عَلَى قِتَال الْقَوْم. عَجَبْتُ لمعشرٍ صَلُّوا وصاموا ... ظواهرَ خشيةٍ وتُقًى كِذابَا وتلْفِيهِم حيالَ المالِ صُُمّا ... إِذا داعي الزكاةِ بهِم أهَابا لقد كتَموا نصيبَ اللهِ مِْنه ... كأنَّ اللهَ لم يُحْصِ النِّصابَا ومَنْ يَعْدِلْ بِحُبِّ اللهِ شيئًا ... كحُبِّ المالِ ضَلَّ هوىً وخابَا • فضائل الزكاة: * الزكاة هى أرفع عبادة مالية والصلاة أرفع عبادة بدنية فلذلك يقرن ربنا - عز وجل - بينهما دائمًا في الكتاب الكريم: قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة:110)

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:277). وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (المائدة:55). * وجعل الله - عز وجل - أخص صفات الأبرار الإحسان، ومظهر إحسانهم يتجلى في القيام من الليل، والاستغفار في السحر تعبدا لله وتقربا إليه، كما يتجلى في إعطاء الفقير حقه، رحمةً وحُنُوًا عليه، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}. (الذاريات:15 - 19). * والجماعة التي يباركها الله ويشملها برحمته، هي الجماعة التي تؤمن بالله، ويتولى بعضها بعضا بالنصر والحب، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتصل ما بينها وبين الله بالصلاة، وتقوي صلاتها ببعضها، بإيتاء الزكاة. قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (التوبة:71). * وجعل الله - عز وجل - إيتاء الزكاة غاية من غايات التمكين في الأرض، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج:41). * ولقد جعلها الله هى والصلاة فقط سببًا للأخوة في الدين، قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (التوبة:11).

* وهى من أوجب الواجبات بعد الصلاة قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (النور:56). وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (البينة:5). • التحذير من منع الزكاة: * بيَّن الله - عز وجل - أن تركها من سبيل الكافرين، قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} (فصلت:6 - 7). * وحَذَّر ربُنا - عز وجل - الذين يكنزون ولا يزكُون؛ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (التوبة (34:. *وتوعَّدهم بالعذاب الشديد؛ قال تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة:35) وعن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ: فَالْإِبِلُ؟ قَالَ: «وَلَا صَاحِبُ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا

مَرَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ». قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: «وَلَا صَاحِبُ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ، تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» (رواه مسلم) (بُطِحَ) قَالَ جَمَاعَة: مَعْنَاهُ: أُلْقِيَ عَلَى وَجْهه، قَالَ الْقَاضِي: قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَة لِلْبُخَارِيِّ «يُخْبَط وَجْهُهُ بِأَخْفَافِهَا»، قَالَ: وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْط الْبَطْح كَوْنه عَلَى الْوَجْه، وَإِنَّمَا هُوَ فِي اللُّغَة بِمَعْنَى الْبَسْط وَالْمَدّ، فَقَدْ يَكُون عَلَى وَجْهه، وَقَدْ يَكُون عَلَى ظَهْرِهِ. الْقَاع: الْمُسْتَوِي الْوَاسِع مِنْ الْأَرْض. وَالْقَرْقَر: الْمُسْتَوِي الْوَاسِع مِنْ الْأَرْض. الْعَقْصَاء: مُلْتَوِيَة الْقَرْنَيْنِ، وَالْجَلْحَاء: الَّتِي لَا قَرْن لَهَا، وَالْعَضْبَاء: الَّتِي اِنْكَسَرَ قَرْنهَا الدَّاخِل. (أَوْفَرَ مَا كَانَتْ): أَعْظَم مَا كَانَتْ، هَذَا لِلزِّيَادَةِ فِي عُقُوبَته بِكَثْرَتِهَا وَقُوَّتهَا وَكَمَال خَلْقهَا، فَتَكُون أَثْقَل فِي وَطْئِهَا، كَمَا أَنَّ ذَوَات الْقُرُون تَكُون بِقُرُونِهَا لِيَكُونَ أَنْكَى وَأَصْوَبَ لِطَعْنِهَا وَنَطْحهَا. (لَا يَفْقِد مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا):الفصيل: ولد الناقة أو البقرة بعد فطامه وفصله عن أمه. (وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا) الظِّلْف لِلْبَقَرِ وَالْغَنَم وَالظِّبَاء، وَهُوَ الْمُنْشَقّ مِنْ الْقَوَائِم، وَالْخُفّ لِلْبَعِيرِ، وَالْقَدَم لِلْآدَمِيِّ، وَالْحَافِر لِلْفَرَسِ وَالْبَغْل وَالْحِمَار. أهلكتَ نفسكَ يا ظلومُ ... بما ادَّخَرْتَ مِن المظالمْ أظَنَنْتَ أنّ المالَ لا ... يفْنَى، وأنَّ المُلكَ دائِمْ هيهاتَ، أنتَ وما جمَعْتَ ... كِلاكُما أحلامُ نائمْ تَفْنَى، ويَفْنَى، والذِي ... يَبْقَى الخَطايَا والمآثِمْ

* وقال - عز وجل -: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران:180). * وبيَّن حبيبنا - صلى الله عليه وآله وسلم - معنى هذه الآية؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ ـ يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ ـ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ» ثُمَّ تَلَا {لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الْآيَةَ». (رواه البخاري). (مُثَّلَ لَهُ) أَيْ صَوَّرَ. قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: خَصَّ الْجَنْب وَالْجَبِين وَالظَّهْر لِأَنَّهُ جَمَعَ الْمَال، وَلَمْ يَصْرِفهُ فِي حَقّه، لِتَحْصِيلِ الْجَاه وَالتَّنَعُّم بِالْمَطَاعِمِ وَالْمَلَابِس، أَوْ لِأَنَّهُ أَعْرَضَ عَنْ الْفَقِير وَوَلَّاهُ ظَهْره، أَوْ لِأَنَّهَا أَشْرَف الْأَعْضَاء الظَّاهِرَة لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْأَعْضَاء الرَّئِيسَة. وَقِيلَ: الْمُرَاد بِهَا الْجِهَات الْأَرْبَع الَّتِي هِيَ مُقَدَّم الْبَدَن وَمُؤَخَّره وَجَنْبَاهُ، نَسْأَل اللهَ السَّلَامَة. وَالْمُرَاد بِالشُّجَاعِ: الْحَيَّة الذَّكَر، وَقِيلَ الَّذِي يَقُوم عَلَى ذَنَبه وَيُوَاثِب الْفَارِس. والْأَقْرَع مِنْ الْحَيَّات الَّذِي اِبْيَضَّ رَأْسه مِنْ السُّمّ. (لَهُ زَبِيبَتَانِ) هُمَا النُّكْتَتَانِ السَّوْدَاوَانِ فَوْق عَيْنَيْهِ، وَقِيلَ: نُقْطَتَانِ يَكْتَنِفَانِ فَاهُ، وَقِيلَ: لَحْمَتَانِ عَلَى رَأْسه مِثْل الْقَرْنَيْنِ، وَقِيلَ: نَابَانِ يَخْرُجَانِ مِنْ فِيهِ. (يُطَوَّقهُ) أَيْ يَصِير لَهُ ذَلِكَ الثُّعْبَان طَوْقًا. (ثُمَّ يَأْخُذ بِلِهْزِمَتَيْهِ) فَاعِل يَأْخُذ هُوَ الشُّجَاع، وَالْمَأْخُوذ يَد صَاحِب الْمَال كَمَا ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَفِرُّ مِنْهُ صَاحِبُهُ، فَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ» قَالَ: «وَاللهِ لَنْ يَزَالَ يَطْلُبُهُ حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ فَيُلْقِمَهَا فَاهُ». (رواه البخاري). قَوْله: (بِلِهْزِمَتَيْهِ): الشِّدْقَيْنِ، وقيل: هُمَا الْعَظْمَانِ الْفَائِتَانِ فِي اللَّحْيَيْنِ تَحْت الْأُذُنَيْنِ. وقيل: هُمَا لَحْم الْخَدَّيْنِ الَّذِي يَتَحَرَّك إِذَا أَكَلَ الْإِنْسَان. (ثُمَّ يَقُول: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ) فَائِدَة هَذَا الْقَوْل الْحَسْرَة وَالزِّيَادَة فِي التَّعْذِيب حَيْثُ لَا يَنْفَعهُ النَّدَم، وَفِيهِ نَوْع مِنْ التَّهَكُّم. * والرسول الحبيب - صلى الله عليه وآله وسلم - بيَّن مكانة الزكاة في الإسلام فعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ» (رواه البخاري ومسلم) * وكان الصحابة يبايعونه - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها؛ فعن جَرِير - رضي الله عنه - قال: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» (رواه البخاري) * وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ: لَا يَجْعَلُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ، فَأَسْهُمُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ، وَلَا يَتَوَلَّى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إِلَّا جَعَلَهُ اللهُ - عز وجل - مَعَهُمْ، وَالرَّابِعَةُ لَوْ حَلَفْتُ عَلَيْهَا رَجَوْتُ أَنْ لَا آثَمَ: لَا يَسْتُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (صحيح رواه الإمام أحمد). * وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ـ وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ـ: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» (حسن رواه ابن ماجه). (الْفَاحِشَةُ) أي الزنا. (الْأَوْجَاعُ) أي الأمراض. (السِّنِين) أي الفقر. (الْقَطْرَ) أي المطر. (بَأْسَهُمْ) أي حربهم.

* وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (رواه البخاري). (خَلَفًا):أَيْ: عِوَضًا. وَأَمَّا الدُّعَاءُ بِالتَّلَفِ فَيَحْتَمِلُ تَلَفَ ذَلِكَ الْمَالِ بِعَيْنِهِ، أَوْ تَلَفَ نَفْسِ صَاحِبِ الْمَالِ. • تصدق وأخرج الزكاة قبل أن تُرَدَّ عليك: عن حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «تَصَدَّقُوا فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ يَمْشِي الرَّجُلُ بِصَدَقَتِهِ فَلَا يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا، يَقُولُ الرَّجُلُ: لَوْ جِئْتَ بِهَا بِالْأَمْسِ لَقَبِلْتُهَا، فَأَمَّا الْيَوْمَ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا» (رواه البخاري). (يَقُولُ الرَّجُل) أَيْ الَّذِي يُرِيدُ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يُعْطِيَهُ إِيَّاهَا. • فضائل الصدقة: عن عَبْد اللهِ بن مسعود - رضي الله عنه - أن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِهِ؟»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ. قَالَ: «فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ، وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّرَ». (رواه البخاري) قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم - (أَيّكُمْ مَال وَارِثه أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ مَاله) أَيْ أَنَّ الَّذِي يَخْلُفهُ الْإِنْسَان مِنْ الْمَال وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْحَال مَنْسُوبًا إِلَيْهِ فَإِنَّهُ بِاعْتِبَارِ اِنْتِقَاله إِلَى وَارِثه يَكُون مَنْسُوبًا لِلْوَارِثِ، فَنِسْبَته لِلْمَالِكِ فِي حَيَاته حَقِيقِيَّة وَنِسْبَته لِلْوَارِثِ فِي حَيَاة الْمُوَرِّث مَجَازِيَّة وَمِنْ بَعْد مَوْته حَقِيقِيَّة. قَوْله (فَإِنَّ مَاله مَا قَدَّمَ) أَيْ هُوَ الَّذِي يُضَاف إِلَيْهِ فِي الْحَيَاة وَبَعْد الْمَوْت بِخِلَافِ الْمَال الَّذِي يَخْلُفهُ. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ـ وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ـ فَإِنَّ َ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» (رواه البخاري ومسلم). (بِعَدْل تَمْرَة) أَيْ بِقِيمَتِهَا (فَلُوَّهُ) الفَلُوّ: هُوَ الْمُهْرُ.

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صَنَائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِِعَ السُّوءِ، وصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمْرِ». (حسن رواه الطبراني). ولم أرَ مِثْلَ جَمْعِ المالِ دَاءً ولا مِثْلَ البخيلِ به مُصابَا فلا تقتلْكَ شهوتُهُ وزِنْها كما تَزِنُ الطعامَ أو الشَّرابَا وخذْ لبَنِيكَ والأيامِ ذُخْرًا ... وأعطِ اللهَ حِصَّتَه احْتِسَابَا وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا يُخْرِجُ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَفُكَّ عَنْهَا لَحْيَيْ سَبْعِينَ شَيْطَانًا». (صحيح رواه الإمام أحمد). فإن الصدقة على وجهها إنما يقصد بها ابتغاء مرضاة الله والشياطين بصدد منع الإنسان من نيل هذه الدرجة العظمى فلا يزالون يأبون في صده عن ذلك، والنفس لهم على الإنسان ظهيرة؛ لأن المال شقيق الروح، فإذا بذله في سبيل الله فإنما يكون برغمهم جميعًا، ولهذا كان ذلك أقوى دليلًا على استقامته وصدق نيته ونصوح طويته. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» (رواه مسلم). (مَا نَقَصَتْ صَدَقَة مِنْ مَال) ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَارَك فِيهِ، وَيَدْفَع عَنْهُ الْمَضَرَّات، فَيَنْجَبِر نَقْص الصُّورَة بِالْبَرَكَةِ الْخَفِيَّة، وَهَذَا مُدْرَك بِالْحِسِّ وَالْعَادَة. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ نَقَصَتْ صُورَته كَانَ فِي الثَّوَاب الْمُرَتَّب عَلَيْهِ جَبْر لِنَقْصِهِ، وَزِيَادَة إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة. (وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا) فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْح سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوب، وَزَادَ عِزّه وَإِكْرَامه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد أَجْره فِي الْآخِرَة وَعِزّه هُنَاكَ. (وَمَا تَوَاضَعَ أَحَد للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ). فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ:

أَحَدهمَا: يَرْفَعهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُثْبِتُ لَهُ بِتَوَاضُعِهِ فِي الْقُلُوب مَنْزِلَة، وَيَرْفَعهُ اللهُ عِنْد النَّاس، وَيُجِلّ مَكَانه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد ثَوَابه فِي الْآخِرَة، وَرَفْعه فِيهَا بِتَوَاضُعِهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْعُلَمَاء: وَهَذِهِ الْأَوْجُه فِي الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة مَوْجُودَة فِي الْعَادَة مَعْرُوفَة، وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد الْوَجْهَيْنِ مَعًا فِي جَمِيعهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. • أفضل الصدقة: عن أبى أَبُو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ، تَخْشَى الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَى، وَلَا تُمْهِلُ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا، وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ» (رواه البخاري ومسلم). مَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الشُّحّ غَالِب فِي حَال الصِّحَّة، فَإِذَا شَحّ فِيهَا وَتَصَدَّقَ كَانَ أَصْدَقَ فِي نِيَّته وَأَعْظَم لِأَجْرِهِ، بِخِلَافِ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْت وَآيَسَ مِنْ الْحَيَاة وَرَأَى مَصِير الْمَال لِغَيْرِهِ فَإِنَّ صَدَقَته حِينَئِذٍ نَاقِصَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالَة الصِّحَّة، وَالشُّحّ رَجَاء الْبَقَاء وَخَوْف الْفَقْر. (وَتَأْمُل الْغِنَى). بِضَمِّ الْمِيم أَيْ تَطْمَع بِهِ. وَمَعْنَى (بَلَغَتْ الْحُلْقُوم): بَلَغَتْ الرُّوح، وَالْمُرَاد قَارَبَتْ بُلُوغ الْحُلْقُوم إِذْ لَوْ بَلَغَتْهُ حَقِيقَةً لَمْ تَصِحّ وَصِيَّته وَلَا صَدَقَته وَلَا شَيْء مِنْ تَصَرُّفَاته بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاء. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَقَدْ كَانَ لِفُلَانٍ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْمُرَاد بِهِ الْوَارِث، وَقَالَ غَيْره: الْمُرَاد بِهِ سَبَقَ الْقَضَاء بِهِ لِلْمُوصَى لَهُ، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ عَنْ تَصَرُّفه وَكَمَال مِلْكِهِ وَاسْتِقْلَاله بِمَا شَاءَ مِنْ التَّصَرُّف فَلَيْسَ لَهُ فِي وَصِيَّته كَبِير ثَوَاب بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَدَقَة الصَّحِيح الشَّحِيح.

42 - الامتحانات، كل منا ممتحن

42 - الامتحانات، كل منا ممتحن (¬1) • شتان بين اهتمام واهتمام، وبين امتحان وامتحان: يخوض أبناؤنا وإخواننا ذكورًا وإناثًا غمار الامتحانات الدراسية، وبهذه المناسبة تجد القلوب وَجِلَة، والأذهان قلقة، والآذان تتلقف الأخبار عن الامتحان، قلَّمَا تجد منزلا لم تُعلَن فيه حالات الطوارئ، كل أب ينتظر بصبر وعلى مضض نتيجة ابنه في هذا الامتحان؛ لأنه يرجو له النجاح، تراه يدعو الله بتوفيقه وتسديده وتثبيته، يعده ويمنِّيه إن نجح، ويتوعده ويحذره ويهدده إن رسب، وهذا إحساس من الأحاسيس التي فُطِر عليها البشر. لكن أيها الأب الحنون وقد اهتممت بابنك هذا الاهتمام، فأنت به الآن مشغول، تسعى وتصول وتجول، تهتم به وترعى، وتحس أنك عنه مسؤول، فهلا كان الاهتمام بآخرته كالاهتمام بدنياه، هلاَّ كان الاهتمام به بعد موته كالاهتمام براحته في حياته، علمك وما علمك، مسئوليتك وما مسئوليتك، أحاطت بعلوم الدنيا فأهملت الأخرى الباقية، شُغِلتَ به في حياته، وأهملتَه بعد مماته، بنيتَ له بيتَ الطين والإسمنت في دنياه، وحرمْتَه بيت اللؤلؤ والياقوت والمرجان في أخراه. نظرتك وما نظرتك، طموحك، أمَلُك، غاية مُنَاكَ أن يكون طبيبًا أو مهندسًا أو طيارًا، ويا الله كل الأماني دنيوية! السعي والجد للفانية مع إهمال الباقية، بعض الناس تأهبوا واستعدوا وعملوا على تربية أبناءهم أجسادًا وعقولا، وأهملوا تربية القلوب التي بها يحيون ويسعدون، أو بها يشقون. هذا هو الواقع، وها هي الأدلة على ما نقول أيها الأب الحنون. ¬

_ (¬1) هذه الخطبة مقتبسة بتصرف من محاضرة للشيخ علي القرني بعنوان (كل منا ممتحن)، ورسالة للدكتور ناصر العمر بعنوان (امتحان القلوب).

هَبْ أنّ ابنه تأخر في نومه عن وقت الامتحان، ما حالته؟ ما شعوره؟ ألا يسابق الزمن ليلحق الامتحان؟ ألا ينام بعدها بنصف عين لكيلا يفوته الامتحان؟ كأن الجواب يقول: بلى. هل كان شعوره حين نام عن صلاة الفجر كشعوره حين نام عن امتحانه؟ ألا يسأله كل يوم عن امتحانه: ماذا عمل؟ وبماذا أجاب؟ وعسى أن يكون الجواب صحيحًا، فهل سأله عن أمر دينه يوما ما؟ ألا يضيق صدره ويعلو همُّه حين تعلم أن ابنه قصَّر في الإجابة؟ فهل ضاق صدره حين قصَّر في سنن دينه وواجباته؟ فما عساك فاعل أيها الأب الحنون في امتحان ليس له دور ثان، ولا إعادة؟ فقط نجاح أو رسوب، والرسوب معناه الإقامة في النار أبد الآبدين، معناه الخسران المبين، والعذاب المهين، ماذا تغني عنه شهادته ومركزه وماله إذا أُوتيَ كتابه بشماله، ثم صاح بأعلى صوته {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} (القيامة:25 - 29). ما أغنى عني مركزي، ما أغنى عني سلطاني، ما أغنى عني علمي الدنيوي وشهادتي. كل ذلك هَلَك واندَثَر، هلك عني سلطاني {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} (القيامة:30 - 31)، خسارة ورسوب، وأي خسارة، وأي رسوب، تكون في الدنيا طبيبًا أو مهندِسًا أو مُدرِّسًا، أما الآخرة فمؤمن وكافر، فريقان؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير. لا نقول: أهملوا أبناءكم، لا والله، بل نقول: إن الآخرة هي أولى بالاهتمام، وأجدر بالسعي، وأحق بالعمل. أيها الأحبة مَن مِنا حرص على جلب مربٍّ لابنه يعلمه القرآن ويدارسه السُّنَّة، مَن مِنا أعطى لابنه جائزة يوم حفظ جزءًا من القرآن، أو تعلَّم حديثًا لخير بني الإنسان - صلى الله عليه وآله وسلم -.فماذا كانت نتيجة إهمالنا لأولادنا؟ النتيجة أن اتجه شبابنا إلى الملاعب يوم نادى المنادي: «حي على الصلاة، حي على الفلاح». النتيجة أنْ حلّ محل المصحف مجلة، ومحل السواك سيجارة.

أيها الآباء وأنتم تعدون أبناءكم للامتحان اتقوا الله فيهم، اعلموا وعلموهم أن سلعة الله أغلى وأعلى. علِّموهم أن الامتحان والنجاح بقَصْر النفس على ما يرضي الله، علموهم أن السعادة في تقوى الله، واعلموا أنتم أنه لن ينصرف أحد من الموقف وله عند أحد مَظْلَمَة. يفرح ابنك أن يجد عندك مظلمة، تفرح زوجتك أن تجد عندك مظلمة، يأتي ابنك يقف يحاجّك بين يدي الله قائلا: يا رب سل أبي لِمَ ضيعني عن العمل لما يرضيك، ورباني كالبهيمة، ما يكون جوابك أيها الأب الحنون؟ أَعِدَّ للسؤالِ جوابًا. إن ابنًا بنيناه جسدًا حَرِيٌّ بنا أن نربي عقله وقلبه، ونهتم بحياته بعد موته، وأول خطوة إلى ذلك أن نصلح أنفسنا؛ ففي صلاحنا وبصلاحنا تكون استقامتهم، ورعاية الله لهم، قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} (الكهف:82). وثانيها: أن نجعل التربية الإسلامية غاية وهدفًا، لا مانع من تعلُّم العلوم الدنيوية، ولكن ليس على حساب الاهتمام بالآخرة، {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص:77).فيا عبد الله اتقِ الله في رعيَّتك؛ فأنت عنهم مسئول أمام الله. اتق الله أن يستأمنك الله عليهم فتشرع لهم أبواب الفتن؛ من أفلام وأجهزة خبيثة عديدة، ومجلات فاتنة صفيقة. يا عبد الله يوم تهتم هذا الاهتمام المادي بابنك يصبح ابنك مركِّزًا كل همِّه في ثوبه ومسكنه ومأكله ومشربه وسيارته. جزاك الله خيرًا على اهتمامك به ماديًا، لكن ماذا فعلت لتؤنسه في وحدته، إذا ما دفنته في التراب ما أنت صانع بشهادته؟ قد يرسب الآن في مادة أو مادتين، قد ينجح فيهما غدًا أو بعد غد، والمجال مفتوح للتعويض، لكن لا تعويض في الآخرة. يا عبد الله يوم غدٍ ليس مضمونًا، قد تسعى وتتعب وتزرع فلا تحصد، قد تدرس وتختبر فلا تدرك النتيجة، أما وقد بلغتك الرسالة فقد وجب الامتحان ووجبت النتيجة.

يا أيها الأب الحنون أدعوك إلى التأمل في وصية لقمان لابنه الذي يحبه، ويفتديه بالغالي والنفيس. هل أوصاه بدنيا؟ هل أوصاه بزخرف؟ لا، بل دعاه لما يحييه حياة طيبة، وينجيه من العذاب الأليم، نهاه أن يشرك بالله {إنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمُ عَظِيمٌ} (لقمان:13). وأخبره أن الله محيط بكل شيء، لا يعجزه شيء. ودلَّه على ما ينجيه من الله؛ ألا هو الهرب منه إليه - عز وجل - بإقامة الصلاة، بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، بصبر على ما يصيبه من جرَّاء ذلك، ثم دلَّه على مكارم الأخلاق التي تسمو بها نفسه، ويعلو بها مركزه. فلا تكبُّر على الخلق، ولا ذلة مع قصد في المشية، وخفض في الصوت {إنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوتُ الحَمِيرِ} (لقمان:19). تلك يا عبد الله جملة وصية الأب الحنون حقًا. فهلا رجعنا إلى القرآن، فقرأنا هذه الوصايا، فعملنا بهذه الوصية مع ابنائنا؟ هل أوصيناهم ببعضها أو بها جميعها؟!! • الدنيا دار امتحان: أخبر تعالى أنه جعل الدنيا دارًا فانية مُزيَّنة بزينة زائلة. وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار، فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (الكهف:7).وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ» (رواه مسلم). ويقول الله - عز وجل -: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا *إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (الإنسان:1 - 3). يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئًا يذكر لحقارته وضعفه، فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}؟ ثم بين ذلك فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أي: أخلاط. والمشج والمشيج: الشيء الخَليط، بعضه في بعض. {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} يعني: ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا

واختلطا، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولون إلى لون. {نَبْتَلِيهِ} أي: نختبره. {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} أي: جعلنا له سمعًا وبصرًا يتمكن بهما من الطاعة والمعصية. {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر. {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} فهو في ذلك إما شقي وإما سعيد، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» (رواه مسلم). • الأولاد امتحان: قال الله - عز وجل -: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيم} (الأنفال:28). أي: اختبار وامتحان منه لكم؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها، أو تشتغلون بها عنه، وتعتاضون بها منه؟ {وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم لا يغني عنك شيئًا، والله، سبحانه، هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة، ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن الْوَلَد مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ مَجْهَلَةٌ مَحْزَنَةٌ». (صحيح رواه الحاكم والطبراني). (إن الْوَلَد مَبْخَلَةٌ) بالمال عن إنفاقه في وجوه القُرَب خوف فقره. (مَجْبَنَةٌ) يجبن أباه عن الهجرة والجهاد خشية ضيعته. (مَجْهَلَةٌ) لكونه يحمل على ترك الرحلة في طلب العلم والجد في تحصيله لاهتمامه بتحصيل المال له. (مَحْزَنَةٌ) يحمل أبويه على كثرة الحزن لكونه إن مرض حَزنَا وإن طلب شيئًا لا قدرة لهما عليه حَزنَا، فأكثر ما يفوت أبويه من الفلاح والصلاح بسببه، فإن شب وعق فذلك الحزن الدائم والهم السرمدي اللازم. فالحذر على الولد يكسب هذه الأوصاف ويحدث هذه الأخلاق، فكأنه أشار إلى التحذير من النكول عن الجهاد والنفقة، وطلب العلم بسبب الأولاد. • الناس بعضهم لبعض فتنة وامتحان: قال الله - عز وجل -: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي: اختبرنا بعضكم ببعض، وبلونا بعضكم ببعض، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي؛ فالرسول فتنة للمرسَل إليهم

واختبار للمطيعين من العاصين، والرسل فتناهم بدعوة الخلق، والغَنِى فتنة للفقير والفقير فتنة للغَنِي، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار، دار الفتن والابتلاء والاختبار. والقصد من تلك الفتنة {أَتَصْبِرُونَ} فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة؟ {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} يعلم أحوالكم، ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. • الشر والخير فتنة وامتحان: قال الله - عز وجل -: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الأنبياء:35). {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وهذا يشمل سائر نفوس الخلائق، وإن هذا كأس لا بد من شربه وإن طال بالعبد المدى، وعمّر سنين، ولكن الله تعالى أوجد عباده في الدنيا، وأمرهم، ونهاهم، وابتلاهم بالخير والشر، بالغنى والفقر، والعز والذل، والحياة والموت، فتنة منه تعالى ليبلوهم أيهم أحسن عملا، ومن يفتتن عند مواقع الفتن ومن ينجو، {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجازيكم بأعمالكم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}. • عباد الله كلنا في امتحان: فبين راسب وناجح، والمادة هي لا إله إلا الله، محمد رسول الله، بين عامل بمقتضاها قائم بأركانها وشروطها وواجباتها، قالها موقنا محبًا منقادًا مستسلمًا، صدَّقها قلبه، وعملت جوارحه بها، فهو الناجح، وأي نجاح! وآخر قالها بلسانه وما صدقها بالعمل، فهو الراسب المنافق. وآخر لم ينطقها، فإلى جهنم وبئس القرار. • الأسئلة تترد صباح مساء: هل صليت وصمت لله يا عبد الله؟ هل أطعت الله ورسوله؟ هل تحب الخير وأهله؟ هذه أسئلة، أسئلة تتردد على مسامعكم، هل تبغض الشر وأهله؟ هل تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ هل تحب للناس ما تحب لنفسك؟ هل سلِمَتْ أعراض المسلمين من لسانك؟ هل يطمئن قلبك بذكر الله؟ هل يتعلق قلبك بالله في الشدة

والرَّخاء؟ هل نزّهْتَ أذنَكَ عن سماع ما يغضب الله؟ هل غضَضْتَ بصرك عن محارم الله؟ هل غضبت لله؟ هل أحببت في الله؟ هل أبغضت في الله؟ هل أعطيت لله، ومنعت لله؟ هل استسلمت لأمر الله؟ هل استسلمت لأمره يوم يأمرك بالحجاب فحجبت أهل بيتك امتثالًا لقول الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ} (الأحزاب:59)؟ الأسئلة كثيرة تترد عليك صباح مساء، إن كان الجواب بنعم فأنت من الناجحين الفائزين بإذن رب العالمين، وإن كان الجواب بلا فَعُدْ إلى الله ما دمت في زمن الإمهال، واندم واقلع وردّ المظالم لأهلها قبل وضع الميزان، وتطاير الصحف، وعبور الصراط يوم ينسى الخليل خليله، والصاحب صاحبه، وكلٌ يقول: نفسي نفسي، والرسل تقول: اللهم سلِّم سلِّم. أيها المُمْتَحَن ـ وكلنا مُمْتحَن ـ تذكر وقوفك لاستلام النتيجة، يوم يوقف العبد بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه يطرب ويفرح ويقول: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَه} وإن خفَّ ميزانه فذاك هو الرسوب. عندها يقول: {يَا لَيتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَه}. مَثِّلْ وقُوفَكَ يومَ العرضِ عُريانَا ... مُستوحشًا قَلِقَ الأحشاءِ حَيْراناَ النارُ تَلْهَبُ مِن غيظٍ ومِن حَنَقٍ ... على العصاةِ وربُّ العرش غَضبانَا اقرَأ كتابَك يا عبدُ على مَهَلٍ ... فهل ترى فيه حَرفًا غيْرَ مَا كانَا فلما قرأتَ ولم تُنكِرْ قراءَتَه ... إقرارَ مَن عَرفَ الأشياءَ عِرفانَا نادَى الجليلُ خُذوهُ يا ملائكَتَي ... وامْضُوا بعَبدٍ عَصَى ـ للنَّارِ ـ عطشَانَا المشركونَ غدًا في النار تَلتهبُ ... والمؤمنونَ بدارِ الخلدِ سُكَانَا بأي لسان نُجيب حين نُسْأل عن عملنا القبيح؟ بأي لسان تجيب يوم تُسأل يا أيها الممتحَن عن عمرك فيما أفنيته وشبابك فيما أبليته ومالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته وعن علمك ماذا عملت فيه؟ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» (حسن رواه الترمذي). (فِيمَا أَفْنَاهُ) أَيْ صَرَفَهُ (وَعَنْ شَبَابِهِ) أَيْ قُوَّتِهِ فِي وَسَطِ عُمُرِهِ (فِيمَا أَبْلَاهُ) أَيْ ضَيَّعَهُ. والْمُرَادُ سُؤَالُهُ عَنْ قُوَّتِهِ وَزَمَانِهِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى أَقْوَى الْعِبَادَةِ. (وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اِكْتَسَبَهُ) أَيْ أَمِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ؟ (وَفِيمَا أَنْفَقَهُ) أَيْ فِي طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ. بأي قدم ٍتقف غدًا بين يديه بأي عين تنظر إليه بأي قلب تجيب عليه؟ فكيف بك إن شقيت؟ فيا أيها الممتحنون غدًا ـ وكلنا ممتحن ـ لمثل هذه المواقف فأعدوا وتذكروا بامتحان الدنيا وقوفكم بين يدي المولى إذ تعدوا وأعدوا وتزودوا وخير الزاد التقوى. وليكن لسان حال كل منا لنفسه: ستَنْدَمُ إنْ رَحَلتَ بغيرِ زادِ ... وتشقَى إذْ يُناديكَ المنادِي فما لكَ ليسَ يعملُ فيكَ وعظٌ ... ولا زجرٌ كأنكَ مِن جمادِ فتُبْ عَمّا جَنَيْتَ وأنتَ حَيٌّ ... وكُنْ مُتَيَقِّظًا قبلَ الرُّقَادِ تَيَّقظْ للذِي لا بُدَّ مِنْهُ ... فإنّ الموتَ ميقاتُ العبادِ أتَرْضَى أنْ تكونَ رفيقَ قومٍ ... لهم زادٌ وأنتَ بغيرِ زادِ جدّ واتعبْ أيها الطالب وانصب فوالذي نفسي بيده لن تجد طعم الراحة إلا عند أول قدم تضعها في الجنة. فانتبِهْ مِن رَقْدَةِ ... غَفْلةٍ فالعمرُ قليلْ واطْرِحْ (سوفَ) و (حتَّى) ... فإنهم داءٌ دخِيلْ • امتحان القلوب: قلوبنا ـ أيها الأخوة ـ ممتحنة صباح مساء، تمتحن في كل لحظة من لحظات حياتنا، فهل نحن منتبهون لهذا، فغلطة واحدة قد تودي بحياة هذا القلب، وتحبط ذلك

العمل. قال - عز وجل -: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (آل عمران: 154). وقال - سبحانه وتعالى -: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (سورة الحجرات، الآية: 3). فمن هؤلاء الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى؟ هذه الآية نزلت في الصحابيين الجليلين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب - رضي الله عنهما - عندما رفعا صوتيهما عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد روى البخاري عن عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قال: «قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرْ الْقَعْقَاعَ بْنَ مَعْبَدِ بْنِ زُرَارَةَ، قَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرْ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا} حَتَّى انْقَضَتْ». نعم! لا مجاملة في هذا الدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} ثم ماذا؟ {أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (سورة الحجرات، الآية: 2). سبحان الله! موقف في نظر الكثيرين لا يستحق. من الذي يهدَّد في هذه الآية؟ أبو بكر الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْر» (رواه البخاري ومسلم). وعمر - رضي الله عنه - الذي قال فيه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا لَقِيَكَ الشَّيْطَانُ قَطُّ سَالِكًا فَجًّا إِلَّا سَلَكَ فَجًّا غَيْرَ فَجِّكَ» (رواه البخاري ومسلم). لكنهما - رضي الله عنهما - تابا، وأنابا، واستغفرا، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَكَانَ عُمَرُ بَعْدُ إِذَا حَدَّثَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِحَدِيثٍ حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ» (رواه البخاري). (السِّرَار) أَيْ الْكَلَام السِّرّ، (كَأَخِي السِّرَار) كَصَاحِبِ السِّرَار، وَالْمَعْنَى كَالْمُنَاجَى سِرًّا. (لَا يَسْمَعهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمهُ) أَيْ يَخْفِض صَوْته وَيُبَالِغ حَتَّى يَحْتَاج إِلَى اِسْتِفْهَامه عَنْ بَعْض كَلَامه.

هنا خرجت النتيجة: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} (الحجرات: 3). أي أخلص قلوبهم للتقوى، حتى أصبحت لا تصلح إلا له. والمراد أخلصها للتقوى، أي جعلها خالصة لأجل التقوى، أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق، كأن القلوب خلصت ملكًا للتقوى. موقف واحد يسير في نظرنا لرجلين هما أفضل أمة محمد، - صلى الله عليه وآله وسلم - وامتحان يسير لغفلةٍ بدرت منهما. ولكن! ماذا نقول عن أحوالنا؟ كم من امتحان رسبنا فيه ونحن لا نشعر. وهنا سرّ بديع في هذه الآية: {وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} (الحجرات: 2). لأنه قد يحبط عمل الإنسان وهو لا يشعر، فهو لا يتصور أن يحبط عمله بذلك العمل، أو لا يلقي لعمله بالًا. وكم من عملٍ أو كلمةٍ أودت بصاحبها وهو لا يشعر. وإذا كان رفع الصوت عند رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم - كاد أن يحبط عمل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فما سيكون حال من يرفع صوته فوق صوت الحق؟ أولئك الذين يقدمون شريعة البشر على شريعة الله، أولئك الذين يعادون ويوالون في سبيل الشيطان. ولنتأمل هذا الحديث العظيم الذي رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا؛ فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ» (رواه مسلم). وَمَعْنَى (تُعْرَض) أَنَّهَا تُلْصَق بِعَرْضِ الْقُلُوب أَيْ جَانِبهَا كَمَا يُلْصَق الْحَصِير بِجَنْبِ النَّائِم، وَيُؤَثِّر فِيهِ شِدَّة اِلْتِصَاقهَا بِهِ. وَمَعْنَى (عُودًا عُودًا) أَيْ تُعَاد وَتُكَرَّر شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. (كَالْحَصِيرِ) أَيْ كَمَا يُنْسَج الْحَصِير عُودًا عُودًا وَشَظِيَّة بَعْد أُخْرَى. وَذَلِكَ أَنَّ نَاسِج الْحَصِير عِنْد الْعَرَب كُلَّمَا صَنَعَ عُودًا أَخَذَ آخَر وَنَسَجَهُ فَشَبَّهَ عَرَضَ الْفِتَن عَلَى الْقُلُوب وَاحِدَة بَعْد أُخْرَى بِعَرْضِ قُضْبَان الْحَصِير عَلَى صَانِعهَا وَاحِدًا بَعْد وَاحِد.

مَعْنَى (أُشْرِبَهَا) دَخَلَتْ فِيهِ دُخُولًا تَامًّا وَأُلْزِمَهَا وَحَلَّتْ مِنْهُ مَحَلّ الشَّرَاب. وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبهمْ الْعِجْل} أَيْ حُبّ الْعِجْل، وَمِنْهُ قَوْلهمْ: ثَوْب مُشْرَب بِحُمْرَةٍ: أَيْ خَالَطَتْهُ الْحُمْرَة مُخَالَطَة لَا اِنْفِكَاك لَهَا. وَمَعْنَى (نُكِتَ نُكْتَة): نُقِطَ نُقْطَة. وَمَعْنَى (أَنْكَرَهَا) رَدَّهَا. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَتَّى تَصِير عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَض مِثْل الصَّفَا فَلَا تَضُرّهُ فِتْنَة مَا دَامَتْ السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالْآخَر أَسْوَد مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِف مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِر مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ». لَيْسَ تَشْبِيهه بِالصَّفَا بَيَانًا لِبَيَاضِهِ لَكِنْ صِفَة أُخْرَى لِشِدَّتِهِ عَلَى عَقْد الْإِيمَان وَسَلَامَته مِنْ الْخَلَل، وَأَنَّ الْفِتَن لَمْ تَلْصَق بِهِ، وَلَمْ تُؤَثِّر فِيهِ كَالصَّفَا وَهُوَ الْحَجْر الْأَمْلَس الَّذِي لَا يَعْلَق بِهِ شَيْء. (مُرْبَادًّا) أي: شديد السواد في بياض. ولَيْسَ قَوْله (كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا) تَشْبِيهًا لِسَوَاده بَلْ هُوَ وَصْف آخَر مِنْ أَوْصَافه بِأَنَّهُ قُلِبَ وَنُكِّسَ حَتَّى لَا يَعْلَق بِهِ خَيْر وَلَا حِكْمَة. وَمِثْله بِالْكُوزِ الْمُجَخِّي وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: «لَا يَعْرِف مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِر مُنْكَرًا». شَبَّهَ الْقَلْب الَّذِي لَا يَعِي خَيْرًا بِالْكُوزِ الْمُنْحَرِف الَّذِي لَا يَثْبُت الْمَاء فِيهِ. ومَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الرَّجُل إِذَا تَبِعَ هَوَاهُ وَارْتَكَبَ الْمَعَاصِي دَخَلَ قَلْبه بِكُلِّ مَعْصِيَة يَتَعَاطَاهَا ظُلْمَة، وَإِذَا صَارَ كَذَلِكَ اُفْتُتِنَ وَزَالَ عَنْهُ نُور الْإِسْلَام. وَالْقَلْب مِثْل الْكُوز فَإِذَا اِنْكَبَّ اِنْصَبَّ مَا فِيهِ وَلَمْ يَدْخُلهُ شَيْء بَعْد ذَلِكَ. وفي الحديث التعبير بالفعل المضارع (تُعْرَضُ)، وهو هنا يدل على استمرار البلاء والامتحان: كما أن هذه الفتن لا تأتي دفعة واحدة، وإنما شيئًا فشيئًا حتى يصبح القلب أسود ـ والعياذ بالله ـ أو يسلمه الله فينجح في الامتحان فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض.

وهذه الدعوة الربانية للمؤمنين متضمنة تحذيرًا مخيفًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (سورة الأنفال، الآية: 24). يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه. وقوله - عز وجل -: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية الله - عز وجل - ولزوم طاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - على الدوام. ثم حذر عن عدم الاستجابة لله وللرسول فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن ترُدُّوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء. فليُكثِر العبدُ من قول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك. نسأل الله - سبحانه وتعالى- أن يوفقنا ويعيننا على الاستجابة لله وللرسول، وأن يحي قلوبنا، وألا يحال بيننا وبين قلوبنا بمعاصينا، إنه ولي ذلك والقادر عليه. • مواطن امتحان القلوب: كثير من الناس يتصور أن القلب إنما يمتحن بالشهوات والمعاصي، ولكن هذا من المواطن التي يمتحن فيها القلب، والله - عز وجل - يقول: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35).فمِن المواطن التي يمتحن فيها القلب: 1 - العبادة: فالعبادة مثل: الصلاة والصدقة والصيام والحج وغيرها موضع امتحان وابتلاء، ففيها ابتلاء في تحقيق الإخلاص لله، وعدم مراعاة الناس بها، يقول الله - عز وجل -: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} (الفرقان: 23).

وفي العبادة ابتلاء بتصحيحها، وأدائها كما جاءت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وابتلاء بتحقيق التقوى فيها، يقول - عز وجل - {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} (الحج: 37). وهذا جزء يسير من الابتلاء الذي يحدث في هذا الموطن. 2 - العلم: وهذا موطن خصب لامتحان القلوب، وكم فشل أناس في هذا الامتحان، فطائفة طلبوا العلم لله، ثم تحولت النية إلى الشهوة الخفية، حب الرئاسة، الشهرة، التصدر، التعالي على الأقران، المراء والجدل، القدح في الخصوم .. وغيرها. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يَعْنِي رِيحَهَا. (صحيح رواه أبو داود). (مِمَّا يُبْتَغَى): أَيْ مِمَّا يُطْلَب. (إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ): أَيْ لِيَنَالَ وَيُحَصِّل بِذَلِكَ الْعِلْم. (عَرَضًا) أَيْ حَظًّا: مَالًا أَوْ جَاهًا. (عَرْف الْجَنَّة):رَائِحَتها، مُبَالَغَة فِي تَحْرِيم الْجَنَّة لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَجِد رِيح الشَّيْء لَا يَتَنَاوَلهُ قَطْعًا، وَهَذَا مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقّ أَنَّهُ لَا يَدْخُل أَوَّلًا ثُمَّ أَمْره إِلَى اللهِ تَعَالَى كَأَمْرِ أَصْحَاب الذُّنُوب كُلّهمْ إِذَا مَاتَ عَلَى الْإِيمَان. 3 - الدعوة: وهذا المجال من أشد مجالات امتحان القلوب. وأصحاب الدعوة المشتغلون بها من أشد الناس معاناة لهذا الامتحان. فشهوة توجيه الآخرين، والشهرة، والتعالي على الخلق كلها امتحانات قد تجعل الدعوة وبالا على صاحبها ـ والعياذ بالله ـ وفتنة النكوص عن الدعوة، أو توجيهها إلى غير رضَى الله داء عضال. 4 - الخلاف والجدل: وهو مرتع من مراتع الشيطان. ومزرعة من مزارعه، ولذلك نبهنا الله جل وعلا إلى الأسلوب الأمثل في المجادلة فقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (النحل: 125). ولأنه قد يكون الباعث للجدال هو الانتصار للحق، ثم يتحول إلى انتصار للنفس، وهنا مكمن الداء قال - عز وجل -:

{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (العنكبوت: 46). 5 - الشهوات: وإنما أخرتُها قصدًا؛ لأن كثيرًا من الناس يُقْصِرُ امتحان القلوب على الشهوات: المال، والمركب، والنساء، والبنين، والبنيان، وهذه لا شك أنها فتنة وابتلاء {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} (التغابن: 15). وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا لِيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ». (رواه مسلم). 6 - الشبهات والفتن: وهما مجال رحب من مجالات مرض القلب وسبب لكثير من العلل. 7 - الرياسة والمناصب: فكم تغيرت من نفوس، وتباغضت من قلوب بسبب هذا الموطن الذي قل أن يسلم منه أحد، فالحسد والغيرة والحقد والغل أمراض مبعثها هذا الأمر في غالب الأحوال والأحيان. 8 - النسب والحسب والجاه: وهو أرض مثمرة لأمراض القلوب وأدوائه، فالتعالى والتفاخر والكبر وغيرها من أمراض القلوب تنطلق من هذه الأرض، ففيها تنبت ومنها تثمر. • أخيار امتحنوا فنجحوا: عباد الله ولنا في سِيَر الأخيار عظات وعِبَر، لقد امتحنوا فنجحوا وتفوَّقوا. فتشبهوا بهم إن لم تكونوا مثلهم ... إن التشبُّه بالكرام فلاح امتحن إبراهيم - عليه السلام - بذبح ابنه إسماعيل فنجح، وامتحن إسماعيل - عليه السلام - بأمر أبيه فنجح {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} (الصافات:102 - 107)

وامتُحِن يوسف - عليه السلام - بامرأة العزيز فنجح {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:23 - 24).وفضل السجن على معصية الله - عز وجل - {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (يوسف:33). • اختبار للصحابة في الولاء والبراء: ابتُليَ الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - بأهليهم من أهل الشرك يصدون عن سبيل الله - عز وجل -، وجدوهم أمامهم في ساحة القتال فماذا كانت النتيجة. لقد قتل أبو عبيدة أباه عبد الله بن الجراح، وهمَّ الصديق أبو بكر بقتل ولده عبد الرحمن حين دعا ابنه للمبارزة يوم بدر، وقتل مصعب بن عمير أخاه عبيد بن عمير، وقتل عمر بن الخطاب خاله العاص بن هشام يوم بدر، وقتل حمزة وعلي وعبيدة والحارث أقرباءهم وعشيرتهم، متجردين من علائق الدم والقرابة إلى آصرة الدين والعقيدة. وكان هذا أبلغ ما ارتقى إليه تصور الروابط والقيم في ميزان الله. قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة المجادلة: 22). • عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - الخليفة الفقير: وها هو عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - يعود يومًا بعد صلاة العشاء إلى داره ـ وهو خليفة المسلمين، ميزانية الأمة بين يديه ـ يلمح بناته الصغار، فيسلم عليهن كعادته، وكنّ يسارعْن إلى تقبيله، لكنهن هَرَبْنَ هذه المرة، وهنَّ يغطين أفواههن، فقال لزوجته: ما شأنهن؟ قالت: «لم يكن لديهن ما يتعشَّيْن به سوى عدس وبصل، فكرِهْن أن تشم من أفواههن رائحة البصل». فبكى وأجهش بالبكاء وهو يئن تحت وطأة المسؤولية، ميزانية الأمَّة تحت يديه، يقول: «يا بُنَيَّاتي أيَنْفَعُكُنَّ أنْ تَتَعَشَّيْنَ أطيبَ الطعام والشراب، وتكتَسِينَ أجمل الثياب من مال الأمة، ثم يُؤمر بأبيكُنَّ إلى النار؟». قلن: «لا، لا»، ثم اندفعن يبكين. فلا والله لا تسمع في البيت إلا الحنين والأنين. * لما حلَّت بعمر بن عبد العزيز سكرات الموت - رحمه الله - دخل عليه مسلمة بن عبد الملك ـ خال أولاده ـ وقال: «لقد تركت أبناءك فقراء جوعى فأوْصِ بهم إلىَّ أو إلى أحد من أهل بيتك»، وكان مُضَّجعًا قال: أسندوني، ثم صرخ: «والله ما منعت أبنائي حقًا لهم، والله لن أعطيهم ما ليس لهم، أما أن أوصي بهم إليك أو إلى غيرك فلا، إن وصيَّي وولِيِّي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، إن بنىَّ أحد رجلين؛ إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب، وإما رجل مكبٌّ على المعاصي فوالله لم أكن لأقويه على معصية الله». ثم طلب جميع أولاده وهم بضعة عشر فاجتمعوا، فنظر إليهم، ثم ذرفت عيناه دموعًا حرَّى، وقال: «أفديكم بنفسي أيها الفتية الذين تركتهم فقراء لا شيء لهم، يا بني إن أباكم خُيِّر بين أن تستغنوا ويدخل النار، أو تفتقروا ويدخل الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار، إن وليَّي فيكم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين، ثم تلا قوله تعالي: «تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا للذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوا فِي الأرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}». فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام ثم قال: «انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم». قال الراوي: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، لأن عمر وكلَ ولدَه إلى الله - عز وجل -.

ها هي رسالة امتحان، تأتي لصلاح الدين من أحد المسلمين على لسان المسجد الأقصى الأسير في يد الصليبين يوم ذاك، واليهود اليوم مع الصليبيين، تقول الرسالة وهي امتحان واختبار لصلاح الدين: يا أيها الملكُ الذي ... لمعالمِ الصلبانِ نَكَّسْ جاءَتْ إليكَ ظِلامَةٌ ... تسعَى مِن البيتِ المقدسْ كلّ المساجِدِ طُهِّرَتْ ... وأنا ـ على شرفي ـ مُنَجَّسْ امتحان لصلاح الدين قام صلاح الدين فيه يصوم نهاره، ويقوم ليله، ويشحذ هِمَمَ الأمة الإسلامية، ويصدر أوامره ألا يضحك أحد، ولا يمزح أحد، ولا يفكر أحد إلا باسترداد بيت المقدس، ويقودها حملة لا تبقي ولا تذر بعد استعداد جيد للامتحان، فيدمر الصليب، ويحرر فلسطين والمسجد الأقصى؛ ليكون قدوة لمن يريد استعادة الأقصى السليب. ثم ماذا بعد صلاح الدين أيها الأخوة؟ استيقظ اليهود يوم نِمْنَا فدنَّسوه، ودخلوا إلى قبر صلاح الدين ورفسوه، وقالوا: ها قد عدنا يا صلاح الدين، فبعد صلاح الدين مؤامرات على أقصانا، بغى اليهود، ولكنّا أحسنَّا الصياح. إن أسئلة الامتحان التي قُدِّمت لصلاح الدين، أسئلة الآن تُقدَّم لنا، لكن صلاح الدين حلَّ الأسئلة بنفسه، ونحن أحلنا حلَّ الأسئلة إلى غيرنا، فكان ما كان. سقَوْا فِلَسْطينَ أحلامًا منوِّمَة ... وأطعموها سخيفَ القولِ والخُطَبِ لكن يا عباد الله: لا يأس، لا قنوط، سَتُحلُّ الأسئلة، وستبقى طائفة على الحق؛ لتقود الأمة ليعود الأقصى، وتعود فلسطين والعاقبة للمتقين. لا يَأسَ يسكُنُنَا فإنْ كَبُرَ الأسَى ... وبغَي فإنّ يقينَ قلبِي أكبرُ في منهجِ الرحمنِ أمْنُ مخاوفي ... وإليه في ليلِ الشدائدِ نجأرُ

43 - عاشوراء وشهر الله المحرم

43 - عاشوراء وشهر الله المحرّم • عظموا ما عظّم الله: إن شهر الله المحرّم شهر عظيم مبارك وهو أول شهور السنّة الهجرية وأحد الأشهر الحُرُم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} الآية (36) سورة التوبة وقال النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: « .. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» (رواه البخاري). والمحرم سمي بذلك لكونه شهرًا محرما وتأكيدا لتحريمه. وقوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها. وعن ابن عباس في قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} في كلهن ثم اختص من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حراما وعظّم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم. وقال قتادة في قوله - عز وجل - {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}: «إن الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرًا من الظلم فيما سواها. وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا ولكن الله يعظّم من أمره ما يشاء». وقال أيضًا: «إن الله اصطفى صفايا من خلقه: اصطفى من الملائكة رسلًا، ومن الناس رسلًا، واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظّم الله، فإنما تُعَظّم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل». • فضل الإكثار من صيام النافلة في شهر محرّم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ» (رواه مسلم). (شَهْرُ اللهِ) إضافة الشّهر إلى الله إضافة تعظيم، قال القاري: الظاهر أن المراد جميع شهر المحرّم. ولكن قد ثبت أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يصم شهرًا كاملا قطّ غير رمضان فيُحمل هذا الحديث على الترغيب في الإكثار من الصّيام في شهر محرم لا صومه كله. وقد ثبت إكثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الصوم في شعبان ولعلّ لم يوحَ إليه بفضل المحرّم إلا في آخر الحياة قبل التمكّن من صومه. • عاشوراء في التاريخ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - مَا قَالَ قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (رواه البخاري). وفي رواية للبخاري أيضا: «فقال لأصحابه: أنْتُمْ أحَقّ بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصُومُوا». أي نحنُ أثبت وأقرب لمُتابعة مُوسى - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم، فإنّا مُوافقُون لهُ في أُصُول الدّين، ومُصدّقُون لكتابه، وهم مُخالفُون لهُما بالتّغيير والتّحريف. ومن العبر التي نأخذها من هذا الحديث أن رابطة الإيمان تتخطى حواجز الزمان والمكان فالمسلمون شرع لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صيام هذا اليوم شكرًا لله - عز وجل - على نجاة موسى - عليه السلام - وأتباعه المؤمنين. ومن العبر أن أيام النصر لا تعاد ذكراها بالمعاصي والكفران بل بالشكران لله صاحب الفضل أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا , والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يتخذ يوم عاشوراء عيدًا بل إنه صامه وأمر بصيامه ولو كان عيدًا لما صامه لأن الأعياد لا يجوز صيامها , بل صامه شكرًا لله على إنجائه موسى ومن معه وإهلاكه فرعون وجنوده.

ولا يجوز إحداث عيد لم يشرعه الله أو رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - فالأعياد كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ: «شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع» (اقتضاء الصراط المستقيم ص266). • كان صيام عاشوراء معروفًا في الجاهلية: إن صيام عاشوراء كان معروفًا حتى على أيّام الجاهلية قبل البعثة النبويّة فقد ثبت عن عائشة - رضي الله عنهما - قالت: «إن أهل الجاهلية كانوا يصومونه» (رواه مسلم) ولعل قريشًا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم - عليه السلام -. وقد ثبت أيضا أنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يصومه بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة فلما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يحتفلون به فسألهم عن السبب فأجابوه كما تقدّم في الحديث وأمر بمخالفتهم في اتّخاذه عيدًا والظاهر أن الباعث على الأمر بصومه محبة مخالفة اليهود حتى يصام ما يفطرون فيه لأن يوم العيد لا يصام. • كان صيام عاشوراء من التدرّج الحكيم في تشريع الصيام وفرضه: فعن عَائِشَةَ - رضي الله عنه - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْمُرُ بِصِيَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ» (رواه مسلم). وعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ فِي النَّاسِ مَنْ كَانَ لَمْ يَصُمْ فَلْيَصُمْ وَمَنْ كَانَ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ صِيَامَهُ إِلَى اللَّيْلِ (رواه مسلم). وعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ الَّتِي حَوْلَ الْمَدِينَةِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ». فَكُنَّا بَعْدَ ذَلِكَ نَصُومُهُ وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا الصِّغَارَ مِنْهُمْ إِنْ شَاءَ اللهُ وَنَذْهَبُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهَا إِيَّاهُ عِنْدَ الْإِفْطَارِ (رواه مسلم).

وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَأْمُرْنَا وَلَمْ يَنْهَنَا وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ» (رواه مسلم). وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - « ... أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَصَامَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ إِلَى رَمَضَانَ، مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَصَامَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ ثُمَّ إِنَّ اللهَ - عز وجل - فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ فَأَنْزَلَ اللهُ - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ... » (صحيح رواه الإمام أحمد). فانتقل الفرض من صيام عاشوراء إلى صيام رمضان فتُرِك وجوب صيام عاشوراء، أما استحبابه فباقٍ. • فضل صيام عاشوراء: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - مَا قَالَ: «مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلّا هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ» (رواه البخاري). ومعنى «يتحرى» أي يقصد صومه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه. وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، إنّي أحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التِي قَبْلَهُ» (رواه مسلم)، وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة والله ذو الفضل العظيم. • أي يوم هو عاشوراء وأي يوم تاسوعاء: عَاشُورَاءُ هُوَ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ الْمُحَرَّمِ وَتَاسُوعَاءُ هُوَ التَّاسِعُ مِنْهُ. • استحباب صيام تاسوعاء مع عاشوراء: عن عَبْدِ اللهِِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ» قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (رواه مسلم).

يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صام العاشر ونوى صيام التاسع. وعلى هذا فصيام عاشوراء على مراتب أدناها أن يصام وحده وفوقه أن يصام التاسع معه وكلّما كثر الصّيام في محرّم كان أفضل وأطيب. • الحكمة من استحباب صيام تاسوعاء: ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ أن الحِكْمَةِ في اسْتِحْبَابِ صَوْمِ تَاسُوعَاءَ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ. • حكم إفراد عاشوراء بالصيام: قال شيخ الإسلام: صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ وَلا يُكْرَهُ إفْرَادُهُ بِالصَّوْمِ. • صيام عاشوراء ماذا يكفّر؟ يَغْفِرُ ذُنُوبَهُ كُلَّهَا إلا الْكَبَائِرَ. فَإِنْ وَجَدَ مَا يُكَفِّرُهُ مِنْ الصَّغَائِرِ كَفَّرَهُ وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً كُتِبَتْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَرُفِعَتْ لَهُ بِهِ دَرَجَاتٌ، وَإِنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أَوْ كَبَائِرَ وَلَمْ يُصَادِفْ صَغَائِرَ رَجَوْنَا أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ الْكَبَائِرِ. • عدم الاغترار بثواب الصيام: يَغْتَرُّ بَعْضُ الْمَغْرُورِينَ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مِثْلِ صَوْمِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ: صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْعَامِ كُلِّهَا وَيَبْقَى صَوْمُ عَرَفَةَ زِيَادَةٌ فِي الْأَجْرِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ - رحمه الله -: «لَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَهِيَ إنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ فَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ لَا يَقْوَيَانِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ إلَّا مَعَ انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إلَيْهَا فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ. وَمِنْ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ طَاعَاتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَعَاصِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ وَلَا يَتَفَقَّدُ ذُنُوبَهُ وَإِذَا عَمِلَ طَاعَةً حَفِظَهَا وَاعْتَدَّ بِهَا، كَاَلَّذِي يَسْتَغْفِرُ اللهَ بِلِسَانِهِ أَوْ يُسَبِّحُ اللهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَغْتَابُ الْمُسْلِمِينَ وَيُمَزِّقُ أَعْرَاضَهُمْ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ طُولَ نَهَارِهِ، فَهَذَا أَبَدًا يَتَأَمَّلُ فِي فَضَائِلِ التَّسْبِيحَاتِ وَالتَّهْلِيلَاتِ وَلَا

يَلْتَفِتُ إلَى مَا وَرَدَ مِنْ عُقُوبَةِ الْمُغْتَابِينَ وَالْكَذَّابِينَ وَالنَّمَّامِينَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَذَلِكَ مَحْضُ غُرُورٍ». • صيام عاشوراء وعليه قضاء من رمضان: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ. فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى جَوَازِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لِكَوْنِ الْقَضَاءِ لا يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى الْجَوَازِ مَعَ الْكَرَاهَةِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ تَأْخِيرِ الْوَاجِبِ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إلَى حُرْمَةِ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ قَبْلَ قَضَاءِ رَمَضَانَ وَعَدَمِ صِحَّةِ التَّطَوُّعِ حِينَئِذٍ وَلَوْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ لِلْقَضَاءِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْدَأَ بِالْفَرْضِ حَتَّى يُقْضِيَهُ. فعلى المسلم أن يبادر إلى القضاء بعد رمضان ليتمكن من صيام عرفة وعاشوراء دون حرج. • بدع عاشوراء: 1ـ بدعة الحزن واتخاذ يوم عاشوراء مأتمًا: وهي بدعة أحدثها الشيعة في هذا اليوم، وهم طائفة جاهلة ظالمة، إما ملحدة منافقة، وإما ضالة غاوية، ومن مظاهر هذه البدعة النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب والتعزي بعزاء الجاهلية وسب الصحابة - رضي الله عنهم -، وإنشاد قصائد الحزن ورواية الأخبار التي فيها كذب كثير، والصدق فيها ليس فيه إلا تجديد الحزن والتعصب وإثارة الشحناء والحرب وإلقاء الفتن بين أهل الإسلام والتوسل بذلك إلى سَبّ السابقين الأولين وكثرة الكذب والفتن في الدنيا. ولم يُعرف في طوائف الإسلام أكثر كذبًا وفتنًا ومعاونة للكفار على أهل الإسلام من هذه الطائفة الضالة الغاوية، فإنهم شر من الخوارج المارقين. والذي أمر الله به ورسوله في المصيبة إذا كانت جديدة إنما هو الصبر والاحتساب والاسترجاع، كما قال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ *أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة:155 - 157). وعن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بٍدًعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ» (رواه البخاري ومسلم).، وقال: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ». (رواه مسلم). إن الشيعة أمة ليس لها عقل صريح، ولا نقل صحيح، ولا دين مقبول، ولا دنيا منصورة، بل هم من أعظم الطوائف كذبًا وجهلًا، ودينهم يُدخل على المسلمين كلَّ زنديق ومرتد، كما دخل فيه النصيرية والإسماعيلية وغيرهم، فإنهم يعمدون إلى خيار الأمة يعادونهم، وإلى أعداء الله من اليهود والنصارى والمشركين يوالونهم، ويعمدون إلى الصدق الظاهر المتواتر يدفعونه، وإلى الكذب المختلق الذي يُعلم فساده يقيمونه. 2ـ بدعة الفرح واتخاذ يوم عاشوراء عيدًا: وهي بدعة أحدثتها النواصب في هذا اليوم، ـ والنواصب طائفة من الخوارج يكفّرون علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ويفسقونه، ويتنقصون بحرمة أهل البيت ـ. ومن مظاهر اتخاذ يوم عاشوراء عيدًا: إظهار الفرح والسرور والاغتسال والتجمل والاكتحال والتطيب وإعداد المطاعم وذبح الذبائح والتوسعة على العيال إلى غير ذلك. ولم يرد في شيء من ذلك حديث صحيح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا عن أصحابه ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم، ولا روى أهل الكتب المعتمدة في ذلك شيئًا لا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا الصحابة ولا التابعين لا صحيحًا ولا ضعيفًا لا في كتب الصحيح ولا في السنن ولا المسانيد ولا يعرف شيء من هذه الأحاديث على عهد القرون الفاضلة. ولكن روى بعض المتأخرين في ذلك أحاديث مثل ما رووا أن «من اكتحل يوم عاشوراء لم يرمد من ذلك العام»، و «من اغتسل يوم عاشوراء لم يمرض ذلك العام» وأمثال ذلك.

ورووا فضائل في صلاة يوم عاشوراء ورووا أن في يوم عاشوراء توبة آدم واستواء السفينة على الجودي ورد يوسف على يعقوب وإنجاء إبراهيم من النار وفداء الذبيح بالكبش ونحو ذلك. ورووا في حديث موضوع مكذوب على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه: «من وسع على أهله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر السنة». ورواية هذا كله عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كذب. فلعل الذي قال هذا من أهل البدع الذين يبغضون عليًّا - رضي الله عنه - وأصحابه، ويريدون أن يقابلوا الشيعة بالكذب مقابلة الفاسد بالفاسد والبدعة بالبدعة. ولم يسن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا خلفاؤه الراشدون في يوم عاشوراء شيئًا من هذه الأمور لا شعائر الحزن والترح ولا شعائر السرور والفرح. ودين الإسلام مبني على أصلين: على أن لا نعبد إلا الله وأن نعبده بما شرع لا نعبده بالبدع، قال تعالى: {فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا} (الكهف:110)، فالعمل الصالح ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع المسنون ولهذا كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول في دعائه: «اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لأحد فيه شيئا». وقال ابن القيم: «أحاديث الاكتحال يوم عاشوراء والتزين والتوسعة والصلاة فيه وغير ذلك من فضائل لا يصح منها شيء، ولا حديث واحد، ولا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه شيء غير أحاديث صيامه، وما عداها فباطل». وأمثل ما فيها: «من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه سائر سنته»، قال الإمام أحمد: لا يصح هذا الحديث. وأما أحاديث الاكتحال والادهان والتطيب فمن وضع الكذابين، وقابلهم آخرون فاتخذوه يوم تألم وحزن، والطائفتان مبتدعتان خارجتان على السنة، وأهل السنة يفعلون فيه ما أمر به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

44 - استقبال رمضان يا باغي الخير أقبل

44 - استقبال رمضان (¬1) يا باغي الخير أقبِل قلتُ، والنّاسُ يرقبون هلالًا ... يشبه الخَيْطَ مِنْ نَحَافَةِ جِسْمِهْ: «مَنْ يَكنْ صائمًا فذا رمضانٌ ... خطّ بالنّور للورَى أوّلَ اسمِهْ» (خطّ بالنّور للورَى أوّلَ اسمِه: أي أن الهلال يشبه حرف الراء). رمضانُ يا خيرَ الشهورِ تحيةً ... تُفْضِي عليكَ مِن الجلالِ جَلالَا خُذْها يَفُوحُ عبيرُها مِن مُؤمِنٍ ... يبْغِي لك التعظيمَ والإجلالَا رمضانُ عُدْتَّ وهذه أوطانُنا ... عَمّ الفسادُ بها وزادَ وطالَا ضاعتْ مقاييسُ الفضيلةِ بيننا ... وتبدلَتْ أحوالُنا أوحَالَا اللهُ أكبرُ إنّ عيني قد رأتْ ... نورًا بآفاقِ السمَا يتلَالَا فلعله فجرُ العقيدةِ قد بَدَا ... يُحيِي النفوسَ ويبعثُ الآمالا ويُميطٌ عن هذِي القلوبِ قِناعَها ... فتعودُ تُرْسِلُ نورهَا أرسَالَا وتروحُ بالإسلامِ تكسِرُ قيدَها ... وتَفُكُ عن أعناقِها الأغْلَالَا وتردُّ للدنيا عدالةَ أحمدِ ... وتُعيدُ للإسلامِ تلكَ الحالَا إن حكمة الله - عز وجل - اقتضت أن يجعل هذه الدنيا مزرعةً للآخرة وميدانًا للتنافس وكان من فضله - عز وجل - على عباده وكرمه أن يجزي على القليل كثيرًا، ويضاعفَ الحساب ويجعلَ لعباده مواسم تعظم فيها هذه المضاعفة، فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرَّب فيها إلى مولاه بما أمكنه من وظائف الطاعات؛ عسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النار وما فيها من اللفحات. ¬

_ (¬1) ((هذه الخطبة والتي بعدها مقتبسة بتصرف من رسالة (بين يدَيْ رمضان) للشيخ محمد إسماعيل المقدم.

ومن أعظم هذه المواسم المباركة وأجَلّها شهرُ رمضان الذي أُنزل فيه القرآن المجيد، ولذا كان حريًا بالمؤمن أن يحسن الاستعداد لهذا القادم الكريم، ويتفقه في شروط ومستحبات، وآداب العبادات المرتبطة بهذا الموسم الحافل لئلا يفوته الخير العظيم ولا ينشغل بمفضول عن فاضل ولا بفاضل عما هو أفضل منه. • أخي المسلم: استحضر في قلبك الآن أحبَّ الناس إليك، وقد غاب عنك أحد عشر شهرًا وهَبْ أنك بُشِّرتَ بقدومه وعودته خلال أيام قلائل ... كيف تكون فرحتك بقدومه واستبشارك بقربه وبشاشتك للقائه؟ إن أول الآداب الشرعية بين يدي رمضان أن تتأهب لقدومه؛ إذ أن التأهب لشهر رمضان والاستعداد لقدومه من تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى القائل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32). يفرح المؤمنون بقدوم شهر رمضان ويستبشرون ويحمدون الله أن بلَّغهم إياه ويعقدون العزم على تعميره بالطاعات وزيادة الحسنات وهجر السيئات وأولئك يبشَّرون بقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} (يونس:58). إنّ محبة الأعمال الصالحة والاستبشار بها فرع عن محبة الله - عز وجل - قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} (التوبة:124) فترى المؤمنين متلهفين مشتاقين إلى رمضان، تحِنُّ قلوبهم إلى صوم نهاره، ومكابدة ليله بالقيام والتهجد بين يدي مولاهم، وتراهم يمهدون لاستقبال رمضان بصيام التطوع خاصة في شعبان. باع قوم من السلف جارية لهم لأحد الناس، فلما أقبل رمضان أخذ سيدها الجديد يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال رمضان ـ كما يصنع كثير من الناس اليوم ـ فلما رأت الجارية ذلك منهم قالت: «لماذا تصنعون ذلك؟»، قالوا:

«لاستقبال شهر رمضان»، فقالت: «وأنتم لا تصومون إلا في رمضان؟ والله لقد جئت من عند قوم السَّنَةُ عندهم كأنها كلَّها رمضان، لا حاجة لي فيكم، رُدُّوني إليهم»، ورجعت إلى سيدها الأول. سمع المؤمنون قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» (رواه مسلم)، فعلموا أن الامتناع عن الشهوات لله - عز وجل - في هذه الدنيا سبب لنيلها في الآخرة؛ كما أشار إلى ذلك مفهوم قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ «(متفق عليه) وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ» (متفق عليه)، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا للهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» (حسن رواه الترمذي). (مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ) أَيْ لُبْسَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ الْقِيمَةِ. (تَوَاضُعًا للهِ) أَيْ لَا لِيُقَالَ إِنَّهُ مُتَوَاضِعٌ أَوْ زَاهِدٌ وَنَحْوُهُ. (دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ) أَيْ يُشَهِّرُهُ وَيُنَادِيهِ. (مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ) أَيْ مِنْ أَيِّ حُلَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا الصَّائِمُونَ». (رواه البخاري). وفي رواية في الصحيحين: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ يَدْخُلُ مِنْهُ الصَّائِمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ يُقَالُ أَيْنَ الصَّائِمُونَ فَيَقُومُونَ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ فَإِذَا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ»، (رواه البخاري ومسلم) «مَنْ دَخَلَ فِيهِ شَرِبَ وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا» (صحيح رواه النسائي). وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أدْرَكَ أحَدَ وَالِدَيْهِ فَماَتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: يَا

مُحَمَّدُ، مَنْ أدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأدْخِلَ النَّارَ فَأبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَّلّ عَلَيْكَ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأبْعَدَهُ اللهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» (صحيح رواه الطبراني). فهل تعجب أخي المؤمن أن جبريل ملك الوحي يقول في هذا الحديث وفيما رواه مسلم «مَنْ أدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ ولَمْ يُغْفَرْ لَهُ بَاعَدَهُ اللهُ فِي النَّارِ» ثم يؤمِّن خليل الرحمن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم - على دعائه؟! وأي عجب ورمضان فرصة نادرة ثمينة فيها الرحمة والمغفرة ودواعيها متيسرة والأعوان عليها كثيرون وعوامل الفساد محدودة ومردة الشياطين مصفَّدون ولله عتقاء في كل ليلة وأبواب الجنة مفتحة، وأبواب النيران مغلقة فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن؟! ومن لم يكن أهلًا للمغفرة في هذا الموسم ففي أي وقت يتأهل لها، ومن خاض البحر اللجاج ولم يَطَّهَّرْ فماذا يطهره؟!. لقد بيَّن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم - اختلاف سعى الناس في الاستعداد لرمضان فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَظَلَّكُمْ شَهْرُكُمْ هَذَا، بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا مَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ شَهْرٌ قَطُّ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُ، وَمَا مَرَّ بِالْمُنَافِقِينَ شَهْرٌ قَطُّ أَشَرُّ لَهُمْ مِنْهُ، بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِنَّ اللهَ لَيَكْتُبُ أَجْرَهُ وَنَوَافِلَهُ، وَيَكْتُبُ إِصْرَهُ وَشَقَاءَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَذَاكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ الْقُوَّةَ مِنْ النَّفَقَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَيُعِدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ ابْتِغَاءَ غَفَلَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ فَهُوَ غُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِ يَغْتَنِمُهُ الْفَاجِرُ». (صحيح رواه الإمام أحمد). قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَذَاكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ الْقُوَّةَ مِنْ النَّفَقَةِ لِلْعِبَادَةِ» أي ما يقويهم عليها في رمضان كادخار القوت وما ينفقه على عياله فيه؛ لأن اشتغالهم بالعبادة فيه يمنعهم من تحصيل المعاش أو يقلل منه، فقيام الليل يستدعي النوم بالنهار، والاعتكاف يستدعي عدم الخروج من المسجد، وفي هذا تعطيل لأسباب المعاش، فهم يُحصلِّون القوت وما يلزم لأولادهم في رمضان قبل حلوله ليتفرغوا فيه للعبادة

والإقبال على الله - عز وجل - واجتناء ثمرة هذا الموسم، فهو خير لهم لما اكتسبوه فيه من الأجر العظيم والغفران العميم. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَيُعِدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ ابْتِغَاءَ غَفَلَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ» يعني أن المنافقين يستعدون في شهر رمضان للإيذاء بالمسلمين في دنياهم وتتبع عوراتهم أثناء غفلتهم عن الدنيا وانقطاعهم إلى الله - عز وجل -، فكأن ذلك غنيمة اغتنموها في نظرهم ولكنها في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم وحرمانهم من فضله العميم ـ نعوذ بالله من ذلك ـ وما أدق هذا الوصف في حق أهل الفن والإعلام الذين يغتنمون موسم الطاعة لصد الناس عن سبيل ربهم وفتنتهم عن طاعة الله - عز وجل -. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَهُوَ غُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِ» أي هو فوز للمؤمنين بالأجر والثواب الجزيل من غير مشقة كبيرة وذلك لما ينزله الله سبحانه على عباده من الرحمات ويفيضه عليهم من النفحات ويوسع عليهم من الأرزاق والخيرات ويجنبهم فيه من الزلات حيث يفتح لهم أبواب الجنان ويغلق عنهم أبواب النيران ويصفد فيه مردة الجان فهو للأمة ربيعها وللعبادات موسمها وللخيرات سوقها فلا شهر أفضل للمؤمن منه ولا عمل يفضل عما فيه فهو بحق غنيمة المؤمنين. وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَغْتَنِمُهُ الْفَاجِرُ» المعنى أن الله - عز وجل - ينتقم منه ويذيقه العذاب الأليم بسوء فعله وإيذائه المؤمنين وتتبع عوراتهم فيكون نقمة له، وأما المسلم فرمضان غنيمة له اكتسبه من صيام أيامه وقيام لياليه والانقطاع إلى الله - عز وجل - بالعبادة فيه. • ماذا يحدث في أول ليلة من رمضان؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِذَا كَانَتْ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَنَادَى مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَللهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ» (صحيح رواه ابن ماجه).

إن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن هديه - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الموضع المبادرة إلى تذكير الناس ببركات هذا الموسم العظيم فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: لأصحابه في أول ليلة من رمضان: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ للهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» (حسن رواه النسائي). • يا باغي الخير أقبل!!! كيف يستقبل باغي الخير رمضان؟ أولًا: بالمبادرة إلى التوبة الصادقة المستوفية لشروطها وكثرة الاستغفار قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} (التحريم:8). وممّا ينبغي أن يُستقبَل به شهر الصيام والقيام أيضًا، المبادرة بالتوبة من الذنوب صغيرها وكبيرها، والإكثار من الطاعات دُقِّها وجُلِّها، فهذا زمان التوبة. يا ذَا الذي ما كَفَاهُ الذنبُ في رجبٍ حتى عصَى ربَّه في شهرِ شعبان لقدْ أظَلّكَ شهرُ الصومِ بعدهُما فلا تُصًيِّرْه أيضًا شهرَ عصيان واتْلُ القرآنَ وسبِّح فيه مجتهدًا فإنه شهرُ تسبيحٍ وقرآن ثانيًا: بتعلم ما لابد منه من فقه الصيام أحكامه وآدابه والعبادات المرتبطة برمضان من اعتكاف وعمرة وزكاة فِطر وغيرها قال رسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ». (صحيح رواه ابن ماجه). ثالثًا: عقد العزم الصادق والهمة العالية على تعمير رمضان بالأعمال الصالحة قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} (محمد:21) وقال - عز وجل -: {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً َ} (التوبة:46)، وتحري أفضل الأعمال فيه وأعظمها أجرًا. رابعًا: استحضار أن رمضان كما وصفه الله - عز وجل - أيام معدودات، سرعان ما يولي، فهو موسم فاضل، ولكنه سريع الرحيل، واستحضار أن المشقة الناشئة عن الاجتهاد في العبادة تذهب أيضًا، ويبقى الأجر، وشَرْحُ الصدر، فإن فرط الإنسان ذهبت ساعات لهوه وغفلته، وبقيت تبعاتها وأوزارها.

خامسًا: الاجتهاد في حفظ الأذكار والأدعية المطلقة منها والموظفة، خصوصًا الوظائف المتعلقة برمضان، استدعاءً للخشوع وحضور القلب، واغتنامًا لأوقات إجابة الدعاء في رمضان، والاستعانة على ذلك بدعاء: «اللهم أعِنِّي على ذكرِك، وشُكرِك، وحُسنِ عبادتِك». سادسًا: الاستكثار من الأعمال الصالحات، فإن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن ذلك: (1) الإكثار من الصيام في شعبان: استعدادًا لرمضان، فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما - قالت: «مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ وَمَا رَأَيْتُهُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» (رواه مسلم). ويُنهى عن تخصيص النصف الثاني من شعبان بالصيام لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أنّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِذَا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فَلَا تَصُومُوا حتى حَتَّى يَكُونَ رَمَضَانُ» (رواه الإمام أحمد وغيره وصححه الألباني)، أمّا من صام في أوّل الشهر فلا جناح عليه أن يصوم نصفه الثاني بَعضَه أو كلّه، وكذلك من كانت له عادة صيام صامها، كيومي الاثنين والخميس من كلّ أسبوع، فيصومهما ولا حَرج. ولا يجوز للصائم أن يتقدّم رمضان بصيام يومٍ أو يومَين لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَقَدَّمُوا رَمَضَانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ» (رواه مسلم). ولهذا النهي حِكَمٌ جليلةٌ منها: الاحتياط لرمضان لئلا يُزاد فيه ما ليس منه، ومنها الفصل بين صيام الفرض والنفل لأن جنس الفصل بين النوافل والفرائض مشروع، كما في النهي عن وصل صلاة مفروضة بصلاةِ نافلةٍ حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، ومنها التقوي على صيام رمضان، فإن مواصلة الصوم قد تضعف عن صيام الفرض. (2) تلاوة القرآن الكريم: فإن رمضان هو شهر القرآن فينبغي أن يكثر العبد المسلم من تلاوته وحفظه، وتدبره، وعرضه على من أقرأ منه.

كان جبريل يدارس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - القرآن في رمضان، وعارضه في عام وفاته مرتين (رواه البخاري ومسلم)، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ {الم} حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ». (صحيح رواه الترمذي). وكان قتادة يختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وكان الزهري إذا دخل رمضان يفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، ويقبل على تلاوة المصحف. وكان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على قراءة القرآن. وقال الزهري: «إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن، وإطعام الطعام». (3) قيام رمضان: فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُرَغِّبُ فِى قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنٍْ ذَنْبِهِ» (رواه البخاري ومسلم). (4) الصدقة: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» (رواه البخاري ومسلم). ومن صور الصدقة إطعام الطعام، وتفطير الصُوّام، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا» (صحيح رواه الترمذي)، فإن عجز عن عَشائه فطَّره على تمرة أو شربة ماء أو لبن، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (رواه البخاري ومسلم). وعن عليّ - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا». فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: لِمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَامَ، وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَدَامَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى للهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ» (حسن رواه أحمد والترمذي). (غُرَفًا) جَمْعُ غُرْفَةٍ، أَيْ عَلَالِيَّ فِي غَايَةٍ مِنْ اللَّطَافَةِ وَنِهَايَةٍ مِنْ الصَّفَاءِ وَالنَّظَافَةِ (تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا) لِكَوْنِهَا شَفَّافَةً لَا تَحْجُبُ مَا وَرَاءَهَا. (لِمَنْ أَطَابَ الْكَلَام):الْمَعْنَى لِمَنْ لَهُ خُلُقٌ حَسَنٌ مَعَ الْأَنَامِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، فَيَكُونُ مِنْ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا. الْمَوْصُوفِينَ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}. (وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ) لِلْعِيَالِ وَالْفُقَرَاءِ وَالْأَضْيَافِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (وَأَدَامَ الصِّيَامَ) أَيْ أَكْثَرَ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ بِحَيْثُ تَابَعَ بَعْضَهَا بَعْضًا وَلَا يَقْطَعُهَا رَأْسًا، قَالَهُ اِبْنُ الْمَلَكِ. وَقِيلَ أَقَلُّهُ أَنْ يَصُومَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَفِيهِ وَفِيمَا قَبْلَهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {بِمَا صَبَرُوا} صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصَّوْمِ (وَالنَّاسُ) أَيْ غَالِبُهُمْ (نِيَامٌ) جَمْعُ نَائِمٍ أَوْ غَافِلُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ لَا رِيَاءَ يَشُوبُ عَمَلَهُ وَلَا شُهُودَ غَيْرُ اللهِ، إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} الْمُنْبِئُ وَصْفُهُمْ بِذَلِكَ عَنْ أَنَّهُمْ فِي غَايَةٍ مِنْ الْإِخْلَاصِ لله. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَفْشِ السَّلَامَ، وَأَطِبْ الْكَلَامَ، وَصِلْ الْأَرْحَامَ، وَقُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلْ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» (صحيح رواه أحمد والحاكم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صَنَائِعُ الَمعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِ تُطْفِيءُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فٍي العُمْرِ». (حسن رواه الطبراني). وكان كثير من السلف يؤثر بفطوره وهو صائم، منهم عبد الله بن عمر، وداود الطائي، ومالك بن دينار، وأحمد بن حنبل، وكان ابن عمر لا يفطر إلا مع اليتامى والمساكين، وربما علم أن أهله قد ردوهم عنه، فلم يفطر في تلك الليلة.

وكان من السلف من يطعهم إخوانه الطعام وهو صائم، ويجلس يخدمهم ويروحهم، منهم الحسن وابن المبارك، وقال أبو السوار العدوي: «كان رجال من بني عدي يصلون في هذا المسجد ما أفطر أحد منهم على طعام قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع الناس وأكل الناس معه». قال الإمام الماوردي - رحمه الله -: «ويستحب للرجل أن يوسع على عياله في شهر رمضان، وأن يحسن إلى أرحامه وجيرانه، لا سيما في العشر الأواخر منه». وإذا دُعي المسلم الصائم عليه أن يجيب الدعوة، لأن من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وآله وسلم -، وينبغي عليه أن يعتقد جازمًا أن ذلك لا يضيع شيئًا من حسناته، ولا ينقص شيئًا من أجره. (5) المكث في المسجد بعد صلاة الفجر: فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا صلى الغداة جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس. (رواه مسلم). عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ». (صحيح رواه الترمذي). (الْغَدَاةَ):الصبح (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) أَيْ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْإِشْرَاقِ وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةِ الضُّحَى. (كَانَتْ) أَيْ الْمَثُوبَةُ. (قَالَ) أَيْ أَنَسٌسدد خطاكم. (قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ») صِفَةٌ لِحَجَّةٍ وَعُمَرَةٍ كَرَّرَهَا ثَلَاثًا لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: أَعَادَ الْقَوْلَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ التَّأْكِيدَ بِالتَّمَامِ وَتَكْرَارِهِ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ.

فعلى المرء أن يجمع همته ليغتنم هذا الزمان الشريف، ولا يضيره انصراف أكثر الناس عن هذه السُّنَّة، بل الحازم ينظر في أمر الدين إلى من هو فوقه، ومن هو أنشط منه {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26). وقد يُحرم المرء من هذه السُّنَّة الجليلة لإفراطه في السهر أو السمر بعد العشاء. (6) الاعتكاف: فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يومًا (رواه البخاري) .. (7) العمرة: فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ لِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ سِنَانٍ: «مَا مَنَعَكِ أَنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا؟». قَالَتْ: «نَاضِحَانِ كَانَا لِأَبِي فُلَانٍ ـ زَوْجِهَا ـ حَجَّ هُوَ وَابْنُهُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَكَانَ الْآخَرُ يَسْقِي عَلَيْهِ غُلَامُنَا؟». قَالَ: «فَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً». وفي رواية: «فَعُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي». (رواه مسلم). (الناضح: الدابة يُسْتَقَى عليها). ومما ثبت في فضائل العمرة: قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّ الْمُتَابَعَةَ بَيْنَهُمَا تَنْفِي الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ». (صحيح رواه ابن ماجه). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا». (صحيح رواه الإمام أحمد). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَأَحْصَاهُ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، وَلَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً». (صحيح رواه الترمذي). (أُسْبُوعًا: أي سبعة أشواط). (8) تحرِّي ليلة القدر: قال - عز وجل -: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} (القدر:1 - 3).

وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِر لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». (رواه البخاري). وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يتحرى ليلة القدر، ويأمر أصحابه بتحريها، وكان يعتكف لذلك، وكان يوقظ أهله في ليالي العشر رجاء أن يدركوها. وعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهما - قالت: قلتُ: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: «قُولِي: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي». (صحيح رواه الترمذي وابن ماجه). ويستحب أن يتحرى ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان، خصوصًا الليالي الوتر منها، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْتَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأوَاخِرِ فِي الوِتْرِ» (رواه البخاري ومسلم)، ورجح بعض العلماء أنها ليلة السابع والعشرين. (9) الإكثار من النوافل بعد الفرائض: كالسُّنن القبلية والبعدية، وصلاة التسبيح، والضحى، والذكر والاستغفار، والدعاء خصوصًا في أوقات الإجابة، وعند الإفطار، وفي ثلث الليل الآخر، وفي الأسحار، وساعة الإجابة يوم الجمعة. (10) المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد: والاجتهاد في تطبيق قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - «مَنْ صَلَّى للهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ». (حسن رواه الترمذي). واعلم أن النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يأذن في آخر الأمر للأعمى الذي جاء يطلب الرخصة في ترك صلاة الجماعة فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكمقَالَ: أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - رَجُلٌ أَعْمَى فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنَّهُ لَيْسَ لِى قَائِدٌ يَقُودُنِى إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَأَلَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّىَ فِى بَيْتِهِ فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ فَقَالَ: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاَةِ؟». فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَأَجِبْ». (رواه مسلم). وعَنِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ سدد خطاكم أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّى رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ، شَاسِعُ الدَّارِ، وَلِى قَائِدٌ لاَ يُلاَئِمُنِى، فَهَلْ لِى رُخْصَةٌ أَنْ أُصَلِّىَ فِى بَيْتِى؟

قَال: «هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ». قَالَ نَعَمْ. قَالَ «لاَ أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً». (رواه أبو داود وصححه الألباني). (ضَرِير الْبَصَر): أَيْ أَعْمَى. (شَاسِع الدَّار): أَيْ بَعِيد الدَّار. (وَلِي قَائِد): الْقَائِد هُوَ الَّذِي يُمْسِك يَد الْأَعْمَى وَيَأْخُذهَا وَيَذْهَب بِهِ حَيْثُ شَاءَ وَيَجُرّهُ. (لَا يُلَائِمنِي):أَيْ لَا يُوَافِقنِي وَلَا يُسَاعِدنِي. (هَلْ تَسْمَع النِّدَاء): أَيْ الْإِعْلَام وَالتَّأْذِين بِالصَّلَاةِ. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَفِي هَذَا دَلِيل عَلَى أَنَّ حُضُور الْجَمَاعَة وَاجِب وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ نَدْبًا لَكَانَ أَوْلَى مَنْ يَسَعهُ التَّخَلُّف عَنْهَا أَهْل الضَّرَر وَالضَّعْف، وَمَنْ كَانَ فِي مِثْل حَال اِبْن أُمّ مَكْتُوم. وَكَانَ عَطَاء بْن أَبِي رَبَاح يَقُول: لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْق الله فِي الْحَضَر وَالْقَرْيَة رُخْصَة إِذَا سَمِعَ النِّدَاء فِي أَنْ يَدَع الصَّلَاة جَمَاعَة. وَكَانَ أَبُو ثَوْر يُوجِب حُضُور الْجَمَاعَة: وَاحْتَجَّ هُوَ وَغَيْره بِأَنَّ الله - عز وجل - أَمَرَ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَة فِي صَلَاة الْخَوْف وَلَمْ يَعْذُر فِي تَرْكهَا فَعُقِلَ أَنَّهَا فِي حَال الْأَمْن أَوْجَب. وقد عدّ بعض العلماء من الكبائر ترك الجماعة فيصلي وحده من غير عذر. ويُخشَى والعياذ بالله من عدم قبول صلاة تارك الجماعة فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ فَلَمْ يَأْتِهِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ إِلَّا مِنْ عُذْرٍ». (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). قال السندي في حاشيته على (سنن ابن ماجه): «وَظَاهِر هَذَا الْحَدِيث أَنَّ الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد الَّذِي سَمِعَ نِدَاءَهُ فَرْض لِصِحَّةِ الصَّلَاة حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا بَطَلَتْ صَلَاته». وَذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن من قال من الأئمة إن صلاة الجماعة وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ تَنَازَعُوا فِيمَا إذَا صَلَّى مُنْفَرِدًا لِغَيْرِ عُذْرٍ هَلْ تَصِحُّ صَلَاتُهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ. وَالثَّانِي تَصِحُّ مَعَ إثْمِهِ بِالتَّرْكِ.

45 - استقبال رمضان يا باغي الشر ... أقصر!!

45 - استقبال رمضان يا باغي الشر ... أقصر!! غدًا يهِلُّ علينا البشْرُ والظَّفَرُ ... ويحتفي الحجْرُ بالصُّوَّام والحجَرُ غدًا يهلُّ هِلالُ الصَّوم مؤتلقًا ... في موكبٍ مشرقٍ والليلُ يعتكرُ رَنَتْ إليه قلوبٌ في قرارتها ... لحبِّه سكَنٌ حلوُ الرُّؤى نَضِرُ غدًا تُؤَذِّن بالبُشرى منائرُنا ... تَسْري بأخباره الآياتُ والنذر نغفو ونصحو على ذكرى شمائله ... نكادُ نشرق بالذكرى ونَنْفَطِرُ رأيتُهُ قبلَ عامٍ في مساجدنا ... يضيء في راحَتيْهِ الشمسُ والقمرُ يُهدي مكارمَه للناس تذْكرةً يُصغي ... لها السمعُ والإحساسُ والبصَرُ • يا مستثقلًا رمضان ... أقصر!! إن أول شر يرتكبه أهل الغفلة وبغاة الشر هو أنهم يستثقلونه، ويعدون أيامه ولياليه وساعاته، لأن رمضان يحجب عنهم الشهوات، ويمنعهم اللذات. • يا متعمد الإفطار في نهار رمضان ... أقصر! ومن بغاة الشر من لا يسثقلون رمضان أصلًا، لأنهم لا يصومون، بل يجاهرون بالفطر في الطرقات، دون حياء من الله، ولا من عباد الله. ومن شركاء هؤلاء في الوزر أصحاب المطاعم الذين يفتحون محالهم لترحب بالفاسقين المفطرين بغير عذر، ويعاونونهم على الإثم والعدوان ومعصية الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «بَيْنَمَا أنَا نَائِمٌ إِذْ أتَانِي رَجُلَانِ، فَأخَذَا بِضَبْعَيَّ ـ عَضُدَيَّ ـ فأتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أطِيقُهُ، فَقَالَا: «َسُنَسهِّلُهُ لك»، فَصَعدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الجَبَلِ إذَا بِأصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الأصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطلِقَ بِي، فَإِذَا أنَا

بِقَوْمٍ مُعَلّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٌ أشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أشْدَاقُهُمْ دَمًا، قُلْتُ: «َمنْ هَؤُلَاءِ؟» قَالَا: هَؤُلَاءِ الذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلّةِ صَوْمِهِمْ» (صحيح رواه ابن خزيمة وابن حبان) الضَّبْعُ: العَضُدُ، الوعْر: الصعب، والصلب، الشَّدْق: جانب الفم مما تحت الخد، قَبْلَ تَحِلّةِ صَوْمِهِمْ: أي يفطرون قبل وقت الإفطار. فإذا كان هذا وعيد من يفطرون قبل غروب الشمس ولو بدقائق معدودات، فكيف بمن يفطر اليوم كله؟! قال الحافظ الذهبي - رحمه الله -: «وعند المؤمنين مقرر: أنَّ من ترك صوم رمضان بلا عذر أنه شر من الزاني ومدمن الخمر، بل يَشُكّون في إسلامه، ويظنون به الزندقة والانحلال». • يا تارك الصلاة أقصر! وأعظم بغاة الشر في رمضان تارك الصلاة الذي لا يتوب من جريمة كبرى، قال الله سبحانه في شأن تاركها {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} (المدثر42:43). وقال في شأنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْعَهْدُ الذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» (صحيح رواه أحمد والترمذي والنسائي)، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ: تَرْكُ الصَلَاةِ» (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالشِّرْكِ إلّا تَرْكُ الصّلَاةِ؛ فَإِذَا تَرَكَهَا فَقَدْ أشْرَكَ». (صحيح رواه ابن ماجه). وقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَ لَهُ عِنْدَ اللهِ عَهْدٌ أنْ يُدخِلَهُ الجَنَّةَ» (صحيح رواه أبو داود والنسائي). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ: «مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ» (حسن رواه أحمد).

وقال الإمام المحقق ابن القيم - رحمه الله -: «لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس، وأخذ الأموال، ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر، وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة». وبعيدًا عن الخلاف الفقهي في كفر تارك الصلاة، هل هو كفر أكبر مُخرج من الملة أو هو كفر لا يخرج من الملة، فدعني أهمس في أذنك يا تارك الصلاة: هل تقبل أن يكون انتماؤك لدين الإسلام، وإيمانك بالله ورسوله وكتابه قضيةً محلّ خلاف، فعلماء يقولون: «أنت كافر مثل فرعون وقارون وأبي جهل وأبي لهب»، وفريق آخر يقول: «بل فاسق مجرم شرير أشد خبثًا من قاتل النفس، وسارق المال، وآكل الربا، والزاني، وشارب الخمر»؟! يا تاركًا لصَلاتِهِ ... إنّ الصلاةَ لَتَشْتَكِي وتقولُ في أوقاتِها: ... اللهُ يلعَنُ تارِكِي. • يا أيتها المتبرجة ... أقصِري! ومن بغاة الشر في هذا الشهر الكريم المتبرجات بالزينة اللائي لا ينوين التوبة من هذه الكبيرة، بل يبغين الفساد بالإصرار على إظهار الزينة للأجانب من الرجال، والخروج إلى الأسواق والطرقات والمجامع متعطرات متطيبات، كاسيات عاريات ... فاتق الله يا أمَةَ الله في نفسِكِ، وفي عباد الله الصائمين، ولا تكوني رسول الشيطان ِإليهم لتفسدي قلوبهم وتشوشي صيامهم، بل قَرِّيِ في بيتك، فإن خرجتِ ولابد فاستتري بالحجاب الكامل، وتأدبي بآداب الإسلام. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» (رواه مسلم). •

يا أهل الفن والإعلام: أقصروا! إن رمضان فرصة ثمينة للتوبة والإنابة إلى الله - عز وجل - وأنتم تحولونه إلى فرصة لنشر الفساد وإشاعة الفواحش، فانضموا إلى صفوف أولياء الله المتقين، وسخِّروا الإعلام في خدمة الدين، وإشاعة المعروف والنهي عن المنكر، وذكِّروهم بالقرآن والسُّنَّة، ولا تشغلوهم بالأغاني والمسلسلات، والفوازير، والرقصات، قبيح بكم أن تبارزوا ربكم بالحرب في شهره الكريم، وتكثفوا حربكم على الدين والأخلاق، كأنكم تشفقون من بوار تجارتكم الشيطانية في هذا الشهر المُبارك، فتضاعفون من مجهودكم لتصدوا الناس عن سبيل الله - عز وجل -، وتبغوها عوجًا. إن المنادي يناديكم من أول ليلة في رمضان ... أقصروا يا بغاة الشر، فإن أصررتم فإن ربكم لبالمرصاد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} (النور: 19). ويا أيها المسلمون الصائمون: فِرُّوا من الفيديو والتلفاز والصحف الفاسدة فراركم من الأسد، إن الفنانين هم قطاع الطريق إلى الله، إنهم ممن قال الله فيهم: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} (البقرة:221)، وقال: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (الكهف: 28)، وقال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى* فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} (طه: 15 ـ 16)، وقال تعالى: {وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء 28:27). فتذكر يا عبد الله الصائم قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} (الإسراء 36)، وأهل الفن يدعونك إلى زنا العين، وزنا الأذن، فكبف تطاوعهم وأنت مسلم؟!

وكيف تشاركهم وأنت صائم؟! وكيف لا تقول إذا دعاك الشياطين إلى هذه المعاصي: «إني صَائِم، إني صَائِم»؟! وإذا كنت في الصيام تحرم الحلال من الطعام والشراب والشهوة امتثالًا لأمر الله، فكيف تستبيح ما هو حرام قطعًا من إطلاق البصر إلى النساء الفاجرات، ألا ما أصدق قول الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» (رواه البخاري). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رُبَّ قَائِمٍ حَظّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوعُ وَالعَطَشُ» (صحيح رواه أحمد والحاكم والبيهقي). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، وَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ» (رواه البخاري). فيا عاكفين أمام الممثلات والراقصات، أين أنتم من عباد الرحمن الذين: {لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} (فرقان 72)، و {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون 3)، لقد بين الله - سبحانه وتعالى - الحكمة من تشريع الصيام في قوله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 183). ولقد سأل أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - أُبَيَّ بن كعب - رضي الله عنه -: ما التقوى؟، فقال أُبَيَّ: «يا أمير المؤمنين أما سلكتَ طريقًا ذات شوك؟، قال: بلى، قال: فماذا صنعت؟، قال: شمَّرتُ واجتهدتُ، قال: فذلك التقوى». وسئل أمير المؤمنين عليٌّ - رضي الله عنه - عن معنى التقوى، فقال: «هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل». خَلّ الذنوبَ صغيرَها ... وكبيرَها ذاكَ التّقَى واصنع كماشٍ فوقَ أرضِ ... الشوكِ يحذَرُ ما يرَى لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً ... إنّ الجبالَ مِنَ الحَصَى

ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الصِّيَامُ جُنَّة» أي وقاية نتَّقِي بها كل ما نخشاه، وننال به كل ما نتمناه، فالصوم وقاية للَّسان في نطقهِ، وللعين في بصرها، وللأذن في سماعها، وهكذا كل الجوارح تتقي ما نُهِي عنه، قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: «إذا صُمْتَ فليصم سمعُك وبصرك ولسانُك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقارٌ وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم فطرك ويوَم صومِك سواءً». • يا خائضًا في أعراض الناس ... أقصر!! فقد قال تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (الحجرات 12)، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الغِيبَةُ: ذِكْرُكَ أخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ» (رواه مسلم). وقال القرطبي - رحمه الله -: «لا خلاف أن الغيبة من الكبائر، وأن من اغتاب أحدًا عليه أن يتوب إلى الله - عز وجل -». وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ». (صحيح رواه أحمد وأبو داود). (يَخْمِشُونَ) أَيْ يَخْدِشُونَ، خَمَشْت الْمَرْأَة كَضَرَبَ وَجْههَا بِظُفْرٍ جَرَحْت ظَاهِر الْبَشَرَة. (يَأْكُلُونَ لُحُوم النَّاس): أَيْ يَغْتَابُونَ الْمُسْلِمِينَ. لَمَّا كَانَ خَمْش الْوَجْه وَالصَّدْر مِنْ صِفَات النِّسَاء النَّائِحَات جَعَلَهُمَا جَزَاء مَنْ يَغْتَاب وَيَفْرِي فِي أَعْرَاض الْمُسْلِمِينَ إِشْعَارًا بِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ صِفَات الرِّجَال بَلْ هُمَا مِنْ صِفَات النِّسَاء فِي أَقْبَح حَالَة وَأَشْوَه صُورَة. وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعْ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ» (صحيح رواه أحمد وأبو داود).

وعن طليق بن قيس قال: قال أبو ذر - رضي الله عنه -: «إذا صُمْتَ فتحفَّظْ ما استطعْتَ» فكان طليق إذا كان يوم صيامه دخل، فلم يخرج إلا إلى صلاة. وعن مجاهد قال: «من أحب أن يسلم له صومه؛ فليتجنب الغيبة والكذب». وعن حفصة بنت سيرين قالت: «الصيام جُنَّة، ما لم يخرقها صاحبها، وخرقها الغيبة». وعن ميمون بن مهران: «إن أهون الصوم ترك الطعام والشراب». وقال الشاعر: إذا لم يكنْ في السمعِ مِنّي تَصَوُّنٌ ... وفي بصري غَضٌ، وفي منطقي صَمْتُ فحَظّي إذًا مِن صومِي الجوعُ والظمأ ... وإن قُلتُ: «إني صُمْتُ يومًا» فما صُمْتُ • وهذه وصايا لكل مسلم ومسلمة في هذا الشهر الكريم: * ينبغي أن يقدم في شعبان قضاء ما فاته من صيام رمضان الماضي. * من سُّنَّة المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - صيام أغلب شهر شعبان لأنه لرمضان كنوافل للصلاة * احرص على قيام أول ليلة من رمضان وهي ليلة الرؤيا، ولا تفوتها، كي تنال فضيلة قيام رمضان كله. * اصبر على القيام خلف إمامك في التروايح إلى أن ينصرف كي يُكتب لك قيام ليلة كاملة. * احرص على صلاة المغرب في جماعة المسجد، فإنه ينبغي تعمير المساجد بالجماعة في رمضان أكثر من غيره. * لا تضيع سُّنَّة العشاء البعدية، وهما ركعتان بعد العشاء، وقبل القيام. * لا تسهر سهرًا يضر بمواظبتك على حضور صلاة الفجر بالمسجد. • احرص على تطبيق الأحاديث الشريفة التالية: (1) عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صَلَاةٌ فِي إثْرِ صَلَاةٍ لَا لَغْوَ بَيْنَهُمَا؛ كِتَابٌ فِي عِلّيّينَ» (حسن رواه أبو داود). (صَلَاة فِي إِثْر صَلَاة): أَيْ صَلَاة تَتْبَع صَلَاة وَتَتَّصِل بِهَا فَرْضًا أَوْ سُنَّة.

(لَا لَغْو بَيْنهمَا): أَيْ لَيْسَ بَيْنهمَا كَلَام بَاطِل وَلَا لَغَط وَاللَّغْو اِخْتِلَاط الْكَلَام. (كِتَاب فِي عِلِّيِّينَ): أَيْ مَكْتُوب وَمَقْبُول تَصْعَد بِهِ الْمَلَائِكَة الْمُقَرَّبُونَ إِلَى عِلِيِّينَ لِكَرَامَةِ الْمُؤْمِن وَعَمَله الصَّالِح. (2) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ». (صحيح رواه الترمذي). (الْغَدَاةَ):الصبح (ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ) أَيْ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ أَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قَدْرَ رُمْحٍ حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ، وَهَذِهِ الصَّلَاةُ تُسَمَّى صَلَاةَ الْإِشْرَاقِ وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةِ الضُّحَى. (3) عن أم حبيبة - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ: أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعِشَاءِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ» (صحيح رواه الترمذي). (4) عن أنس - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى للهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي جَمَاعَةٍ يُدْرِكُ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَتَانِ بَرَاءَةٌ مِنْ النَّارِ وَبَرَاءَةٌ مِنْ النِّفَاقِ» (حسن رواه الترمذي). (5) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا. قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -:أَنَا.

قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم). • عباد الله سيأتي الموت على الجميع: كم من أخ نعرفه صام معنا وقام في رمضان الماضي وما قَبله، ثمّ صار إلى عالَمِ الدود واللحود، بعد أن استلّه هاذم اللذّات من بينِنَا، وسيأتي الموت على الجميع، إن عاجلًا وإن آجلًا. تَمُرُّ بنا الأيامُ تَتْرَى وإنَّمَا نُسَاقُ إلى الآجالِ والعينُ تنظرُ فليسَ عن لُقيا المنيّةِ صارفٌ وليس مَن يدرِي الأوانَ فيُنذِر يا نفسُ فالتمِسِي النجاةَ بتوْبَةٍ ... فبِتَوْبَتِي نَحْوَ النجاةِ سأبْحِرُ فهلّا اغتنمنا هذه الفرصة للتزوّد، فإنّ خير الزاد التقوى، وهي الغاية الكبرى من مشروعيّة الصيام قال تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة 183) فالصائم الصادق الصالح هو الذي يتّقي الله في صومه، فيصوم جوفه، وفرجه، وسائر جوارحه، صومًا يكفّه عن المعاصي، ويحجزه عن الحرمات، فلا يقول إلاّ خيرًا، ولا يسمع إلاّ خيرًا، ولا يفعل إلاّ خيرًا، ويُقلِع عن قول الزور والعمل به، فمن لم يكن كذلك فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، كما صحّ بذلك الخبر عن خير البَشَر فيما رواه الإمام البخاري في (صحيحه). كيف لا، وللصيام منزلة رفيعة بين العبادات، ففي الحديث القدسي الذي رواه الشيخان يقول الله - عز وجل -: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ»، والحكمة في ذلك أنّ الصوم سرٌ بين العبد وبين ربه، لا يطلع عليه أحد سواه، وقيل: «فإنّهُ لِي» أي لم يُتَعَبَّد أحد بمثله إلا أنا، فالعباد يركعون لبعضهم ويسجدون، وينفقون تزلفًا وتملّقًا، ويقصد بعضهم بعضًا، إلى غير ذلك مما يصرفه بعضهم لبعضٍ من الأعمال، أمّا الصوم فلا يُعرَف أنّ أحدًا يصوم لأحدٍ غيرِ الله - عز وجل -.

والمؤمن الرشيد ـ يا عباد الله ـ يقدّم بين يدي رمضان توبة تحجزه عن الملاهي والمنكرات، التي تكتظ بها وسائل الإعلام والإجرام، ويتزوّد بالتقوى والإنابة، قبل تزوده بالطعام والشراب والثمار المستطابة. إن رمضان فرصة عظيمة وساحة واسعة للتفكير الصادق في العودة إلى الله - عز وجل -، وترك أكل الحرام وشهادة الزور، والتوبة الصادقة من الظلم والغيبة والنميمة، وقد قال الله - عز وجل -: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (النور:31). فإن لم نَتُبْ في رمضان فليت شعري متى نتوب؟ ولله - عز وجل - في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار. مَضَى شعبانُ ما أحسنْتَ فيهِ ... وهذا شهرُ رمضانَ المباركْ فيا مَن ضَيَّع الأوقاتَ جهلًا ... بقيمتِها أفِقْ واحْذَر بَوَارَكْ فسوف تفارقُ اللذاتِ قهرًا ... ويُخْلى الموتُ يومًا منكَ دارَكْ تدارَكْ ما استطعتَ مِن الخطايَا ... بتوبةِ مخلصٍ واجعلْ مدارَكْ على طلبِ السلامةِ مِن جحيمٍ ... فخيرُ ذوي الجرائمِ مَن تدارَكْ وعليكم في رمضان خاصة بكتاب ربّكم خيرًا، فإن القرآن ورمضان شفيعان مشفّعان يوم القيامة؛ قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: «أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ»، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: «مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ»، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ». (صحيح رواه الإمام أحمد). إِقْرَأْ كِتَابَ اللِه جُهْدَكَ وَاتْلُهُ ... فيمَنْ يَقومُ بِهِ هناكَ ويَنْصِبُ بِتَّفَكُّرٍ وتخشُّعٍ وتَقَرُّبٍ ... إن المقَرَّبَ عِندهُ المُتَقَرَِّبُ ************* مَنَعَ الكتابُ بوَعْدِه ووَعيدِهِ ... مُقَلَ العيونِ بليلِها لا تَهْجَعُ فَهِمُوا عن الملِكِ العظيمِ كلامَه ... فهْمًا تَذِلّ له الرقابُ وتخضَعُ

46 - رمضان شهر الجهاد

46 - رمضان شهر الجهاد كنا جبالًا في الجبالِ وربَّما ... سِرْنَا علَى موجِ البحارِ بحارَا بمعابدِ الإفرنجِ كان أذانُنا ... قبلَ الكتائبِ يفتحُ الأمصارَا لم تَنْسَ إفريقيا ولا صحراؤُها ... سجْداتِنا والأرضُ تقذفُ نارَا كنا نقدمُ للسيوفِ صدورَنا ... لم نَخْشَ يومًا غاشمًا جبارَا • لنا في الرسول الأسوة الحسنة: لما كَانَ الْجِهَادُ ذِرْوَةَ سَنَامِ الْإِسْلَامِ وَقُبّتَهُ وَمَنَازِلُ أَهْلِهِ أَعْلَى الْمَنَازِلِ فِي الْجَنّةِ كَمَا لَهُمْ الرّفْعَةُ فِي الدّنْيَا فَهُمْ الْأَعْلَوْنَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الذّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْهُ، وَاسْتَوْلَى عَلَى أَنْوَاعِهِ كُلّهَا فَجَاهَدَ فِي اللهِ حَقّ جِهَادِهِ بِالْقَلْبِ وَالْجِنَانِ وَالدّعْوَةِ وَالْبَيَانِ وَالسّيْفِ وَالسّنَانِ، وَكَانَتْ سَاعَاتُهُ مَوْقُوفَةً عَلَى الْجِهَادِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ. وَلِهَذَا كَانَ أَرْفَعَ الْعَالَمِينَ ذِكْرًا وَأَعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا. وَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْجِهَادِ مِنْ حِينِ بَعْثِهِ وَقَالَ: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الْفُرْقَانُ: 52) فَهَذِهِ سُورَةٌ مَكّيّةٌ أَمَرَ فِيهَا بِجِهَادِ الْكُفّارِ بِالْحُجّةِ وَالْبَيَانِ وَتَبْلِيغِ الْقُرْآنِ وَكَذَلِكَ جِهَادُ الْمُنَافِقِينَ إنّمَا هُوَ بِتَبْلِيغِ الْحُجّةِ وَإِلّا فَهُمْ تَحْتَ قَهْرِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (التّوْبَةُ 73). فَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَصْعَبُ مِنْ جِهَادِ الْكُفّارِ وَهُوَ جِهَادُ خَوَاصّ الْأُمّةِ وَوَرَثَةُ الرّسُلِ وَالْقَائِمُونَ بِهِ أَفْرَادٌ فِي الْعَالَمِ وَالْمُشَارِكُونَ فِيهِ وَالْمُعَاوِنُونَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانُوا هُمْ الْأَقَلّينَ عَدَدًا فَهُمْ الْأَعْظَمُونَ عِنْدَ اللهِ قَدْرًا. وَلَمّا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ قَوْلُ الْحَقّ مَعَ شِدّةِ الْمُعَارِضِ مِثْلَ أَنْ تَتَكَلّمَ بِهِ عِنْدَ مَنْ تَخَافُ سَطْوَتَهُ وَأَذَاهُ كَانَ لِلرّسُلِ ـ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ ـ مِنْ ذَلِكَ الْحَظّ الْأَوْفَرِ وَكَانَ لِنَبِيّنَا ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ـ مِنْ ذَلِكَ أَكْمَلُ الْجِهَادِ وَأَتَمّهُ. • جِهَادُ أَعْدَاءِ اللهِ فَرْعٌ عَلَى جِهَادِ النّفْسِ وَلَمّا كَانَ جِهَادُ أَعْدَاءِ اللهِ فِي الْخَارِجِ فَرْعًا عَلَى جِهَادِ الْعَبْدِ نَفْسِهِ فِي ذَاتِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: «الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ» (صحيح رواه الإمام أحمد)، كَانَ جِهَادُ النّفْسِ مُقَدّمًا عَلَى جِهَادِ الْعَدُوّ فِي الْخَارِجِ وَأَصْلًا لَهُ؛ فَإِنّهُ مَا لَمْ يُجَاهِدْ نَفْسَهُ أَوّلًا لِتَفْعَلَ مَا أُمِرْت بِهِ وَتَتْرُكَ مَا نُهِيت عَنْهُ وَيُحَارِبُهَا فِي اللهِ لَمْ يُمْكِنْهُ جِهَادُ عَدُوّهِ فِي الْخَارِجِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُ جِهَادُ عَدُوّهِ وَالِانْتِصَافُ مِنْهُ وَعَدُوّهُ الّذِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ قَاهِرٌ لَهُ مُتَسَلّطٌ عَلَيْهِ لَمْ يُجَاهِدْهُ وَلَمْ يُحَارِبْهُ فِي اللهِ، بَلْ لَا يُمْكِنُهُ الْخُرُوجُ إلَى عَدُوّهِ حَتّى يُجَاهِدَ نَفْسَهُ عَلَى الْخُرُوجِ. • هُنَاكَ جِهَادٌ ثَالِثٌ هُوَ جِهَادُ الشّيْطَانِ: فَهَذَانِ عَدُوّانِ قَدْ اُمْتُحِنَ الْعَبْدُ بِجِهَادِهِمَا وَبَيْنَهُمَا عَدْوٌ ثَالِثٌ لَا يُمْكِنُهُ جِهَادُهُمَا إلّا بِجِهَادِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ بَيْنَهُمَا يُثَبّطُ الْعَبْدَ عَنْ جِهَادِهِمَا وَيَخْذُلُهُ وَيَرْجُفُ بِهِ، وَلَا يَزَالُ يُخَيّلُ لَهُ مَا فِي جِهَادِهِمَا مِنْ الْمَشَاقّ وَتَرْكِ الْحُظُوظِ وَفَوْتِ اللّذّاتِ وَالْمُشْتَهَيَاتِ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُجَاهِدَ ذَيْنِكَ الْعَدُوّيْنِ إلّا بِجِهَادِهِ فَكَانَ جِهَادُهُ هُوَ الْأَصْلُ لِجِهَادِهِمَا وَهُوَ الشّيْطَانُ قَالَ تَعَالَى: {إِنّ الشّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوّ فَاتّخِذُوهُ عَدُوّا} (فَاطِرٌ:6) وَالْأَمْرُ بِاِتّخَاذِهِ عَدْوًا تَنْبِيهٌ عَلَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِي مُحَارَبَتِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ كَأَنّهُ عَدُوّ لَا يَفْتُرُ وَلَا يُقَصّرُ عَنْ مُحَارَبَةِ الْعَبْدِ عَلَى عَدَدِ الْأَنْفَاسِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَعْدَاءٍ أُمِرَ الْعَبْدُ بِمُحَارَبَتِهَا وَجِهَادِهَا وَقَدْ بُلِيَ بِمُحَارَبَتِهَا فِي هَذِهِ الدّارِ وَسُلّطَتْ عَلَيْهِ امْتِحَانًا مِنْ اللهِ لَهُ وَابْتِلَاءً فَأَعْطَى اللهُ الْعَبْدَ مَدَدًا وَعُدّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا

لِهَذَا الْجِهَادِ وَأَعْطَى أَعْدَاءَهُ مَدَدًا وَعُدّةً وَأَعْوَانًا وَسِلَاحًا وَبَلَا أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالْآخَرِ وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً لِيَبْلُوَ أَخْبَارَهُمْ وَيَمْتَحِنَ مَنْ يَتَوَلّاهُ وَيَتَوَلّى رُسُلَهُ مِمّنْ يَتَوَلّى الشّيْطَانَ وَحِزْبَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيرًا} (الْفُرْقَانُ: 20)، وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} (مُحَمّدٌ: 4)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَنَبْلُوَنّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (مُحَمّدٌ: 31). • مَعْنَى وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقّ جِهَادِهِ: وَأَمَرَ الله - عز وجل - عباده المؤمنين أَنْ يُجَاهِدُوا فِيهِ حَقّ جِهَادِهِ كَمَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ. قال - عز وجل -: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج:78) وقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمران:102). وَكَمَا أَنّ حَقّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرُ، فَحَقّ جِهَادِهِ أَنْ يُجَاهِدَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِيُسْلِمَ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ لله، فَيَكُونُ كُلّهُ لله وَبِاللهِ لَا لِنَفْسِهِ وَلَا بِنَفْسِهِ، وَيُجَاهِدُ شَيْطَانَهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ وَارْتِكَابِ نَهْيِهِ فَإِنّهُ يَعِدُ الْأَمَانِيّ وَيُمَنّي الْغُرُورَ وَيَعِدُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَيَنْهَى عَنْ التّقَى وَالْهُدَى وَالْعِفّةِ وَالصّبْرِ؛ فَجَاهِدْهُ بِتَكْذِيبِ وَعْدِهِ وَمَعْصِيَةِ أَمْرِهِ، فَيَنْشَأُ لَهُ مِنْ هَذَيْنِ الْجَهَادَيْنِ قُوّةٌ وَسُلْطَانٌ وَعُدّةٌ يُجَاهِدُ بِهَا أَعْدَاءَ اللهِ فِي الْخَارِجِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَمَالِهِ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا.

وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السّلَفِ فِي حَقّ الْجِهَادِ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُوَ اسْتِفْرَاغُ الطّاقَةِ فِيهِ وَأَلّا يَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اعْمَلُوا لله حَقّ عَمَلِهِ وَاعْبُدُوهُ حَقّ عِبَادَتِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هُوَ مُجَاهَدَةُ النّفْسِ وَالْهَوَى. • مَرَاتِبِ الْجِهَادِ: الْجِهَادُ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: جِهَادُ النّفْسِ، وَجِهَادُ الشّيْطَانِ، وَجِهَادُ الْكُفّارِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ. فَجِهَادُ النّفْسِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ أَيْضًا: إحْدَاهَا: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى تَعَلّمِ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ الّذِي لَا فَلَاحَ لَهَا وَلَا سَعَادَةَ فِي مَعَاشِهَا وَمَعَادِهَا إلّا بِهِ وَمَتَى فَاتَهَا عَلِمَهُ شَقِيَتْ فِي الدّارَيْنِ. الثّانِيَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الْعَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَإِلّا فَمُجَرّدُ الْعِلْمِ بِلَا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرّهَا لَمْ يَنْفَعْهَا. الثّالِثَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الدّعْوَةِ إلَيْهِ وَتَعْلِيمِهِ مَنْ لَا يَعْلَمُهُ وَإِلّا كَانَ مِنْ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ الْهُدَى وَالْبَيّنَاتِ وَلَا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ. الرّابِعَةُ: أَنْ يُجَاهِدَهَا عَلَى الصّبْرِ عَلَى مَشَاقّ الدّعْوَةِ إلَى اللهِ وَأَذَى الْخَلْقِ وَيَتَحَمّلُ ذَلِكَ كُلّهُ لله. فَإِذَا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ الْمَرَاتِبَ الْأَرْبَعَ صَارَ مِنْ الرّبّانِيّينَ فَإِنّ السّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْعَالِمَ لَا يَسْتَحِقّ أَنْ يُسَمّى رَبّانِيّا حَتّى يَعْرِفَ الْحَقّ وَيَعْمَلَ بِهِ وَيُعَلّمَهُ فَمَنْ عَلِمَ وَعَمِلَ وَعَلّمَ فَذَاكَ يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ. •

مَرَاتِبُ جِهَادِ الشّيْطَانِ: الأولى: جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَى الْعَبْدِ مِنْ الشّبُهَاتِ وَالشّكُوكِ الْقَادِحَةِ فِي الْإِيمَانِ. الثّانِيَةُ: جِهَادُهُ عَلَى دَفْعِ مَا يُلْقِي إلَيْهِ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةِ وَالشّهَوَاتِ. فَالْجِهَادُ الْأَوّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ الْيَقِينُ وَالثّانِي يَكُونُ بَعْدَهُ الصّبْرُ. قَالَ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (السّجْدَةُ: 24) فَأَخْبَرَ أَنّ إمَامَةَ الدّينِ إنّمَا تُنَالُ بِالصّبْرِ وَالْيَقِينِ فَالصّبْرُ يَدْفَعُ الشّهَوَاتِ وَالْإِرَادَاتِ الْفَاسِدَةَ وَالْيَقِينُ يَدْفَعُ الشّكُوكَ وَالشّبُهَاتِ. • مَرَاتِبُ جِهَادِ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ: جِهَادُ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ: بِالْقَلْبِ وَاللّسَانِ وَالْمَالِ وَالنّفْسِ. وَجِهَادُ الْكُفّارِ أَخُصّ بِالْيَدِ، وَجِهَادُ الْمُنَافِقِينَ أَخُصّ بِاللّسَانِ. • جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ: جِهَادُ أَرْبَابِ الظّلْمِ وَالْبِدَعِ وَالْمُنْكَرَاتِ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: الْأُولَى: بِالْيَدِ إذَا قَدَرَ، فَإِنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلَى اللّسَانِ، فَإِنْ عَجَزَ جَاهَدَ بِقَلْبِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مُرَتّبَةً مِنْ الْجِهَادِ، وَقَدْ قَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغْزُ وَلَمْ يُحَدّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ، مَاتَ عَلَى شُعْبَةٍ مِنْ النّفَاقِ» (رواه مسلم). • فضل الجهاد في سبيل الله - عز وجل -: قال الله تعالى: {إنَّ اللهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنْفُسَهُْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا في التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ والقرْآنِ. وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله، فاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتمْ بِهِ، وَذَلكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ} (التوبة: 111).

وقال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ غَيْرُ أُولي الضَّرَرِ، وَالْمُجَاهِدُونَ في سَبِيل اللهِ بِأَمْوالهِمْ وَأَنْفُسهِمْ، فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالهِمْ وَأْنْفُسِهمْ عَلى القَاعِدِينَ دَرَجَةً، وَكُلًا وَعَدَ اللهُ الحُسْنى، وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا، دَرَجَاتٍ مِنْهُ، وَمَغْفِرَةً، وَرَحْمَةً، وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 95، 96). وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَليمٍ؟ تُؤٍمِنُونَ باللهِ وَرَسُولِهِ، وَتُجَاهِدُونَ في سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكم وَأَنْفُسِكم، ذلِكم خَيْرٌ لَكُم إنْ كُنْتُمْ تَعلَمُونَ، يَغفِرْ لَكم ذُنُوبَكُمْ، وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجرِي مِنْ تَحتِهَا الأَنْهَارُ، وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ، ذلكَ الفَوْزُ العَظِيمُ، وَأُخْرَى تحبُّونَها نصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتحٌ قرِيبٌ، وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ} (الصف: 10 ـ 13)، والآيات في الباب كثيرةٌ مشهورةٌ. * عَنْ سَلْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» (رواه مسلم). هَذِهِ فَضِيلَة ظَاهِرَة لِلْمُرَابِطِ، وَجَرَيَان عَمَله بَعْد مَوْته فَضِيلَة مُخْتَصَّة بِهِ، لَا يُشَارِكهُ فِيهَا أَحَد. وعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «كُلُّ الْمَيِّتِ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ إِلَّا الْمُرَابِطَ، فَإِنَّهُ يَنْمُو لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّانِ الْقَبْرِ» (صحيح رواه أبو داود). (كُلّ الْمَيِّت يُخْتَم عَلَى عَمَله): الْمُرَاد بِهِ طَيّ صَحِيفَته وَأَنْ لَا يَكْتُب لَهُ بَعْد مَوْته عَمَل.

(إِلَّا الْمُرَابِط): هُوَ الْمُلَازِم لِلثَّغْرِ لِلْجِهَادِ. قَالَ بَعْض الْأَئِمَّة: أَصْل الْمُرَابَطَة أَنْ يَرْبُط الْفَرِيقَانِ خُيُولهمْ فِي ثَغْر كُلّ مِنْهُمَا مُعَدٍّ لِصَاحِبِهِ، فَسُمِّيَ الْمُقَام فِي الثُّغُور رِبَاطًا. (يَنْمُو): أَيْ يَزِيد (إِلَى يَوْم الْقِيَامَة): يَعْنِي أَنَّ ثَوَابه يَجْرِي لَهُ دَائِمًا وَلَا يَنْقَطِع بِمَوْتِهِ. (وَيُؤَمَّنُ مِنْ فَتَّان الْقَبْر) أَيْ فَتَّانِيهِ وَهُمَا مُنْكَر وَنَكِير، ويَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْمُرَاد أَنَّ الْمَلَكَيْنِ لَا يَجِيئَانِ إِلَيْهِ وَلَا يَخْتَبِرَانِهِ بَلْ يَكْفِي مَوْته مُرَابِطًا فِي سَبِيل اللهِ شَاهِدًا عَلَى صِحَّة إِيمَانه. وَيَحْتَمِل أَنَّهُمَا يَجِيئَانِ إِلَيْهِ لَكِنْ لَا يَضُرَّانِهِ وَلَا يَحْصُل بِسَبَبِ مَجِيئِهِمَا فِتْنَة. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَأَجْرَى عَلَيْهِ رِزْقه) مُوَافِق لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الشُّهَدَاء: {أَحْيَاء عِنْد رَبّهمْ يُرْزَقُونَ}. * عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ طَلَبَ الشَّهَادَةَ صَادِقًا أُعْطِيَهَا وَلَوْ لَمْ تُصِبْهُ» (رواه مسلم)، وفي رواية: «مَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (رواه مسلم). مَعْنَى الرِّوَايَة الْأُولَى مُفَسَّر مِنْ الرِّوَايَة الثَّانِيَة، وَمَعْنَاهُمَا جَمِيعًا: أَنَّهُ إِذَا سَأَلَ الشَّهَادَة بِصِدْقِ أُعْطِيَ مِنْ ثَوَاب الشُّهَدَاء، وَإِنْ كَانَ عَلَى فِرَاشه. وَفِيهِ: اِسْتِحْبَاب سُؤَال الشَّهَادَة، وَاسْتِحْبَاب نِيَّة الْخَيْر. * عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ ـ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ بَيْتِهِ إِلَّا جِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ ـ بِأَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ يَرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ» (رواه مسلم).

* عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذَا طُعِنَتْ، تَفَجَّرُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْك». وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ فِي يَدِهِ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللهِ، وَلَكِنْ لَا أَجِدُ سَعَةً فَأَحْمِلَهُمْ وَلَا يَجِدُونَ سَعَةً فَيَتَّبِعُونِي، وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَقْعُدُوا بَعْدِي» (رواه مسلم). ورواه البخاري بلفظ: «انْتَدَبَ اللهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ ـ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي ـ أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَلَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ». * عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ لَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ يَسُرُّهَا أَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا، وَلَا أَنَّ لَهَا الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلَّا الشَّهِيدُ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ فِي الدُّنْيَا لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» (رواه مسلم). وفي رواية: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا ـ وَأَنَّ لَهُ مَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ ـ غَيْرُ الشَّهِيدِ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ» (رواه مسلم). عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: مَا يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ»، قَالَ: فَأَعَادُوا عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ: «لَا تَسْتَطِيعُونَهُ»، وَقَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللهِ، لَا يَفْتُرُ مِنْ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى» (رواه مسلم).

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَغَدْوَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (رواه البخاري ومسلم). (الْغَدْوَة): بِفَتْحِ الْغَيْن: السَّيْر أَوَّل النَّهَار إِلَى الزَّوَال، وَ (الرَّوْحَة) السَّيْر مِنْ الزَّوَال إِلَى آخِر النَّهَار. (أَوْ) هُنَا لِلتَّقْسِيمِ لَا لِلشَّكِّ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الرَّوْحَة يَحْصُل بِهَا هَذَا الثَّوَاب، وَكَذَا الْغَدْوَة، وَالظَّاهِر أَنَّهُ لَا يَخْتَصّ ذَلِكَ بِالْغُدُوِّ وَالرَّوَاح مِنْ بَلْدَته، بَلْ يَحْصُل هَذَا الثَّوَاب بِكُلِّ غَدْوَة أَوْ رَوْحَة فِي طَرِيقه إِلَى الْغَزْو، وَكَذَا بِغَدْوَةٍ وَرَوْحَة فِي مَوْضِع الْقِتَال؛ لِأَنَّ الْجَمِيع يُسَمَّى غَدْوَة وَرَوْحَة فِي سَبِيل اللهِ. وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ فَضْل الْغَدْوَة وَالرَّوْحَة فِي سَبِيل اللهِ وَثَوَابهمَا خَيْر مِنْ نَعِيم الدُّنْيَا كُلّهَا لَوْ مَلَكهَا الْإِنْسَان، وَتَصَوَّرَ تَنَعُّمه بِهَا كُلّهَا؛ لِأَنَّهُ زَائِل وَنَعِيم الْآخِرَة بَاقٍ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنْ مَسِّ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ» (حسن صحيح رواه الترمذي). (مِنْ مَسِّ الْقَرْصَةِ) وَفِي رِوَايَةٍ: (أَلَمُ الْقَرْصَةِ) هِيَ الْمَرَّةُ مِنْ الْقَرْصِ، والْقَرْصُ: أَخْذُك لَحْمَ إِنْسَانٍ بِأُصْبُعَيْك حَتَّى تُؤْلِمَهُ وَلَسْعُ الْبَرَاغِيثِ. وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لَهُمْ عَنْ هَذَا الْخَطْبِ الْمَهُولِ. عَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا، وَمَا فِيهَا وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ» (صحيح رواه الترمذي). قَوْلُهُ: (لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خِصَالٍ) لَا يُوجَدُ مَجْمُوعُهَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِ.

(يُغْفَرَ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ مِنْ دَمِهِ) أَيْ تُمْحَى ذُنُوبُهُ فِي أَوَّلِ صَبَّةٍ مِنْ دَمِهِ. (وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) أَيْ يُحْفَظُ وَيُؤَمَّنُ. قَالَ الْقَارِي: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ «يُرَى مَقْعَدَهُ» عَلَى أَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ يُغْفَرُ لَهُ لِئَلَّا تَزِيدَ الْخِصَالُ عَلَى سِتٍّ، وَلِئَلَّا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ فِي قَوْلِهِ: «وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». (وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ) أَيْ تَاجٌ هُوَ سَبَبُ الْعِزَّةِ وَالْعَظَمَةِ. وَالتَّاجُ: مَا يُصَاغُ لِلْمُلُوكِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ. (الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا) أَيْ مِنْ التَّاجِ. وَالتَّأْنِيثُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَلَامَةُ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَجْمُوعٌ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا. (وَيُزَوَّجُ) أَيْ يُعْطَى بِطَرِيقِ الزَّوْجِيَّةِ (اِثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنْ الْحُورِ الْعِينِ) أَيْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ، وَاحِدَتُهَا حَوْرَاءُ وَهِيَ الشَّدِيدَةُ بَيَاضِ الْعَيْنِ الشَّدِيدَةُ سَوَادِهَا، وَالْعِينُ جَمْعُ عَيْنَاءَ وَهِيَ الْوَاسِعَةُ الْعَيْنِ (وَيُشَفَّعُ) أَيْ يُقْبَلُ شَفَاعَتُهُ. يا بَنِي قومِنا سراعًا إلى اللهِ ... فقدْ فازَ مَن يموتُ شهيدَا سارعوا سارعوا إلى جنة قد ... فاز من جاءها شهيدًا سعيدَا والبِسوا حُلّة من الكفنِ الغالي ... وبيعوا الحياة بيعًا مجيدَا • رمضان شهر الجهاد: الصيام مصدر قوة روحية تدفع الى العمل واعتقاد المؤمن أنه يؤدي عبادة فرضها الخالق مما يمده بالروح الفتى والعزم القوى؛ لذلك كانت شهور رمضان أيام نصر حربي وفوز نضالى ففي مواسم هذا الشهر الكريم تحققت انتصارات اسلامية رائعة تبتدئ بمعركة بدر مرورًا بمعارك كثيرة أشهرها فتح مكة والأندلس وحطين وعين جالوت حتى جاء نصر الله وتم العبور في شهر رمضان. لذلك كان هذا الشهر يحفل على مد العصور بكبريات الوقائع الحربية الحاسمة في تاريخ الإسلام؛ ومن يتصفح كتب التاريخ، أو يقلب أوراقه تبرز أمامه صورة مشرقة لشهر عظيم، صورة غابت عن الأعين لفترة زادت عن المئة عام وأصبح من الصعب على العقل أن يتصورها بعد أن بعدت الشقة بينه وبين مثيلاتها منذ فترة طويلة. تلك هي الصورة المشرقة التي اتسمت بالعزة والكرامة والسؤدد والبسالة والانتصارات والفتوحات والتقوى والمغفرة. فالأمر لا يحتاج من الناظر إلى التدقيق والإمعان في كتب التاريخ حتى يصل إلى هذه الصورة المشرقة بل يكفيه التصفح السريع أو النظرة العاجلة؛ ليدرك ما في هذا الشهر من الأحداث والبطولات التي نعلمها والتي لا نعلمها والتي تتسم بأنها أحداث عظيمة على قدر فضل شهر رمضان، فاذا قلنا ان رمضان شهر الجهاد فهو قول يحمل مصداقه التاريخي دون جدال. ولكن رمضاننا هذه الأيام لا نصيب له مما فات لأن سلطان الإسلام لم يعد موجودًا، فهو يأتي والأمة تنزف في مواطن كثيرة، فهذا جرح فلسطين الغائر وذاك جرح الشيشان نازف، وجرح ثالث في كشمير، ورابع في جنوب الفلبين، وخامس في بورما ... وما يبرح أن ينزف جرح جديد حتى يلحق به جرح أخر. ففي رمضان كان غزو أفغانستان من قبل أمريكا ولما ظهرت بعض الأصوات لتقول لأمريكا بأن رمضان قادم ويجب أن نراعي حرمته فلا نغزو المسلمين، قال بوش متبجحًا إن الدولة الإسلامية كانت تخوض المعارك في شهر رمضان ـ وصدق وهو كذوب ـ ثم يأتي بعده رمضان آخر ليشهد شلالًا من الدماء في بلد آخر بلد الرافدين، لتتكرر نفس المشاهد ولكن مع تغير الوجوه، قتل وتدمير وتفتيت لأجساد الأطفال والنساء والشيوخ؛ ليرى فيها أنواع القنابل العنقودية والتفريغية والذكية والغبية والتقليدية وأسماء ما سمعنا بها من قبل.

وعلى وقع دماء اليوم التي ما زالت تسيل أعود لأذكر بدماء زكية طاهرة سالت بالأمس وآلت هذه السيول إلى العز والتمكين ليكون هذا التذكير بإذن الله فيه النفع للمسلمين: 1ـ غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة: ففي صبيحة سبع عشرة من رمضان من السنة الثانية للهجرة خرج المسلمون بقيادة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليعترضوا قافلة لقريش يقودها أبو سفيان، ولكن أبا سفيان غَيّرَ طريقه إلى الساحل واستنفر أهل مكة، فخرجوا لمحاربة المسلمين والتقى الجمعان في بدر في السابع عشر من رمضان سنة اثنتين للهجرة، ونصر الله رسوله والمؤمنين رغم قلة عددهم وعدتهم فقد كانوا ثلاثمائة وسبعة عشر وكان المشركون أكثر من ألف. وأثمرت نتائج النصر ثمارًا كثيرة، فقد ارتفعت معنويات المسلمين وعلت مكانتهم عند القبائل التي لم تسلم بعد، واهتزت قريش في أعماقها وخسرت كبار صناديدها وأعمدة الكفر فيها، وأخذت تعد للثأر والانتقام. وخلال سنة تحققت للمسلمين في المدينة عوامل أمن خارجية وداخلية فقبائل غطفان وسليم التي كانت تعد لمهاجمة المسلمين بلغها انتصار المسلمين في بدر وتحركهم بعد ذلك لضربها، فخافت وتركت ديارها وخلفت غنائم كثيرة للمسلمين، كما أجلي بنو قينقاع إحدى قبائل اليهود لكيدهم بالمسلمين وعدوانيتهم. كانت تلك الغزوة فرقانا بين الحق والباطل، تلك الغزوة التي جعلت للمسلمين كيانًا مهابًا وجانبًا مصونًا. وبعد هذه الغزوة أصبح للمسلمين كيانًا ماثلًا لأعين الكفار يحسبون له ألف حساب ولا يجرؤون على تجاهله، بعد أن كانوا مستضعفين لا يكترث بهم بل ويستهان بهم، أصبحوا بعدها قوة ضاربة يهابها الكفار. فكانت تلك الحادثة عرسًا حقيقيًا في رمضان وفرحًا صادقًا للمسلمين في شهر الفرقان. موقف: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم: «انْطَلَقَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَصْحَابُهُ حَتَّى سَبَقُوا الْمُشْرِكِينَ إِلَى بَدْرٍ، وَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يُقَدِّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَى

شَيْءٍ حَتَّى أَكُونَ أَنَا دُونَهُ»، فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ». قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: «يَا رَسُولَ اللهِ جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟». قَالَ: «نَعَمْ».قَالَ: «بَخٍ بَخٍ». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟». قَالَ: «لَا وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَّا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا». قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا». فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثُمَّ قَالَ: «لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ»، قَالَ: فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ». (رواه مسلم). قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لَا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَد مِنْكُمْ إِلَى شَيْء حَتَّى أَكُون أَنَا دُونه) أَيْ: قُدَّامه مُتَقَدِّمًا فِي ذَلِكَ الشَّيْء لِئَلَّا يَفُوت شَيْء مِنْ الْمَصَالِح الَّتِي لَا تَعْلَمُونَهَا. قَوْله: (بَخٍ بَخٍ) هِيَ: كَلِمَة تُطْلَق لِتَفْخِيمِ الْأَمْر وَتَعْظِيمه فِي الْخَيْر. قَوْله: (لَا وَاللهُ يَا رَسُول اللهِ إِلَّا رَجَاءَة أَنْ أَكُون مِنْ أَهْلهَا). مَعْنَاهُ: وَاللهُ مَا فَعَلْته لِشَيْءٍ إِلَّا لِرَجَاءِ أَنْ أَكُون مِنْ أَهْلهَا. (فَأَخْرَجَ تَمَرَات مِنْ قَرَنه) جُعْبَة النُّشَّاب. (لَئِنْ أَنَا حَيِيت حَتَّى آكُل تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاة طَوِيلَة فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْر ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ) فِيهِ: جَوَاز الِانْغِمَار فِي الْكُفَّار، وَالتَّعَرُّض لِلشَّهَادَةِ، وَهُوَ جَائِز بِلَا كَرَاهَة عِنْد جَمَاهِير الْعُلَمَاء. 2ـ فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة: ففي رمضان في السنة الثامنة للهجرة تحقق أكبر فتح للمسلمين وهو فتح مكة المعقل الأكبر للشرك آنئذ. وكان لهذا الفتح أثر كبير في تاريخ البشرية، فقد قضى على الأوثان والشرك في مكة تمامًا، وتسابقت الشعوب والقبائل إلى الدخول في الإسلام،

ودخلت الجزيرة العربية بأكملها في دين الله، وبدأ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في بعث الرسل إلى البلاد المجاورة. ووضع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الأسس الخالدة التي قامت عليها الفتوحات الإسلامية، مثل عدم الاعتداء على المدنيين، وعدم قطع شيء من النبات بلا فائدة، والعفو والصفح عند المقدرة. 3ـ فتح (البويب) في السنة 13 هجرية: لما سمع أمراء الفرس بكثرة جيوش المثنى بن حارثة، بعثوا إليه جيشا آخر مع رجل يقال له: مهران. فتوافَوا هم وإياهم بمكان يقال له: البويب قريب من مكان الكوفة اليوم، وبينهما الفرات وأقام بمكانه حتى كاتبه مهران: إما أن تعبروا إلينا وإما أن نعبر إليكم، فقال المثنى: اعبروا فعبَر مهران فنزل على شاطئ الفرات، وذلك في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة. فعزم المثنى على المسلمين في الفطر ليقووا بالطعام على قتال العدو فأفطروا عن آخرهم، وعبأ الجيش، وخرج يطوف في صفوفه يعهد إليهم عهده وهو على فرسه، فوقف كل راية من رايات الأمراء القبائل ويعظهم ويحثهم على الجهاد والصبر والصمت والثبات. وقال المثنى لهم: إني مكبر ثلاث تكبيرات فتهيأوا، فإذا كبرت الرابعة فاحملوا. فقابلوا قوله بالسمع والطاعة والقبول. فلما كبر أول تكبيرة عاجلتهم الفرس فحملوا حتى غالقوهم، واقتتلوا قتالا شديدًا، وركدت الحرب. ورأى المثنى في بعض صفوفه خللا، فبعث إليهم رجلا يقول: الأمير يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: لا تفضحوا المسلمين اليوم؛ فاعتدلوا. وجعل المثنى والمسلمون يدعون الله بالظفر والنصر، فلما طالت مدة الحرب جمع المثنى جماعة من أصحابه الأبطال يحمون ظهره، وحمل على مهران فأزاله عن موضعه حتى دخل الميمنة، وقُتِلَ مهرانُ، وهربت المجوس وركب المسلمون أكتافهم بقية

ذلك اليوم وتلك الليلة، ومن الغد إلى الليل. وغنم المسلمون مالًا جزيلًا وطعامًا كثيرًا، وبعثوا بالبشارة والأخماس إلى عمر - رضي الله عنه -. وقد قتل من سادات المسلمين في هذا اليوم بشر كثير أيضا، وذلت لهذه الوقعة رقاب الفرس، وتمكن الصحابة من الغارات في بلادهم فيما بين الفرات ودجلة، فغنموا شيئًا عظيمًا لا يمكن حصره وكانت هذه الوقعة بالعراق نظير اليرموك بالشام. 4ـ فتح النوبه سنة 31 هجرية. 5ـ وفي عام 92هـ وفي رمضان كان فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد. 6ـ فتح عمورية سنة 223 هجرية: طمع (تيوفيل بن ميخائيل) ملك الروم في بلاد المسلمين، خاصة عندما علم أن جنود المسلمين جميعهم في أذربيجان يواصلون فتوحاتهم. فأخذ يعبئ الجنود، وخرج قائدًا على مائة ألف من الروم لقتال المسلمين، فوصل إلى حصن (زبطرة)، فقتل الأطفال والشيوخ، وخرّب البلاد، وأسر النساء وسباهن، وانتهك أعراضهن وحرماتهن، ومثّل بكل من وقع في يده من المسلمين. وكان من ضمن النساء امرأة اقتادها جنود الروم للأسر، فصرخت هذه المرأة، وقالت: «وامعتصماه». فلما وصل الخبر إلى المعتصم خليفة المسلمين استشاط غضبًا، وأخذته الحمية والغضب لله، وقال: «لبيك». وأخذ في الاستعداد، وجمع الجنود، وأعدّ العدة، وخرج على رأس جيش لنجدة المسلمين، وقرر فتح عمورية أقوى حصون الروم. وقام الجيش الإسلامي بحصار المدينة حصارًا شديدًا، حتى استطاع أن يُحدث ثغرة في سورها، فاندفع الجنود داخل المدينة، وحاربوا بكل قوة وشجاعة؛ حتى سيطروا على المدينة، وانتصروا على الروم يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان. وهكذا تم فتح أصعب الحصون الرومانية، مما كان له أكبر الأثر في نفوس المسلمين، حيث قويت معنوياتهم، وسهل لهم استمرار الفتوحات في شرق أوروبا. كما أضعف هذا النصر من معنويات الروم، لأنه أظهر لهم قوة المسلمين وشجاعتهم، وأنهم أصبحوا قوة لا يستهان بها، ويخشى الأعداء بأسها. كذلك عايش بعض الروم

الحياة الإسلامية، وأعجبوا بأخلاق المسلمين وطهارة سيرهم، وعظمة دينهم، فدخلوا في الإسلام، بعد أن شعروا برحمته وعدله. 7ـ وفي رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمائة تم طرد الصليبيين من سوريا على يد القائد صلاح الدين الأيوبي الذي استرد من الصليبيين الأراضي التي استولوا عليها في فلسطين. 8ـ عين جالوت في فلسطين سنة 658 هجرية: (عين جالوت) بلدة من أعمال فلسطين المغتصبة ـ ردها الله إلى المسلمين قريبًا ـ وهي بلدة بين بيسان ونابلس. وبطل هذه المعركة الجليلة هو السلطان المظفر سيف الدين قُطز بن عبد الله، الذي تولَّى الحكم في مصر يوم السبت 17 من ذي القعدة سنة سبع وخمسين وستمائة. استمر المغول في زحفهم المدمر حتى دخلوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية، واستطاع (هولاكو) ـ حفيد جنكيز خان ـ إسقاط الخلافة العباسية، وقتْل الخليفة العباسي سنة 1258م، وتدمير بغداد عاصمة الخلافة. وواصل هولاكو تقدمه، فاستولى على حلب ودمشق، وكان بغي التتار قد امتد وزاد حتى احتلوا بلدة (الخليل) وبلدة (غزة) من أرض فلسطين، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء والصبيان، واستاقوا من الأسرى عددًا كبيرًا، ولم يبق أمامه إلا مصر، فأرسل هولاكو رسالة تهديد لحاكم مصر آنذاك السلطان (سيف الدين قطز)، ويطلب منه الاستسلام، فأبى السلطان قطز، وأخذ يعد جيوشه وأرسل قوة استطلاعية بقياد (بيبرس) الذي استطاع أن يهزم إحدى الفرق المغولية. ورحل السلطان قطز بعساكره ونزل الغور بعين جالوت في فلسطين، وكانت جموع التتار هناك، وفي يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان قامت معركة عنيفة بين الفريقين، وتقاتلوا قتالًا شديدًا لم ير الناس مثله، واشتد الأمر في بدء المعركة على المسلمين، فاقتحم قطز ميدان المعركة، وباشر القتال بنفسه، وأبلى في ذلك اليوم بلاء حسنًا. وحقق المسلمون نصرًا ساحقًا على جيش المغول، وأسروا قائدهم، وأمر (قطز) بقتله.

وانتهت بانتهاء معركة عين جالوت أسطورة الجيش المغولي الذي لا يقهر، واستطاع المسلمون إنقاذ العالم كله من همجية المغول وخطرهم، والذين أخذوا يفرون إلى ديارهم وهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة في عين جالوت وكانت هذه المعركة البداية لدولة المماليك في مصر والشام. 9ـ معركة المنصورة سنة 647هـ: كانت في شهر رمضان سنة 647هـ ضد الصليبيين. فقد قدم (لويس التاسع) ملك فرنسا يقود جيشًا قوامه 110 آلاف مقاتل، مزودين بأحدث أنواع الأسلحة، في أحدث حملة صليبية، وواصل زحفه حتى استولى على دمياط سنة 1249م، ثم توجّه إلى المنصورة، وعلى ضفاف البحر الصغير دارت معركة حامية، اشترك فيها العربان والمشايخ والفلاحون، واشترك في تعبئة الروح المعنوية الإمام (العز بن عبد السلام) وهو يومئذ ضرير، وانتهت المعركة بأن أسر المسلمون من الصليبيين مائة ألف وقتلوا عشر آلاف، وأُسر الملك لويس التاسع، وسجن بدار ابن لقمان بالمنصورة، ثم افتُدي الملك بدفع (40 ألف دينار)، وأٌطلق سراحه. 10ـ ثم كان آخر الانتصارات انتصار العاشر من رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف، حين عبرت القوات المصرية قناة السويس، وحطمت خط بارليف الذي شيده اليهود، فكسرت الذراع الإسرائيلية، وكان هذا النصر بعد أن رفع المسلمون صيحة (الله أكبر). أمَّةَ الإسلامِ يا شعبَ الجهادْ ... مَنْ سوَاكُمْ حَلَّ أغلالَ الورَى أيُّ داعٍ قبْلَكم في ذَا الوجودْ ... صاحَ لا كسرَى هنَا لا قيصرَا مَن سواكُمْ في قديمٍ أو حديثْ ... أطْلَعَ القرآنَ صبحًا للرشادْ هاتفًا في مسمعِ الكونِ العظيمْ ... ليسَ غيرُ اللهِ ربًا للعبادْ

47 - خطبة عيد الفطر

47 - خطبة عيد الفطر رمضانُ لا ترْتحِلْ فالنفسُ ظامئةٌ ... شوقًا لبلْسَمِكَ الشافي وتعتصرُ إنْ ترتحلْ تبْسُطِ الآثامُ أذْرُعَها ... ويأسَنُ الصبرُ والأحلامُ تنتحرُ • وداع الضيف الحبيب: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وبفضله تحصل الدرجات وبكرمه تبدل الخطيئات الحمد لله على تمام الشهر وكمال الفضل فالفضل لك وحدك لا شريك لك؛ فتقبل منا وأعفُ عنا وتجاوز عن تقصيرنا وأحسن عاقبتنا في الأمور كلها. إنه العيدُ جاءَ ضيفًا عزيزًا ... فاكتُبُوا بالمِدادِ فيضَ التهاني كبّرُوا اللهَ عَلَّ تكبيرةَ العيدِ تضخّ الضميرَ في الشريانِ زلزلَتْ في القديمِ إيوانَ كسرَى هلْ تهزُّ الغداةَ كِسرَى الزمانِ ها هي صفحات الأيام تطوى وساعات الزمن تنقضي .. بالأمس القريب استقبلنا حبيبا واليوم نودعه .... وقبل أيام هلّ هلالُ رمضان واليوم تصرمت أيامه ... ولئن فاخرت الأمم ـ من حولنا ـ بأيامها وأعيادها واخلعتها أقدارا زائفة، وبركات مزعومة وسعادة واهية فإنما هي تضرب في تيه وتسعى في ضلال .... ويبقى الحق والهدى طريق أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. فالحمد لله الذي هدى أمة الإسلام سبيلها وألهمها رشدها وخصها بفضل لم يكن لمن قبلها .. أطلِق بصرك لترى هذه الأمة المرحومة مع إشراقة يوم العيد تتعبد الله - عز وجل - بالفطر كما تعبدته من قبل بالصيام. • الأعياد من جملة الشرائع: إن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج يقول الله - عز وجل -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)،

ويقول - عز وجل -: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67) أي: عيدًا يختصون به. عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟». قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ» (صحيح رواه أبوداود). فالعيد شعيرة من شعائر الإسلام ومظهر من أجل مظاهره، تهاون به بعض الناس وقدموا الأعياد المحدثة عليه .. فترى من يستعد لأعياد الميلاد وأعياد الأم وشم النسيم والغطاس وغيرها ويسعد هو وأطفاله بقدومها ويصرف الأموال لإحيائها .. أما أعياد الإسلام فلا قيمة لها بل ربما تمر وهو معرض عنها غير ملتفت إليها. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32) • يوم العيد يوم فرح وسرور ولكن: إن يوم العيد يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته، وخلصت لله نيته. واعلموا أيها المسلمون، أنه ليس السعيد من تزين وتجمل للعيد، فلَبِسَ الجديد (¬1)، ولا من خدَمَتْهُ الدنيا وأتتْه على ما يريد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد .. وسكب الدمع تائبًا رجاء يوم المزيد .. والسعيد من فاز بتقوى الله تعالى، وكتب له النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم والصديد، وفاز بجنة الخلد التي لا ينقص نعيمها ولا يبيد. فالحذَر الحذَر أن تكون الأعيادُ موسمًا يُعَبُّ فيه من اللهو عَبًّا، بلا تحرُّز من حرام أو تباعُد عن باطل، فذلك ينافي تعاليمَ الإسلام، ويضادُّ مقاصدَه من الأعياد وغيرها. • ¬

_ (¬1) بل من السنة لبس الجديد يوم العيد فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَلْبَسُ يومَ العِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ». (رواه الطبراني وإسناده جيد)، وإنما المقصود أن العيد الحقيقي يوم القيامة لمن التزم بشرع الله - عز وجل -.

وقفات سريعة موجزة مع آداب وأحكام العيد: أولًا: احمدِ الله عز وجل أن أتم عليك أيام هذا الشهر العظيم وجعلك ممن صامه وقامه. وأكثر من الدعاء بأن يتقبل الله منك الصيام والقيام وأن يتجاوز عن تقصيرك وزللك. ثانيًا: التكبير: التكبير في أيام العيدين سنة؛ قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة:185). ويسن جهر الرجال به في المساجد والأسواق والبيوت إعلانًا بتعظيم الله وإظهارًا لعبادته وشكره. وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يخرج يوم الفطر فيكبر حتى يأتى المُصًلَّى، وحتى يقضي الصلاة، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير. (أخرجه ابن أبي شيبة وصححه الألباني). وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير حتى يأتي المصلى ثم يكبر حتى يأتي الإمام. (رواه الدارقطني وصححه الألباني). وجمهور العلماء على أن التكبير في عيد الفطر من وقت الخروج إلى الصلاة إلى ابتداء الخطبة. وقال بعض العلماء: التكبير من ليلة الفطر إذا رأوا الهلال حتى يغدوا إلى المصلى وحتى يخرج الامام. ووقت التكبير في عيد الأضحى من صبح يوم عرفة إلى عصر أيام التشريق وهي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر من ذي الحجة. والتكبير في أيام التشريق لا يختص استحبابه بوقت دون وقت، بل هو مستحب في كل وقت من تلك الأيام. وأصح ما ورد في صيغة التكبير ما رواه عبد الرزاق عن سلمان سدد خطاكم بسند صحيح قال: كبروا: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا. وجاء عن عمر وابن مسعود - رضي الله عنهما -: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

ثالثًا: الاغتسال والتطيب للرجال ولبس أحسن الثياب: بدون إسراف ولا إسبال ولا حلق لحية فهذا حرام ـ أما المرأة فيشرع لها الخروج إلى مصلى العيد بدون تبرج ولا تطيب. ونربأ بالمسلمة أن تذهب لطاعة الله وهي متلبسة بمعصية التبرج والسفور والتطيب أمام الرجال. رابعًا: أكل تمرات: وترا ثلاث أو خمس قبل الذهاب إلى المصلى لفعل الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. خامسًا: الصلاة مع المسلمين وحضور الخطبة: والذي رجحه المحققون من أهل العلم كشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره: أن صلاة العيد واجبة ولا تسقط إلا بعذر، والنساء يشهدن العيد مع المسلمين حتى الحُيَّض، ويعتزل الحُيَّضُ المصلَّى. سادسًا: مخالفة الطريق: يستحب الذهاب إلى مصلى العيد من طريق، والرجوع من طريق آخر لفعل النبي. سابعًا: لا بأس بالتهنئة بالعيد: كقول (تقبل الله منا ومنك). • مخالفات العيد: وننبهك أخي الحبيب إلى بعض المخالفات ـ مع الأسف ـ التي تقع في يوم العيد وليلته لتحذيرها .. والعجب أن يختم بعض المسلمين هذه الطاعة بالمعاصي .. ويستبدل البعض الآخر الاستغفار في نهاية كل عبادة باللهو والعبث .. ومن المخالفات: * اعتقاد مشروعية إحياء ليلة العيد والأحاديث الواردة فيها لا تصح. * تخصيص يوم العيد لزيارة المقابر والسلام على الأموات. * اختلاط النساء بالرجال في بعض المصليات والشوارع والمنتزهات. * بعض الناس يجتمعون في العيد على الغناء واللهو والعبث وهذا لا يجوز. * البعض يظهر عليه الفرح بالعيد لأن شهر رمضان انتهى وتخلص من العبادة فيه وكأنها حمل ثقيل على ظهره .. وهذا خطر عظيم.

*الإغراق في المباحات من لبس وأكل وشرب حتى تجاوز الأمر إلى الإسراف في ذلك. قال تعالى: {وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31). • العيد استمرار على العهد وتوثيق للميثاق: فيا من وفَّى في رمضان على أحسن حال لا تُغَيِّر في شوال .. ويا من أدرك العيد عليك بشكر النعم والثناء عليه ولا تنقض غزلًا من بعد قوة وعناء {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ *وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (النحل:91:92). {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} الأيمان: جمع يمين وهو الحلف بالله، وتوكيدها: تغليظها بالألفاظ الزائدة {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} أي وكيلًا، أي أثناء حلفكم به تعالى، فقد جعلتموه وكيلًا، فهذه الآية حرمت نقض الأيمان وهو نكثها وعدم الالتزام بها بالحنث فيها لمصالح مادية. وقوله تعالى {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} فيه وعيد شديد لمن ينقض أيمانه بعد توكيدها. {نَقَضَتْ غَزْلَهَا}: أي أفسدت غزلها بعد ما غزلته. {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ}: أي إحكام له وبرم. {أَنكَاثًا}: جمع نكث وهو ما ينكث ويحل بعد الإبرام. فهي تعبت على الغزل ثم على النقض، ولم تستفد سوى الخيبة والعناء وسفاهة العقل ونقص الرأي، فكذلك من نقض ما عاهد عليه فهو ظالم جاهل سفيه ناقص الدين والمروءة. فنهى الله تعالى المؤمنين أن ينقضوا أيمانهم بعد توكيدها فتكون حالهم كحال هذه الحمقاء. وقوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا} أي إفسادًا وخديعة كأن تحالفوا جماعة وتعاهدوها، ثم تنقضون عهدكم وتحلون ما أبرتم من عهد وميثاق وتعاهدون جماعة أخرى لأنها أقوى وتنتفعون بها أكثر. هذا معنى قوله تعالى {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} أي جماعة أكثر من جماعة رجالًا وسلاحًا أو مالًا ومنافع.

وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ} أي يختبركم فتعرض لكم هذه الأحوال وتجدون أنفسكم تميل إليها، ثم تذكرون نهي ربكم عن نقض الأيمان والعهود فتتركوا ذلك طاعة لربكم أولًا تفعلوا إيثارًا للدنيا عن الآخرة، {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} ثم يحكم بينكم ويجزيكم، المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. * احذر الرجوع إلى الذنب بعد الطاعة فإن ذلك علامة مقت وخسران، فالعيد بقاء على الخير وثبات على الجادة واستمرار في الطريق قال بعض أصحاب سفيان الثوري: خرجت مع سفيان يوم العيد فقال: «إن أول ما نبدأ به يومنا هذا غض البصر». * حذار حذار من جلساء وأصحاب السوء واصطحاب آلات اللهو في المتنزهات والاستراحات والعكوف عليها، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ» (رواه البخاري). (الْحِرَ):الْفَرْج، وَالْمَعْنَى يَسْتَحِلُّونَ الزِّنَا، (وَالْمَعَازِف) هِيَ آلَات الْمَلَاهِي، أي الآلات الموسيقية. • رب رمضان هو رب كل الشهور: لا تنس أيها الأخ الحبيب أن رب رمضان هو رب الشهور .. واستمر على الطاعة واسأل الله عز وجل الثبات على هذا الدين حتى تلقاه، وأعلم أن نهاية وقت الطاعة والعبادة ليس رؤية هلال العيد كما يتوهم البعض بل هو كما قال الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:99). واليقين هو الموت .. قال بعض السلف: ليس لعمل المسلم غاية دون الموت. وقال الحسن: أبَى قوم المداومة، والله ما المؤمن بالذي يعمل شهر أو شهرين أو عام أو عامين، لا والله ما جعل لعمل المؤمن أجل دون الموت. وقرأ عمر بن الخطاب وهو يخطب الناس على المنبر: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} (فصلت:30). فقال: استقاموا والله بطاعة الله ثم لم يروغوا روغان الثعلب.

وإن ودَّعْتَ ـ أيها المسلم ـ شهر الطاعة والعبادة وموسم الخير والعتق من النار فإن الله عز وجل جعل لنا من الطاعات والعبادات ما تهنأ به نفس المؤمن وتقر به عين المسلم من أنواع النوافل والقربات طوال العام ومن ذلك: *صيام ست من شوال؛ قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ». (رواه مسلم). وإن كان عليك قضاء فاقْضِه ثم صُمْها. * صيام أيام البيض 13، 14، 15، وصيام يوم عرفه لغير الحاج، وكذلك صيام أيام الاثنين والخميس. * قيام الليل والمحافظة على الوتر. وتأَسَّ بالأخيار {كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (الذاريات:17). * المداومة على الرواتب التابعة للفرائض اثنتا عشرة ركعة: أربع قبل الظهر وركعتان بعده وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر. * قراءة القرآن والحرص على ذلك يوميًّا ولو جزءًا واحدًا على الأقل. * احرص على أعمال البر واستقم على الطاعة. قال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ} (هود:112). وأنواع الطاعات كثيرة وأجرها عظيم قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (النحل:97). فاحرص أخي المسلم على الاستمرار على الأعمال الصالحة واحذر أن يفجأك الموت على معصية .. واستحضر أن من علامات قبول عملك في رمضان استمرارك على الطاعة بعده .. والحسنة تتبعها الحسنة والسيئة تجر السيئة. * تذلل وتضرع وأدع ربك أن يحييك على الإسلام وأن يميتك عليه وأسأله الثبات على كلمة التوحيد عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ

تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ؛ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ». (صحيح رواه الترمذي). • أيام العيد أيام عبادة وشكر: أيام العيد ليست أيام لهو وغفلة بل هي أيام عبادة وشكر، والمؤمن يتقلب في أنواع العبادة، ولا يُعرفُ حدٌّ لها .. ومن تلك العبادات التي يحبها الله ويرضاها: صلة الأرحام وزيارة الأقارب وترك التباغض والتحاسد والعطف على المساكين والأيتام وإدخال السرور على الأرملة والفقير. وتأمل دورة الأيام واستوحش من سرعة انقضائها .. وافزع إلى التوبة وصدق الالتجاء إلى الله - عز وجل - ووطِّن أيها الحبيب نفسك على الطاعة وأَلْزِمْها العبادة فإن الدنيا أيام قلائل. وأعلم أنه لا يهدأ قلب المؤمن ولا يسكن روعة حتى تطأ قدمه الجنة .. فسارع إلى جنة عرضها السموات والأرض وجنب نفسك نارًا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى. عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أَنْ لَنْ يُدْخِلَ أَحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأَنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» (رواه البخاري). • احذر الركون إلى الدنيا وكفران النعم: اشتهت زوجة المعتمد بن عباد ـ أحد ولاة الأندلس ـ أن تمشي في الطين وتحمل القِرَب؟! فأمر المعتمد أن يُنْثَرَ المسكُ على الكافور والزعفران وتحمل قربًا من طيب المسك لتخوض فيه زوجته تحقيقًا لشهوتها. وتجري السُنّة الإلهية وتتهاوى حصون الإسلام في الأندلس بسبب اللهو والغفلة والإغراق في الشهوات ليؤخذ المعتمد أسيرًا إلى (أغمات) وتبقى بناته يتجرَّعْنَ كأس الفقر بعد الغنى، والذلة بعد العزة؛ يغْزِلْنَ للناس ـ يتكسّبْنَ ـ حتى إذا علم المعتمد بذلك تمثل يقول: فيما مضَى كنتَ بالأعيادِ مسْرورًا فساءَك العيدُ في أغمات مأْسُورًا ترَى بناتَك في الأطمارِ جائعةً يغزِلْنَ للناسِ ما يملكْنَ قِطْمِيرَا

برَزْنَ نحوَكَ للتسليمِ خاشعةً أبصارُهن حسيراتٍ مكاسيرَا يَطَأنَ في الطينِ والأقدامُ حافيةٌ كأنّها لم تطَأ مِسْكًا وكافورَا مَن باتَ بعدَك في مُلكٍ يُسَرُّ به فإنما باتَ بالأحلامِ مسرورَا {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل:112). • العيد فرصة لتحسين العلاقات وتسوية النزاعات وجمع الشمل ورأب الصدع وقطع العداوات المستشرية: ورحم الله من أعان على إعادة مياه المودة إلى مجاريها؛ فاجعل هدية العيد لهذا العام عفو وصفح وغفران، قال - عز وجل -: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن:14) ما أجمل أن يكون العيد فرصة لصلة المتهاجرين والتقاء المتقاطعين. إن الرجل الكريم هو من يعفو عن الزلة ولا يحاسب على الهفوة حاله كما قيل: وإنّ الذي بينِي وبينَ بَنِي أخِي وبينَ بنِي عمّي لمختلفٌ جِدَّا إذا نَهَشُوا لحمِي وَفَرْتُ لحومَهم وليس زعيم القومِ مَن يحملُ الحِقْدَا (وَفَرْتُ: حميتُ وصُنْتُ). ليس زعيم القوم من يحمل الحقدا، ليس كريمًا ولا عظيمًا ولا سيدًا من يجمع الأحقاد ويحمل الضغائن ويداوم على الجفاء والقطيعة. إنه لابد لتحسين العلاقات من نفوس كبيرة تتسع لهضم البغضاء وقضم العداوات؛ {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى: 37). لقد دعا الإسلام إلى احتواء النزاعات بفعل المعروف ـ خاصة مع الأقارب ـ واعتبر ذلك من أفضل البر فعن أم كلثوم بنت عقبة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أفْضَلُ الصَّدَقَةِ: الصَدَقَةُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ» (صحيح رواه أحمد وغيره). الكاشِحُ: العَدُوُّ الذي يُضْمِر عَداوَته ويَطْوي عليها كَشْحَه: أي باطِنَه. يعني أفضل الصدقة على ذي الرحم المضمر العداوة في باطنه فالصدقة عليه أفضل منها على ذي الرحم الغير كاشح لما فيه من قهر النفس للإذعان لمعاديها. فأصلحوا ذات بينكم، ولا يصدنكم الشيطان، فإنه قد يزين للمسلم أن هذا التنازل عن الحقوق والصفح عن الهفوات نوع ضعف وعجز ومهانة وأن يقال في المسلم ذلك خير له من أن يقع في بحور القطيعة وخطيئة فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» (رواه البخاري ومسلم). (وَلَا تَدَابَرُوا) التَّدَابُر الْمُعَادَاة، وَقِيلَ: الْمُقَاطَعَة؛ لِأَنَّ كُلّ وَاحِد يُوَلِّي صَاحِبه دُبُره. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: لَا تَتَهَاجَرُوا فَيَهْجُر أَحَدكُمْ أَخَاهُ، مَأْخُوذ مِنْ تَوْلِيَة الرَّجُل الْآخَر دُبُره إِذَا أَعْرَضَ عَنْهُ حِين يَرَاهُ، وَالْحَسَد تَمَنِّي زَوَال النِّعْمَة، وَهُوَ حَرَام. وَمَعْنَى (كُونُوا عِبَاد اللهِ إِخْوَانًا) أَيْ تَعَامَلُوا وَتَعَاشَرُوا مُعَامَلَة الْإِخْوَة، وَمُعَاشَرَتهمْ فِي الْمَوَدَّة وَالرِّفْق، وَالشَّفَقَة وَالْمُلَاطَفَة، وَالتَّعَاوُن فِي الْخَيْر، وَنَحْو ذَلِكَ، مَعَ صَفَاء الْقُلُوب، وَالنَّصِيحَة بِكُلِّ حَال. • معاشر النساء: أَجِبْنَ نداء الله لَكُنَّ حيث قال: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ} (الأحزاب: 33) إنها آية عظيمة جامعة لو تأملَتْها المرأة وعملت بها لحازت خير الدنيا والآخرة. إن الأصل في المرأة قرارها في البيت إذ هي نور أركانه وسكون أرجائه والخروج من البيت أمر طارئ لا يكون إلا لحاجة البيت هو وظيفة المرأة الأساس فما بالنا نرى

تهافت النساء على الخروج من البيت لحاجة ولغير حاجة والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}. إنَّ خير النساء امرأة البيت فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ؛ أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدٍ فِي صِغَرِهِ، وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ» (رواه البخاري ومسلم). (أَحْنَاهُ): أَكْثَره شَفَقَة، وَالْحَانِيَة عَلَى وَلَدهَا هِيَ الَّتِي تَقُوم عَلَيْهِمْ فِي حَال يُتْمهمْ فَلَا تَتَزَوَّج، (وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْج فِي ذَات يَده) أَيْ أَحْفَظ وَأَصْوَن لِمَالِهِ بِالْأَمَانَةِ فِيهِ وَالصِّيَانَة لَهُ وَتَرْك التَّبْذِير فِي الْإِنْفَاق. إن مكان المرأة في البيت لا يمكن أن يسده أحد، إن الخادمة في البيت قد تعد الطعام والشراب واللباس وتنظف الملابس والبيت لكنها لا تستطيع أن تمنح البيت حنان الأم. قال أحد المشايخ الثقات: «لي قريبة تدرس في إحدى المدارس فلما أرادت أن تخرج إلى المدرسة كعادتها لحِقَ بها طفلها الصغير وهو يناديها، فالتفتت إليه وقالت: ماذا تريد فقال: أين تذهبين عني كل يوم فقالت: للمدرسة. فقال ولماذا؟ قالت: حتى آتي لك بالمال تشتري به ألعاب وحلوى ـ وكأنها تريد أن تخفف عنه لوعة الفراق ـ فلما جاء يوم وأرادت الخروج كعادتها لحق بها ينادي وهو يمد يده قد قبض بكفه على ريال وهو يقول: «خذي يا أماه، واجلسي معي في البيت». * عليكِ بخدمة الزوج والقيام معه بالطاعة ورعاية أولاده وحفظ ماله ومتاعه فإن لك بذلك عظيم الأجر وجزيل العطاء وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذَا صَلّتْ المرْأةُ خَمْسَهَا وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحصَّنَتْ فَرْجَهَا، وَأطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي مِنْ أيِّ أبْوَابِ الجَنَّةِ شِئْتِ» (صحيح رواه ابن حبان). وروى الطبراني في معجمه وصححه الألباني أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ألَا أخْبِرُكُمْ بِنِسَائِكُمْ فِي الجَنَّةِ؟» (يعني نساء الدنيا) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: «الوَدُودُ الوَلُودُ

العَؤُودُ التِي إذَا ظُلِمَتْ قَالَتْ: هَذِهِ يَدِي فِي يَدِكَ لَا أذُوقُ غَمْضًا حَتَّى تَرْضَى» (حسن رواه الطبراني). أما لكِ أسوة حسنة في عباسة بنت الفضل زوجة الإمام أحمد فقد قال عنها الإمام أحمد: أقمت مع (أم صالح) ثلاثين سنة!! فما اختلفت أنا وهي في كلمة!! ثم ماتت ـ رحمها الله - عز وجل -. * احذري الخضوع في مخاطبة الرجال ومخالطتهم وإبداء الزينة لهم ابتعدي عن ذلك في أماكن العبادة كمكة وفي الأعياد والجمع فضلًا عن الأسواق والحدائق العامة. عن أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لِلنِّسَاءِ: «اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ»، فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ» (حسن صحيح رواه أبو داود). (وَهُوَ خَارِج): أَيْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (أَنْ تَحْقُقْنَ) هُوَ أَنْ يَرْكَبْنَ حِقّهَا وَهُوَ وَسَطهَا. وَالْمَعْنَى أَنْ لَيْسَ لَهُنَّ أَنْ يَذْهَبْنَ فِي وَسَط الطَّرِيق. (بِحَافَّاتِ): جَمْع حَافَّة وَهِيَ النَّاحِيَة (ثَوْبهَا): أَيْ الْمَرْأَة (مِنْ لُصُوقهَا): أَيْ الْمَرْأَة (بِهِ): بِالْجِدَارِ. * احذري مشابهة الكافرات والماجنات بحجة متابعة الموضة؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ َتَشَّبَه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ». (صحيح رواه الإمام أحمد وغيره). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ مُمِيلَاتٌ مَائِلَاتٌ رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدْنَ رِيحَهَا وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا» (رواه مسلم). قال النووي - رحمه الله -: هَذَا الْحَدِيث مِنْ مُعْجِزَات النُّبُوَّة، فَقَدْ وَقَعَ مَا أَخْبَرَ بِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَأَمَّا أَصْحَاب السِّيَاط فَهُمْ غِلْمَان وَالِي الشُّرْطَة.

أَمَّا (الْكَاسِيَات) فَفِيهِ أَوْجُه أَحَدهَا: مَعْنَاهُ: كَاسِيَات مِنْ نِعْمَة اللهِ، عَارِيَات مِنْ شُكْرهَا، وَالثَّانِي: كَاسِيَات مِنْ الثِّيَاب، عَارِيَات مِنْ فِعْل الْخَيْر وَالِاهْتِمَام لِآخِرَتِهِنَّ، وَالِاعْتِنَاء بِالطَّاعَاتِ. وَالثَّالِث: تَكْشِف شَيْئًا مِنْ بَدَنهَا إِظْهَارًا لِجَمَالِهَا، فَهُنَّ كَاسِيَات عَارِيَات. وَالرَّابِع: يَلْبَسْنَ ثِيَابًا رِقَاقًا تَصِف مَا تَحْتهَا، كَاسِيَات عَارِيَات فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا (مَائِلَات مُمِيلَات): فَقِيلَ: زَائِغَات عَنْ طَاعَة اللهِ تَعَالَى، وَمَا يَلْزَمهُنَّ مِنْ حِفْظ الْفُرُوج وَغَيْرهَا، وَمُمِيلَات يُعَلِّمْنَ غَيْرهنَّ مِثْل فِعْلهنَّ، وَقِيلَ: مَائِلَات مُتَبَخْتِرَات فِي مِشْيَتهنَّ، مُمِيلَات أَكْتَافهنَّ، وَقِيلَ: مَائِلَات يَتَمَشَّطْنَ الْمِشْطَة الْمَيْلَاء، وَهِيَ مِشْطَة الْبَغَايَا مَعْرُوفَة لَهُنَّ، مُمِيلَات يُمَشِّطْنَ غَيْرهنَّ تِلْك الْمِشْطَة، وَقِيلَ: مَائِلَات إِلَى الرِّجَال مُمِيلَات لَهُمْ بِمَا يُبْدِينَ مِنْ زِينَتهنَّ وَغَيْرهَا. وَأَمَّا (رُءُوسهنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْت) فَمَعْنَاهُ: يُعَظِّمْنَ رُءُوسهنَّ بِالْخُمُرِ وَالْعَمَائِم وَغَيْرهَا مِمَّا يُلَفّ عَلَى الرَّأْس، حَتَّى تُشْبِه أَسْنِمَة الْإِبِل الْبُخْت، هَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي تَفْسِيره، قَالَ الْمَازِرِيّ: وَيَجُوز أَنْ يَكُون مَعْنَاهُ يَطْمَحْنَ إِلَى الرِّجَال وَلَا يَغْضُضْنَ عَنْهُمْ، وَلَا يُنَكِّسْنَ رُءُوسهنَّ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّ الْمَائِلَات تُمَشِّطْنَ الْمِشْطَة الْمَيْلَاء، قَالَ: وَهِيَ ضَفْر الْغَدَائِر وَشَدّهَا إِلَى فَوْق، وَجَمْعهَا فِي وَسَط الرَّأْس فَتَصِير كَأَسْنِمَةِ الْبُخْت، قَالَ: وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِالتَّشْبِيهِ بِأَسْنِمَةِ الْبُخْت إِنَّمَا هُوَ لِارْتِفَاعِ الْغَدَائِر فَوْق رُءُوسهنَّ، وَجَمْع عَقَائِصهَا هُنَاكَ، وَتُكْثِرهَا بِمَا يُضَفِّرْنَهُ حَتَّى تَمِيل إِلَى نَاحِيَة مِنْ جَوَانِب الرَّأْس، كَمَا يَمِيل السَّنَام. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (لَا يَدْخُلْنَ الْجَنَّة) يُتَأَوَّل تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدهمَا: أَنَّهُ مَحْمُول عَلَى مَنْ اِسْتَحَلَّتْ حَرَامًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ عِلْمهَا بِتَحْرِيمِهِ، فَتَكُون كَافِرَة مُخَلَّدَة فِي النَّار، لَا تَدْخُل الْجَنَّة أَبَدًا. وَالثَّانِي: يُحْمَل عَلَى أَنَّهَا لَا تَدْخُلهَا أَوَّل الْأَمْر مَعَ الْفَائِزِينَ». * حافظي على عفافك وحجابك وحيائك {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ

وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب59). احذري دعوات التغريب وسهام التضليل التي يقذف بها الأعداء. احذري تمييع الحجاب فالحجاب ستر وليس زينة. وليست العباءة الضيقة ولا الشفافة ولا مطرزة الأكمام حجابًا شرعيًا. * أيتها المسلمة .. الله - عز وجل - لحكمته جعل القوامة بيد الرجل {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء:34) فكان ذلك تكليفًا له بهذه الأمانة من أجل رعاية البيت وحمايته وحفظه. وإن التمرد على القوامة والنشوز دون حق شرعي يعتبر من أعظم الذنوب التي يعاقب الله عليها عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِذَا دَعَا الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَجِيءَ لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ» (رواه البخاري ومسلم). الْفِرَاش كِنَايَة عَنْ الْجِمَاع، وَظَاهِر الْحَدِيث اِخْتِصَاص اللَّعْن بِمَا إِذَا وَقَعَ مِنْهَا ذَلِكَ لَيْلًا لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَتَّى تُصْبِح» وَكَأَنَّ السِّرّ تَأَكُّد ذَلِكَ الشَّأْن فِي اللَّيْل وَقُوَّة الْبَاعِث عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوز لَهَا الِامْتِنَاع فِي النَّهَار، وَإِنَّمَا خُصَّ اللَّيْل بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ الْمَظِنَّة لِذَلِكَ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو امْرَأَتَهُ إِلَى فِرَاشِهَا فَتَأْبَى عَلَيْهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ سَاخِطًا عَلَيْهَا حَتَّى يَرْضَى عَنْهَا» (رواه مسلم). • أيها الرجال: على الزوج أيضًا أن يتقي الله في زوجته فلا يظلمها ولا يضربها، عليه أن يحفظ لها قيمتها وقدرها خصوصًا عند أولادها. عليك أيها الزوج أن تعلم أن رباط الزوجية رباط وثيق فهو رباط مصاحبة لا ينقطع بالموت؛ قال - عز وجل -: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس:33ـ38).

إنه عقد صحبة لا عقد رق وولاء وفي الحديث عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «كُلّ نَفْسٍ مِنْ بَنِي آدَمَ سَيِّدٌ؛ فالرَّجُلُ سَيِّدُ أهْلِهِ، والمرْأةُ سَيِّدَةُ بَيْتِهَا» (صحيح رواه ابن السني). فالواجب احترام سيادة المرأة في البيت وأن لا تسقط خاصة عند أولادها، وحين يدوس الزوج كرامة المرأة وتفعل المرأة ذلك فهو إذن سقوط البيت وتقويض خيامه وذهاب قيمته التربوية ودوره المرتقب. لابد أن يُبْنَى البيت على المودة والرحمة {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم:21) ولابد أن يبنى البيت على العفو والصفح بين كل من الطرفين {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن:14) وحين يرى أحد الطرفين من الآخر ما يسوؤه فليتذكر محاسنه وجوانب الكمال فيه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» (رواه مسلم). تسامَحْ ولا تَسْتَوْفِ حقّك كُلّهُ ... وأبْقِ فلمْ يستَوْفِ قَطّ كريمُ أيها الرجال، اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية لمسلم: «إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنْ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلَاقُهَا». (رواه مسلم). (أَعْلَاهَا): رَأْسهَا، وَفِيهِ لِسَانهَا وَهُوَ الَّذِي يَحْصُل مِنْهُ الْأَذَى. (وَإِنْ تَرَكْته لَمْ يَزَلْ أَعْوَج) أَيْ وَإِنْ لَمْ تُقِمْهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَج. (فَاسْتَوْصُوا) أَيْ أُوصِيكُمْ بِهِنَّ خَيْرًا فَاقْبَلُوا وَصِيَّتِي فِيهِنَّ وَاعْمَلُوا بِهَا. (بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) كَأنَ فِيهِ رَمْزًا إِلَى التَّقْوِيم يَرْفُق بِحَيْثُ لَا يُبَالِغ فِيهِ فَيَكْسِر وَلَا يَتْرُكهُ فَيَسْتَمِرّ عَلَى عِوَجه، فلَا يَتْرُكهَا عَلَى الِاعْوِجَاج إِذَا تَعَدَّتْ مَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ مِنْ

النَّقْص إِلَى تَعَاطِي الْمَعْصِيَة بِمُبَاشَرَتِهَا أَوْ تَرْكِ الْوَاجِب، وَإِنَّمَا الْمُرَاد أَنْ يَتْرُكهَا عَلَى اِعْوِجَاجهَا فِي الْأُمُور الْمُبَاحَة. وَفِي الْحَدِيث النَّدْب إِلَى الْمُدَارَاة لِاسْتِمَالَةِ النُّفُوس وَتَأَلُّف الْقُلُوب. وَفِيهِ سِيَاسَة النِّسَاء بِأَخْذِ الْعَفْو مِنْهُنَّ وَالصَّبْر عَلَى عِوَجهنَّ، وَأَنَّ مَنْ رَامَ تَقْوِيمهنَّ فَإِنَّهُ الِانْتِفَاع بِهِنَّ مَعَ أَنَّهُ لَا غِنَى لِلْإِنْسَانِ عَنْ اِمْرَأَة يَسْكُن إِلَيْهَا وَيَسْتَعِين بِهَا عَلَى مَعَاشه، فَكَأَنَّهُ قَالَ: الِاسْتِمْتَاع بِهَا لَا يَتِمّ إِلَّا بِالصَّبْرِ عَلَيْهَا. فالمرأة فيها الغيرة والعاطفة والليونة، وكل ذلك أمر طبعي؛ فعلينا أن نتعلم كيف نتعامل مع هذا الاعوجاج الفطري والذي يعتبر منتهى الكمال في حقها فاستقامة المنجل في اعوجاجه. • احذروا كيد الأعداء: فإنهم لا يريدون بكم خيرًا وقد أخبركم ربكم بدوام عداوتهم لكم {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} (البقرة:217) وأنهم لن يرضوا عنكم إلا بانسلاخكم عن دينكم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة:120). لقد نطقوا بالحقد قديمًا وحديثًا {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أكبر} (آل عمران:118) يقول (جلادستون) رئيس وزراء بريطانيا سابقًا: «مادام هذا القران موجود في أيدي المسلمين فلن تستطيع أوربا السيطرة على الشرق». لما كانت قلوبنا تردد التكبير مع الألسن نصرنا بالرعب مسيرة شهر وأحكمنا الأمر. إن تكبيرنا في العيد إعلانٌ لانتصار الدين على الدنيا والآخرة على الأولى، فالله أكبر من الدنيا ولذائذها والله أكبر من كيد الأعداء ِ {وَلَذِكْرُ اللهِ أكبر} (العنكبوت:45)، لقد دخلنا الأندلس لما كان نشيد طارق بن زياد في العبور (الله أكبر) وبقينا فيها زمانًا

كانت الهمة تغلب الشهوة؛ ذكر أهل السير أنه لما قدم لعبد الرحمن الداخل الخمر قال: «إني لما يزيد في عقلي أحوج، لا لما ينقصه». • جسد واحد: أخي المسلم، وأنت تعيش العيد لا تنسى أن تعيشه بروح الجسد الواحد فتذكر إخوانك في فلسطين وما يلاقونه من شرذمة اليهود الغاصبين، وإخوانك في العراق وأفغانستان والشيشان وفي كشمير والفلبين وفي الصومال وكيف تكالبت عليهم قوى الكفر والطغيان. عليك بكثرة الدعاء لهم واجعل من موسم العيد إعادةً لقضيتهم ونشرًا لصحيح أخبارهم. وتذكَّر أنهم يعيشون العيد تحت قذائف الطائرات ودوي الدبابات، كان الله لهم في العون وربط على قلوبهم وثبت أقدامهم. يعودُ العيدُ ياأحبابْ ... سعيدًا يقرعُ الأبوابْ يُحَيّينا .. ....... ويُحْيينا ... ويدعونا إلى المحرابْ يعودُ الحبُّ للقلبِ ... وهل أحلى من الحبِّ؟! فنَهْنَا بالجنَا العذبِ ... وندعو الله َ: يا توابْ نرى الفقراءَ قد ناموا ... وفي الأكبادِ آلامُ وقبلَ الصوم قد صاموا ... وأنتَ الرازق الوهّابْ فكبِّرْ يا أخا الإسلامْ ... فهذا أسعدُ الأيامْ وهيّا نمسح الآلامْ ... ونسقي الخيرَ َبالأكوابْ دموعُ القدسِ خلفَ النارْ ... تنادِي موكبَ الأحرارْ فكبّرْ .. دمِّر الأسوارْ ... فربُّك هازمُ الأحزابْ أيَا عيدٌ متى النصرُ؟ ... متى حطينُ أو بدرُ؟ تُرى هل يشرقُ الفجرُ؟ ... ونفرحُ فرحةَ الأصحابْ

*إن نصر هذه الأمة قد أقبلت أيامُه فأحسِنوا الظن بربكم واجمعوا مع الأمل حسن العمل واعلموا أن الشدائد التي تمر بها الأمة هي أمارات ميلاد جديد بإذن الله فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا. لا تقولوا: زرع الزارعُ والباغي حَصَدْ ذهب الأقصى وضاعت قدسُنا منّا وحيفانا ويافا وصَفَدْ لا تقولوا: حارس الثَّغْر رَقَدْ أنا لا أُنكر أنَّ البَغْيَ في الدُّنيا ظَهَرْ والضَّميرَ الحيَّ في دوَّامة العصر انْصَهَرْ أنا لا أُنكر أنَّ الوهمَ في عالمنا المسكون بالوهم انتشرْ غيرَ أنَّي لم أزلْ أحلف بالله الأحَدْ أنَّ نَصْرَ اللهِ آتٍ، وعدوَّ اللهِ لن يلقى من الله سَنَدْ لن ينال المعتدي ما يبتغي في القدسِ .... ما دام لنا فيها وَلَدْ ... ******* أتيتُ لكيْ أبشِّرَكُم ... بمصرعِ ليلِنا القاسِي أرى مِن قومِنا طفلًا ... يرتِّلُ سورةَ (الناسِ) يعوذُ بربِّه مِن شرِّ ... وَسواسٍ ٍ وخناسِ ِيقرأُ سورةَ (الأنفالِ) ... يُرهب ألف جساسِ ِأرى جيلًا بصحوتِنا ... شديدَ العزمِ والباسِ ِبصوتِ الحقِّ يصرخُ ... ثائرًا بوجوهِ أنجاسِ كتابُ اللهِ قائدُنا ... نسيرُ بخيرِ نبراسِ هو الفرقانُ إن تاهتْ ... خنازيرٌ بأرجاس ِ هو الميزان إن مالت ... يَدَا قَسٍّ ومَكَّاسِ أنخشَى الناسَ ياعجبًا ... وننسى خالقَ الناسِ

48 - الحج: عبر وعظات

48 - الحج: عبر وعظات يا سائرينَ إلى البيتِ العتيقِ لقَدْ سِرْتُم جُسُومًا وسِرْنَا نحنُ أروَاحَا إنّا أقَمْنَا علَى عُذرٍ وعن قدرٍ ومن أقام على عذرٍ كَمَنْ رَاحَا • متى فرض الحج: فُرِضَ الحج على الصحيح سَنَة تسع من الهجرة، وهي سنة الوفود التي نزلت فيها سورة آل عمران وفيها قول الله تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران:97) • حُكم الحج: الفرضية، وهو من أركان الدين، ودليله ما سبق من الآية الكريمة، وكذا جاء في السنة ما يدل عليه؛ فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ». (رواه البخاري ومسلم). • هل يجب الحج على الفور؟ نعم هو على الفور، ودليله ما سبق من الآية الكريمة، وهو الأصل في الأوامر الشرعية، ومن السنة ما يدل على هذا الحكم: 1 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَمْرَضُ الْمَرِيضُ وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ» (حسن رواه ابن ماجه). • الحج يجب مرة واحدة في العمر: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» ثُمَّ قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ؛ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ». (رواه مسلم). • فضل الحج: قد جاء في فضل الحج أحاديث كثيرة، منها: 1 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - سُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللهِ وَرَسُولِهِ»، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ» (رواه البخاري ومسلم). والحج المبرور معناه: أ- أن يكون من مالٍ حلال. ب-أن يبتعد عن الفسق والإثم والجدال فيه. جـ - أن يأتي بالمناسك وفق السنة النبوية. د - أن لا يرائي بحجه، بل يخلص فيه لربه. هـ- أن لا يعقبه بمعصية أو إثم. 2 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». (رواه البخاري ومسلم). 3 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الْجَنَّةُ». (رواه البخاري ومسلم). 4 - عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا نَغْزُو وَنُجَاهِدُ مَعَكُمْ؟ فَقَالَ: «لَكِنَّ أَحْسَنَ الْجِهَادِ وَأَجْمَلَهُ الْحَجُّ، حَجٌّ مَبْرُورٌ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «فَلَا أَدَعُ الْحَجَّ بَعْدَ إِذْ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه البخاري). 5 - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لعمرو بن العاص - رضي الله عنه -: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلِهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ». (رواه مسلم). 6 - عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ الْمَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلَّا الْجَنَّةُ» (صحيح رواه الترمذي). 7 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللهِ، دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ، وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ». (حسن رواه ابن ماجه).

• منافع الحج: قال الله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (الحج: 28). والمنافع: دنيوية ودينية. أما الدينية: فلتحصيل رضوان الله تعالى، والعودة بمغفرة الذنوب جميعًا، وكذا الأجور العظيمة التي لا توجد إلا في تلك الأماكن، فمثلًا الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، ولا يوجد طواف ولا سعي إلا في تلك الأماكن. ومن المنافع لقاء المسلمين، والوقوف على أحوالهم، ولقاء أهل العلم، والاستفادة منهم، وطرح المشكلات عليهم. وأما المنافع الدنيوية فمنها التجارة، وسائر وجوه المكاسب الناشئة والمتعلقة بالحجّ. • حِكَم الحج، وما فيه من آثار على النفس: لأداء مناسك الحج فضائل متعددة وحِكَم بالغة من وُفِّق لفهمهما والعمل بها وفق لخير عظيم، ومنها: 1 - سفر الإنسان إلى الحج لأداء المناسك: يتذكر سفره إلى الله والدار الآخرة، وكما أن في السفر فراق الأحبة والأهل والأولاد والوطن؛ فإن السفر إلى الدار الآخرة كذلك. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلَاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى مَعَهُ وَاحِدٌ: يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ» (رواه البخاري ومسلم). (يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ) هَذَا يَقَع فِي الْأَغْلَب، وَرُبَّ مَيِّتٍ لَا يَتْبَعُهُ إِلَّا عَمَلُهُ فَقَطْ، وَالْمُرَادُ مَنْ يَتْبَعُ جِنَازَتَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَرُفْقَتِهِ وَدَوَابِّهِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْعَرَبِ، وَإِذَا اِنْقَضَى أَمْرُ الْحُزْنِ عَلَيْهِ رَجَعُوا، سَوَاءٌ أَقَامُوا بَعْدَ الدَّفْنِ أَمْ لَا. 2 - وكما أن الذاهب في هذا السفر يتزود من الزاد الذي يبلِّغه إلى الديار المقدسة، فليتذكر أن سفره إلى ربه ينبغي أن يكون معه من الزاد ما يبلِّغه مأمنه، وفي هذا يقول الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (البقرة:197).

تزوَّدْ مِن التقوَى فإنك لا تَدرِي ... إذا جَنّ ليلٌ هل تعيشُ الى الفجرِ فكم مِن فتًى أمسَى وأصبحَ ضاحكًا وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدرِي وكم مِن عروسٍ زينُوها لزوجِها ... وقد قُبضَتْ أرواحهمْ ليلةَ القدْرِ ِوكم مِن صحيحٍ ماتَ مِن غيرِ عِلَّةٍ وكم مِن سَقيمٍ عاش حِينًا مِن الدهرِ 3 - وكما أن السفر قطعة من العذاب فالسفر إلى الدار الآخرة كذلك وأعظم منه بمراحل، فأمام الإنسان النَزْعُ والموت والقبر والحشر والحساب والميزان والصراط ثم الجنة أو النار، والسعيد من نجَّاه الله تعالى. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَجْمَعُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمْ الْجَنَّةُ فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: «وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ إِلَّا خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ». قَالَ: فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلًا مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى ـ عليه الصلاة والسلام ـ الَّذِي كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا». فَيَأْتُونَ مُوسَى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فَيَقُولُ: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِهِ»، فَيَقُولُ عِيسَى ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ. وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ. قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ. ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: «رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ»،حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زَحْفًا. قَالَ: وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ». وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا. (رواه مسلم). (تُزْلَف لَهُمْ الْجَنَّة): تَقْرُب، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّة لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ: قَرُبَتْ. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ إِبْرَاهِيم - صلى الله عليه وآله وسلم -: (إِنَّمَا كُنْت خَلِيلًا مِنْ وَرَاء وَرَاء) هَذِهِ كَلِمَة تُذْكَر عَلَى سَبِيل التَّوَاضُع أَيْ: لَسْت بِتِلْكَ الدَّرَجَة الرَّفِيعَة. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَتُرْسَل الْأَمَانَة وَالرَّحِم فَتَقُومَانِ جَنْبَتَيْ الصِّرَاط): (جَنَبَتَا الصِّرَاط) جَانِبَاهُ. و (إِرْسَال الْأَمَانَة وَالرَّحِم) لِعِظَمِ أَمْرهمَا وَكِبَر مَوْقِعهمَا فَتُصَوَّرَانِ مُشَخَّصَتَيْنِ عَلَى الصِّفَة الَّتِي يُرِيدهَا اللهُ تَعَالَى. (شَدّ الرِّجَال) عَدْوُهَا الْبَالِغ وَجَرْيُهَا. (تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالهمْ) مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ فِي سُرْعَة الْمُرُور عَلَى حَسَب مَرَاتِبهمْ وَأَعْمَالهمْ. 4 - وإذا لبس المُحْرم ثوبي إحرامه فلا يذكر إلا كفنه الذي سيكفن به، وهذا يدعوه إلى التخلص من المعاصي والذنوب، وكما تجرد من ثيابه فعليه أن يتجرد من الذنوب، وكما لبس ثوبين أبيضين نظيفين فكذا ينبغي أن يكون قلبه وأن تكون جوارحه بيضاء لا يشوبها سواد الإثم والمعصية. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ» (صحيح رواه ابن ماجه). 5 - وإذا قال الحاجُّ في الميقات: «لبيك اللهم لبيك» فهو يعني أنه قد استجاب لربه تعالى، فما باله باقٍ على ذنوب وآثام لم يستجب لربّه في تركها ويقول بلسان الحال: «لبيك اللهم لبيك» يعني: استجبتُ لنَهْيِك لي عنها وهذا أوان تركها؟ قال الله - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (الأنفال:24) يأمر تعالى عباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان منهم وهو الاستجابة لله وللرسول، أي: الانقياد لما أمرا به والمبادرة إلى ذلك والدعوة إليه، والاجتناب لما نهيا عنه، والانكفاف عنه والنهي عنه. وقوله - عز وجل -: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} وصف ملازم لكل ما دعا الله ورسوله إليه، وبيان لفائدته وحكمته، فإن حياة القلب والروح بعبودية الله تعالى ولزوم طاعته وطاعة رسوله على الدوام. ثم حذر عن عدم الاستجابة لله وللرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} فإياكم أن ترُدُّوا أمر الله أول ما يأتيكم، فيحال بينكم وبينه إذا أردتموه بعد ذلك، وتختلف قلوبكم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه، يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء. فليكثر العبد من قول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك». {وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي: تجمعون ليوم لا ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه. وقال - عز وجل -: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} (الشورى:47) يأمر تعالى عباده بالاستجابة له، بامتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، وبالمبادرة بذلك وعدم التسويف، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْم} القيامة الذي إذا جاء لا يمكن رده واستدراك الفائت، وليس للعبد في ذلك اليوم ملجأ يلجأ إليه، فيفوت ربه، ويهرب منه.

بل قد أحاطت الملائكة بالخليقة من خلفهم، ونودوا {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} (الرحمن:33) وليس للعبد في ذلك اليوم نكير لما اقترفه وأجرمه، بل لو أنكر لشهدت عليه جوارحه. وهذه الآية ونحوها، فيها ذم الأمل، والأمر بانتهاز الفرصة في كل عمل يعرض للعبد، فإن للتأخير آفات. 6 - وترك الحاجّ للمحظورات أثناء إحرامه، واشتغاله بالتلبية والذكر يبين له حال المسلم الذي ينبغي أن يكون عليه، وفيه تربية له وتعويد للنفس على ذلك، فهو يرَُوِّضُ نفسه ويربيها على ترك مباحات في الأصل، لكن الله حرمها عليه ها هنا في الحج، فكيف يتعدى على محرمات حرمها الله عليه في كل زمان ومكان؟ 7 - ودخول الحاجّ لبيت الله الحرام الذي جعله الله أمنًا للناس يتذكر به العبد الأمن يوم القيامة، وأنه لا يحصله الإنسان إلا بكد وتعب، وأعظم ما يؤمن الإنسان يوم القيامة التوحيد وترك الشرك بالله، وفي هذا يقول الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 82). {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا} أي: يخلطوا {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} الأمن من المخاوفِ والعذاب والشقاء، والهدايةُ إلى الصراط المستقيم، فإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا، لا بشرك، ولا بمعاصٍ، حصل لهم الأمن التام، والهداية التامة. وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده، ولكنهم يعملون السيئات، حصل لهم أصل الهداية، وأصل الأمن، وإن لم يحصل لهم كمالها. ومفهوم الآية الكريمة، أن الذين لم يحصل لهم الأمران، لم يحصل لهم هداية، ولا أمن، بل حظهم الضلال والشقاء.

وقال - عز وجل -: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج:26) 8 - وتقبيل للحجر الأسود يربي الزائر على تعظيم السنة، وأن لا يتعدى على شرع الله بعقله القاصر، ويعلم أن ما شرع الله للناس فيه الحكمة والخير، ويربي نفسه على عبوديته لربه تعالى، فَعُمَرَ - رضي الله عنه - جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» (رواه البخاري). أَرَادَ عُمَر - رضي الله عنه - أَنْ يُعَلِّم النَّاس أَنَّ اِسْتِلَامه اِتِّبَاعٌ لِفِعْلِ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، لَا لِأَنَّ الْحَجَر يَنْفَع وَيَضُرّ بِذَاتِهِ كَمَا كَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَعْتَقِدهُ فِي الْأَوْثَان، إنَّمَا شُرِعَ تَقْبِيله اِخْتِبَارًا لِيُعْلَم بِالْمُشَاهَدَةِ طَاعَة مَنْ يُطِيع، وَذَلِكَ شَبِيه بِقِصَّةِ إِبْلِيس حَيْثُ أُمِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَم. قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59). وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» (صحيح رواه أبو داود، وروى مسلم لفظة: «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»). «عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»: كناية عن شدة التمسك بها، و «النواجذ»: الأضراس. وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم». وقال الإمام مالك - رحمه الله -: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة: 3)، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا».

وقال الإمام الزهري - رحمه الله -: «الاعتصام بالسنة نجاة؛ لأن السنة ـ كما قال مالك ـ مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك». 9 - وفي طواف الحاجّ يتذكر أباه إبراهيم - عليه السلام -، وأنه بنى البيت ليكون مثابة للناس وأمنًا، وأنه دعاهم للحج لهذا البيت، فجاء نبينا محمدٌ - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعا الناس لهذا البيت أيضًا، وكذا كان يحج إليه موسى ويونس وعيسى - عليهم السلام -، فكان هذا البيت شعارًا لهؤلاء الأنبياء وملتقىً لهم، وكيف لا وقد أمر الله تعالى إبراهيم - عليه السلام - ببنائه وتعظيمه. 10 - وشرب الحاجّ لماء زمزم يذكره بنعمة الله تعالى على الناس بهذا الماء المبارك والذي شرب منه ملايين الناس على مدى دهور طويلة ولم ينضب، ويحثه على الدعاء عند شربه. عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (صحيح رواه ابن ماجه). وقال عنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأرْضِ مَاءُ زَمْزَم؛ فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُعْمِ وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ» (صحيح رواه الطبراني). (فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُعْمِ) أي طعام إشباع أو طعام شبع من إضافة الشئ إلى صفته، والطُعم: الطعام (وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ) أي شفاء من الأمراض إذا شرب بنية صالحة. وقال عنها رسول الله: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» (رواه مسلم). قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي زَمْزَم: «(إِنَّهَا طَعَام طُعْم» أَيْ تُشْبِعُ شَارِبهَا كَمَا يُشْبِعُهُ الطَّعَام. وفي قصة أبي ذر أنه لما دخل مكة أقام بها شهرًا لا يتناول غير مائها وقال: «مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوع» (رواه مسلم). (حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَن بَطْنِي) يَعْنِي اِنْثَنَتْ لِكَثْرَةِ السِّمَن وَانْطَوَتْ. (سُخْفَة جُوع) أي رِقَّةُ الْجُوعِ وَضَعْفه وَهُزَاله.

11 - والسعي بين الصفا والمروة يذكّر الحاجَّ بما تحملته هاجر أم إسماعيل وزوجة الخليل عليه السلام من الابتلاء، وكيف أنها كانت تتردد بين الصفا والمروة بحثًا عن مُغيث يخلصها مما هي فيه من محنة وخاصة في شربة ماء لولدها الصغير ـ إسماعيل ـ، فإذا صبرت هذه المرأة على هذا الابتلاء ولجأت لربها فيه فأنْ يفعل الرجل ذلك أولى وأحرى له، فالرجل يتذكر جهاد المرأة وصبرها فيخفف عليه ما هو فيه، والمرأة تتذكر من هو من بنات جنسها فتهون عليها مصائبها. عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه -: «أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ. ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَاللهُ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا». ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لَا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم:37). وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى ـ أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ ـ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنْ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ،

ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -:قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا»، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ ـ تُرِيدُ نَفْسَهَا ـ ثُمَّ تَسَمَّعَتْ فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ»، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ ـ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ ـ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ بِيَدِهَا هَكَذَا وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنْ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وَهُوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَرْحَمُ اللهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ أَوْ قَالَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنْ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا». قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَهْلَهُ». (رواه البخاري). (الْمِنْطَق) هُوَ مَا يُشَدّ بِهِ الْوَسَط. (عِنْد دَوْحَة) الدوحة: الشَّجَرَة الْكَبِيرَة. (فِي أَعْلَى الْمَسْجِد) أَيْ مَكَان الْمَسْجِد، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ بُنِيَ. (وَسِقَاء فِيهِ مَاء) السِّقَاء قِرْبَة صَغِيرَة. (ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيم) أَيْ وَلَّى رَاجِعًا إِلَى الشَّام. (يَتَلَوَّى ـ أَوْ قَالَ يَتَلَبَّط ـ) يَتَمَرَّغ وَيَضْرِب بِنَفْسِهِ الْأَرْض. (ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ) أَيْ الَّذِي أَصَابَهُ الْجَهْد وَهُوَ الْأَمْر الْمُشِقُّ. (فَقَالَتْ: صَهٍ) كَأَنَّهَا خَاطَبَتْ نَفْسهَا فَقَالَتْ لَهَا: اُسْكُتِي. (إِنْ كَانَ عِنْدك غَوَاثٍ) أي إِنْ كَانَ عِنْدك غَوَاثٍ فَأَغِثْنِي. (فَجَعَلَتْ تُحَوِّضهُ) أَيْ تَجْعَلهُ مِثْل الْحَوْض. (وَتَقُول بِيَدِهَا هَكَذَا) هُوَ حِكَايَة فِعْلهَا. (عَيْنًا مَعِينًا) أَيْ ظَاهِرًا جَارِيًا عَلَى وَجْه الْأَرْض. (لَا تَخَافُوا الضَّيْعَة) أَيْ الْهَلَاك. (يَبْنِي هَذَا الْغُلَام) أي يَبْنِيه هَذَا الْغُلَام. 11 - والوقوف بعرفة يذكر الحاجَّ بازدحام الخلائق يوم المحشر، وأنه إن كان الحاج ينصب ويتعب من ازدحام آلاف فكيف بازدحام الخلائق حفاة عراة غرلا ـ غير مختونين ـ وقوفًا خمسين ألف سنة؟

عن ابْنَ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ حُفَاةً عُرَاةً مُشَاةً غُرْلًا» (رواه البخاري). (إِنَّكُمْ مُلَاقُو اللهِ) أَيْ فِي الْمَوْقِف بَعْدَ الْبَعْثِ. (حُفَاةً) جَمْع حَافٍ أَيْ بِلَا خُفّ وَلَا نَعْل. (غُرْلًا) جَمْع أَغْرَلَ وَهُوَ الْأَقْلَفُ، وَهُوَ مَنْ بَقِيَتْ غُرْلَتُهُ وَهِيَ الْجِلْدَةُ الَّتِي يَقْطَعُهَا الْخَاتِنُ مِنْ الذَّكَر. وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ قَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» (رواه مسلم). مَثِّلْ وقُوفَكَ يومَ العرضِ عُريانَا ... مُستوحشًا قَلِقَ الأحشاءِ حَيْراناَ النارُ تَلْهَبُ مِن غيظٍ ومِن حَنَقٍ ... على العصاةِ وربُّ العرش غَضبانَا اقرَأ كتابَك يا عبدُ على مَهَلٍ ... فهل ترى فيه حَرفًا غيْرَ مَا كانَا فلما قرأتَ ولم تُنكِرْ قراءَتَه ... إقرارَ مَن عَرفَ الأشياءَ عِرفانَا نادَى الجليلُ خُذوهُ يا ملائكَتَي ... وامْضُوا بعَبدٍ عَصَى ـ للنَّارِ ـ عطشَانَا المشركونَ غدًا في النار تَلتهبُ ... والمؤمنونَ بدارِ الخلدِ سُكَانَا 12 - وفي رمي الجمار يعوِّد المسلم نفسه على الطاعة المجردة ولو لم يُدرك فائدة الرمي وحكمته، ولو لم يستطع ربط الأحكام بعللها، وفي هذا إظهار للعبودية المحضة لله تعالى. 13 - وأما ذبح الحاجُّ الهدْيَ فيذكّره بالحادثة العظيمة في تنفيذ أبينا إبراهيم لأمر الله تعالى بذبح ولده البكر إسماعيل بعد أن شبَّ وصار مُعينًا له، وأنه لا مكان للعاطفة التي تخالف أمر الله ونهيه، ويعلمه كذلك الاستجابة لما أمر الله - عز وجل -.قال الله - عز وجل -: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (الصافات: 102).

14 - فإذا ما تحلل من إحرامه وحلَّ له ما حرمه الله عليه: ربَّاه ذلك على عاقبة الصبر، وأن مع العسر يسرًا، وأن عاقبة المستجيب لأمر الله الفرح والسرور وهذه فرحة لا يشعر بها إلا من ذاق حلاوة الطاعة، كالفرحة التي يشعرها الصائم عند فطره، أو القائم في آخر الليل بعد صلاته. 15 - وإذا انتهى الحاجُّ من مناسك الحج وجاء به على ما شرع الله وأحب، وأكمل مناسكه رجا ربه أن يغفر له ذنوبه كلها كما وعد بذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». (رواه البخاري ومسلم)، ودعاه ذلك ليفتح صفحة جديدة في حياته خالية من الآثام والذنوب. 16 - وإذا رجع الحاجُّ إلى أهله وبنيه وفرح بلقائهم ذكره ذلك بالفرح الأكبر بلقائهم في جنة الله تعالى، وعرَّفه ذلك بأن الخسارة هي خسارة النفس والأهل يوم القيامة، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِين} (الزمر: 15). إليكَ إلهِي قد أتيتُ مُلَبّيَا ... بارِكْ إلهِي حجّتِي ودُعائيَا قصَدتُك مضطرًا وجئتُكَ باكيَا ... وحاشاك ربي أن تَرُدَّ بُكَائيَا كفاني فخرًا أنني لك عابدٌ ... فيافرْحَتي إنْ صِرتُ عبدًا مُواليَا إلهي فأنت اللهُ لا شيءَ مثلُه ... فأفْعِمْ فؤادِي حكمةً ومعانيَا أتيتُ بلا زادٍ، وجودُك مَطْعَمِي ... وما خاب من يهْفُو لجُودِك ساعيَا إليكَ إلهِي قد حضرتُ مؤمِّلًا ... خلاصَ فؤادِي مِن ذُنوبي مُلَبّيَا وكيف يرَى الإنسانُ في الأرضِ متعةً ... وقد أصبحَ القدسُ الشريفُ مَلَاهِيَا يَجُوسُ به الأنذالُ مِن كلّ جانبٍ ... وقد كانَ للأطهارِ قدسًا ونادِيَا معالمَ إسراءٍ، ومهبِطَ حكمةٍ ... وروضةَ قرآنٍ تعطرُ وادِيَا

49 - قصة الذبح ... دروس وعبر

49 - قصة الذبح ... دروس وعبر قال الله - عز وجل -: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ *مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ * وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} (سورة الصافات:83 - 113). أي: وإن إبراهيم الخليل - عليه السلام - من شيعة نوح - عليه السلام -، ومَن هو على طريقته في النبوة والرسالة، ودعوة الخلق إلى الله، وإجابة الدعاء. {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من الشرك والشُبَه، والشهوات المانعة من تصور الحق، والعمل به، وإذا كان قلب العبد سليمًا، سلم من كل شر، وحصل له كل خير، ومن سلامته أنه سليم من غِشّ الخلق وحسدهم، وغير ذلك من مساوئ الأخلاق، وبهذا القلب السليم، استنكر ما عليه قومه واستبشعه. استنكار الحس السليم لكل ما تنبو عنه الفطرة الصادقة من تصور ومن سلوك. ولهذا نصح الخلق في الله، وبدأ بأبيه

وقومه فقال: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} هذا استفهام بمعنى الإنكار، وإلزام لهم بالحجة. {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ} أي: أتعبدون من دون الله - سبحانه وتعالى - آلهة كذبًا، ليست بآلهة، ولا تصلح للعبادة، فما ظنكم برب العالمين، أن يفعل بكم وقد عبدتم معه غيره؟ وهذا ترهيب لهم بالجزاء بالعقاب على الإقامة على شركهم. وما الذي ظننتم برب العالمين، من النقص حتى جعلتم له أندادًا وشركاء. فأراد - عليه السلام -، أن يكسر أصنامهم، ويتمكن من ذلك، فانتهز الفرصة في حين غفلة منهم، لما ذهبوا إلى عيد من أعيادهم، فخرج معهم. • كذب ولكن: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَام قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ}، وَقَوْلُهُ {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}.وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ فَقَالَ لَهَا: «إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي؛ فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ». فَلَمَّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبَّارِ أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: «لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لَا يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلَّا لَكَ»، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام - إِلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً فَقَالَ لَهَا: «ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلَا أَضُرُّكِ»، فَفَعَلَتْ. فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَةِ الْأُولَى فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ، فَفَعَلَتْ، فَعَادَ فَقُبِضَتْ أَشَدَّ مِنْ الْقَبْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، فَقَالَ: «ادْعِي اللهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي فَلَكِ اللهُ أَنْ لَا أَضُرَّكِ»، فَفَعَلَتْ وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ، وَدَعَا الَّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: «إِنَّكَ إِنَّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ»، فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي وَأَعْطِهَا هَاجَرَ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي فَلَمَّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ - عليه السلام - انْصَرَفَ فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْرًا كَفَّ اللهُ يَدَ الْفَاجِرِ، وَأَخْدَمَ خَادِمًا» (رواه البخاري ومسلم). وَأَمَّا إِطْلَاقه الْكَذِب عَلَى الْأُمُور الثَّلَاثَة فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلًا يَعْتَقِدهُ السَّامِع كَذِبًا لَكِنَّهُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا: أنَّهُ مِنْ بَاب الْمَعَارِيض الْمُحْتَمِلَة لِلْأَمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْض، فَقَوْله: (إِنِّي سَقِيمٌ) يُحْتَمَل أَنْ يَكُون أَرَادَ إِنِّي سَقِيمٌ أَيْ سَأُسْقَمُ وَاسْم الْفَاعِل يُسْتَعْمَل بِمَعْنَى الْمُسْتَقْبَل كَثِيرًا، وَيُحْتَمَل أَنَّهُ أَرَادَ إِنِّي سَقِيمٌ بِمَا قُدِّرَ عَلَيَّ مِنْ الْمَوْت أَوْ سَقِيم الْحُجَّة عَلَى الْخُرُوج مَعَكُمْ. وَقَوْله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا قَالَهُ تَمْهِيدًا لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَام لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ وَقَطْعًا لِقَوْمِهِ فِي قَوْلهمْ إِنَّهَا تَضُرّ وَتَنْفَع، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال يَتَجَوَّز فِيهِ الشَّرْط الْمُتَّصِل، وَلِهَذَا أَرْدَفَ قَوْله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) بِقَوْلِهِ: (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) قَالَ اِبْن قُتَيْبَة: مَعْنَاهُ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، فَالْحَاصِل أَنَّهُ مُشْتَرَط بِقَوْلِهِ: (إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) أَوْ أَنَّهُ أَسْنَدَ إِلَيْهِ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ السَّبَب. وَقَوْله: «هَذِهِ أُخْتِي» يُعْتَذَر عَنْهُ بِأَنَّ مُرَاده أَنَّهَا أُخْته فِي الْإِسْلَام. وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذِبًا لَا تَوْرِيَةَ فِيهِ لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْع الظَّالِمِينَ، وَقَدْ اِتَّفَقَ الْفُقَهَاء عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِم يَطْلُب إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ، أَوْ يَطْلُب وَدِيعَة لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا، وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ، وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَار الْعِلْم بِهِ، وَهَذَا كَذِب جَائِز، بَلْ وَاجِب لِكَوْنِهِ فِي دَفْع الظَّالِم، فَنَبَّهَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَات لَيْسَتْ دَاخِلَة فِي مُطْلَق الْكَذِب الْمَذْمُوم. قَوْلُهُ: (مَهْيَمْ) مَعْنَاهَا: مَا الْخَبَرُ. قَوْله: (فَلَكِ اللهُ) أَيْ شَاهِدًا وَضَامِنًا أَنْ لَا أَضُرَّك. قَوْلهَا: (وَأَخْدَمَ خَادِمًا) أَيْ وَهَبَنِي خَادِمًا، وَهِيَ هَاجَرَ. وَالْخَادِمُ يَقَع عَلَى الذَّكَر وَالْأُنْثَى.

{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} {فَـ} لهذا {تَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} فلما وجد الفرصة {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي: أسرع إليها على وجه الخفية والمراوغة، {فَقَالَ} متهكمًا بها {أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} أي: فكيف يليق أن تعبد، وهي أنقص من الحيوانات، التي تأكل أو تتكلم؟ فهذه جماد لا تأكل ولا تتكلم. {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} أي: جعل يضربها بقوته ونشاطه، حتى جعلها جذاذًا، إلا كبيرًا لهم، لعلهم إليه يرجعون. {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي: يسرعون ويهرعون، أي: يريدون أن يوقعوا به، بعدما بحثوا وقالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}، وقيل لهم: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} يقول: {تَاللهِ لأكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} فوبَّخوه ولامُوه، فقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ}. {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} لقد تسامعوا بالخبر، وعرفوا من الفاعل، فأقبلوا إليه يسرعون الخُطَى، وهم جمع كثير غاضب هائج، وهو فرد واحد. ولكنه فرد مؤمن. فرد يعرف طريقه. فرد عقيدته معروفة له محدودة. يدركها في نفسه، ويراها في الكون من حوله. فهو أقوى من هذه الكثرة الهائجة المائجة، المدخولة العقيدة؛ ومن ثَمَّ يواجههم بالحق الفطري البسيط لا يبالي كثرتهم وهياجهم!! {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي: تنحتونه بأيديكم وتصنعونه؟ فكيف تعبدونهم، وأنتم الذين صنعتموهم، وتتركون الإخلاص لله - عز وجل - الذي {خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}. ومع وضوح هذا المنطق وبساطته، إلا أن القوم في غفلتهم وفي اندفاعهم لم يستمعوا له، ومتى استمع الباطل إلى صوت الحق البسيط؟ واندفع أصحاب الأمر والنهي فيهم يزاولون طغيانهم في صورته الغليظة: {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا} أي: عاليًا مرتفعًا، وأوقدوا فيها النار {فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} جزاءً على ما فعل، من تكسير

آلهتهم. إنه منطق الحديد والنار الذي لا يعرف أعداء الإسلام منطقًا سواه؛ عندما تعوزهم الحجة وينقصهم الدليل. وحينما تحرجهم كلمة الحق الخالصة ذات السلطان المبين. {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} ليقتلوه أشنع قتلة {فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ} رد الله كيدهم في نحورهم، وجعل النار على إبراهيم بردًا وسلامًا. وأين يذهب كيد العباد إذا كان الله يريد؟ وماذا يملك أولئك الضعاف المهازيل من الطغاة والمتجبرين وأصحاب السلطان وأعوانهم من الكبراء إذا كان الله - عز وجل - يدافع عن عباده المخلصين؟ لقد أرادوا به الهلاك في النار التي أسموها الجحيم. وأراد الله أن يكونوا هم الأسفلين؛ ونجاه من كيدهم أجمعين. • مهاجر إلى الله - عز وجل -: ولما فعلوا فيه هذا الفعل، وأقام عليهم الحجة، وأعذر منهم، {قال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} أي: مهاجر إليه، قاصد إلى الأرض المباركة أرض الشام. {سَيَهْدِينِ} يدلني إلى ما فيه الخير لي، من أمر ديني ودنياي، وقال في الآية الأخرى: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}. عندئذ استدبر إبراهيم مرحلة من حياته ليستقبل مرحلة؛ وطوى صفحة لينشر صفحة: {قال إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} هكذا .. إني ذاهب إلى ربي .. إنها الهجرة. وهي هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية. هجرة يترك وراءه فيها كل شيء من ماضي حياته. يترك أباه وقومه وأهله وبيته ووطنه وكل ما يربطه بهذه الأرض، وبهؤلاء الناس. ويدع وراءه كذلك كل عائق وكل شاغل. ويهاجر إلى ربه متخففًا من كل شيء، طارحًا وراءه كل شيء، مسلِمًا نفسه لربه لا يستبقي منها شيئًا. موقن أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه، وينقلها في الطريق المستقيم.

إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن أواصر شتى إلى آصرة واحدة لا يزاحمها في النفس شيء. إنه التعبير عن التجرد والاستسلام والطمأنينة واليقين. • الجزاء من جنس العمل: وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيدًا لا عقب له؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة. وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه. اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} واستجاب الله دعاء عبده الصالح المتجرد، الذي ترك وراءه كل شيء، وجاء إليه بقلب سليم. {رَبِّ هَبْ لِي} ولدًا يكون {مِنَ الصَّالِحِينَ} وذلك عندما أيس من قومه، ولم ير فيهم خيرًا، دعا الله أن يهب له غلامًا صالحًا، ينفع اللهُ به في حياته، وبعد مماته. {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} هذا الدعاء لطلب الولد ليس لمجرد طلب الولد، ليس لمجرد وجود الرغبة في الأبوة ولكن ليكون صالحًا. هذا هو النافع للإنسان أما الولد عندما لا يكون صالحًا فهو ضرر علي الإنسان وربما كان عذابًا كما قال - عز وجل - في المنافقين: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} (التوبة:55). فربما كان الولد سببًا في عذاب أبيه وأمه إذا لم يكن صالحا. إبراهيم - عليه السلام - يقول {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} والذي يريد الولد ينبغي أن يدعوا هذا الدعاء {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، ولم يطلب زكريا - عليه السلام - أي ذرية وإنما ذرية طيبة {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران:38) إنما يريد من يعبد الله سبحانه وتعالي. •

إذا تأخرت إجابة الدعاء لا تعجل: إذا تأخرت إجابة الدعاء لا تعجل؛ فقد مضت سنوات قبل أن يستجاب لإبراهيم؛ قد أجيبت الدعوة ولكن متي تحققت الإجابة قد تتأخر فلا تستعجل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، فَيَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» (رواه مسلم). الهبة من الله، الولد هبة محضة الإنسان قد يأخذ بالأسباب ولكنه يعجز، إبراهيم - عليه السلام - دعا بهذه الدعوة وتأخرت الإجابة إلي الكبر إلي أن ييأس الناس في العادة من أن يوجد لمثل هذا الرجل ولد؛ ولهذا قال: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (إبراهيم:39). {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فلا تيأس من رحمة الله، كما لم ييأس إبراهيم - عليه السلام - الفرج قد يأتي في اللحظة الأخيرة كما في شأن الولد يأتي بعد أن ييأس الناس. كانت سارة قد وصلت إلي سِنٍّ لا تجد فيها أملًا، هي أصلًا عقيم وعجوز ولكن لم ييأس إبراهيم فاستجاب الله له، قال الله - عز وجل -: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}؛ قال الله - عز وجل -: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (الحجر:51 - 56). فاستجاب الله له وقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وهذا إسماعيل - عليه السلام - بلا شك، فإنه ذكر بعده البشارة بإسحاق، ولأن الله تعالى قال في بشراه بإسحاق {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فدل على أن إسحاق غير الذبيح، ووصف الله - عز وجل - إسماعيل - عليه السلام - بالحلم، وهو يتضمن الصبر، وحسن الخلق، وسعة الصدر والعفو عمن جنى. •

موقف عظيم فريد: والآن آنَ أنْ نطّلع على الموقف العظيم الكريم الفريد في حياة إبراهيم - عليه السلام -. بل في حياة البشر أجمعين. وآن أن نقف من سياق القصة في القرآن أمام المثل الموحي الذي يعرضه الله للأمة المسلمة من حياة أبيها إبراهيم - عليه السلام -. {فَلَمَّا بَلَغَ} الغلام {مَعَهُ السَّعْيَ} أي: أدرك أن يسعى معه، وبلغ سنًا يكون ـ في الغالب ـ أحب ما يكون لوالديه، قد ذهبت مشقته، وأقبلت منفعته، فقال له إبراهيم - عليه السلام -: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي: قد رأيت في النوم والرؤيا، أن الله يأمرني بذبحك، ورؤيا الأنبياء وحي {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فإن أمر الله تعالى، لا بد من تنفيذه. قَالَ إسماعيلُ - عليه السلام - صابرًا محتسبًا، مرضيًا لربه، وبارًّا بوالده: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} أي: امض لما أمرك الله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} أخبر أباه أنه مُوَطّنٌ نفسه على الصبر، وقرن ذلك بمشيئة الله تعالى، لأنه لا يكون شيء بدون مشيئة الله تعالى ... يالروعة الإيمان والطاعة والتسليم. • بلاء مبين: هذا إبراهيم الشيخ. المقطوع من الأهل والقرابة. المهاجر من الأرض والوطن. ها هو ذا يرزق في كبره وهرمه بغلام. طالما تطلع إليه. فلما جاءه جاء غلامًا ممتازًا يشهد له ربه بأنه حليم. وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة. ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه. ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية. ولو أن الإنسان أمِر بأن ينظر فقط إلي ولده المريض لكان ذلك مؤلمًا، أم إسماعيل - عليها السلام - لما كانت تنظر إلي ولدها يتلوي من الجوع انصرفت كراهية أن تنظر إليه، والأب كذلك يتألم. تخيل لو أن أحدًا يحاول أن يقتل ابنك، كل طاقاتك الكامنة تنفجر لكي تنقذه من القتل.

أما في حالة إبراهيم - عليه السلام - هو مأمور أن يقتله بنفسه وأيضًا بالذبح، وهو بجانبه مباشرة؛ فسبحان الله بلاء مبين لأن سيدنا إبراهيم - عليه السلام - لم يكن في قلبه شيء لغير الله، فحب الولد حب عظيم وكثير من الناس يأكل الحرام ويتعامل بالربا لكي يبني للأولاد مستقبلًا ـ بزعمه ـ وربما باع دينه لأجل الأولاد. فحب الولد كان الامتحان الأكيد في أن إبراهيم - عليه السلام - خالصٌ لله، سليمٌ قلبُه لله. فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم. نعم إنها إشارة. مجرد إشارة. وليست وحيًا صريحًا، ولا أمرًا مباشرًا. ولكنها إشارة من ربه. وهذا يكفي. هذا يكفي ليلبي ويستجيب. ودون أن يعترض. ودون أن يسأل ربه. لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟! ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب. كلا! إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء. يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمَئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه. وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه! والأمر شاق ما في ذلك شك؛ فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة. ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرًا تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده، يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه. وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه! إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي. إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر. فالأمر في حسه هكذا. ربه يريد. فليكن ما يريد، وابنه ينبغي أن يعرف. وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا

قهرًا واضطرارًا. لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم! جاء الابتلاء في صورة يمكن أن يدخل الشيطان منها وهي أنها لم تكن وحيًا مباشرًا ـ أتاه جبريل مثلًا ـ وإنما رأي في المنام ولكن رؤيا الأنبياء وحي، وهذا وحي من الله - عز وجل -. • تربية ونعمت التربية: ولم يتشكك إبراهيم وإنما تلطف في عرض الأمر علي ولده ليكون فعله صادرًا عن اقتناع وعن طواعية في الحقيقة لم يُرِدْ أن يذبحه مباشرة، هو سينفذ الأمر سواء قبِلَ الولد أم لم يقبل، لكنه يريد أن يُثَابَ الولدُ؛ لذا قال: {يَا بُنَيَّ}، جلس معه وخاطبه بهذه اللفظة: {يَا بُنَيَّ} يعني يا ابني الصغير، يذَكِّره بأنه لم يَنْس رابطة البنوة التي تربطه به، أنا أبوك وأنت ابني، ومع ذلك إني أري في المنام أني أذبحك لكي لا يظن الابن أن ذلك ينافي الشفقة أو نسيان العلاقة. لا ليس كذلك، هو متذكر تمامًا أنه ابنه يتلطف معه لكي يصدر الأمر عن رضًا وسماحة نفس؛ فالنفس إذا أدتْ ما كُلّفَت به عن سماحة وطيب نفس كان ذلك أزكي وأكثر في الثواب ومقبولًا عند الله. أما الذي يستخرج الطاعة من بين أضراسه فهذا طاعته ناقصة. فإبراهيم - عليه السلام - يعلمنا من خلال هذه الوسيلة التربوية الرائعة كيفية توجيه الأبناء ينبغي أن يكون بالمجالسة وبالملاطفة وبالنصيحة المباشرة وبأخذ الفترة المناسبة لكي يقع الأمر طواعية وكما أمرنا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أمر العبادات فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» (صحيح رواه أبو داود).

(مُرُوا): أَمْر مِنْ الْأَمْر. (أَوْلَادكُمْ): يَشْمَل الذُّكُور وَالْإِنَاث. (بِالصَّلَاةِ): وَبِمَا يَتَعَلَّق بِهَا مِنْ الشُّرُوط (وَهُمْ أَبْنَاء سَبْع سِنِينَ):لِيَعْتَادُوا وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا، (وَاضْرِبُوهُمْ): أَيْ الْأَوْلَاد (عَلَيْهَا): أَيْ عَلَى تَرْك الصَّلَاة (وَهُمْ أَبْنَاء عَشْر سِنِينَ): لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا أَوْ قَارَبُوا الْبُلُوغ (وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع):أَيْ فَرِّقُوا بَيْن أَوْلَادكُمْ فِي مَضَاجِعهمْ الَّتِي يَنَامُونَ فِيهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا حَذَرًا مِنْ غَوَائِل الشَّهْوَة وَإِنْ كُنَّ أَخَوَاته. قَالَ الطِّيبِيُّ: «جَمَعَ بَيْن الْأَمْر بِالصَّلَاةِ وَالْفَرْق بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع فِي الطُّفُولِيَّة تَأْدِيبًا لَهُمْ وَمُحَافَظَة لِأَمْرِ اللهِ كُلّه وَتَعْلِيمًا لَهُمْ». فأمر - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يُؤمر الطفل بالصلاة من غير عقوبة ثلاث سنوات متواصلة يُسأل في كل يوم خمس مرات: قم فصلّ، قم فصلّ، وإذا دخل الأب البيت يسأل يقول: «أصلي الغلام» كما كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يفعل؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَعْدَمَا أَمْسَى فَقَالَ: «أَصَلَّى الْغُلَامُ؟»، قَالُوا: نَعَمْ». (صحيح رواه أبو داود). يُسأل ويُؤمَر ثلاث سنين وبعد ذلك لو أصر على الترك يُضرب، لكن قبل ذلك الأخذ طواعية لكي يتعود أن يفعل الطاعة من نفسه، كرِّر الأمر ولا تيأس. والمجالسة بين الأب وأبنائه أمر مطلوب حيث تجد الحوار الهادئ والفرصة الملائمة لتحقيق الترابط الأسري، والقرب من الأولاد ومعرفة مشكلاتهم له دور كبير ـ بإذن الله ـ في حمايتهم من الانحراف، ولكنك تجد بعض الناس تفر من أبنائها ـ والعياذ بالله ـ والدليل علي ذلك كثرة المقاهي وكثرة الجالسين بها. {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} لم يقُلْ: «انظر ماذا أفعل»؛ لأنه سيفعل، ولكن انظر ماذا تري؟ يعني انظر ما تراه أنت؟ وكان الجواب علي ما يُرضِي الأب الرحيم الشفيق. {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}. إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة. فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقًا لرؤيا

رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب. ولكن في رضى كذلك وفي يقين. {يَا أَبَتِ} في مودة وقربى. فشبَحُ الذبْحِ لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده. بل لا يفقده أدبه ومودته، فـ {يَا أَبَتِ} فيها تعظيم وتوقير وتكريم لأبيه. {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} فهو يحس ما أحسه مِن قبْلُ قلبُ أبيه. يحس أن الرؤيا إشارة. وأن الإشارة أمر. وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب. • أدب مع الله - عز وجل -: ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ولم يأخذها بطولةً. ولم يأخذها شجاعةً. ولم يأخذها اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة. ولم يظهر لشخصه ظلًا ولا حجمًا ولا وزنًا. إنما أرْجَعَ الفضل كله لله - عز وجل - إنْ هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصْبَره على ما يراد به: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. يا للأدب مع الله! ويالروعة الإيمان. ويالَنُبل الطاعة. ويالعظمة التسليم! {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} مع أن صبره فعله هو ولكن علقه علي مشيئة الله، وهذا دليل علي أن هذا الابن الواعي يفهم قضية القضاء والقدر وأن فعله لن يكون إلا بمشية الله وتوفيقه. {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} ولم يُزَكّ نفسه وإنما علقه علي مشيئة الله فهو يرجو أن يكون صابرًا وهو أن يصبر علي أمر الله والبلاء والألم المتوقع. ويخطو المشهد خطوة أخرى وراء الحوار والكلام .. يخطو إلى التنفيذ: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} أي: إبراهيم وابنه إسماعيل، جازمًا بقتل ابنه وثمرة فؤاده، امتثالًا لأمر ربه، وخوفًا من عقابه، والابن قد وطَّن نفسه على الصبر، وهانت عليه في طاعة

ربه، ورضا والده، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي: تَلَّ إبراهيمُ إسماعيلَ على جبينه، ليضجعه فيذبحه، وقد انكب لوجهه، لئلا ينظر وقت الذبح إلى وجهه. ومرة أخرى يرتفع نبل الطاعة. وعظمة الإيمان. وطمأنينة الرضا وراء كل ما تعارف عليه بنو الإنسان. إن الرجل يمضي فيكب ابنه على جبينه استعدادًا. وإن الغلام يستسلم فلا يتحرك امتناعًا. وقد وصل الأمر إلى أن يكون عيانًا. لقد أسلما .. فهذا هو الإسلام. هذا هو الإسلام في حقيقته. ثقة وطاعة وطمأنينة ورضًا وتسليم .. وتنفيذ .. وكلاهما لا يجد في نفسه إلا هذه المشاعر التي لا يصنعها غير الإيمان العظيم. إنها ليست الشجاعة والجراءة. وليس الاندفاع والحماسة. لقد يندفع المجاهد في الميدان، يَقتل ويُقتل. ولقد يندفع الفدائي وهو يعلم أنه قد لا يعود. ولكن هذا كله شيء والذي يصنعه إبراهيم وإسماعيل سدد خطاكم هنا شيء آخر ... ليس هنا دم فائر، ولا حماسة دافعة ولا اندفاع في عجلة تخفي وراءها الخوف من الضعف والنكوص! إنما هو الاستسلام الواعي المتعقل القاصد المريد، العارف بما يفعل، المطمئن لما يكون. لا بل هنا الرضا الهادئ المستبشر المتذوق للطاعة وطعمها الجميل! وهنا كان إبراهيم وإسماعيل سدد خطاكم قد أديا. كانا قد أسلما. كانا قد حققا الأمر والتكليف. ولم يكن باقيًا إلا أن يذبح إسماعيل - عليه السلام -، ويسيل دمه، وتزهق روحه .. وهذا أمر لا يعني شيئًا في ميزان الله، بعدما وضع إبراهيم وإسماعيل سدد خطاكم في هذا الميزان من روحهما وعزمهما ومشاعرهما كل ما أراده منهما ربهما. كان الابتلاء قد تم. والامتحان قد وقع. ونتائجه قد ظهرت. وغاياته قد تحققت. ولم يعد إلا الألم البدني. وإلا الدم المسفوح. والجسد الذبيح. والله لا يريد أن يعذب عباده بالابتلاء. ولا يريد دماءهم وأجسادهم في شيء. ومتى خلصوا له واستعدوا للأداء بكلياتهم فقد أدوا، وقد حققوا التكليف، وقد جازوا الامتحان بنجاح.

• فرجٌ مِن بعد شدة: وعرف الله - عز وجل - من إبراهيم وإسماعيل صدقهما. فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقًا: {وَنَادَيْنَاهُ} في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ} أي: قد فعلتَ ما أمِرتَ به، فإنك وطَّنْتَ نفسك على ذلك، وفعلتَ كل سبب، ولم يبق إلا إمرار السكين على حلقه. قد صدقتَ الرؤيا وحققتها فعلًا. فالله - عز وجل - لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تُكِنّه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت هي النفس والحياة. وأنت يا إبراهيم قد فعلت. جُدتَ بكل شيء. وبأعز شيء. وجُدتَ به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت. يفديها بذبح عظيم. كل مواقف إبراهيم - عليه السلام - يأتي الفرج في آخر لحظة، إسماعيل وهو يتلوي من العطش الفرج جاء أمه بعد سبع أشواط بين الصفا والمروة وبعد ما نفد التمر والماء، ثم يأتي الفرج في اللحظة الأخيرة، الفرج دائما يأتي بعد شدة العسر ولذلك لا تيأسوا عباد الله الأمة سوف يأتيها الفرج من عند الله - عز وجل -. {إِنَّ هَذَا} الذي امتحنا به إبراهيم - عليه السلام - {لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي: الواضح، الذي تبين به صفاء إبراهيم، وكمال محبته لربه وخلته، فإن إسماعيل عليه السلام لما وهبه الله لإبراهيم، أحبه حبًا شديدًا، وهو خليل الرحمن، والخلة أعلى أنواع المحبة، وهو منصب لا يقبل المشاركة ويقتضي أن تكون جميع أجزاء القلب متعلقة بالمحبوب، فلما تعلقت شعبة من شعب قلبه بابنه إسماعيل، أراد تعالى أن يصفي وُدَّه ويختبر خلته، فأمره أن يذبح من زاحم حبُّه حُبَّ ربه، فلما قدّم حب الله، وآثره على هواه، وعزم على ذبحه، وزال ما في القلب من المزاحم، بقي الذبح لا فائدة فيه، فلهذا قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي: صار بدله ذبح من الغنم عظيم، ذبحه

إبراهيم، فكان عظيمًا من جهة أنه كان فداء لإسماعيل، ومن جهة أنه من جملة العبادات الجليلة، ومن جهة أنه كان قربانًا وسنة إلى يوم القيامة. ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها، ولتعرف أنها الاستسلام لقَدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئًا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم! ثم لتعرف أن ربها لا يريد أن يعذبها بالابتلاء؛ ولا أن يؤذيها بالبلاء، إنما يريد أن تأتيه طائعة ملبية وافية مؤدية. مستسلمة لا تقدم بين يديه، ولا تتأبَّى عليه، فإذا عرف منها الصدق في هذا أعفاها من التضحيات والآلام. واحتسبها لها وفاءً وأداءً. وقبِلَ منها وفدّاها. وأكرمها كما أكرم أباها. {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي: وأبقينا عليه ثناءً صادقًا في الآخرين، كما كان في الأولين، فكل وقت بعد إبراهيم - عليه السلام -، فإنه فيه محبوب معظم مثني عليه. فهو مذكور على توالي الأجيال والقرون. وهو أمة. وهو أبو الأنبياء. وهو أبو هذه الأمة المسلمة. وهي وارثة ملته. وقد كتب الله لها وعليها قيادة البشرية على ملة إبراهيم. فجعلها الله له عقبًا ونسبًا إلى يوم الدين. {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} سلام عليه من ربه أي: تحيته عليه كقوله - عز وجل -: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}. (النمل:59). فكل الأمم المتأخرة تسلم علي إبراهيم وتريد الانتساب إليه {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران:68) ونحن أولي الناس بإبراهيم إذ نحن علي ملته.

{إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادة الله، ومعاملة خلقه، أن نفرج عنهم الشدائد، ونجعل لهم العاقبة، والثناء الحسن. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} في عبادتنا، المقدِّمين رضانا على شهوات أنفسهم. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء. ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء! كذلك نجزيهم بالبلاء .. والوفاء ... والذكر ... والسلام ... والتكريم. • الجزاء من جنس العمل: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} إذًا ليست خاصة بإبراهيم فقط بل هي لكل محسن أخلص لله وراقب الله ـ سوف يجازي بنفس الطريقة. {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} كل من ضحي لله بشيء فالله - عز وجل - سوف يخلفه خيرًا منه أو يبقيه له وزيادة، كما بقيت نفس إسماعيل وزِيدَ له أخًا نبيًا بدلا من نبي واحد أصبحا نبيَّيْن إسماعيل وإسحاق، وفداه الله بذبح عظيم. وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ». (رواه الإمام أحمد، وقال الألباني: سنده صحيح على شرط مسلم). (إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ) أي امتثالًا لأمره وابتغاءً لرضاه بغير مشاركة غرض من الأغراض معه. {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} بما أمر الله بالإيمان به، الذين بلغ بهم الإيمان إلى درجة اليقين، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} (الأنعام:75). وهذا جزاء الإيمان. وتلك حقيقته فيما كشف عنه البلاء المبين. لما قبل إبراهيم أن يذبح ولده ونجح في هذا الامتحان كافأه الله - عز وجل - أن أعطاه ولدًا آخر فوهب له إسحاق في شيخوخته. وباركه وبارك إسحاق. وجعل إسحاق نبيًا من الصالحين: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} هذه البشارة الثانية بإسحاق، الذي من ورائه يعقوب، فبشر بوجوده وبقائه، ووجود ذريته، وكونه نبيًّا من الصالحين، فهي بشارات متعددة. •

صحبة الصالحين: وصحبة الصالحين هي سعادة هذه الدنيا بل ومن سعادة الآخرة؛ فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول في آخر كلماته في هذه الدنيا: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى»، فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا اشْتَكَى مِنَّا إِنْسَانٌ مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَذْهِبْ الْبَاسَ، رَبَّ النَّاسِ، وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا». فَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَثَقُلَ أَخَذْتُ بِيَدِهِ لِأَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي، ثُمَّ قَالَ، «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرَّفِيقِ الْأَعْلَى»، قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَى» (رواه مسلم). وإبراهيم - عليه السلام - يقول {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَالْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (الشعراء:83) دعا - عليه السلام - ربه فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} أي: علمًا كثيرًا، أعرِفُ به الأحكام، والحلال والحرام، وأحكُمُ به بين الأنام، {وَالْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} من إخوانه الأنبياء والمرسلين. يقولها إبراهيم النبي الكريم الأواه الحليم. فيا للتواضع! ويا للتحرج! ويا للإشفاق من التقصير! ويا للخوف من تقلب القلوب! ويا للحرص على مجرد اللحاق بالصالحين! بتوفيق من ربه إلى العمل الصالح الذي يلحقه بالصالحين! إن صحبة الصالحين سعادة وإن صحبة الكفار والفاسقين عقوبة والنظر في وجوههم شقاء وعذاب كما قالت أم جريج لجريج: «اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ» (رواه البخاري ومسلم). مع أنه ينظر لتبرئة نفسه، جريج اضطُر إلي النظر في وجه المومس لكي يبرئ نفسه من التهمة الباطلة التي اتهمته بها وهي الزنى ومع ذلك كان ذلك من دعوة أمه عليه. فتخيل الذي يُصِرُّ علي صحبة الكذابين في وسائل الإعلام الفاسدة وعلي صفحات الجرائد والمجلات ويُصِرُّ علي صحبتهم علي شاشات التلفزيون والفيديو ويُصِرُّ علي صحبتهم علي شاشات السينما، ويُصِرُّ علي صحبتهم في القِصص السخيفة. مجرد النظر لهؤلاء فقط عذاب للإنسان الذي يحب صحبة الصالحين، أما الصالحون فهم

القوم لا يشقي بهم جليسهم. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ. فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَا وَاللهِ مَا رَأَوْكَ. فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا. يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي. قَالُوا: يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالُوا: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟ قَالُوا: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً. قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ قَالُوا: مِنْ النَّارِ. قَالَ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ قَالُوا: َ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا. قَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ قَالُوا: رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً. فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا. فَيَقُولُونَ: رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ. فَيَقُولُ: وَلَهُ غَفَرْتُ؛ هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». (رواه البخاري ومسلم). وَفِي الحديث بَيَان كَذِب مَنْ اِدَّعَى مِنْ الزَّنَادِقَة أَنَّهُ يَرَى الله تَعَالَى جَهْرًا فِي دَار الدُّنْيَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ». {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي: أنزلنا عليهما البركة، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما، فنشر الله من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة: أمة العرب من ذرية إسماعيل، وأمة بني إسرائيل وأمة الروم من ذرية إسحاق. {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي: منهم الصالح والطالح، والعادل والظالم الذي تبين ظلمه، بكفره وشركه، ولعل هذا من باب دفع الإيهام، فإنه لما قال: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إسحاق} اقتضى ذلك البركة في ذريتهما، وأن من تمام البركة أن تكون الذرية كلهم محسنين، فأخبر الله تعالى أن منهم محسنًا وظالمًا. وتتلاحق من بعدهما ذريتهما. ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج: فمن اتبع فهو محسن. ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد. إذا كنتَ بالله مُستعصما ... فماذا يضيرُك ريبُ المنونْ حَذَارِ أخي أنْ تُسيء الظنون ... بوعدِ الإلهِ القويِّ المتينْ فقدْ وعدَ المؤمنينَ النجاةَ ... كما نجّا يونُسَ مِن بطنِ نُونْ تحصّنْ بذِكرِ الإلهِ العظيم ... وبادِرْ بحفظِ الكتابِ المبينْ فذاكَ لقلبِكَ حصنٌ حصينْ ... وهذا لروحِكَ زادٌ مَعينْ فهذي شدائدُ سوفَ تزول ... وتبقى الفوائدُ منها فنونْ ولستَ وحيدًا بهذي الطريق ... فتلكَ القوافلُ عبرَ السنينْ فلا تَبْتَئِسْ يا أخَ الصالحين ... لفرقة أهلٍ وفَقْدِ بنينْ فإنْ كان هذا لربٍّ ودين ... فأينَ الثباتُ وأينَ اليقينْ فذاكَ الخليلُ مضَى طائعًا ... لِذَبْحِ ابنِهِ في بلاءٍ مبينْ بيومٍ جليلٍ عظيمٍ كريم ... بلا جزعٍ تَلّه للجبينْ فنَجّاهُ ربي بإحسانِهِ ... وأفْداه فورًا بكبشٍ سمينْ وأنتَ بَنُوكَ بعَيْشٍ رغِيد ... ولهْوٍ ولعبٍ وحِرزٍ أمينْ ولم يُطلبَنْ منكَ ذبحًا لهم ... فقط أن تصابر بُعدًا لحينْ فهم في رعايةِ ربٍ رحيم ... وأنت بخلوةِ ذكرٍ ودينْ لمرضاةِ ربٍ ونصرةِ دين ... تهون الحياةُ وكلّ البنونْ

50 - خطبة عيد الأضحى

50 - خطبة عيد الأضحى إنه العيدُ جاءَ ضيفًا عزيزًا فاكتُبُوا بالمِدادِ فيضَ التهاني كبّرُوا اللهَ عَلَّ تكبيرةَ العيدِ تضخّ الضميرَ في الشريانِ زلزلَتْ في القديمِ إيوانَ كسرَى هلْ تهزُّ الغداةَ كِسرَى الزمانِ معاشرَ المسلمين، أوصيكم ونفسي بما وصَّى به الله - عز وجل - في كتابه {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} (النساء:131). وأوصيكم بما وصى به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الصَّلَاةَ يَوْمَ الْعِيدِ، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ، ثُمَّ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى بِلَالٍ، فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَحَثَّ عَلَى طَاعَتِهِ وَوَعَظَ النَّاسَ وَذَكَّرَهُمْ ثُمَّ مَضَى حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ» (رواه مسلم). فأوصيكم ـ عبادَ الله ـ بتقوى الله، فإنها سعادةُ الأبرار وقوامُ حياةِ الأطهار، تمسَّكوا بوثائقها، واعتصموا بحقائقها. • حاجة الأمة في هذا العصر إلى التمسك بمبادئ الإسلام وعظم مقاصد خطبة الوداع: أيها المسلمون، هاهم حجاج بيت الله يخطون خطواتهم على تلك الأرض الطيبة الآمنة بأمان الله، هذه الأرض التي تحكي تاريخ الإسلام المجيد، تاريخ نشأة هذا الدين في هذه البطاح. قصة الانتصار والكفاح، سيرة النماذج المثالية العالية، ومصارع الشهداء في سبيل الحق، بلدٌ وتاريخٌ، قفزت فيه البشرية إلى أبعد الآفاق، دينًا ودنيا، علمًا وعملًا فقهًا وخلقًا. أرضٌ طيبةٌ، تزدحم فيها هذه المناظر والمشاهد، حيةً نابضةً، تختلط فيه مشاعر العبودية، وأصوات التلبية، والإقبال على الربِّ الرحيم.

في هذه الأجواء يغمر قلب المتأمل، شعورٌ كريمٌ فياضٌ، بانتماء أفراد هذه الأمة إلى هدفٍ واحدٍ وغايةٍ واحدةٍ، إنها أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، دينها دين الإسلام دين الله رب العالمين. ما أحوج الأمة في أيام محنتها وشدائدها، وأيام ضعفها وتيهها، إلى دروسٍ من تاريخها تتأملها، وإلى وقفاتٍ عند مناسباتها، تستلهم منها العبر، ويتجدد فيها العزم على الجهاد الحق، ويصح فيها التوجه على محاربة كل بغي وفساد. ما أحوجها إلى دروس تستعيد فيها كرامتها، وتردُّ على من يريد القضاء على كيانها. وإن في حجة نبيكم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الوداعية التوديعية لعبرًا ومواعظ، وإن في خطبها لدروسًا جوامع. فلقد خطب - صلى الله عليه وآله وسلم - خطبًا في موقف عرفة، ويوم الحج الأكبر وأيام التشريق ـ أرسى فيها قواعد الإسلام، وهدم مبادئ الجاهلية، وعظَّم حرمات المسلمين. خطب - صلى الله عليه وآله وسلم - الناس وودعهم، بعد أن استقرَّ التشريع، وكمل الدين، وتمت النعمة، ورضي الله هذا الإسلام دينًا للإنسانية كلها، لا يقبل من أحدٍ دينًا سواه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3). {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85). • خطابٌ عالميّ من سيّد العالمين محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -: ألقى نبيكم محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا المقام العظيم كلماتٍ جامعةً موجزةً، تحكي المبادئ الكبرى لهذا الدين. أحبتِي عادَ ذهنِي إلى زمنٍ ... مُعَظَّمٍ في سُويْدَا القلبِ مُستَطِرِ كأنني برسولِ اللهِ مرتديًا ... ملابسَ الطهرِ بين الناسِ كالقمرِ نورٌ وعن جانِبَيْهِ مِن صحابتِه فَيالقُ وألوفُ الناسِ بالأثَرِ

ساروا برُفقةِ أزكَى مُهجةٍ دَرَجَتْ وخيرِ مشتَمِلٍ ثوبًا ومُؤتَزِرِ مُلبِّيًا رافعًا كفَّيْهِ في وَجَلٍ ... للهِ في ثوبٍ أوّابٍ ومفتقرِ يَمْضِي ينادِي خُذُوا عنِّي مناسِكَكُمْ لعل هذا ختامُ العهْدِ والعُمُرِ وقامَ في عرَفَاتِ اللهِ ممتطيًا ... قَصواءَهُ يا له مِن موقِفٍ نَضِرِ تأمَّلَ الموقفَ الأسمَى فما نظرتْ ... عيناهُ إلا لأمواجٍ مِن البشَرِ فينحَنِي شاكرًا لله مِنّتَه ... وفضْلَه مِن تمامِ الدينِ والظَفَرِ يَشْدُو بخطْبتِه العصماءِ زاكيةً ... كالشهدِ كالسلسبيلِ العذبِ كالدُرَرِ مُجَلّيًا روعةَ الإسلامِ في جُمَلٍ ... مِن رائعٍ مِن بديعِ القولِ مختَصَرِ دَاعٍ إلى العدلِ والتقوَى وأنَّ بها ... تفاضُلُ الناسِ لا بالجنسِ والصورِ مُبَيِّنًا أنّ للإنسانِ حرمتَه ... مُمَرِّغًا سَيِّء العاداتِ بالمَدَرِ يا ليتني كنتُ بين القومِ إذْ حضَروا ... مُمَتَّعَ القلبِ والأسماعِ والبصرِ وأنبري لرسولِ اللهِ ألثُمُهُ ... على جبينٍ نقيٍّ طاهرٍ عطِرِ أقَبِّلُ الكفَّ كفَّ الجودِ كمْ بذلَتْ ... سحّاءَ بالخيرِ مثل السَلسَلِ الهدرِ ألوذُ بالرّحْلِ أمشِي في معِيَّتِه ... وأرتوِي مِن رسولِ اللهِ بالنظرِ أُسّرُّ بالمشْيِ وإنْ طالَ المسيرُ بنَا ... وما انقضَى مِن لقاءِالمصطفَى وَطَرِي أما الرداءُ الذِي حجَّ الحبيبُ بهِ ... يا ليتَه كفنٌ لي في دُجَى الحُفَرِ يا غافلًا عن مزاياهُ وروعتٍها ... يَمِّمْ إلى كتُبِ التاريخِ والسِّيَرِ يا ربِّ لا تحرِمْنَا مِن شفاعتِه وحوضِه العذبِ يومَ الموقفِ العَسِرِ معاشرَ المسلمين، إنّ الأمّة اليومَ في حاجةٍ عظيمة للمبادئ التي تعالج واقعَها وللأصول التي تحلّ مشكلاتها وللقيَم التي ترسم لها الخطّة الناجحةَ لمحاربة التحدّيات التي تواجهها والمخاطر التي تحيط بها. ومِن هذا المنطلَق فإنّ ضرورةَ المسلمين اليومَ كبيرةٌ في مثل هذه المناسبة للمراجعة الجادّةِ والتبصُّر الصادق في وثيقةٍ تاريخية عظيمة، صدرت من رجلٍ عظيم في يومٍ

عظيم. إنها خطبةُ الوداع التي تعرِض للأمة أعلى القيَم، وتمدّها بمقوّمات الخير والصّلاح لبناء الحاضِر والمستقبل، وتعطيها أُسُسَ الفلاح ومبادئَ النّجاح. إخوةَ الإسلام، خطبةُ الوداع جاءت تذكِّر الأمّة في كلِّ حين بأسباب الحياةِ المثلى، وتبصِّرها بسُبل الوقاية من الشرور والفتَن، وهو تحقيقُ منهج الإسلام في هذه الحياة عقيدةً وشريعة، حُكمًا وتحاكمًا، عملًا وسُلوكًا. • مبدأ حفظ الدماء والأموال والأعراض: أمّةَ الإسلام، وفي مضامين هذه الوثيقةِ أصلٌ مهمّ تقوم عليه سعادة الناس، وتصلح به حياتهم، إنه مبدأ حفظِ النفوس والأموال والأعراض، يقول - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذه الخطبة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» (رواه البخاري ومسلم). إنها المقاصد العامّة والمصالح الكلّية التي جاءت الشريعةُ برعايتها والحفاظِ عليها وبناء الأحكام على وفقها وجعلها غايةً مستقرّة في تشريعاتها، ممّا حدَا بأحدِ المستشرقين أن يقول: «لو طبّق المسلمون تعاليمَ دينهم وحرصوا عليها عملًا فإنّ دُورَ الشرطةِ والمحاكم والسجون ستُغلق؛ لأنه لن يبقَ لها عملٌ، وبذلك يوجد المجتمع المسلم الذي رسم الإسلام معالمَه». خطابٌ عالميّ يصدُر من سيّد العالمين محمّد - صلى الله عليه وآله وسلم -، يتضمّن محاربةَ كلِّ تصرّفٍ يترتّب عليه ترويعُ الآمنين وإخافة المسلمين. خطابٌ يتضمّن في مشمول معانيه الحرصَ التامَّ من دين الإسلام على حفظ النفوس أن تهدَر والأموال أن تضيّع والأعراض أن تنتهَك. إنه خطابٌ كالسّيف ضدّ كلِّ تهمةٍ تُوجَّه للإسلام بأنه دينُ إرهابٍ وإرعاب، فأين المنصفون؟! وأين المتبصِّرون؟! •

مبدأ العقوبات في الإسلام: إنّ حرص التشريع الإسلاميّ على إصلاح النفوس وتهذيبها وحماية الجماعة وأفرادها لا مثيل له في القضاء على الخطر والمنعِ من الشرّ والضرر، حدودٌ تزجر الناسَ وتردعهم، وتصلح أحوالهم وشؤونهم، حسمٌ لباب الفساد، وإصلاحٌ لأحوال العباد؛ لتقوم حياةٌ كريمة وعيشٌ مطمئنّ مستقرّ، {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179). وقد عجزت الأمم المعاصرة بتقدمها وتقنية وسائلها أن توقف سيل الجرائم، وإزهاق النفوس، وزاد سوؤها وانكشفت سوأتها، حين ألغت عقوبة الاقتصاص من المجرمين، واكتفت بعقوبات هزيلة بزعم استصلاح المجرمين، وما زاد المجرمين ذلك إلا عتوًا واستكبارًا في الأرض ومكر السيئ، ولكنه في شرع محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - محسوم بالقصاص العادل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة:179). إن في القصاص حياة حين يكفُّ من يَهمُّ بالجريمة عن الإجرام، وفي القصاص حياةٌ حين تشفى صدور أولياء القتيل من الثأر الذي لم يكن يقف عند حدٍّ لا في القديم ولا في الحديث. ثأرٌ مثيرٌ للأحقاد العائلية، والعصبيات القبلية، يتوارثه الأجيال جيلًا بعد جيلٍ، لا تكفُّ معه الدماء عن المسيل. ويأتي حسمٌ عمليٌّ ومباشرة تطبيقية من محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الموقف العظيم، وفي إلغاء حكم جاهلي في مسألة الثأر، فاستمع إليه وهو يقول: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْل» (رواه مسلم). أيها الإخوة، إن في القصاص والحدود وأحكام الجنايات في الشريعة، حياةً ورحمةً، حياةً أعم وأشمل، حياة تشمل المجتمع كله، رحمة واسعة غير مقصورة على

شفقة ورِقَّة تنبت في النفس نحو مستضعفٍ أو أرملةٍ أو طفلٍ، ولكنها رحمةٌ عامةٌ للقوي والضعيف والقريب والبعيد. • تحريم الربا: معاشرَ المسلمين، في موقفِ الوداع يُعلن المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - حكمَ الإسلام الأبديَّ في قضيةٍ خطيرة من قضايا الاقتصاد، إنها قضيّة الربا، فيقول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا ـ رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِب» (رواه مسلم). سياسةٌ نبويّة لصيانة الاقتصاد من الهلاك والدمار، ولحماية المجتمعات من الشرور والأضرار، وذلك بتَحريم الربا بمختلف صُوَره ومهما كان نوعُه وقدره. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وسَبْعُونَ بَابًا، أيْسَرُهَا مِثْلُ أنْ ينْكِحَ الرَّجُلُ أمَّه» (صحيح رواه الحاكم). وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ» (صحيح رواه ابن ماجه). معاشرَ المسلمين، إنّه في الوقتِ الذي يُصدر الإسلام وصاياه النيّرةَ يتَّضح للعالم بعد قرونٍ بالتجارب الواقعية والكتابات المتعدّدة والإحصاءات الدقيقةِ الصادرة من أساطين الاقتصاد العالمي أنّ النظامَ الربويّ ليس هو العاجز على توفير الاقتصاد النامي المستقرِّ فحسب، بل إنّه عنصرٌ مدمِّر لشروط ودعائم الاقتصاد ونموِّه واستقراره، فأين المدركون؟! وأين هم المتَّعظون؟! • صيانة المرأة والحرص على كرامتها: معاشر الإخوة، أما قضية المرأة، وما أدراك ما قضية المرأة، وكأنها قضية كل عصر وكل جيل وكل أمة، يأتي الخطاب النبوي في هذا الحشد الهائل ممن عاصر الجاهلية، ليضع الناس على الحق، والطريق المستقيم. إن مواريث العرب والجاهلية قبل الإسلام احتقرت المرأة وازْدَرَتْها، بل لعلها رأت أنها شرٌ لابد منه. وإذا كانت مواريث الجاهلية قد جعلت المرأة في قفص الاتهام ومظاهر الاستصغار، فإن مسلك التقدم المعاصر قد جعلها مصيدةً لكل الآثام. ولكنَّ هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أعطى كل ذي حق حقه، وحفظ لكلٍّ نصيبه: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} (النساء:32). في مسلك وسط، ومنهجٍ عدلٍ، فالنساء شقائق الرجال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (البقرة:228)، {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} (آل عمران:195)، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل:97). أمّةَ الإسلام، المرأة في الإسلام شقيقةُ الرجال في إقامة الحياة على خيرِ حال، علاقتها به علاقةُ مودّةٍ ورحمة وسَكَنٍ وطمأنينة، يقول - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبة الوداع: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ» (رواه مسلم). المرأة في الإسلام لها شأنٌ عظيم، حقوقها محفوظةٌ مُصَانة، تعيش كريمةً مُصانة عُضوًا مشَرّفا وعنصرًا فعّالا في إقامة حياةٍ سعيدة ومجتمع طاهر نزيه، تمارس مسؤولياتها وفقَ الحِشمة والآداب، مستوعِبةً المفيدَ من الجديد، محافظةً على نفسها، لها ميادينها ومجالاتُها في الخير والعطاءِ والبذل والفداء، وحينئذ تجني لأمّتها ولنفسها الثمراتِ الخيّرة، ولمجتمعها القطوفَ الزّاهرة، مجتنبةً الويلاتِ التي يعاني منها المستسلِمات لصرخاتِ التحرير الكاذبة الماكرة والدعوات الخادعة السافرة. أيّها المؤمنون، أعداءُ الإسلام حريصون على أن تنهجَ المسلمة السبُل العوجاءَ والأفكار الهوجاء، قال أحدهم: «لن تستقيمَ حال الشّرق ما لم يُرفَع الحجابُ عن وجه المرأةِ ويغطَّى به القرآن»، وقال آخر: «إنّ التأثير الفكريَّ الذي يظهر في كلّ المجالات ويقلب المجتمعَ الإسلاميّ رأسًا على عقب لا يبدو في جلاءٍ أفضل بما يبدو في تحرير المرأة». وهذا ليس بمستغرَبٍ على مَن مبادِؤُه مهلِكة ومقاييسه فاسِدة، ولكن المستغرَب أن يتأثّر بذلك ذوو أفهامٍ سقيمة أو نوايا خبيثة، فتجدهم يتّجهون لمِثل تلك الدعوات، وينادون في ديار الإسلام بمثل تلك الصيحات. ألا فليت هؤلاء وغيرهم يدركون ما أدركه عقلاء القومِ ويستبصرون ما استبصروه من العواقب الوخيمةِ والآثار المدمّرة لمثل تلك التوجّهات، فترى أولئك منذرين نادمين على أرجاءِ حاضرتهم الهابطة التي أوردتهم الموارد. تقول إحدى كاتباتهم: «إنّ الاختلاطَ الذي يألفُه الرجال وقد طمعَت فيه المرأة بما يخالف فطرتَها، وهنا البلاء العظيم على المرأة ... إلى أن قالت: أما آن لنا أن نبحثَ عمّا يخفِّف ـ إذا لم نقل: عمّا يزيل ـ هذه المصائب؟!»، وتقول أخرى: «ألا ليتَ بلادَنا كبلاد المسلمين، فيها الحشمة والعفافُ والطّهارة، تنعَم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمَل أولادُ البيت، ولا تُمسُّ الأعراض بسوء». ألا وقد استبان الأمرُ وانكشف الحال، فواجبُ مَن انبهر بهذه المبادئ الزائفة والشعارات المرَوْنَقَة واجبهُ النظرُ المنصِف والتفكُّر الدقيق، ليعلم ما جرّته تلك المفاهيمُ الزائفة من عواقبَ وخيمة على الفرد والمجتمع في كثيرٍ من العالم اليوم. وإنّه لحريٌّ بالمسلمين التمسّكُ بخصائصهم الدينيّة والثقافية والاجتماعيّة أمامَ طغيان الثقافات الأخرى ومفاهيمها في قضية المرأة وغيرها، وذلك باختيار الهدي الإلهي ومبادئ التشريع الرباني وإظهار الاعتزاز بتلك الخصوصية وتطبيقها والالتزام بها، فذلك كافلٌ لها بموقع مشرِّفٍ في كلّ المجالات وشتّى الميادين. يا نساء المسلمين، اتقين الله تعالى في واجباتكن التي طوقت أعناقكن، أحسِنَّ إلى أولادكن بالتربية الإسلامية النافعة، واجتهدن في إعداد الأولاد إعدادًا سليمًا ناجحًا، فإن المرأة أشد تأثيرًا على أولادها من الأب، وليكن هو معينًا لها على التربية، وأحسِنَّ إلى الأزواج بالعشرة الطيبة، وبحفظ الزوج في عرضه وماله وبيته، ورعاية حقوق أقاربه وضيفه وجيرانه. عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ» (حسن رواه الإمام أحمد). • ذم العصبية والعنصرية: إخوةَ الإسلام، جاء الإسلامُ والناسُ تموج بهم صراعاتُ الأجناس والألوانِ والطبقات، فأشرق نورُه، وجمع بين تلك المختلِفات على مبدأ المساواة بين النّاس، لا تفاضُلَ فيه إلاّ باعتبار التقوى التي تنطرِح معها كلّ نزعةٍ عنصريّة عصبية أو قومية، يقول المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطابه: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى» (إسناده صحيح رواه الإمام أحمد). وقال النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرَمُ التَّقْوَى» (صحيح رواه الترمذي). (الْحَسَبُ الْمَالُ) أَيْ مَالُ الدُّنْيَا الْحَاصِلُ بِهِ الْجَاهُ غَالِبًا. (وَالْكَرَمُ) أَيْ الْكَرَمُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْعَقِبِ الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهِ الْإِكْرَامُ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى (التَّقْوَى) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}. قَالَ الطِّيبِيُّ: الْحَسَبُ مَا يَعُدُّهُ مِنْ مَآثِرِهِ وَمَآثِرِ آبَائِهِ، وَالْكَرَمُ الْجَمْعُ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرَفِ وَالْفَضَائِلِ وَهَذَا بِحَسَبِ اللُّغَةِ، فَرَدَّهُمَا - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَعِنْدَ اللهِ، أَيْ لَيْسَ ذِكْرُ الْحَسَبِ عِنْدَ النَّاسِ لِلْفَقِيرِ حَيْثُ لَا يُوَقَّرُ وَلَا يُحْتَفَلُ بِهِ بَلْ كُلُّ الْحَسَبِ عِنْدَهُمْ مَنْ رُزِقَ الثَّرْوَةَ وَوُقِّرَ فِي الْعُيُونِ، أَيْ إِنَّهُ يُوَقَّرُ لِذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ دَلِيلُ الثَّرْوَةِ وَذُو الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ عِنْدَ النَّاسِ وَلَا يُعَدُّ كَرِيمًا عِنْدَ اللهِ. وَإِنَّمَا الْكَرِيمُ عِنْدَهُ مَنْ اِرْتَدَى بِرِدَاءِ التَّقْوَى. كَانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمَانَ لَهُ نَسَبًا ... وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحٍ وَابْنِهِ رَحِمٌ. وعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيٌّ

كَرِيمٌ عَلَى اللهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}» (صحيح رواه الترمذي). (إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ) أَيْ أَزَالَ وَرَفَعَ عَنْكُمْ. (عُبِّيَّة الْجَاهِلِيَّة) أَيْ فَخْرهَا وَتَكَبُّرهَا وَنَخْوَتهَا. (وَتَعَاظُمَهَا) أَيْ تَفَاخُرَهَا. (فَالنَّاسُ رَجُلَانِ) أَيْ نَوْعَانِ: (رَجُلٌ بَرٌّ تَقِيٌّ) أَيْ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّ مَدَارَ الْإِيمَانِ عَلَى الْخَاتِمَةِ وَاللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِمَنْ اِتَّقَى. (وَفَاجِرٌ) أَيْ كَافِرٌ أَوْ عَاصٍ (شَقِيٌّ) أَيْ غَيْرُ سَعِيدٍ (هَيِّنٌ) أَيْ ذَلِيلٌ (عَلَى اللهِ) أَيْ عِنْدَهُ وَالذَّلِيلُ لَا يُنَاسِبُهُ التَّكَبُّرُ. (وَالنَّاسُ) أَيْ كُلُّهُمْ (بَنُو آدَمَ) أَيْ أَوْلَادُهُ (وَخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ التُّرَابِ) أَيْ فَلَا يَلِيقُ بِمَنْ أَصْلُهُ التُّرَابُ النَّخْوَةُ وَالتَّجَبُّرُ. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} أَيْ آدَمَ وَحَوَّاءَ {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} جَمْعُ شَعْبٍ وَهُوَ أَعْلَى طَبَقَاتِ النَّسَبِ {وَقَبَائِلَ} هِيَ دُونَ الشُّعُوبِ، وَبَعْدَهَا الْعَمَائِرُ، ثُمَّ الْبُطُونُ، ثُمَّ الْأَفْخَاذُ، ثُمَّ الْفَصَائِلُ آخِرُهَا. {لِتَعَارَفُوا} أَيْ لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا لَا لِتُفَاخِرُوا بِعُلُوِّ النَّسَبِ وَإِنَّمَا الْفَخْرُ بِالتَّقْوَى. {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} أَيْ إِنَّمَا تَتَفَاضَلُونَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى بِالتَّقْوَى لَا بِالْأَحْسَابِ. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنْ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ» (حسن رواه أبو داود).

ورواه الترمذي بلفظ: «لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا، إِنَّمَا هُمْ فَحْمُ جَهَنَّمَ أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنْ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخِرَاءَ بِأَنْفِهِ ... » (حسن). (مُؤْمِن تَقِيّ وَفَاجِر شَقِيّ) مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاس رَجُلَانِ مُؤْمِن تَقِيّ فَهُوَ الْخَيِّرُ الْفَاضِل وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسِيبًا فِي قَوْمه، وَفَاجِر شَقِيّ فَهُوَ الدَّنِيّ وَإِنْ كَانَ فِي أَهْله شَرِيفًا رَفِيعًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُفْتَخِر الْمُتَكَبِّر إِمَّا مُؤْمِن تَقِيّ فَإِذَنْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَكَبَّر عَلَى أَحَد، أَوْ فَاجِر شَقِيّ فَهُوَ ذَلِيل عِنْد اللهِ، وَالذَّلِيل لَا يَسْتَحِقّ التَّكَبُّر فَالتَّكَبُّر مَنْفِيّ بِكُلِّ حَال. (لَيَدَعَن): أَيْ لِيَتْرُكَن. (إِنَّمَا هُمْ): أَيْ أَقْوَام. (أَهْوَنَ): أَيْ أَذَلَّ. (عَلَى اللهِ): أَيْ عِنْده (مِنْ الْجِعْلَان):جَمْع جُعْل: دُوَيْبَّة سَوْدَاء تُدِير الْخِرَاء بِأَنْفِهَا، وَمِنْ شَأْنِه جَمْع النَّجَاسَة وَادِّخَارهَا. وَمِنْ عَجِيب أَمْره أَنَّهُ يَمُوت مِنْ رِيح الْوَرْد وَرِيح الطِّيب فَإِذَا أُعِيدَ إِلَى الرَّوْث عَاشَ. وَمِنْ عَادَته أَنْ يَحْرُس النِّيَام فَمَنْ قَامَ لِقَضَاءِ حَاجَته تَبِعَهُ وَذَلِكَ مِنْ شَهْوَته لِلْغَائِطِ لِأَنَّهُ قُوتُه. (الَّتِي تَدْفَع بِأَنْفِهَا النَّتْن): أَيْ الْعَذِرَة، أي البراز. (يُدَهْدِه) يُدَحْرِج. شَبَّهَ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمُفْتَخِرِينَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة بِالْجِعْلَانِ، وَآبَاءَهُمْ الْمُفْتَخَر بِهِمْ بِالْعَذِرَةِ، وَنَفْس اِفْتِخَارهمْ بِهِمْ بِالدَّفْعِ وَالدَّهْدَهَة بِالْأَنْفِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ أَحَد الْأَمْرَيْنِ وَاقِع الْبَتَّة إِمَّا الِانْتِهَاء عَنْ الِافْتِخَار أَوْ كَوْنهمْ أَذَلّ عِنْد اللهِ تَعَالَى مِنْ الْجِعْلَانِ الْمَوْصُوفَة. وما أشبه هؤلاء الْمُفْتَخِرِينَ بِآبَائِهِمْ الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّة بمن يفتخرون اليوم بالمشركين من الفراعنة أو الأشوريين أو البابليين أو غيرهم، يزعمون أنهم أجدادهم. إن أجدادنا الذين يحق لنا أن نفخر بهم هم تلاميذ محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ والحسن والحسين ومعاوية وعمرو بن العاص - رضي الله عنهم -، ومن سار على نهجهم من التابعين وتابعيهم بإحسان.

وإذا كان الإسلام في العهد النبوي قد دفن النعرات الجاهلية، والعصبيات الدموية، والشيطان قد يئس أن يُعبد في ذلك العهد، لكننا نخشى تجدد آماله في هذه العصور المتأخرة. تتجدد آماله في الفرقة والتمزيق. فالعالم الإسلامي اليوم تتوزعه عشراتُ القوميات، وتمشي جماهيره تحت عشرات الرايات، وهي قوميات ذات توجهات مقيتة. ما جلبت لأهلها إلا الذل والصغار، والفرقة والتمزق. فهل يستيقِن المسلمون اليومَ أنّ التفرُّقَ والتشرذُم الحاصِل والذلّ والهوان الواقع إنما هو بسببِ تلك القوميّات العرقيّة والأحزاب الفكريّة والمشارِب المتعدّدة؟! فكم جرّت على الأمّة الإسلاميّة من ويلاتٍ وويلات، ودمّرت مصالحَ ومقدَّرات، ونبيّ الأمّة - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» (رواه مسلم).وفي لفظ آخر: «وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِي» (رواه مسلم). قوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (وَمَنْ قَاتَلَ تَحْت رَايَة عِمِّيَّة) هِيَ الْأَمْر الْأَعْمَى لَا يَسْتَبِين وَجْهه كَتَقَاتُلِ الْقَوْم لِلْعَصَبِيَّةِ. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (يَغْضَب لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَة أَوْ يَنْصُر عَصَبَة) مَعْنَاهُ: إِنَّمَا يُقَاتِل عَصَبِيَّة لِقَوْمِهِ وَهَوَاهُ. • الوصية بالتمسك بالكتاب والسنة: أيّها المسلمون، وتُختَم كلمات الوداع من نبيّ الأمّة - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يفارقها بوَصيّة تضمَن لها السعادة والرفعةَ والنصرَ والعزّ، إنها وصيّة الالتزام بالتمسك بالوحيين والاعتصام بالهديين، قال - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبة الوداع: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ كِتَابُ اللهِ» (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْضَ» (¬1). (صحيح رواه الحاكم). ¬

_ (¬1) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي حَجَّتِهِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَخْطُبُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي» (صحيح رواه الترمذي). قَوْلُهُ: (فِي حَجَّتِهِ) أَيْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. (إِنِّي تَرَكْت فِيكُمْ مَنْ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِ) أَيْ اِقْتَدَيْتُمْ بِهِ وَاتَّبَعْتُمُوهُ. (كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي) الْمُرَادُ بِالْأَخْذِ بِهِمْ التَّمَسُّكُ بِمَحَبَّتِهِمْ وَمُحَافَظَةُ حُرْمَتِهِمْ وَالْعَمَلُ بِرِوَايَتِهِمْ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَقَالَتِهِمْ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَخْذَ السُّنَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. والتَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ وَهُوَ الِائْتِمَارُ بِأَوَامِرِ اللهِ وَالِانْتِهَاءُ عَنْ نَوَاهِيهِ، وَمَعْنَى التَّمَسُّكُ بِالْعِتْرَةِ مَحَبَّتُهُمْ وَالِاهْتِدَاءُ بِهَدْيِهِمْ وَسِيرَتِهِمْ، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِلدِّينِ. أما الكتاب؛ فلأنه معدن العلوم الدينية والحكم الشرعية، وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين؛ فطيب العنصر يؤدي إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها تؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته. والمراد بعِتْرته هنا العلماء العاملون إذ هم الذين لا يفارقون القرآن، أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي من هذا المقام، وإنما ينظر للأصل والعنصر عند التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، فإذا كان العلم النافع في غير عنصرهم لزمنا إتباعه كائنًا ما كان. وعن زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ تقَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا فِينَا خَطِيبًا بِمَاءٍ يُدْعَى خُمًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي». (رواه مسلم). وعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ب قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي: أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنْ الْآخَرِ كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا» (صحيح رواه الترمذي). (أَحَدُهُمَا) وَهُوَ كِتَابُ اللهِ (أَعْظَمُ مِنْ الْآخِرِ) وَهُوَ الْعِتْرَةُ. (كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) أَيْ يُوصِلُ الْعَبْدَ إِلَى رَبِّهِ وَيُتَوَسَّلُ بِهِ إِلَى قُرْبِهِ. ... = = (وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي) أَيْ وَالثَّانِي عِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي. فرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُوصِي الْأُمَّةَ بِحُسْنِ الْمُخَالَقَةِ مَعَهُمَا وَإِيثَارِ حَقِّهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمْ كَمَا يُوصِي الْأَبُ الْمُشْفِقُ النَّاسَ فِي حَقِّ أَوْلَادِهِ. (وَلَنْ يَتَفَرَّقَا) أَيْ كِتَابُ اللهِ وَعِتْرَتِي فِي مَوَاقِفِ الْقِيَامَةِ، (حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ) أَيْ الْكَوْثَرَ يَعْنِي فَيَشْكُرَانِكُمْ صَنِيعَكُمْ عِنْدِي. (فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي) أَيْ كَيْفَ تَكُونُونَ بَعْدِي خُلَفَاءَ أَيْ عَامِلِينَ مُتَمَسِّكِينَ بِهِمَا. (انظر: (فيض القدير شرح الجامع الصغير) للمناوي، و (تحفة الأحوذي) للمباركفوري).

تمسُّكٌ بهما في شتَّى الجوانب، واعتصامٌ بهما في جميع الأحوال، عقيدةً وعملًا، شريعةً وتحاكمًا. ألا فليكن التنظيمُ في حياة المسلمين على وفقهما، وليُنهَج في ديار المسلمين الإصلاحُ في ضوء مذهبهما، نظامُ حياةٍ كامل، ودستور إصلاح شامِل، فالتأريخ الإسلامي في المدّ والجزر والنصر والهزيمة والقوّة والضعف برهانٌ ساطع على أن العزّةَ والسؤدَد والرخاءَ والازدهار يكون للمسلمين يومَ يكون أمرهم على الوحيين وشؤونُهم وفقَ الهديين. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة:48 - 50). يقول تعالى: {وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} الذي هو القرآن العظيم، أفضل الكتب وأجَلّها.

{بِالْحَقِّ} أي: إنزالا بالحق، ومشتملا على الحق في أخباره وأوامره ونواهيه. {مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ} لأنه شهد لها ووافقها، وطابقت أخباره أخبارها، وشرائعه الكبار شرائعها، وأخبرت به، فصار وجوده مصداقا لخبرها. {وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} أي: مشتملا على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، وزيادة في المطالب الإلهية والأخلاق النفسية. فهو الكتاب الذي تتبع كل حق جاءت به الكتب فأمر به، وحث عليه، وأكثر من الطرق الموصلة إليه. وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللاحقين، وهو الكتاب الذي فيه الحكم والحكمة، والأحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة، فما شهد له بالصدق فهو المقبول، وما شهد له بالرد فهو مردود، قد دخله التحريف والتبديل، وإلا فلو كان من عند الله، لم يخالفه. {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللهُ} من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك. {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} أي: لا تجعل اتباع أهوائهم الفاسدة المعارضة للحق بدلا عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير. {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} أي: أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله. فلا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية. فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى. {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحُكْمين ويميز ـ بإيقانه ـ ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين ـ عقلًا وشرعًا ـ إتباعه. واليقين، هو العلم التام الموجب للعمل. تتناول هذه الآيات قضية الحكم والشريعة والتقاضي ـ ومن ورائها قضية الألوهية والتوحيد والإيمان ـ والقضية في جوهرها تتلخص في الإجابة على هذا

السؤال: أيكون الحكم والشريعة والتقاضي حسب مواثيق الله وعقوده وشرائعه التي كتبها على الرسل، وعلى من يتولون الأمر بعدهم ليسيروا على هداهم؟ أم يكون ذلك كله للأهواء المتقلبة، والمصالح التي لا ترجع إلى أصل ثابت من شرع الله، والعرف الذي يصطلح عليه جيل أو أجيال؟ وبتعبير آخر: أتكون الألوهية والربوبية والقوامة لله في الأرض وفي حياة الناس؟ أم تكون كلها أو بعضها لأحد من خلقه يشرع للناس ما لم يأذن به الله؟ الله - عز وجل - يقول: إنه هو الله لا إله إلا هو. وإن شرائعه التي سنَّها للناس بمقتضى ألوهيته لهم وعبوديتهم له، وعاهدهم عليها وعلى القيام بها ـ هي التي يجب أن تحكم هذه الأرض، وهي التي يجب أن يتحاكم إليها الناس وهي التي يجب أن يقضي بها الأنبياء ومن بعدهم من الحكام. إنه لا هوادة في هذا الأمر، ولا ترخص في شيء منه، ولا انحراف عن جانب ولو صغير. وإنه لا عبرة بما تواضع عليه جيل، أو لما اصطلح عليه قبيل، مما لم يأذن به الله في قليل ولا كثير! إن المسألة مسألة إيمان أو كفر؛ أو إسلام أو جاهلية؛ وشرع أو هوى. وليس لأحد من عباده أن يقول: إنني أرفض شريعة الله، أو إنني أبْصَرُ بمصلحة الخلق من الله. فإن قالها ـ بلسانه أو بفعله ـ فقد خرج من نطاق الإيمان. إن الاعتبار الأول في هذه القضية هو أنها قضية الإقرار بألوهية الله وربوبيته وقوامته على البشر ـ بلا شريك ـ أو رفض هذا الإقرار .. ومن هنا هي قضية كفر أو إيمان، وجاهلية أو إسلام. ومعنى الاستسلام لشريعة الله هو ـ قبل كل شيء ـ الاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته وسلطانه. ومعنى عدم الاستسلام لهذه الشريعة، واتخاذ شريعة غيرها في أية جزئية من جزئيات الحياة، هو ـ قبل كل شيء ـ رفض الاعتراف بألوهية الله وربوبيته وقوامته وسلطانه.

ويستوي أن يكون الاستسلام أو الرفض باللسان أو بالفعل دون القول. فما يملك إنسان أن يدعي أن شريعة أحد من البشر تفضل أو تماثل شريعة الله، في أية حالة أو في أي طور من أطوار الجماعة الإنسانية .. ثم يدعي ـ بعد ذلك ـ أنه مؤمن بالله، وأنه من المسلمين .. إنه يدعي أنه أعلم من الله بحال الناس؛ وأحكم من الله في تدبير أمرهم. أو يدعي أن أحوالًا وحاجات جرت في حياة الناس، وكان الله - عز وجل - غير عالم بها وهو يشرع شريعته؛ أو كان عالمًا بها ولكنه لم يشرع لها! ولا تستقيم مع هذا الادعاء دعوى الإيمان والإسلام. مهما قالها باللسان! إن شريعة الله تمثل منهجًا شاملًا متكاملًا للحياة البشرية؛ يتناول بالتنظيم والتوجيه والتطوير كل جوانب الحياة الإنسانية؛ في جميع حالاتها، وفي كل صورها وأشكالها. وهو منهج قائم على العلم المطلق بحقيقة الكائن الإنساني، والحاجات الإنسانية، وبحقيقة الكون الذي يعيش فيه الإنسان؛ وبطبيعة النواميس التي تحكمه وتحكم الكينونة الإنسانية. وهو منهج قائم على العدل المطلق .. أولًا .. لأن الله يعلم حق العلم بم يتحقق العدل المطلق وكيف يتحقق .. وثانيًا .. لأنه ـ سبحانه ـ رب الجميع؛ فهو الذي يملك أن يعدل بين الجميع؛ وأن يجيء منهجه وشرعه مبرأ من الهوى والميل والضعف. كما أنه مُبَرَّأ من الجهل والقصور والغلو والتفريط، الأمر الذي لا يمكن أن يتوافر في أي منهج أو في أي شرع من صنع الإنسان، ذي الشهوات والميول، والضعف والهوى ـ فوق ما به من الجهل والقصور ـ سواء كان المشَرِّع فردًا، أو طبقة، أو أمة، أو جيلًا من أجيال البشر .. فلكل حالة من هذه الحالات أهواؤها وشهواتها وميولها ورغباتها؛ فوق أن لها جهلها وقصورها وعجزها عن الرؤية الكاملة لجوانب الأمر كله حتى في الحالة الواحدة في الجيل الواحد.

إنه المنهج الوحيد الذي يتحرر فيه الإنسان من العبودية للإنسان. ففي كل منهج ـ غير المنهج الإسلامي ـ يتعبد الناسُ الناسَ. ويعبد الناسُ الناسَ. وفي المنهج الإسلامي ـ وحده ـ يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده بلا شريك. والإسلام حين يجعل الشريعة لله وحده، يخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويعلن تحرير الإنسان. بل يعلن «ميلاد الإنسان» .. فالإنسان لا يولد، ولا يوجد، إلا حيث تتحرر رقبته من حكم إنسان مثله؛ وإلا حين يتساوى في هذا الشأن مع الناس جميعًا أمام رب الناس. ومن هنا خطورة هذه القضية في حياة بني الإنسان، وفي نظام الكون كله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (المؤمنون:71). فالحكم بغير ما أنزل الله معناه الشر والفساد والخروج في النهاية عن نطاق الإيمان .. بنص القرآن. • البركة في تطبيق شرع الله - عز وجل -: عباد الله: ما تقولون في مطر يرسله الله على العباد والبلاد، فيسقي أرضهم وينبت الله به زرعهم، ويدرّ به ضرعهم، ويلطف به هواءهم، ويكثر ماؤهم، وتنشرح باخضرار الأرض صدورهم، وتقضى لهم حوائجهم؛ فهم في رغد وسعد ونعمة ما بها نقمة ثم يدوم ذلك بهم أربعون صباحًا، إنها النعمة الكبرى تستحق من العباد إجمال الشكر لله - عز وجل -. إن حدًّا واحدا يعمل به في الأرض خير من ذلك كله؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» (حسن رواه ابن ماجه). وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِقَامَتهَا زَجْرًا لِلْخَلْقِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوب، وَسَبَبًا لِفَتْحِ أَبْوَاب السَّمَاء بِالْمَطَرِ، وَفِي الْقُعُود عَنْهَا وَالتَّهَاوُن بِهَا أَنَّهُمَا كَأَنَّهُمْ فِي الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ سَبَب لِأَخْذِهِمْ بِالسِّنِينَ وَالْجَدْب وَإِهْلَاك الْخَلْق.

إن كل ما يمكن تصوره من رخاء وسعة عيش ورغد كل ذلك لا يعدل في نظر المؤمن الحق تطبيق حد من حدود الله - عز وجل -. إن من أصول العقيدة الإسلامية تطبيق حدود الله في أرض الله، والحكم بشرع الله في عباد الله؛ الخلق خلقه، والأرض أرضه، والملك ملكه، والحكم حكمه، والشرع شرعه، فعباد الله في أرض الله يجب أن يُحكَموا بشرع الله مهما شغب المشاغبون أو لبس الملبسون. إن الله - عز وجل - هو الذي خلقنا وهو الذي يعلم ما يصلحنا ويصلح لنا: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14)، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ} (البقرة:140)، {وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة:216). • مشروعية الأضحية وبعض أحكامها: عبادَ الله، الأضحيةُ مشروعةٌ بأدلّة الشريعة المتنوّعة، فضلُها عظيم وأجرُها كبير. تتأكّد مشروعيتُها لمن كان غنيًّا وعلى ثمنِها مقتدِرًا، روى ابن ماجه بسند حسَن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا». (فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا) لَيْسَ الْمُرَاد أَنَّ صِحَّة الصَّلَاة تَتَوَقَّف عَلَى الْأُضْحِيَّة بَلْ هُوَ عُقُوبَة لَهُ بِالطَّرْدِ عَنْ مَجَالِس الْأَخْيَار، وَهَذَا قَدْ يُفِيد الْوُجُوب ـ وقال به بعض العلماء ـ. والشاةُ تجزئ عن الرجُل وأهلِ بيته من الأمواتِ والأحياء. ومَن كان عنده وصايا وجب عليه تنفيذُها سواءً بسواءً حَسبَ المنصوص. ولا يجزئ للأضحية إلاّ ما كان سليمًا من العيوب، فلا تجزئ العوراءُ البيّنُ عوَرها، وهي ما نتأت عينُها أو انخسفت، ولا تجزئ العرجاءُ البيّن ضلعُها، وهي التي لا تستطيع المشيَ مع السَّليمة، ولا تجزئ المريضةُ البيِّنُ مرضُها بحيث يظهرُ أثرٌ في أحوالها أو فساد لحمها، والعجفاء التي لا تُنقي، وهي الهزيلة التي لا مُخَّ فيها، ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (صحيح رواه الترمذي وأبو داود).

وقال أهل العلم: ويلحق بهذه العيوب ما كان مثلَها أو أشدّ. ولا بدّ أن يكتمل السنُّ المعتبَر في الأضاحي؛ ففي الإبل ما تمّ له خمسُ سنين، وفي البقر ما تمّ له سنتان، وفي المعز سنةٌ، وفي الضأن نصفُها. ووقتُ الأضحية المعتبرَ من بعد صلاةِ العيد، والأفضلُ بعد انتهاء الخطبة، فقد ثبت عن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - «أنّه صَلّى ثُمَّ خَطَبَ ثُمَّ نَحَرَ» (رواه البخاري ومسلم). ويستمرّ الذبحُ إلى آخر أيّام التشريق، يوم العيد وثلاثة بعده؛ فكُلوا وتصدّقوا واهدوا. والسنّة ـ أيها المسلمون ـ أن يذبحَ المسلم الأضحيةَ إن كان محسِنًا للذبح، وإلاّ فليشهَدْ ذبحَها. واعلموا ـ عباد الله ـ أن التكبير المقيد بعد الصلوات ـ لغير الحاج يبدأ من فجر يوم عرفة إلى آخر عصر أيام التشريق، وأما الحاج فيبدأ من ظهر يوم النحر، وأما التكبير المطلق فيكون في عشر ذي الحجة. • من حِكَم وآداب العيد: إخوةَ الإيمان، إن الأعياد من جملة الشرائع والمناهج يقول الله - عز وجل -: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)، ويقول - عز وجل -: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67) أي: عيدًا يختصون به. روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عباس قال: (منسكًا أي: عيدًا) فيكون معنى الآية أن الله جعل لكل أمة عيدًا شرعيًا أو عيدًا قدريًا. وعيد الأضحى وعيد الفطر يكونان بعد ركن من أركان الإسلام، فعيد الأضحى يكون بعد عبادة الحج، وعيد الفطر يكون بعد عبادة الصوم. عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَقَالَ: «مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟»، قَالُوا: «كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ»،

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ» (صحيح رواه أبو داود). فالعيد شعيرة من شعائر الإسلام ومظهر من أجَلّ مظاهره، تهاون به بعض الناس وقدموا الأعياد المحدثة عليه. فترى من يستعد لأعياد الميلاد، وعيد الأم، وشم النسيم، والغطاس وغيرها، ويسعد هو وأطفاله بقدومها ويصرف الأموال لإحيائها. أما أعياد الإسلام فلا قيمة لها بل ربما تمر وهو مُعرِضٌ عنها غير ملتفت إليها. قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج:32)، فلا يجوز لمسلم أن يحتفل بأعياد الكفار أو بالأعياد المبتدعة. في الأعياد تُظهر الأمُم زينتَها، وتعلن سرورَها، وتسرِّي عن نفسها ما يصيبها من مشاقّ الحياة، ومِن هنا شُرع للمسلمين عيدُ الفطر والأضحى، ينعَم فيهما المسلمون، ويبتهجون لهوًا طيِّبًا مباحًا، وتعبُّدًا صالحًا حميدًا، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلهِ» (رواه مسلم). ومن أعياد المسلمين يوم الجمعة فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمُ عِيدٍ فَلَا تَجْعَلُوا يَوْمَ عِيدِكُمْ يَوْمَ صِيَامِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُومُوا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ» (إسناده حسن رواه الإمام أحمد). ومن حِكَم العيد ومنافعه العظيمة شهود جمع المسلمين لصلاة العيد، ومشاركتهم في بركة الدعاء والخير المتنزل على جمعهم المبارك، والانضواء تحت ظلال الرحمة التي تغشى المصلين، والبروز لرب العالمين، إظهارًا لفقر العباد لربهم، وحاجتهم لمولاهم عز وجل، وتعرضًا لنفحات الله وهباته التي لا تُحد ولا تُعد، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ نُخْرِجَهُنَّ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى: الْعَوَاتِقَ، وَالْحُيَّضَ، وَذَوَاتِ الْخُدُورِ، فَأَمَّا الْحُيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلَاةَ وَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ» (رواه البخاري ومسلم). فتشهد النساء العيد غير متبرجات وغير متعطرات. •

سَابِقُوا: وعيد الأضحى جعله الله يوم العاشر من ذي الحجة بعد الوقوف بعرفة ركنِ الحج الأعظم، وشرع في هذا العيد أعمالًا جليلة صالحة يتقرب بها المسلمون إلى الله تعالى، وسماه الله يوم الحج الأكبر؛ لأن أكثر أعمال الحج تكون في يوم هذا العيد، والله عز وجل برحمته وحكمته وعلمه وقدرته شرع الأعمال الصالحة والقربات الجليلة، ودعا الناس كلهم إلى فعلها قربةً إلى الله وزلفى عنده كما قال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الحديد:21)، وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (المائدة:48). فإذا لم يُمكن أن يعمل المسلم بعض الطاعات لأجل اختصاصها بمكان أو بزمان شرع الله له طاعات من جنس ونوع تلك الطاعات المختصة بالمكان أو الزمان، فيوم عرفة عيد لحجاج بيت الله الحرام، واجتماع لهم وتضرع لله عز وجل، فمن لم يحج شرع الله له صلاة عيد الأضحى في جمع المسلمين، وشرع له صيام عرفة الذي يكفر السنة الماضية والآتية، وقربانُ الحاج وذبائحهم شرع الله مقابل ذلك أضحية المقيم، فأبواب الخيرات كثيرة ميسرة، وطرق البر ممهَّدة واسعة، ليستكثر المسلم من أنواع الطاعات لحياته الأبدية بقدر ما يوفقه الله تعالى. • التواصل بين المسلمين من حكم العيد ومنافعه العظمى: أيها المسلمون، وإن من حكم العيد ومنافعه العظمى، التواصل بين المسلمين، والتزاور، وتقارب القلوب، وارتفاع الوحشة، وانطفاء نار الأحقاد والضغائن والحسد. فاقتدار الإسلام على جمع المسلمين في مكان واحد لأداء صلاة العيد آية على اقتداره على أن يجمعهم على الحق، ويؤلف بين قلوبهم على التقوى، فلا شيء يؤلف بين المسلمين سوى الحق؛ لأنه واحد، ولا يفرق بين القلوب إلا الأهواء والبدع لكثرتها، فالتراحم والتعاون والتعاطف صفة المؤمنين فيما بينهم، عَنْ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ

- رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» (رواه مسلم). وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قال: جَاءَ شَيْخٌ يُرِيدُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَأَبْطَأَ الْقَوْمُ عَنْهُ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا» (صحيح رواه الترمذي). والمحبة بين المسلمين والتواد غاية عظمى من غايات الإسلام، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَال َ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ: أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» (رواه مسلم). فجاهد نفسك ـ أيها المسلم ـ لتكون سليمَ الصدر للمسلمين، فسلامة الصدر نعيم الدنيا، وراحة البدن ورضوان الله في الأخرى، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنه - قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -:أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ» (صحيح رواه ابن ماجه). • يوم العيد يوم فرح وسرور ولكن: إن يوم العيد يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته، وخلصت لله نيته. واعلموا أيها المسلمون، أنه ليس السعيد من تزين وتجمل للعيد، فلَبِسَ الجديد، ولا من خدَمَتْهُ الدنيا وأتتْه على ما يريد، إنما العيد لمن خاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد (¬1). وسكب الدمع تائبًا رجاء يوم المزيد. والسعيد من فاز بتقوى الله تعالى، ¬

_ (¬1) بل من السنة لبس الجديد يوم العيد فعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَلْبَسُ يومَ العِيدِ بُرْدَةً حَمْرَاءَ». (رواه الطبراني وإسناده جيد)، وإنما المقصود أن العيد الحقيقي يوم القيامة لمن التزم بشرع الله - عز وجل -.

وكتب له النجاة من نار حرها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والضريع، وشرابهم الحميم والصديد، وفاز بجنة الخلد التي لا ينقص نعيمها ولا يبيد. فالحذَر الحذَر أن تكون الأعيادُ موسمًا يُعَبُّ فيه من اللهو عَبًّا، بلا تحرُّز من حرام أو تباعُد عن باطل، فذلك ينافي تعاليمَ الإسلام، ويضادُّ مقاصدَه من الأعياد وغيرها. • عيد الأضحى يربطنا بتاريخنا المجيد: أيها المسلمون، عيد الأضحى ترتبط فيه أمة الإسلام بتاريخها المجيد في ماضيها المشرق السحيق، الأمة المسلمة عميقة جذور الحق في تاريخ الكون، متصلةُ الأسباب والوشائج عبر الزمان القديم، منذ وطئت قدم أبينا آدم - عليه السلام - الأرض، وتنزل كلام الله على الأنبياء - عليهم السلام - عبر العصور الخالية، قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء:92)، وختم الله الرسل - عليهم السلام - بسيد البشر محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أمره الله بإتباع ملة إبراهيم - عليه السلام -، بقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (النحل:123). فكانت شريعة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ناسخة لجميع الشرائع، فلا يقبل الله إلا الإسلام دينًا، ولا يقبل غيره، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّار» (رواه مسلم). ِ فأنتم ـ معشر المسلمين ـ على الإرث الحق لخليلين نبيين عظيمين عليهما الصلاة والسلام، لما شرع الله لكم في هذا اليوم من الحق والدين القيم، ملة الخليل إبراهيم - عليه السلام -، ودين الخليل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

الجزء الثاني [51 - 100]

دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ موضوعات للخطب بأدلتها من القرآن الكريم والسنة الصحيحة مع ما تيسر من الآثار والقصص والأشعار جمع وترتيب شحاتة محمد صقر المجلد الثاني الخطب من 51 - 100 مع 1000 حديث لا يثبت دار الخلفاء الراشدين - دار الفتح الإسلامي (الإسكندرية)

مقدمة

مقدمة إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)} (آل عمران:102). {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} (النساء:1). {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)}. (الأحزاب:70). أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِى النَّارِ. فبين يديك - أخي الداعية - المجلدُ الثاني من كتاب (دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ) الذي هو محاولة لإعداد موضوعات متكاملة يستفيد منها الخطيب وغيره في إعداد خطبة الجمعة وغيرها من المواعظ.

وقد جمعتُها من كتب أهل العلم، ومن مواقع الخطب على الشبكة العنكبوتية مع تعديلها بالحذف أو الإضافة بما يناسب منهج الكتاب. وتشتمل هذه الموضوعات على أدلة من الكتاب والسنة الصحيحة مع ما تيسر من الآثار والقصص والأشعار، مع الحرص على تجنب الأحاديث الضعيفة والموضوعة؛ حيث إن في الصحيح ما يُغني عن الضعيف. أما طريقة عرض الخطبة فمتروكة للخطيب بما يناسب قدراته ومنهجه في العرض وبما يناسب جمهور مستمعيه. وهذا المجلد تجد به ما يزيد على ألف وثلاثمائة وخمسين (1350) من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا أصل لها رغم شهرتها بين كثير من عامة الناس واعتقادهم نسبتها إلى المعصوم الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم -، ورغم أن كثير من الوعاظ قد يتناولها في خطبه وهو لا يعلم حالها، وقد رتبتُها أبجديًّا ليسهل الوصول إليها ليتجنبها الداعية، وفي المجلد الثالث - إن شاء الله - تجد بقيتها. وقد حاولت - قدر الإمكان - أن أذكر في الهامش البديل الصحيح لبعض هذه الأحاديث التي لم تصح نسبتها إلى المعصوم الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم -. واللهَ أسألُ أن ينفع المسلمين بهذه الورقات وأن يرزقنا الإخلاص في السر والعلن، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه ـ سيدنا محمد ـ وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. شحاتة محمد صقر [email protected] ت: 01110967466

أحاديث ضعيفة وموضوعة ولا أصل لها

أحاديث ضعيفة وموضوعة ولا أصل لها خطورة انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس (¬1): إن حب الناس للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - دفَعَهم لقبول ما يُرْوَى عنه دون تثبت، لاسيما إذا خاطب ما يروي عليهم عواطفهم ومشاعرهم، ورتب على قليل الفعل جزيل الأجر. وهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة قد تركَتْ آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع كالتفرقة بين المسلمين، وإلغاء قواعد في أصول الفقه، وإيقاع المسلمين في الشرك، ورَدّ الحديث الصحيح، وغيرها من الآثار السيئة. إن تفريطًا عظيمًا حصل من المسلمين بسُنّة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن هذا التفريط: التساهل في رواية الأحاديث التي تنسب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقد يكون - صلى الله عليه وآله وسلم - منها براء، ولا يمكن أن يقول - صلى الله عليه وآله وسلم - مثل بعض الكلام الذي ينسبه بعض الجهلة إليه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد يكون في أذهان البعض أن هذا الموضوع من البديهيات، ولكن المتأمل في أضرار هذه المسألة - وهي انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس - لَيُدْرِكُ بجلاء أن المسألة خطيرة. كان الإمام عبد الرحمن بن مهدي - رحمه الله - يقول: «لَأَنْ أعرف عِلَّة حديثٍ هو عندي أحَبُّ إليَّ مِن أن أكتب حديثًا ليس عندي»، ما الفائدة من الجمع فقط؟ لابد أن ¬

(¬1) باختصار وتصرف يسيرين من محاضرة (الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة) للشيخ محمد صالح المنجد ـ حفظه الله.

أسباب انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس

أعرف هل الذي جمعت يحتج به أم لا؟ هل هو صحيح فيعمل به، أم هو ضعيف فيحذر الناس منه. وقال سفيان الثوري - رحمه الله -: «الملائكة حراس السماء وأصحاب الحديث حراس الأرض»، وقال يزيد بن زريع: «لكل دينٍ فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد». ولذلك ذكر الحافظ الذهبي في الميزان أن هارون الرشيد - رحمه الله - أتى بزنديق ليقتله، فقال الزنديق: «أين أنت من ألف حديثٍ وضَعْتُها على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟»، يعني: ماذا تستفيد من قتلي وقد وضعت ألف حديث وقد سَرَتْ بين الناس؟ فقال له هارون - رحمه الله -: «وأين أنت من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها حرفًا حرفًا، يُبَيِّنَانِها للناس». ولذلك كان للعلماء جهودٌ جبارة في كشف الكذب، وتعيين الأحاديث المكذوبة، وتبيين الضعيف للناس والمكذوب حتى يحذروا منه، ولذلك ألفوا مصنفاتٍ خاصة في تبيان الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وفي تبيان الأحاديث المشتهرة على الألسنة، وقعدوا القواعد في روايات أهل البدع، وشددوا في قبول الحديث، ودعوا الناس إلى تلقي الصحيح، والحث على التثبت في الرواية، وألفوا الكتب في أسماء الضعفاء والوضَّاعين، وبينوا الأحاديث المسروقة والمركبة وأحاديث القصاصين، وكانت لهم مواقف من الكذابين: بفَضْحهم، وتَرْك السلام عليهم، ووعظهم، والتشهير بهم، وتمزيق كتبهم بين أعينهم، والاستعداء عليهم من أهل الخير، ووصفهم بألقابٍ تناسبهم. أسباب انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الناس: السبب الأول: قلة علماء الحديث في هذا العصر. والسبب الثاني: انتشار وسائل النشر والتوزيع التي تطبع الكتب وتغرق الأسواق بآلافٍ من الكتب التي فيها الشيء الكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة،

من الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة

وقلما تجد واعظًا أو محاورًا أو خطيبًا إلا ويسوق في ثنايا كلامه أحاديث موضوعة أو ضعيفة إلا من رحم الله من طلبة العلم الذين يتحرون فيما ينسبونه إلى رسولهم - صلى الله عليه وآله وسلم -. وبعض الناس تعجبهم الأحاديث الضعيفة والموضوعة لأسباب منها مثلًا: أنها تلمس عواطفهم، مثال: «من زار قبر والديه كل جمعة فقرأ عندهما يس غفر له بعدد كل آية أو حرف»، الناس يحبون آباءهم ويحبون أمهاتهم، ويُريد الواحدُ منهم أن يفعل شيئًا لأمه وأبيه، فيذهب عندما يسمع هذا الحديث ويطبق ليس إلا من باب العاطفة. وبعض الأحاديث الموضوعة تستدر الشفقة، إذا سمعت هذا الحديث: «إذا بكى اليتيم وقعت دموعه في كف الرحمن يقول: مَن أبكى هذا اليتيم الذي وارَيْتُ والديه تحت الثرى، مَن أسكتَه فله الجنة»، هذا الحديث المكذوب الموضوع في رحمة اليتيم قد يؤثر في عواطف الناس، فيندفعون بعواطفهم لتقَبُّل هذه الأحاديث، وتلَقّفِها والعمل بها، لأنه شيء عاطفي، شيء يؤثر في النفس، ولكن ما دَرَى أولئك المساكين أن هذا كلامٌ مكذوب على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأن في سنة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أحاديث مؤثرة تجيش عواطف النفس وتؤثر في القلب، فلماذا لا يعملون بها. وبعض الوعاظ يظنون أن السبيل إلى تحميس الناس لأمرٍ معين هو أن يذكر لهم حديثًا موضوعًا في فضل هذا الأمر، فيأتي واعظ يرى الناس قد قصروا في زكاة الفطر مثلًا فيذكر لهم هذا الحديث: «شهر رمضان معلقٌ بين السماء والأرض لا يُرْفَعُ إلى الله إلا بزكاة الفطر» لماذا؟! قال: لأن الناس لا يخرجون زكاة الفطر، نريد أن نحمِّس الناس على إخراج زكاة الفطر. من الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة: 1 - عدم تقبل الناس للأحاديث الصحيحة بعد سماعهم للأحاديث الضعيفة: من الآثار السيئة لهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة: أن في كثيرٍ منها أجورًا خيالية! من فعل كذا فله ألف حسنة وألف قصر في الجنة، وفي كل قصر ألف خيمة،

2 - إيقاع المسلم في الشرك الصريح

وفي كل خيمة ألف حورية، وعلى كل حورية ألف حلة من ذهب!! وفي المقابل أحاديث العذاب: من فعل كذا وكذا وكذا وضع في تنورٍ من نار فيه ألف فرن، في كل فرن ألف أفعى، في كل أفعى ألف لسان، في كل لسان ألف نوعٍ من أنواع السم يقرصه صباحًا ويلدغه مساءً وهكذا! مع استمرار الكلام في هذه الأشياء وطَرْق مثل هذه الأحاديث الخيالية يتعود الناس على المبالغة مما يعكس أثرًا سيئًا وهو أنهم لا يتقبلون أحاديث صحيحة كحديث - على سبيل المثال -: «ويلٌ لمن فعل كذا» لأن كلمة ويل صارت بالنسبة للأحاديث التي فيها ألف ألف كذا وكذا شيئًا قليلًا، فصاروا لا يتأثرون، فلابد أن تأتي بحديث فيه ألف ألف كذا، وعشرة آلاف كذا، ومائة ألف كذا حتى يتأثر، وهذه من إحدى السلبيات لانتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة. 2 - إيقاع المسلم في الشرك الصريح: من الآثار السيئة لهذه الأحاديث: إيقاع المسلم في الشرك الصريح، والكفر المخرج عن الملة، والردة عن الدين، والعياذ بالله مثل حديث: «إن اعتقد أحدكم بحجرٍ لَنفَعه» لو اعتقدت أن هذا حجر يضر وينفع لنفعك، لا يوجد حجر ينفع! إن في هذا إرجاعًا للمسلمين إلى الجاهلية الأولى، إلى عبادة الأحجار، والأوثان. وفيه صرف للناس عن التوسل المشروع إلى التوسل غير المشروع. فبدلًا من أن يقول الشخص مثلًا: يا الله! إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! ويسأل الله، يأتيه هذا الحديث، مثلًا: «توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم» ونأتي نقول: نسألك بحق الأنبياء، نسألك بجاه محمد، نسألك بكذا وكذا، وقد بين لنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - توسلاتٍ مشروعة، ولكن هذه الأحاديث لا تدع الناس يكملون التوسل المشروع بل تصرفهم إلى الشيء غير المشروع.

بل إنها قد تُوقِعُ الناس في الكفر، فمن جهة ترك الصلاة - مثلًا - حديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، أو لم يزْدَدْ من الله إلا بعدًا» بعض الناس يقع في الفواحش؛ قد يشرب الخمر، قد يزني قد يسرق، قد يرتشي، فعندما يسمع هذا الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له» يقول في نفسه أنا لم أستطع أن أتخلص من الزنا إذًا: ليس لي صلاة، فلماذا أصلي؟! أعْرِفُ (¬1) رجلًا قال لي بلسانه ـ وكان رجلًا ضالًا ثم مَنَّ الله عليه فاهتدى ـ: «كنت وأنا ضال في البداية أصلي، مع أني أسافر وأفجر وأفسق لكني كنت أصلي، ثم سمعتُ هذا الحديث: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له»، فقال: قلت في نفسي: إذًا لماذا أصلي إذا كان ليس لي صلاة وأنا مصمم على المعصية مُصِرٌّ عليها، إذًا: ليس لي حاجة لِأَنْ أصلي، وكلما أردت أن أصلي بَرَزَ أمام عيني هذا الحديث فتركْتُ الصلاة!». لماذا ترك الصلاة؟ لهذا الحديث الموضوع المكذوب المنكر (¬2). ¬

(¬1) القائل هو الشيخ محمد المنجد. (¬2) وأما متن الحديث فإنه لا يصح، لأن ظاهره يشمل من صلى صلاة بشروطها وأركانها بحيث أن الشرع يحكم عليها بالصحة وإن كان هذا المصلي لا يزال يرتكب بعض المعاصي، فكيف يكون بسببها لا يزداد بهذه الصلاة إلا بعدا؟! هذا مما لا يعقل ولا تشهد له الشريعة، فالمراد في الحديث الصلاة الصحيحة التي لم تثمر ثمرتها التي ذكرها الله تعالى في قوله: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45). وأكدها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «إِنَّ فُلَانًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَصْبَحَ سَرَقَ»، قَالَ: «إِنَّهُ سَيَنْهَاهُ مَا تَقُولُ». (رواه الإمام أحمد في المسند، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح»، وصححه الألباني). فأنت ترى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبر أن هذا الرجل سينتهي عن السرقة بسبب صلاته - إذا كانت على الوجه الأكمل طبعًا كالخشوع فيها والتدبر في قراءتها - ولم يقل: إنه «لا يزداد بها إلا بُعْدًا» مع أنه لمّا ينته عن السرقة. فالمصلي على الحقيقة المحافظ على صلاته الملازم لها تنهاه صلاته عن ارتكاب المحارم والوقوع في المحارم. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الصلاة مكفرة للذنوب، فكيف تكون مكفرة ويزداد بها بعدا؟! هذا مما لا يعقل! ومعنى قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (العنكبوت: 45) أَنَّهَا تَنْهَى عَنْ أَضْدَادِهَا إِذْ كَانَ أَهْلُهَا يَأْتُونَهَا عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي أُمِرُوا أَنْ يَأْتُوا بِهَا عَلَيْهَا , مِنَ الطَّهَارَةِ لَهَا , وَمِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ عِنْدَهَا , وَمِنَ الْخُشُوعِ لَهَا , وَتَوْفِيَتِهَا مَا يَجِبُ أَنْ تُوَفَّاهُ , وَاللهُ - عز وجل - قَدْ وَعَدَ أَهْلَهَا بِمَا فِي الْآيَةِ , فَكَانَتِ السَّرِقَةُ ضِدًّا لَهَا , وَهِيَ تَنْهَى عَنْ أَضْدَادِهَا , وَيَرُدُّ اللهُ - عز وجل - أَهْلَهَا إِلَيْهَا , وَيَنْفِي عَنْهُمْ أَضْدَادَهَا حَتَّى يُوَفِّيَهُمْ ثَوَابَهَا , وَحَتَّى يُنْزِلَهُمُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي يُنْزِلُهَا أَهْلَهَا. وَفِي ذَلِكَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عز وجل - بِمَنِّهِ وَلُطْفِهِ وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ يُبَرِّئُ ذَلِكَ السَّارِقَ مِمَّا كَانَ سَرَقَ , وَيَرُدُّهُ إِلَى أَهْلِهِ حَتَّى يَلْقَاهُ يَوْمَ يَلْقَاهُ , لَا تَبِعَةَ قَبْلَهُ تَمْنَعُهُ مِنْ دُخُولِ جَنَّتِهِ بِمَنِّهِ وَقُدْرَتِهِ. فحديث «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له، أو لم يزدد من الله إلا بعدًا» ليس بثابت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لكن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر كما ذكر الله في كتابه، وبكل حال فالصلاة لا تزيد صاحبها بعدًا، بل الذي يصلي خير من الذي لا يصلي وأقرب إلى الله منه وإن كان فاسقًا. [انظر: شرح مشكل الآثار للطحاوي (5/ 300 - 301)، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة للألباني (1/ 57 - 59)].

مثلًا: إيقاع الناس في قضايا تنافي التوحيد مثل: التشاؤم بالأزمان والتطير بها: «لا تسافر والقمر في العقرب» إذا صار القمر في برج العقرب فلا تسافروا فهذا السفر سيء، ولا تسافروا لأن نتائجه سيئة. أو حديث: «من بشرني بخروج صَفَر بشّرْتُه بالجنة»؛ لأنهم يتشاءمون بشهر صَفَر، فهي أحاديث مكذوبة توقع الناس في قضايا تنافي التوحيد. وقد تؤدي هذه الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة أيضًا إلى إنكار أشياء من العقيدة مثل حديث: «لا مهدي إلا عيسى» فماذا تكون النتيجة؟ إنكار أمر من أمور العقيدة وهو: المهدي الذي أخبر به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من أنه سيخرج في آخر الزمان عندما تمتلئ الأرض جورًا وظلمًا.

3 - التشنيع على أهل الحديث

الغلو في الأنبياء ورَفْعُهم فوق المقام الذي أنزلهم الله - عز وجل - مثل حديث في تعظيم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ورفعه فوق منزلته التي أنزله الله فيها كحديث: «لولاك ما خلقت الأفلاك» لولاك يا محمد! ما خلقت الأفلاك، حديث مكذوب، وهو يعني أن الله لم يوجِد السماوات والأرض ويخلق الناس لعبادته، لولا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ما خلقهم، وهذا ينافي القرآن وظاهر القرآن. حديث إحياء أبويه - صلى الله عليه وآله وسلم -، بعض الناس من محبتهم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما يعرف حقيقة تاريخية من أن أبوي الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ماتا على الكفر لا يعجبه، يقول: كيف؟ أبو الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمه على الكفر؟! غير معقول! مستحيل! لا يمكن! إذًا ما هو الحل؟ هذا الحديث: إحياء أبَوَيَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعرْض الإسلام عليهما فماتا بعد ذلك على الإسلام، هذا غير صحيح هذا، لماذا؟ نوح؛ على ماذا كان ولده؟ وإبراهيم؛ على ماذا كان أبوه؟ هل نفعه شيئًا؟ إن هذا الدين لا يحابي أحدًا، لا ينفع إلا الإيمان والعمل الصالح. 3 - التشنيع على أهل الحديث: من الآثار السيئة لهذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة: التشنيع على أهل الحديث، فاختلق بعض الزنادقة أحاديث ليشوهوا سمعة أهل الحديث، مثل حديث: «إن الله لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل فأجراها فعرقت فخلق نفسه من هذا العَرَق» تعالى الله عما يقولون عنه علوًا كبيرًا، هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، وهو الظاهر فليس فوقه شيء، ومثل الأحاديث التي يروونها من أن الله ينزل يوم عرفة إلى الموكب فيصافح الناس المشاة والركبان. سبحان الله العظيم! لماذا وضعوها؟! وبعضهم يعرف أن العامة لن تتقبل هذا الكلام لكن ليقولوا: انظر إلى أهل الحديث ماذا يروون!! نسبة ما لا يليق إلى الأنبياء والتشنيع عليهم منتشرة ومبثوثة الآن في كتب السير، أو بعض التفاسير: أن داود - عليه السلام - أعجب بزوجة أحد جنوده فأراد أن

4 - تعليم الناس ما لم يثبت

يتزوجها، فلكي يتخلص منه أرسل به في ميدان من ميادين القتال ليموت ويتزوج المرأة، هل يمكن أن نبيًا من الأنبياء يعمل هذا العمل؟ ماذا يعتقد الناس عن داود عندما يسمعون بهذا الحديث. 4 - تعليم الناس ما لم يثبت: مثلًا في حفظ القرآن الكريم: أكثر الناس يتفلت منهم القرآن ويحتاجون إلى مراجعته دائمًا، ومع ذلك فهو يتفلت، فيريد الناس وسيلة سهلة لحبهم السهل، يقول: المراجعة شيء صعب، كل يوم مراجعة! ما هو الحل؟ يأتيك الجواب، يوجد حديث يجعلك لا تنسى القرآن، ما هو هذا الحديث؟ يقول: يا أخي! يقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذا جاءت ليلة الجمعة فصل أربع ركعات واقرأ في الأولى الفاتحة ويس، وفي الثانية الفاتحة والدخان، وفي الثالثة الفاتحة والسجدة، وفي الرابعة الفاتحة وتبارك، فإذا فرغت من التشهد فاحمد الله وقل كذا وكذا لا تنسى ما حفظته». الناس يريدون هذه الأشياء، يريدون شيئًا سهلًا يوفر عليهم تعب المراجعة، فيقوم المسكين فيعمل بهذا الحديث، وقد لا يحدث له ما في الحديث فتكون النتيجة عدم الثقة في كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، والعياذ بالله. ومن ذلك حديث مسح العينين بباطن الأنملة من السبابتين عند قول المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، تجد بعض الناس يفعل هذا، فهل ثبت هذا الكلام عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ إذًا كيف نعمله؟! كيف نستبيح لأنفسنا أن نعمل أشياء في العبادات لم تثبت عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. بعض الناس يوزعون أيام الأسبوع لمهمات معينة بناءً على أحاديث ضعيفة أيضًا، يأتي مثلًا فيقول: يوم السبت يوم مكرٍ ومكيدة، ويوم الأحد يوم بناءٍ وعرس، ويوم الاثنين يوم سفرٍ وتجارة، ويوم الثلاثاء يوم دم، ويوم الأربعاء يوم نحسٍ مستمر، ويوم الخميس يوم دخول على السلطان وقضاء الحوائج، ويوم الجمعة يوم خطبة ونكاح.

انتهت القضية! أي توزيع وأي شيء هذا؟! تجارة ليوم كذا، ونكاح ليوم كذا، توزعت الأعمال وأصبحت جدولًا! لماذا؟ من أين أتى هذا الكلام؟ إنه من حديث موضوع عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. الأحاديث في فضل الأزمان والأماكن، ومن فعل كذا في رجب حصل له كذا وكذا، وصيام يوم سبعة وعشرين من رجب، وقيام ليلة خمس عشرة من شعبان، من أين جاء هذا؟! لا يوجد شيء صحيح، ولا يوجد مستند شرعي لهذا الكلام. حتى شم الورود ما سلم من الأحاديث الموضوعة المكذوبة: «من شم الورد الأحمر ولم يُصَلّ علَيَّ فقد جفاني»، «من أراد أن يشم رائحتي فليشم الورد الأحمر». اختراع أصول في الجزاء والحساب ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يمكن أن الله يحاسب الناس بناءً عليها: «إن الله تعالى لا يعذب حسان الوجوه» أي أنه: إذا وجد شخص خلقته جميلة فهذا نجاة له من العذاب! «عليكم بالوجوه الملاح فإن الله يستحي أن يعذب وجهًا مليحًا بالنار»؛ فهل هذا المقياس من الممكن أن الشريعة تأتي به؟ شخص ينجو من النار لأن وجهه جميل ولو كان أكفر الناس وأبعدهم عن الشريعة وعن العبادة؟! ومن المعايير الأخرى أيضًا في الحساب: «آلَيْتُ على نفسي ألا يدخل أحدٌ اسمه محمد أو أحمد النار» فقط لأن اسمه محمد أو أحمد!! لا يدخل النار! أممكن هذا الكلام؟! ليست القضية قضية أسماء، لأن من المنافقين من الذين ينتسبون للإسلام ويتكلمون بألسنتنا من اسمه عبد الله وعبد الرحمن ومحمد وأحمد، ولكنهم يمكن أن يكونوا أشد خطرًا على الإسلام من جورج وجوزيف ... إلى آخره، نعم يوجد هذا.

5 - تأصيل أصول مخالفة للشريعة

في الإمامة أحكام فقهية: «يؤم القوم أفقههم بكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأحسنهم وجهًا» (¬1) يعني: إذا تساووا نقدم أحسنهم وجهًا، وماذا بعد إلا أن نحول المسجد إلى مسابقة جمال ووجوه، ثم انتخاب ثم ننتخب، واللجنة، والأصوات حتى نخرج أجملهم ثم يصلي بالناس، قبح الله ذلك فعلًا، وهذا موجود وإن لم تكونوا قد سمعتم به فهناك أناسٌ يعملون به، ويتفقهون على هذه الأشياء المبثوثة في المذاهب من الأحاديث الباطلة. إدخال أمورٍ في الإيمان ليست منه: «حب الوطن من الإيمان» ليس حب الوطن من الإيمان، قد يكون الوطن كافرًا، قد يكون الإنسان في بلد كافر، فهل إذا أحب وطنه الذي نشأ فيه ولو كان بلدًا كافرًا صار هذا من الإيمان؟! هذا غير صحيح. 5 - تأصيل أصول مخالفة للشريعة: أحيانًا تأتي الأحاديث الضعيفة والموضوعة بتأصيل أصولٍ مخالفة للشريعة مثل حديث: «اختلاف أمتي رحمة» هذا الحديث من آثاره السيئة: أنه يقضي على كل محاولة للوصول إلى الحق، لأنه مثلًا إذا وقع خلافٌ علمي بين واحد وآخر هذا يرى شيئًا وذلك يرى شيئًا آخر، فإن المفروض في هذه الحالة المباحثة والمناقشة العلمية المؤدبة على طريقة السلف حتى نصل إلى الحق، لكن عندما يأتي حديث: (اختلاف أمتي رحمة) إذًا: ليطمئن كل إنسان فكل الناس بخير، كل الآراء الفقهية الحمد لله صحيحة، أنت على صواب وهو على صواب رحمة من الأصل!. ¬

(¬1) هناك أحاديث صحيحة تبين الأحق بالإمامة مثل حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً، فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً، فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا» (رواه مسلم). وليس فيه ولا في غيره ذكر للأحسن وجها.

قد تكون بعض الآراء ضعيفة متهافتة باطلة لا يمكن أن تكون صحيحة، وكيف يكون الاختلاف رحمة والله - عز وجل - ذم الاختلاف في القرآن الكريم، قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} (النساء: 82). كذلك من هذه الأصول الباطلة: وضع أصولٍ في قبول الروايات غير الأصول الشرعية المعتمدة كحديث: «أصدق الحديث ما عطس عنده»، إذًا: لو جاء حديث عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولما ذكر هذا الحديث عطس رجل من الحاضرين فهذا دليل على صحة الحديث. . عجيب! سبحان الله! كيف يكون دليلًا على صحة الحديث، ولو عطس مائة رجل عند حديث مكذوب لا يمكن أن نجزم بنسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وكذلك أحاديث تُطْبَع وتنشر وتوزع بين الناس، وتنتشر انتشار النار في الهشيم، الآن كالحديث الذي فيه أن تارك الصلاة يعاقب بكذا عقوبة، خمسة في الدنيا، وخمسة في القبر، وخمسة في الآخرة؟ فقد انتشرت بين الناس مع أن هناك أحاديث صحيحة في الحث على الصلاة، والتحذير من تركها، فلماذا نلجأ إلى هذا وننشره بين الناس؟ وكذلك هذه أوراق دعاء الخضر وإلياس، وأن زينب - رضي الله عنها - قالت هذا الكلام، وأن امرأةً عَمِيَتْ فقرأت هذا الكلام فرأت زينب في الليل، فقالت لها زينب: اقرئي هذا الذكر أو هذا الدعاء فستشفي، فاستيقظت فقرأت فشفيت، وأن الدعاء الفلاني ويلٌ لمن لم يقرأه ولم يوزعه، وأن فلانًا قرأه فغني من ثاني يوم، وفلان سافر فربح، وفلان لم يعمل به فخسر التجارة وقتل بعد كذا يوم. والمشكلة أن بعض الضعفاء لما يأتي مكتوب فيه مثلًا: وزع ثلاث عشرة نسخة، وإن من لم يوزع هذه النسخ فإنه يحصل له كذا وكذا من المصائب، والناس تصدق فتصور وتوزع، وامرأة من المسكينات لم تجد آلة تصوير فنسختها بيدها ثلاث عشرة مرة نسخًا باليد ثم وزعتها! لماذا؟ خوفًا من أن يحصل لها شيء؛ لأن فيه تخويفًا وترعيبًا (وإذا

6 - إفساد الأخلاق

ما فعلت سيحدث لك كذا وكذا) وطبعًا الذي ليس عنده ثقة بالله - عز وجل - ولا معرفة حقيقية بطبيعة هذا الدين سيكتب ويوزع. 6 - إفساد الأخلاق: التشجيع على أمورٍ من المفاسد، حتى في الأخلاق الأحاديث الضعيفة والموضوعة لها آثار سيئة: «من عشق وكتم فمات مات شهيدًا» يشجع الناس على العشق، والعشق باختصار هو: أن تحب إنسانًا مع الله أو أكثر من الله - عز وجل -، بحيث يسيطر ذكر المعشوق على العاشق فيلهيه عن الصلاة وعن ذكر الله - عز وجل -، وعن كل شيء حتى عن الأكل والشرب، ولكن الحديث المكذوب يقول: «من عشق وكتم فمات مات شهيدًا» المشكلة أيضًا (مات شهيدًا) فوضعت هذه الشهادة - المرتبة العظمى- لمن يعشق، إذًا العشق حسن، وهذه الأغاني التي فيها العشق ممتازة. انظروا إلى هذا الحديث المكذوب لكي تتبَيّنُوا كيف أن هذه الأحاديث الضعيفة المكذوبة لها آثار سيئة في نسف الأخلاق والفضيلة، وإحلال الرذيلة في نفوس البشر الذين يستمعون إليها ويطبقونها، في روض الأذكار: «أن امرأة خرجت تسمع كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فرآها شابٌ فقال: «إلى أين؟»، قالت: «أسمع كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فقال: «أتحبينه؟» قالت: «نعم». قال: «فبحقه ارفعي نقابك حتى أنظر إلى وجهك»، ففعلت ثم أخبرت زوجها بذلك فأوقد تنورًا ثم قال: «بحقه عليك - يعني الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ادخلي التنور»، فألقت نفسها في التنور - (كل هذا بحقه عليها) - وأخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك؛ فقال للزوج: «ارجع واكشف عنها»، فكشف عنها التنور - فرن محمى- فرآها سالمة وقد جللها العرق! أي: لم يصبها شيء! ما هي النتيجة؟ شاب أجنبي رأى أجنبية في الطريق قال: تحبين رسول الله؟ قالت: نعم. قال: بحقه عليك اكشفي النقاب حتى أنظر إلى وجهك، أتكشف النقاب وينظر إلى وجهها؟!!

7 - تغيير سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

ومن الآثار السيئة أيضًا في الأخلاق: أن بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة لها آثار سيئة في عدم تغيير الخلق السيئ وتبديله، كل إنسان فيه أخلاق سيئة وطبائع غير جيدة، والحل أن يجاهد نفسه حتى يبدل الخلق السيئ بخلق طيب، لكن عندما يأتي حديث: «الحِدّة تعتري خيار أمتي»، «الحِدّة تعتري حملة القرآن لعزة القرآن في أجوافهم»؛ لو أن إنسانًا حاد الطبع يغضب بسرعة وينفعل فإنه عندما يسمع هذا الحديث: «الحِدّة تعتري خيار أمتي»، «وحملة القرآن لعزة القرآن في أجوافهم» ماذا يعمل هذا الحديث وما هو مفعوله في النفس؟ إنه على الأقل يجعلك حادًَّا. 7 - تغيير سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: إن تغيير سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أثر من آثار الأحاديث الضعيفة والموضوعة مثل حديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - «كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها»، لحية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت أوفر ما يكون، وأجمل ما يكون، وأمر - صلى الله عليه وآله وسلم - بإعفاء اللحى، ولكن يأتيك هذا الحديث: «كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها»، فيأتي إنسان يقصقص، لماذا تقصقص يا أخي؟ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر بإعفاء اللحية! قال: لا. عندي دليل، ما هو؟ قال: «كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها»، لا يمكن يأمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بإعفاء اللحية ثم بعد ذلك هو نفسه - صلى الله عليه وآله وسلم - يخالف أمره فيذهب يقصقص منها، هذا لا يمكن! وكذلك الحديث الآخر الباطل: «من سعادة المؤمن خفة لحيته»؛ فخفيف اللحية يصير مسرورًا، وأما كثيف اللحية فيغتم، مشكلة، لست بسعيد بل شقي! لماذا؟ لأن عندي لحية كثيفة! انظروا إلى هذه الآثار السيئة. 8 - إلغاء قواعد في أصول الفقه: من آثار الأحاديث الضعيفة والموضوعة: إلغاء قواعد في أصول الفقه، نحن نعلم أن القرآن والسنة والإجماع من مصادر الأحكام الشرعية، وكذلك إذا كان القياس صحيحًا فيؤخذ منه الحكم الشرعي فيأتي هذا الحديث مثلًا: «من عمل بالمقاييس فقد

9 - التفرقة بين المسلمين

هلك وأهلك» ما هي النتيجة؟ إلغاء هذا البند من أصول الفقه، وعدم الاستفادة من القياس إطلاقًا. 9 - التفرقة بين المسلمين: ومن الآثار السيئة: التفرقة بين المسلمين، وذم بعض الأجناس أو الألوان، ومخالفة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)} (الحجرات: 13) كحديث: «دعوني من السودان؛ إنما الأسود لبطنه وفرجه»، يقول: الأسود فقط همه البطن والفرج، سبحان الله! ألم يكن من صحابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بلال بن رباح؟ أمَا كان عطاء بن أبي رباح - رحمه الله - من كبار علماء مكة وكان يخضع له الملوك والخلفاء ويأتونه ويستفتونه؟ إذًا: هذه الأحاديث التي تفرق شمل الأمة، وتفضل أجناسًا على أجناس، وعرقًا على عرق إنما هي من مفرزات الجاهلية فصِيغَتْ بهذه الأحاديث الموضوعة. 10 - تشويه سمعة الصحابة - رضي الله عنهم -: كثير من الناس الآن يعرفون الحديث الذي فيه أن الصحابي ثعلبة بن حاطب طلب المال وكسب المال وخرج عن المدينة وفوَّت صلاة الجمعة والجماعة، وأنه بعد ذلك أراد أن يتوب فلم يقبل منه - صلى الله عليه وآله وسلم - الزكاة، وأن أبا بكر لم يقبل منه الزكاة ولا عمر - رضي الله عنهما -، وعندما تُرَاجِعُ الحديث تجد أن سنده ضعيف وأن ثعلبة بن حاطب سدد خطاكم بريءٌ من هذا الكلام، وأنه صحابي جليل كانت له مواقف محمودة. 11 - إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي: وكذلك من آثارها السيئة أيضًا: إعانة المستهترين على الاجتراء على الله بالمعاصي مثل حديث: «إنما حَرّ جهنم على أمتي كحَرّ الحمَّام» فإذا كان حر جنهم على أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - مثل حر الحمام فما الذي يمنع الناس أن يرتكبوا المعاصي، إذا كانت النهاية هي عبارة عن حمام ساخن؟ فهل بعد هذا القبح وبعد هذه الآثار السيئة من شناعة، وآثارٍ تدفع الناس إلى الوقوع في المعاصي والجرأة على الله - عز وجل -؟!

12 - الابتداع في العبادة، ومخالفة السنة

تحريم مس الرجل المرأة الأجنبية، بعض الناس يقول: أنا لا أصافحها مباشرة بل أصافحها من وراء حائل، أي أني أدخل يدي في عمامتي ثم أصافح، أو أمسك طرف العباءة وأصافح، هذا غير صحيح ولا يجوز. . لا مباشرة ولا من وراء حائل، بعض الناس يفعلونه لهذا الحديث الضعيف: «كان يصافح النساء وعلى يده ثوب»، وهو لم يثبت، بل إن الذي ثبت أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما مست يده يد امرأة أجنبية قط. مشروعية الرقص والتواجد عند الذكر، ويخترعون لذلك أحاديث كحديث: «ليس بكريمٍ من لم يتواجد عند ذكر الحبيب»، إذا ذُكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلم يقم من سمعه يرقص ويتواجد فليس بكريم. 12 - الابتداع في العبادة، ومخالفة السنة: مثل: إضافة مسح الرقبة في الوضوء، ألم تروا أناسًا يمسحون رقابهم عند الوضوء؟ فهذه الزيادة في الوضوء من أين أتَتْ؟ أصلها من هذا الحديث الموضوع: «من توضأ ومسح عنقه لم يُغَلّ بالأغلال يوم القيامة»، انتهى الأمر! كل واحد لا يريد أن يُغَلّ بالأغلال يوم القيامة فما عليه إلا أن يمسح رقبته، مع أن المسح غير وارد، ولم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه مسح رقبته. 13 - مساواة المسلمين بأهل الذمة: مثل حديث: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» يعني أهل الذمة، وهذا غير صحيح، إنها أحاديث تنافي أحكامًا شرعية (¬1). ¬

(¬1) قال الألباني - رحمه الله - في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (رقم 1103): «وقد اشتهر في هذه الأزمنة المتأخرة، على ألسنة كثير من الخطباء والدعاة والمرشدين، مغترين ببعض الكتب الفقهية، مثل (الهداية) في المذهب الحنفي، وقد أشار الحافظان الزيلعي وابن حجر إلى أن الحديث لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأن صاحب (الهداية) قد وهم في زعمه ورود ذلك في الحديث. بل قد جاء ما يدل على بطلان ذلك، وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إلّا بِحَقِّهَا، ... = = لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ». وإسناده صحيح على شرط الشيخين. فهذا نص صريح على أن الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هذه الجملة: «لهم ما لنا، وعليهم ما علينا» ليس هم أهل الذمة الباقين على دينهم، وإنما هم الذين أسلموا منهم، ومن غيرهم من المشركين! وهذا هو المعروف عند السلف، فقد حدث أبُو الْبَخْتَرِيِّ أَنَّ جَيْشًا مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَمِيرَهُمْ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَاصَرُوا قَصْرًا مِنْ قُصُورِ فَارِسَ فَقَالُوا: «يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ أَلَا نَنْهَدُ إِلَيْهِمْ». قَالَ: «دَعُونِي أَدْعُهُمْ كَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يَدْعُوهُمْ»، فَأَتَاهُمْ سَلْمَانُ فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ فَارِسِيٌّ تَرَوْنَ الْعَرَبَ يُطِيعُونَنِي؛ فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مِثْلُ الَّذِي لَنَا وَعَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْنَا، وَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا دِينَكُمْ تَرَكْنَاكُمْ عَلَيْهِ وَأَعْطُونَا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَأَنْتُمْ صَاغِرُونَ». قَالَ: «وَرَطَنَ إِلَيْهِمْ بِالْفَارِسِيَّةِ: «وَأَنْتُمْ غَيْرُ مَحْمُودِينَ وَإِنْ أَبَيْتُمْ نَابَذْنَاكُمْ عَلَى سَوَاءٍ». قَالُوا: «مَا نَحْنُ بِالَّذِي نُعْطِي الْجِزْيَةَ وَلَكِنَّا نُقَاتِلُكُمْ». فَقَالُوا: «يَا أَبَا عَبْدِ الله، أَلَا نَنْهَدُ إِلَيْهِمْ؟». قَالَ: «لَا»، فَدَعَاهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَى مِثْلِ هَذَا ثُمَّ قَالَ: «انْهَدُوا إِلَيْهِمْ». قَالَ: «فَنَهَدْنَا إِلَيْهِمْ فَفَتَحْنَا ذَلِكَ الْقَصْرَ». (أخرجه الترمذي وقال: «حديث حسن» وأحمد من طرق عن عطاء بن السائب عنه). ولقد كان هذا الحديث (أي حديث لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ونحوه من الأحاديث الموضوعة والواهية سببًا لتبَنِّي بعض الفقهاء من المتقدمين، وغير واحد من العلماء المعاصرين، أحكامًا مخالفة للأحاديث الصحيحة، فالمذهب الحنفي مثلا يرى أن دم المسلمين كدم الذميين، فيقتل المسلم بالذمي، ودِيَتُه كدِيَتِه مع ثبوت نقيض ذلك في السنة على ما بينْتُه في حديث سبق برقم (458)، وذكرت هناك من تبناه من العلماء المعاصرين! وهذا الحديث الذي نحن في صدد الكلام عليه اليوم طالما سمعناه من كثير من الخطباء والمرشدين يرددونه في خطبهم، يتبجحون به، ويزعمون أن الإسلام سوَّى بين الذميين والمسلمين في الحقوق، وهم لا يعلمون أنه حديث باطل لا أصل له عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -! فأحببت بيان ذلك، حتى لا يُنْسَب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما لم يقل! ونحوه ما روى أبو الجنوب قال: قال علي سدد خطاكم: «من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا». أخرجه الشافعي (1429) والدارقطني (350) وقال: «وأبو الجنوب ضعيف». وأورده صاحب (الهداية) بلفظ: «إنما بذلوا الجزية، لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا». وهو مما لا أصل له، كما ذكرته في " إرواء الغليل " (1251). (اهـ كلام الألباني باختصار وتصرف يسيرين). وقال الألباني أيضًا في (سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة رقم 2176): «وإن مما يؤكد بطلانه (أي حديث لهم ما لنا، وعليهم ما علينا) مخالفته لنصوص أخرى قطعية كقوله تعالى: ... = = {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} (القلم: 35 - 36)، وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ»، وقوله: «حَقُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ المَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ العَاطِسِ»، وقوله: «لاَ تَبْدَءُوا اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى بِالسَّلاَمِ»، وكل هذه الأحاديث مما اتفق العلماء على صحتها». اهـ.

14 - الصد عن سبيل الله

14 - الصد عن سبيل الله: هناك اعتقادات خاطئة أصلها أحاديث موضوعة مثل: «من طنَّتْ أذنه فليقل: ذكر الله بخير من ذكرني»، هذا منتشر بين الناس، لو طنت أذن واحد يقول: من المؤكد الآن أن واحدًا في مشارق الأرض أو مغاربها يذكرني ويأتي بسيرتي؛ ولذلك الآن طنت أذني فيقول: «ذَكَر اللهُ بخير من ذكرني»؛ هذا الحديث ليس بصحيح، وهذا اعتقاد خاطئ، فطنين أذنك قد يكون لسبب في الدماغ فجعل الأذن تطن. هذه الخرافات أحيانًا لو اطلع عليها بعض الناس الذين يريدون الدخول في الإسلام - والله! - قد تكون عائقًا في دخولهم الإسلام مثل حديث: «هل تدرون ما يقول الأسد في زئيره، قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: يقول: «اللهم لا تسلطني على أحدٍ من أهل المعروف». 15 - إلقاء الشك والريبة بين المسلمين؛ ونشر الخرافة بينهم: إلقاء الشك والريبة بين المسلمين: «احترسوا من الناس بسوء الظن» أي أن الزمان قد فسد الآن فلابد أن تسيء الظن في كل واحد، تأخذ احتياطك منه فتفترض في الأصل أنه سيء فتسيء الظن به، فتكون النتيجة أن كل مسلم ينظر لأخيه بمنظار أسود، أكيد أنه يريد أن يؤذيني! أكيد أنه يريد أن يفعل بي كذا! يريد بي شرًا! وهكذا. كذلك انظر من الخرافات العجيبة: «إن الله أعطاني نهرًا يقال له الكوثر في الجنة لا يدخل أحدٌ أصبعه في أذنيه إلا سمع خريره» يعني: إذا أدخلت أصبعك في أذنيك

16 - التضييق على الناس في أمور من المباحات

فإنك تسمع خرير نهر الكوثر، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، الآن من مجرد ما نضع أصابعنا في آذاننا فإننا نسمع خرير نهر الكوثر! والأحاديث الموضوعة في فضائل الأطعمة ما أكثرها: «اجعلوا في موائدكم البقل فإنه يطرد الشياطين»، «إن الله تعالى يوكل بآكل الخل ملَكين يستغفران له»، «عليكم بالقرع فإنه يزيد بالعقل»، «عليكم بالعدس فإنه مبارك ويرق القلب، ويكثر الدمع، وقد قدس على لسان سبعين نبيًا»، «شكا نبيٌ من قلة الولد فأمره أن يأكل البيض والبصل» إلى آخر هذا الهراء. ومنها: «إذا كتبت فضع القلم في أذنيك فإنه أذْكَرُ»، يعني أن هذا يُقَوّي الذاكرة إذا وضعت القلم على أذنك، اعتقادات ليس لها أصل ولا دليل بل هوس وهراء. بعض الناس يشيع عندهم إذا كانت المرأة تسقط دائمًا الجنين حديث: «يا رسول الله! إني امرأة لا يعيش لي ولد فقال: «اجعلي لله عليك أن تسميه محمدًا»، ففعلت فعاش ولدها»، فصار بعض الناس الآن إذا صارت امرأته دائمًا تسقط يقول: لله علي نذر أن أسميه محمدًا لكي يعيش. 16 - التضييق على الناس في أمورٍ من المباحات: بعض الناس يرجع من عمله الساعة الثانية والنصف تعبًا مرهقًا يصلي ويتغدى، فلا يجد فرصة للراحة والنوم إلا بعد العصر فيأتيه حديث: «من نام بعد العصر ففقد عقله فلا يلومن إلا نفسه»، فماذا يفعل؟ رجل هذه ظروفه الآن متعب، فيقول له هذا الحديث المكذوب: لا. لا تنم بعد العصر فإنه يجلب الجنون، فماذا يفعل؟! إنسان لا يمكن أن يعيش مع زوجته أكثر من ذلك لوجود مشكلة بينه وبين زوجته، الطلاق في بعض الأحيان هو الحل الوحيد، لكن ليس في كل الأحيان، فإنه يمكن في كثيرٍ من الأحيان تدارك الوضع وتحسين الأشياء بغير الطلاق، الطلاق أحيانًا يكون خطيرًا، وأحيانًا لا يكون الحل بالطلاق فيأتي حديث: «تزوجوا ولا تطلقوا فإن

17 - أحيانا تؤدي الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى احتقار النساء

الطلاق يهتز له العرش»، مهما كانت سيئة خلق؟! مهما كان عدم التوافق موجودًا؟! لا يمكن أن يطلق فكيف يعيش الزوج؟! يعيش في جحيم. تحريم أشياء من المباحات فيها بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة، واحد يريد مثلًا أن يتزوج، شاب يحتاج للزواج فأتاه الحج قبل التزوج: «من تزوج قبل أن يحج فقد بدأ بمعصية»، سبحان الله! كيف يكون إعفاف الرجل نفسه وإحصانه فرجه سببًا للمعصية؟ هل هذه معصية؟! من قال ذلك؟ يقول: لا. لا يجوز، بعض الناس عندهم اعتقاد أنه لا يجوز الزواج قبل الحج بل لا بد أن تحج أولًا. الذي ما عق عنه أبوه في الماضي فإنه لا بد من أن يعق قبل أن يعتمر أو يحج وإلا فستصير عمرته أو حجه باطلًا، وبعض الناس عندهم اعتقادات بهذا، وأحيانًا يكون أساسه حديثًا ضعيفًا أو موضوعًا. حديث: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» إذًا: لا بد أن الواحد يمشي رويدًا رويدًا ويخالف مشية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. وحديث: «من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني» لا بد من الزيارة لكل من أراد أن يحج، ولو ما زار فحجه باطل، أو ناقص. . إلى آخره. 17 - أحيانًا تؤدي الأحاديث الضعيفة والموضوعة إلى احتقار النساء: مثل حديث: «لا تسكنوهن الغُرف ولا تعلموهن الكتابة»، أو حديث: «شاوروهن وخالفوهن»، هناك شخص كان دائمًا يستشير زوجته تقول كذا فيفعل هو العكس، في يوم من الأيام تضايقت وقالت: أنت يا فلان! تأخذ بخلاف مشورتي، قال: أنا عندي حديث: «شاوروهن وخالفوهن».

نماذج من أثر الحديث الضعيف والموضوع في تخريب العقائد

نماذج من أثر الحديث الضعيف والموضوع في تخريب العقائد (¬1) أولًا: في أسماء الله وصفاته وتوحيده: في مجال أسماء الله وصفاته افترى الوضاعون والكذابون أحاديث كثيرة نسبوها إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كحديث: «قيل يا رسول الله مم ربنا؟»، قال: «من ماء ممرور لا من أرض ولا من سماء، خلق خيلًا فأجراها فعرقت فخلق نفسه من هذا العرق». وحديث نزول الله على جمل يوم عرفه، وعروج الله إلى السماء من صخرة بيت المقدس. وحديث: «كنت كنزا مخفيًّا فأحببت أن أعرَفَ فخلقتُ الخلق فبي عرفوني». ومن الأحاديث التي أثرت تأثيرًُا سيئًا في العقائد حديث: «يوشك الكفر أن يدخل من دار إلى دار، ومن ربع إلى ربع، ومن بلد إلى بلد، ومن مدينة إلى مدينة، فقيل كيف ذلك يا رسول الله؟»، فقال: «قوم يحدّون الله حدًّا، فيصفونه بذلك الحد». وقد أدى هذا إلى ترك تعلم صفات الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وذلك تجهيل للأمة بصفة الله - سبحانه وتعالى - وتوحيده ليعم بعد ذلك الكفر والجهل به - سبحانه وتعالى -. وحديث: «لو اعتقد أحدكم بحجر لنفعه»، قال ابن تيميه: «موضوع»، وقال الشيخ على القاري: «قال ابن القيم: «هو من كلام عُبَّاد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالأحجار». ¬

(¬1) أثر الأحاديث الضعيفة والموضوعة في العقيدة، للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، (باختصار، وتصرف يسيرين).

ثانيا: في حقيقة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

ولا يخفى أن هذا الحديث يفتح باب الشرك على مصراعيه لأنه يجعل ميزان الاعتقاد هو النفع بل الاعتقاد نفسه، فكل من اعتقد في شيء وظنه نافعًا حتى لو كان حجرًا جعله الله كذلك، وكل مَن أتاه نفعٌ مِن عقيدةٍ ما كان هذا اعتقادًا صحيحًا. وهكذا أصبحت هذه الأحاديث الباطلة التي لا أصل لها سندًا ومُتكَّئًا لشرك الألوهية الذي جاءت الرسل للتحذير منه. ثانيا: في حقيقة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: وأما بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن الوضاعين والكذابين قد ألفوا من الأحاديث ما حرف العقيدة الخالصة في الرسول فقد زعموا أنه أول خلق الله ظهورًا في الوجود وأنه مخلوق من نور الله وأنه ما خلق سماء ولا أرضًا ولا جنة ولا نارًا إلا من أجله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وجعلوه داعيًا للناس إلى دعائه والتوسل به إلى الله، وأن من حج ولم يزر قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد جفاه، بل جعلوه هو الله المستوي فوق العرش وأنه الذي أنزل القرآن!! وقِسم آخر من الوضاعين افتروا عليه أحاديث في الطعم والشراب والجماع والطب أرادوا بذلك عيب النبي وشينه وتحقير أمره وبالتالي إسقاط رسالته ووحيه. وإليك بعضًا مما فعل هؤلاء وهؤلاء: «خلقني الله من نوره، وخلق أبا بكر من نوري، وخلق عمر من نور أبي بكر، وخلق أمتي من عمر، وعمر سراج أهل الجنة». والحديث المنسوب إلى جابر بن عبد الله الأنصاري قال قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله قبل الأنبياء، قال: «يا جابر أن الله تعالى خلق قبل الأنبياء نور نبيك من نوره، فجعل هذا النور يدور بالقدرة حيث يشاء الله تعالى، ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار، ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر.

فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الجزء الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول حملة العرش، ومن الجزء الثاني الكرسي، ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول السموات، ومن الجزء الثاني الأراضين، ومن الجزء الثالث الجنة والنار. وقسم الجزء الرابع أربعة أجزاء: فخلق من الجزء الأول نور أبصار المؤمنين، ومن الثاني نور قلوبهم - وهي المعرفة بالله - ومن الثالث نور أنْسِهم وهو التوحيد: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، ثم نظر إليه فترشح النور عرقًا فتقطرت منه مائتا ألف قطرة وعشرين ألفًا وأربعة آلاف قطرة فخلق الله من كل قطرة روح نبي ورسول. ثم تنفست روح أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسهم أرواح الأولياء والسعداء والشهداء والمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة، فالعرش من نوري والعقل والعلم والتوفيق من نوري، والكروبيون من نوري والعقل والعلم والتوفيق من نوري، وأرواح الأنبياء والرسل من نوري، والسعداء والصالحون من نائح نوري. ثم خلق الله آدم من الأرض وركب فيه النور وهو الجزء الرابع، ثم انتقل منه شيث وكان ينتقل من طاهر إلى طيب إلى أنْ وصل إلى صلب عبد الله بن عبد المطلب، ومنه إلى وجه أمي آمنة ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلين، وخاتم النبيين وقائد الغر المحجلين». وهذا الحديث هو عمدة الصوفية فيما زعموه واعتقدوه ونشروه أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - هو قبة الكون، وهو أول الوجود، وأنه جزء من نور الله، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا، وأن كل المخلوقات خلقت بأجزاء منه. وحديث جابر المكذوب هذا هو الذي جاء متأخرو المتصوفة وبنَوا عليه أنّ القرآن أنزله الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مِن فوق سبع سماوات وأن محمدًا هو الذي أعطاه جبريل في السماء واستلمه في الأرض!!

يقول محمد عثمان عبده البرهاني في كتابه (تبرئة الذمة في نصح الأمة): «ولما رأى النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - استغراب سيدنا جبريل - عليه السلام - مما قاله لجابر: «أن أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر»، سأل الرسول جبريل قائلًا: «يا جبريل كم عَمّرت من السنين؟»، فقال جبريل: «يا رسول الله لسْتُ أعلمُ غير أنه في الحجاب الرابع نجمٌ يطلع في كل سبعين ألف سنة مرة ورأيته سبعين ألف مرة (¬1)، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وعزة ربي أنا ذلك الكوكب». ثم سأل الرسول جبريل عن المكان الذي يأتي منه الوحي؟ فقال: «حينما أكون في أقطار السموات والأرض أسمع صلصلة جرس فأسْرِعُ إلى البيت المعمور فأتلقى الوحي فأحمله إلى الرسول أو النبي فقال الرسول له: «اذهب إلى البيت المعمور الآن واتْلُ نسبي»، فذهب جبريل مسرعًا إلى البيت المعمور وتلا نسب النبي قائلا: «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ... »، فانفتح البيت المعمور ولم يسبق أنْ فُتِحَ مِن قبل ذلك فرأى جبريل النبي بداخله!! فتعجب فعاد مسرعًا إلى الأرض فوجد الرسول في مكانه كما تركه مع جابر فعاد بسرعة خارقة إلى البيت المعمور فوجده - صلى الله عليه وآله وسلم - هنالك، ثم عاد مسرعًا إلى الأرض فوجده مازال جالسًا مع جابر فسأل جبريل - عليه السلام - جابرًا قائلًا: «هل ترك رسول الله مجلسه هذا؟»، فقال جابر: «كلا يا أخا العرب؛ فإننا لم ننته بعدُ من الحديث الذي تركْتَنا فيه»، فقال جبريل للنبي: «إذا كان الأمر منك وإليك فلماذا تَعَبِي؟» فرد عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - قائلًا: «للتشريع يا أخي جبريل»، وتلا قوله تعالى: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (طه: 114). ¬

(¬1) وكأن جبريل - عليه السلام - لا يستطيع أن يحسب عمره بضَرْب عدد مرات رؤيته للنجم في عدد السنين التي يظهر فيها النجم كل مرة: (سبعين ألف مرة × سبعين ألف سنة).

من أرادوا شين النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

وأضاف محمد عثمان عبده البرهاني: «كل هذه الأدلة توضح أن القرآن وهو أكبر معجزة للنبي كان عند النبي قبل البيت المعمور، وقبل جبريل وهو والخلق جُزْءٌ مِن كُلّ» (¬1). وليس بعد هذا الكفر والزندقة كفر ولا زندقة، بل ولا هذيان. مَن أرادُوا شَيْنَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: وأما الوضاعون الذين أرادوا شَيْنَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فإنهم وضعوا عليه أحاديث في الأطعمة والأشربة يناقضون بها ما صح عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك ويعيبون بها النبي كحديث: «ربيع أمتي العنب والبطيخ»، و «من أكل فولة بقشرها أخرج الله منه من الداء مثلها»، و «الباذنجان شفاء من كل داء»، و «الباذنجان لما أكل له»، و «أكل السمك يُذهب الجسد»، وحديث: «إن الله خلق آدم من طين فحرم أكل الطين على ذريته»، وحديث: «عليكم بالعدس فإنه مبارك، وإنه يرق القلب، ويكثر الدمعة، وأنه قد بارك فيه سبعون نبيًّا»، وحديث: «بئست البقلة الجرجير»، وحديث: «لو كان الأرز رجلًا لكان حكيمًا»، وحديث: «الأرز مني وأنا من الأرز»، ونحو هذا من السخافات والهذيانات التي وضعها الوضاعون وألصقوها بسيد المرسلين ومَن بعَثَه الله رحمة للعالمين وهاديا للخلق أجمعين - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهذه الأحاديث استغَلّها مَن يريد الطعن بالرسالة المحمدية قديمًا وحديثًا، كما أخبر بعض الطلاب ممن درس في جامعات تبشيرية أن القس الذي كان يدرس لهم كان يقول لهم: «رسولكم كان يقول: «لو كان الأرز رجلًا لكان حكيمًا»، وهذا لا يصدر من نبي»!! ولما كان الطلاب لا يعرفون أن هناك حديثًا صحيحًا وآخر مكذوبًا ما كانوا يستطيعون جوابًا، وترك هذا في أنفسهم ما ترك. ¬

(¬1) تبرئة الذمة (ص 100 - 101).

ثالثا: في العصبيات والأهواء

ثالثا: في العصبيات والأهواء: وأما في باب العصبيات والأهواء والكيد لأهل الإسلام، فإن الوضّاعين قد ملأوا الأرض بكذبهم في هذا المجال، فقد كان من واضعي الأحاديث ناسٌ فيهم حقدٌ على الإسلام وعلى هذا القرآن الذي نزل بلغة العرب، يريدون نسف اللغة العربية، ويريدون إعلاء شأنهم حقدًا على هذا الدين، منهم بعض الفرس الذين وضعوا مثل هذا الحديث: «إن كلام الله حول العرش بالفارسية، وإن الله إذا أوحى أمرًا فيه لينٌ أوحاه بالفارسية، وإذا أوحى أمرًا فيه شدة أوحاه بالعربية». ما هو المقصود؟! ماذا يوحي هذا الحديث؟! ماذا يلقي في أنفس السامعين؟ إنه يلقي كراهية اللغة العربية ومحبة اللغة الفارسية. وهل سكت الجهلة المقابلون لهم من العرب؟ كلا. فإنهم وضعوا أحاديث أيضًا في فضل اللغة العربية وأن كلام أهل الجنة عربي، وفي المقابل وضعوا أحاديث في ذم بلاد خراسان مدينةً مدينة. ولا يجوز أن ترد البدعة ببدعة ولا يجوز أن نرد على الخطأ بخطأ آخر! إن الرد على البدعة والخطأ يكون بتبيان الصواب أولًا، ثم بنقد الخطأ والبدعة ثانيًا. وبعضهم من الفرق الباطنية الذين كان همهم تمجيد بعض الأشخاص كشخص علي بن أبي طالب سدد خطاكم حتى يوصلوه إلى مرتبة الألوهية، انظروا مثلًا إلى هذا الحديث: «ستكون فتنة فإن أدركها أحد منكم فعليه بخصلتين: كتاب الله وعليِّ بنِ أبي طالب»، علي بن أبي طالب سدد خطاكم رابع الخلفاء الراشدين، مناقبه مشتهرة متكاثرة لا يماري فيها إنسان مسلم يعرف الله - عز وجل -، ويعرف حق صحابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولكن أن تصل المسألة أن يجاء برجل ولو كان صحابيًا فيُعتبر هو المرجع بعد كتاب الله.

ومن ذلك حديث: «خلقت أنا وعليّ من نور، وكنا على يمين العرش قبل أن يخلق آدم بألف عام، ثم خلق الله آدم فانقلبنا في أصلاب الرجال ثم جعلنا في صلب عبد المطلب، ثم شق أسماؤنا من اسمه فالله محمود وأنا محمد، والله الأعلى وعلي علي». وحديث: «مَن لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر». وحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب». وحديث أن الرسول أمر الشمس أن تعود لعلي لما فاتته صلاة العصر. وحديث: «النظر إلي عليّ عبادة». وحديث: «اسمي في القرآن والشمس وضحاها، واسم علي والقمر إذا تلاها، واسم الحسن والحسين والنهار إذا جلاها، واسم بني أمية والليل إذا يغشاها». وحديث: «لما عرج إلى السماء رأيت مكتوبًا على ساق العرش لا إله إلا الله محمد رسول الله، أيدتُه بِعَليّ، نصرتُه بِعَليّ». وقول علي: «غسَّلْتُ النبي فشربت من ماء محاجر عينيه فورثت علم الأولين والآخرين». وحديث ابن عباس: «سألت الرسول عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه قال: «سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبتَ علَيَّ فتاب علَيَّ». وهذا مثله كثير جدًا، وهذا ومثله كان السبب في نشأة الفرق العقائدية، وتمزيق الأمة المحمدية، وإكفار بعضها بعضًا وكل هذه مسائل أصولية وليست فرعيات عبادية وعملية ولا شك أن انتحال الأحاديث ووصفها كان الدعامة التي عمد إليها أهل الأهواء لتأصيل ما أصلوه، ولاعتقاد ما اعتقدوه.

رابعا: الأحاديث الموضوعة والخرافة

إذًا المسألة مخططٌ لها، مذاهب قامت في التاريخ يريد كل أصحاب مذهبٍ منهم أن يؤصلوا لمذهبهم بأحاديث يروجونها بين المسلمين، يؤصلون للمذهب ويقَعّدون له بأحاديث موضوعة ومكذوبة على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. ولقد وصل الحقد بهؤلاء الباطنية إلى صحابيٍ جليل مثل معاوية سدد خطاكم، فوضعوا أحاديث مثل حديث: «لكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة معاوية»، عندما يسمع الناس هذه الأحاديث ماذا يُحْدِث في قلوبهم على معاوية سدد خطاكم؟ ما هو الأثر السيئ لهذا الحديث في قلوب الناس على صحابة أجلاء كرام من صحابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ ولكن المتعصبة للطرف الآخر وضعوا أحاديث منها أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - «أخذ القلم من علي ودفعه إلى معاوية»، عليٌّ لا يصلح فمعاوية هو الكاتب الأمين؟! وقد يحمل التعصب المذهبي الذميم بعض الناس على اختلاق الأحاديث على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فمنه مثلًا الحديث المشهور المعروف: «سراج أمتي أبو حنيفة النعمان»، «يكون في أمتي رجلٌ كنيته أبو حنيفة النعمان هو سراج أمتي، ويكون رجلٌ في أمتي اسمه محمد بن إدريس هو أضر على أمتي من إبليس»، يقصدون الإمام محمد بن إدريس الشافعي - رحمه الله - الذي هو مجدد من المجددين في الأمة في أصول الفقه، فهل سكت الطرف الآخر؟ كلا. بل اختلقوا حديث: «عالم قريش يملأ الأرض علمًا» يقصدون الشافعي. رابعا: الأحاديث الموضوعة والخرافة: عمد الوضاعون إلى تصوير عالم من نسيج خيالهم، وبنات أفكارهم المريضة، ونفثات صدورهم الخبيثة المليئة بالحقد على الإسلام وأهله، وذلك صرفًا للناس عن دين ربهم وتشويهًا لجمال الإسلام، فمن ذلك زعمهم أن الله خلق ملائكة السماء الأولى على صورة بقرة، والثانية على صورة العقبان، والثالثة على صورة الناس، والرابعة على صورة الحور العين، والخامسة على صورة الطيور، والسادسة على صورة الخيل المسومة، والسابعة حملة العرش الكروبيون.

خامسا: الأحاديث الموضوعة في القرآن

وافتروا على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إن لله تعالى ديكا براثنه في الأرض السفلي وعرفه تحت العرش ويصرخ عند مواقيت الصلاة، وتصرخ له ديكة السماء وديكة الأرض: سبوح قدوس رب الملائكة والروح». وجعلوا المجرة لعاب حية تحت العرش فزعموا أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «يا معاذ أني مرسلك إلى قوم أهل كتاب فإذا سُئلتَ عن المجرة التي في السماء فقل لهم هي لعاب حية تحت العرش». ونسبوا كذلك له - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «وكل بالشمس تسعة ملائكة يرمونها بالثلج كل يوم، ولولا ذلك ما أتت على شيء إلا أحرقته». وأن الأرض على الماء، والماء على صخرة، والصخرة على ظهر حوت يلتقي طرفاه بالعرش، والحوت على كاهل ملك قدماه في الهواء. وأن العنكبوت مسخ. وأن النخلة من فضل طينة آدم. وأن الله خلق جبلا يقال له «قاف» محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي القرية فيزلزلها ويحركها ثم تتحرك القرية دون القرية. وأن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور فإذا حرك الثور رأسه تحركت الأرض. والموضوع في هذا الباب لا يكاد يحصى كثرة وكلها تصب عند مصب واحد وهو تخريب العقائد وتشويه الإسلام، وشَيْن رسول الأنام - صلى الله عليه وآله وسلم -. خامسًا: الأحاديث الموضوعة في القرآن: لعل أخطر ما دمرته الأحاديث الواهية من العقائد هو تشويه القرآن، وهو ما ابتغاه أهل الأهواء من صرف الناس عن كتاب الله وتفسيره بالخرافات والخزعبلات

والأهواء، وتصوير القرآن أنه كتاب خرافات وأساطير وليس كتابًا منزلا من الحكيم الحميد سبحانه. وإليك بعضا من افتراء هؤلاء الوضاعون على القرآن، وللأسف عليه يعتمد أهل التفسير حتى لا يكاد يخلو تفسير واحد أن يناله شيء من ذلك. فمن ذلك على سبيل المثال: ما ذكره بعض المفسرين عمن سماه عوج بن عنق الطويل وفي هذا الحديث «أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثين ذراع»، وأن نوحًا لما خوفه الغرق قال له: «أتحملني في قصعتك هذه»، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته، وأنه خاض البحر فوصل إلى حجزته فقط، وأنه كان يأخذ الحوت من عمق البحر فيشويه في عين الشمس، وأنه قلع صخرة عظيمة على قدر عسكر موسى، وأراد أن يرضخهم بها فوضعها الله في عنقه مثل الطوق». وكذلك في تفسيرهم لقوله تعالى: {قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)} (المائدة: 22 (، أنهم العماليق وأن سبعين رجلًا من قوم موسى استظلوا في قحف رجل واحد منهم، وأن موسى لما نزل قريبًا من أريحا في فلسطين بعث اثني عشر رجلًا من بني إسرائيل ليتعرف خبرهم فهالهم ما رأوه من هيئتهم وجسمهم وأنهم دخلوا في بستان أحد العماليق فجاء فتتبع أثارهم ثم حملهم في كمه مع الفاكهة وذهب إلى ملكهم ونثرهم مع الفاكهة أمامه». ومن ذلك نسبتهم الشرك إلى آدم وحواء في تفسير قوله تعالى: {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)} (الأعراف: 190). وتفسيرهم لقوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (الإسراء: 79)، قالوا: يجلسه على العرش.

ومن خرافاتهم ما رووه أن سفينة نوح قد طافت بالبيت سبعًا وصلَّتْ خلف المقام ركعتين. وتفسيرهم قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} (القمر: 13)، قالوا: الدسر خمس مسامير: مسمار باسم الرسول، والثاني باسم علي، والثالث باسم فاطمة، ورابع باسم الحسن، وخامس باسم الحسين، وأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «الألواح خشب السفينة ونحن الدسر لولانا ما سارت السفينة بأهلها». وأن إبراهيم لما وضع في النار لم يسأل الله وقال: «علمه بحالي يغني عن سؤالي». وأن النملة التي كلمت سليمان كانت في حجم الذئب، ولم يَعِ هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى قد قال عن تلك النملة: {لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (النمل: 18)؛ فكيف لا يشعر سليمان وجنوده أنهم يقتلون نملا في حجم الذئاب!! وتفسيرهم قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} (الكهف: 50) أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ذكر إبليس فقال: «رأيته الساعة فإنه أدخل ذنَبَه في دُبُره فأخرج سبع بيضات، فأولدها سبع أولاد: فأولهم وأكبرهم المذهب وهو الموكل بفقهاء الناس وعلمائهم فينسيهم الذكر ويعيقهم بالحصا ويولعهم بكثرة الوضوء. والثاني هو الموكل بالنعاس في المساجد يأتي الرجل فيلقى عليه النعاس فينيمه فيقال يا فلان قد نمت فيقول لا فيعاد عليه فيحلف يمينا كاذبة أنه لم ينم. والثالث اسمه ثوبان وهو الموكل بالأسواق فينصب فيها راية بنقص الكيل والميزان حتى لا يؤتون ما يوفون فيها حتى يغلوا. والرابع لغو وهو الموكل بالويل والعويل وشق الجيوب ونتف الشعور ولطم الخدود ونعيق الران وسائر ذلك من الصياح على الميت. والخامس مشوان وهو الموكل بأعجاز النساء وأحللة الرجال حتى يجمع بين الفاجرين على فجورهما. والسادس مشوط وهو الموكل بالهمز واللمز والنميمة

والكذب والغش. والسابع غرور وهو الموكل بقتل النفوس وسفك الدماء وانتهاك المحارم يأتي الرجل فيقول له: أنت أحوج أم فلان كان أحوج منك ارتكب كذا وكذا من المحارم صنع كذا وكذا فحسن حاله فدلاه بغرور. فتلك ذريته التي ذكر الله في كتابه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي}، فتلك ذريته الباقية معه إلى اليوم الذي وقت لهم لا يموتون ولا ينتهون عن حديد الأرض، لعنة الله عليه وعلى ذريته». والحاصل أن كتب التفسير قد شحنت بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والروايات الواهية، ولا شك أن هذه الروايات الواهية قد أعدمت نفع القرآن وهدايته عند من يحسن الظن بها، بل جعلت القرآن كتاب خرافة بدلا من أن يكون كتاب هداية وتبصير، بل زادوا على ذلك بأن جعلوا القرآن لكل شيء إلا الهداية فزعموا أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم». وهو حديث لا أصل له مطلقًا. ولذلك عمد المتصوفة ومَن على دربهم لجعل كل آية من القرآن لشفاء مرض من الأمراض فلوجع الرأس يقرأ: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (الأنعام: 13)، وللأورام يقرأ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} (طه: 105)، وللحبلى المتعسرة في ولادتها يقرأ: {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} (الحج: 2)، ونحو هذا يُجْعَل في كتب ويقال إن هذا أمر مجرب ويزعمون أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم». ولا شك أن ارتباط الآيات القرآنية الحكيمة بمثل هذه الأمور يصرفها عن معانيها التي أنزلت من أجلها ويحول القرآن من كتاب هداية وتربية وتبصير إلى كتاب عبث ولعب واستهزاء وأكل لأموال الناس بالباطل، ولا شك أن كل ذلك تشويه للمعتقد.

أحاديث ضعيفة وموضوعة ولا أصل لها

أحاديث ضعيفة وموضوعة ولا أصل لها من باب قول حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - رضي الله عنه -: «كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى». (رواه البخاري ومسلم). ومن باب قول الشاعر: عَرَفْتُ الشّرَّ لا ... لِلشّرِّ لَكِنْ لِتَوَقّيهِ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفِ الخيرَ ... من الشّرِّ يقعْ فيهِ كانت هذه المجموعة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والتي لا أصل لها، جمعتها من كتب أهل العلم؛ لكي يتجنبها إخواني الخطباء والوعاظ في خطبهم ودروسهم، وفي الصحيح والحسن من حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يغنيهم عن الاستشهاد بها. ومعظم هذه الأحاديث تجدها في: • مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين الهيتمي. • تخريج أحاديث الإحياء المسمَّى (المغنى عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار) لزين الدين العراقي. • المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة للسخاوي. • تمييز الطيب من الخبيث مما يدور على ألسنة الناس من الحديث، لابن الديبع الشيباني. • كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس للعجلوني. • تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة لابن عرّاق الكناني. • الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني.

• العلل المتناهية في الأحاديث الواهية لابن الجوزي. • الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث لأحمد بن عبد الكريم الغزي العامري. • النخبة البهية في الأحاديث المكذوبة على خير البرية لمحمد الأمير الكبير المالكي. • سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني. • ضعيف الجامع الصغير وزيادته للألباني. • النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة لأبي إسحاق الحويني. • تحذير الداعية من القصص الواهية لعلي حشيش. • مائة من الأحاديث المشتهرة على الألسنة لإحسان بن محمد بن عايش العتيبي. • أحاديث لا تصح، إعداد سليمان بن صالح الخراشي فلينظرها من أراد تخريجها بالتفصيل والاطلاع على كلام أهل العلم عليها.

تنبيهات قبل قراءة الأحاديث

تنبيهات قبل قراءة الأحاديث التنبيه الأول: لا يجوز لأحد أن يتساهل في نسبة الأحاديث إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ». (رواه البخاري ومسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ» (رواه مسلم في مقدمة صحيحه، وهو حديثٌ متواتر، رواه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نحوًا من سبعين صحابيًا وربما مائة صحابي). قال الإمام النووي - رحمه الله -: «. . . فِيهِ تَغْلِيظُ الْكَذِبِ وَالتَّعَرُّض لَهُ، وَأَنَّ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ كَذِبُ مَا يَرْوِيهِ فَرَوَاهُ كَانَ كَاذِبًا , وَكَيْف لا يَكُون كَاذِبًا وَهُوَ مُخْبِرٌ بِمَا لَمْ يَكُنْ» (¬1). وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ قَالَ عَلَيَّ فَلَا يَقُولَنَّ إِلَّا حَقًّا، أَوْ صِدْقًا، فَمَنْ قَالَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»، (رواه الإمام أحمد في المسند وابن حبان وغيرهما، وحسنه الألباني والأرنؤوط»، وقد ترجم عليه الإمام ابن حبان - رحمه الله -: «فَصْلٌ ذِكْرُ إِيجَابِ دُخُولِ النَّارِ لِمَنْ نَسَبَ الشَّيْءَ إِلَى الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ غَيْرُ عَالِمٍ بِصِحَّتِهِ» (¬2). وإذا لم يكن عند الشخص القدرة العلمية التي يستطيع أن يعرف بها صحة الحديث أو ضعفه فالواجب عليه أن يسأل أهل العلم المختصين بهذا الشأن والرجوع ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم (1/ 65). (¬2) صحيح ابن حبان (1/ 210)، ط مؤسسة الرسالة.

التنبيه الثاني

إلى أقوال الأئمة والحفاظ المدونة في الكتب، عملًا بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (الأنبياء: 7). التنبيه الثاني: قد يلاحظ القارئ الكريم أن بعض الكلام الموجود في الأحاديث الضعيفة والموضوعة معناه صحيح أو أنه كلام طيب أو يدل على حكمة قائله ورزانة عقله، مثال ذلك: «عجلوا بالصلاة قبل الفوت، وعجلوا بالتوبة قبل الموت». فمع أنه حديث موضوع فإن معناه صحيح كما قال الشيخ الألباني - رحمه الله - في (سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 174، رقم 75). ومن ذلك حديث: «خمسة كتبت على ساق عرش الرحمن، لا حيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، لا راحة في الدنيا، لا رادّ لقضاء الله، ولا سلامة من ألسنة الناس»، فإن المعاني الواردة في الرواية معان صحيحة، جاء ما يشهد لها من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ولكن ليس كل ما صح معناه جازت نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإلا جاز لكل شخص أن يكذب على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويختلق الأحاديث عليه، ثم تكون حجته أن ما كذبه له شواهده من القرآن والسنة. فالحق أنه لا يحل نسبة هذا الكلام إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكَوْنُ معناه صحيحًا لا يبرّر للمسلم أن ينسبه إلى الصادق المصدوق - صلى الله عليه وآله وسلم -. فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ؛ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم - أيضًا: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه البخاري).

التنبيه الثالث

التنبيه الثالث: كَوْن الحديث ضعيفًا أو موضوعًا ليس معناه بالضرورة أن ما دَلَّ عليه غير صحيح؛ فقد يشير دليل آخر - آية أو حديث صحيح - إلى صحة ما دل عليه. وإليك هذه الأمثلة: 1 - حديث: «من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمه جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله». مع ضعف هذا الحديث فلا شك أن الإعانة على قتل المسلم بغير حق من الكبائر. وقد تصل الإعانة على قتل المسلم في بعض الأحوال إلى الكفر. فقد ذكر أهل العلم أن من نواقض الإسلام: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين. وهذه المسألة ليست من المعاصي العادية أو الصغائر بل إنها مسألة متعلقة بأصل العقيدة والتوحيد وموالاة المسلم لدين الله وبراءته من أعداء الله هكذا نص الأئمة في كتبهم على هذا. قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: «وقد أجمع علماء الإسلام على أن من ظاهر الكفار على المسلمين وساعدهم بأي نوع من المساعدة فهو كافر مثلهم، كما قال الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)} (المائدة: 51) (¬1). 2 - حديث «النظرة سهم من سهام إبليس من تركها خوفًا من الله آتاه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه». حديث ضعيف، وليس معنى ذلك أن المؤمن غير مأمور بغض بصره؛ بل قد قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ ¬

(¬1) مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (1/ 274).

فُرُوجَهُنَّ} (النور: 30 - 31)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِعَلِيٍّ سدد خطاكم: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). وعَنْ جَرِيرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: «اصْرِفْ بَصَرَكَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). 3 - حديث «أيُّمَا امرَأةٍ مَاتَتْ وَزَوجُها رَاضٍ عَنهَا، دَخَلَتِ الجَنَّةَ». وليس معنى ذلك أن طاعة المرأة لزوجها ليست سببًا لدخول الجنة؛ فإن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال: «إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا، قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ» (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني). 4 - «جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة الحج والعمرة» (ضعيف). وليس معنى ذلك أن الحج ليس من الجهاد؛ فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟» قَالَ: «لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ». (رواه البخاري). 5 - «الدعاء مخ العبادة». وليس معنى ذلك أن الدعاء ليس من العبادة؛ فعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)}» (¬1) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). ¬

(¬1) غافر: 60.

6 - «اتقوا مواضع التهم»: وليس معنى ذلك أن المسلم لا يتقي مواضع التهم، فعَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِىَ لِيَقْلِبَنِى ـ وَكَانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ـ فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ». فَقَالاَ: «سُبْحَانَ اللهِ، يَا رَسُولَ الله». قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَرًّا». أَوْ قَالَ: «شَيْئًا». (رواه البخاري ومسلم). 7 - «يا سعد أطب مطعمك، تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده، إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يُتقبل منه عمل أربعين يوما». وليس معنى ذلك أن من أسباب عدم إجابة الدعاء التوسع في الحرام: أكلًا، وشربًا، ولبسًا، وتغذية؛ فعَنْ أبي هُرَيرة سدد خطاكم قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلاَّ طيِّبًا، وإنَّ الله تعالى أمرَ المُؤْمِنينَ بما أمرَ به المُرسَلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (المؤمنون: 51)، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (البقرة: 172)، ثمَّ ذكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفرَ: أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يمُدُّ يدَيهِ إلى السَّماءِ: يا رَب يا رب، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، وَمَلْبَسُهُ حرامٌ، وَغُذِّيَ بالحَرَامِ، فأنَّى يُستَجَابُ لِذلكَ؟». (رواهُ مُسلمٌ).

التنبيه الرابع

8 - «الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب». وليس معنى ذلك جواز الموسيقى أو الغناء المصحوب بموسيقى؛ فإن من أوضح الأدلة على تحريمهما قولُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ» (رواه البخاري) (¬1). التنبيه الرابع: ليس معنى عدم صحة دلالة الحديث الضعيف أو الموضوع على شيء ما أن نفهم منه عدم دلالته على غيره، فمثلًا: حديث: «خمس تفطر الصائم وتنقض الوضوء: الكذب، والغيبة، والنميمة، والنظر بالشهوة، واليمين الفاجرة» لا يصح، وليس معنى أن هذه الأشياء لا تفطر الصائم أو تنقض الوضوء أنها ليست في ذاتها حرام، أو أنها لا تؤثر على ثواب الصائم. التنبيه الخامس: قد يحتوي الحديث الضعيف على جزء من حديث صحيح، وليس معنى ذلك أن ذلك الجزء غير صحيح، ومن الأمثلة على ذلك حديث: «أكرموا العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء فمن أكرمهم فقد أكرم الله ورسوله». حديث لا يصح، ولكن صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وافر» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). التنبيه السادس: أحيانًا تجد في الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة بعض الأدعية أو الأذكار المطلقة - غير المحددة بزمان أو بمكان أو بحال - كدعاء: «اللهم ¬

(¬1) الحِرَ: هُوَ الْفَرْجُ، وَالْمعْنَى يسْتَحلُّونَ الزِّنَا. يسْتَحلُّونَ: قَالَ ابن الْعَرَبِيِّ: «يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ حَلَالًا، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك مَجَازًا عَلَى الِاسْتِرْسَالِ أَيْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي شُرْبِهَا كَالِاسْتِرْسَالِ فِي الْحَلَالِ، وَقَدْ سَمِعْنَا وَرَأَيْنَا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟». وَالْمَعَازِف: هِيَ آلَاتُ الْمَلَاهِي. انظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 55).

اجعلني صبورًا، اللهم اجعلني شكورًا، اللهم اجعلني في عيني صغيرًا وفي أعين الناس كبيرًا». وكونها وردت في حديث لا يثبت ليس معناه عدم جواز الدعاء بها على الإطلاق؛ فالأذكار والأدعية على قسمين: الأول: الأذكار الواردة في الكتاب والسنة مقيدة إما بزمان أو بمكان أو بحال، فهذا القسم يؤتَى به على الوجه الذي ورد في زمانه، أو حاله، أو مكانه، أوفي لفظه، أوفي هيئة الداعي به من غير زيادة ولا نقصان. القسم الثاني: كل ذكر أو دعاء مطلق غير مقيد بزمان أو مكان، فهذا له حالتان: الأولى: أن يكون وَرَدَ عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيُؤْتَى بلفظه ولا يُحَدَّد بزمان أو مكان يخص به، أو بعدد يلتزم به. الثانية: أن يكون غير وارد عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بل أتى به الداعي من عند نفسه أو من المنقول عن السلف؛ فيجوز للعبد الذكر والدعاء به بخمسة شروط: 1 - أن يتخير من الألفاظ أحسَنَها وأبْيَنَها؛ لأنه مقام مناجاة العبد لربه ومعبوده - سبحانه وتعالى -. 2 - أن تكون الألفاظ على وفق المعنى العربي. 3 - أن يكون الدعاء خاليًا من أي محذور شرعي، كالاستغاثة بغير الله، ونحو ذلك. 4 - أن يكون في باب الذكر والدعاء المطلق فلا يقيد بزمان أو حال أو مكان. 5 - أن لا يتخذ ذلك سنة يواظب عليها (¬1). / ¬

(¬1) انظر: تصحيح الدعاء للشيخ بكر أبي زيد (ص42).

حرف الألف

حرف الألف 1 - آخر الطب الكي. 2 - آخر من يدخل الجنة رجل يقال له: جهينة فيقول أهل الجنة: عند جهينة الخبر اليقين. 3 - آخر ما تكلم به إبراهيم حين ألقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل (¬1). 4 - آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل. 5 - آفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفَتْرة، وآفة الظرف الصلف، وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المنّ، وآفة الجمال الخيلاء. 6 - آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله. 7 - آلُ القرآن آلُ الله. 8 - آلُ محمد كل تقي. 9 - آمن شعر أمية بن أبي الصلت وكفر قلبه. 10 - آمين خاتم رب العالمين على لسان عباده المؤمنين. 11 - آية الكرسي ربع القرآن. 12 - آية من كتاب الله خير من محمد وآله؛ لأن القرآن كلام الله غير مخلوق (¬2). 13 - أبَى الله أن يجعل للبلاء سلطانًا على بدن عبده المؤمن. ¬

(¬1) صح من كلام ابن عباس فروى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَ آخِرَ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِىَ فِى النَّارِ: "حَسْبِىَ اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ". (¬2) عقيدة الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله غير مخلوق.

14 - أبَى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب. 15 - أبَى الله أن يصح إلا كتابه. 16 - ابتدروا الأذان، ولا تبتدروا الإمامة. 17 - أبْدِ المَودَّةَ لِمنْ وَادَّكَ تَكُنْ أَثبتَ. 18 - أبردوا بالطعام، فإن الطعام الحار غير ذي بركة. 19 - أبغض الحلال إلى الله الطلاق. 20 - أبْقِ للصلح موضعًا. 21 - ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا. 22 - أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافًا بحقه يعدل ذلك». رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقالت: «يا رسول الله! أنا وافدة النساء إليك، هذا الجهاد كتبه الله على الرجال؛ فإن نصبوا أجِروا، وإن قتلوا كانوا أحياءً عند ربهم يرزقون، ونحن معشر النساء نقوم عليهم، فما لنا من ذلك؟» قال: فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أبلغي من لقيت من النساء أن طاعة الزوج واعترافًا بحقه يعدل ذلك، وقليل منكن من يفعله». 23 - ابنتي فاطمة حوراء آدمية لم تحِضْ ولم تطمث، وإنما سماها فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها من النار. 24 - ابنُكَ لَهُ أجرُ شَهيدَينِ»، رُوِيَ أن امرأة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقال لها: أم خلاد، وهي منتقبة، تسأل عن ابنها وهو مقتول. فقال لها بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «جئت تسألين عن ابنك، وأنت منتقبة؟!» (¬1). فقالت: «إن أُرزأ ابني فلن أرزا حيائي!!»، ¬

(¬1) تأمل الأثر السيئ لهذا الحديث الضعيف، فإن من يقرأ الإنكار على المرأة أنها تسأل وهي منتقبة يتوهم أن النقاب لم يكن موجودًا على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، مع أن احتجاب النساء عن الرجال الأجانب ظل هو الأصل حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي وبدايات القرن العشرين الميلادي عندما بدأ بعض المغرورين ... ينخدع بحركة ما يسمى (تحرير المرأة). وإذا قرأت ما سطره علماء الحملة الفرنسية الصليبية على مصر، من وصف للمجتمع المصري في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي وبداية القرن التاسع عشر، وجدت أن ستر الوجه عند الخروج من المنزل، وعدم الاختلاط حتى داخل البيوت كان هو الأصل عند حكام البلاد وعامة الشعب. ومما قالوه: «النساء في كل الظروف لا يخرجن مطلقًا سافرات الوجوه، بل يغطين وجوههن بالبرقع. . . ولا يدخل الرجال مطلقًا ـ فيما عدا بعض الأهل الأقربين ـ إلى مسكن السيدات. . . ولم يستطع الرحّالة السابقون على الغزو أن يتعرفوا على أحوال سيدات الطبقة المسيطرة، وذهبت أدراج الرياح كل توسلاتهم اللحوح؛ فلم يكن عظماء مصر ليسمحوا لأحد بأن يتطلع إلى جمال زوجاتهم» [وصف مصر (1/ 64 - 65) تأليف ج دي شابرول، ترجمة زهير الشايب]. فإذا كان هذا حال المسلمين في تلك القرون فما ظنك بخير القرون الذي عاش فيه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - «ابنُكَ لَهُ أجرُ شَهيدَينِ». قَالتْ: «وَلِمَ ذَاكَ يَا رَسولَ اللهِ؟»، قَالَ: «لأنَّهُ قَتَلهُ أهلُ الكِتابِ». 25 - أبو بكر وعمر خير الأولين وخير الآخرين وخير أهل السماوات وخير أهل الأرض، إلا النبيين والمرسلين. 26 - أبو بكر وعمر مني بمنزلة هارون من موسى. 27 - أتى سائل امرأة وفي فمها لقمة فأخرجت اللقمة فناولَتْها السائل، فلم تلبث أن رُزِقَتْ غلامًا، فلما ترعرع جاء ذئب فاحتمله؛ فخرجت تعدو في أثر الذئب وهي تقول: «ابني ابني!»، فأمر الله تعالى ملَكا: «الحق الذئب فخذ الصبي مِن فِيه، وقل لأمه: «الله يقرئك السلام» وقل: «هذه لقمة بلقمة». 28 - أتاني جبريل آنفا فقلت: يا جبريل، حدثني بفضائل عمر في السماء، فقال: «يا محمد لو حدثتك بفضائل عمر في السماء مثل ما لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ما نفدت فضائل عمر، وإن عمر لَحَسنة من حسنات أبي بكر».

29 - أتاني جبريل، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي»، فقال أبو بكر: «يا رسول الله! وددتُ أني كنت معك حتى أنظر إليه»، فقال: «أما إنك يا أبا بكر! أول من يدخل الجنة من أمتي». 30 - أتاني جبريل فقال: «إذا أنت عطستَ فقل: الحمد لله ككرمه، والحمد لله كعز جلاله، فإن الله - عز وجل - يقول: صدق عبدي، صدق عبدي، صدق عبدي، مغفورًا له». 31 - أتاني جبريل فقال: «يا محمد! إن الأمة مفتونة بعدك قلت له: «فما المخرج يا جبريل»، قال: «كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، وهو قول فصل ليس بالهزل، إن هذا القرآن لا يليه من جبار فيعمل بغيره إلا قصمه الله، ولا يبتغي علما سواه إلا أضله الله، ولا يخلق عن رده، وهو الذي لا تفنى عجائبه، من يقُل به يصدق، ومن يحكم به يعدل، ومن يعمل به يؤجر، ومن يقسم به يقسط». 32 - أتاني جبريل فقال: «يا محمد! إن أمتك مختلفة بعدك، قال: فقلت له: فأين المخرج يا جبريل؟ قال: فقال: كتاب الله تعالى، به يقصم الله كل جبار، من اعتصم به نجا، ومن تركه هلك، مرتين، قول فصل، وليس بالهزل، لا تختلقه الألسن، ولا تفنى أعاجيبه، فيه نبأ ما كان قبلكم، وفصل ما بينكم، وخبر ما هو كائن بعدكم». 33 - أتاني جبريل، فقال: «إن ربي وربك يقول لك: تدري كيف رفعت لك ذكرك؟ قلت: «الله أعلم»، قال: «لا أذْكَر، إلا ذُكِرْتَ معِي». 34 - أتاني جبريل - عليه السلام - فقال: «هذه ليلة النصف من شعبان، ولله فيها عتقاء من نار بعدد شعور غنم بني كلب لا ينظر الله فيها إلى مشرك، ولا إلى مشاحن، ولا إلى قاطع رحم، ولا إلى مسبل، ولا إلى عاق لوالديه، ولا إلى مدمن خمر».

35 - أتاني جبريل فقال: «يا محمد إن الله - عز وجل - يقرأ عليك السلام، ويقول: وعزتي وجلالي لا أعذب أحدًا يُسمى باسمك يا محمد بالنار». 36 - أتاني جبريل فقال: «يا محمد، ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى ولو أفقرته لَكَفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالقلة ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالسقم ولو أصححته لكفر، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا بالصحة ولو أسقمته لكفر». 37 - أتاني جبريل فقال: «يا محمد لولاك ما خُلِقت الجنة ولولاك ما خُلِقت النار». 38 - اتبع الطرق، ولو دارت، وخذ - أو تزوج - البكر، ولو بارت (¬1). 39 - أتَدْرُون أي أهل الإيمان أفضل إيمانا؟»، قالوا: «يا رسول الله الملائكة؟»، قال: «هم كذلك، ويحق ذلك لهم، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها؟ بل غيرهم»، قالوا: «يا رسول الله فالأنبياء الذين أكرمهم الله تعالى بالنبوة والرسالة؟»، قال: «هم كذلك ويحق لهم ذلك، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها؟ بل غيرهم». قلنا: «فمن هم يا رسول الله؟»، قال: «أقوام يأتون من بعدي في أصلاب الرجال فيؤمنون بي ولم يَرَوْني (¬2)، ويجدون الورق المعلق فيعملون بما فيه، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانًا». ¬

(¬1) عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله - رضي الله عنهما - قَالَ: «تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فِى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَلَقِيتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ؟». قُلْتُ: «نَعَمْ». قَالَ «بِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ». قُلْتُ: «ثَيِّبٌ». قَالَ «فَهَلاَّ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا». قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِى أَخَوَاتٍ فَخَشِيتُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُنَّ». قَالَ «فَذَاكَ إِذًا، إِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا وَمَالِهَا وَجَمَالِهَا فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». (رواه البخاري ومسلم). (¬2) وإنما يصح من هذا الحديث بعضه، وهو في حديث أَبِي جُمْعَةَ حَبِيبِ بْنِ سِبَاعٍ - رضي الله عنه - قال: «تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا، أَسْلَمْنَا مَعَكَ، وَجَاهَدْنَا مَعَكَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي». ... = = [قال الألباني في (السلسلة الضعيفة، رقم 649): «رواه الدارمي وأحمد والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي. وأقول: إسناد الدارمي وأحد إسنادي أحمد صحيح إن شاء الله تعالى»].

40 - أتدرون كم بين السماء والأرض؟» رُوِيَ عن عباس بن عبد المطلب قال كنا جلوسًا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالبطحاء فمرت سحابة فقال: «أتدرون ما هذا؟»، قلنا: «السحاب». قال: «والمزن». فقلنا: «والمزن». قال: «والعَنان». فسكتنا فقال: «أتدرون كم بين السماء والأرض؟»، قلنا: «الله ورسوله أعلم». قال: «بينهما مسيرة خمس مائة سنة، وبين كل سماء إلى سماء مسيرة خمس مائة سنة، وكشف كل سماء خمس مائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين رُكَبهن وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله تبارك وتعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء». 41 - أتدرين أي ليلة هذه؟»، رُوِيَ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من الليل فصلى فأطال السجود حتى ظننت أنه قد قبض فلما رأيت ذلك قمت حتى حركت إبهامه فتحركت فرجعت فسمعته يقول في سجوده: «أعوذ بعفوك من عقابك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك». فلما رفع رأسه من السجود وفرغ من صلاته قال: «يا عائشة! - أو يا حميراء - أظننت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد خاس بك؟». قلت: لا والله يا رسول الله! ولكني ظننت أنك قُبِضت لطول سجودك». فقال: «أتدرين أي ليلة هذه؟». قلت: «الله ورسوله أعلم». قال: «هذه ليلة النصف من شعبان، إن الله - عز وجل - يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويرحم المسترحمين، ويؤخر أهل الحقد كما هم».

42 - أتدرين ما حديث خرافة؟ إن خرافة كان رجلًا من بني عذرة فأصابته الجن فكان فيهم حينًا، فرجع إلى الإنس، فجعل يحدثهم بأشياء تكون في الجن، وبأعاجيب لا تكون في الإنس، فحدّث أن رجلًا من الجن كانت له أم، فأمرَتْهُ أن يتزوج، فقال: «إني أخشى أن يدخل عليك من ذلك مشقة أو بعض ما تكرهين، فلم تَزَلْ به حتى زوَّجَتْه، فتزوج امرأة لها أم، فكان يقسم لامرأته ولأمه، ليلة عند هذه، وليلة عند هذه، قال: وكانت ليلة امرأته، فكان عندها، وأمه وحدها، فسلم عليها مُسَلّمٌ، فردت السلام ثم قال: «هل من مبيت؟»، قالت: «نعم»، قال: «فهل من عشاء؟»، قالت: «نعم»، قال: «فهل من محدث يحدثنا؟»، قالت: «نعم، أرْسِلُ إلى ابني يحدثكم، قال: «فما هذه الخشفة التي نسمعها في دارك؟»، قالت: «هذه إبل وغنم»، قال أحدهما لصاحبه: «أعط متمنيا ما تمنى وإن كان خيرًا»، وقد ملئت دارها إبلًا وغنمًا، فرأت ابنها خبيث النفس فقالت: «ما شأنك؟ لعل امرأتك كلفتك أن تُحَوَّل إلى منزلي، وتحولني إلى منزلها؟»، قال: «نعم»، فقالت: «فنعم»، فتحولت إلى منزل امرأته، وتحولت امرأتُه إلى منزل أمه، فلبثا ثم أصاباها والفتى عند أمه، فسلما فلم تَرُدّ السلام، فقالا: «هل من مبيت؟»، قالت: «لا»، قالا: «فعشاء؟»، قالت: «ولا»، قالا: «فما إنسان يحدثنا؟»، قالت: «ولا»، قال: «فما هذه الخشفة التي نسمعها في دارك؟»، قالت: «سباع»، فقال أحدهما لصاحبه: «أعط متمنّيًا ما تمنى، وإن كان شرًّا»، فملئت عليها دارُها سباعًا، فأصبحوا وقد أكِلَتْ. 43 - أَتَدْرِينَ مَا خُرَافَةُ؟» روي عَنْ عَائِشَةَ سدد خطاكم قَالَتْ: «حَدَّثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نِسَاءَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَدِيثًا فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: «يَا رَسُولَ الله كَانَ الْحَدِيثُ حَدِيثَ خُرَافَةَ». فَقَالَ: «أَتَدْرِينَ مَا خُرَافَةُ؟ إِنَّ خُرَافَةَ كَانَ رَجُلًا مِنْ عُذْرَةَ أَسَرَتْهُ الْجِنُّ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَمَكَثَ فِيهِمْ دَهْرًا طَوِيلًا ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الإِنْسِ فَكَانَ يُحَدِّثُ النَّاسَ بِمَا رَأَى فِيهِمْ مِنَ الأَعَاجِيبِ فَقَالَ النَّاسُ: حَدِيثُ خُرَافَةَ».

44 - اتخَذَ الله إبراهيم خليلًا وموسى نجيًّا، واتخذني حبيبًا (¬1)، ثم قال: «وعزتي وجلالي لأوثِرَنَّ حبيبي على خليلي ونجيِّي». 45 - اتخِذوا عند الفقراء أيادٍ فإن لهم دولة يوم القيامة. 46 - أتَرِعُون (¬2) عن ذكر الفاجر؟ متى يعرفه الناس؟ اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس. 47 - اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرْ»، رُوِيَ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: نزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2 - 3)، في رجل من أشجع كان فقيرًا خفيف ذات اليد كثير العيال فأتى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فسأله فقال له: «اتق الله واصبر» فرجع إلى أصحابه فقالوا: «ما أعطاك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟»، فقال: «ما أعطاني شيئًا وقال لي: «اتق الله واصبر». فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء ابن له بغنم له كان العدو أصابوه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فسأله عنها وأخبره خبرها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلْها» فنزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2 - 3). 48 - اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرْ»، رُوِيَ عن سالم بن أبي الجعد {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2) قال: نزلت في رجل من أشجع جاء إلى النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو مجهود، فسأله فقال له النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرْ»، قال: «قد فعلت»، فأتى قومه، فقالوا: «ماذا قال لك؟»، قال: قال: «اتَّقِ اللهَ وَاصْبِرْ»، فقلت: قد فعلت حتى قال ذلك ثلاثًا»، فرجع فإذا هو بابنه كان أسيرًا في بني فلان من العرب، فجاء معه بأعنز فرجع إلى النبي ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهِ - تَعَالَى - قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا» (رواه مسلم). (¬2) (أَتَرِعُون) بفتح همزة الاستفهام والمثناة فوق وكسر الراء، أي أتتحرجون وتكفون وتتورعون.

- صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «إن ابني كان أسيرًا في بني فلان، وإنه جاء بأعنز هل تطيبُ لي يا رسول الله؟»، قال: «نعم». 49 - اتق شر من أحسنت إليه. 50 - اتقوا البرد فإنه قتل أخاكم أبا الدرداء. 51 - اتقوا ذوي العاهات. 52 - اتقوا غضب عمر؛ فإن الله يغضب اذا غضب. 53 - اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله. 54 - اتقوا مواضع التهم (¬1). 55 - أتَمْشِي أمام رجل ما اطلعت الشمس على حرمته، رُوِيَ عن جابر سدد خطاكم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى أبا الدرداء يمشي أمام أبي بكر فقال: «أتَمْشِي أمام رجل ما اطلعت الشمس على حرمته». 56 - أُتِيتُ بالبراق، فركبْتُ خلف جبريل - عليه السلام -، فسار بنا إذا ارتفع ارتفعت رجلاه، وإذا هبط ارتفعت يداه، فسار بنا في أرض غمة منتنة، حتى أفضينا إلى أرض فيحاء طيبة، فقلت: «يا جبريل! إنا كنا نسير في أرض غمة منتنة، ثم أفضينا إلى أرض فيحاء طيبة»، قال: «تلك أرض النار، وهذه أرض الجنة». فأتيت على رجل قائم يصلي، فقال: «من هذا معك يا جبريل؟» قال: «هذا أخوك محمد، فرحب بي، ودعا لي بالبركة، وقال: «سل لأمتك اليسر»، فقلت: «من هذا يا جبريل؟»، قال: ¬

(¬1) عَنْ عَلِىِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَىٍّ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مُعْتَكِفًا فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلًا فَحَدَّثْتُهُ ثُمَّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ فَقَامَ مَعِىَ لِيَقْلِبَنِى ـ وَكَانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ ـ فَمَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَسْرَعَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ». فَقَالاَ: «سُبْحَانَ اللهِ، يَا رَسُولَ الله». قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ في قُلُوبِكُمَا شَرًّا». أَوْ قَالَ: «شَيْئًا». (رواه البخاري ومسلم).

هذا أخوك عيسى بن مريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ»، فسِرْنَا، فسمعتُ صوتًا وتذمرًا، فأتينا على رجل، فقال: «من هذا يا جبريل؟»، قال: «هذا أخوك محمد»، فرحب بي ودعا لي بالبركة، وقال: «سَلْ لأمتك اليسر»، فقلت: «من هذا يا جبريل؟»، فقال: «هذا أخوك موسى»، قلت: «على من كان تذمره وصوته؟»، قال: «على ربه!»، قلت: «على ربه؟!»، قال: «نعم، قد عرف ذلك من حدته»، ثم سرنا، فرأينا مصابيح وضَوْء، قلت: «ما هذا يا جبريل؟»، قال: «هذه شجرة أبيك إبراهيم ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أتدنو منها؟»، قلت: «نعم»، فدنونا، فرحب بي، ودعا لي بالبركة، ثم مضينا حتى أتينا بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد، فنشرت لي الأنبياء، من سمى الله - عز وجل - منهم، ومن لم يُسَمّ، فصليتُ بهم إلا هؤلاء النفر الثلاثة: إبراهيم وموسى وعيسى، عليهم الصلاة والسلام» (¬1). 57 - اجتنبوا الكبر، فإن العبد لا يزال يتكبر حتى يقول الله: اكتبوا عبدي هذا من الجبارين (¬2). 58 - أجَدتَّ، لا يفضض الله فاك»، رُوِيَ عن يعلى بن الأشدق العقيلي قال حدثني نابغة بني جعدة قال: أنشدت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا الشعر، فأعجب به: ¬

(¬1) قال الحافظ ابن كثير في (تفسيره 3/ 16): «فيه من الغرائب سؤال الأنبياء عنه - عليه السلام - ابتداء، ثم سؤاله عنهم بعد انصرافه والمشهور في الصحاح ـ كما تقدم ـ أن جبريل كان يُعْلِمُه بهم أولًا ليسلم عليهم سلام معرفة، وفيه أنه اجتمع بالأنبياء - عليهم السلام - قبل دخوله المسجد الأقصى، والصحيح أنه إنما اجتمع بهم في السموات ثم نزل إلى بيت المقدس ثانيا وهم معه وصلى بهم فيه ثم أنه ركب البراق وكر راجعا إلى مكة». (¬2) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» قَالَ رَجُلٌ: «إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً»، قَالَ: «إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاس» (رواه مسلم). (بطر الحق) هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا، (غمط الناس) معناه احتقارهم.

بلغنا السَّمَاءَ مجدُنا وجُدُودُنَا ... وإنا لَنَبْغِي فوقَ ذلكَ مَظْهَرَا فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فأين المظهر يا أبا ليلى؟»، فقلت: «الجنَّة»، فقال: «قل إن شاء الله»، فقلت: «إن شاء الله». ولا خيرَ في حِلْمٍ إذا لم يكنْ لَهُ ... بَوَادرُ تحمي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا ولا خيرَ في جَهْلٍ إذا لم يكنْ لَهُ ... حليمٌ إذا ما أَوْرَدَ الأمرَ أَصْدَرَا فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أجَدْتَ، لا يفضض اللهُ فَاكَ»، قال: «فلقد رأيته، وقد أتت عليه مائة سنة أو نحوها، وما انفضَّ مِن فِيه سنٌ». 59 - أجدني يا جبريل مغمومًا وأجدني يا جبريل مكروبًا»، رُوِيَ عن علي بن الحسين قال: سمعت أبي يقول: «لما كان قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أتاه جبريل؛ فقال: يا محمد إن الله - عز وجل - أرسلني إليك إكرامًا لك وتفضيلًا لك وخاصة لك أسألك عما هو أعلم به منك، يقول: «كيف تَجِدُكَ؟»، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أجدني يا جبريل مغمومًا وأجدني يا جبريل مكروبًا»، فلما كان اليوم الثالث هبط جبريل؛ وهبط ملك الموت؛ وهبط معهما ملك في الهواء يقال له إسماعيل على سبعين ألف ملَك ليس فيهم ملَك إلا على سبعين ألف ملَك يشيّعُهم جبريل؛ فقال: «يا محمد، إن الله - عز وجل - أرسلني إليك إكرامًا لك وتفضيلا لك وخاصة لك، أسالك عما هو أعلم به منك، يقول: «كيف تَجِدُكَ؟» فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أجدني بداية يا جبريل مغمومًا وأجدني يا جبريل مكروبًا»، قال: فاستأذن ملك الموت على الباب، فقال جبريل: «يا محمد هذا ملَك الموت يستأذن عليك، وما استأذن على آدمي قبلك، ولا يستأذن على آدمي بعدك»، فقال: «ائذن له»، فأذن له جبريل فأقبل حتى وقف بين يديه فقال: «يا محمد، إن الله - عز وجل -أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك فيما أمرتني به، إن تأمرني أن أقبض نفسك قبضتُها، وإن كرِهْتَ تركْتُها»، قال: «وتفعل يا ملك الموت؟»، قال: «نعم، وبذلك أمِرْتُ أن أطيعك به»، فقال له جبريل؛: «إن الله - عز وجل - قد اشتاق إلى لقائك»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «امض لما أمِرْتَ به»، فقال له جبريل: «هذا آخر وطأتي في الأرض،

إنما كُنتَ حاجتي في الدنيا»، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جاءت التعزية جاء آتٍ يسمعون حِسَّه ولا يرَوْن شخصه، فقال: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت، إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفًا من كل هالك، ودركًا من كل فائت، فبالله فَثِقُوا، وإياه فارجوا؛ فان المُصاب من حُرم الثواب، والسلام عليكم ورحمة الله». 60 - أجرؤُكم عل الفتيا أجرؤُكم على النار. 61 - اجلس»، رُوِيَ عن عليٍّ سدد خطاكم قال انطلقت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - «اجلس»، فصعد على منكبي فذهبْتُ لأنهض به فرأى مني ضعفًا فنزل وجلس لي نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقال: «اصعد على منكبي»، فصعدتُ على منكبه، فنهض بي، فإنه تخيل لي أني لو شئتُ لَنِلْتُ أفق السماء حتى صعدتُ على البيت وعليه تمثال صُفْر (¬1) أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنتُ منه قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اقذِفْ به» فقذَفْتُ به فتكسر كما تنكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحدٌ من الناس. 62 - أحب الأسماء إلى الله ما تعبد به. 63 - أحب الأسماء إلى الله ما عُبِّدَ وحُمِّدَ (¬2). 64 - أحب البيوت إلى الله، بيت فيه يتيم مكرم. ¬

(¬1) الصُفْر: خليط من النُّحاس والزّنك (الخارصين)، ويُسمَّى النُّحاس الأصفر. (¬2) قال الألباني في (سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 411): «نقل ابن حزم الاتفاق على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد الكعبة، وأقره العلامة ابن القيم في (تحفة المودود)، وعليه فلا تحل التسمية بـ: = = عبد على وعبد الحسين كما هو مشهور عند الشيعة، ولا بـ: عبد النبي أو عبد الرسول كما يفعله بعض الجهلة من أهل السنة».

65 - أحب العباد إلى الله تعالى: الأتقياء الأخفياء (¬1)، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح العلم. 66 - أحب العمل إلى الله تعالى الحال المرتحل، الذي يضرب من أول القرآن إلى آخره، كلما حل ارتحل. 67 - أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي. 68 - أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي وكلام، أهل الجنة عربي. 69 - احترسوا من الناس بسوء الظن. 70 - أحدُ أبوي بلقيس كان جنيًّا. 71 - احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت. 72 - احذروا الشهو ة الخفية: الرجل يتعلم العلم يحب أن يجلس إليه. 73 - احضروا موتاكم، ولقنوهم لا إله إلا الله (¬2)، وبشروهم بالجنة، فإن الحليم من الرجال والنساء يتحيرون عند ذلك المصرع، وإن الشيطان لأقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع، والذي نفسي بيده؛ لمعاينة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف، والذي نفسي بيده؛ لا تخرج نفس عبد من الدنيا حتى يألم كل عرق منه على حياله. 74 - أحقا أَنَا أَصَبْتُكَ»، رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عن عمر قَالَ: «رَغِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ فِي الْجِهَادِ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ حَتَّى غَمُّوهُ وَفِي يَدِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَرِيدَةٌ قَدْ نَزَعَ سلاؤها وَبَقِيَتْ سلاءة لم يفطن بها وقال: «تأخروا عَنِّي هَكَذَا فَقَدْ غَمَمْتُمُوني»، فَأَصَابَ النَّبِيُّ بَطْنَ رَجُلٍ فَأَدْمَى الرَّجُلُ فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: «هَذَا فِعْلُ نَبِيِّكَ فَكَيْفَ بِالنَّاسِ»، فَسَمِعَهُ ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ» (رواه مسلم). (¬2) عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ - رضي الله عنه - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله». (رواه مسلم).

عُمَرُ سدد خطاكم فَقَالَ لَهُ: «انْطَلِقْ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنْ هُوَ أَصَابَكَ فَسَوْفَ يُعْطِيكَ الْحَقَّ، وَإِنْ كُنْتَ كذبتَ لأرعبنك بمعاملتك حَتَّى تُحَدِّثَ». فَقَالَ الرَّجُلُ: «انْطَلِقْ بِسَلَامٍ فَلَسْتُ أُرِيدُ أَنْ أَنْطَلِقَ مَعَكَ»، قَالَ: «مَا أَنَا بوداعك»، فَانْطَلَقَ بِهِ عُمَرُ سدد خطاكم حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّكَ أَصَبْتَهُ وَدَمَّيْتَ بَطْنَهُ، فَمَا تَرَيْ؟» فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أحقا أَنَا أَصَبْتُكَ»، قَالَ الرَّجُلُ: «نَعَمْ يَا نَبِيَّ اللهِ»، قَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هَلْ رَأَى ذَلِكَ أَحَدٌ؟»، قَالَ: «قَدْ كَانَ ههنا نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ»، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُ شَهَادَةَ رَجُلٍ رَأَى ذَلِكَ إِلَّا أخبرني»، فقال ناس مِنَ الْمُسْلِمِينَ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَنْتَ دميته ولم تُرِدْه»، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خذ لِمَا أصبت مَالًا وَانْطَلِقْ» فَقَالَ: «لا»، قال: «فهَبْ لي ذلك»، قال: «لَا أَفْعَلُ»، فَقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَتُرِيدُ مَاذَا؟»، قال: «أريد أن أَسْتَقِيدُ مِنْكَ يَا نَبِيَّ اللهِ»، فَقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «نَعَمْ»، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: «اخْرُجْ مِنْ وَسَطِ هَؤُلَاءِ»، فَخَرَجَ مِنْ وَسَطِهِمْ وَأَمْكَنَ الرَّجُلَ مِنَ الْجَرِيدَةِ يستَقِد مِنْهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَكَشَفَ عَنْ بَطْنِهِ وَجَاءَ عُمَرُ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِيُمْسِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ خَلْفِهِ فَقَالَ: «عَثَرْتَ بِنَعْلِكَ وَانْكَسَرَتْ أَسْنَانُكَ»، فَلَمَّا دَنَا الرَّجُلُ لِيَطْعَنَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَلْقَى الْجَرِيدَةَ وَقَبَّلَ سُرَّتَهُ وَقَالَ: «يَا نَبِيَّ اللهِ هَذَا الَّذِي أَرَدْتُ، يُقْمَعَ الْجَبَّارُونَ مِنْ بَعْدِكَ»، فَقَالَ عُمَرُ سدد خطاكم: «لَأَنْتَ أَوْثَقُ عَمَلًا مِنِّي». 75 - أخاف على أمتي ثلاثًا: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، والتكذيب بالقدر. 76 - أخبرني جبريل: أن الله - عز وجل - بعثه إلى أمنا حواء حين دميت فنادت ربها: جاء مني دم لا أعرفه فناداها: لأدمينك وذريتك ولأجعلنه لك كفارة وطهورًا. 77 - اختلاف أمتي رحمة. 78 - اخرج عدو الله» (¬1)، رُوِي عن أُم أبان بنت الوازع عن أبيها أنَّ جدها الزارع انطلق إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فانطلق معه بابن له مجنون أو ابن أخت له، قال جدي: فلما ¬

(¬1) أخرج الحاكم عن المنهال بن عمرو عن يعلى بن مرة عن أبيه قال:. . . وأتته (أي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -) امرأة فقالت: إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أدْنِيهِ»، فأدْنَتْهُ منه، فتفل في فيه وقال: «اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ؛ أنَا رَسُولُ اللهِ»، ثم قال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إذَا رَجَعْنَا فَأَعْلِمِينَا مَا صَنَعَ». فلما رجع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - استقبلَتْه ومعها كبشان وأقط وسمن، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خُذْ هَذَا الْكَبْشَ، فَاتَّخِذْ مِنْهُ مَا أَرَدْتَ»، فقالت: «وَالّذِي أَكْرَمَكَ مَا رَأَيْنَا بِهِ شَيْئًا مُنْذُ فَارَقْتَنَا». (رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وصححه الذهبي، وجوده الألباني). وعن أَبِى عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِى الْعَاصِ قَالَ لَمَّا اسْتَعْمَلَنِى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الطَّائِفِ جَعَلَ يَعْرِضُ لِى شَىْءٌ فِى صَلاَتِى حَتَّى مَا أَدْرِى مَا أُصَلِّى فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ رَحَلْتُ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ «ابْنُ أَبِى الْعَاصِ؟». قُلْتُ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ الله». قَالَ: «مَا جَاءَ بِكَ؟». قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ عَرَضَ لِى شَىْءٌ فِى صَلاَتِى حَتَّى مَا أَدْرِى مَا أُصَلِّى». قَالَ: «ذَاكَ الشَّيْطَانُ؛ ادْنُهْ». فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَجَلَسْتُ عَلَى صُدُورِ قَدَمَىَّ. فَضَرَبَ صَدْرِى بِيَدِهِ وَتَفَلَ فِى فَمِى وَقَالَ: «اخْرُجْ عَدُوَّ اللهِ». فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ قَالَ: «الْحَقْ بِعَمَلِكَ». (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة قلت: يا رسول الله، إنَّ معي ابنًا لي أو ابن أخت لي مجنون أتيتك به تدعو الله - عز وجل - له، فقال: «ائتني به». فانطلقتُ به إليه، وهو في الركاب، فأطلقت عنه وألقيت عنه ثياب السفر وألبسته ثوبين حسنين، وأخذت بيده حتى انتهيت به إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «ادْنُهُ مِني، اجْعَلْ ظَهْرَهُ مِمَّا يَليني». قال: فأخذ بمجامع ثوبه من أعلاه وأسفله، فجعل يضرب ظَهْرَهُ (¬1) حتّى رأيت بياض إبطيه وهو يقول: «اخرج عدو الله». فأقبل ينظر نظر الصحيح ليس بنظره الأول، ثم أقعده ¬

(¬1) قال الشيخ علي حشيش: «استنبط بعضهم من هذه القصة الواهية دليلًا واهيًا على ضرب المرضى والمجانين. وهذا الاستنباط كان له أثره السيئ، حيث تمادى المعالجون ومنهم جهلة قاصرون فاعتبروا كل الأمراض تَلَبُّسًا من الجان، واعتبروا أنفع الوسائل هي الضرب المبرح أو الخنق أو إيذاء المريض بحجة أنه يؤذي الجن المتلبس، وقد حدثت مآسٍ بل حالات قتل ـ ما لها اسم سوى القتل وسوى إزهاق النفس التي حرم الله بغير حق ـ فيا ويل هؤلاء القتلة من إثم هذا القتل. ... = = وعندما سُئل الشيخ الألباني - رحمه الله - في فتاويه المسجلة عن التعامل مع الجن وسؤال الجن هل أنت مسلم؟ هل أنت نصراني؟ أجاب قائلًا: «التعامل مع الجن ضلالة عصرية ولا يجوز لمسلم أن يزيد على الرقية الشرعية كما هي ثابتة في الكتاب والسنة وأدعية الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -». (تحذير الداعية من القصص الواهية الحلقة 55).

رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بين يديه، فدعا له بماء، فمسح وجهه ودعا له، فلم يكن في الوفد أحد بعد دعوة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يفضل عليه». 79 - أخِّرُوهُنَّ من حيث أخَّرَهُنَّ الله ـ يعني النساء. 80 - اخشوشنوا وتمعددوا (¬1) واجعلوا الرأس رأسين وإياكم وزي الأعاجم. 81 - أخفوا الختان. 82 - أخلص دينك يَكْفِكَ القليل من العمل. 83 - اخلعوا نعالكم عند الطعام، فإنها سنة جميلة. 84 - أدّ ما افترض الله عليك تكن من أعبد الناس، واجتنب ما حرم الله عليك تكن من أورع الناس، وارض بما قسم الله لك تكن من أغنى الناس (¬2). 85 - أدَّبني ربي، فأحسن تأديبي (¬3). 86 - أدخل رجل في قبره، فأتاه ملَكان، فقالا له: «إنا ضاربوك ضربة»، فقال لهما: «على ما تضرباني؟»، فضرباه ضربة امتلأ قبره منها نارًا، فتركاه حتى أفاق، ¬

(¬1) اخْشَوْشَن: إذا لبس الخَشِنَ، وتمعددوا أي تشبهوا بعيش مَعَدّ بن عدنان، وكانوا أَهل قَشَف وغِلَظ في المَعاش أي فكونوا مثلهم ودَعُوا التَّنَعُّمَ وزِيَّ العجم. (¬2) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ»، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: «أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ»، فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وَقَالَ: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). (¬3) نقل الألباني في (السلسلة الضعيفة، رقم 72) «قول ابن تيمية: «معناه صحيح، ولكن لا يعرف له إسناد ثابت».

وذهب عنه الرعب، فقال لهما: «على ما ضربتماني؟»، فقالا: «إنك صليت صلاة وأنت على غير طهور، ومررت برجل مظلوم ولم تنصره». 87 - ادرءوا الحدود بالشبهات، وأقيلوا الكرام عثراتهم إلا في حد من حدود الله تعالى. 88 - ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخَلُّوا سبيله؛ فإن الإمام أنْ يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة. 89 - ادفع الشك باليقين (¬1). 90 - ادفنوا الأظفار والدم والشعر، فإنه ميتة. 91 - ادفنوا دماءكم وأشعاركم وأظفاركم؛ لا تلعب بها السحرة. 92 - ادفنوا موتاكم وسط قوم صالحين؛ فإن الميت يتأذى بجار السوء كما يتأذى الحي بجار السوء. 93 - إذا ابتغيتم المعروف فابتغوه في حسان الوجوه، فو الله لا يلج النار إلا بخيل، ولا يلج الجنة شحيح، إن السخاء شجرة في الجنة تسمى السخاء، وإن الشح شجرة في النار تسمى الشح. 94 - إذا أبغضتم إخوانكم فتجنبوهم. 95 - إذا اتخذ الفيء دولًا، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها؛ فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراء وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفًا وآيات تتابع كنظام لآل قطع سلكه فتتابع. ¬

(¬1) يُغْنِي عنه حديث «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

96 - إذا أتى أحدكم أهله فليستتر، فإنه إذا لم يستتر استحيت الملائكة وخرجت، وحضر الشيطان، فإذا كان بينهما ولد كان للشيطان فيه شريك. 97 - إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ولا يتجردان تجرد العيرَيْن. 98 - إذا أتى علَيَّ يومٌ لم أزدد فيه علما يقربني إلى الله تعالى فلا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم. 99 - إذا أحب أحدُكم أن يُحَدِّثَ ربَّه فليقرأْ القرآنَ. 100 - إذا اجتمع العالم والعابد على الصراط قيل للعابد: «ادخل الجنة وتنعم بعبادتك»، وقيل للعالم: «قف هنا فاشفع لمن أحببتَ؛ فإنك لا تشفع لأحد إلا شفعت؛ فقام مقام الأنبياء. 101 - إذا أحسن الرجل الصلاة فأتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة: «حفظك الله كما حفظتني»، فترفع، وإذا أساء الصلاة فلم يتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة: «ضيعك الله كما ضيعتني»، فتُلَفّ كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه. 102 - إذا أخذ أحدكم مضجعه ليرقد فليقرأ بأم الكتاب وسورة فإن الله يوكل به ملكًا يهبّ معه إذا هبّ. 103 - إذا أخذت مضجعك فاقرأ سورة الحشر، إن متَّ متَّ شهيدًا. 104 - إذا أراد الله بعبد خيرًا عاتبه في منامه. 105 - إذا أراد الله بعبد خيرًا فتح له قفل قلبه، وجعل فيه اليقين، وجعل قلبه وعاءً واعيًا لما سلك فيه، وجعل قلبه سليمًا، ولسانه صادقًا، وخليقته مستقيمة، وجعل أذنه سميعة، وعينه بصيرة. 106 - إذا أراد الله بقوم قحطًا نادى منادٍ من السماء: يا أمعاء اتسعي، ويا عين لا تشبعي، ويا بركة ارتفعي. 107 - إذا أردت أن تذكر عيوب غيرك فاذكر عيوب نفسك.

108 - إذا استصعبت على أحدكم دابته أو ساء خلق زوجته أو أحد من أهل بيته فليؤذن في أذنه. 109 - إذا استقر أهل الجنة في الجنة اشتاق الإخوان بعضهم إلى بعض فيسير سرير ذا إلى سرير ذا، وسرير ذا إلى سرير ذا، حتى يلتقيا فيتكئ ذا ويتكئ ذا فيتحدثان ما كان بينهما في دار الدنيا، فيقول: «يا أخي تذكر يوم كذا في دار الدنيا في مجلس كذا؟ فدعونا الله - عز وجل - فغفر لنا». 110 - إذا اشتهى مريض أحدكم شيئا فليطعمه. 111 - إذا أصبحت، فقل: «اللهم أنت ربي لا شريك لك، أصبحت وأصبح الملك لله، لا شريك له» ثلاث مرات، وإذا أمسيت، فقل مثل ذلك، فإنهن يكفرن ما بينهن. 112 - إذا أضل أحدكم شيئًا، أو أراد أحدكم غوثًا، وهو بأرض ليس بها أنيس فليقل: «يا عباد الله أغيثوني، يا عباد الله أغيثوني»، فإن لله عبادًا لا نراهم. 113 - إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا: «اللهم اجعلها مغنمًا، ولا تجعلها مغرمًا». 114 - إذا اغتاب أحدكم أخاه فليستغفر الله له فإنها كفارة له. 115 - إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدي له، أو حمله على الدابة، فلا يركبها، ولا يقبله إلا أن يكون جري بينه وبينه قبل ذلك (¬1). 116 - إذا أكلتم فاخلعوا نعالكم، فإنه أروح لأقدامكم. ¬

(¬1) إن هذا الحديث مع ضعف إسناده يعارضه حديث أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - سِنٌّ مِنَ الإِبِلِ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَعْطُوهُ». فَطَلَبُوا سَِهُ، فَلَمْ يَجِدُوا لَهُ إِلاَّ سِنًّا فَوْقَهَا، فَقَالَ: = = «أَعْطُوهُ». فَقَالَ: «أَوْفَيْتَنِى، وَفَّى اللهُ بِكَ». قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً». (رواه البخاري ومسلم). وأحاديث زيادته - صلى الله عليه وآله وسلم - في الوفاء وحثه على ذلك كثيرة مستفيضة. (انظر: السلسلة الضعيفة للألباني رقم 1162).

117 - إذا التقى المؤمنان فتصافحا نزَلَت عليهما مائة رحمة , تسع وتسعون رحمة للأول وواحدة للثاني. 118 - إذا التقى المؤمنان فتصافحا نزَلَت عليهما مائة رحمة، تسعون لأشدهما فرحًا وبِشْرًا لصاحبه وعشرة للآخر. 119 - إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله - عزّ وجلَّ - واستغفراه غُفِرَ لهما (¬1). 120 - إذا انتهى أحدكم إلى الصف وقد تم فليجبذ إليه رجلًا يقيمه إلى جنبه. 121 - إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد: «يا عباد الله احبسوا علي، يا عباد الله احبسوا علي»، فإن لله في الأرض حاضرًا سيحبسه عليكم. 122 - إذا أوقف الله العباد نادى مناد: «ليَقُمْ مَن أجره على الله فليدخل الجنة»، قيل: «من ذا الذي أجره على الله»، قال: «العافون عن الناس»، فقام كذا وكذا ألفًا فدخلوا الجنة بغير حساب. 123 - إذا أويت إلى فراشك، فقل: «الحمد لله الذي مَنَّ عَلَيَّ وأفضلَ، الحمد لله رب العالمين، رب كل شيء، وإله كل شيء، أعوذ بك من النار». 124 - إذا أويت إلى فراشك، فقل: «اللهم رب السموات وما أظلت. . .». رُوِيَ عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: شكا خالد بن الوليد بن المغيرة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: يا رسول الله، ما أنام الليل من الأرق، فقال نبي الله: «إذا أويت إلى فراشك، فقل: اللهم رب السموات وما أظلت، والأرضين وما أقَلّتْ، والشياطين وما أضَلّتْ، كن لي جارًا ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

من شر خلقك كلهم جميعا، أن يفرط عليَّ أحد منهم أو يبغي، عَزّ جارك، وجَل ثناؤك، ولا إله غيرك» (¬1). 125 - إذا أويت إلى فراشك قل: «باسمك الله وضعت جنبي، وطهر قلبي، وطيب كسبي، واغفر ذنبي» (¬2). 126 - إذا بنى الرجل المسلم سبعة أو تسعة أذرع، ناداه مناد من السماء: «أين تذهب يا أفسق الفاسقين؟!». ¬

(¬1) عن محمد بن المنكدر قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فشكا إليه أهاويل يراها في المنام فقال: «إذَا أوَيْتَ إلَى فِرَاشِكَ فَقُلْ: «أعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ، مِنْ غَضَبِه وَعِقَابِهِ، وَمِنْ شَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَنْ يَحْضُرُون». (أخرجه ابن السني وحسنه الألباني). (¬2) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا أَوَى أَحَدُكُمْ إِلَى فِرَاشِهِ فَلْيَنْفُضْ فِرَاشَهُ بِدَاخِلَةِ إِزَارِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُ بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِى، وَبِكَ أَرْفَعُهُ، إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِى فَارْحَمْهَا، وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ». (رواه البخاري). قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: قَوْله (فَلْيَنْفُضْ فِرَاشه بِدَاخِلَةِ إِزَاره): الْمُرَاد بِالدَّاخِلَةِ طَرَف الْإِزَار الَّذِي يَلِي الْجَسَد، قَالَ مَالِك: «دَاخِلَة الْإِزَار مَا يَلِي دَاخِل الْجَسَد مِنْهُ». . . وَقَالَ عِيَاض: «دَاخِلَة الْإِزَار فِي هَذَا الْحَدِيث طَرَفه». . . قَوْله (فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مَا خَلَفَهُ عَلَيْهِ) أَيْ حَدَثَ بَعْده فِيهِ. . . قَالَ الطِّيبِيُّ: مَعْنَاهُ لَا يَدْرِي مَا وَقَعَ فِي فِرَاشه بَعْدَمَا خَرَجَ مِنْهُ مِنْ تُرَاب أَوْ قَذَاة أَوْ هَوَامّ». اهـ. وعَنْ أَبِى الأَزْهَرِ الأَنْمَارِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ إِذَا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ: «بِسْمِ الله وَضَعْتُ جَنْبِى اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى وَأَخْسِئْ شَيْطَانِى وَفُكَّ رِهَانِى وَاجْعَلْنِى فِى النَّدِىِّ الأَعْلَى». (رواه أبو داود وصححه الألباني). قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ: «(وَأَخْسِئْ): أَيْ أَبْعِدْ وَاطْرُدْ (شَيْطَانِي): قَالَ الطِّيبِيُّ: إِضَافَة إِلَى نَفْسه لِأَنَّهُ أَرَادَ قَرِينه مِنْ الْجِنّ أَوْ مَنْ قَصَدَ إِغْوَاءَهُ مِنْ شَيَاطِين الْإِنْس وَالْجِنّ (وَفُكَّ رِهَانِي): أَيْ خَلِّصْ رَقَبَتِي عَنْ كُلّ حَقٍّ عَلَيَّ وَالرِّهَان الرَّهْن، وَهُوَ مَا يُوضَع وَثِيقَة لِلدَّيْنِ، وَالْمُرَاد هَا هُنَا نَفْس الْإِنْسَان لِأَنَّهَا مَرْهُونَة بِعَمَلِهَا لِقَوْلِهِ تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (الطور: 21)، وَفَكُّ الرَّهْن تَخْلِيصه مِنْ يَد الْمُرْتَهِن (فِي النَّدِيّ الْأَعْلَى) النَّدِيّ هُوَ النَّادِي وَهُوَ الْمَجْلِس الْمُجْتَمِع، وَالْمَعْنَى اِجْعَلْنِي مِنْ الْمُجْتَمِعِينَ فِي الْمَلَأ الْأَعْلَى مِنْ الْمَلَائِكَة».

127 - إذا تاب العبد من ذنوبه أنسى الله الحفظة ذنوبه وأنسى ذلك جوارحه ومقامه من الأرض حتى يلقى الله يوم القيامة، وليس عليه شاهد من الله بذنب. 128 - إذا تأنّيْتَ أصبت، أو كِدتَّ تصيب، وإذا استعجلت، أخطأت، أو كِدتَّ تخطئ. 129 - إذا تثاءب أحدكم، فليضع يده على فيه، ولا يعوي؛ فإن الشيطان يضحك منه (¬1). ¬

(¬1) موضوع بهذا اللفظ، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ؛ فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللهَ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: «يَرْحَمُكَ اللهُ»، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ» (رواه البخاري). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ» (رواه مسلم). وعَنْ ابْنِ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ عَلَى فِيهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ» (رواه أبو داود وصححه الألباني). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَقُلْ هَاهْ هَاهْ فَإِنَّمَا ذَلِكُمْ مِنْ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ مِنْهُ» (رواه أبو داود وصححه الألباني). قال النووي في شرحه لصحيح مسلم: «قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (التَّثَاؤُب مِنْ الشَّيْطَان) أَيْ مِنْ كَسَله وَتَسَبُّبه، وَقِيلَ: أُضِيفَ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ يُرْضِيه. وَفِي الْبُخَارِيّ أَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللهَ ـ تَعَالَى ـ يُحِبّ الْعُطَاس، وَيَكْرَه التَّثَاؤُب»، قَالُوا: لِأَنَّ الْعُطَاس يَدُلّ عَلَى النَّشَاط وَخِفَّة الْبَدَن، وَالتَّثَاؤُب بِخِلَافِهِ لِأَنَّهُ يَكُون غَالِبًا مَعَ ثِقَل الْبَدَن وَامْتِلَائِهِ، وَاسْتِرْخَائِهِ وَمَيْله إِلَى الْكَسَل. وَإِضَافَته إِلَى الشَّيْطَان لِأَنَّهُ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الشَّهَوَات. وَالْمُرَاد التَّحْذِير مِنْ السَّبَب الَّذِي يَتَوَلَّد مِنْهُ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّوَسُّع فِي الْمَأْكَل وَإِكْثَار الْأَكْل. قَالَ الْعُلَمَاء: أُمِرَ بِكَظْمِ التَّثَاوُب وَرَدّه وَوَضْع الْيَد عَلَى الْفَم لِئَلَّا يَبْلُغ الشَّيْطَان مُرَاده مِنْ تَشْوِيه صُورَته، وَدُخُوله فَمه، وَضَحِكَهُ مِنْهُ. وَاللهُ أَعْلَم». ... = = قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: «. . . يَضْحَك مِنْهُ، لِأَنَّهُ صَيَّرَهُ مَلْعَبَة لَهُ بِتَشْوِيهِ خَلْقه فِي تِلْكَ الْحَالَة. وَأَمَّا قَوْله فِي رِوَايَة مُسْلِم: «فَإِنَّ الشَّيْطَان يَدْخُل»، فَيَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِهِ الدُّخُول حَقِيقَة، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ يَجْرِي مِنْ الْإِنْسَان مَجْرَى الدَّم لَكِنَّهُ لَا يَتَمَكَّن مِنْهُ مَا دَامَ ذَاكِرًا لِلهِ تَعَالَى، وَالْمُتَثَائِب فِي تِلْكَ الْحَالَة غَيْر ذَاكِر فَيَتَمَكَّن الشَّيْطَان مِنْ الدُّخُول فِيهِ حَقِيقَة. وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَطْلَقَ الدُّخُول وَأَرَادَ التَّمَكُّن مِنْهُ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْن مَنْ دَخَلَ فِي شَيْء أَنْ يَكُون مُتَمَكِّنًا مِنْهُ. وَأَمَّا الْأَمْر بِوَضْعِ الْيَد عَلَى الْفَم فَيَتَنَاوَل مَا إِذَا اِنْفَتَحَ بِالتَّثَاؤُبِ فَيُغَطَّى بِالْكَفِّ وَنَحْوه وَمَا إِذَا كَانَ مُنْطَبِقًا حِفْظًا لَهُ عَنْ الِانْفِتَاح بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَفِي مَعْنَى وَضْع الْيَد عَلَى الْفَم وَضْع الثَّوْب وَنَحْوه مِمَّا يَحْصُل ذَلِكَ الْمَقْصُود، وَإِنَّمَا تَتَعَيَّن الْيَد إِذَا لَمْ يَرْتَدّ التَّثَاؤُب بِدُونِهَا».

130 - إذا جاء القضاء ذهب البصر. 131 - إذا جامع أحدكم فلا ينظر إلى الفرج فإنه يورث العمى. 132 - إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته فلا ينظر إلى فرجها، فإن ذلك يورث العمى، ولا يكثر الكلام فإنه يورث الخرس. 133 - إذا جزت يا معاذ أرض الحصيب ـ يعني من اليمن ـ فهرْوِلْ فإن بها الحور العين. 134 - إذا حج الرجل بمال من غير حله فقال: «لبيك اللهم لبيك»، قال الله: «لا لبيك ولا سعديك هذا مردود عليك». 135 - إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا. 136 - إذا حضرت الملائكة هربت الشياطين (¬1). 137 - إذا خرج أحدكم من الخلاء فليقل: «الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأمسك عليَّ ما ينفعني». ¬

(¬1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا شَتَمَ أَبَا بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَالِسٌ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَامَ، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، غَضِبْتَ وَقُمْتَ»، قَالَ: «إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدْتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ، وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لِأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ»، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ: مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا لِلهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِلَّا أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ، يُرِيدُ بِهَا صِلَةً، إِلَّا زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ، يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً، إِلَّا زَادَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا قِلَّةً» (رواه الإمام أحمد وحسنه الأرنؤوط).

138 - إذا خرج من دبر الإنسان ريح، وهو بالمسجد يتلقاه مَلَكٌ بفمه، ويخرج به إلى خارج المسجد، فإذا تَفَوَّهَ به مات الملَك. 139 - إذا خرجت من منزلك فَصَلِّ ركعتين يمنعانك مخرج السوء، وإذا دخلت إلى منزلك فَصَلِّ ركعتين يمنعانك مدخل السوء. 140 - إذا خطب أحدكم المرأة، فَلْيَسْألْ عن شعرها، كما يسأل عن جمالها، فإن الشعر أحد الجمالين. 141 - إذا دخل أحدكم المسجد والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام، حتى يفرغ الإمام. 142 - إذا دخل أحدكم بيته فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله جاعل له من ركعتيه في بيته خيرًا. 143 - إذا دخل الرجل على أخيه فهو أمير عليه حتى يخرج من عنده. 144 - إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: «فهل لذلك إمارة يعرف بها؟» قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتنحي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل الموت». 145 - إذا دخل قوم منزل رجل كان رب المنزل أمير القوم حتى يخرجوا من منزله، طاعته عليهم واجبة. 146 - إذا دخلت على مريض فمُرْهُ أن يدعو لك، فإن دعاءه كدعاء الملائكة. 147 - إذا ذلت العرب ذل الإسلام. 148 - إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم، فقد تُوُدّع منهم (¬1). ¬

(¬1) (تُوُدِّع منهم) أي استوى وجودهم وعدمهم. وقيل: تُوُدِّعَ منهم أَي أُهْمِلو وتُرِكوا وما يَرْتَكِبونَ من المَعاصي حتى يُكثِروا منها ولم يهدوا لرشدهم حتى يستوجبوا العقوبة فيعاقبهم الله.

149 - إذا رأيت كلما طلبت شيئًا من أمر الآخرة وابتغيته يُسِّرَ لك، وإذا أردت شيئًا من أمر الدنيا وابتغيته عُسِّر عليك، فاعلم أنك على حال حسنة، وإذا رأيت كلما طلبت شيئًا من أمر الآخرة وابتغيته عُسِّر عليك وإذا طلبت شيئًا من أمر الدنيا وابتغيته يُسِّر لك فأنت على حال قبيحة. 150 - إذا رأيتم الحريق فكبروا فإن التكبير يطفئه. 151 - إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان فأْتُوها فإن فيها خليفة الله المهدي. 152 - إذا رأيتم الرجل أصفر الوجه من غير مرض ولا علة فذلك من غش للإسلام في قلبه. 153 - إذَا رَأيتُمُ الرَّجُلَ يَعتادُ المساجدَ، فاشْهَدُوا لَهُ بِالإيِمانِ. 154 - إذا رأيته أخذتك قشعريرة» رُوِيَ عن ابن عبد الله بن أنيس عن أبيه قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى خالد بن سفيان بن نبيح الهذلي وبلغه أنه يجمع له وكان بين عرنة وعرفات قال لي: «اذهب فاقتله»، قال: قلت يا رسول الله: «صفه لي»، قال: إذا رأيته أخذتك قشعريرة لا عليك أن لا أصف لك منه غير هذا»، قال: «وكان»، قال: انطلقت حتى إذا دنوت منه حضرت الصلاة صلاة العصر قال: قلت: إني لأخاف أن يكون بيني ما أن أؤخر الصلاة فصليت وأنا أمشي أومئ إيماء نحوه ثم انتهيت إليه فوالله ما عدا أن رأيته اقشعررت وإذا هو في ظعن له - أي في نسائه - فمشيت معه فقال: «من أنت؟»، قلت: «رجل من العرب بلغني أنك تجمع لهذا الرجل فجئتك في ذاك»، فقال: «إني لفي ذاك»، قال: قلت في نفسي: ستعلم. قال: فمشيت معه ساعة حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد ثم قدمت المدينة على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبرته الخبر فأعطاني مخصرًا - يقول عصا - فخرجت به من عنده فقال لي أصحابي: ما هذا الذي أعطاكه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قال قلت: مخصرًا

قالوا: وما تصنع به؟ ألا سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم أعطاك هذا وما تصنع به؟ عُدْ إليه فاسألْه قال: فعدتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقلت: «يا رسول الله: المخصر أعطيتنيه لماذا؟»، قال: «إنه بيني وبينك يوم القيامة، وأقل الناس يومئذ المختصرون»، قال: فعلقها في سيفه لا يفارقه فلم يفارقه ما كان حيًّا، فلما حضرته الوفاة أمرنا أن ندفن معه قال: فجعلت والله في كفنه». 155 - إذا رجع أحدكم من سفره، فليرجع إلى أهله بهدية، وإن لم يجد إلا أن يلقي في مخلاته حجَرًا أو حزمة حطب، فإن ذلك مما يعجبهم. 156 - إذا رعف أحدكم في صلاته فلينصرف فليغسل عنه الدم ثم ليُعِدْ وضوءه وليستقبل صلاته. 157 - إذا رفع العبد يديه للسماء وهو عاصٍ فيقول: «يارب»، فتحجب الملائكة صوته فيكررها: «يارب»، فتحجب الملائكة صوته فيكررها: «يارب»، فتحجب الملائكة صوته فيكررها فى الرابعة فيقول الله - عز وجل -: «الى متى تحجبون صوت عبدي عني؟ لبيك عبدى، لبيك عبدى، لبيك عبدى، لبيك عبدى». 158 - إذا سجدتما فَضُمَّا بعض اللحم إلى الأرض»، روي عن يزيد ابن أبي حبيب: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مر على امرأتين تصليان فقال: «إذا سجدتما فضُمَّا بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل». 159 - إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله فإنه لا يصيب ذاكرًا. 160 - إذا سمعتم الرعد فسبحوا ولا تكبروا. 161 - إذا سمعتم المؤذن أذن فقولوا: «اللهم افتح أقفال قلوبنا لذكرك، وأتمم علينا نعمتك وفضلك، واجعلنا عليها من عبادك الصالحين». 162 - إذا سمعتم بجبل زال عن مكانه فصدقوا، وإذا سمعتم برجل تغير عن خلقه فلا تصدقوا به، وإنه يصير إلى ما جبل عليه.

163 - إذا شربتم الماء فاشربوه مصًا ولا تشربوه عبًّا، فإن العب يورث الكباد (¬1). 164 - إذا شربتم فاشربوا مصًا، وإذا استكتم فاستاكوا عرضًا. 165 - إذا صدقت المحبة سقطت شروط الأدب. 166 - إذا صعد الخطيب المنبر فلا صلاة ولا كلام. 167 - إذا صلى أحدكم فليصل صلاة مودع، صلاة من لا يظن أنه يرجع إليها أبدًا. 168 - إذا صليت الصبح فَقُلْ قبل أن تكلم أحدًا من الناس: «اللهم أجِرْني من النار» سبع مرات؛ فإنك إن مت من يومك ذلك كتب الله لك جوارًا من النار، وإذا صليت المغرب فقل قبل أن تكلم أحدًا من الناس: «اللهم أجِرْني من النار» سبع مرات؛ فإنك إن مت من ليلتك كتب الله لك جوارًا من النار». 169 - إذا صليتم الفجر فلا تناموا عن طلب أرزاقكم. 170 - إذا صليتم فعمموا. 171 - إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي إلا كان نورًا بين عينيه يوم القيامة. 172 - إذا طنت أذن أحدكم فليذكرني وليصل علي وليقل: «ذكر الله من ذكرني بخير». 173 - إذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا تطيرتم فامضوا، وعلى الله فتوكلوا، وإذا وزنتم فأرجحوا. 174 - إذا عركت (¬2) المرأة لم يحل أن تُظهِر إلا وجهها وإلا ما دون هذا»، رُوِيَ عن عائشة - رضي الله عنه - قالت: دَخَلَتْ عَلَيَّ ابنة أخي لأمي عبد الله بن الطفيل مُزَيَّنة، فدخل النبي ¬

(¬1) (عبًّا): في دفعة واحدة بلا تنفس، (يورث الكباد) أي يتولد منه وجع الكبد. وعن أنس - صلى الله عليه وآله وسلم - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَتَنَفَّسُ في الشَّرابِ ثَلاثًا (رواه البخاري ومسلم). يعني: يتنفس خارجَ الإناءِ. (¬2) عركت: حاضت.

- صلى الله عليه وآله وسلم -، فأعرض، فقالت عائشة: «يا رسول الله، إنها ابنة أخي وجارية»، فقال: «إذا عركت المرأة لم يحل أن تُظهِر إلا وجهها وإلا ما دون هذا» وقبض على ذراع نفسه، فترك بين قبضته وبين الكف مثل قبضة أخرى. 175 - إذا عطس أحدكم فقال: «الحمد لله»، قالت الملائكة: «رب العالمين»، فإذا قال: «رب العالمين»، قالت الملائكة: «رحمك الله». 176 - إذا فرغ الرجل من صلاته فقال: رضيت بالله ربًّا وبالإسلام دينًّا، وبالقرآن إمامًا، كان حقا على الله - عز وجل - أن يُرْضِيَه. 177 - إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل به البلاء: إذا كان المغنم دُولًا، والأمانة مغنمًا، والزكاة مغرمًا، وأطاع الرجل زوجته، وعَقّ أمه، وبَرَّ صديقه، وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرِمَ الرجل مخافة شره، وشُربت الخمور، ولُبس الحرير، واتُخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء أو خسفًا أو مسخًا. 178 - إذا قام الرجل في صلاته أقبل الله عليه بوجهه، فإذا التفت قال: يا ابن آدم! إلى من تلتفت، إلى من هو خير لك مني؟! أقْبِل إليَّ، فإذا التفت الثانية قال مثل ذلك، فإذا التفت الثالثة صرف الله وجهه عنه. 179 - إذا قرب لأحدكم طعامه وفي رجليه نعلان فلينزع نعليه فإنه أروح للقدمين وهو من السنة. 180 - إذا كان أحدكم على وضوء فأكل طعامًا فلا يتوضأ، إلا أن يكون لبن الإبل، إذا شربتموه فتمضمضوا بالماء (¬1). ¬

(¬1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَضْمِضُوا مِنَ اللَّبَنِ؛ فَإِنَّ لَهُ دَسَمًا». (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وليس فيه تخصيص لبن الإبل. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - شَرِبَ لَبَنًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ لَهُ دَسَمًا» (رواه البخاري ومسلم).

181 - إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نادى الجليل رضوان خازن الجنة، فيقول: «لبيك وسعديك»، فيقول: «أعدّ جنتي وزينها للصائمين من أمة أحمد، لا تغلقها عنهم حتى ينقضي شهرهم». ثم ينادى مالكًا خازن جهنم: «يا مالك»، فيقول: «لبيك وسعديك»، فيقول: «أغلق أبواب الجحيم عن الصائمين من أمة أحمد، لا تفتحْها عليهم حتى ينقضي شهرهم». ثم ينادى جبريل: «يا جبريل»، فيقول: «لبيك ربى وسعديك»، فيقول: «انزل إلى الأرض فغلّ مردة الشياطين عن أمة أحمد، لا يفسدوا عليهم صيامهم»، ولله - عز وجل - في كل ليلة من رمضان عند طلوع الشمس وعند وقت الإفطار عتقاء يعتقهم من النار عبيد وإماء (¬1)، وله في كل سماء ملك ينادى، عُرْفه تحت عرش الرحمن ورجليه في تخوم الأرض السابعة السفلى، جناح له بالمشرق مكلل بالمرجان والدر والجوهر، وجناح له بالمغرب مكلل بالمرجان والدر والجوهر ينادى: هل من تائب يُتاب عليه؟ هل من داع يُستجاب له؟ هل من مظلوم فيُنصر؟ هل من مستغفر يُغفر له؟ هل من سائل يعطَى سؤْله. والرب تعالى ينادى الشهر كله: عبيدي وإمائي أبشروا أوشك أن ترفع عنكم هذه المؤنات إلى رحمتي وكرامتي، فإذا كانت ليلة القدر ينزل جبريل في كُبْكُبَة (¬2) من الملائكة تصلي على كل عبد قائم وقاعد يذكر الله - عز وجل -، وإذا كان يوم فطرهم باهى بهم ملائكته: «يا ملائكتي ما جزاء أجير وفَّى عمله؟»، قالوا: «رَبّ جزاؤه أن يُوَفَّى أجره». قال: «عبيدي وإمائي قضَوْا فريضتي عليهم ثم خرجوا يعجّون إليَّ بالدعاء، وجلالي وكرامتي ¬

(¬1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ» (رواه الترمذي وصححه الألباني). (¬2) كُبْكُبَة ـ بضمتين وقيل بفتحتين ـ: جماعة متضامة من الناس وغيرهم.

وعلوّي وارتفاع مكاني لأجيبنّهم اليوم: ارجعوا قد غفرتُ لكم وبدلتُ سيئاتكم حسنات»، فيرجعون مغفورًا لهم. 182 - إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله - عز وجل - إلى خلقه وإذا نظر الله - عز وجل - إلى عبده لم يُعَذبه أبدًا ولله - عز وجل - في كل ليلة ألف ألف عتيق من النار» (¬1). 183 - إذا كان ليلة النصف من شعبان نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فلا يسأل أحد شيئا إلا أعطي إلا زانية بفرجها أو مشرك. 184 - إذا كان ليلة النصف من شعبان يغفر الله من الذنوب أكثر من عدد شعر غنم كلب. 185 - إذا كان يوم القيامة أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها ويتنعمون فيها كيف شاءوا، فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حسابًا. فتقول لهم: هل جزتم الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطًا. فتقول لهم: هل رأيتم جهنم؟ فيقولون: ما رأينا شيئا. فتقول لهم الملائكة: من أمة من أنتم؟ فيقولون: من أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فتقول: ناشدناكم الله حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا؟ فيقولون: خصلتان كانتا فينا فبلغنا هذه المنزلة بفضل رحمة الله. فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه، ونرضى باليسير مما قسم لنا، فتقول الملائكة: يحق لكم هذا. 186 - إذا كان يوم القيامة حملت على البراق، وحملت فاطمة على ناقة العضباء، وحمل بلال على ناقة من نوق الجنة، وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر إلى آخر الأذان، يسمع الخلائق. ¬

(¬1) انظر الهامش السابق.

187 - إذا كان يوم القيامة نادى مناد من وراء الحجاب: يا أهل الجمع! غضوا أبصاركم عن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى تَمُرّ. 188 - إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: «يا محمد! قم فادخل الجنة بغير حساب»، فيقوم كل من كان اسمه محمد، ويتوهم أن النداء له، فلكرامة محمد لا يُمْنَعُون. 189 - إذا كان يوم القيامة يجاء بالأعمال في صحف مختمة فيقول الله - عز وجل -: «اقبلوا هذا وردُّوا هذا»، فتقول الملائكة: «وعزتك ما كتبنا إلا ما عمل»، فيقول: «صدقتم إن عمله كان لغير وجهي، وإني لا أقبل اليوم إلا ما كان لوجهي». 190 - إذا كانت الدنيا في بلاء وقحط كانت الشام في رخاء وعافية، وإذا كانت الشام في بلاء وقحط كانت فلسطين في رخاء وعافية، وإذا كانت فلسطين في بلاء وقحط كانت بيت المقدس في رخاء وعافية. 191 - إذا كانت أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءَكم وأموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كانت أمراؤكم أشراركم وأغنياؤكم بخلاءَكم وأموركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها. 192 - إذا كانت ليلة الفطر ارتجت الملائكة وتجلى الجبار - جل جلاله - مع أنه لا يصفه الواصفون فيقول للملائكة وهم في عيدهم من الغد يوحي إليهم: «يا معشر الملائكة، ما جزاء الأجير إذا وَفَّى عمله؟»، فتقول الملائكة: «يوفى أجره»، فيقول الله تعالى: «أشهِدُكم أنّي قد غفرتُ له». 193 - إذا كانت ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها، وصوموا يومها؛ فإن الله تبارك وتعالى ينزل فيها لغروب الشمس إلى السماء الدنيا فيقول: ألا من مستغفرٍ فأغفر له؟ ألا من مسترزقٍ فأرزقه؟ ألا من مبتلى فأعافيه؟ ألا سائل فأعطيه؟ ألا كذا ألا كذا؟ حتى يطلع الفجر.

194 - إذا كان ليلة النصف من شعبان نادَى مناد: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فلا يسأل أحد شيئًا إلا أعطي إلا زانية بفرجها أو مشرك (¬1). 195 - إذا كبر ابنك واخيه (¬2). 196 - إذا كثرت ذنوب العبد فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه. 197 - إذا كثرت ذنوبك، فاسق الماء على الماء، تتناثر كما يتناثر الورق من الشجر في الريح العاصف. 198 - إذا كذب العبد، تباعد عنه الملَك مِيلًا من نَتْنِ ما جاء به. 199 - إذا كنت على الماء فلا تبخل بالماء. 200 - إِذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ إِخْوَانِكُمْ، فَسَوَّيْتُمِ التُّرَابَ عَلَى قَبْرِهِ، فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ، ثُمَّ لِيَقُلْ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُهُ وَلا يُجِيبُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ يَسْتَوِي قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولُ: يَا فُلانَ بن فُلانَةَ، فَإِنَّهُ يَقُولُ: أَرْشِدْنَا رَحِمَكَ اللهُ، وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ، فَلْيَقُلْ: اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ ¬

(¬1) ويُغْنِي عنه حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا لِاثْنَيْنِ: مُشَاحِنٍ، وَقَاتِلِ نَفْسٍ» (رواه الإمام أحمد وصححه الأرنؤوط). وحديث أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ يَطْلُعُ عَلَى عِبَادِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُمْلِي الْكَافِرِينَ وَيَدَعُ أَهْلَ الْحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ» .. (رواه الطبراني وغيره وحسنه الألباني). وفي رواية عن أبي موسى رضي الله عنه: «يَطْلُعُ اللهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ». (وصححه الألباني). ولا يخص هذا اليوم بصيام، ولا قيام، وما شابه ذلك؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يخصه بذلك، ولم يثبت عنه، ولا عن صحابته الكرام - رضي الله عنهم -. (¬2) (واخيه) لحن، وصوابه: آخِهِ.

إِمَامًا، فَإِنَّ مُنْكَرًا وَنَكِيرًا يَأْخُذُ وَاحِدٌ مِنْهُمْا بِيَدِ صَاحِبِهِ، وَيَقُولُ: انْطَلِقْ بِنَا مَا نَقْعُدُ عِنْدَ مَنْ قَدْ لُقِّنَ حُجَّتَهُ، فَيَكُونُ اللهُ حَجِيجَهُ دُونَهُمَا»، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ الله، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أُمَّهُ؟ قَالَ: «فَيَنْسُبُهُ إِلَى حَوَّاءَ، يَا فُلانَ بن حَوَّاءَ». 201 - إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته. 202 - إذا مات الرجل منكم فدفنتموه فليقم أحدكم عند رأسه، فليقل: «يا فلان ابن فلانة»، فإنه سيسمع، فليقل: «يا فلان ابن فلانة»، فإنه سيستوي قاعدًا، فليَقُل: «يا فلان ابن فلانة»، فإنه سيقول: «أرشدني أرشدني رحمك الله»، فليقل: «اذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور»، فإن منكرًا ونكيرًا يأخذ كل واحد منهما بيد صاحبه ويقول له: «ما تصنع عند رجل قد لُقّنَ حجته؟»، فيكون الله حجيجهما دونه. 203 - إذا نام العبد في سجوده باهى الله - عز وجل - به ملائكته، قال: «انظروا إلى عبدي، روحه عندي وجسده في طاعتي». 204 - إذا نزل الرجل بقوم، فلا يصوم إلا بإذنهم. 205 - إذا وُضِعَتْ المائدة فلا يقوم رجل حتى ترفع المائدة، ولا يرفع يده وإن شبع حتى يفرغ القوم، وليعذر فإن الرجل يخجل جليسه فيقبض يده وعسى أن يكون له في الطعام حاجة. 206 - إذَا وَضعتَ جَنبكَ عَلَى الفِراشِ، وَقَرأتَ فَاتِحةَ الكِتابِ وقُلْ هُوَ اللهُ أحدٌ، فَقَد أمِنتَ مِن كُلِّ شَيءٍ إلاَّ المَوتَ. 207 - إذا وقف السائل على الباب وقفت الرحمة معه؛ قبلها من قبلها، وردها من ردها، ومن نظر إلى مسكين نظر رحمة؛ نظر الله إليه نظر رحمة، ومن أطال الصلاة خفف الله

عنه القيام يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، ومن أكثر الدعاء قالت الملائكة: «صوت معروف، ودعاء مستجاب، وحاجة مقضية». 208 - إذا وقف العباد للحساب، جاء قوم واضعي سيوفهم على رقابهم تقطر دمًا، فازدحموا على باب الجنة، فقيل: من هؤلاء؟ قال: الشهداء كانوا أحياء مرزوقين، ثم نادى مناد: ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة، ثم نادى الثانية: ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة. قال: ومن ذا الذي أجره على الله؟ قال: العافون عن الناس، ثم نادى الثالثة: ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة. فقام كذا وكذا ألفا فدخلوها بغير حساب. 209 - اذكروا الله ذكرًا يقول المنافقون إنكم تراؤون. 210 - اذكروا الفاجر بما فيه يحذره الناس. 211 - اذهب فاقتل أباك»، رُوِيَ عَنْ حُصَيْنِ بن وَحْوَحٍ، أَنَّ طَلْحَةَ بن الْبَرَاءِ لَمَّا لَقِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِمَا أَحْبَبْتَ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَعَجِبَ لِذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ غُلامٌ، فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: «اذْهَبْ فَاقْتُلْ أَبَاكَ»، قَالَ: فَخَرَجَ مُوَلِّيًا لِيَفْعَلَ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: «أَقْبِلْ فَإِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ»، فَمَرِضَ طَلْحَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَعُودُهُ فِي الشِّتَاءِ فِي بَرْدٍ وغَيْمٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ لأَهْلِهِ: «لا أَرَى طَلْحَةَ إِلا قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ فَآذِنُونِي بِهِ حَتَّى أَشْهَدَهُ وَأُصَلِّيَ عَلَيْهِ وعَجِّلُوهُ»، فَلَمْ يَبْلُغِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بني سَالِمِ بن عَوْفٍ حَتَّى تُوُفِّيَ، وجَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ طَلْحَةُ: ادْفِنُونِي وَأَلْحِقُونِي بِرَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلا تَدْعُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنِّي أَخَافُ الْيَهُودَ أَنْ يُصَابَ فِي سَبَبِي، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - حِينَ أَصْبَحَ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ، فَصَفَّ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ وَيَضْحَكُ إِلَيْكَ». 212 - اذهبْ فَوَارِهْ»، رُوِيَ عن سفينة قال: احتجم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأعطاني دمه فقال: «اذهبْ فَوَارِهْ» فذهبتُ فشربتُه فرجعتُ فقال: «ما صنعتَ به؟»، قلت: «وَارَيْتُه أو قُلتُ شربْتُه»، قال: «احترزت من النار».

213 - اذهبوا فأنتم الطلقاء»، رُوِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قام على باب الكعبة فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو موضوع تحت قدمَيَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وقتيل الخطأ شبه العمد بالسوط، والعصا ففيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها، يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب. ثم تلا هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (الحجرات:) الآية كلها. ثم قال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم؟»، قالوا: «خيرًا، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، ثم جلس رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال: «يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أين عثمان بن طلحة؟»، فدعي له فقال: «هاكَ مفتاحك يا عثمان اليوم يوم بِرٍّ ووفاء». 214 - اذهبي فقد حرمك الله بذلك على النار»، رُوِيَ عَنْ سَلْمَى امرأة أبي رافع قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فَوْق بيته جالسًا، فقال: يا سلمى، ائتِنِي بغسل، فجئت إليه بإناء فيه ماء سدر فصفيته له، ثم جَثَا على مرفقة حشوها ليف، وأنا أصبّ على رأسه فغسله، وإني لأنظر إلى كل قطرة من رأسه في الإناء كأنه الدر يلمع، ثم جئتُه بماء فغسله، فلما فرغ من غَسْلِه قال: «يا سلمى، أهريقي ما في الإناء في موضع لا يتخطاه أحد»، فأخذتُ الإناء، قلت: «يا رسول الله، حَسَدتُّ الأرض عليه فشربتُ بعضه، ثم أهرقْتُ الباقي، فقال: «اذهبي فقد حرمك الله بذلك على النار». 215 - أذيبوا طعامكم بذكر الله والصلاة، ولا تناموا عليه فتقسوا قلوبكم. 216 - أربع لا يشبعن من أربع: عين من نظر، وأرض من مطر، وأنثى من ذكر، وعالم من علم.

217 - أربع من الجفاء: يبول الرجل قائمًا، أو يكثر مسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته، أو يسمع المؤذن يؤذن فلا يقول مثل ما يقول، أو يصلي بسبيل من يقطع صلاته. 218 - أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: قلب شاكر، ولسان ذاكر وبدن على البلاء صابر، وزوجة لا تبغيه خونًا في نفسها ولا ماله. 219 - أربعٌ من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، والحرص، وطول الأمل. 220 - أربعٌ من سعادة المرء: أن تكون زوجته صالحة وأولاده أبرارًا وخلطاؤه صالحين وأن يكون رزقه في بلده. 221 - أربعٌ مَن كُنّ فيه حرمه الله تعالى على النار وعصمه من الشيطان: مَن ملك نفسه حين يرغب وحين يرهب وحين يشتهي وحين يغضب، وأربع من كن فيه نشر الله تعالى عليه رحمته وأدخله الجنة: مَن آوى مسكينًا ورحم الضعيف ورفق بالمملوك وأنفق على الوالدين. 222 - أربعة من كن فيه كان من المسلمين وبَنَى الله له بيتا في الجنة أوسع من الدنيا وما فيها: مَن كان عصمة أمره لا إله إلا الله، وإذا أصاب ذنبا قال: أستغفر الله، وإذا أعطي نعمة قال: الحمد الله، وإذا أصاب مصيبة قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. 223 - أربعة من كنوز الجنة: إخفاء الصدقة، وكتمان المصيبة، وصلة الرحم، وقول لا حول ولا قوة إلا بالله. 224 - أربعون دارًا جار. 225 - ارجعن مأزورات؛ غير مأجورات»، رُوي عن علي - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإذا نسوة جلوس، فقال: «ما يجلسكن؟»، قلن: «ننتظر الجنازة»، قال: «هل تغَسّلْن؟»، قلن: «لا»، قال: «هل تحْمِلْن؟»، قلن: «لا»، قال: «هل تدلين فيمن يدلي؟»، قلن: «لا»، قال: «ارجعن مأزورات؛ غير مأجورات».

226 - أرْسِلْ إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله»، رُوِيَ عن محمد بن إسحاق: جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: له أسر ابني عوف. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أرْسِل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله». وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه، فخرج، فإذا هو بناقة لهم فركبها، وأقبل فإذا بسَرْح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم، فاتبع أولها آخرها، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب، فقال أبوه: «عوف ورب الكعبة». فقالت أمه: «واسوأتاه. وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد»، فاستبقا الباب والخادم، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلًا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل، فقال أبوه: «قفا حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأسأله عنها». فأتى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اصنع بها ما أحببت، وما كنت صانعًا بمالك». ونزل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2 - 3). 227 - أرني المفتاح»، رُوِيَ أنه لما فتح رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مكة دعا عثمان بن طلحة، فلما أتاه قال: «أرني المفتاح». فأتاه به، فلما بسط يده إليه، قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية، فكَفّ عثمان يده، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هات المفتاح يا عثمان». فقال: «هاك أمانة الله»، فقام ففتح الكعبة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل بردّ المفتاح، فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النساء: 58) حتى فرغ من الآية. 228 - أرِيتُ بني مروان يتعاورون منبري فساءني ذلك، ورأيت بني العباس يتعاورون منبري فسرني ذلك. 229 - أرِيتُ في منامي كأن بني الحكم بن أبي العاص ينزون على منبري كما ينزو القردة. 230 - أزهد الناس في العالم أهله وجيرانه. 231 - استعد للموت قبل نزول الموت.

232 - استعينوا بلا حول ولا قوة إلا بالله فإنها تذهب سبعين بابا من الضر أدناها الهم. 233 - استعينوا على الرزق بالصدقة (¬1). 234 - استعينوا على النساء بالعري فإن إحداهن إذا كثرت ثيابها وأحسنت زينتها أعجبها الخروج. 235 - استكثر من الناس من دعاء الخير لك، فإن العبد لا يدري على لسان من يستجاب له أو يرحم، ولذلك جعل الله - عز وجل - المسلمين شفعاء بعضهم لبعض. 236 - إسرافيل له أربعة أجنحة، منها جناحان أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب، واللوح بين عينيه، فإذا أراد الله - عز وجل - أن يكتب الوحي ينقر بين جبهته. 237 - أسرع الدعاء إجابة دعوة غائب لغائب. 238 - أسْرِيَ بي في قفص من لؤلؤ وفراشه من ذهب. 239 - أسِّسَت السموات السبع والأرضون السبع على {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1). 240 - اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} (آل عمران: 26) (¬2). ¬

(¬1) قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)} (سبأ: 39). قال الشيخ السعدي: «فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق، بل وعد بالخلف للمنفق، الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فاطلبوا الرزق منه، واسعوا في الأسباب التي أمركم بها. وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» (رواه مسلم). (¬2) قال الألباني في (السلسلة الضعيفة رقم 2772): «وقد ثبت أن اسم الله الأعظم في فاتحة آل عمران».

241 - اسم الله الأعظم؛ الذي إذا دعي به أجاب؛ وإذا سئل به أعطى؛ الدعوة التي دعا بها يونس حيث ناداه في الظلمات الثلاث: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87)، رُوِيَ عن سعد بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «هل أدلكم على اسم الله الأعظم؛ الذي إذا دعي به أجاب؛ وإذا سئل به أعطى؛ الدعوة التي دعا بها يونس حيث ناداه في الظلمات الثلاث:: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء: 87)، فقال رجل: «يا رسول الله! هل كانت ليونس خاصة أم للمؤمنين عامة؟»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ألا تسمع قول الله - عز وجل -: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (الأنبياء: 88)، وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أيما مسلم دعا بها في مرضه أربعين مرة فمات في مرضه ذلك؛ أعطي أجر شهيد، وإن برأ برأ وقد غفر له جميع ذنوبه» (¬1). 242 - اسم الله الأعظم في ست آيات في آخر سورة الحشر. 243 - اسم الله على فم كل مسلم»، رُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سأل رجل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أرأيت الرجل يذبح وينسى أن يسمي؟»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اسم الله على فم كل مسلم». ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَعْوَةُ ذِى النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِى بَطْنِ الْحُوتِ: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ»، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِى شَىْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللهُ لَهُ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).

244 - اسْمِي في التَّوراةِ أحْيَدُ؛ لأنِّي أحِيدُ أمَّتِي عن النَّارِ، واسمي في الزَّبُورِ: المَاحِي (¬1)، مَحَا اللهُ بي عبدةَ الأوثانِ، واسْمِي في الإنجيلِ: أحْمَدُ، وفي القُرْآنِ: مُحَمَّدٌ؛ لأنِّي محمُود فِي أهْلِ السَّماءِ والأرْضِ. 245 - اشتدي أزمة تنفرجي. 246 - أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه. 247 - أشد الناس عذابًا يوم القيامة مَن يرى الناس أن فيه خيرًا ولا خيرَ فيه. 248 - أشدّكم من غلب نفسه عند الغضب، وأحلمُكم من عفا بعد القدرة. 249 - أشْرَافُ أمَّتِي حَمَلةُ القُرآنِ، وَأصحَابُ اللَّيلِ. 250 - أَشْرِكْنَا يَا أُخَىَّ فِى دُعَائِكَ». رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِى الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لِى وَقَالَ: «أَشْرِكْنَا يَا أُخَىَّ فِى دُعَائِكَ». فَقَالَ كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِى أَنَّ لِى بِهَا الدُّنْيَا. 251 - أشعرت يا بلال! أن الصائم تسبح عظامه، وتستغفر له الملائكة ما أكِل عنده. 252 - أصحاب الأعراف قوم قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم قتلهم في سبيل الله عن النار، ومنعتهم معصية آبائهم أن يدخلوا الجنة. 253 - أصحابي كالنجوم بأيِّهم اقتديْتُم اهتديْتُم. 254 - أصدق الحديث ما عطس عنده. ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ» (رواه البخاري ومسلم، ولفظه: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا».

255 - اصعد على منكبي» رُوِيَ عن عليِّ سدد خطاكم قال انطلقت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى أتينا الكعبة فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - «اجلس»، فصعد على منكبي فذهبْتُ لأنهض به فرأى مني ضعفًا فنزل وجلس لي نبي الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقال: «اصعد على منكبي»، فصعدتُ على منكبه، فنهض بي، فإنه تخيل لي أني لو شئتُ لَنِلْتُ أفق السماء حتى صعدتُ على البيت وعليه تمثال صُفْر (¬1) أو نحاس، فجعلت أزاوله عن يمينه وعن شماله وبين يديه ومن خلفه حتى إذا استمكنتُ منه قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اقذِفْ به» فقذَفْتُ به فتكسر كما تنكسر القوارير، ثم نزلت، فانطلقت أنا ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نستبق حتى توارينا في البيوت خشية أن يلقانا أحدٌ من الناس. 256 - اصْفِ النِيّة، ونم في البرية. 257 - أصْلُ كل داء الرضى عن النفس. 258 - أصلحوا دُنياكم واعملوا لآخرتكم كأنكم تموتون غدًا. 259 - أصليْتَ؟!»، رُوِيَ عن أسماء بنت عميس: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوحى إليه ورأسه في حجر عليّ، ولم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي: «أصليت؟!»، قال: «لا». قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك، فارْدُدْ عليه الشمس»، قالت أسماء: «فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعَتْ بعدما غربت» (¬2). ¬

(¬1) الصُفْر: خليط من النُّحاس والزّنك (الخارصين)، ويُسمَّى النُّحاس الأصفر. (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 8/ 165): «فضل عليٍّ سدد خطاكم وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم ولله الحمد من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى كذب، ولا إلى مالا يُعْلَم صِدْقُه. ... = = وحديث رد الشمس له قد ذكره طائفة كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما، وعّدُّوا ذلك من معجزات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع كما ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات».

260 - اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى غير أهله؛ فإن أصبت أهله أصبت أهله وإن لم تصب أهله كنت أنت أهله. 261 - اضربوهن، ولا يضرب إلا شراركم. 262 - اضمنوا لي ست خصال أضمن لكم الجنة: لا تظالموا عند قسمة مواريثكم، وأنصفوا الناس من أنفسكم، ولا تجبنوا عند قتال عدوكم، ولا تغلوا غنائمكم، وأنصفوا ظالمكم من مظلومكم. 263 - اطلبوا الحوائج إلى ذوي الرحمة من أمتي تُرزَقوا وتنجحوا؛ فإن الله تعالى يقول: «رحمتي في ذوي الرحمة من عبادي»، ولا تطلبوا الحوائج عند القاسية قلوبهم فلا ترزقوا ولا تنجحوا فإن الله تعالى يقول: «إن سخطي فيهم». 264 - اطلبوا الحوائج بعزة الأنفس؛ فإن الأمور تجري بالمقادير. 265 - اطلبوا الخير دهركم، واهربوا من النار جهدكم، فإن الجنة لا ينام طالبها، وإن النار لا ينام هاربها (¬1). 266 - اطلبوا الخير عند حسان الوجوه، وتسموا بخياركم، وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. 267 - اطلبوا العلم ولو بالصين. 268 - اطّلِعْ في القبور، واعتَبِرْ بالنشور» روي عن أنس قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فشكا إليه قسوة القلب فقال: «اطّلِعْ في القبور، واعتَبِرْ بالنشور». ¬

(¬1) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، وَلاَ مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا» (رواه الترمذي وحسنه الألباني).

269 - أطْيَبُ الكسب كسب التجار الذين إذا حدثوا لم يكذبوا، وإذا ائتمنوا لم يخونوا، وإذا وعدوا لم يخلفوا، وإذا اشتروا لم يذموا، وإذا باعوا لم يطروا، وإذا كان عليهم لم يماطلوا، وإذا كان لهم لم يعسروا. 270 - اعبد الله لا تشرك به شيئًا، وزل مع الحق حيث زال، واقبل الحق ممن جاء به صغير أو كبير، وإن كان بغيضًا بعيدًا، واردد الباطل ممن جاء به صغير أو كبير، وإن كان حبيبًا قريبًا. 271 - اعتبروا عقل الرجل في ثلاث: في طول لحيته، وكنيته، ونقش خاتمه. 272 - اعتكاف عشر في رمضان كحجتين وعمرتين. 273 - اعْتَمّوا تزدادوا حِلمًا، والعمائم تيجان العرب. 274 - أعْدَى عدوِّك زوجتك التي تضاجعك، وما ملكت يمينك. 275 - أعْدَى عدوِّك نفسُك التي بين جنبيك. 276 - اعرضوا حديثي على كتاب الله؛ فإن وافقه فهو مني وأنا قُلْتُه. 277 - أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة»، رُوِيَ عن ابن عباس أنَّ رجلًا كان له نخل ومنها نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، فكان الرجل إذا جاء الدار فصعد إلى النخلة ليأخذ منها التمرة، فربما تقع تمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل من نخلته فيأخذ التمرة من أيديهم وإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه حتى يخرج التمرة من فيه، فشكا ذلك الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأخبره بما هو فيه من صاحب النخلة فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اذهب»، ولقي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صاحب النخلة، فقال له: «أعطني نخلتك التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة». فقال الرجل: «لقد أعطيتُ، وإن لي نخلًا كثيرًا وما فيه نخلة أعجب إليَّ ثمرة منها»، ثم ذهب الرجل ولقي رجلًا كان يسمع الكلام من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومِن صاحب النخلة فأتى رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «أتعطيني يا رسول الله ما أعطيت الرجل إن أنا

أخذتها»، فقال: «نعم»، فذهب الرجل فلقي صاحب النخلة ولكليهما نخل فقال له صاحب النخلة: «أشعرت أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - أعطاني بنخلتَيَّ المائلة في دار فلان نخلة في الجنة؟»، فقلت له: «لقد أعطيت ولكن يعجبني ثمرها ولي نخل كثير ما فيه نخلة أعجب إليَّ ثمرها منها»، فقال له الآخر: «أتريدُ بَيْعَهَا؟» فقال: «لا، إلا أن أعطي بها ما أريد ولا أظن أن أعطى»، فقال: فكم مُنَاك منها؟ قال: «أربعون نخلة»، قال: «لقد جئت بأمر عظيم»، ثم سكت عنه فقال له: «أنا أعطيك أربعين نخلة، فأشْهِدْ لي إن كنت صادقًا»، فدعا قومه فشهدوا له، ثم ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال له: «يا رسول الله، إن النخلة قد صارت لي وهي لك»، فذهب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى صاحب الدار فقال له: «النخلة لك ولعيالك». فأنزل الله - عز وجل -: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} إلى قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)} إلى آخر السورة (¬1). ¬

(¬1) عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا»، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ» فَأَبَى، فَأَتَاهُ أَبُو الدَّحْدَاحِ فَقَالَ: «بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي». فَفَعَلَ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي، فَاجْعَلْهَا لَهُ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كَمْ مِنْ عَذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ»، قَالَهَا مِرَارًا. قَالَ: فَأَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: «يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ». فَقَالَتْ: «رَبِحَ الْبَيْعُ». أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا. (رواه الإمام أحمد في المسند، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط مسلم»). قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ» كان شفاعةً لا أمرًا، وإلا عصى بخلافه. عذق: قيل: بالكسر الغصن، وبالفتح النخلة أو الحائط، والظاهر أن المراد ها هنا النخلة أو الحائط، لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} (الأنعام: 160)، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (البقرة: 261)، واقتصار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الواحدة لبيان أنها تكفي في الرغبة في الخير، والله تعالى أعلم. (رِداح) أي: الثقيل لكثرة ما فيه من الثمار.

278 - أعطوا أعينكم حظها من العبادة: النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه. 279 - أعط السائل، وإن جاءك على فرس. 280 - أعطُيَتْ أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطهن أمة قبلهم: خُلُوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله - عز وجل - كل يوم جنته ثم يقول: «يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة ويصيروا إليكِ»، وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة». قيل: يا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أهي ليلة القدر؟ قال: «لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله». 281 - أعطِيَتْ أمتي شيئًا لم يُعْطَهُ أحدٌ من الأمم: أن يقولوا عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه راجعون. 282 - أعظمُ النساء بركة أيسرهن مؤنة (¬1). 283 - أعظم نساء أمتي بركة أصْبَحُهُنَّ وجهًا وأقًلّهُنَّ مهرًا (¬2). 284 - اعلمي ـ وأعلمي من وراءك من النساء ـ أن حسن تبعل المرأة لزوجها، واتباعها موافقته ومرضاته؛ يعدل ذلك كله»، رُوِيَ عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو جالس مع أصحابه، فقلت: «يا رسول الله! إني ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرُ رَحِمِهَا». (رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه الألباني). (إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ) أي بركتها (تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا) بالكسر أي سهولة سؤال الخاطب أولياءها نكاحها وإجابتهم بسهولة من غير توقف (وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا) أي عدم التشديد في تكثير مهرها ووجدانه بيد الخاطب من غير كَدٍّ في تحصيله (وَتَيْسِيرُ رَحِمِهَا) أي للولادة بأن تكون سريعة الحمل كثيرة النسل. (¬2) انظر الهامش السابق.

وافدة النساء إليك، إنه ليس من امرأة سمعَتْ بمخرجي إليك إلا وهي على مثل رأيي، وإن الله تبارك وتعالى بعثك إلى الرجال والنساء؛ فآمنا بك وبالهدى الذي جئتَ به، وإن الله قد فضلكم علينا - معشر الرجال - بالجماعة والجمعة، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز، وأفضل من ذلك الجهاد في سبيل الله، وإن أحدكم إذا خرج غازيًا أو حاجًا أو معتمرًا؛ حفظنا أموالكم، وغزَلْنَا أثوابكم، وربَّيْنَا لكم أولادكم، وإنا - معشر النساء - مقصوراتٍ محصوراتٍ قواعد بيوتكم؛ أفما نشارككم في هذا الأجر؟»، فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على أصحابه بوجهه كله فقال: «سمعتم بمثل مقالة هذه المرأة؟»، قالوا: «ما ظننا أن أحدًا من النساء تهتدي إلى مثل ما اهتدت إليه هذه المرأة»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اعلمي - وأعلمي من وراءك من النساء - أن حسن تَبَعّل المرأة لزوجها، واتباعها موافقته ومرضاته؛ يعدل ذلك كله». فانطلقت تهلل وتكبر وتحمد الله - عز وجل - استبشارًا. 285 - أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف (¬1). 286 - اعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبدًا، واحذر حَذَرَ امرئ يخشى أن يموت غدًا. 287 - اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا. 288 - اغْدُ عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًا، ولا تكن الخامسة فتهلك. 289 - أفضل الأيام يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غير جمعة. 290 - أفضل العبادة الفقه وأفضل الدين الورع. 291 - أفضل العبادة انتظار الفرج. ¬

(¬1) ولكن: «أعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ» حديث حسن.

292 - أفضل العبادة درجة عند الله يوم القيامة الذاكرون لله كثيرًا. 293 - أفضل العبادة قراءة القرآن. 294 - أفضل العمل النية الصادقة. 295 - أفضل العيادة أجرًا سرعة القيام من عند المريض. 296 - أفضل المؤمنين إيمانًا الذي إذا سأل أعطى وإذا لم يُعْطَ استغنى. 297 - افعلوا المعروف إلى مَن هو أهله وإلى من ليس هو من أهله؛ فإن أصبْتُم أهله فقد أصبتم أهله، وإن لم تصيبوا أهله فأنتم أهله. 298 - أفلح مَن رُزِقَ لُبًّا»، رُوِيَ عن رجل من بني قشير يقال له قرة بن هبيرة: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال له: «إنه كانت لنا أرباب تعبد من دون الله فبعثك الله، فدعوناهن فلم يجِبْن، وسألناهن فلم يُعْطِينَ، وجئناك فهدانا الله»، وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قد أفلح من رُزِقَ لُبًّا». قال: «يا رسول الله! اكسني ثوبين من ثيابك قد لبستهما»، فكساه، فلما كان بالموقف في عرفات، قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أعِدْ علَيَّ مقالتك»، فأعاد عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أفلحَ مَن رُزِقَ لُبًّا». 299 - أفلح من كان سكوته تفَكُّرًا ونظره اعتبارًا، أفلح من وُجِد في صحيفته استغفارًا كثيرا (¬1). 300 - أقامها الله وأدامها» رُوِيَ عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن بلالا أخذ فى الإقامة فلما أن قال: «قد قامت الصلاة»، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أقامها الله وأدامها». 301 - أقبل، فإني لم أبعث بقطيعة رحم»، رُوِيَ أن طلحة بن البراء لما لقي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: يا رسول الله، مرني بما أحببت ولا أعصي لك أمرًا، فعجب لذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو غلام، فقال له عند ذلك: «اذهب فاقتل أباك»، قال: فخرج موليًا ليفعل، ¬

(¬1) قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «طُوبَى لِمَنْ وَجَدَ فِي صَحِيفَتِهِ اسْتِغْفَارًا كَثِيرًا». (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

فدعاه، فقال له: «أقبل، فإني لم أبعث بقطيعة رحم». فمرض طلحة بعد ذلك، فأتاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يعوده في الشتاء في برد وغيم، فلما انصرف قال لأهله: «لا أرى طلحة إلا قد حدث فيه الموت، فآذنوني به حتى أشهده وأصلي عليه، وعجلوه». فلم يبلغ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بني سالم بن عوف حتى تُوُفي، وجنَّ عليه الليل، وكان فيما قال طلحة: «ادفنوني، وألحقوني بربي - عز وجل -، ولا تدعوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فإني أخاف اليهود؛ أن يصاب في سببي»، فأخْبِرَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين أصبح، فجاء حتى وقف على قبره، فصف الناس معه، ثم رفع يديه، فقال: «اللهم الق طلحة تضحك إليه، ويضحك إليك». 302 - اقرأ القرآن ما نهاك، فإذا لم ينهك فلست تقرؤه. 303 - اقْرَءُوا الْقُرْآنَ (¬1) بحزن فإنه نزل بالحزن. 304 - اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحونِ العَرَبِ وَأصواتِها، وإيَّاكُم وَلُحُونَ أهلِ الكِتابِ، وَأهلِ الفِسقِ، فإنَّهُ سَيجيءُ مِنْ بَعدِي قَومٌ يُرجِّعوُنَ بِالقرآنِ تَرجِيعَ الرَّهبانِيةِ، وَالنَّوْحِ وَالغِناءِ، لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُم، مَفتونَةٌ قُلوبُهُم، وَقُلُوبُ الذينَ يُعجِبُهُمْ شَأنُهُمْ. 305 - اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فإن الله تعالى لا يعذب قلبا وعى القرآن. 306 - اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا. 307 - اقْرَءُوا على موتاكم: ياسين. 308 - اقْرَءُوا ياسين على موتاكم. 309 - اقض بينهما يا عمرو»، رُوِيَ عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، قال: جاء رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خصمان يختصمان، فقال لعمرو: «اقض بينهما يا عمرو»، فقال: «أنت أوْلَى بذلك ¬

(¬1) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سدد خطاكم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُول: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ» (رواه مسلم).

مني يا رسول الله». قال «وإن كان». قال: «فإذا قضيتُ بينهما، فمالي؟!»، قال: «إنْ أنتَ قَضيتَ بَينَهُما، فَأصبتَ القَضاءَ، فَلَكَ عَشرُ حَسناتٍ، وإنْ أنتَ اجتَهدتَ فَأخطأتَ، فَلَكَ حَسنةٌ». 310 - أقِلُّوا الدُخولَ عَلَى الأغنياءِ، فَإنَّهُ أجدرُ أنْ لاَ تَزدَروا نِعمةَ اللهِ - عز وجل - (¬1). 311 - أكبر الكبائر: حب الدنيا. 312 - أكثَرُ الناس ذنوبًا يوم القيامة أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيه. 313 - أكثر أهل الجنة البُلْهُ. 314 - أكْثِرُوا استلام هذا الحجر، فإنكم يوشك أن تفقدوه بينما الناس ذات ليلة يطوفون به إذ أصبحوا وقد فقدوه، إن الله لا ينزل شيئا من الجنة إلا أعاده فيها قبل يوم القيامة. 315 - أكثروا ذكر الله حتى يقول المنافقون إنكم مراؤون. 316 - أكثروا ذكر الله حتى يقولوا مجنون. 317 - أكثروا ذكر الموت، فما من عبد أكثر ذكره إلا أحيى الله قلبه وهوَّن عليه الموت. 318 - أكثروا في الجنازة قول: لا إله إلا الله. 319 - إكرام الميت دفنه. 320 - أكرم المجالس ما استقبل به القبلة. 321 - أكرموا الخبز؛ فإن الله أكرمه فمن أكرم الخبز أكرمه الله. 322 - أكرموا الخبز؛ فإن الله أنزله من بركات السماء وأخرجه من بركات الأرض. ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (رواه مسلم).

323 - أكرموا الخبز؛ فإنه من بركات السماء والأرض من أكل ما سقط من السفرة غُفر له. 324 - أكرموا الشهود؛ فإن الله يستخرج بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم. 325 - أكرموا العلماء؛ فإنهم ورثة الأنبياء (¬1) فمن أكرمهم فقد أكرم الله ورسوله. 326 - أكرموا الغرباء؛ فإن لهم شفاعة يوم القيامة لعلكم تنجون بشفاعتهم. 327 - أكرموا الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى حالتين: الجنابة والغائط؛ فإذا اغتسل أحدكم؛ فليستتر بجذم حائط، أو ببعيره، أو ليستره أخوه. 328 - أكرموا الهِرَّ. 329 - أكْرِموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من فضلة طينة أبيكم آدم، وليس من الشجر شجرة أكرم على الله تعالى من شجرة وُلِدَتْ تحتها مريم بنت عمران؛ فأطعموا نساءكم الوالد الرطب فإن لم يكن رطب فتمر. 330 - أكْلُ اللحم يحسّن الوجه ويحسّن الخلق. 331 - أكُنْتِ تخافين أنْ يحيف الله عليك ورسوله؟»، رُوِيَ عن عائشة - رضي الله عنها -، أنها قالت: «فقدتُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة فخرجْتُ فإذا هو بالبقيع رافع رأسه إلى السماء فقال لي: «أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟»، قالت: قلت: «يا رسول الله، ظننتُ أنكَ أتيتَ بعض نسائك»، فقال: «إن الله - عز وجل - ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب». ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَه أَخَذَ بِحَظٍّ وافر» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (وَرَّثُوا الْعِلْم): لِإِظْهَارِ الْإِسْلَام وَنَشْر الْأَحْكَام (فَمَنْ أَخَذَهُ): أَيْ أَخَذَ الْعِلْم مِنْ مِيرَاث النُّبُوَّة (أَخَذَ بِحَظٍّ): أَيْ بِنَصِيبٍ (وَافِر): كَثِير كَامِل.

332 - ألا أخبرك بتفسير (لا حول ولا قوة إلا بالله)؟»، رُوِيَ عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «ألا أخبرك بتفسير (لا حول ولا قوة إلا بالله)؟»، قلت: «بلى، يا رسول الله، فقال: لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله، هكذا أخبرني بها جبريل يا ابن أم عبد». 333 - ألا أدلكم على ما ينجيكم من عدوكم ويدر لكم أرزاقكم؟ تدعون الله ليلكم ونهاركم، فإن الدعاء سلاح المؤمن. 334 - ألا أعَلّمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع من علمته؟»، رُوِيَ عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال على بن أبي طالب - رضي الله عنه -: «يا رسول الله إن القرآن يتفلت من صدري»، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن وينفع من علمته؟ صَلِّ ليلة الجمعة أربع ركعات: تقرأ في الركعة الأولى بفاتحة الكتاب و (يس)، وفى الثانية بفاتحة الكتاب وبـ (حم) الدخان، وفي الثالثة بفاتحة الكتاب وبـ (ألم تنزيل) السجدة، وفي الرابعة بفاتحة الكتاب و (تبارك) المفَصّل، فإذا فرغْتَ من التشهد فاحمد الله تعالى وأثْنِ عليه وصل على النبيين واستغفر للمؤمنين، ثم قل: «اللهم ارحمني بترك المعاصي أبدًا ما أبقيتني، وارحمني مِن أن أتكلف ما لا يعنيني، وارزقني حسن النظر فيما يرضيك عني، اللهم بديع السموات والأرض، ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام، أسألك يا الله، يا رحمن، بجلالك ونور وجهك أن تلزم قلبي حفظ كتابك كما علمتني وارزقني أن أتلوَه على النحو الذي يرضيك عني، وأسألك أن تنوِّر بالكتاب بصري، وتطلق به لساني، وتفرج به كربي، وتشرح به صدري، وتستعمل به بدني، وتقويني على ذلك، وتعينني عليه؛ فإنه لا يعينني على الخير غيرك، ولا يوفق له إلا أنت»، فافعل ذلك ثلاث جُمَعٍ أو خمسًا أو سبعًا تحفظه بإذن الله، وما أخطأ مؤمنًا قط»، فأتى علي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد ذلك لسبع جُمَعٍ فأخبره بحفظ القرآن، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مؤمنٌ ورب الكعبة، عِلْمٌ أبا الحسن».

335 - ألا أنبئكم بالفقيه؟»، قالوا: «بلى»، قال: «من لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يُؤَيّسْهم من روح الله، ولا يُؤَمّنْهم من مكر الله، ولا يَدَع القرآن رغبةً عنه إلى ما سواه، ألَا لَا خيرَ في عبادة ليس فيها تَفَقّه، ولا في علم ليس فيه تفَهُّم، ولا قراءة ليس فيها تدبُّر». 336 - ألا دخلت في الصف»، رُوِيَ عن وابصة بن معبد أن رجلًا صلى خلف الصف وحده , وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يرى من خلفه كما يرى من بين يديه (¬1) , فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ألا دخلت فى الصف , أو جذبتَ رجلًا صلى معك؟! أعِد الصلاة». 337 - ألا من قتل نفسًا معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرَح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفًا (¬2). 338 - ألا هل مشمر للجنة؟ فإن الجنة لا خطر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، ¬

(¬1) عن أَنَس سدد خطاكم قَالَ: «أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّى أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِى». (رواه البخاري). (¬2) قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» (رواه البخاري). (مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا): أي ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا. (لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ). أي لم يشم ريحها. = = وهو كناية عن عدم الدخول فيها ابتداء. بمعنى أنه لا يستحق ذلك. (مَسِيرَةِ): مسافة يستغرق سيرها هذه المدة. وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (أَلَا) لِلتَّنْبِيهِ (مُعَاهِدًا) بِكَسْرِ الْهَاءِ أَيْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا (أَوِ انْتَقَصَهُ) أَيْ نَقَصَ حَقَّهُ (أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ) أَيْ فِي أَدَاءِ الْجِزْيَةِ أَوِ الْخَرَاجِ بِأَنْ أَخَذَ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ أَوْ أَخَذَ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُطِيقُ (فَأَنَا حَجِيجُهُ) أَيْ خَصْمُهُ وَمُحَاجُّهُ وَمُغَالِبُهُ بِإِظْهَارِ الْحِجَجِ عَلَيْهِ.

وحلل كثيرة في مقام أبدًا في خضرة ونضرة في دار عالية سليمة بهية»، قالوا: «نحن المشمرون لها»، قال: «قولوا إن شاء الله». 339 - ألا يا رُبَّ نفس طاعمة ناعمة في الدنيا جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رُبَّ نفس جائعة عارية في الدنيا طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رُبَّ مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رُبَّ مهين لنفسه وهو لها مكرم، ألا يا رُبَّ متخوض ومتنعم فيما أفاء الله على رسوله ما له عند الله من خلاق، ألا وإن عمل الجنة حزن بربوة، ألا وإن عمل النار سهل بشهوة، ألا يا رُبَّ شهوة ساعة أورثت حزنًا طويلًا. 340 - ألا يستحي أحدكم من ملَكَيْه اللذين معه؛ كما يستحي من رجلَيْن صالحين من جيرانه، وهما معه بالليل والنهار؟! 341 - الأب أحق بالطاعة والأم أحق بالبر. 342 - الأبدال في هذه الأمة ثلاثون مثل إبراهيم خليل الرحمن - عز وجل - كلما مات رجلٌ أبدل الله تبارك وتعالى مكانه رجلًا. 343 - الأرز في الطعام كالسيد في القوم، والكراث في البقول بمنزلة الخبز، وعائشة كالثريد (¬1)، وأنا كالملح في الطعام. 344 - الأرض المقدسة لا تقدس أحدًا إنما يقدس الإنسان عمله (¬2). 345 - الأرضون سبع في كل أرض نبيٌّ كنَبِيّكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى. ¬

(¬1) عن أبي موسى الأشعريِّ سدد خطاكم قال: قالَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» (رواه البخاري ومسلم). (¬2) روى الإمام مالك في الموطأ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِىِّ أَنْ هَلُمَّ إِلَى الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: «إِنَّ الأَرْضَ لاَ تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ»، وقال محققه: «إسناده ضعيف».

346 - الاستئذان ثلاث (¬1)، فبالأولى يستنصتون، والثانية يستصلحون، والثالثة يأذنون أو يردّون. 347 - الإسلام نظيف فتنظفوا، فإنه لا يدخل الجنة إلا نظيف. 348 - الأصابع تجري مجرى السواك إذا لم يكن سواك. 349 - الأضاحي سُنة أبيكم إبراهيم». قالوا: «فما لنا فيها؟»، قال: «بكل شعرة حسنة»، قالوا: «فالصوف؟»، قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة». 350 - الأضحية لصاحبها بكل شعرة حسنة. 351 - الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم. 352 - الاقتصاد نصف العيش، وحسن الخلق نصف الدين. 353 - الأقربون أوْلَى بالمعروف. 354 - الأكبر من الإخوة بمنزلة الأب. 355 - الإيمان عريان، ولباسه التقوى، وزينته الحياء، وماله الفقه. 356 - الإيمان لا يزيد ولا ينقص. 357 - الباذنجان لِمَا أكِلَ له. 358 - البحر من جهنم. 359 - البخيل عدو الله، ولو كان راهبًا. ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلَّا فَارْجِعْ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

360 - البدلاء أربعون رجلًا وأربعون امرأة، كلما مات رجل أبدل الله مكانه رجلًا، وكلما ماتت امرأة أبدل الله مكانها امرأة (¬1). 361 - البر شيءٌ هيّن، وجه طليق، وكلام ليّن. 362 - البر لا يبلى، والذنب لا يُنسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت كما تدين تدان. 363 - البر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديّان لا ينام، فكن كما شئت، كما تدين تدان. 364 - البشاشة خير من القِرَى (¬2). 365 - البِطْنَة أصل الداء، والحِمْيَة أصل الدواء، وعوّدوا كل جسم ما اعتاد (¬3). 366 - البطيخ قبل الطعام يغسل البطن غسلًا، ويذهب بالداء أصلًا. 367 - البلاء موكل بالقول ما قال عبد لشيء: «لا والله لا أفعله أبدًا»، إلا ترك الشيطان كل عمل وولع بذلك منه حتى يؤثّمه. 368 - البلاء مُوَكّل بالمنطق، فلو أن رجلا عيّر رجلًا برضاع كلبة لَرَضَعها. 369 - التائب حبيبُ الله. 370 - التدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، والهَمّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارَيْن (¬4). ¬

(¬1) قال ابن القيم معددًا الأحاديث الموضوعة: «ومن ذلك: أحاديث الأبدال، والأقطاب، والأغواث، والنقباء، والنجباء، والأوتاد، كلها باطلة على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -». انظر: المنار المنيف (ص 136). (¬2) أي الضيافة. (¬3) وأما الحديث الدائر على ألسنة الناس: «الحِمْيَة رأس الدواء، والمعدة بيت الداء وعودوا كل جسم ما اعتاد». فهو من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب ولا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. والحِمْية: الإقلال من الطعام ونحوه مما يضر. (¬4) (وقلة العيال أحد اليسارين) لأن الغِنَى نوعان غِنًى بالشيء والمال، وغِنًى عن الشيء لعدم الحاجة إليه، وهذا هو الحقيقي فقلة العيال لا حاجة معها إلى كثرة المؤن. [انظر: فيض القدير (3/ 280)]. وقد أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بزيادة النسل بقوله: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكَمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (رواه الإمام أحمد وأبو داود، وصححه الذهبي والألباني).

371 - التذلل للحق أقرب إلى العز من التعزز بالباطل. 372 - التقى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجبريل - عليه السلام - في الملأ الأعلى»، رُوِيَ عن أنس بن مالك سدد خطاكم عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: التقى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وجبريل - عليه السلام - في الملأ الأعلى فقال: «يا جبرئيل أعَلَى أمتي حساب؟»، فقال: «نعم، عليهم حساب ما خلا أبا بكر الصديق لي عليه حساب، فقيل: يا أبا بكر ادخل الجنة فقال: لن أدخُلها حتى أدخِل معي مَن أحبني في دار الدنيا». 373 - التمس لأخيك سبعين عذرًا (¬1). 374 - التمسوا الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق. 375 - التمسوا الخير عند حِسَان الوجوه. 376 - التمسوا الرزق بالنكاح (¬2). ¬

(¬1) رُوِيَ عن عمر بن سدد خطاكم أنه قال: «لا تَظُنّ بكلمة صدرت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير مَحْمَلًا». ورُوِيَ عن جعفر بن محمد قال: «إذا بلغك عن أخيك الشيءَ تُنْكِرُه فالْتمسْ له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذرًا، فإن أصبْتَه، وإلا قُلْ لعل له عذرًا لا أعرفه». ورُوِيَ عن محمد بن سيرين قال: «إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا، فإن لم تجد له عذرا فقل لعل له عذرًا». (¬2) قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} (النور: 32)؛ قال الحافظ ابن كثير: «{الْأَيَامَى} جمع أيِّم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما،. . . يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم أيضًا. وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: «رغّبَهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى»، = = فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. . . ثم نقل ابن كثير أن أبا بكر الصديق سدد خطاكم قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، يُنْجِزْ لكم ما وعدكم من الغنى، قال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ... ونقل أن ابن مسعود سدد خطاكم قال: «التمسوا الغِنَى في النكاح»، يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وذكر ابن كثير حديث الترمذي وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفَافَ». (انظر تفسير الآية 32 من سورة النور. وهذا الحديث حسنه الألباني).

377 - التوبة النصوح الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله تعالى ثم لا تعود إليه أبدًا. 378 - التوبة تجُبُّ ما قبلها (¬1). 379 - التوبة من الذنب أن لا تعود إليه أبدًا. 380 - التيمم ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين. 381 - الثالث ملعون»، رُوِيَ عن المهاجر بن قنفذ قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثلاثة على دابة، فقال: «الثالث ملعون». 382 - الثقة بالناس عجز. 383 - الثوم والبصل والكراث من سك إبليس. 384 - الجار قبل الدار، والرفيق قبل الطريق، والزاد قبل الرحيل. ¬

(¬1) يغني عنه قَولُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني). وعن عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ سدد خطاكم قَالَ: لَمَّا أَلْقَى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِيُبَايِعَنِي فَبَسَطَ يَدَهُ إِلَيَّ فَقُلْتُ: «لَا أُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى تَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي». قَالَ: فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا مِنْ الذُّنُوبِ، يَا عَمْرُو أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ الذُّنُوبِ» (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني). ورواه مسلم بلفظ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».

385 - الجالب إلى سوقنا كالمجاهد في سبيل الله، والمحتكر في سوقنا كالملحد في كتاب الله. 386 - الجزاء من جنس العمل (¬1). 387 - الجمعة حج الفقراء. 388 - الجمعة حج المساكين. 389 - الجمعة على الخمسين رجلًا، وليس على ما دون الخمسين جمعة. 390 - الجمعة واجبة على خمسين رجلًا، وليس على من دون الخمسين جمعة. 391 - الجنازة متبوعة وليست بتابعة؛ ليس مِنّا مَن تقَدّمها. 392 - الجنة تحت أقدام الأمهات مَن شِئْنَ أدخَلْنَ، ومَن شِئْنَ أخرَجْن (¬2). 393 - الجَنَّةُ دَارُ الأسخِياءِ. 394 - الجوع كافر، وقاتله من أهل الجنة. ¬

(¬1) لم يَرِدْ هكذا، ولكن معناه صحيح، ويشير إليه قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126)، {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (الشورى: 40)، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (الرحمن: 60). (¬2) يغني عنه حديث مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ: جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ»، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟»، قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ: «الْزَمْهَا؛ فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا»، ثُمَّ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فِي مَقَاعِدَ شَتَّى كَمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ» (رواه الإمام أحمد والنسائي وحسنه الألباني). والمقصود بالغزو هنا جهاد طلب الكفار في عقر دارهم، وليس جهاد دفع الكفار عن بلاد المسلمين. (فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا) أَيْ نَصِيبُك مِنْهَا لَا يَصِل إِلَيْك إِلَّا بِرِضَاهَا، بِحَيْثُ كَأَنَّهُ لَهَا وَهِيَ قَاعِدَة عَلَيْهِ، فَلَا يَصِل إِلَيْك إِلَّا مِنْ جِهَتهَا، فَإِنَّ الشَّيْء إِذَا صَارَ تَحْت رِجْل أَحَد، فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَصِل إِلَى آخَر إِلَّا مِنْ جِهَته.

395 - الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وهو أدنى الجيران حقًا، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق، وهو أفضل الجيران حقًا، فأما الجار الذي له حقٌ واحد، فالجار المشرك لا رحم له، له حق الجوار، وأما الذي له حقان فالجار المسلم لا رحم له، له حق الإسلام وحق الجوار، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم، له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم، وأدنى حق الجوار أن لا تؤذي جارك بقتار قدرك إلا أن تقدح له منها. 396 - الجيزة روضة من رياض الجنة، ومصر خزائن الله في أرضه. 397 - الحاج الراكب له بكل خف يضعه بعيره حسنة. 398 - الحبيب لا يعذب حبيبه. 399 - الحج قبل التزويج. 400 - الحجر الأسود يمين الله في الأرض يصافح بها عباده. 401 - الحجر يمين الله؛ فمن مسحه فقد بايع الله أن لا يعصيه. 402 - الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش. 403 - الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. 404 - الحزم سوء الظن. 405 - الحسد في الجيران. 406 - الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. 407 - الحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل. 408 - الحسود لا يسود. 409 - الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر. 410 - الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا.

411 - الحكمة ضالة كل حكيم، فإذا وجدها فهو أحق بها. 412 - الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسول الله»، رُوِيَ عن معاذ بن جبل سدد خطاكم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حين بعثه إلى اليمن قال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟»، قال: «أقضي بما في كتاب الله». قال: «فإن لم يكن في كتاب الله؟»، قال: «بسُنّة رسول الله»، قال: «فإن لم يكن في سنة رسول الله؟»، قال: أجتهد رأيي لَا آلُو»، قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله» (¬1). 413 - الحياء زينة، والتُقَى كرم، وخير المركب الصبر، وانتظار الفرج من الله - عز وجل - عبادة. 414 - الخبر الصالح يجيء به الرجل الصالح، والخبر السوء يجيء به الرجل السوء. 415 - الخضر في البحر، وإلياس في البر، يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج، ويحجان ويعتمران كل عام، ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل. 416 - الخضر هو إلياس. ¬

(¬1) قال الألباني: «هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس صحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن وإنزاله إياه معه، منزلة الاجتهاد منهما. فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب. وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا وعدم التفريق بينهما، لما علم من أن السنة تبيّن مجمل القرآن، وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه كما هو معلوم». [انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (2/ 286، رقم 881)، وراجع (بيان الأوهام في إنكار حديث الاجتهاد في الأحكام) للدكتور أبي بكر خليل].

417 - الخَلقُ كُلُّهُمْ عِيالُ اللهِ، فَأحبُّهُم إلى اللهِ أنفَعُهُم لِعِيالِهِ (¬1). 418 - الخمول نعمة، وكل الناس يأباها. 419 - الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة (¬2). 420 - الخير كثير، وقليلٌ فاعلُه. 421 - الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدين، ونور السموات والأرض. 422 - الدعاء مخ العبادة (¬3). 423 - الدم مقدار الدرهم يغسل وتعاد منه الصلاة. 424 - الدنيا جِيفَةٌ وطُلّابُها كِلاب. 425 - الدنيا حرام على أهل الآخرة، والآخرة حرام على أهل الدنيا، والدنيا والآخرة حرام على أهل الله. 426 - الدنيا خطوة رجل مؤمن. 427 - الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له. 428 - الدنيا ضرة الآخرة. ¬

(¬1) عن عبد الله بن دينار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: قيل: «يا رسول الله من أحب الناس إلى الله؟»، قال: «أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وإِنَّ أحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُؤْمِنٍ: تَكْشِفُ عَنْهُ كَرْبًا، أوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا». (رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسنه الألباني). (¬2) قال ابن حجر: «لا أعرفه ولكن معناه صحيح». اهـ. ويغني عنه قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ» (رواه مسلم). (¬3) عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ سدد خطاكم قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (غافر: 60)» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

429 - الدنيا لا تصفوا لمؤمن، كيف وهي سجنه وبلاؤه. 430 - الدنيا قنطرة الآخرة. 431 - الدنيا مزرعة الآخرة. 432 - الدواوين ثلاثة: فديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا، فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا فالإشراك بالله، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها فإن الله يغفر ذلك إن شاء ويتجاوز، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فمظالم العباد بينهم القصاص لا محالة. 433 - الديك الأبيض الأفرق (¬1) حبيبي وحبيب حبيبي جبريل يحرس بيته وستة عشر بيتًا من جيرانه: أربعة عن اليمين، وأربعة عن الشمال، وأربعة من قُدّام، وأربعة من خلف. 434 - الديك الأبيض صديقي، وصديق صديقي، وعدو عدوي يحرس دار صاحبه وتسع دور حولها. 435 - الديك يؤذن بالصلاة (¬2)، مَن اتخذ ديكًا أبيض حفظ من ثلاثة: من شر كل شيطان، وساحر، وكاهن. 436 - الدَّيْن ذل ولو درهم، والسؤال ذل ولو أين الطريق. 437 - الدَّيْن راية الله في الأرض، فإذا أراد الله أن يذل عبدًا وضعه في عنقه. ¬

(¬1) ديكٌ أفرَقُ بيِّنُ الفَرَقِ: ذُو عُرْفَيْنِ للّذي عُرفُه مَفْروقٌ، وَذَلِكَ لانْفِراجِ مَا بينَهُما. ورجُلٌ أفْرَقُ: كأنّ ناصِيتَه أَو لِحْيَتَه كأنّها مَفْروقَةٌ بيِّنُ الفَرَق. (¬2) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ فَإِنَّهُ يُوقِظُ لِلصَّلَاةِ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وفي رواية: «لَا تَسُبُّوا الدِّيكَ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إِلَى الصَّلَاةِ» (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).

438 - الدين المعاملة. 439 - الدَّيْن هم بالليل ومذلة بالنهار. 440 - الديْن ولو درهم، والبنت ولو مريم، والسؤال ولو كيف الطريق. 441 - الدَّيْن ينقص من الدِين والحسب. 442 - الذبيح إسحاق. 443 - الذِكْر الذي لا تسمعه الحفظة يزيد على الذكر الذي تسمعه الحفظة سبعين ضعفًا. 444 - الذِكْر خيرٌ من الصدقة. 445 - الذكر نعمة من الله فأدّوا شكرها. 446 - الذنب شؤم على غير فاعله إن عيّره ابتلي به، وإن اغتابه أثم، وإن رضي به شاركه. 447 - الرابح في الشر خاسر. 448 - الرجل الصالح يأتي بالخبر الصالح، والرجل السوء يأتي بالخبر السوء. 449 - الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل 450 - الرفق رأس الحكمة. 451 - الرّفقُ في المَعيشَةِ، خَيرٌ مِن بَعض التِّجارَةِ. 452 - الزرقة في العين يُمْنٌ. 453 - الزنا يورث الفقر. 454 - الزهادة في الدنيا ليست بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أنت أصِبْتَ بها أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك.

455 - الساكت عن الحق شيطان أخرس. 456 - السؤال ولو كيف الطريق. 457 - السباق أربعة: أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبش. 458 - السبق ثلاثة: فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين، والسابق إلى محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - علي بن أبى طالب. 459 - السبيل الزاد والراحلة. 460 - أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؟»، رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: وَكَانَ مَتَاعِي فِيهِ خَفٌّ، وَكَانَ عَلَى جَمَلٍ نَاجٍ، وَكَانَ مَتَاعُ صَفِيَّةَ فِيهِ ثِقَلٌ، وَكَانَ عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ بَطِيءٍ يَتَبَطَّأُ بِالرَّكْبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَوِّلُوا مَتَاعَ عَائِشَةَ عَلَى جَمَلِ صَفِيَّةَ، وَحَوِّلُوا مَتَاعَ صَفِيَّةَ عَلَى جَمَلِ عَائِشَةَ حَتَّى يَمْضِيَ الرَّكْبُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: «فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: يَا لَعِبَادِ اللهِ، غَلَبَتْنَا هَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ، إِنَّ مَتَاعَكِ كَانَ فِيهِ خَفٌّ وَكَانَ مَتَاعُ صَفِيَّةَ فِيهِ ثِقَلٌ، فَأَبْطَأَ بِالرَّكْبِ، فَحَوَّلْنَا مَتَاعَهَا عَلَى بَعِيرِكِ، وَحَوَّلْنَا مَتَاعَكِ عَلَى بَعِيرِهَا»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: «أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؟». قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ، قَالَ: «أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتِ يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ؟»، قَالَتْ: قُلْتُ: «أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؟ أَفَهلا عَدَلْتَ؟»، وَسَمِعَنِي أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ فِيهِ غَرْبٌ ـ أَيْ حِدَّةٌ ـ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَلَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَهْلا يَا أَبَا بَكْرٍ»، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَا سَمِعْتَ مَا قَالَتْ؟»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الْغَيْرَى لا تُبْصِرُ أَسْفَلَ الْوَادِي مِنْ أعْلَاه، إنَّمَا التَّجَنِّي في القَلبِ». 461 - السخي قريب من الله، قريب من الجنة. قريب من الناس، بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل.

462 - السر عند الأحرار. 463 - السعادة كل السعادة طول العمر في طاعة الله (¬1). 464 - السفر يُسْفِرُ عن أخلاق الرجال. 465 - السلطان العادل المتواضع ظل الله ورمحه في الأرض يرفع له عمل سبعين صِدّيقًا. 466 - السلطان ظل الرحمن في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وعلى الرعية الشكر، وإن جار أو حاف وظلم كان عليه الإصر وعلى الرعية الصبر. 467 - السلطان ظل الله في الأرض فمن أكرمه أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله. 468 - السلطان ظل الله في أرضه من نصحه هدى، ومن غشه ضل. 469 - السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر وكان على الرعية الشكر، وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر وكان على الرعية الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي، وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر، والمسكنة وإذا أخفرت الذمة أديل الكفار (¬2). ¬

(¬1) عن أَبِي بَكْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ»، قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، قَالَ: «فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟»، قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (¬2) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَمْسٌ بِخَمْسٍ»، قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا خَمْسٌ بِخَمْسٍ؟»، قَالَ: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلا سُلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ، وَمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلا فَشَا فِيهِمُ الْفَقْرُ، وَلا ظَهَرَتْ فِيهِمُ الْفَاحِشَةُ إِلا فَشَا فِيهِمُ الْمَوْتُ، وَلا طفَّفُوا الْمِكْيَالَ إِلا مُنِعُوا النَّبَاتَ وَأُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَلا مَنَعُوا الزَّكَاةَ إِلا حُبِسَ عَنْهُمُ الْقَطْرُ» (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ - وَأَعُوذُ بِاللهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ -: لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا. وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ. وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا. وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ. وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللهُ إِلَّا جَعَلَ اللهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ» (حسن رواه ابن ماجه). (الْفَاحِشَةُ) أي الزنا. (الْأَوْجَاعُ) أي الأمراض. (السِّنِين) أي الفقر. (الْقَطْرَ) أي المطر. (بَأْسَهُمْ) أي حربهم.

470 - ألسنة الخلق أقلام الحق. 471 - السواك شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت. 472 - الشام مباركة، وفلسطين مقدسة، وبيت المقدس قدس ألف مرة. 473 - الشتاء ربيع المؤمن، قصر نهاره فصام، وطال ليله فقام. 474 - الشحيح لا يدخل الجنة. 475 - الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء. 476 - الشكر في الوجه مذمة. 477 - الشفقة على خلق الله تعظيم لأمر الله. 478 - الشمس والقمر ثوران عقيران (¬1) في النار، إن شاء أخرجهما وإن شاء تركهما. 479 - الشيخ في بيته كالنبي في قومه. 480 - الشيخ في قومه كالنبي في أمته. 481 - الشيخ في جماعته كالنبي في قومه، يتعلمون من علمه، ويتأدبون من آدابه. 482 - الشيطان يلتقم قلب ابن آدم، فإذا ذكر الله خنس عنده وإذا نسي الله التقم قلبه. ¬

(¬1) أي أَنَّهُمَا بِمَنْزِلَة الثورين العقيرين الَّذيْن ضُرِبَتْ قوائمهما بِالسَّيْفِ، فَلَا يقدران على شَيْء.

483 - الصائم المتطوع بالخيار ما بينه وبين نصف النهار. 484 - الصائم في عبادة، وإن كان راقدًا في فراشه (¬1). 485 - الصخرة صخرة بيت المقدس على نخلة، والنخلة على نهر من أنهار الجنة، وتحت النخلة آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم بنت عمران ينظمان سموط أهل الجنة (¬2) إلى يوم القيامة. 486 - الصديقون ثلاثة: حبيب النجار، مؤمن آل يس الذي قال: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} (يس: 20)، وحزقيل، مؤمن آل فرعون الذي قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (غافر: 28)، وعلي بن أبي طالب، وهو أفضلهم. 487 - الصلاة تسوّد وجه الشيطان، والصدقة تكسر ظهره، والتحاب في الله والتودد في العمل يقطع دابره، فإذا فعلتم ذلك تباعد منكم كمطلع الشمس من مغربها. 488 - الصلاة خدمة الله في الأرض، فمن صلى ولم يرفع يديه فهى خِدَاجٌ، هكذا أخبرني جبريل عن الله - عز وجل - أن بكل إشارة درجة وحسنة. 489 - الصَّلاةُ عِمادُ الدِّينِ (¬3)، مَنْ أقَامَها فَقدْ أقَامَ الدِّينَ، وَمنْ هَدمَها فَقَد هَدَمَ الدِّينَ. ¬

(¬1) قال الألباني في السلسلة الضعيفة (2/ 107)، رقم 653: «وقد رواه عبد الله بن أحمد في (زوائد الزهد ص 303) من قول أبي العالية موقوفًا عليه بزيادة: «ما لم يغتب». وإسناده صحيح». (¬2) سموط أهل الْجنَّة): أَي قلائدهم. (¬3) قال رَسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «رَأسُ الْأمْرِ الإسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وذِرْوَةُ سَنامِهِ الْجِهَادُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (رَأْسُ الْأَمْرِ) أَيْ أَمْرُ الدِّينِ، (وَعَمُودُهِ) أَيْ مَا يَقُومُ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ (وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ) - بِكَسْرِ الذَّالِ، وَهُوَ الْأَشْهَرُ، وَبِضَمِّهَا وَحُكِيَ فَتْحُهَا - أَعْلَى الشَّيْءِ، وَالسَّنَامُ - بِالْفَتْحِ - مَا ارْتَفَعَ مِنْ ظَهْرِ الْجَمَلِ قَرِيبَ عُنُقِهِ، (وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ) يَعْنِي الْإِسْلَامَ هُوَ أَصْلُ الدِّينِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ وَكَمَالٌ ... = = كَالْبَيْتِ الَّذِي لَيْسَ لَهُ عَمُودٌ فَإِذَا صَلَّى وَدَاوَمَ قَوِيَ دِينُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ رِفْعَةٌ، فَإِذَا جَاهَدَ حَصَلَ لِدِينِهِ رِفْعَةٌ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - (وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ) وَفِيهِ إِشْعَارٌ إِلَى صُعُوبَةِ الْجِهَادِ وَعُلُوِّ أَمْرِهِ وَتَفَوُّقِهِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ.

490 - الصلاة بالعمامة بعشرة آلاف حسنة. 491 - الصلاة خلف الإمام بأربعة آلاف وأربعمائة وأربعين صلاة. 492 - الصلاة في العمامة تعدل بعشرة آلاف حسنة. 493 - الصلاة على النبِيّ أفضل من عتق الرقاب. 494 - الصمت حِكَمٌ وقليلٌ فاعلُه. 495 - الصمت زَيْنٌ للعالم، وسترٌ للجاهل. 496 - الصمت سيد الأخلاق، ومن مزح استُخِفَّ به. 497 - الصوم يُدِقّ المَصِير (¬1)، ويُذْبِل اللحم، ويُبْعِد من حر السعير، إن لله مائدة عليها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (¬2)، لا يقعد عليها إلا الصائمون. 498 - الصيام نصف الصبر، وعلى كل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام. 499 - الضحك في المسجد ظلمة في القبر. 500 - الضحك من غير سبب قلة أدب. 501 - الضحك من غير عجب من قلة الأدب، ومذهب للمروءة، وممحقة للرزق. 502 - الضرورات تبيح المحظورات (¬3). ¬

(¬1) (الصَّوْم يُدِقّ الْمصير) أَي الأمعاء أَي يُصَيّرها دقيقة، والدقة ضد الغِلَط، (فيض القدير 4/ 243). (¬2) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى أَعْدَدْتُ لِعِبَادِى الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» (رواه البخاري ومسلم). (¬3) كلام يدور على ألسنة الفقهاء، وليس بحديث.

503 - الضمة في القبر كفارة لكل مؤمن؛ لكل ذنب بقي عليه لم يغفر له، وذلك أن يحيى بن زكريا - عليهما السلام - ضمه القبر ضمة في أكلته الشعير. 504 - الضيف يأتي برزقه، ويرتحل بذنوب القوم، يمحص عنهم ذنوبهم. 505 - الطاعون وخز إخوانكم من الجن. 506 - الطلاق يمين الفُسّاق. 507 - الظالم عدل الله في الأرض ينتقم به من الناس، ثم ينتقم الله منه. 508 - الظُهُورُ يقطع الظُهُورَ. 509 - العار خير من النار. 510 - العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء، وإذا أراد أن يكثر به الكنوز هاب من كل شيء. 511 - العالم أمين الله في الأرض. 512 - العالم سلطان الله في الأرض فمن وقع فيه فقد هلك. 513 - العباس عمي، وصنو أبي، فمن شاء فلْيُبَاهِ بعمه. 514 - العباس مني، وأنا منه. 515 - العباس وصِيّي ووارثي. 516 - العبيد إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا زَنَوا. 517 - العداوة في الأهل، والحسد في الجيران، والمنفعة في الإخوان.

518 - العدل حسن، ولكن في الأمراء أحسن، السخاء حسن ولكن في الأغنياء أحسن، الورع حسن ولكن في العلماء أحسن، الصبر حسن ولكن في الفقراء أحسن، التوبة حسنة، ولكن في الشباب أحسن، الحياء حسن، ولكن في النساء أحسن. 519 - العز مقسوم، وطلب العز غموم وأحزان. 520 - العصمةُ أن لا تجد. 521 - العطاس عند الدعاء شاهد صدق. 522 - العطاس عند الكلام شاهد صدق. 523 - العلم خزائن، ومفتاحها السؤال، فاسألوا يرحمكم الله، فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمجيب لهم. 524 - العلم في الصغر كالنقش في الحجر. 525 - العلم يُسعَى إليه. 526 - العلماء ثلاثة: رجل عاش بعلمه وعاش الناس به، ورجل عاش الناس به وأهلك نفسه، ورجل عاش بعلمه ولم يعش به غيره. 527 - العلماء قادة، والمتقون سادة، ومجالستهم زيادة. 528 - العنكبوت شيطان مسخه الله تعالى فاقتلوه. 529 - العين الرمدة لا تمس. 530 - العينان دليلان، والأذنان قمعان، واللسان ترجمان، واليدان جناحان، والكبد رحمة، والطحال ضحك، والرئة نفس، والكليتان مكر، والقلب ملِك، فإذا صلح الملك صلحت رعيته، وإذا فسد الملك فسدت رعيته. 531 - الغرباء في الدنيا أربعة: قرآن في جوف ظالم، ومسجد في نادي قوم لا يصَلَّى فيه، ومصحف في بيت لا يُقرأ فيه، ورجل صالح مع قوم سوء.

532 - الغرباء ورثة الأنبياء، ولم يبعث الله نبيًا إلا وهو غريب في قومه. 533 - الغناء واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب (¬1). 534 - الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. 535 - الغيبة أشد من الزنا، إن الرجل يتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه. 536 - الغيبة تنقض الوضوء والصلاة. 537 - الفاتحة لما قُرِئَتْ له. 538 - الفاجر الراجي لرحمة الله تعالى أقرب منها من العابد المقنط. 539 - الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها. 540 - الفقر أمانة، فمن كتمه كان عبادة، ومن باح به فقد قلد إخوانه المسلمين. 541 - الفقر فخري، وبه أفتخر. 542 - الفقر شَيْنٌ عند الناس، وزَيْنٌ عند الله يوم القيامة. 543 - القاصّ ينتظر المقت، والمستمع ينتظر الرحمة، والتاجر ينتظر الرزق، والمحتكر ينتظر اللعنة، والنائحة ومن حولها من امرأة مستمعة عليهن لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. 544 - القائم بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد (¬2). ¬

(¬1) من أوضح الأدلة على تحريم الموسيقى والغناء المصحوب بموسيقى قولُ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ، وَالمَعَازِفَ» (رواه البخاري). الحِرَ: هُوَ الْفَرْجُ، وَالْمعْنَى يسْتَحلُّونَ الزِّنَا. يسْتَحلُّونَ: قَالَ ابن الْعَرَبِيِّ: «يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ حَلَالًا، وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك مَجَازًا عَلَى الِاسْتِرْسَالِ أَيْ يَسْتَرْسِلُونَ فِي شُرْبِهَا كَالِاسْتِرْسَالِ فِي الْحَلَالِ، وَقَدْ سَمِعْنَا وَرَأَيْنَا مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟». وَالْمَعَازِف: هِيَ آلَاتُ الْمَلَاهِي. [انظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 55)]. (¬2) ويغني عنه قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، للْمُتَمَسِّكُ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَوْ مِنْهُمْ؟» قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ». [رواه الطبراني، وقال الألباني: «هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم»، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة برقم (494)].

545 - القرآن هو النور المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم (¬1). 546 - القلب بيت الرب. 547 - القلب ملِك وله جنود، فإذا صلح الملك صلحت جنوده، وإذا فسد الملك فسدت جنوده، والأذنان قمع، والعينان مسلحة، واللسان ترجمان، واليدان جناحان، والرجلان بريد، والكبد رحمة، والطحال ضحك، والكليتان مكر، والرئة نفس (¬2). 548 - القناعة مال لا ينفد. 549 - القهقهة من الشيطان، والتبسم من الله. ¬

(¬1) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} (النساء:174)، وقال تعالى: ... {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} (آل عمران: 58). وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (الزخرف: 43). (¬2) (العينان مسلحة): أَي سلَاح يَتَّقِي بهما، (وَاللِّسَان ترجمان) عَمَّا فِي الضَّمِير. وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ». (رواه البخاري ومسلم). وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، فَتَقُولُ: اتَّقِ اللهَ فِينَا؛ فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). قَوْلُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا أَصْبَحَ اِبْنُ آدَمَ» أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ (فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ) جَمْعُ عُضْوٍ كُلُّ عَظْمٍ وَافِرٍ بِلَحْمِه ِ (كُلَّهَا) تَأْكِيدٌ (تُكَفِّرُ اللِّسَانَ) بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ الْمَكْسُورَةِ، أَيْ تَتَذَلَّلُ وَتَتَوَاضَعُ لَهُ، والتَّكْفِيرُ هُوَ أَنْ يَنْحَنِيَ الْإِنْسَانُ وَيُطَأْطِئَ رَأْسَهُ قَرِيبًا مِنْ الرُّكُوعِ كَمَا يَفْعَلُ مَنْ يُرِيدُ تَعْظِيمَ صَاحِبِهِ. (فَتَقُولُ) أَيْ الْأَعْضَاءُ لَهُ (اِتَّقِ اللهَ فِينَا) أَيْ خَفْهُ فِي حِفْظِ حُقُوقِنَا (فَإِنَّمَا نَحْنُ بِك) أَيْ نَتَعَلَّقُ وَنَسْتَقِيمُ وَنَعْوَجُّ بِك (فَإِنْ اِسْتَقَمْت) أَيْ اِعْتَدَلَتْ (اِسْتَقَمْنَا) أَيْ اِعْتَدَلْنَا تَبَعًا لَك (وَإِنْ اعْوَجَجْت) أَيْ مِلْت عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى (اعْوَجَجْنَا) أَيْ مِلْنَا عَنْهُ اِقْتِدَاءً بِك.

550 - الكريم إذا قدر عفا. 551 - الكريم حبيب الله ولو كان فاسقًا، والبخيل عدو الله ولو كان راهبًا. 552 - الكريم حبيب الله ولو كان فاسقًا، والبخيل عدو الله ولو كان زاهدًا. 553 - الكافر يلجمه العرق يوم القيامة، حتى يقول: «أرِحْنِي ولو إلى النار». 554 - الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها جذبها. 555 - الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها. 556 - الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْحَكِيمِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا. 557 - الكيّس مَن دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني. 558 - الكيس من عمل لما بعد الموت، والعاري العاري من الدين. 559 - الذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر الله يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك. 560 - اللباس يُظهر الغِنَى، والدهن يُذهب البؤس، والإحسان إلى المملوك يكبت الله به العدو. 561 - اللهم اجعلني صبورًا، اللهم اجعلني شكورًا، اللهم اجعلني في عيني صغيرًا وفي أعين الناس كبيرًا. 562 - اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ وَيَضْحَكُ إِلَيْكَ»، رُوِيَ عَنْ حُصَيْنِ بن وَحْوَحٍ، أَنَّ طَلْحَةَ بن الْبَرَاءِ لَمَّا لَقِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُرْنِي بِمَا أَحْبَبْتَ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَعَجِبَ لِذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ غُلامٌ، فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ: «اذْهَبْ فَاقْتُلْ أَبَاكَ»، قَالَ: فَخَرَجَ مُوَلِّيًا لِيَفْعَلَ، فَدَعَاهُ، فَقَالَ لَهُ: «أَقْبِلْ فَإِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ»، فَمَرِضَ طَلْحَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَعُودُهُ فِي الشِّتَاءِ فِي بَرْدٍ وغَيْمٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ لأَهْلِهِ: «لا أَرَى طَلْحَةَ إِلا قَدْ حَدَثَ فِيهِ الْمَوْتُ فَآذِنُونِي بِهِ حَتَّى أَشْهَدَهُ وَأُصَلِّيَ عَلَيْهِ وعَجِّلُوهُ»، فَلَمْ يَبْلُغِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بني سَالِمِ بن عَوْفٍ حَتَّى تُوُفِّيَ، وجَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ،

فَكَانَ فِيمَا قَالَ طَلْحَةُ: ادْفِنُونِي وَأَلْحِقُونِي بِرَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ -، وَلا تَدْعُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنِّي أَخَافُ الْيَهُودَ أَنْ يُصَابَ فِي سَبَبِي، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - حِينَ أَصْبَحَ، فَجَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ، فَصَفَّ النَّاسُ مَعَهُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ الْقَ طَلْحَةَ وَيَضْحَكُ إِلَيْكَ». 563 - اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس»، رُوِيَ عن عبد الله بن جعفر قال: لما توفي أبو طالب خرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى الطائف ماشيًا على قدميه، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يجيبوه، فانصرف، فأتى ظل شجرة، فصلى ركعتين ثم قال: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، أرحم الراحمين أنت؛ ارحمني، إلى من تَكِلُني؟ إلى عدو يتجهمني، أم إلى قريب ملكته أمري؟ إن لم تكن غضبانًا علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن تنزل بي غضبك أو تحِلّ علي سخطك، لك العُتْبَى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك». وفي رواية: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين! إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهّمني أم إلى قريب مَلّكْته أمري؟ إن لم تكن ساخطًا عليَّ فلا أبالي غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أضاءت له السموات والأرض، وأشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تحِلّ علي غضبك أو تُنْزل علي سخطك، ولك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك». 564 - اللهم إن عبدك عليًّا احتبس نفسه على نبيك، فرد عليه شرقها»، رُوِيَ عن أسماء بنت عميس أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى الظهر بـ (الصهباء)، ثم أرسل عليًّا في حاجة، فرجع وقد صلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - العصر، فوضع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رأسه في حجر علي فنام، فلم يحركه حتى غابت الشمس، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللهم إن عبدك عليا احتبس نفسه على نبيك، فرد عليه شرقها»، (وفي رواية): «اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فارْدُدْ عليه الشمس»، قالت أسماء: «فرأيتها غربت، ثم رأيتها طلعت بعد ما غربت».

قالت أسماء: فطلعت الشمس حتى وقعت على الجبال، وعلى الأرض، ثم قام عليٌّ فتوضأ وصلى العصر، ثم غابت، وذلك في (الصهباء) (¬1). 565 - اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إليَّ فأسْكِنِّي أحب البلاد إليك»، رُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «اللهم إنك أخرجْتَنِي من أحب البلاد إليَّ فأسْكِنِّي أحبَّ البلاد إليكَ»، فأسكنه الله المدينة (¬2). 566 - اللهم إنك لست بإله استحدثناه»، رُوِيَ عن صهيب أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «اللهم إنك لست بإله استحدثناه، ولا برب ابتدعناه، ولا كان لنا قبلك من إله يُلْجَأ إليه ونَذَرَك، ولا أعانك على خلقنا أحد فنُشْرِكَه فيك، تباركت وتعاليت»، هكذا كان داود - عليه السلام - يقول. 567 - اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ». رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا دَخَلَ رَجَبٌ قَالَ: «اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي رَجَبٍ وَشَعْبَانَ، وَبَلِّغْنَا رَمَضَانَ». 568 - ألم أنْهَكِ أن ترفعي شيئًا لغد؟ فإن الله يأتي برزق كل غد»، رُوِيَ عن أنس بن مالك: «أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائرًا، فلما كان من الغد ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية 8/ 165): «فضل عليٍّ سدد خطاكم وولايته لله وعلو منزلته عند الله معلوم - ولله الحمد - من طرق ثابتة أفادتنا العلم اليقيني لا يحتاج معها إلى كذب، ولا إلى مالا يعلم صدقه. وحديث رد الشمس له قد ذكره طائفة كالطحاوي والقاضي عياض وغيرهما وعدوا ذلك من معجزات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لكن المحققون من أهل العلم والمعرفة بالحديث يعلمون أن هذا الحديث كذب موضوع كما ذكره ابن الجوزي في كتاب الموضوعات». (¬2) عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ، وَاقِفٌ بِالْحَزْوَرَةِ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ، وَاللهِ لَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ، مَا خَرَجْتُ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني، الْحَزْوَرَةِ: موضع بمكة).

أتَتْه به، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ألم أنْهَكِ أن ترفعي شيئًا لغد؟ فإن الله يأتي برزق كل غد». 569 - ألم أنْهَكُم عن التعري؟! إن معكم من لا يفارقكم في نوم ولا يقظة، إلا حين يأتي أحدكم أهله، أو حين يأتي الخلاء، ألا فاستحيوا لها فأكرموها. 570 - المؤمن كيِّس فطِن حذر. 571 - المؤمن منفعة: إن ماشَيْتَه نفعك، وإن شاورْتَه نفعك، وإن شارَكْته نفعك، وكل شيء من أمره منفعة. 572 - المتقون سادة، والفقهاء قادة، والجلوس إليهم زيادة، وعالم ينتفع بعلمه أفضل من ألف عابد. 573 - المتمسك بسنتي عند فساد أمتي له أجر شهيد (¬1). 574 - المرء كثير بأخيه. 575 - المريض أنينه تسبيح، وصياحه تكبير، ونفَسه صدقة، ونومه عبادة، وتقلبه من جنب إلى جنب جهاد في سبيل الله. 576 - المساواة في الظلم عدل. 577 - المغتاب والمستمع شريكان في الإثم. 578 - المغرب جوهرة فالتقطوها (¬2). ¬

(¬1) ويغني عنه قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، للْمُتَمَسِّكُ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَهُ أَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَوْ مِنْهُمْ؟» قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ». [رواه الطبراني، وقال الألباني: «هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات رجال مسلم»، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة برقم (494)]. (¬2) من العجيب أن ينكر البعض سنة المغرب القبلية مستدلين بهذا الحديث الذي لا أصل له، ويردُّون به قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ - قَالَ فِى الثَّالِثَةِ - لِمَنْ شَاءَ» (رواه البخاري). ... = = بينما تجدهم في شهر رمضان يتركون صلاة المغرب في الجماعة الأولى في المسجد بحجة تناول طعام الإفطار ويقصرون في التقاط الجوهرة!.

579 - الموتُ كَفارَةٌ لِكُلِ مُسلِمٍ. 580 - النائم الطاهر كالصائم القائم. 581 - النار خير من العار. 582 - الناس أعداءُ ما جهلوا. 583 - الناس على دين ملوكهم. 584 - الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون بالعافية، والمرء كثير بأخيه يرفده ويحمله (¬1)، ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له. 585 - الناس كلهم موتى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم غرقى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم (¬2). 586 - الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. 587 - النساء على ثلاثة أصناف، صنف كالوعاء تحمل وتضع، وصنف كالعر - وهو الجرب -، وصنف ودود ولود، تعين زوجها على إيمانه، فهي خير له من الكنز. 588 - النساء ينصر بعضهن بعضًا (¬3). ¬

(¬1) يرفده: يعينه. حمَل الشَّخْصَ: 1 - أعطاه ما يركبه، قال تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (التوبة: 92). 2 - أركبه، قال تعالى: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} (الإسراء: 3). (¬2) قال الصغاني: «هذا الحديث مفترى ملحون والصواب في الإعراب: العالمين والمخلصين». (الموضوعات، برقم 200). (¬3) قالت عائشة - رضي الله عنها -: «وَالنِّسَاءُ يَنْصُرُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا». (رواه البخاري).

589 - النظافة تدعو إلى الإيمان. 590 - النظافة من الإيمان. 591 - النظر إلى الكعبة عبادة. 592 - النظر إلى المرأة الحسناء والخضرة يزيدان في البصر. 593 - النظر إلى الوجه الجميل عبادة. 594 - النظر إلى الوجه الحسن يجلو البصر. 595 - النظر في المصحف عبادةٌ، ونظر الولد إلى الوالدين عبادةٌ، والنظر إلى علي بن أبي طالب عبادةٌ. 596 - النظرة سهم من سهام إبليس من تركها خوفًا من الله آتاه الله إيمانًا يجد حلاوته في قلبه (¬1). 597 - النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله سبعمائة ضعف. 598 - الهوا والعبوا؛ فإني أكره أن يُرى في دينكم غلظة. 599 - الود يُتَوارَث، والبغض يُتَوارَث. 600 - الورد الأبيض خلق من عَرَقِي ليلة المعراج، والورد الأحمر خلق من عَرَق جبريل، والورد الأصفر من عَرَق البراق. ¬

(¬1) قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور: 30 - 31)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِعَلِيٍّ سدد خطاكم: «يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْآخِرَةُ» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). وعَنْ جَرِيرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ فَقَالَ: «اصْرِفْ بَصَرَكَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

601 - الوضوء قبل الطعام وبعده ينفي الفقر وهو من سنن المرسلين. 602 - الوضوء من كل دم سائل. 603 - الوضوء نور على نور. 604 - الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك. 605 - الولد سبع سنين سيد وأمير، وتسع سنين أخ ووزير، فإن رضيت فكافئه، وإلا فاضرب على جنبه فقد أعذرت فيما بينك وبينه. 606 - الولد سر أبيه. 607 - إلياس والخضر أخوان أبوهما من الفرس وأمهما من الروم. 608 - أما إني لا أنسى، ولكني أُنَسَّى لأُشَرِّع (¬1). 609 - أما ترضى إحداكن أنها إذا كانت حاملًا من زوجها وهو عنها راض أن لها مِثل أجر الصائم القائم في سبيل الله»، رُوِيَ عن أنس بن مالك عن سلامة حاضنة إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أنها قالت: «يا رسول الله إنك تبشر الرجال بكل خير، ولا تبشر النساء»، قال: «أصويحباتك دسَسْنَك لهذا؟»، قالت: «أجل، هُن أمَرْنَني»، قال: «أمَا ترضَى إحداكُن أنها إذا كانت حاملًا من زوجها وهو عنها راض أن لها مِثل أجر الصائم القائم في سبيل الله، وإذا أصابها الطَلْق لم يعلم أهل السماء والأرض ما أخْفِيَ لها من قرة أعين، فإذا وضعت لم يخرج من لبنها جرعة ولم يمُصّ مِن ثديها مَصَّةً إلا كان لها بكل جرعة وبكل مَصَّة حسنة، فإنْ أسهرها ليلة كان لها مثل أجر سبعين رقبة تُعتقهم في ¬

(¬1) قال الألباني في (السلسلة الضعيفة رقم 101): «وظاهر الحديث أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لا ينسى بباعث البشرية وإنما ينسيه الله ليشرع، وعلى هذا فهو مخالف لما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث ابن مسعود مرفوعًا: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِى»، ولا ينافي هذا أن يترتب على نسيانه - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم وفوائد من البيان والتعليم، والقصد أنه لا يجوز نَفْيُ النسيان الذي هو من طبيعة البشر عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لهذا الحديث الباطل! لمعارضته لهذا الحديث الصحيح».

سبيل الله، سلامة، تدرين من أعني بهذا؟ الممتنعات الصالحات المطيعات لأزواجهن اللواتي لا يكفرن العشير». 610 - أما شْعَرْت أَنَّ اللهَ قَدْ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَكَلْثُمَ أُخْتَ مُوسَى، وَامْرَأَةَ فِرْعَوْنَ. 611 - أمّا لدنياك؛ فإذا صليت الصبح فقل بعد الصلاة الصبح: سبحان الله العظيم وبحمده. . .»، رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ أقبل شيخ يقال له قبيصة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما جاء بك، وقد كبرتْ سِنّك، ودَقّ عظمك؟»، فقال: «يا رسول الله كبرت سني، ودق عظمي، وضعفت قوتي، واقترب أجلي». فقال: «أعِدْ علَيَّ قولك»، فأعاد عليه، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما بقي حولك شجر ولا حجر ولا مدر إلا بكى رحمة لقولك، فهات حاجتك، فقد وجب حقك»، فقال: «يا رسول الله! علّمْني شيئًا ينفعني الله به في الدنيا والآخرة، ولا تُكْثِرْ علَيَّ، فإني شيخ نَسِيٌّ»، قال: «أما لدنياك؛ فإذا صليت الصبح فقل بعد الصلاة الصبح: سبحان الله العظيم وبحمده، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثلاث مرات، يوقيك الله من بلايا أربع؛ من الجذام، والجنون، والعمى، والفالج. فأما لآخرتك؛ فقل: اللهم اهدني من عندك، وأفِضْ علَيَّ من فضلك، وانشر علي رحمتك، وأنزل علي من بركاتك. والذي نفسي بيده لئن وافى بهن يوم القيامة لم يدَعْهُن، لَيَفْتَحَنّ له أربعة أبواب من الجنة، يدخل من أيها شاء». 612 - أمان لأمتي إذا ركبوا البحر أن يقولوا: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)} (هود: 41) {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} (الزمر: 67).

613 - أمر الله - عز وجل - بعبد إلى النار فلما وقف على شفتها التَفَتَ فقال: «أما والله يا ربّ إن كان ظني بك لَحَسَنًا»، فقال الله: «ردوه فأنا عند ظن عبدي بي»، فغفر له. 614 - أمر النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الشمس أن تتأخر ساعة من النهار، فتأخرت ساعة من النهار. 615 - أَمْرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَخَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا»، رُوِيَ عن عمرو بن الحارث عن سعيد عن هارون عن كنانة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نهى عن الشهرتين؛ أن يلبس الثياب الحسنة التي ينظر إليه فيها، أو الدنية أو الرثة التي ينظر إليه فيها. قال عمرو: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: أَمْرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ، وَخَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا» (¬1). 616 - امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار لأنه أول من أحكم قوافيها. 617 - أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر (¬2). 618 - أُمرت بمداراة الناس كما أمرت بالصلاة المفروضة. 619 - أمِرْنَا بتصغير اللقمة (¬3) في الأكل وتدقيق المضغ. 620 - أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ نُجَهِّزَ فَاطِمَةَ»، رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنهما - قَالَتَا: أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ نُجَهِّزَ فَاطِمَةَ حَتَّى نُدْخِلَهَا عَلَى عَلِىٍّ، فَعَمَدْنَا إِلَى الْبَيْتِ فَفَرَشْنَاهُ تُرَابًا لَيِّنًا مِنْ أَعْرَاضِ الْبَطْحَاءِ، ثُمَّ حَشَوْنَا مِرْفَقَتَيْنِ لِيفًا فَنَفَشْنَاهُ بِأَيْدِينَا، ثُمَّ ¬

(¬1) أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مطرف قال: «خير الأمور أوسطها»، وإسناده صحيح موقوف. (انظر: السلسلة الضعيفة رقم 7056). (¬2) روى البخاري ومسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلاَ يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ». (¬3) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، حَسْبُ الْآدَمِيِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ غَلَبَتِ الْآدَمِيَّ نَفْسُهُ، فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ، وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

أَطْعَمْنَا تَمْرًا وَزَبِيبًا وَسَقَيْنَا مَاءً عَذْبًا، وَعَمَدْنَا إِلَى عُودٍ فَعَرَضْنَاهُ فِى جَانِبِ الْبَيْتِ لِيُلْقَى عَلَيْهِ الثَّوْبُ وَيُعَلَّقَ عَلَيْهِ السِّقَاءُ، فَمَا رَأَيْنَا عُرْسًا أَحْسَنَ مِنْ عُرْسِ فَاطِمَةَ». 621 - امْشِ ميلًا عُدْ مريضًا، امْشِ ميليْن أصلِحْ بين اثنيْن، امْشِ ثلاثة أميال زُرْ أخًا في الله. 622 - أميرانِ وليسَا بأميريْن: المرأة تحج مع القوم فتحيض قبل أن تطوف بالبيت طواف الزيارة فليس لأصحابها أن ينفروا حتى يستأمروها، والرجل يتبع الجنازة فيصلي عليها فليس له أن يرجع حتى يستأمر أهلها. 623 - إن آدم قام خطيبًا في أربعين ألفًا مِن وَلَده وولَد ولَده وقال: «إن ربي عهد إليَّ فقال: «يا آدم أقلل كلامك ترجع إلى جواري». 624 - إن آل محمد ما فيهم صاع من طعام ولا مد من طعام فاسأل الله»، رُوِيَ عن عبد الله بن مسعود سدد خطاكم قال: أتى رجل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأراه عوفَ بن مالك - فقال: «يا رسول الله، إن بني فلان أغاروا علَيَّ فذهبوا بابني وإبلي»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن آل محمد كذا وكذا أهل بيت - وأظنه قال تسعة أبيات - ما فيهم صاع من طعام ولا مُدّ من طعام فاسأل الله - عز وجل -»، قال: فرجع إلى امرأته، قالت: «ما رَدَّ عليك رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فأخبرها، قال: فلم يلبث الرجل أن رُدَّ عليه إبله وابنه أوفر ما كانوا، فأتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فأخبره فقام على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمرهم بمسألة الله - عز وجل - والرغبة إليه وقرأ عليهم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2 - 3). 625 - إن أحب الضحايا إلى الله أغلاها وأسمنُها. 626 - إن أحدكم يأتيه الله برزق عشرة أيام في يوم، فإن هو حبس عاش تسعة أيام بخير، وإن هو وسع وأسرف قتر عليه تسعة أيام.

627 - إن أحسن ما اختضبتم به هذا السواد (¬1) أرْغَبُ لنسائكم فيكم وأهْيَبُ لكم في صدور عدوكم. 628 - إن أدنى الرياء شرك (¬2)، وأحب العبيد إلى الله تبارك وتعالى الأتقياء الأخفياء (¬3)، الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإذا شهدوا لم يُعرفوا، أولئك أئمةُ الهدي ومصابيح العلم. 629 - إن إدريس - صلى الله عليه وآله وسلم - كان صَدِيقًا لملَك الموت فسأله أن يرِيَه الجنة والنار فصعد بإدريس فأراه النار ففزع منها وكاد يُغشَى عليه، فالتف عليه ملك الموت بجناحه، فقال ملَك الموت: «أليس قد رأيتَها»، قال: «بلى ولم أر كاليوم قط». ثم انطلق به حتى أراه الجنة فدخلها، فقال ملك الموت: «انطلق، قد رأيتَها». قال: «إلى أين؟»، قال ملَك الموت: «حيث كنت». قال إدريس: «لا والله لا أخرج منها بعد أن دخلتُها». فقيل لملك الموت: «أليس أنت أدخلتَه إياها، وإنه ليس لأحدٍ دخلَها أن يخرج منها». ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ، كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ، لَا يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ». (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (يَخْضِبُونَ) أَيْ يُغَيِّرُونَ الشَّعْرَ الْأَبْيَضَ مِنَ الشَّيْبِ الْوَاقِعِ فِي الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ (بِالسَّوَادِ) أَيْ بِاللَّوْنِ الْأَسْوَدِ (كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ) أَيْ كَصُدُورِهَا فَإِنَّهَا سُودٌ غالبًا، وأصل الْحَوْصَلَةِ الْمَعِدَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا صَدْرُهُ الْأَسْوَدُ، قَالَ الطِّيبِيُّ مَعْنَاهُ كَحَوَاصِلِ الْحَمَامِ فِي الْغَالِبِ لِأَنَّ حَوَاصِلَ بَعْضِ الْحَمَامَاتِ لَيْسَتْ بِسُودٍ، (لَا يَرِيحُونَ) أَيْ لَا يَشُمُّونَ وَلَا يَجِدُونَ (رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) يَعْنِي وَرِيحُهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ كَمَا فِي حَدِيثٍ، فَالْمُرَادُ بِهِ التَّهْدِيدُ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِلِّ أَوْ مُقَيَّدٌ بِمَا قَبْلَ دُخُولِ الْجَنَّةِ مِنَ الْقَبْرِ أَوِ الْمَوْقِفِ أَوِ النَّارِ. [عون المعبود (11/ 178)]. وحديث أن الْجَنَّة رِيحُهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الأرنؤوط. (¬2) عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ»، قَالُوا: «وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللهِ؟»، قَالَ: «الرِّيَاءُ، يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمْ: اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً». (¬3) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ» (رواه مسلم).

630 - إن أدنى أهل الجنة منزلة لَمَن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله مَن ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} (القيامة: 22). 631 - إن أشد الناس تصديقًا للناس أصدقُهم حديثًا، وإن أشد الناس تكذيبًا أكذبُهم حديثًا. 632 - إن أشد أمتي حُبًّا لي قوم يأتون من بعدي، يؤمنون بي ولم يروني (¬1)، يعملون بما في الورق المعلق. 633 - إن أعمال بني آدم تُعرَض على الله تعالى عشية كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم. 634 - إن أعمالَكم تُعرَض على أقاربكم وعشائركم من الأموات فإن كان خيرًا استبشروا وإن كان غير ذلك قالوا: «اللهم لا تُمِتْهُم حتى تهديهم كما هديتنا». 635 - إن أفواهكم طرق القرآن، فطهروها بالسواك (¬2). 636 - إن الإسلام عريان، ولباسه التقوى، ورياشه الهدى، وزينتُه الحياء، وعماده الورع، وملاكه العمل الصالح، وأساس الإسلام حبي وحب أهل بيتي. ¬

(¬1) وإنما يصح من هذا الحديث بعضُه، وهو في حديث أَبِي جُمْعَةَ حَبِيبِ بْنِ سِبَاعٍ - رضي الله عنه - قال: «تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا، أَسْلَمْنَا مَعَكَ، وَجَاهَدْنَا مَعَكَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي». (قال الألباني في (السلسلة الضعيفة، رقم 649): «رواه الدارمي وأحمد والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي. وأقول: إسناد الدارمي وأحد إسنادي أحمد صحيح إن شاء الله تعالى». (¬2) عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ سدد خطاكم أَنَّهُ أَمَرَ بِالسِّوَاكِ، وَقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا تَسَوَّكَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي قَامَ الْمَلَكُ خَلْفَهُ، فَتَسَمَّعَ لِقِرَاءَتِهِ فَيَدْنُو مِنْهُ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - حَتَّى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ فَمَا يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ، إِلَّا صَارَ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ، فَطَهِّرُوا أَفْوَاهَكُمْ لِلْقُرْآنِ» [رواه البزار في (مسنده)، وقال الألباني: «إسناده جيد رجاله رجال البخاري»، انظر السلسلة الصحيحة، رقم 1213].

637 - إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة»، رُوِيَ عن عبادة بن الصامت قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فتخطى إليه رجلان: رجل من الأنصار، ورجل من ثقيف، فسبق الأنصاري الثقفي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للثقفي، «إن الأنصاري قد سبقك بالمسألة» فقال الأنصاري: «لعله يا رسول الله أن يكون أعجل مني، فهو في حِلّ»، قال: فسأله الثقفي عن الصلاة فأخبره، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للأنصاري: «إن شئت خبّرتُك بما جئت تسأل عنه، وإن شئت سألتَني فأخبر بذلك»، فقال: يا رسول الله، تخبرني، فقال: «جئت تسألني ما لك من الأجر إذا أممت البيت العتيق، وما لك من الأجر في وقوفك في عرفة، وما لك من الأجر في رميك الجمار، وما لك من الأجر في حلق رأسك، وما لك من الأجر إذا ودعت البيت»، فقال الأنصاري: «والذي بعثك بالحق، ما جئت أسألك عن غيره قال: «فإن لك من الأجر إذا أمَمْتَ البيتَ العتيق ألا ترفع قدمًا أو تضعها أنت ودابّتُك إلا كُتِبَتْ لك حسنة، ورُفِعَتْ لك درجة، وأما وقوفك بعرفة فإن الله - عز وجل - يقول لملائكته: «يا ملائكتي ما جاء بعبادي؟»، قالوا: جاءوا يلتمسون (¬1) رضوانك والجنة، فيقول الله - عز وجل -: «فإني أشهد نفسي وخلقي أني قد غفرتُ لهم عدد أيام الدهر، وعدد القطر (¬2)، وعدد رمل عالج، وأما رمْيُك الجمار فإن الله - عز وجل - يقول: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (السجدة: 17)، وأما حلْقُك رأسَك فإنه ليس من شعرك شعرة تقع في الأرض إلا كانت لك نورًا يوم القيامة، وأما البيت إذا ودّعت، فإنك تخرج من ذنوبك كيوم ولدتك أمك». ¬

(¬1) التمس الشيء: طلبه. (¬2) القطر: المطر.

638 - إن التوبة تغسل الحوبة (¬1)، وإن الحسنات يذهبن السيئات، وإذا ذكر العبد ربه في الرخاء أنجاه في البلاء، وذلك بأن الله تعالى يقول: لا أجمع لعبدي أمنين، ولا أجمع له خوفين، إن هو أمِنَني في الدنيا خافي يوم أجمع فيه عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمنته يوم أجمع فيه عبادي (¬2) في حظيرة القدس، فيدوم له أمنه، ولا أمحقه فيمن أمحق. 639 - إن الجارية إذا حاضت لم يَصْلُح أن يرى منها إلا وجهها ويداها إلى المفصل. 640 - إن الجنة تشتاق إلى أربعة: علي وعمار وسلمان والمقداد. 641 - إن الجنة لا تحل لعاصٍ. 642 - إن الجنة لَتَبَخَّرُ وتزيَّن من الحول إلى الحول لدخول شهر رمضان، فإذا كانت أول ليلة من شهر رمضان هبَّت ريحٌ من تحت العرش يُقال لها المُثيرة، فتَصْفِقُ ورق أشجار الجنان، وحَلَقَ المصاريع، فيُسمعُ لذلك طنينٌ لم يسمع السامعون أحسنَ منه، فتبرزُ الحورُ العينُ حتى يَقفن بين شُرف الجنة، فينادين: هل من خاطب إلى الله فيزوجه؟ ثم يقلن الحورُ العين: يا رضوان الجنة، ما هذه الليلة؟ فيجبيهن بالتلبية، ثم يقول هذه أولُ ليلةٍ من شهر رمضان، فُتحت أبواب الجنة للصائمين من أُمة محمد»، قال: ويقول الله - عز وجل -: «يا رضوانُ، افتح أبواب الجنانِ، ويا مالكُ، أغلق أبواب الجحيم عن الصائمين من أمة أحمد، ويا جبرائيل اهبط إلى الأرض، فاصفِد مَرَدةَ الشياطين، وغُلَّهم بالأغلال، ثم اقذفهم في البحار، حتى لا يفسدوا على أمة محمد حبيبي ¬

(¬1) الحوبة: الإثم. (¬2) صَحّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: «وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ لِعَبْدِي أَمْنَيْنِ وَلَا خَوْفَيْنِ؛ إِنْ هُوَ أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ فِيهِ عِبَادِي، وَإِنْ هُوَ خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ أَجْمَعُ فِيهِ عِبَادِي»، وفي رواية: «يَقُولُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: «وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ ولَا أَجْمَعُ لَهُ أَمْنَيْنِ، إذَا أَمِنَنِي فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامة، وَإِذَا خَافَنِي فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامة». (انظر: السلسلة الصحيحة رقم 742، 2666) ..

صيامهم»، قال: ويقولُ الله - عز وجل - في كلِّ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ لمنادٍ ينادي ثلاث مرات: «هل من سائلٍ فأعطيه سُؤله؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفرٍ فأغفر له؟ من يقرض المليء غير المعدوم، والوفيّ غير الظلوم؟»، قال: «ولله - عز وجل - في كل يومٍ من شهر رمضان عند الإفطار ألفُ ألفِ عتيقٍ من النارِ، كلهم قد استوجبوا النار، فإذا كان آخرُ يوم من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بقدر ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، وإذا كانت ليلةُ القدر، يأمر الله - عز وجل - جبرائيل - عليه السلام - فيهبط في كُبْكُبَةٍ (¬1) من الملائكةِ، ومعهم لواءٌ أخضرُ، فيركزون اللواء على ظهر الكعبة، وله مائة جناحٍ، منها جناحان لا ينشرهما إلا في تلك الليلة، فينشرها في تلك الليلة، فيجاوز المشرق إلى المغرب، فيَحُثُّ جبرائيل - عليه السلام - الملائكة في هذه الليلة، فيسلِّمون على كل قائم، وقاعدٍ، ومصلٍّ، وذاكرٍ، ويصافحونهم، ويُؤمِّنون على دعائهم حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجرُ ينادي جبرائيل - عليه السلام - معاشر الملائكة، الرحيلَ الرحيل، فيقولون: «يا جبرائيل، فما صنع الله في حوائج المؤمنين من أمة أحمد؟»، فيقول: «نظرَ اللهُ إليهم في هذه الليلة، فعفا عنهم إلا أربعة فقلنا يا رسول الله، من هم؟ قال «رجلٌ مدمنُ خمر، وعاقٌ لوالديه، وقاطعُ رحمٍ، ومُشاحن» قلنا: «يا رسول الله، ما المشاحن؟ قال «هو المصارم»، فإذا كانت ليلة الفطر، سميت تلك الليلة ليلة الجائزة، فإذا كانت غداةُ الفطر، بعث الله - عز وجل - الملائكة في كل بلدٍ، فيهبطون إلى الأرض، فيقومون على أفواه السِّكَكِ، فينادون بصوت يسمعه من خَلَق الله - عز وجل - إلا الجن والإنس، فيقولون: «يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، ويعفو عن العظيم»، فإذا برزوا إلى مُصلاهم يقول الله - عز وجل - للملائكة: «ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟»، قال: فتقول الملائكة: «إلهَنا وسيِّدَنا، جزاؤه أن تُوفِّيه أجره»، قال: فيقول: «فإني أشْهِدُكم يا ¬

(¬1) كُبْكُبَة - بضمتين وقيل بفتحتين -: جماعة متضامة من الناس وغيرهم.

ملائكتي أني قد جعلتُ ثوابهم من صيامهم شهر رمضان وقيامهم رضائي ومغفرتي»، ويقول: «يا عبادي، سَلُوني فوَعِزّتي وجلالي لا تسألوني اليوم شيئًا في جمعكم لآخرتكم إلا أعطيتكم، ولا لدنياكم إلا نظرت لكم، فوَعِزَّتي لأسْتُرَنّ عليكم عثراتكم ما راقبتموني، وعزتي وجلالي لا أخزيكم ولا أفضحكم بين أصحاب الحدود، انصرفوا مغفورًا لكم، قد أرضيتموني، ورضيتُ عنكم»، فتفرحُ الملائكةُ، وتستبشرُ بما يعطي الله - عز وجل - هذه الأمة إذا أفطروا من شهر رمضان». 643 - إن الجنة لَتَزَخرفُ لرمضان من رأس الحول إلى الحول، فإذا كان أول ليلة من رمضان هبت ريح من تحت العرش فصفقت ورق الجنة عن الحور العين، فقلن: «يا رب اجعل لنا من عبادك أزواجًا تقر بهم أعيننا، وتقر أعينهم بنا». 644 - إن الرجل إذا نظر إلى امرأته ونظرت إليه نظر الله إليهما نظرة رحمة فإذا أخذ بكفها تساقطت ذنوبهما من خلال أصابعهما. 645 - إن الرجل ليَبْتَاع الثوب بدينار، أو بنصف دينار فيلبسه، فما يبلغ كعبيه حتى يغفر له»، يعني من الحمد. 646 - إن الرجل ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم، وإنه ليكتب جبارًا، وإنه ما يملك إلا أهل بيته. 647 - إن الرجل ليدنو من الجنة حتى يكون ما بينه وبينها قيد ذراع، فيتكلم بالكلمة فيتباعد منها أبعد من صنعاء. 648 - إن الرجل ليصلي، وما فاته من وقتها أعظم من أهله وماله. 649 - إن الرجل ليلجمه العرق يوم القيامة (¬1) فيقول: ربِّ أرِحْنِي ولو إلى النار. ¬

(¬1) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ، حَدَّثَنِي سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ، حَدَّثَنِي الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ، حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ». قَالَ سُلَيْمُ بْنُ عَامِرٍ: «فَوَاللهِ مَا أَدْرِي مَا يَعْنِي بِالْمِيلِ؟ أَمَسَافَةَ الْأَرْضِ، أَمِ الْمِيلَ الَّذِي تُكْتَحَلُ بِهِ الْعَيْنُ». ... = = قَالَ: «فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا»، قَالَ: وَأَشَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. (رواه مسلم).

650 - إن الرجل ليوضع طعامه بين يديه فما يرفع حتى يغفر له، فقيل: «يا رسول الله، بِمَ ذاك؟»، قال: «يقول: بسم الله، إذا وضع، والحمد لله، إذا رفع». 651 - إن الرجلين من أمتي ليقومان إلى الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد وإن ما بين صلاتيهما ما بين السماء والأرض. 652 - إن الرزق لا تنقصه المعصية ولا تزيده الحسنة، وترك الدعاء معصية. 653 - إن السعادة كل السعادة طول العمر في طاعة الله - عز وجل -. 654 - إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس وإن نسي التقم قلبه، فذلك الوسواس الخناس. 655 - إن العبد إذا قام في الصلاة فإنه بين عيني الرحمن فإذا التفت قال له الرب: «يا ابن آدم إلى من تلتفت؟ إلى من هو خير لك مني؟ ابن آدم أقبل على صلاتك فأنا خير لك ممن تلتفت إليه». 656 - إن العبد ليذنب الذنب، فيدخل به الجنة، قيل: «كيف؟»، قال: يكون نصب عينيه ثابتًا قارًّا حتى يدخل به الجنة». 657 - إن العبد يدعو الله وهو يحبه، فيقول الله - عز وجل -: «يا جبريل! اقض لعبدي هذا حاجته وأخِّرْها؛ فإني أحب أن لا أزال أسمع صوته»، وإن العبد ليدعو الله وهو يبغضه، فيقول الله - عز وجل -: «يا جبريل! اقض لعبدي هذا حاجته وعجِّلْها؛ فإني أكره أن أسمع صوته». 658 - إن الغسل يوم الجمعة ليسلّ الخطايا من أصول الشعر استلالًا.

659 - إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ. 660 - إِنَّ الْغَيْرَى لا تُبْصِرُ أَسْفَلَ الْوَادِي مِنْ أعْلَاه، إنَّمَا التَّجَنِّي في القَلبِ»، رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: وَكَانَ مَتَاعِي فِيهِ خَفٌّ، وَكَانَ عَلَى جَمَلٍ نَاجٍ، وَكَانَ مَتَاعُ صَفِيَّةَ فِيهِ ثِقَلٌ، وَكَانَ عَلَى جَمَلٍ ثَقَالٍ بَطِيءٍ يَتَبَطَّأُ بِالرَّكْبِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَوِّلُوا مَتَاعَ عَائِشَةَ عَلَى جَمَلِ صَفِيَّةَ، وَحَوِّلُوا مَتَاعَ صَفِيَّةَ عَلَى جَمَلِ عَائِشَةَ حَتَّى يَمْضِيَ الرَّكْبُ»، قَالَتْ عَائِشَةُ: «فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ، قُلْتُ: يَا لَعِبَادِ اللهِ، غَلَبَتْنَا هَذِهِ الْيَهُودِيَّةُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ، إِنَّ مَتَاعَكِ كَانَ فِيهِ خَفٌّ وَكَانَ مَتَاعُ صَفِيَّةَ فِيهِ ثِقَلٌ، فَأَبْطَأَ بِالرَّكْبِ، فَحَوَّلْنَا مَتَاعَهَا عَلَى بَعِيرِكِ، وَحَوَّلْنَا مَتَاعَكِ عَلَى بَعِيرِهَا»، قَالَتْ: فَقُلْتُ: «أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؟». قَالَتْ: فَتَبَسَّمَ، قَالَ: «أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتِ يَا أُمَّ عَبْدِ اللهِ؟»، قَالَتْ: قُلْتُ: «أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ؟ أَفَهلا عَدَلْتَ؟»، وَسَمِعَنِي أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ فِيهِ غَرْبٌ ـ أَيْ حِدَّةٌ ـ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ فَلَطَمَ وَجْهِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَهْلا يَا أَبَا بَكْرٍ»، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَا سَمِعْتَ مَا قَالَتْ؟»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الْغَيْرَى لا تُبْصِرُ أَسْفَلَ الْوَادِي مِنْ أعْلَاه، إنَّمَا التَّجَنِّي في القَلبِ». 661 - إن القاضي العادل ليجاء به يوم القيامة، فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أن لا يكون قضى بين اثنين في تمرة قط. 662 - إن القرآن مثله كمثل جراب فيه مسك قد ربطت فاه، فإن فتحته فاح ريح المسك، وإن تركته كان مسكًا موضوعًا مثل القرآن إن قرأته وإلا فهو في صدرك. 663 - إنَّ القُلُوبَ لَتَصدَأُ كَمَا يَصدَأُ الحَدِيدُ؛ إذا أصَابَهُ المَاءُ! قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا جَلاؤُهَا؟»، قَالَ: «كَثرَةُ ذِكرِ اللهِ». 664 - إن الكذب يكتب كذبًا؛ حتى تُكتَب الكذَيْبَة كُذَيْبَة»، رُوِيَ عن أسماء بنت عميس قالت: كنت صاحبة عائشة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومعي

نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قِرَى إلا قدحًا من لبن، قالت فشرب منه، ثم ناوله عائشة، فاستحيت الجارية، فقلنا: لا تردّي يد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، خذي منه، فأخذَتْه على حياء، فشربت منه، ثم قال: «ناولي صواحبك»، فقلنا: «لا نشتهيه»، فقال: «لا تجمعن جوعًا وكذبًا»، قالت: فقلت: «يا رسول الله، إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه يُعَدُّ ذلك كذبًا؟»، قال: «إن الكذب يكتب كذبًا؛ حتى تُكتَب الكذَيْبَة كُذَيْبَة». 665 - إن الله اختار العرب فاختار منهم كنانة أو النضر بن كنانة، ثم اختار منهم قريش، ثم اختار منهم بني هاشم، ثم اختارني من بني هاشم (¬1) فأنا خيار من خيار إلى خيار فمن أحب العرب فبِحُبي أحَبَّهم ومن أبغض العرب فببُغْضي أبغَضَهم. 666 - إن الله إذا أحب عبد هـ جعل رزقه كفافًا. 667 - إن الله إذا أراد أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تَلْقَهُ إلا مقيتًا ممقتًا، فإذا لم تَلْقَهُ إلا مقيتًا ممقتًا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تَلْقَه إلا خائنًا مخونًا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تَلْقَهُ إلا رجيمًا ملعنًا نزعت منه ربقة الإسلام. 668 - إن الله باهى الناس يوم عرفة وباهى بعمر بن الخطاب خاصة. 669 - إن الله تبارك وتعالى قرأ (طه) و (يس) قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمة ينزل هذا عليهم، وطوبى لألسن تتكلم بهذا، وطوبى لأجواف تحمل هذا. 670 - إن الله تعالى أوحى إليَّ في عليًّ ثلاثة أشياء ليلةَ أسْرِيَ بي: أنه سيد المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ». (رواه مسلم) ..

671 - إن الله تعالى بَنَى الفردوس بيده وحظرها عن كل مشرك وعن كل مدمن خمر سِكّير. 672 - إن الله تعالى قال: لقد خلقت خلقًا ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمر من الصبر، فَبِي حلفتُ: لأتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيران، فبي يغترون؟ أم علي يتجرءون؟ 673 - إن الله تعالى لا يعذب حسان الوجوه سُود الحِدَق. 674 - إن الله تعالى لما خلق الدنيا نظر إليها ثم أعرض عنها ثم قال: «وعزتي لا أنزَلْتُك إلا في شرار خلقي». 675 - إن الله تعالى يحب أبناء الثمانين. 676 - إن الله تعالى يحب أبناء السبعين ويستحيي من أبناء الثمانين. 677 - إن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف. 678 - إن الله تعالى يحب الملِحّين في الدعاء. 679 - إن الله تعالى يحب المؤمن المبتذل الذي لا يبالي ما لبس. 680 - إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم حتى في القُبَل. 681 - إن الله تعالى يَطّلِع في العيدين إلى الأرض فابرزوا من المنازل تلحقكم الرحمة. 682 - إن الله تعالى يعجب من سائل يسأل غير الجنة، ومن مُعْطٍ يعطي لغير الله، ومن متعوذ يتعوذ من غير النار. 683 - إن الله جعلها لكَ لباسًا، وجعلكَ لها لباسًا» رُوِيَ عن سعد بن مسعود وعمارة بن غراب اليحصبي: أن عثمان بن مظعون أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: يا رسول الله إني لا أحب أن ترى امرأتي عريتي - وفي رواية: عورتي - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولِمَ؟» قال: «أستحيي من ذلك وأكرهه». قال: «إن الله جعلها لكَ لباسًا، وجعلكَ لها لباسًا، وأهلي يرون عريتي - وفي لفظ: عورتي - وأنا أرى ذلك منهم»، قال: «أنت تفعل

ذلك يا رسول الله؟» قال: «نعم»، قال: «فمَن بعدك؟!»، فلما أدبر قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن ابن مظعون لحيي سِتّير». 684 - إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ: «إِنَّ عَبْدِي كُلَّ عَبْدِيَ الَّذِي يَذْكُرُنِي وَهُوَ مُلاَقٍ قِرْنَهُ، يَعْنِي: عِنْدَ القِتَالِ (¬1). 685 - إن الله خَمّر طينة آدم بيده أربعين صباحًا. 686 - إن الله سيجعلُ له مخرجًا»، رُوِيَ عن السديّ، في قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (الطلاق: 2) أن رجلا من أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقال له عوف الأشجعيّ، كان له ابن، وأن المشركين أسروه، فكان فيهم، فكان أبوه يأتي النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيشكوا إليه مكان ابنه، وحالته التي هو بها وحاجته، فكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يأمره بالصبر ويقول له: «إن الله سيجعل له مخرجًا»، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا إذا انفلت ابنه من أيدي العدوّ، فمرّ بغنم من أغنام العدوّ فاسْتَاقَها، فجاء بها إلى أبيه، وجاء معه بغنًى قد أصابه من الغنم، فنزلت هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2 - 3). 687 - إن الله شفاني، وليس برُقْيَتِكم». رُوِيَ عن جبلة بن الأزرق أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صلى إلى جنب جدار كثير الأحجرة - صلى ظهرًا أو عصرًا - فلما جلس في الركعتين خرجت عقرب فلدغته، فغشي عليه، فرقاه الناس، فلما أفاق قال: «إن الله شفاني، وليس برُقْيَتِكم». ¬

(¬1) قِرْنه - بكسر القاف وسكون الراء -: عدوه القارن المكافيء له في الشجاعة والحرب فلا يغفل عن ربه حتى في حال معاينة الهلاك، ومما يدل على ذِكْر الله أثناء القتال قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)} (الأنفال: 45).

688 - إن الله - عز وجل - جعل ذرية كل نبي في صلبه، وإن الله تعالى جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب. 689 - إن الله إن الله - عز وجل - خلق السماوات سبعًا فاختار العليا منها فسكنها»، رُوِيَ عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: بينا نحن جلوس بفناء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ مرت امرأة، فقال رجل من القوم هذه ابنة محمد، فقال أبو سفيان: إن مَثَل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن، فانطلقت المرأة، فأخبرت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فخرج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يُعرَف الغضب في وجهه، فقال: «ما بال أقوال تبلغني عن أقوام، إن الله - عز وجل - خلق السماوات سبعًا فاختار العليا منها فسكنها، وأسكن سائر سماواته مَن شاء مِن خلقه، وخلق الأرضين سبعًا فاختار العليا منها فأسكنها مَن شاء مِن خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب، واختار من العرب مُضَر، واختار من مُضَر قريشًا، واختار من قريش بني هاشم، واختارني من بني هاشم (¬1) فأنا من خيار إلى خيار، فمن أحب العرب فبحُبي أحَبَّهم، ومَن أبغض العرب فببغضي أبْغَضَهم». 690 - إن الله - عز وجل - لما قضى خلقه استلقى، ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال: «لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا»، رُوِيَ عن عن عبيد بن حنين قال: بيْنَا أنا جالس إذ جاءني قتادة بن النعمان سدد خطاكم فقال: «انطلق بنا يا ابن حنين إلى أبي سعيد الخدري سدد خطاكم فإني قد أخبِرْتُ أنه قد اشتكى»، فانطلقنا حتى دخلنا على أبي سعيد، فوجدناه مستلقيًا رافعًا رجله اليمنى على اليسرى، فسلّمنا وجلسنا، فرفع قتادة بن النعمان يده إلى رجل أبي سعيد فقرصها قرصة شديدة، فقال أبو سعيد: «سبحان الله يا ابن أم أوجعتني»، فقال له: «ذلك أردتُ، إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن الله - عز ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ». (رواه مسلم).

وجل - لما قضى خلقه استلقى، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: «لا ينبغي لأحد من خلقي أن يفعل هذا». 691 - إن الله - عز وجل - يحب الصمت عند ثلاث، عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة». 692 - إن الله - عز وجل - يقول: «أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا، مَالِكُ الْمُلُوكِ، وَمَلِكُ الْمُلُوكِ، قُلُوبُ الْمُلُوكِ فِي يَدِي، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا أَطَاعُونِي حَوَّلْتُ قُلُوبَ مُلُوكِهِمْ عَلَيْهِمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَإِنَّ الْعِبَادَ إِذَا عَصَوْنِي حَوَّلْتُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْهِمْ بِالسَّخْطَةِ وَالنِّقْمَةِ فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، فَلا تَشْغَلُوا أَنْفُسَكُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى الْمُلُوكِ، وَلَكِنِ اشْتَغِلُوا بِالذِّكْرِ وَالتَّضَرُّعِ إِلَيَّ أَكْفِكُمْ مُلُوكَكُمْ». 693 - إنّ الله لا ينظر إلى الصف الأعوج (¬1). 694 - إن الله لَيدْفَع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء. 695 - إن الله لَيستحيي من ذي الشيبة، إذا كان مسدّدًا لَزُومًا للسنة، أن يسأله فلا يعطيه. ¬

(¬1) بعض الأئمة عند تسوية الصفوف يقول: «إنّ الله لا ينظر إلى الصّفّ الأعوج»، وهذا لا يثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد صحت أحاديث كثيرة في إقامة الصف والاستواء فيه وسد الخلل، منها قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ» (رواه البخاري)، ورواه مسلم بلفظ: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ» وفي رواية لمسلم أيضًا: «أَقِيمُوا الصَّفَّ فِى الصَّلاَةِ؛ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ». وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» (رواه البخاري ومسلم). وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ» (رواه البخاري). وعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ سدد خطاكم قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِى الصَّلاَةِ، وَيَقُولُ: «اسْتَوُوا وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ» (رواه مسلم). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما -، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ الله، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

696 - إن الله لَيستحيي من عبده إذا صلى في جماعة ثم سأل حاجته أن ينصرف حتى يقضيها. 697 - إن الله لَيكره الرجل الرفيع الصوت، ويحب الرجل الخفيض الصوت. 698 - إن الله لَيعجب من مداعبة الرجل زوجته، ويكتب لهما بذلك أجرًا، ويجعل لهما بذلك رزقًا حلالًا. 699 - إن الله لَينفع العبد بالذنب يذنبه. 700 - إن الله نظر في قلوب العباد فلم يجد قلبًا أتقى من أصحابه، ولذلك اختارهم فجعلهم أصحابًا، فما استحسنوا فهو عند الله حسن، وما استقبحوا فهو عند الله قبيح (¬1). ¬

(¬1) لا أصل له مرفوعًا وإنما ورد موقوفًا على عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم قَالَ: «إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ، فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ». أخرجه أحمد وقال الألباني: «هذا إسناد حسن. وروى الحاكم منه الجملة التي أوردنا في الأعلى [أي: فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا، فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ»] وزاد في آخره: «وقد رأى الصحابة جميعًا أن يستخلفوا أبا بكر - رضي الله عنه -»، وقال: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي .... وإن من عجائب الدنيا أن يحتج بعض الناس بهذا الحديث على أن في الدين بدعة حسنة، وأن الدليل على حُسْنها اعتياد المسلمين لها! ولقد صار من الأمر المعهود أن يبادر هؤلاء إلى الاستدلال بهذا الحديث عندما تثار هذه المسألة وخفي عليهم أن هذا الحديث موقوف فلا يجوز أن يُحْتَجّ به في معارضة النصوص القاطعة في أن «كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» كما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -. وعلى افتراض صلاحية الاحتجاج به فإنه لا يعارض تلك النصوص لأمور: الأول: أن المراد به إجماع الصحابة واتفاقهم على أمر، كما يدل عليه السياق، ويؤيده استدلال ابن مسعود به على إجماع الصحابة على انتخاب أبي بكر خليفة، وعليه فاللام في (المسلمون) ليس للاستغراق كما يتوهمون، بل للعهد. ... = = الثاني: سَلَّمْنا أنه للاستغراق، ولكن ليس المراد به قطعًا كل فرد من المسلمين، ولوكان جاهلًا لا يفقه من العلم شيئًا، فلابد إذن من أن يحمل على أهل العلم منهم، وهذا مما لا مفر لهم منه فيما أظن. فإذا صح هذا فمَن هم أهل العلم؟ وهل يدخل فيهم المقلدون الذين سدوا على أنفسهم باب الفقه عن الله ورسوله، وزعموا أن باب الاجتهاد قد أغلق؟ كلا ليس هؤلاء منهم. وخلاصة القول: أن حديث ابن مسعود هذا الموقوف لا متمسك به للمبتدعة، كيف وهو - رضي الله عنه - أشد الصحابة محاربة للبدع والنهي عن اتباعها، وأقواله وقصصه في ذلك معروفة في (سنن الدارمي) و (حلية الأولياء) وغيرهما، وحسبنا الآن منها قوله - رضي الله عنه -: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم، عليكم بالأمر العتيق». فعليكم أيها المسلمون بالسُنّة تهتدوا وتفلحوا» (باختصار من السلسلة الضعيفة 533).

701 - إن الله نقل لذة الأغنياء إلى طعام الفقراء. 702 - إن الله وملائكته يصلون على أصحاب العمائم يوم الجمعة. 703 - إن الله يباهي الملائكة عشية عرفة بعمر ابن الخطاب. 704 - إن الله يباهي بالشاب العابد الملائكة، يقول: انظروا إلى عبد ي ترك شهوته من أجلي، أيها الشاب أنت عندي كبعض ملائكتي. 705 - إن الله يبغض الطلاق، ويحب العتاق. 706 - إن الله يتجلى لأهل الجنة في مقدار كل يوم على كثيب كافور أبيض. 707 - إن الله يتجلى للناس عامة، ولأبى بكر خاصة. 708 - إن الله يحب ابن عشرين إذا كان شبه ابن الثمانين، ويبغض ابن الستين إذا كان شبه ابن عشرين. 709 - إن الله يحب أبناء الثمانين. 710 - إن الله يحب الشاب التائب (¬1). 711 - إن الله يحب العبد المؤمن المفتن التواب. ¬

(¬1) قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} (البقرة: 222).

712 - إن الله يحب المؤمن المحترف. 713 - إن الله يحب العبد المحترف الذي يتعب في طلب الحلال. 714 - إن الله يحب أن يرى عبدَه تَعِبًا في طلب الحلال. 715 - إن الله يحب أن يعمل برخصه، كما يحب أن يعمل بفرائضه (¬1). 716 - إن الله يحب عبده المؤمن الفقير المتعفف أبا العيال. 717 - إن الله يحبُّ مَنْ يحب التمر. 718 - إن الله يدعو الناس يوم القيامة بأمهاتهم سترًا منه على عباده، وأما عند الصراط فإن الله يُعطي كل مؤمن نورًا وكل مؤمنة نورًا وكل منافق نورًا فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات فقال المنافقون {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} (الحديد: 13) وقال المؤمنون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} (التحريم: 8) فلا يذكر عند ذلك أحدٌ أحدًا. 719 - إنَّ اللهَ يَزَعُ بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ (¬2). 720 - إن الله يسأل عن صحبة ساعة. 721 - إن الله يستحيي من عبده إذا صلى في جماعة ثم يسأله حاجته أن ينصرف حتى يقضيها. ¬

(¬1) موضوع بهذا اللفظ، والحديث صحيح بلفظ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ»، وبلفظ: «إِنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ». (¬2) يَزَعُ: يَكُفُّ ويردع. رَوَيَ الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (4/ 107) بإسناده عن عمر بن الخطاب سدد خطاكم أنه قال: «ما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن». وفيه: الهيثم بن عدي، وهو كذاب. كذبه كل من البخاري ويحيى بن معين وأبو داود. وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد (1/ 118) عن ابن القاسم قال: حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: «ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن»، أي: من الناس، قال: قلت لمالك: «ما يزع؟»، قال: «يَكُفّ». (وهذا إسناد معضل).

722 - إن الله يطلع على عباده في ليلة النصف من شعبان فيغفر للمستغفرين ويرحم المسترحمين ويؤخر أهل الحقد كما هم. 723 - إن الله يعافي الأميين يوم القيامة ما لا يعافي العلماء. 724 - إن الله يعجب من سائل يسأل غير الجنة، ومن معط يعطي لغير الله، ومن متعوذ يتعوذ من غير النار، ألا فلْيُبَاه بالعبادة لمن فوقه، والغِنَى إلى من دونه، حتى يكتب شاكرًا صابرًا؛ فإن أولياء الله أخروا النعيم للآخرة، وعجلوا الشدة في الدنيا للراحة. 725 - إن الله يقول يوم القيامة: أمَرْتُكم فضيَّعْتم ما عهدتُ إليكم فيه، ورفعتم أنسابكم، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم، أين المتقون؟ أين المتقون؟ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13). 726 - إن الله يكره الرجل البطال. 727 - إن الله يكره في السماء أن يخطئ أبو بكر في الأرض. 728 - إن الله ينقل لذة طعام الأغنياء إلى طعام الفقراء. 729 - إن الله ينهاكم عن التَعَرّي، فاسْتَحْيُوا من ملائكة الله الذين معكم؛ الكرام الكاتبين، الذين لا يفارقونكم إلا عند ثلاث حالات: الغائط والجنابة والغسل، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء، فليستتر بثوبه أو بجذمة حائط أو ببعيره (¬1). 730 - إن المؤمن إذا تعلم بابًا من العلم عمل به أو لم يعمل، كان أفضل من أن يصلي ألف ركعة تطوعًا. 731 - إن المؤمن إذا مات تجملت المقابر لموته، فليس منها بقعة إلا وهي تتمنى أن يدفن فيها، وإن الكافر إذا مات أظلمت المقابر لموته، فليس منها بقعة إلا وهي تستجير بالله أن لا يدفن فيها. ¬

(¬1) الجِذمةُ: القِطعةُ تبقى من الشيء يُقطع طرفه ويبقى جِذمُه. والجُذمةُ: القطعةُ.

732 - إن المؤمن يُضرَب وجهه بالبلاء كما يضرب وجه البعير. 733 - إن الملائكة قالت: «يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟»، رُوِيَ عن نافع قال: سافرت مع ابن عمر، فلما كان آخر الليل قال: «يا نافع طلعت الحمراء؟»، قلت: «لا» (مرتين أو ثلاثة)، ثم قلت: «قد طلعت»، قال: «لا مرحبًا بها وأهلًا»، قلت: «سبحان الله، نجم سامع مطيع؟»، قال: «ما قلت لك إلا ما سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، قال لي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن الملائكة قالت: «يا رب كيف صبرك على بني آدم في الخطايا والذنوب؟»، قال: «إني ابتليْتُهم وعافَيْتُكم»، قالوا: «لو كنا مكانهم ما عصيناك»، قال: «فاختاروا ملَكيْن منكم»، فلم يألوا أن يختاروا، فاختاروا هاروت وماروت، فنزلا، فألقَى الله تعالى عليهما الشَبَق، قلت: ... «وما الشبق؟»، قال: «الشهوة»، قال: «فنزلا، فجاءت امرأة يُقَال لها الزهرة، فوقعت في قلوبهما، فجعل كل واحد منهما يُخْفِي عن صاحبه ما في نفسه، فرجع إليها، ثم جاء الآخر، فقال: «هل وقع في نفسك ما وقع في قلبي؟»، قال: «نعم»، فطلباها نفسها، فقالت: «لا أمكنكما حتى تُعْلِماني الاسم الذي تعرجان به إلى السماء وتهبطان»، فأبَيَا، ثم سألاها أيضا فأبَتْ، ففعلا فلما استطيرت طمسها الله كوكبًا وقطع أجنحتها، ثم سألا التوبة من ربهما، فخَيَّرَهما، فقال: «إن شِئْتُما ردَدْتُكم إلى ما كنتما عليه، فإذا كان يوم القيامة عذَّبْتُكما، وإن شئتما عذَّبْتُكما في الدنيا فإذا كان يوم القيامة ردَدْتُكما إلى ما كنتما عليه»، فقال أحدهما لصاحبه: «إن عذاب الدنيا ينقطع ويزول، فاختارا عذاب الدنيا على الآخرة، فأوحى الله إليهما أن ائتيا بابل، فانطلقا إلى بابل فخسف بهما، فهما منكوسان بين السماء والأرض معذبان إلى يوم القيامة» (¬1). ¬

(¬1) قال ابن كثير: «وقد رُوِيَ في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقَصَّها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى. ... = = وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطْنابٍ فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أورده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال»، (انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة للألباني رقم 912).

734 - إن الميت يرى الناس في بيته سبعة أيام. 735 - إن الميت يعرف من يحمله، ومن يُغَسّله، ومن يُدْلِيه في قبره. 736 - إن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا»، رُوِيَ عن جار لجابر بن عبد الله قال: قدمت من سفر، فجاءني جابر بن عبد الله يسلم علي، فجعلت أحدثه عن افتراق الناس وما أحدثوا، فجعل جابر يبكي، ثم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «إن الناس دخلوا في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا». 737 - إن الورد الأحمر خُلق من عَرَق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. 738 - إن اليمين الفاجرة التي يقتطع بها الرجل مال المسلم تعقم الرحم (¬1). 739 - إن أهل الجنة يتزاورون على النجائب (¬2)، بِيض كأنهن الياقوت، وليس في الجنة شيء من البهائم إلا الإبل والطير. 740 - إن أهل الجنة ليحتاجون إلى العلماء كما يحتاجون إليهم في الدنيا؛ وذلك أنهم يزورون الله في كل جمعة فيقال لهم: تَمَنَّوْا، فيقولون: وماذا نتمنى وقد أدخلنا الجنة وأعطينا ما أعطينا؟! فيقال لهم: تمنوا، فيأتون العلماء فيقولون: ماذا نتمنى؟ فيقول لهم ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ ـ تَعَالَى ـ فِيهِ أعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أعْجَلَ عِقَابًا مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، واليَمِينُ الفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ». (رواه البيهقي، وصححه الألباني). صِلَةُ الرَّحِمِ: الإحسانُ إلى الأقاربِ بقولٍ أو فعلٍ. البَغْيُ: التَّعَدِّي على الناس. قَطِيعَةُ الرَّحِمِ: تكون بإسَاءَة أو هَجْر أو نحوِهما. اليَمِينُ الفَاجِرَةُ: الكاذبة. تَدَعُ: تترك. بَلَاقِعَ: جمع بلقع وهي الأرض القَفْراء التي لا شَئ َفيها، أي أنَّ الحالفَ كَذِبًا يَفْتَقِرُ ويذْهَبُ ما في بيتِه مِنَ الرِّزْقِ. (¬2) النَّجيب من الإبِل: القويّ، الخفيف، السَّريع، نجائبُ الإبل: خيارُها.

العلماء: تمنوا كذا وكذا، وتمنوا كذا وكذا. فهم محتاجون إليهم في الجنة كما هم محتاجون إليهم في الدنيا. 741 - إن أهل السماء لا يسمعون شيئًا من أهل الأرض إلا الأذان. 742 - إنَّ أولَ مَا دخلَ النقصُ على بني إسرائيلَ كانَ الرجلُ يَلقى الرجلَ فيقولُ: يا هذا، اتَّقِ اللهَ وَدَعَ ما تَصنعُ، فإنَّهُ لا يَحِلُ لَكَ، ثُم يَلقاه مِنَ الغَدِ، فَلا يَمنَعُهُ ذَلكَ أنْ يَكونَ أكيلَهُ، وَشَرِيبَهُ، وَقَعِيدَهُ، فَلمَّا فَعلوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللهُ قُلوبَ بَعضِهِم بِبعضٍ. كَلا واللهِ، لتأمُرُنَّ بالمعروفِ، ولَتنهُونَّ عَنِ المنكَر، ولَتَأخُذنَّ على يَدِ الظالِمِ، ولَتَأطرُنَّهُ على الحقِ أَطرًا، أو لَيَضرِبَنَّ اللهُ بِقلوبِ بَعضِكُم على بَعضٍ، ثُمَّ يَلعنُكُم كَمَا لَعَنهُم». 743 - إنّ أول ما يجازى به المؤمن بعد موته أن يغفر لجميع من يتبع جنازته. 744 - أنْ تفعل الخير خيرٌ لك»، رُوِيَ عن امرأة يقال لها بهيسة عن أبيها قالت: استأذن أبي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فدخل بينه وبين قميصه، فجعل يقبل ويلتزم، ثم قال: «يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟»، قال: «الماء». قال: «يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟»، قال: «الملح». قال: «يا نبي الله، ما الشيء الذي لا يحل منعه؟»، قال: «أن تفعل الخير خير لك». 745 - إن بعير صفية قد اعتل فلو أعطيتِها بعيرًا لك»، رُوِيَ عن عائشة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في سفر ونحن معه فاعتَلّ بعيرٌ لصفية وكان مع زينب فضل، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن بعير صفية قد اعتَلّ فلو أعطيتِها بعيرًا لك»، قالت: «أنا أعطي هذه اليهودية»، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهجرها بقية ذي الحجة ومحرم وصفَر وأيامًا من شهر ربيع الأول، حتى رفعت متاعها وسريرها فظنت أنه لا حاجة له فيها، فبينا هي ذات يوم قاعدة بنصف النهار إذ رأت ظله قد أقبل فأعادت سريرها ومتاعها. 746 - إن تحت كل شعرة جنابة؛ فاغسلوا الشعر وأنقوا البشرة. 747 - إن حسن الخلق ليذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد.

748 - إن داود النبي - عليه السلام - حين نظر إلى المرأة فَهَمَّ بها قطع على بني إسرائيل بعثًا وأوحى إلى صاحب البعث فقال: «إذا حضر العدو فقَرّبْ فلانًا»، وسَمَّاه، فقربه بين يدي التابوت، وكان ذلك التابوت في ذلك الزمان يُسْتَنْصَر به، فمن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يُقْتَل أو ينهزم عنه الجيش الذي يقاتله، فقُتِل زوج المرأة، ونزل الملَكان على داود فقصا عليه القصة (¬1). 749 - إن رجلًا من أهل الجنة يُشْرِفُ يوم القيامة على أهل النار فيناديه رجل من أهل النار ويقول: «يا فلان هل تعرفني؟»، فيقول: «لا، والله ما أعرفك، من أنت؟»، فيقول: «أنا الذي مررتَ بي في الدنيا فاسْتَسْقَيْتَنِي شربة ماء فسقَيْتُك»، قال: «قد عرفت»، قال: «فاشفع لي بها عند ربك»، فيسأل الله تعالى ذكره، ويقول: «إني أشرفت على أهل النار فناداني رجل من أهلها فقال: «هل تعرفني؟» فقلت: «لا، من أنت؟» فقال: «أنا الذي اسْتَسْقَيْتَنِي في الدنيا فسقيْتُك فاشفع لي عند ربك»، فشفّعْني فيه، فيشفعه الله فيه فيؤمر به فيخرج من النار. 750 - إن شهر رجب شهر عظيم، من صام منه يومًا كتب الله له صوم ألف سنة، ومن صام يومين كتب الله له صيام ألفي سنة، ومن صام ثلاثة أيام كتب الله له صيام ثلاثة ألف سنة، ومن صام من رجب سبعة أيام أغلقت عنة أبواب جهنم، ومن صام منه ثمانية أيام فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها يشاء، ومن صام منه خمسة عشر يومًا بُدّلت سيئاته حسنات ونادى منادٍ من السماء: «قد غفر الله لك؛ فاستأنف العمل، زادٌ زادَه الله - عز وجل -، وفي رجب حمل الله نوحًا في السفينة فصام رجب وأمَر مَن ¬

(¬1) قال الألباني: «والظاهر أنه من الإسرائيليات التي نقلها أهل الكتاب الذين لا يعتقدون العصمة في الأنبياء , أخطأ يزيد الرقاشي , فرفعه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - , وقد نقل القرطبي عن ابن العربي المالكي أنه قال: «وأمّا قولهم: إنها أعجبته , أمر بتقديم زوجها للقتل في سبيل الله , فهذا باطل قطعًا, فإن داود - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن ليريق دمه في غرض نفسه» (انظر: السلسلة الضعيفة، رقم 313، 314).

معه أن يصوموا، فجرت بهم السفينة سبعة أشهر أخر ذلك يوم عاشوراء، أهبط على الجودي فصام نوح ومن معه والوحش شكرًا لله - عز وجل -، وفي يوم عاشوراء فلق الله البحر لبني إسرائيل (¬1)، وفي يوم عاشوراء تاب الله - عز وجل - على آدم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى مدينة يونس، وفيه وُلد إبراهيم - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 751 - إن رجلين ممن دخل النار اشتد صياحهما فقال الرب تبارك وتعالى: «أخرجوهما» فلما أخرجوهما قال لهما: «لأي شيء اشتد صياحكما؟» قالا: «فعلنا ذلك لترحمنا»، قال: «رحمتي لكما أن تنطلقا فتُلْقِيا أنفسكما حيث كنتما من النار»، فينطلقان فيُلقِي أحدهما نفسه فيجعلها عليه بردًا وسلامًا، ويقوم الآخر فلا يُلقِي نفسه، فيقول له الرب: «ما منعك أن تُلقِي نفسك كما ألقى صاحبك؟»، فيقول: «يا رب إني لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني»، فيقول له الرب: «لك رجاؤك»، فيدخلان الجنة جميعا برحمة الله. 752 - إن شِئتُما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت»، رُوِيَ عَن عبد الله بن عُمَر قال: كنت قاعدًا مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في مسجد مِنَى فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف فسلّما ثم قالا: يا رسول الله , جئنا نسألك فقال: «إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت، وَإن شئتما أن أمسك وتسألاني فعلت». فقالا: «أخبرنا يا رسول الله»، فقال الثقفي للأنصاري: «سَلْ»، فقال: «أخبرني يا رسول الله»، قال: «جئتني تسألني، عَن مخرجك من بيتك تَؤُمّ البيت الحرام وما لك فيه، وعَن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعَن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، ووقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعَن رميك الجمار وما لك فيه، ¬

(¬1) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالُوا: «هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ فَصَامَهُ مُوسَى»، قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (رواه البخاري).

وعَن نَحْرِك وما لك فيه، وعَن حلقك رأسك وما لك فيه، وعَن طوافك بالبيت بعد ذلك وما لك فيه مع الإفاضة»، فقال: «والذي بعثك بالحق، عَن هذا جئت أسألُك». قال: «فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفًّا، ولا ترفعه إلّا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة، وأما ركعتاك بعد الطواف كعتق رقبة من بني إسماعيل، وأما طوافك بالصفا والمروة بعد ذلك كعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشِيّة عرفة فإن الله - تبارك وتعالى - يهبط إلى سماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: «عبادي جَاءُونِي شُعْثًا من كل فج عميق يرجون رحمتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزَبَد البحر لغفرتُها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له»، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور لك عند ربك، وأما حِلَاقُك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملَكٌ حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: «اعمل فيما تستقبل فقد غفر لك ما مضى». 753 - إن شهر رمضان مُعَلّق بين السماء والأرض لا يرفع إلا بزكاة الفطر. 754 - إن عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا (¬1). 755 - إن عُمّار بيوت الله هم أهل الله. 756 - إنَّ عِيسى بْنَ مَريمَ أسلَمتُهُ أمُّهُ إلى الكتَّابِ لِيُعلمَهْ. فَقَالَ لَهُ المُعلمُ: «اكتُبْ»، قَالَ: «وَمَا اكتُبُ؟»، قَالَ: «بِسمِ اللهِ». قَالَ عِيسَى: «وَمَا بِسمِ اللهِ؟»، قَالَ المُعلمُ: «مَا أدري»، قَالَ لَهُ عِيسى: «البَاءُ، بَهاءُ اللهِ، وَالسينُ: سَناؤُهُ، وَالمِيمُ: مَملَكتُهُ، وَاللهُ: إِلَهُ الآلِهَةِ، وَالرَّحمنُ: رَحمنُ الدُّنيَا وَالآخرةِ، وَالرَّحِيمِ: رَحِيمُ الآخرةِ». ¬

(¬1) إن عبد الرحمن بن عوف سدد خطاكم قد شهد له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجنة دون ذكر التأخير أو الدخول زحفًا. قال ابن الجوزي: «أفَتُرَى مَن يسبق إذا حَبَا عبد الرحمن بن عوف، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل بدر المغفور لهم، ومن أصحاب الشورى؟».

757 - إن عيسى بن مريم كان يقول: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية». 758 - إن في الجمعة ساعة لا يحتجم فيها أحد إلا مات. 759 - إن فى الجنة بابا يقال له الضحى، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: «أين الذين كانوا يديمون على صلاة الضحى؟ هذا بابكم فادخلوه برحمة الله - عز وجل -. 760 - إن فى الجنة بابا يقال له الضحى، فمن صلى صلاة الضحى حنَّت إليه صلاة الضحى كما يحن الفصيل (¬1) إلى أمه حتى إنها لتستقبله حتى تدخله الجنة. 761 - إن فى الجنة بابا يقال له الضحى لا يدخل منه إلا من حافظ على صلاة الضحى. 762 - إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم»، رُوِيَ عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم»، قال أبو سلمة: فقلت لأبي هريرة: «الهموم في المعيشة؟»، قال: «نعم». 763 - إن في الجنة لسوقًا ما فيها شراء ولا بيع إلا الصور من الرجال والنساء فإذا اشتهى الرجل صورة دخل فيها. 764 - إن في الجنة لَنَهْرًا ما يدخُله جبريل مِن دَخْلة فيخرج منه فينتفض إلا خلق الله تعالى من كل قطرة تقطر منه ملكًا. 765 - إن في الجنة نهرًا يقال له رجب أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل من صام يوما من رجب سقاه الله من ذلك النهر. ¬

(¬1) الفصيل: ولد الناقة أو البقرة بعد فطامه وفصله عن أمه.

766 - إن في الجنة نهرًا يقال له رجب ماؤه الرحيق، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا، أعده الله لِصُوّام رجب. 767 - إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب (¬1). 768 - إن في جهنم واديًا يقال له: هبهب، حقًا على الله أن يسكنه كل جبار عنيد. 769 - إن قذف المحصنة ليهدم عمل مائة سنة. 770 - إن كان الكلام من فضة فالصمت من ذهب. 771 - إنْ كُنتَ تُحِبُّني، فأعِدَّ للفقرِ تِجفافًا»، رُوِيَ عن عبد الله بن مغفل قال: «قال رجل للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا رسول الله، والله إني لأحبك»، فقال: «انظر ما تقول»، قال: «والله إني لأحبك»، فقال: «انظر ما تقول»، قال: «والله إني لأحبك» ثلاث مرات، فقال: «إنْ كُنتَ تُحِبُّني، فأعِدَّ للفقرِ تِجفافًا، فإنَّ الفقرَ أسرعُ إلى مَنْ يُحبني، من السيلِ إلى مُنتهاهُ». 772 - إن لجواب الكتاب حقًا كرد السلام (¬2). 773 - إن لصاحب القرآن عند كل ختمة دعوة مستجابة (¬3) وشجرة في الجنة، لو أن غرابًا طار من أصلها لم ينته الى فروعها حتى يدركه الهرم. ¬

(¬1) عن مطرف قَالَ: صَحِبْتُ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مِنَ الْكُوفَةِ إِلَى الْبَصْرَةِ، فَقَلَّ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ إِلَّا وَهُوَ يُنْشِدُنِي شِعْرًا، وَقَالَ: «إِنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لمندوحة عن الكذب» (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني). (¬2) عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «إني لأرى لجواب الكتاب حقًا كردّ السلام» (رواه البخاري الأدب المفرد، وقال الألباني: «حسن الإسناد»). (¬3) يُشْرع لكل تالٍ للقرآن أن يجمع أهله بعد أن يختم القرآن وأن يدعو له ولهم بما فيه خير الدنيا والآخرة، والوارد عن السلف هو الدعاء بعد ختم القرآن، بدون التزام بدعاء معين أو صيغة معينة، فالمسلم إذا ختم القرآن الكريم سواء في رمضان أو غير رمضان، فإنه يستحب له أن يرفع يديه، ويدعو الله تعالى، ويسأله من خير الدنيا والآخرة. سئل الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «هل هناك دعاء معين لختم القرآن؟»، فأجاب: «لم يَرِدْ دليل على تعيين دعاء معين فيما نعلم، ولذلك يجوز للإنسان أن يدعو بما شاء ويتخير من الأدعية النافعة كطلب مغفرة الذنوب والفوز بالجنة والنجاة من النار، والاستعاذة من الفتن وطلب التوفيق لفهم القرآن الكريم على الوجه الذي يرضي الله - سبحانه وتعالى -، والعمل به وحفظه، ونحو ذلك لأنه ثبت عن أنس سدد خطاكم أنه كان يجمع أهله عند ختم القرآن ويدعو» اهـ. [مجموع فتاوى ابن باز (11/ 358)]. وقال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «إن الدعاء المطبوع في آخر بعض المصاحف المطبوعة في تركيا وغيرها تحت عنوان: (دعاء ختم القرآن)، والذي ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -؛ فهو مما لا نعلم له أصلًا عن ابن تيمية أو غيره مِن علماء الإسلام. . . ومما لا شك فيه أن التزام دعاء معين بعد ختم القرآن من البدع التي لا تجوز؛ لعموم الأدلة، كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وكُلّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»، وهو من البدع التي يسميها الإمام الشاطبي بـ «البدعة الإضافية»، وشيخُ الإسلام ابن تيمية مِن أبْعَد الناس عن أن يأتي بمثل هذه البدعة، كيف وهو كان له الفضل الأول - في زمانه وفيما بعده - بإحياء السنن وإماتة البدع؟ جزاه الله خيرًا». [سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (13/ 315)].

774 - إن لكل أمة سياحة وإن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله، وإن لكل أمة رهبانية ورهبانية أمتي الرباط في نحر العدو. 775 - إن لكل شجرة ثمرة، وثمرة القلب الولد، إن الله لا يرحم من لا يرحم ولده. والذي نفسي بيده! لا يدخل الجنة إلا رحيم». قلنا: «يا رسول الله! كلنا يرحم»، قال: «ليست الرحمة أن يرحم أحدكم صاحبه؛ إنما الرحمة أن يرحم الناس». 776 - إن لكل شيء بابًا، وباب العبادة الصيام. 777 - إن لكل شيء توبة إلا صاحب سوء الخلق، فإنه لا يتوب من ذنب إلا وقع في شر منه. 778 - إن لكل شيء دعامة ودعامة هذا الدين الفقه، ولفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد. 779 - إن لكل شيء سقالة، وإن سقالة القلوب ذكر الله، وما من شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله، ولو أن تضرب بسيفك حتى ينقطع.

780 - إن لكل شيء شرفًا وإن شرف المجالس ما استقبل به القبلة. 781 - إن لكل شيء قلبًا وإن قلب القرآن (يس) من قرأها فكأنما قرأ القرآن عشر مرات. 782 - إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟»، رُوِيَ عن أبي سليمان الداراني قال: حدثني شيخ بساحل دمشق يقال له: علقمة بن يزيد الأزدي: حدثني أبي عن جدي قال: وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سابع سبعة من قومي فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سَمْتِنا وزِيِّنَا فقال: «ما أنتم؟»، قلنا: «مؤمنين»، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟»، قلنا: «خمس عشرة خصلة، خمس منها أمَرَتْنا رسلُك أن نؤمن بها، وخمس أمرَتْنا رسلُك أن نعمل بها، وخمس تخلَّقْنا بها في الجاهلية ونحن عليها إلا أنْ تكره منها شيئًا». قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وما الخمس التي أمرَتْكم رسلي أن تؤمنوا بها؟»، قلنا: «أمرَتْنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله والقدر خيره وشره»، قال: «وما الخمس التى أمرَتْكم بها رسلي؟»، قلنا: «أمرَتْنا رسلُك أن نشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله، ونقيم الصلاة المكتوبة، ونؤدي الزكاة المفروضة، ونصوم شهر رمضان ونحج البيت إن استطعنا إليه السبيل»، قال: «وما الخمس التي تخلّقتم بها في الجاهلية؟». قلنا: «الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والصدق في مواطن اللقاء، والصبر عند شماته الأعداء، وإكرام الضيف». فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «علماء حكماء كادوا من صدقهم أن يكونوا أنبياء»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وأنا أزيدكم خمسًا، فيتِمّ لكم عشرون خصلة: إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبْنُوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء غدًا عنه تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون». قال أبو سليمان: «قال لي علقمة ابن يزيد: فانصرف القوم من عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحفظوا وصيته وعملوا بها، ولا

والله يا أبا سليمان ما بقي من أولئك النفر وأولادهم أحد غيري». قال: «وبقي إلى أيام قلائل ثم مات سدد خطاكم». 783 - إن لكل مسيء توبة، إلا صاحب سوء الخلق؛ فإنه لا يتوب من ذنب إلا وقع في شر منه. 784 - إن للحاج الراكب بكل خطوة تخطوها راحلته سبعين حسنة، وللماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة. 785 - إن للقلوب صدًا كصدأ الحديد وجلاؤها الاستغفار. 786 - إن لله أقواما اختصهم بالنعم لمنافع العباد يقرها فيهم ما بذلوها، فإذا منعوها نزعها عنهم وحوَّلها إلى غيرهم؟ 787 - إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها كلها دخل الجنة (¬1) أسأل الله الرحمن الرحيم الإله الرب الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الحكيم العليم السميع البصير الحي القيوم الواسع اللطيف الخبير الحنان المنان البديع الودود الغفور الشكور المجيد المبدئ المعيد النور البارئ الأول الآخر الظاهر الباطن العفو الغفار الوهاب الفرد الصمد الوكيل الكافي الباقي الحميد المقيت الدائم المتعالي ذا الجلال والإكرام الولي النصير الحق المبين المنيب الباعث المجيب المحيي المميت الجميل الصادق الحفيظ المحيط الكبير القريب الرقيب الفتاح التواب القديم الوتر الفاطر الرزاق العلام العلي العظيم الغني الملك المقتدر الأكرم الرءوف المدبر المالك القاهر الهادي الشاكر الكريم الرفيع الشهيد الواحد ذا الطول ذا المعارج ذا الفضل الخلاق الكفيل الجليل. ¬

(¬1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (رواه البخاري ومسلم).

788 - إن لله تعالى ريحًا يبعثها على رأس مائة سنة تقبض روح كل مؤمن. 789 - إن لله تعالى ضنائن من خلقه، يغذوهم في رحمته، يحييهم في عافية ويُمِيتُهم في عافية، وإذا توفاهم توفاهم إلى جنته، أولئك الذين تمر عليهم الفتن كقطع الليل المظلم وهم منها في عافية. 790 - إن لله تعالى عبادا اختصهم بحوائج الناس يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله. 791 - إن لله تعالى عبادًا يَضِنّ بهم عن القتل ويطيل أعمارهم في حسن العمل، ويحسن أرزاقهم، ويحييهم في عافية، ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش، فيعطيهم منازل الشهداء. 792 - إن لله تعالى في كل يوم جمعة ستمائة ألف عتيق يعتقهم من النار كلهم قد استوجبوا النار. 793 - إن لله تعالى مجاهدين في الأرض أفضل من الشهداء، أحياء مرزوقين، يمشون على الأرض، يباهي الله بهم ملائكة السماء، وتزين لهم الجنة كما تزينت أم سلمة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والمحبون في الله، والمبغضون في الله، والذي نفسي بيده إن العبد منهم ليكون في الغرفة فوق غرف الشهداء، للغرفة منها ثلاثمائة ألف باب، منها الياقوت والزمرد الأخضر، على كل باب نور، وإن الرجل منهم ليتزوج بثلاثمائة ألف حوراء، قاصرات الطرف عِين، كلما التفت إلى واحدة منهن فنظر إليها تقول له: «أتذكر يوم كذا وكذا أمرتَ بالمعروف، ونهيتَ عن المنكر؟»، كلما نظر إلى واحدة منهن ذكرَتْ له مقامًا أمر فيه بمعروف، ونهى فيه عن منكر. 794 - إن لله تعالى ملَكا موكّلًا بمن يقول: «يا أرحم الراحمين»، فمن قالها ثلاثًا قال له الملك: «إن أرحم الراحمين قد أقبل عليك فَسَلْ».

795 - إن لله تعالى ملكًا ينادي عند كل صلاة: «يا بني آدم، قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على أنفسكم فأطفئوها بالصلاة» (¬1). 796 - إن لله ديكًا رأسه تحت العرش، وجناحه في الهو اء، وبراثنه في الأرض، فإذا كان في الأسحار وأدبار الصلوات خفق بجناحه، وصفق بالتسبيح، فتصيح الديكة تجيبه بالتسبيح. 797 - إنَّ للهِ ضَنائِنَ مِن عِبادِهِ، يَضِنُّ بِهِم مِنَ القَتلِ وَالأمراضِ، يعيّشُهم في عَافِيةٍ، وَيُميتُهم في عَافِيةٍ. 798 - إن لله عبادًا اختصهم لقضاء حوائج الناس، آلَى على نفسه أن لا يعذبهم بالنار، فإذا كان يوم القيامة خلوا مع الله - عز وجل - يحدثهم ويحدثونه، والناس في الحساب. 799 - إن لله عبادًا يضِنّ بهم عن البلاء، يُحييهم في عافية، ويُميتهم في عافية، ويُدخلهم الجنة في عافية. 800 - إن لله - عز وجل - تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا، إنه وتر يحب الوتر من حفظها دخل الجنة (¬2)، وهي الله الواحد الصمد الأول الآخر الظاهر الباطن الخالق البارئ المصور الملك الحق السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرحمن الرحيم اللطيف الخبير السميع البصير العليم العظيم البار المتعالي الجليل الجميل الحي القيوم ¬

(¬1) عن عَبْد الله بن مَسْعُودٍ سدد خطاكم عن النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْفَجْرَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْظُهْرَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْمَغْرِبَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَحْتَرِقُونَ تَحْتَرِقُونَ فَإِذَا صَلَّيْتُمُ الْعِشَاءَ غَسَلَتْها، ثُمَّ تَنَامُونَ فَلَا يُكْتَبُ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ حَتَّى تَسْتَيْقِظُوا» (رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وصححه الألباني). (¬2) عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ لِلهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»، وَزَادَ هَمَّامٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ» (رواه مسلم).

القاهر القادر العلي الحكيم القريب المجيب الغني الوهاب الودود الشكور الماجد الواجد الوالي الراشد العفو الغفور الحليم الكريم التواب الرب المجيد الولي الشهيد المبين البرهان الرءوف الرحيم المبدئ المعيد الباعث الوارث القوي الشديد الضار النافع الباقي الوافي الخافض الرافع القابض الباسط المعز المذل المقسط الرزاق ذو القوة المتين القائم الدائم الحافظ الوكيل الفاطر السامع المعطي المحيي المميت المانع الجامع الهادي الكافي الأبد العالم الصادق النور المنير التام القديم الوتر الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. 801 - إن لله - عز وجل - تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدي المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور. 802 - إن لله - عز وجل - خلقًا خلقهم لحوائج الناس، يفزع الناس إليهم في حوائجهم، أولئك الآمنون من عذاب الله. 803 - إن لله ملَكًا على بيت المقدس ينادي كل ليلة: «من أكل حرامًا لم يُقْبَل منه صرف ولا عدل». 804 - إن لله ملَكًا لو قيل له: التقم السماوات السبع والأرضين بلقمة لفعل، تسبيحه: «سبحانك حيث كنت».

805 - إنَّ للوُضوءِ شيطانًا يُقالُ لَهُ: الولَهان، فاتَّقوا وَسواسَ الماءِ. 806 - إنْ لم تكن العلماء أولياء فليس لله وليٌّ. 807 - إنّ له مرضعًا في الجنة - يعني: إبراهيم بن محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ولو عاش لكان صديقًا نبيًّا، ولو عاش لعتقت أخواله القبط، وما استرق قبط. 808 - إن مُتَّ مُتَّ شهيدًا»، رُوِيَ عن أنس بن مالك سدد خطاكم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أوصى رجلًا إذا أخذ مضجعه أن يقرأ سورة الحشر، وقال: «إن مُتَّ مُتَّ شهيدًا»، أو قال: «من أهل الجنة». 809 - إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك. 810 - إن مُغَيِّر الخُلُق كمُغَيّر الخَلْق، إنك لا تستطيع أن تغير خُلقه حتى تغير خَلقه. 811 - إن من أخلاق المؤمن قوةً في دين، وحزمًا في لين، وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وشفقة في مِقَة (¬1)، وحِلمًا في علم، وقصدًا في غِنًى، وتجملًا في فاقة، وتحرجًا عن طمع، وكسبًا في حلال، وبِرًّا في استقامة، ونشاطًا في هدى، ونهيًا عن شهوة، ورحمةً للمجهود، وإن المؤمن من عباد الله لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، ولا يضيع ما استودع، ولا يحسد، ولا يطعن، ولا يلعن، ويعترف بالحق، وإن لم يشهد عليه، ولا يتنابز بالألقاب، في الصلاة متخشعًا، إلى الزكاة مسرعًا، في الزلازل وقورًا، في الرخاء شكورًا، قانعًا بالذي له، لا يدَّعي ما ليس له، ولا يجمع في الغيظ، ولا يغلبه الشح عن معروف يريده، يخالط الناس كي يعلم، ويناطق الناس كي يفهم، وإن ظُلِم وبُغِيَ عليه صبر حتى يكون الرحمن هو الذي ينتصر له. ¬

(¬1) المِقَةُ: المَحَبَّة.

812 - إن من أسرق السراق من سرق منار الأرضين (¬1). 813 - إِنَّ مِنْ أَسْرِقِ السُّرَّاقِ مَنْ يَسْرِقُ لِسَانَ الأَمِيرِ، وَإِنْ مِنْ أَعْظَمِ الْخَطَايَا مَنِ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنَّ مِنَ الْحَسَنَاتِ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ، وَإِنَّ مِنْ تَمَامِ عِيَادَتِهِ أَنْ تَضَعَ يَدَكَ عَلَيْهِ وَتَسْأَلَهُ كَيْفَ هُوَ؟ وَإِنَّ مِنْ أَفْضَلِ الشَّفَاعَاتِ أَنْ تَشْفَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي نِكَاحٍ حَتَّى تَجْمَعَ بَيْنَهُمَا، وَإِنَّ مِنْ لِبْسَةِ الأَنْبِيَاءِ الْقَمِيصُ قَبْلَ السَّرَاوِيلِ، وَإِنَّ مِمَّا يُسْتَجَابُ بِهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ الْعُطَاسُ. 814 - إن من أسوأ الناس منزلة من أذهب آخرته بدنيا غيره. 815 - إن من الجفاء أن يمسح الرجل جبينه قبل أن يفرغ من صلاته (¬2)، وأن يصلي لا يبالي مَن إمامه؟ وأن يأكل مع رجل ليس من أهل دينه، ولا من أهل الكتاب في إناء واحد. ¬

(¬1) عن أَبي الطُّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سدد خطاكم، فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: «مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُسِرُّ إِلَيْكَ؟»، قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُسِرُّ إِلَيَّ شَيْئًا يَكْتُمُهُ النَّاسَ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ حَدَّثَنِي بِكَلِمَاتٍ أَرْبَعٍ، قَالَ: فَقَالَ: مَا هُنَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟»، قَالَ: قَالَ: «لَعَنَ اللهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَهُ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ» (رواه مسلم). وفي رواية لابن حبان صححها الألباني والأرنؤوط: «لَعَنَ اللهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ». والْمُرَادُ بِمَنَارِ الْأَرْضِ: عَلَامَاتُ حُدُودِهَا، وَأَمَّا الْمُحْدِثُ فَهُوَ مَنْ يَأْتِي بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ. وقَوْلُهُ إِنَّ عَلِيًّا غَضِبَ حِينَ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُسِرُّ إِلَيْكَ ... فِيهِ إِبْطَالُ مَا تَزْعُمُهُ الرَّافِضَةُ وَالشِّيعَةُ وَالْإِمَامِيَّةُ مِنَ الْوَصِيَّةِ إِلَى عَلِيٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. اهـ باختصار من شرح النووي على مسلم (13/ 141). (¬2) حكم مسح الجبهة عن التراب بعد الصلاة: سْئِلَ الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «سمعنا من يقول: يكره مسح الجبهة عن التراب بعد الصلاة فهل لهذا أصل؟»، فأجاب: «ليس له أصل - فيما نعلم - وإنما يكره فعل ذلك قبل السلام ; لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في بعض صلواته أنه سلم من صلاة الصبح في ليلة مطيرة ويُرى على وجهه أثر الماء والطين فدل ذلك أن الأفضل عدم مسحه قبل الفراغ من الصلاة» (مجموع فتاوى ابن باز (11/ 266).

816 - إن من الذنوب ذنوبًا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، يكفرها الهموم في طلب المعيشة. 817 - إن من السَرَف أن تأكل كل ما اشتهيت. 818 - إن من السنة أن يخرج الرجل مع ضيفه إلى باب الدار. 819 - إن من العصمة أن لا تجد. 820 - إن مِن الناس مفاتيحُ لذكر الله إذا رُؤُوا ذُكِرَ الله (¬1). 821 - إن من بَركة المرأة تبكيرها بالأنثى، ألم تسمع الله يقول في كتابه: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} (الشورى: 49)، فبدأ بالإناث قبل الذكور». 822 - إن من فقه الرجل تعجيل فطره وتأخير سحوره (¬2). 823 - إن من موجبات المغفرة إدخالك السرور على أخيك المسلم: إشباع جوعته، وتنفيس كربته (¬3). ¬

(¬1) عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ وَشِرَارِكُمْ؟»، قَالُوا: «بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَشِرَارُكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ» (رواه البيهقي في شعب الإيمان، والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني). الباغون: جمع باغ وهم المتمنون، البرآء: جمع بريء وهو البعيد عن التهم، العنت: المشقة والفساد والهلاك والإثم والغلط والزنا والحديث يحتمل كلها. (¬2) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطْرَ» (رواه البخاري ومسلم). وقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا أَخَّرُوا السَّحُورَ، وَعَجَّلُوا الْفِطْرَ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط). (¬3) عن عبد الله بن دينار، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: قيل: «يا رسول الله من أحب الناس إلى الله؟»، قال: «أنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وإِنَّ أحَبَّ الْأَعْمَالِ إلَى اللهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُؤْمِنٍ: تَكْشِفُ عَنْهُ كَرْبًا، أوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا». (رواه ابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسنه الألباني).

824 - إن من نعمة الله على العبد أن يشبهه ولدُه. 825 - إن موسى بن عمران مَرَّ برجُلٍ وهو يضطرب، فقام يدعو له أن يعافيه، فقيل له: «يا موسى إنه ليس الذي يصيبه خبط من إبليس، ولكنه جوع نفسه لي فهو الذي ترى، إني أنظر إليه كل يوم مرات أتعجب من طاعته لي، فمُرْهُ فليَدْعُ لك فإن له عندي كل يوم دعوة». 826 - إن نفس المؤمن إذا قُبِضَت تلقّاها من أهل الرحمة من عباده كما يتلقون البشير من الدنيا، فيقولون: «أنظروا صاحبكم يستريح، فإنه قد كان في كرب شديد»، ثم يسألونه: «ماذا فعل فلان؟ وما فعلت فلانة هل تزوجت؟»، فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبلُ فيقول: «أيهات (¬1) قد مات ذلك قبلي»، فيقولون: «إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية، فبئست الأم وبئست المربية». وإن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من أهل الآخرة، فإن كان خيرًا فرحوا واستبشروا، وقالوا: «اللهم هذا فضلك ورحمتك، وأتمم نعمتك عليه وأمِتْه عليها»، ويعرض عليهم عمل المسيء فيقولون: «اللهم ألهِمْه عملًا صالحًا ترضى به عنه وتقربه إليك» (¬2). ¬

(¬1) هيهات: كلمة تبعيد مبنية على الفتح، وناس يكسرونها، وقد تبدل الهاء همزة فيقال: أيْهات. (¬2) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِذَا حُضِرَ الْمُؤْمِنُ أَتَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ فَيَقُولُونَ: «اخْرُجِى رَاضِيَةً مَرْضِيًّا عَنْكِ إِلَى رَوْحِ اللهِ وَرَيْحَانٍ وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانَ». فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ الْمِسْكِ حَتَّى أَنَّهُ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ فَيَقُولُونَ: «مَا أَطْيَبَ هَذِهِ الرِّيحَ الَّتِى جَاءَتْكُمْ مِنَ الأَرْضِ». فَيَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِغَائِبِهِ يَقْدَمُ عَلَيْهِ فَيَسْأَلُونَهُ: «مَاذَا فَعَلَ فُلاَنٌ مَاذَا فَعَلَ فُلاَنٌ»، فَيَقُولُونَ: «دَعُوهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِى غَمِّ الدُّنْيَا»، فَإِذَا قَالَ: «أَمَا أَتَاكُمْ»، قَالُوا: «ذُهِبَ بِهِ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ»، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا احْتُضِرَ أَتَتْهُ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ بِمِسْحٍ فَيَقُولُونَ: «اخْرُجِى سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ إِلَى عَذَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ الأَرْضِ فَيَقُولُونَ: «مَا أَنْتَنَ هَذِهِ الرِّيحَ» حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ». (رواه النسائي، وصححه الألباني).

827 - إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللهُ لَهُمَا، وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمَا»، رُوِيَ عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّ امْرَأَتَيْنِ صَامَتَا وَأَنَّ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ هَاهُنَا امْرَأَتَيْنِ قَدْ صَامَتَا، وَإِنَّهُمَا قَدْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا مِنَ الْعَطَشِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَوْ سَكَتَ، ثُمَّ عَادَ، وَأُرَاهُ قَالَ: بِالْهَاجِرَةِ، قَالَ: «يَا نَبِيَّ اللهِ، إِنَّهُمَا وَاللهِ قَدْ مَاتَتَا أَوْ كَادَتَا أَنْ تَمُوتَا»، قَالَ: «ادْعُهُمَا»، قَالَ: فَجَاءَتَا، قَالَ: فَجِيءَ بِقَدَحٍ أَوْ عُسٍّ فَقَالَ لِإِحْدَاهُمَا: «قِيئِي» فَقَاءَتْ قَيْحًا أَوْ دَمًا وَصَدِيدًا وَلَحْمًا حَتَّى قَاءَتْ نِصْفَ الْقَدَحِ، ثُمَّ قَالَ لِلْأُخْرَى: «قِيئِي» فَقَاءَتْ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ وَصَدِيدٍ وَلَحْمٍ عَبِيطٍ وَغَيْرِهِ حَتَّى مَلَأَتِ الْقَدَحَ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ هَاتَيْنِ صَامَتَا عَمَّا أَحَلَّ اللهُ لَهُمَا، وَأَفْطَرَتَا عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمَا، جَلَسَتْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى، فَجَعَلَتَا يَأْكُلَانِ لُحُومَ النَّاسِ» (¬1). 828 - إن هذا الدين متين، فأوْغِلُوا فيه برفق، ولا تبغض إلى نفسك عبادة ربك، فإن المُنْبَتّ (¬2) لا سفرًا قطع، ولا ظهرًا أبقى، فاعمل عمل امرئ يظن أن لن يموت أبدًا، واحذر حذرًا يخشى أن يموت غدًا. 829 - إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم (¬3). 830 - إنَّ هَذا القرآنَ مأدبةُ اللهِ، فاقبلوا من مأدبتِهِ ما استَطعتُمْ، إنَّ هذا القرآنَ هُو حبلُ اللهِ، والنورُ المبينُ، والشفاءُ النافعُ، عصمةٌ لِمنْ تَمسَّكَ بِهِ، ونجاةٌ لِمنْ تَبعَهُ، لا يَزيغُ فَيُستعتبُ، ولا يَعوجُّ فَيقومُ، ولا تَنقضِي عَجائِبَهُ، ولا يَخلقُ مِنْ كَثرةِ الرَّدِّ. ¬

(¬1) (إن هَذَا الدّين متين) أَي صلب شَدِيد (فأوْغِلوا) أَي سِيرُوا (فِيهِ بِرِفْق) من غير تكلّف وَلَا تُحَمّلوا أَنفسكُم مَا لَا تطيقون فتعجزوا وتتركوا الْعَمَل، (فَإِن المُنْبَتَّ) الْمُنْقَطع المتخلف عَن رفقته لكَونه أجهد دَابَّته حَتَّى أعياها أَو عطبت وَلم يقْض وطره (لَا أَرضًا قطع وَلَا ظهرا أبقى) أَي فَلَا هُوَ قطع الأَرْض الَّتِي قَصدهَا وَلَا هُوَ أبقى ظَهره يَنْفَعهُ فَكَذَا من تكلّف من الْعِبَادَة مَا لَا يُطيق، فَيكْرَه التَّشْدِيد فِي الْعِبَادَة لذَلِك. (¬2) العُسُّ: القدح الكبير. واللَّحم العبيط: هو الطري غير النضيج. تأكلان لحوم الناس: أي: بالاغتياب. (¬3) رواه مسلم عن ابن سيرين من قوله.

831 - إن هذا القرآن نزل بحُزن، فإذا قرأتموه، فابكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا. 832 - إن يأجوج ومأجوج لهم نساء يجامعون ما شاءوا، وشجر يلقحون ما شاءوا، فلا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفًا فصاعدًا. 833 - أنا ابن الذبيحين. 834 - أنا أفصح من نطق بالضاد (¬1). 835 - أنا أنبئك بخير رجلٍ ربحَ»، رُوِيَ أن رجلا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي، فجعل الناس يتبايعون غنائمهم، فجاء رجل فقال: «يا رسول الله لقد ربحت ربحًا ما ربح مثله أحدٌ من أهل هذا الوادي»، قال: «ويحك ما ربحت؟»، قال: «ما زلت أبيع وابتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية». فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أنا أنبئك بخير رجلٍ ربح»، قال: «ما هو يا رسول الله؟»، قال: «ركعتين بعد الصلاة». 836 - أنا المنذر»، رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7)، وضع - صلى الله عليه وآله وسلم - يده على صدره فقال: أنا المنذر {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} وأومأ بيده إلى منكب عليّ، فقال: «أنت الهادي يا عليّ، بك يهتدي المهتدون بَعْدي» (¬2). 837 - أنا أولَى مَن وَفّى بذمّته»، رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أتي برجل من المسلمين قد قتل معاهدًا من أهل الذمة، فأمر به فضرب عنقه، وقال: «أنا أوْلَى مَن وَفّى بذمّته» (¬3). ¬

(¬1) قال ابن كثير: «لا أصل له، ومعناه صحيح». (¬2) رُوِيَ عن عباد بن عبد الله الأسدي عن عَلِيّ: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (الرعد: 7)، قال عليٌّ: «رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - المنذر، وأنا الهادي»، (رواه الحاكم في المستدرك، وقال الذهبي في التلخيص: ««كذبٌ، قبّح الله واضعه». (¬3) قال الألباني: «ويزيدُه ضعفًا أنه معارض للحديث الصحيح وهو قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ». أخرجه البخاري وغيره». [انظر السلسلة الضعيفة (1/ 671)].

838 - أنا جدُّ كل تقي. 839 - أنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، إلا أن يشاء الله. 840 - أنا دار الحكمة، وعلي بابها. 841 - أنا سابق العرب إلى الجنة، وصهيب سابق الروم إلى الجنة، وبلال سابق الحبشة إلى الجنة، وسلمان سابق فارس إلى الجنة. 842 - أنا عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي. 843 - إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ (¬1). 844 - أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما (¬2)، فأخْرِجْتُ من بين أبوي فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي (¬3) فأنا خيركم نسبًا وخيركم أبًا. 845 - أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. 846 - أنا من الله والمؤمنون مني. ¬

(¬1) هذا الحديث لا أصل له مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، والغالب أنه ثابت موقوفًا، وإنما ذكره البخاري معلقًا موقوفًا فقال: ويذكر عن أبي الدرداء: «إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ، وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ». وَالْكَشْرُ: ظُهُورُ الْأَسْنَانِ وَأَكْثَرُ مَا يُطْلَقُ عِنْدَ الضَّحِكِ. [انظر: السلسلة الضعيفة (1/ 384)]. (¬2) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ اصْطَفَى كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ». (رواه مسلم). (¬3) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: ««خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى أَنْ وَلَدَنِي أَبِي وَأُمِّي , لَمْ يُصِبْنِي مِنْ سِفَاحِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ». (رواه الطبراني وغيره وحسنه الألباني).

847 - أنت صاحبي على الحوض، وصاحبي في الغار»، روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعث أبا بكر بـ (براءة)، ثم أتبعه غدًا يعني عليًّا، فأخذها منه، فقال أبو بكر: «يا رسول الله، حدث في شيء؟»، قال: «لا، أنت صاحبي في الغار، وعلى الحوض، ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي». 848 - انتظار الفرج من الله عبادة، ومن رضي بالقليل من الرزق رضي الله تعالى منه بالقليل من العمل. 849 - أنزل الله إليَّ جبريل في أحسن ما كان يأتي صورة فقال: «إن الله - عز وجل - يُقْرِئُك السلام، يا محمد، ويقول لك: إني أوحيت إلى الدنيا أن تمرري وتكدري وتضيقي وتشددي على أوليائي، كي يحبوا لقائي، وتسهلي وتوسعي وتطيبي لأعدائي، حتى يكرهوا لقائي، فإن خلقتها سجنًا لأوليائي، وجنة لأعدائي». 850 - انزلا فَكُلَا من جيفة هذا الحمار»، روي عن أبي هريرة قال: جاء الأسلميُّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حرامًا أربع مرات كل ذلك يعرض عنه، فأقبل في الخامسة فقال: «أنِكْتَها؟» (¬1)، قال: «نعم»، قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟» قال: «نعم»، قال: «كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟»، قال: «نعم»، قال: «فهل تدري ما الزنا؟»، قال: «نعم؛ أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا»، قال: «فما تريد بهذا القول؟»، قال: «أريد أن تطهرني»، فأمر به فرُجم، فسمع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: «انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم تدعه نفسه حتى رُجِم رَجْم الكلب، (وفي رواية: فقال ¬

(¬1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: «لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ لَهُ: «لَعَلَّكَ قَبَّلْتَ، أَوْ غَمَزْتَ، أَوْ نَظَرْتَ»، قَالَ: «لاَ يَا رَسُولَ اللهِ»، قَالَ: «أَنِكْتَهَا». لاَ يَكْنِي، قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَمَرَ بِرَجْمِهِ. (رواه البخاري). (لَمَّا أَتَى مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ) أي واعترف بالزنا. (لا يكني) أي صرح بهذا اللفظ، ولم يكْنِ عنه بما يدل عليه وفي معناه ..

رجلان منهم: إن هذا الخائن أتى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مرارًا كل ذلك يرُدّه، ثم قُتِل كما يقتل الكلب) فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: «أين فلان وفلان؟»، فقالا: «نحن ذانِ يا رسول الله»، قال: «انزلا فكُلَا من جيفة هذا الحمار؛ فما نِلْتُما مِن عِرض أخيكما آنفا أشدُّ مِن أكلٍ منه، والذي نفسي بيده! إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها». وفي رواية: «فالذي نِلْتُما من عِرْض أخيكما آنفًا أكثرُ، والذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ! إنه في نَهَرٍ من أنهارِ الجنةِ يَتَغَمَّسُ فيها» (¬1). 851 - أنزلت عليَّ الليلة سورة مريم، فسمها مريم». روي عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقلت: «وُلِدَتْ لي الليلة جارية»، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أنزلت علي الليلة سورة مريم، فسَمِّهَا مريم». 852 - أنزلوا الناس منازلهم»، روي عن الأصبغ بن نباته عن علي بن أبي طالب قال: جاءه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة فرفعْتُها إلى الله قبل أن أرفعَها إليك، فإن أنت قضيتها حمدتُ الله وشكرْتُك، وإن أنت لم تقضها حمدتُ الله وعذرْتُك»، فقال علي: «اكتب على الأرض فإني أكره أن أرى ذل السؤال في ¬

(¬1) عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي»، فَقَالَ: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَيْحَكَ، ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ»، قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، طَهِّرْنِي»، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟» فَقَالَ: «مِنَ الزِّنَى»، فَسَأَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَبِهِ جُنُونٌ؟» فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، فَقَالَ: «أَشَرِبَ خَمْرًا؟» فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَزَنَيْتَ؟»، فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ، قَائِلٌ يَقُولُ: «لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ»، وَقَائِلٌ يَقُولُ: «مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ، أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ»، ثُمَّ قَالَ: «اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ»، قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ»، قَالَ: فَقَالُوا: «غَفَرَ اللهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ»، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ» (رواه مسلم). اسْتَنْكَهَهُ: أَيْ شَمَّ رَائِحَةَ فَمِهِ.

وجهك»، فكتب: «إني محتاج»، فقال علي: «علَيَّ بِحُلّة»، فأتِيَ بها، فأخذها الرجل فلبسها، ثم أنشأ يقول: كسوْتَني حُلة تبلى محاسنُها ... فسوف أكسوك مَن حُسن الثّنَا حُلَلا إنْ نِلتَ حُسْنَ ثنائي نِلْتَ مَكْرمةً ... ولست تبغِى بما قد قُلْتُه بدَلَا إن الثناء ليُحْيِى ذِكْرَ صاحِبِه ... كالغيث يُحْيِي نَدَاهُ السهلَ والجبلَا لا تزهد الدهر في زُهْدٍ تُواقِعُه ... فكلُّ عبدٍ سيُجْزَى بالذي عملَا فقال علي: «علَيَّ بالدنانير»، فأتِيَ بمائة دينار فدفعها إليه، فقال الأصبغ: فقلت: «يا أمير المؤمنين، حُلّة ومائة دينار؟»، قال: «نعم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «أنزلوا الناس منازلهم». قال: وهذه منزلة هذا الرجل عندي». 853 - انصر مَنْ بالحق اعترف. 854 - انطلق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأبو بكر إلى الغار، فدخلا فيه، فجاءت العنكبوت، فنسجت على باب الغار، وجاءت قريش يطلبون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكانوا إذا رأوا على باب الغار نسج العنكبوت، قالوا: «لم يدخله أحد»، وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قائمًا يصلي وأبو بكر يرتقب، فقال أبو بكر سدد خطاكم للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فداك أبي وأمي هؤلاء قومك يطلبونك، أما والله ما على نفسي أبكي، ولكن مخافة أن أرى فيك ما أكره، فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} (التوبة: 40) (¬1). ¬

(¬1) إنما يصح من الحديث آخره لوروده في القرآن الكريم: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} (التوبة: 40). ... = وقول أبي بكر: «أما والله. . .» في الصحيحين نحوه من حديث البراء».وأية: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} فيها ما يؤكد ضعف الحديث، لأنها صريحة بأن النصر والتأييد إنما كان بجنود لا تُرَى، والحديث يثبت أن نصره - صلى الله عليه وآله وسلم - كان بالعنكبوت، وهو مما يُرى، فتأمل. والأشبه بالآية أن الجنود فيها إنما هم الملائكة، وليس العنكبوت ولا الحمامتين، ولذلك قال البغوي في تفسيره (4/ 174) للآية: «وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته». [انظر: السلسلة الضعيفة (رقم 1129)]. وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، - في قصة الهجرة - قَالَ:. . . فَقَالَ أبُو بَكْرٍ:. . . فَارْتَحَلْنَا، وَالْقَوْمُ يَطْلُبُونَا، فَلَمْ يُدْرِكْنَا أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا. فَقَالَ: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَّا فَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَدْرُ رُمْحٍ أَوْ رُمْحَيْنِ أَوْ ثَلاثَةٍ، قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا الطَّلَبُ قَدْ لَحِقَنَا». وَبَكَيْتُ، قَالَ: «لِمَ تَبْكِي؟»، قَالَ: قُلْتُ: «أَمَا وَاللهِ مَا عَلَى نَفْسِي أَبْكِي، وَلَكِنْ أَبْكِي عَلَيْكَ». قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنَاهُ بِمَا شِئْتَ». فَسَاخَتْ قَوَائِمُ فَرَسِهِ إِلَى بَطْنِهَا فِي أَرْضٍ صَلْدٍ، وَوَثَبَ عَنْهَا، وَقَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ هَذَا عَمَلُكَ، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُنْجِّيَنِي مِمَّا أَنَا فِيهِ، فَوَاللهِ لَأُعَمِّيَنَّ عَلَى مَنْ وَرَائِي مِنَ الطَّلَبِ، وَهَذِهِ كِنَانَتِي فَخُذْ مِنْهَا سَهْمًا، فَإِنَّكَ سَتَمُرُّ بِإِبِلِي وَغَنَمِي فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَخُذْ مِنْهَا حَاجَتَكَ». قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا حَاجَةَ لِي فِيهَا». قَالَ: وَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَأُطْلِقَ، فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ». (رواه الإمام أحمد في المسند، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط مسلم»).

855 - انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة»، روي عن أنس قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يمشي إذ استقبله شاب من الأنصار فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كيف أصبحت يا حارثة؟»، قال: «أصبحت مؤمنا بالله حقًا»، قال: «انظر ما تقول، فإن لكل قول حقيقة»، قال: «يا رسول الله، عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي، وأظمأت نهاري فكأني أنظر إلى عرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها»، قال: «أبصرت فالزم، عبدٌ نَوَّرَ الله الايمان في قلبه»، فقال: «يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة»، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فنُودي يومًا في الخيل

فكان أول فارس ركب وأول فارس استُشهِد، فبلغ ذلك أمّه فجاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: «يا رسول الله، إن يكن في الجنة لم أبْكِ ولم أحزن، وإن يكن في النار بكيتُ ما عشتُ في الدنيا»، فقال: «يا أم حارثة، إنها ليست بجنة ولكنها جنة في جنات، والحارث في الفردوس الأعلى»، فرجعت وهي تضحك وتقول: «بخ بخ يا حارثة». 856 - أنفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب. 857 - إنكم تُدْعَون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم. 858 - إنكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي. 859 - إنكم في زمانٍ مَن ترك منكم عُشرَ ما أمِرَ به هلك، ثم يأتي زمانٌ مَن عمل منهم بعُشْر ما أمِرَ به نجا. 860 - إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم، وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس؛ فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش. 861 - إنكم لا تسَعُون الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق. 862 - إنما بُعثتُ مُعَلِّمًا (¬1). 863 - إنما حر جهنم على أمتي كحر الحمَّام. 864 - إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب. 865 - إنما سمي شعبان لأنه يتشعب فيه خير كثير للصائم فيه حتى يدخل الجنة. 866 - إنما سمي شهر رمضان لأنه يرمض الذنوب رمضًا، وإنما سمي شوال لأنه تشول فيه الذنوب كما تشول الناقة ذنَبَها. 867 - إنما سميت الجمعة لأن آدم جُمِعَ فيها خلقه. ¬

(¬1) ضعيف بهذا اللفظ، ولكن رواه مسلم بلفظ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتًا وَلَا مُتَعَنِّتًا، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلّمًا مُيَسِّرًا».

868 - إنما يسلط الله على ابن آدم مَن خافه ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يخف غير الله لم يسلط الله عليه أحدًا، وإنما وكل ابن آدم لمن رجا ابن آدم، ولو أن ابن آدم لم يرْجُ إلا الله لم يَكِلْهُ الله إلى غيره. 869 - إنما يعرف الفضلَ لأهل الفضلِ أهلُ الفضل. 870 - إنما يقيم مَن أذّنَ (¬1). 871 - إِنْهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ يَبْدُو مِنْهَا إِلا هَكَذَا»، رُوِيَ عن إِبْرَاهِيمَ بن عُبَيْدِ بن رِفَاعَةَ الأَنْصَارِيُّ يُخْبِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بنتِ عُمَيْسٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا عَلَى عَائِشَةَ بنتِ أَبِي بَكْرٍ وَعِنْدَهَا أُخْتُهَا أَسْمَاءُ، وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ سَابِغَةٌ وَاسِعَةُ الأَكِمَّةِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَامَ فَخَرَجَ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: «تَنَحَّيْ فَقَدْ رَأَى مِنْكِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمْرًا كَرِهَهُ، فَفَتَحَتْ فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ لِمَ قَامَ؟، فَقَالَ: «أَوَ لَمْ تَرَيْ إِلَى هَيَّأَتِهَا، إِنْهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ يَبْدُو مِنْهَا إِلا هَكَذَا»، وَأَخَذَ كُمَّيْهِ فَغَطَّى بِهِمَا ظُهُورَ كَفَّيْهِ حَتَّى لَمْ يَبْدُ مِنْ كَفَّيْهِ إِلا أَصَابِعُهُ، ثُمَّ نَصَبَ كَفَّيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ حَتَّى لَمْ يَبْدُ إِلا وَجْهُهُ. 872 - إِنَّهَا حِبَّةُ أَبِيكِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ». رُوِيَ عن ابْنُ عَوْنٍ قَالَ كُنْتُ أَسْأَلُ عَنْ الاِنْتِصَارِ {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (الشورى: 41) فَحَدَّثَنِى عَلِىُّ بْنُ زَيْدِ ¬

(¬1) قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 108)، رقم 35: «ومن آثار هذا الحديث السيئة أنه سبب لإثارة النزاع بين المصلين كما وقع ذلك غير ما مرة، وذلك حين يتأخر المؤذن عن دخول المسجد لعذر، ويريد بعض الحاضرين أن يقيم الصلاة، فما يكون من أحدهم إلا أن يعترض عليه محتجًا بهذا الحديث، ولم يَدْرِ المسكين أنه حديث ضعيف لا يجوز نسبته إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - فضلًا عن أن يمنع به الناس من المبادرة إلى طاعة الله تعالى، ألا وهي إقامة الصلاة». تنبيه: يجوز أن يقيم المؤذن وغيره باتفاق العلماء، ولكن الأوْلَى أن يتولى المؤذن الإقامة؛ قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: «يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى الإِْقَامَةَ مَنْ تَوَلَّى الأَْذَانَ». وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: «لاَ بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ رَجُلٌ وَيُقِيمَ غَيْرُهُ». [انظر: فقه السنة (1/ 118)، الموسوعة الفقهية (6/ 12)].

بْنِ جُدْعَانَ عَنْ أُمِّ مُحَمَّدٍ امْرَأَةِ أَبِيهِ - قَالَ ابْنُ عَوْنٍ: «وَزَعَمُوا أَنَّهَا كَانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ» -، قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَعِنْدَنَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَجَعَلَ يَصْنَعُ شَيْئًا بِيَدِهِ فَقُلْتُ بِيَدِهِ حَتَّى فَطَنْتُهُ لَهَا فَأَمْسَكَ وَأَقْبَلَتْ زَيْنَبُ تَقْحَمُ لِعَائِشَةَ - رضي الله عنها - فَنَهَاهَا فَأَبَتْ أَنْ تَنْتَهِىَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ «سُبِّيهَا»؛ فَسَبَّتْهَا فَغَلَبَتْهَا فَانْطَلَقَتْ زَيْنَبُ إِلَى عَلِىٍّ سدد خطاكم فَقَالَتْ إِنَّ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - وَقَعَتْ بِكُمْ وَفَعَلَتْ. فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَقَالَ لَهَا «إِنَّهَا حِبَّةُ أَبِيكِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ». فَانْصَرَفَتْ فَقَالَتْ لَهُمْ إِنِّى قُلْتُ لَهُ كَذَا وَكَذَا فَقَالَ لِى كَذَا وَكَذَا. قَالَ وَجَاءَ عَلِىٌّ سدد خطاكم إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَكَلَّمَهُ فِي ذَلِكَ (¬1). ¬

(¬1) عَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: «أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟»، قَالَ: «عَائِشَةُ». فَقُلْتُ: «مِنَ الرِّجَالِ؟» فَقَالَ: «أَبُوهَا». قُلْتُ: «ثُمَّ مَنْ؟» قَالَ: «ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ» (رواه البخاري ومسلم). [وانظر كتاب: أمنا عائشة بين حب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبغض الشيعة، للمؤلف]. قَالَ صَاحِبُ عَوْنِ الْمَعْبُودِ: «(وَلَمَنِ انْتَصَرَ): أَيْ اِنْتَقَمَ (بَعْدَ ظُلْمِهِ) أَيْ ظُلْم الظَّالِم إِيَّاهُ (فَأُولَئِكَ): أَيْ الْمُنْتَصِرُونَ (مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) أَيْ مُؤَاخَذَة، (كَانَتْ تَدْخُل عَلَى أُمّ الْمُؤْمِنِينَ): أَيْ عَائِشَة - رضي الله عنها - (وَعِنْدنَا زَيْنَب بِنْت جَحْش): أَيْ زَوْج النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهِيَ أَسَدِيَة مِنْ أَسَد بْن خُزَيْمَةَ وَأُمّهَا أُمَيْمَة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب عَمَّة النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - (فَجَعَلَ يَصْنَع): أَيْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - (شَيْئًا بِيَدِهِ): أَيْ مِنْ الْمَسّ وَنَحْوه مِمَّا يَجْرِي بَيْن الزَّوْج وَالزَّوْجَة (فَقُلْت): أَيْ أَشَرْت (حَتَّى فَطَّنْته لَهَا): مِنْ التَّفْطِين أَيْ أَعْلَمْته بِوُجُودِ زَيْنَب، (وَأَقْبَلَتْ زَيْنَب تَقْحَم لِعَائِشَة): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: مَعْنَاهُ تَتَعَرَّض لِشَتْمِهَا وَتَتَدَخَّل عَلَيْهَا، (إِنَّ عَائِشَة وَقَعَتْ بِكُمْ): أَيْ فِي بَنِي هَاشِم لِأَنَّ أُمّ زَيْنَب كَانَتْ هَاشِمِيَّة، (فَجَاءَتْ فَاطِمَة): أَيْ إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، (فَقَالَ): أَيْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - (لَهَا): أَيْ لِفَاطِمَة - رضي الله عنها - (إِنَّهَا): أَيْ عَائِشَة (حِبَّة أَبِيك): أَيْ حَبِيبَته فَلَا تَقُولِي لَهَا شَيْئًا وَإِنْ وَقَعَتْ فِي بَنِي هَاشِم (فَانْصَرَفَتْ): أَيْ فَاطِمَة، (فَقَالَتْ): أَيْ فَاطِمَة (لَهُمْ) أَيْ لِبَنِي هَاشِم (أَنِّي قُلْت لَهُ): أَيْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - (فَكَلَّمَهُ): أَيْ كَلَّمَ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب سدد خطاكم رَسُول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - (فِي ذَلِكَ) الْأَمْر أَيْ فِي وَاقِعَة عَائِشَة وَزَيْنَب - رضي الله عنهما -. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: «عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ لا يُحْتَجُّ بحديثه، وأم ابن جُدْعَانَ هَذِهِ مَجْهُولَةٌ». [عون المعبود (13/ 164 - 165)].

873 - إنها ستكون فتنة»، قيل: «فما المخرج منها؟»، قال: «كتاب الله فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخْلَق عن الرد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تَفُتْه الجن إذ سمعته عن أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} (الجن: 1 - 2)، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجِر، ومن دعا إليه هُدِيَ إلى صراط المستقيم» (¬1). ¬

(¬1) لا شك أن التمسك بكتاب الله هو سبب العزة والفلاح والمخرج من كل فتنة، إن المنهج الرباني الذي كان عليه السلف الصالح - رضي الله عنهم - هو الاعتماد على القرآن الكريم والسنة الصحيحة في كل شؤون الحياة والذي فيه من الشمول ما في مصادر تلقيه، وقد قال الله تعالى عن مصدره الأول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} (البقرة: 185)؛ فهو الهُدَى في كل زمان ومكان، بل لا هداية إلا به؛ فهو الهدى في الأخلاق والمعاملات، كما أنه الهدى في العقائد والعبادات، بل ليس هو الهادي إلى الصواب فحسب وإنما إلى قمته وذروته، قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)} (الإسراء: 9). إن الشريعة الإسلامية فيها عزنا ومجدنا، قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 10). وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف: 44). وإقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء، لا افتراق بين دين ودنيا، ولا افتراق بين دنيا وآخرة، فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة، للدنيا وللدين. إن الأمن والطمأنينة والسعادة في الدنيا قبل الآخرة لن تكون إلا بتطبيق شرع الله في عباد الله، وإلا فهو الشقاء والنكد والفوضى والسلب والنهب والهرج والمرج، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِى الأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا». (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني).

874 - إني رأيت البارحة عجبا رأيت رجلًا من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءه وضوءه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلًا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاءته صلاته فاستنقذته من ذلك، ورأيت رجلًا من أمتي احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله فخلصه منهم، ورأيت رجلًا من أمتي يلهث عطشًا فجاءه صيام رمضان فسقاه، ورأيت رجلًا من أمتي من بين يديه ظُلمة ومن خلفه ظُلمة وعن يمينه ظُلمة وعن شماله ظُلمة ومن فوقه ظُلمة ومن تحته ظُلمة فجاءته حجته وعمرته فاستخرجاه من الظُلمة، ورأيت رجلًا من أمتي جاءه ملَك الموت ليقبض روحه فجاءه بره لوالديه فرده عنه، ورأيت رجلًا من أمتي يكلم المؤمنين ولا يكلمونه فجاءته صلة الرحم فقالت: «إن هذا كان واصلًا لرحمه»، فكلمهم وكلموه وصار معهم، ورأيت رجلًا من أمتي يأتي النبيين وهم حِلَقٌ حِلَقٌ كلما مر على حلقة طُرِدَ فجاءه اغتساله من الجنابة فأخذ بيده فأجلسه إلى جنبي، ورأيت رجلًا من أمتي يتقي وهج النار بيديه عن وجهه فجاءته صدقته فصارت ظلًا على رأسه وسترا عن وجهه، ورأيت رجلًا من أمتي جاءته زبانية العذاب فجاءه أمرُه بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلًا من أمتي هوى في النار فجاءته دموعه اللاتي بكى بها في الدنيا من خشية الله فأخرجته من النار، ورأيتُ رجُلًا من أمتي قد هوت صحيفته إلى شماله فجاءه خوفه من الله - تعالى - فأخذ صحيفته فجعلها في يمينه، ورأيت رجلًا من أمتي قد خَفَّ ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه، ورأيت رجلًا من أمتي على شفير جهنم فجاءه وجله من الله - تعالى - فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلًا من أمتي يرعد كما ترعد السعفة فجاءه حسن ظنه بالله تعالى فسكن رعدته، ورأيت رجلًا من أمتي يزحف على الصراط مرة ويحبو مرة فجاءته صلاته علي فأخذت بيده فأقامته على الصراط حتى جاز، ورأيت رجلًا من أمتي انتهى إلى أبواب الجنة فغُلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله فأخذت بيده فأدخلته الجنة.

875 - إني كنت أعلمها (أي: ساعة الإجابة يوم الجمعة) ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر. 876 - أهل الجنة جُرْدٌ (¬1) إلا موسى بن عمران، فإن له لحية إلى سرته. 877 - أهل القرى من أهل البلاء. 878 - أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. 879 - أهلا بالذي عاتبني ربي من أجله»، رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يقوم لعبد الله بن أم مكتوم ويفرش له رداءه ليجلس عليه ويقول: «أهلا بالذي عاتبني ربي من أجله». 880 - أوحى الله إلى الدنيا أن اخدمي من خدمني وأتعبي من خدمك. 881 - أوحى الله إلى داود - عليه السلام - فقال: «يا داود لو يعلم المدْبِرون عني انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم لماتوا شوقا إليَّ، ولتقطعت أوصالهم لمحبتي، يا داود هذه إرادتي بالمدبرين عني فكيف بالمقبلين عليَّ؟». 882 - أوحى الله إلى عيسى - عليه السلام -: «يا عيسى آمن بمحمد، وأمُرْ مَن أدركه مِن أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولا محمد ما خلقت الجنة ولا النار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فسكن». ¬

(¬1) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلاَثِينَ أَوْ ثَلاَثٍ وَثَلاَثِينَ سَنَةً». (رواه الترمذي وصححه الألباني). جُرْد: جمع أجرد وهو الذي لا شعر على جسده، وضده الأشعر، مُرْد: جمع أمرد وهو غلام لا شعر على ذقنه، وقد يراد به الحُسْن بناءً على الغالب، مُكَحَّلِينَ: الكَحَل: سواد في أجفان العين خِلْقَةً، (أَبْنَاءَ ثَلَاثِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً): (أَوْ) لِلشَّكِّ مِنْ الرَّاوِي.

883 - أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها، قال: فقال: «يا رب إن فيها عبدًا لم يعصك طرفة عين»، قال: «اقلبها عليه وعليهم، فإن وجهه لم يتمَعّر فيَّ ساعةً قط» (¬1). 884 - أوحى الله تعالى إلى موسى - عليه السلام -: إنك لن تتقرب إليَّ بشيء أحبَّ إليَّ من الرضا بقضائي، ولم تعمل عملًا أحبط لحسناتك من الكبرياء، يا موسى! لا تضرع إلى أهل الدنيا فأسخط عليك، ولا تخف بدينك لدنياهم فأغلق عليك أبواب رحمتي، يا موسى! قل للمذنبين النادمين: أبشروا، وقل للعاملين المعجبين: اخسروا. 885 - أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء أنْ قُلْ لفلان العابد: «أما زهدك في الدنيا فتعجلت راحة نفسك وأما انقطاعك إلي فتعززت بي فماذا عملت فيما لي عليك؟»، قال: «يا رب! وماذا لك علَيَّ؟»، قال: «هل عاديتَ فيَّ عدوًّا؟ أو هل والَيْتَ فيَّ وليًّا؟» (¬2). 886 - أوحى الله - عز وجل - إلى إبراهيم - عليه السلام -: «يا خليلي! حَسّنْ خلقك ولو مع الكفار تدخلْ مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه: أن أظله تحت عرشي، وأن أسقيه من حظيرة قدسي، وأن أدنيه من جواري». 887 - أوحى الله - عز وجل - إلى داود النبي - عليه السلام -: «يا داود! ما من عبد يعتصم بي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده السموات بمن فيها إلا جعلت له ¬

(¬1) قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (الأنفال: 25). بل تصيب فاعل الظلم وغيره، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، اتقاء هذه الفتنة يكون بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن. (انظر تفسير السعدي). (¬2) عن عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لأَبِي ذَرٍّ: «أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ - أَظُنُّهُ قَالَ -: أَوْثَقُ؟»، قَالَ: «اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ»، قَالَ: «الْمُوَالاةُ فِي اللهِ، وَالْمُعَادَاةُ فِي الله، وَالْحُبُّ فِي اللهِ، وَالْبُغْضُ فِي اللهِ» (رواه الطبراني، وحسّنه الألباني).

من بين ذلك مخرجًا، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف منه نيته إلا قطعت أسباب السماء بين يديه وأرسخت الهوى من تحت قدميه، وما من عبد يطيعني إلا وأنا معطيه قبل أن يسألني، وغافر له قبل أن يستغفرني». 888 - أوصاني جبرائيل - عليه السلام - بالجار إلى أربعين دارًا، عشرة من ها هنا، وعشرة من ها هنا، وعشرة من ها هنا، وعشرة من ها هنا. 889 - أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة (¬1). 890 - أول شهر رمضان رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. 891 - أول ما يرفع من هذه الأمة الحياء والأمانة. 892 - أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي عبد الرحمن بن عوف، والذي نفسي بيده إن يدخلها إلا حبوًا (¬2). 893 - أولاد الزنا يحشرون يوم القيامة على صورة القردة والخنازير. 894 - أَوَ لَمْ تَرَيْ إِلَى هَيَّأَتِهَا، إِنْهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ يَبْدُو مِنْهَا إِلا هَكَذَا»، رُوِيَ عن إِبْرَاهِيمَ بن عُبَيْدِ بن رِفَاعَةَ الأَنْصَارِيُّ يُخْبِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بنتِ عُمَيْسٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا عَلَى عَائِشَةَ بنتِ أَبِي بَكْرٍ وَعِنْدَهَا أُخْتُهَا أَسْمَاءُ، وَعَلَيْهَا ¬

(¬1) قال الألباني في (السلسلة الضعيفة رقم 1305): «قد صح بعضه عن أبي هريرة موقوفًا، أخرجه مالك في الموطأ (3/ 156) عن عمه أبي سهيل بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة سدد خطاكم أنه قال: «أَتُرَوْنَهَا حَمْرَاءَ كَنَارِكُمْ هَذِهِ؟ لَهِىَ أَسْوَدُ مِنَ الْقَارِ». وَالْقَارُ الزِّفْتُ، قلت (أي الألباني): «وهذا سند صحيح على شرط الشيخين». (¬2) إن عبد الرحمن بن عوف سدد خطاكم قد شهد له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجنة دون ذكر التأخير أو الدخول زحفًا. قال ابن الجوزي: «أفَتُرَى مَن يسبق إذا حَبَا عبد الرحمن بن عوف، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل بدر المغفور لهم، ومن أصحاب الشورى؟».

ثِيَابٌ سَابِغَةٌ وَاسِعَةُ الأَكِمَّةِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَامَ فَخَرَجَ، فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: «تَنَحَّيْ فَقَدْ رَأَى مِنْكِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمْرًا كَرِهَهُ، فَفَتَحَتْ فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ لِمَ قَامَ؟، فَقَالَ: «أَوَ لَمْ تَرَيْ إِلَى هَيَّأَتِهَا، إِنْهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ يَبْدُو مِنْهَا إِلا هَكَذَا»، وَأَخَذَ كُمَّيْهِ فَغَطَّى بِهِمَا ظُهُورَ كَفَّيْهِ حَتَّى لَمْ يَبْدُ مِنْ كَفَّيْهِ إِلا أَصَابِعُهُ، ثُمَّ نَصَبَ كَفَّيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ حَتَّى لَمْ يَبْدُ إِلا وَجْهُهُ. 895 - أي أخي، إني موصيك بوصية فاحفظها لعل الله أن ينفعك بها، زُرِ القبور تذكرْ بها الآخرة بالنهار أحيانا ولا تكثر، واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاوٍ عظة بليغة، وصلّ على الجنائز لعل ذلك يحزن قلبك؛ فإن الحزين في ظل الله تعالى معرّضٌ لكل خير، وجالِسِ المساكين وسلّمْ عليهم إذا لقيتهم، وكُلْ مع صاحب البلاء تواضعًا لله تعالى وإيمانًا به، والبس الخشن الضيق من الثياب؛ لعل العز والكبرياء لا يكون لهما فيك مساغ، وتزينْ أحيانًا لعبادة ربك فإن المؤمن كذلك يفعل تعففًا وتكرمًا وتجملًا، ولا تعذب شيئًا مما خلق الله بالنار (¬1). 896 - أيُّ الخلق أعجب إليكم إيمانا؟»، رُوِيَ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا؟»، قالوا: «الملائكة»، قال: «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم -عز وجل-؟»، قالوا: «فالنبيون؟»، قال: «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟»، قالوا: «فنحن»، قال: «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين ¬

(¬1) عن حَمْزَةَ الْأَسْلَمِيّ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمَّرَهُ عَلَى سَرِيَّةٍ قَالَ: فَخَرَجْتُ فِيهَا، وَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَأَحْرِقُوهُ بِالنَّارِ». فَوَلَّيْتُ فَنَادَانِي فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: «إِنْ وَجَدْتُمْ فُلَانًا فَاقْتُلُوهُ وَلَا تُحْرِقُوهُ، فَإِنَّهُ لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ». (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

أظهركم؟»، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ألا إن أعجب الخلق إليَّ إيمانًا لَقومٌ يكونون مِن بعدِكم يجدون صحفًا فيها كتاب يؤمنون بما فيها» (¬1). 897 - إيّاك والسرف (¬2) فإن أكلتين في يوم من السرف. 898 - إيّاكم والتعري؛ فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين يُفْضِي الرجل إلى أهله؛ فاستحيوهم وأكرموهم. 899 - إيّاكم والجلوس في الشمس؛ فإنها تبلي الثوب وتنتن الريح وتظهر الداء الدفين. 900 - إيّاكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. 901 - إيّاكم والدَّيْن؛ فإنه هم بالليل ومذَلّة بالنهار. 902 - إيّاكم والزنا؛ فإن فيه أربع خصال: يذهب بالبهاء من الوجه، ويقطع الرزق، ويسخط الرحمن، والخلود في النار. 903 - إيّاكم والزنا؛ فإنه فيه ست خصال: ثلاثًا في الدنيا وثلاثًا في الآخرة، فأما اللواتي في الدنيا فإنه يذهب بالبهاء، ويورث الفقر، وينقص الرزق، وأما اللواتي في الآخرة: فإنه يورث سخط الرب، وسوء الحساب والخلود في النار. ¬

(¬1) وإنما يصح من هذا الحديث بعضُه، وهو في حديث أَبِي جُمْعَةَ حَبِيبِ بْنِ سِبَاعٍ - رضي الله عنه - قال: «تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا، أَسْلَمْنَا مَعَكَ، وَجَاهَدْنَا مَعَكَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي». (قال الألباني في (السلسلة الضعيفة، رقم 649): «رواه الدارمي وأحمد والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي. وأقول: إسناد الدارمي وأحد إسنادَيْ أحمد صحيح إن شاء الله تعالى». (¬2) قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)} (الأعراف: 31).

904 - إيّاكم والزنا فإن في الزنا ست خصال، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، فأما اللواتي في دار الدنيا فذهاب نور الوجه، وانقطاع الرزق، وسرعة الفناء وأما اللواتي في الآخرة فغضب الرب، وسوء الحساب، والخلود في النار إلا أن يشاء الله. 905 - إيّاكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا؛ إن الرجل قد يزني ويتوب فيتوب الله عليه، وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه. 906 - إيّاكم والكِبْر؛ فإن إبليس حمَلَه الكِبْرُ على أن لا يسجد لآدم، وإياكم والحرص؛ فإن آدم حمله الحرص على أنْ أكلَ من الشجرة، وإياكم والحسد فإن ابْنَيْ آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسدًا؛ فهو أصل كل خطيئة. 907 - إيّاكم وخضراءُ الدِّمن»، فقيل: «ما خضراء الدِّمَن؟»، قال: «المرأةُ الحسناء في المَنْبَتِ السوء». 908 - أيُّكم يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟»، رُوِيَ أن وفد عبد القيس وفدوا على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «أيكم يعرف قس بن ساعدة الإيادي؟»، قالوا: «كلنا نعرفه يا رسول الله»، قال: «فما فعل؟»، قالوا: «هلك». قال: «ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يخطب الناس وهو يقول: «أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعُوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرًا، وإن في الأرض لعِبرًا، مهادٌ موضوع، وسقفٌ مرفوع، ونجوم تمور، وبحار لا تغور، أقسم قس قسمًا حقًا لئن كان في الأرض رضًى ليكونَنّ سخط، إن لله لَدِينًا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟ أرَضُوا فأقاموا، أم تركوا فناموا»، ثم قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أيكم يُنشد شعره؟» فأنشدوه: في الذاهبين الأولين من ... القرون لنا بصائر لما رأيت مواردًا للموت ... ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تغدو الأكابر والأصاغر

أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صائر 909 - أيكون المؤمن جبانًا»، قيل لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أيكون المؤمن جبانًا؟»، فقال: «نعم»، فقيل له: «أيكون المؤمن بخيلًا؟»، فقال: «نعم»، فقيل له: «أيكون المؤمن كذابًا؟»، فقال: «لا». 910 - أيُّمَا امرَأةٍ مَاتَتْ وَزَوجُها رَاضٍ عَنهَا، دَخَلَتِ الجَنَّةَ (¬1). 911 - أيما شاب تزوج في حداثة سنه، عج شيطانه: يا ويله عصم مني دينه. 912 - أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثما ويزداد الله عليه بها سخطا 913 - أيها الناس أيُّ نبِيِّ كنت لكم؟»، رُوي عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس في قول الله - عز وجل -: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} (النصر: 1 - 3)، قال: لما نزلت قال محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا جبريل، نفسي قد نُعيت». قال جبريل - عليه السلام -: «الآخرة خير لك من الأولى، ولسوف يعطيك ربك فترضى»، فأمر رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بلالًا أن ينادي بالصلاة جامعة، فاجتمع المهاجرون والأنصار إلى مسجد رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم صعد المنبر فحمد الله - عز وجل - وأثنى عليه، ثم خطب خطبة وجلت منها القلوب وبكت العيون ثم قال: «أيها الناس أي نبي كنت لكم؟»، فقالوا: «جزاك الله من نبي خيرًا، فلقد كنت بنا كالأب الرحيم وكالأخ الناصح المشفق، أدّيْتَ رسالاتِ الله - عز وجل -، وأبلغْتَنا وحيه ودعوتَ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فجزاك الله عنا أفضل ما جازى نبيًا عن أمته»، فقال ¬

(¬1) قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ» (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني).

لهم: «معاشرَ المسلمين، أنا أنشدكم بالله وبحقي عليكم من كانت له قِبَلي مظلمة فلْيَقُمْ فليقْتَصّ مني». فلم يقم إليه أحد، فناشدهم الثانية، فلم يقم أحد، فناشدهم الثالثة: «معاشر المسلمين أنشدكم بالله وبحقي عليكم من كانت له قِبَلي مظلمة فلْيَقُمْ فليقْتَصّ مني قبل القصاص في القيامة». فقام من بين المسلمين شيخ كبير يقال له عكاشة، فتخطى المسلمين حتى وقف بين يدي رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «فداك أبي وأمي، لولا أنك ناشدتنا مرة بعد أخرى ما كنتُ بالذي يُقْدِم على شيء من هذا، كنت معك في غزاة فلما فتح الله - عز وجل - علينا ونصر نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكنا في الانصراف حاذت ناقتي ناقتك، فنزلتُ عن الناقة ودنوتُ منك لأقَبّل فخدك، فرفعْتَ القضيب فضربْتَ خاصرتي، ولا أدري أكان عمدًا منك أم أردتَ ضرب الناقة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أعيذُك بجلال الله أن يَتعمد رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بالضرب، يا بلال انطلق إلى منزل فاطمة وائتني بالقضيب المَمْشُوق». فخرج بلال ويده على أم رأسه وهو ينادي: «هذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعطي القصاص من نفسه»، فقرع الباب على فاطمة، فقال: «يا بنت رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ناوليني القضيب الممشوق»، فقالت فاطمة: «يا بلال، وما يصنع أبي بالقضيب، وليس هذا يوم حج ولا غزاة»، فقال: «يا فاطمة ما أغفلك عما فيه أبوكِ، إن رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يودع الدين ويفارق الدنيا ويعطي القصاص من نفسه»، فقالت فاطمة - رضي الله عنها -: «يا بلال، ومن ذا الذي تطيب نفسه أن يقتص من رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ يا بلال إذن فقل للحسن والحسين يقومان إلى هذا الرجل، فيقتص منهما ولا يدَعانه يقتص من رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فدخل بلال المسجد ودفع القضيب إلى رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ودفع رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - القضيب إلى عكاشة، فلما نظر أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - إلى ذلك قاما فقالا: «يا عكاشة هذان نحن بين يديك فاقتص منا ولا تقتص من رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فقال لهما النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «امْضِ يا أبا بكر، وأنت يا عمر فامضِ، فقد عرف الله مكانكما ومقامكما». فقام علي بن أبي طالب فقال: «يا عكاشة أنا في الحياة بين يدي رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا تطيب نفسي أن يُضرب رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهذا

ظهري وبطني اقتص مني بيدك واجلدني مائة، ولا تقتص من رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا علي، اقعد فقد عرف الله - عز وجل - مقامك ونيتك». وقام الحسن والحسين - رضي الله عنهما - فقالا: «يا عكاشة، أليس تعلم أنا سِبْطَا رسول اللهِ؟ فالقصاص منا كالقصاص من رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اقعدا يا قُرة عيني لا نَسِيَ الله لكما هذا المقام». ثم قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا عكاشة اضرب إن كنت ضَاربًا». فقال: «يا رسول الله ضربتني وأنا حاسر عن بطني»، فكشف عن بطنه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وصاح المسلمون بالبكاء، وقالوا: «أترى يا عكاشة ضارب رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فلما نظر عكاشة إلى بياض بطن رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كأنه القباطي (¬1)، لم يملك أن كبّ عليه وقبّل بطنه وهو يقول: «فداءٌ لك أبي وأمي، ومن تطيق نفسه أن يقتص منك؟»، فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إمَّا أن تضرب وإمَّا أن تعفو». فقال: «قد عفوت عنك رجاءً أن يعفو الله عني يوم القيامة»، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من أراد أن ينظر إلى رفيقي في الجنة فلينظر إلى هذا الشيخ». فقام المسلمون فجعلوا يقبلون ما بين عيني عكاشة، ويقولون: «طوباك، طوباك، نلت الدرجات العلى ومرافقة رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فمرض رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - من يومه فكان مريضًا ثمانية عشر يومًا يعوده الناس، وكان - صلى الله عليه وآله وسلم - ولد يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين، فلما كان في يوم الأحد ثقل في مرضه، فأذن بلال بالأذان، ثم وقف بالباب فنادى: «السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله الصلاة رحمك الله»، فسمع رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - صوت بلال فقالت فاطمة - رضي الله عنها -: «يا بلال، إن رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مشغول بنفسه»، فدخل بلال المسجد، فلما أسفر الصبح قال: «والله لا أقيمها أو أستأذن سيدي رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فرجع فقام بالباب ونادى السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله»، فسمع رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - صوت بلال فقال: «أدخل يا بلال، إن رسول الله مشغول بنفسه، مُر أبا بكر يُصلِّ بالناس». ¬

(¬1) القُبْطِيَّةُ: ثياب بِيْضٌ من كَتَّانٍ، والجميع قَبَاطِيٌّ.

فخرج ويدُه على أم رأسه وهو يقول: «واغوثا بالله وانقطاع رجائه وانفصام ظهري، ليتني لم تلدني أمي، وإذ ولدتني لم أشهد من رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا اليوم»، ثم قال: «يا أبا بكر، ألا إن رسول اللهِ أمرك أن تصلي بالناس»، فتقدم أبو بكر سدد خطاكم للناس، وكان رجلًا رقيقًا، فلما نظر إلى خلوة المكان من رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يتمالك أن خَرّ مغشيًا عليه، وصاح المسلمون بالبكاء، فسمع رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ضجيج الناس، فقال: «ما هذه الضجة». قالوا: «ضجة المسلمين لفَقْدِك يا رسول الله»، فدعا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علي بن أبي طالب وابن عباس - رضي الله عنهما -، فاتكأ عليهما، فخرج إلى المسجد فصلى بالناس ركعتين خفيفتين، ثم أقبل بوجهه المليح عليهم فقال: «يا معشر المسلمين أستودعكم الله وأنتم في رجاء الله وأمانه، والله خليفتي عليكم، معاشرَ المسلمين عليكم باتقاء الله وحفظ طاعته من بعدي، فإني مفارق الدنيا، هذا أول يوم من الآخرة، وآخر يوم من أيام الدنيا». فلما كان يوم الاثنين اشتد به الأمر، وأوصى الله - عز وجل - إلى ملك الموت - عليه السلام - أن اهبط إلى حبيبي وصفِيِّي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - في أحسن صورة، وارفق به في قبض روحه، فهبط ملك الموت - عليه السلام -، فوقف بالباب شَبَهُ أعرابي، ثم قال: «السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة أأدْخُل؟»، فقالت عائشة - رضي الله عنها - لفاطمة: «أجيبي الرجل؟»، فقالت فاطمة: «آجرك الله في ممشاك يا عبد الله، إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مشغول بنفسه»، فدعا الثانية، فقالت عائشة: «يا فاطمة أجيبي الرجل»، فقالت فاطمة: «آجرك الله في ممشاك عبد الله، إن رسول الله مشغول بنفسه»، ثم دعا الثالثة: «السلام عليكم يا أهل النبوة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة أأدْخُل؟ فلابد من الدخول»، فسمع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صوت ملك الموت - عليه السلام - فقال: «يا فاطمة من بالباب؟». فقالت: «يا رسول الله، إن رجلًا بالباب يستأذن في الدخول فأجبناه مرة بعد أخرى، فنادى في الثالثة صوتًا اقشعر فيه جلدي وارتعدت فرائصي»، فقال لها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا فاطمة أتدرين مَن بالباب؟ هذا هازم اللذات ومفرقُ الجماعات، هذا مُرمل الأزواج ومُوتِم الأولاد،

هذا مُخرِّبُ الدُّور عامر القبورِ، هذا ملك الموت - عليه السلام -، ادْخل رحمك الله يا ملكَ الموت». فدخل ملك الموت على رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا ملك الموت جئتني زائرًا أم قابضًا». قال: «جئتك زائرًا وقابضًا، وأمرني الله أذِنْتَ وإلا رجعتُ إلى ربي - عز وجل -، فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا ملَك الموت أين خلفت حبيبي جبريل؟»، قال: «خلفته في السماء الدنيا والملائكة يعَزّونه فيك»، فما كان بأسرع أن أتاه جبريل - عليه السلام -، فقعد عند رأسه فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا جبريل، هذا الرحيل من الدنيا فبشرني ما لي عند الله». قال: «أبشرك يا حبيب الله أني قد تركتُ أبواب السماء قد فُتِحَت، والملائكة قد قاموا صفوفًا صفوفًا بالتحية والريحان يحَيّون روحك يا محمد»، فقال: «لوجه ربي الحمد، وبشِّرْني يا جبريل». قال: «أبشرك أن أبواب الجنان قد فُتحت، وأنهارها قد اطردت، وأشجارها قد تدلت، وحورها قد تزينت لقدوم روحك يا محمد»، قال: «لوجه ربي الحمد فبشِّرْني يا جبريل». قال: «أنت أول شافع وأول مشفع في القيامة»، قال: «لوجه ربي الحمد». قال جبريل: «يا حبيبي عم تسألني؟»، قال: «أسألك عن غمي وهمي، مَن لقُرّاء القرآن من بعدي، من لصوم شهر رمضان من بعدي؟ مَن لحاج بيت الله الحرام من بعدي؟ من لأمتي المصفاة من بعدي؟»، قال: «أبشر يا حبيب الله، فإن الله - عز وجل - يقول: قد حرمت الجنة على جميع الأنبياء والأمم حتى تدخلها أنت وأمتك يا محمد»، قال: «الآن طابت نفسي إذن يا ملك الموت فانْتَه إلى ما أمِرْتَ». فقال علي سدد خطاكم: «يا رسول الله، إذا أنت قبضت فمن يغسلك؟ وفيم نكفنك؟ ومن يصلي عليك؟ ومن يدخل القبر؟»، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا عليَّ أما الغسل، فاغسلني أنت والفضل بن عباس يصب عليك بالماء، وجبريل - عليه السلام - ثالثًا، فإذا أنتم فرغتم من غسلي فكفنوني في ثلاثة أثواب جُدد، وجبريل - عليه السلام - يأتيني بحنوط من الجنة، فإذا أنتم وضعتموني على السرير فضعوني في المسجد واخرجوا عني، فإنَّ أول من يصلي عليَّ الرب - عز وجل - مِن فوق عرشه، ثم جبريل - عليه السلام -، ثم

ميكائيل، ثم إسرافيل - عليهما السلام -، ثم الملائكة زُمرًا زُمرًا، ثم ادخلوا فقوموا صفوفًا لا يتقدم عليَّ أحد». فقالت فاطمة - رضي الله عنها -: «اليوم الفراق فمتي ألقاك؟»، فقال لها: «يا بُنَيَّة تلقيني يوم القيامة عند الحوض، وأنا أسقي من يَرِدُ عليَّ الحوض من أمتي». قالت: «فإن لم ألْقَك يا رسول الله؟»، قال: «تلقيني عند الميزان وأنا أشفع لأمتي». قالت: «فإن لم ألْقَك يا رسول الله؟»، قال: «تلقيني عند الصراط وأنا أنادي ربي: «سلِّم أمتي من النَّار». فدنا ملك الموت - عليه السلام - يعالج قبض رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلما بلغت الروح الركبتين قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا جبريل، ما أشَد مرارة الموت». فولى جبريل - عليه السلام - وجهه عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يا جبريل كرهت النظر إليَّ»، فقال جبريل - عليه السلام -: «يا حبيبي ومن تطيق نفسه أن ينظر إليك وأنت تعالج سكرات الموت، فقُبِض رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فغسّله علي بن أبي طالب وابن عباس يصب عليه الماء، وجبريل - عليه السلام - معهما، وكُفِّن بثلاثة أثواب جدد، وحمل على سرير، ثم أدخلوه المسجد ووضعوه في المسجد، وخرج الناس عنه، فأول من صلى عليه الرب - تعالى - من فوق عرشه، ثم جبريل، ثم ميكائيل، ثم إسرافيل، ثم الملائكة زمرًا زمرًا، قال سدد خطاكم: لقد سمعنا في المسجد همهمة ولم نر لهم شخصًا فسمعنا هاتفًا يهتف يقول: «ادخلوا رحمكم الله فصَلّوا على نبيكم - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فدخلنا وقُمنا صفوفًا صفوفًا كما أمرنا رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكبرنا بتكبير جبريل - عليه السلام -، وصلينا على رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بصلاة جبريل - عليه السلام -، ما تقدم منا أحد على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ودخل القبر أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس - رضي الله عنهم -، ودُفِن رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلما انصرف الناس قالت فاطمة لعلي سدد خطاكم: «يا أبا الحسن دفنتم رسول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم -؟»، قال: «نعم». قالت فاطمة - رضي الله عنها -: «كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ أما كان في صدوركم لرسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الرحمة؟ أما كان معلم الخير؟»، قال: «بلى يا فاطمة، ولكن أمر الله الذي لا

مَرَدّ له»، فجعلَتْ تبكي وتندب، وهي تقول: «يا أبتاه، الآن انقطع جبريل - عليه السلام -، وكان جبريل يأتينا بالوحي من السماء» (¬1). 914 - أيها الناس ضَحُّوا واحتسبوا بدمائها؛ فإن الدم - وإن وقع في الأرض - فإنه يقع في حرز الله - عز وجل -». ¬

(¬1) راجع القصة الصحيحة لوفاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في البخاري ومسلم وغيرهما.

حرف الباء

حرف الباء 915 - بادروا بالأعمال (¬1) سبعًا، هل تنتظرون إلا مرضًا مفسدًا وهرمًا مفندًا أو غنًى مُطغيًا أو فقرًا مُنْسِيًا، أو موتًا مُجْهِزًا (¬2)، أو الدجال، فشَر منتظر، أو الساعة، والساعة أدهى وأمَرّ. ¬

(¬1) الْمُرَادُ مِنْ هَذَا أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَعُوقُ عَنِ الْأَعْمَالِ، فَبَعْضُهَا يَشْغَلُ عَنْهُ، إِمَّا فِي خَاصَّةِ الْإِنْسَانَ، كَفَقْرِهِ وَغِنَاهُ وَمَرَضِهِ وَهَرَمِهِ وَمَوْتِهِ، وَبَعْضُهَا عَامٌّ، كَقِيَامِ السَّاعَةِ، وَخُرُوجِ الدَّجَّالِ، وَكَذَلِكَ الْفِتْنُ الْمُزْعِجَةُ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا» (رواه مسلم). وقال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا: إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ، وَكَثْرَةَ الشُّرَطِ، وَبَيْعَ الْحُكْمِ، وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ، وَقَطِيعَةَ الرَّحِمِ، وَنَشْوًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَهُ يُغَنِّيهِمْ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُمْ فِقْهًا» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني، والأرنؤوط). (بادروا) أي: اطلبوا من الله تعالى أن يميتكم قبل هذه الست. (إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ) أي إمارتهم. (الشُّرَطِ) بضم ففتحِ، جمع شُرْط، بضمٍّ فسكون، وهو من يتقدم بين يدي الأمير لتنفيذ أوامره. (الْحُكْمِ) أي: القضاء، أي: يتوسل إليه بالرشوة. (نَشْوًا) أي: جماعةً أحداثًا. (يُقَدِّمُونَهُ) من التقديم، أي: الناس يقدمون هذا الشاب في الصلاة. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا: طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، أَوِ الدُّخَانَ، أَوِ الدَّجَّالَ، أَوِ الدَّابَّةَ، أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ، أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ» (رواه مسلم). (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا) أي سابقوا ست آيات دالة على وجود القيامة قبل وقوعها وحلولها فإن العمل بعد وقوعها وحلولها لا يقبل ولا يعتبر. (خَاصَّةُ أَحَدِكِمُ) أَي مَا يَخُصُّهُ من الْمَوْت الَّذِي يمنعهُ من الْعَمَل، (أَمْرُ الْعَامَّةِ) يَعْنِي الْقِيَامَة، لِأَنَّهَا تعم النَّاس جَمِيعًا بِالْمَوْتِ. (¬2) الفقر المنسي: ينسي طاعة الله وذكره، والغنى المطغي: يتجاوز به الحد حتى يشغله عن الدين، والمرض المفسد للبدن، والهرم المفند: حتى لا يمكن معه الحركة. والموت المجهز: الذي يقضي على العبد بالفناء.

916 - بادروا بالعمل هرمًا ناغصًا، أوموتًا خالسًا، أومرضًا حابسًا، أوتسويفًا مؤيّسًا. 917 - بارك في عسل «بنها» (¬1). 918 - بخلاء أمتي الخياطون. 919 - برِّدوا طعامكم يبارَكْ لكم فيه. 920 - بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده. 921 - بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفّوا تعف نساؤكم. 922 - بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفّوا عن النساء تعف نساؤكم. 923 - بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب. 924 - بشر القاتل بالقتل، والزاني بالفقر ولو بعد حين. 925 - بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتًا، خط لهما جبريل، فجعل آدم يحفر وحواء تنقل حتى أجابه الماء، ثم نودي من تحته: حسبك يا آدم! فلما بنَيَاه أوحى الله إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس، وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى حَجَّهُ نوح، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه. 926 - بُعِثْتُ في زمن الملك العادل. (يعني أنو شروان). 927 - بعدما ينفخ اسرافيل - عليه السلام - في الصور النفخة الأولى تستوي الأرض من شدة الزلزلة فيموت أهل الأرض جميعًا وتموت ملائكة السبع سموات والحجب والسرادقات والصافون والمسبحون وحملة العرش وأهل سرادقات المجد والكروبيون ويبقى جبريل وميكائيل واسرافيل ومَلَك الموت - عليهم السلام -، يقول الجبار - جل جلاله -: «ياملك الموت من بقي؟» - وهوأعلم - فيقول ملك الموت: «سيدي ومولاي أنت أعلم، بقي إسرافيل وبقي ميكائيل وبقي جبريل وبقي عبدك الضعيف ¬

(¬1) قال يحيى بن معين: «بنها: قرية من قرى مصر».

ملك الموت خاضع ذليل قد ذهلت نفسه لعظيم ما عاين من الأهوال». فيقول له الجبار تبارك وتعالى: «انطلق إلى جبريل فاقبض رُوحَه»، فينطلق الى جبريل فيجده ساجدًا راكعًا فيقول له: «ما أغفلك عما يراد بك يا مسكين، قد مات بنو آدم وأهل الدنيا والأرض والطير والسباع والهوام وسكان السموات وحملة العرش والكرسي والسرادقات وسكان سدرة المنتهى وقد أمرني المولى بقبض روحك»، فعند ذلك يبكي جبريل - عليه السلام - ويقول متضرعًا إلى الله - عز وجل -: «يا الله هوّن علَيَّ سكرات الموت»، فيضمه ضمة فيخر جبريل منها صريعًا، فيقول الجبار - جل جلاله -: «من بقي يا ملك الموت» - وهو أعلم - فيقول: «مولاي وسيدي بقي ميكائيل وإسرافيل وعبدك الضعيف ملَك الموت»، فيقول الله - عز وجل - انطلق إلى ميكائيل فاقبض رُوحه فينطلق إلى ميكائيل فيجده ينتظر المطر ليكيله على السحاب فيقول له: «ما أغفلك يا مسكين عما يُراد بك، ما بقي لبني آدم رزق ولا للأنعام ولا للوحوش ولا للهوام , قد مات أهل السموات والأرضين وأهل الحجب والسرادقات وحملة العرش والكرسي وسرادقات المجد والكروبيون والصافون والمسبحون، وقد أمرني ربي بقبض روحك» , فعند ذلك يبكي ميكائيل ويتضرع إلى الله ويسأله أن يهوّن عليه سكرات الموت , فيحضنه ملك الموت ويضمه ضمة يقبض روحه فيخر صريعًا ميتًا لا رُوح فيه , فيقول الجبار - جل جلاله -: «من بقي - وهو أعلم - يا ملك الموت؟»، فيقول: «مولاي وسيدي أنت أعلم، بقي إسرافيل وعبدك الضعيف ملَك الموت». فيقول الجبار - تبارك وتعالى -: «انطلق إلى إسرافيل فاقبض رُوحه». فينطلق كما أمره الجبار إلى إسرافيل , فيقول له: «ما أغفلك يا مسكين عما يُرَاد بك، قد ماتت الخلائق كلها وما بقي أحد وقد أمرني الله بقبض روحك» , فيقول إسرافيل: «سبحان مَن قَهَر العباد بالموت ,سبحان مَن تفرد بالبقاء» ,ثم يقول: «مولاي هوّن علَيَّ مرارة الموت». فيضمه ملَك الموت ضمة يقبض فيها رُوحه فيخر صريعًا، فلو كان أهل السموات والأرض في السموات والأرض لماتوا كلهم من شدة وقعته. فيسأل الله ملك

الموت: «من بقي يا ملك الموت؟» - وهو أعلم -، فيقول: «مولاي وسيدي أنت أعلم بمن بقي، بقي عبدك الضعيف ملك الموت»، فيقول الجبار - عز وجل -: «وعزتي وجلالي لأذيقنك ما أذقت عبادي انطلق بين الجنة والنار ومُتْ» , فينطلق بين الجنة والنار فيصيح صيحة لولا أن الله - تبارك وتعالى - أمات الخلائق لَمَاتوا عن آخرهم من شدة صيحته فيموت. ثم يطلع الله - تبارك وتعالى - إلى الدنيا فيقول: «يا دنيا أين أنهارك، أين أشجارك، وأين عُمارُك؟ أين الملوك وأبناء الملوك وأين الجبابرة وأبناء الجبابرة؟ أين الذين أكلوا رزقي وتقلبوا في نعمتي وعبدوا غيري , لمن الملك اليوم؟»، فلا يجيبه أحد. 928 - بكى شعيب النبي؛ من حب الله - عز وجل - حتى عَمِيَ، فرَدَّ الله إليه بصره، وأوحى إليه: «يا شعيب ما هذا البكاء؟! أشوقًا إلى الجنة أم خوفًا من النار؟»، قال: «إلهي وسيدي أنت تعلم ما أبكي شوقًا إلى جنتك ولا خوفًا من النار، ولكني اعتقدت حبك بقلبي، فإذا أنا نظرتُ إليك فما أبالي ما الذي صُنع بي، فأوحى الله - عز وجل - إليه: «يا شعيب إن يَكُ ذلك حقًا فهنيئًا لك لقائي يا شعيب! ولذلك أخدمتك موسى بن عمران كَلِيمِي» (¬1). ¬

(¬1) قال الألباني: «ومما يُنْكَر في هذا الحديث قوله: «ما أبكي شوقًا إلى جنتك، ولا خوفًا من النار»! فإنها فلسفة صوفية، اشتهرت بها رابعة العدوية، إن صح ذلك عنها، فقد ذكروا أنها كانت تقول في مناجاتها: «رب! ما عبدتُك طمعًا في جنتك ولا خوفًا من نارك». وهذا كلام لا يصدر إلا ممن لم يعرف الله - تبارك وتعالى - حق معرفته، ولا شعر بعظمته وجلاله، ولا بجوده وكرمه، وإلا لتعبده طمعًا فيما عنده من نعيم مقيم، ومن ذلك رؤيته تبارك وتعالى وخوفًا مما أعده للعصاة والكفار من الجحيم والعذاب الأليم، ومن ذلك حرمانهم النظر إليه كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} (المطففين: 15)، ولذلك كان الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وهم العارفون بالله حقًا - لا يناجونه بمثل هذه الكلمة الخيالية، بل يعبدونه طمعًا في جنته - وكيف لا وفيها أعلى ما تسمو إليه النفس المؤمنة، وهو النظر إليه سبحانه، ورهبةً من ناره، ولم لا وذلك يستلزم حرمانهم من ذلك، ولهذا قال تعالى بعد ذكر نخبة من الأنبياء: ... = ... = {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (الأنبياء: 90)، ولذلك كان نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أخشى الناس لله، كما ثبت في غير ما حديث صحيح عنه. هذه كلمة سريعة حول تلك الجملة العدوية، التي افتتن بها كثير من الخاصة فضلا عن العامة، وهي في الواقع {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} ... (النور: 39)» (انظر السلسلة الضعيفة رقم 998).

929 - بَلْ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ»، رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ، قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: «كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟»، قَالَ: «أَيَّةُ آيَةٍ؟»، قُلْتُ: «قَوْلُهُ تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، قَالَ: «أَمَا وَاللهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «بَلْ ائْتَمِرُوا بِالمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ المُنْكَرِر، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعِ العَوَامَّ» (¬1). 930 - بل نبيًّا عبدًا»، رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ذات يوم، وجبريل معه على الصفا، فقال له محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -: «والذي بعثك بالحق، ما أمسى لآل محمد كف سَوِيق، ولا شق دقيق»، فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدة من السماء أفظعته، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أمر الله - عز وجل - القيامة أن تقوم؟»، فقال: «لا، ولكن هذا إسرافيل - عليه السلام - نزل إليك حين سمع الله كلامك»، فأتاه إسرافيل، فقال: «إن الله سمع ما ذكرْتَ، فبعثني إليك بمفاتيح الأرض، وأمرني أن أعرض عليك: إن أحببت أن أسيّر معك جبال تهامة زمردًا وياقوتًا وذهبًا وفضةً، ¬

(¬1) قال الألباني: في السلسلة الضعيفة (3/ 94): «والمعروف في تفسير الآية يخالفه (أي يخالف هذا الحديث الضعيف) في الظاهر، وهو ما أخرجه أصحاب السنن وأحمد وابن حبان في صحيحه (1837) وغيرهم بسند صحيح عن أبي بكر الصديق سدد خطاكم أنه قام فحمد الله، ثم قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة: 105)، وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعَهَا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ لَا يُغَيِّرُونَهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللهُ بِعِقَابِهِ»، وقد خرجته في الصحيحة (1564)».

فعلتُ، وإن شئتَ نبيًّا ملَكًا، وإن شئتَ نبيًّا عبدًا، فأومى إليه جبريل - عليه السلام -: أن تواضع لله، فقال: «بل نبيًّا عبدًا» ثلاثًا (¬1). 931 - بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ»، رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نَزَلَ بِأَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ. فقال الْحُبَابَ بْنَ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ أَمَنْزِلًا أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدّمَهُ وَلَا نَتَأَخّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ قَالَ: «بَلْ هُوَ الرّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ»، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، فَإِنّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلِ فَانْهَضْ بِالنّاسِ حَتّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ، فَنَنْزِلَهُ ثُمّ نُغَوّرُ مَا وَرَاءَهُ مِنْ الْقُلُبِ (¬2)، ثُمّ نَبْنِي عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَؤُهُ مَاءً، ثُمّ نُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَقَدْ أَشَرْتَ بِالرّأْيِ». فَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ فَسَارَ حَتّى إذَا أَتَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ الْقَوْمِ نَزَلَ عَلَيْهِ ثُمّ أَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوّرَتْ وَبَنَى حَوْضًا عَلَى الْقَلِيبِ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ فَمُلِئَ مَاءً ثُمّ قَذَفُوا فِيهِ الْآنِيَةَ. 932 - بل هي حلال إذا نحن خمَّسنا»، رُوِيَ عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 2 - 3)، قال: نزلت هذه الآية في ابن لعوف بن مالك الأشجعي وكان المشركون أسروه وأوثقوه وأجاعوه فكتب إلى أبيه أن ائت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فأعْلِمْه ما أنا فيه من الضيق والشدة، فلما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال له رسول الله: «اكتب إليه ومُرْهُ بالتقوى والتوكل على الله، وأن يقول عند صباحه ومسائه {لَقَدْ جَاءَكُمْ ¬

(¬1) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: «إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ»، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِى إِلَيْكَ رَبُّكَ، أَفَمَلَكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا»، قَالَ جِبْرِيلُ: «تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ». قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا». (رواه الإمام أحمد وصححه الألباني). (¬2) القَليب: البئر، والجمع أَقْلِبَة وقُلُب.

رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)} (التوبة: 128 - 129)، فلما ورد عليه الكتاب قرأه فأطْلَقَ الله وثاقه، فمر بواديهم الذي ترعى فيه إبلهم وغنمهم فاستاقها فجاء بها إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «يا رسول الله إني اغتلتهم بعد ما أطلق الله وثاقى فحلال هي أم حرام؟»، قال: «بل هي حلال إذا نحن خَمّسْنَا»، فأنزل الله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ} أي من الشدة والرخاء {قَدْرًا} يعنى أجلًا، وقال ابن عباس: «من قرأ هذه الآية عند سلطان يخاف غشمه، أو عند موج يخاف الغرق، أو عند سبع، لم يضره شيء من ذلك». 933 - بُنِيَ الإسلام على النظافة. 934 - بيت لا صبيان فيه لا بركة فيه. 935 - بيت لا صبيان فيه؛ لا بركة فيه، وبيت لا خل فيه؛ قفار لأهله 936 - بين كل أذانين صلاة إلا المغرب (¬1). 937 - بَيْنَا (¬2) أَنَا جَالِسٌ إِذْ جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَحَمَلَنِي، فَأَدْخَلَنِي جَنَّةَ رَبِّي - عَزَّ وَجَلَّ -، فَبَيْنَما أَنَا جَالِسٌ إِذْ جُعِلَتْ فِي يَدِي تُفَّاحَةٌ، فَانْفَلَقَتِ التُّفَّاحَةُ بنصْفَيْنِ، فَخَرَجَتْ مِنْهَا جَارِيَةٌ لَمْ أَرَ جَارِيَةً أَحْسَنَ مِنْهَا حُسْنًا، وَلا أَجْمَلَ مِنْهَا جَمَالًا، تُسَبِّحُ تَسْبِيحًا لَمْ يَسْمَعِ ¬

(¬1) قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ»، ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ» (رواه البخاري ومسلم). (¬2) بَيْنا: ظرف زمان يدل على المفاجأة مركّب من (بَيْنَ) و (الألف الاسميّة) الدالّة على وقت محذوف يحتاج إلى جواب، ويكثر ورود (إذ) أو (إذا) الدالتين على المفاجأة بعده: «بَيْنا محمد في المكتبة إذ دخل عليه صديقه». [انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة (1/ 277)].

الأَوَّلُونَ وَالآخِرُونَ بِمِثْلِهِ. فَقُلْتُ: «مَنْ أَنْتِ يَا جَارِيَةُ؟»، قَالَتْ: أَنَا مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، خَلَقَنِي اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ نُورِ عَرْشِهِ، فَقُلْتُ: «لِمَنْ أَنْتِ؟»، قَالَتْ: لِلْخَلِيفَةِ الْمَظْلُومِ عُثْمَانَ بن عَفَّانَ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. 938 - بيْنَا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رءوسهم، فإذا الرب قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: «السلام عليكم يا أهل الجنة»، وذلك قول الله {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (يس: 58)، فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم.

حرف التاء

حرف التاء 939 - تبارك مصرف القلوب»، رُوِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - جاء بيت زيد بن حارثة فاستأذن فأذنَتْ له زينب ولا خمار عليها، فألقت كُمّ دِرْعِها على رأسها، فسألها عن زيد فقالت: «ذهب قريبًا يا رسول الله»، فقام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وله همهمة، قالت زينب: فاتبعته فسمعته يقول: «تبارك مصرف القلوب»، فما زال يقولها حتى تغيب (¬1). 940 - تباعدوا تحابُّوا. 941 - تحت البحر نار. 942 - تحدثوا على الطعام، وخالفوا سنة اليهود. 943 - تحرُّوا الصدق وإن رأيتم أن فيه الهلكة فإن فيه النجاة، واجتنبوا الكذب وإن رأيتم أن فيه النجاة فإن فيه الهلكة. 944 - تحفة الصائم الزائر أن يغلف لحيته، ويجمر ثيابه، ويُذَرر» (¬2). رُوِيَ عن سعد الحذاء عن عمير بن المأموم قال: أتيت المدينة أزور ابنة عم لي تحت الحسن بن علي، فشهدتُ معه صلاة الصبح في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأصبح ابن الزبير قد أوْلَمَ، فأتى رسول ابن الزبير فقال: «يا ابن رسول الله! إن ابن الزبير أصبح قد أولم، وقد أرسلني إليك»، فالتفت إليَّ فقال: «هل طلعت الشمس؟» قلت: «لا أحسب إلا قد طلعت»، قال: «الحمد لله الذي أطلعها من مطلعها». قال: «سمعت أبي وجدي - يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «من صلى الغداة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، جعل ¬

(¬1) وفي القصة كما ترى طعنٌ في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (¬2) أي يُطَيَّب، من (الذريرة)، وهو نوع من الطيب مجموع من أخلاط.

الله بينه وبين النار سترًا» (¬1). ثم قال: «قوموا فأجيبوا ابن الزبير»، فلما انتهينا إلى الباب تلقاه ابن الزبير على الباب فقال: «يا ابن رسول الله! أبطأتَ عني هذا اليوم؟» فقال: «أما إني قد أجبتكم وأنا صائم»، قال: «فها هنا تحفة»، فقال الحسن بن علي: سمعت أبي وجدي - يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «تحفة الصائم الزائر أن يغلف لحيته ويجمر ثيابه ويذرر». قال: قلت: «يا ابن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أعِدْ عليَّ الحديث»، قال: «سمعت أبي وجدي - يعني النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب آية محكمة، أو رحمة منتظرة، أو علمًا مستطرفًا، أو كلمة تزيده هدى أو ترُدُّه عن ردًى، أو يدع الذنوب خشية أو حياء». 945 - تحية البيت الطواف (¬2). 946 - تخرج الدابة، ومعها عصى موسى - عليه السلام -، وخاتم سليمان - عليه السلام -، فتخطم الكافر بالخاتم، وتجلو وجه المؤمن بالعصا، حتى إن أهل الخوان ليجتمعون على خوان، فيقول هذا: «يا مؤمن»، ويقول هذا: «يا كافر». ¬

(¬1) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى الْغَدَاةَ فِى جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ». قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ». (رواه الترمذي وصححه الألباني). (الغداة: الصبح). (¬2) قال الألباني في (السلسلة الضعيفة رقم 1012): «لا أعلم له أصلًا. وإن اشتهر على الألسنة، وأورده صاحب (الهداية) من الحنفية بلفظ: «من أتى البيت فليحيه بالطواف». وقد أشار الحافظ الزيلعي في تخريجه إلى أنه لا أصل له، بقوله (2/ 51): «غريب جدًا»، وأفصح عن ذلك الحافظ ابن حجر فقال في (الدراية ص 192): «لم أجده». قلت (أي الألباني): «ولا أعلم في السنة القولية أوالعملية ما يشهد لمعناه، بل إن عموم الأدلة الواردة في الصلاة قبل الجلوس في المسجد تشمل المسجد الحرام أيضا، والقول بأن تحيته الطواف مخالف للعموم المشار إليه، فلا يقبل إلا بعد ثبوته وهيهات، لاسيما وقد ثبت بالتجربة أنه لا يمكن للداخل إلى المسجد الحرام الطواف كلما دخل المسجد في أيام المواسم، فالحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78). وإن مما ينبغي التنبه له أن هذا الحكم إنما هو بالنسبة لغير المحرم، وإلا فالسنة في حقه أن يبدأ بالطواف ثم بالركعتين بعده».

947 - تخيّروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوتهن وأخواتهن (¬1). 948 - تدرون لم سمي رمضان؟ لأنه ترمض فيه الذنوب، وإن رمضان ثلاث ليال من فاتته؛ فاته خير كثير: ليلة سبع وعشرين، وليلة إحدى وعشرين، وآخر ليلة». فقال عمر: «يا رسول الله، هي سوى ليلة القدر؟»، قال: «نعم: ومن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له؟». 949 - تدرون لم سمي شعبان؟ لأنه يشعب فيه خير كثير. وإنما سمي رمضان؛ لأنه يرمض الذنوب؛ أي: يدنيها من الحر. 950 - تذهب الأرضون كلها يوم القيامة إلا المساجد، فإنها تنضم بعضها إلى بعض. 951 - ترفع البركة من البيت إذا كانت فيه الكناسة. 952 - تَرْكُ الدنيا أمَرُّ من الصبر، وأشد من حطم السيوف في سبيل الله، ولا يتركها أحد إلا أعطاه مثل ما يعطي الشهداء، وتركها قلة الأكل والشبع، وبغض الثناء من الناس، فإنه من أحب الثناء من الناس أحب الدنيا ونعيمها، ومن سره النعيم فليدع الثناء من الناس. 953 - ترك العادة عداوة مستفادة. 954 - تزوّجوا النساء فإنهن يأتين بالمال (¬2). ¬

(¬1) صح بلفظ: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ، وَانْكِحُوا الأَكْفَاءَ، وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ». (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). (¬2) قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} (النور: 32)، قال الحافظ ابن كثير: «الأيامى: جمع أيِّم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما،. . . يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم أيضًا. ... = = وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: رغّبَهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. ونقل ابن كثير أن أبا بكر الصديق سدد خطاكم قال: «أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، ينجِزْ لكم ما وعدكم من الغِنَى، قال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. ونقل أن ابن مسعود سدد خطاكم قال: «التمسوا الغِنَى في النكاح»، يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وذكر ابن كثير حديث الترمذي وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفَافَ». (انظر تفسير الآية 32 من سورة النور. وهذا الحديث حسنه الألباني).

955 - تزوّجوا الفقراء يُغْنِكم الله (¬1). 956 - تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس. 957 - تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه العرش. 958 - تستغفر الصحفة للاحِسِها. 959 - تسحروا ولو بشربة من ماء، وأفطروا ولو على شربة من ماء. 960 - تسعة أعشار الرزق في التجارة، والعشر في المواشي. 961 - تسمونهم محمدًا ثم تسُبّونهم. 962 - تُسَمُّونَهُمْ مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ. 963 - تَصَافحوا يذهب الغل عن قلوبكم (¬2). 964 - تَصدَّقوا تُرْزَقوا. 965 - تُضاعف الحسنات يوم الجمعة. ¬

(¬1) انظر الهامش السابق. (¬2) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَتَصَافَحَانِ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا» (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

966 - تُعَادُ الصلاة من قدر الدرهم من الدم. 967 - تعرفه؟»، رُوِيَ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقسم غنائم خيبر وجبرائيل - عليه السلام - إلى جنبه فجاء ملَك فقال: «ربك - عز وجل - يأمرك بكذا وكذا»، فخشي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يكون شيطانًا فقال لجبريل: «تعرفه؟»، فقال: «هو ملك وما كُلّ الملائكة أعرف». 968 - تعلموا العلم، وتعلموا للعلم السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تَعَلّمُون منه. 969 - تعلموا الفرائض وعلموه الناس؛ فإنه نصف العلم، وهو يُنْسَى، وهو أول شيء يُنْزَع من أمتي. 970 - تعوذوا بالله من جب الحزن»، رُوِيَ عن على - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تعوذوا بالله من جب الحزن أو وادي الحزن»، قيل: «يا رسول الله، وما وادي أو جب الحزن؟»، قال: «وادٍ فى جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم سبعين مرة، أعده الله تعالى للقُراء المرائين». 971 - تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة، كلها في الجنة، إلا فرقة واحدة وهي الزنادقة (¬1). 972 - تَفَكّروا في الخلق، ولا تفَكّروا في الخالق (¬2)؛ فإنكم لا تَقْدِرُون قَدْرَه. ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، فَإِحْدَى وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتَفْتَرِقَنَّ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ»، قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ هُمْ؟» قَالَ: «الْجَمَاعَةُ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وفي رواية أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سُئِل عن الفرقة الناجية منهم فقَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي». (رواه الحاكم، وقال الحافظ ابن حجر: «إسناده حسن»). (¬2) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَفَكَّرُوا فِي آلَاءِ اللهِ، وَلَا تَفَكّرُوا في الله - عز وجل -» رواه الطبراني وغيره، وحسنه الألباني).

973 - تَفَكّروا في خلق الله ولا تفَكّروا في الله (¬1) فتهلكوا. 974 - تقربوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، والقوهم بوجوه مكفهرة، والتمسوا رضا الله بسخطهم، وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم. 975 - تُقْطَع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى. 976 - تقول النار يوم القيامة للمؤمن: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي. 977 - تكبيرة الإحرام خير من الدنيا وما فيها. 978 - تكون إبل للشياطين، وبيوت للشياطين، فأما إبل الشياطين، فقد رأيْتُها، يخرج أحدكم بجنيبات معه قد أسمنها، فلا يعلو بعيرًا منها، ويمر بأخيه قد انقطع به، فلا يحمله. وأما بيوت الشياطين فلم أرها (¬2). 979 - تمام البر أن تعمل في السر عمل العلانية. 980 - تمام التحية الأخذ باليد والمصافحة باليمين. 981 - توسلوا بجاهي؛ فإن جاهي عند الله عظيم. 982 - تَيَمّنوا؛ فإن في اليمين بركة (¬3). ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَفَكّرُوا فِي خَلْقِ اللهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللهِ» (رواه أبو نعيم في الحلية، وحسنه الألباني). (¬2) قال الألباني في (السلسلة الضعيفة رقم 2303): «ثم تبين أن فيه انقطاعًا بين سعيد وأبي هريرة، ... وقد كنت أوردت الحديث في (الصحيحة)، برقم (93) قبل أن يتبين لي الانقطاع المذكور، فالحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله». (¬3) قال الدكتور عبد الله الفقيه: «لم نقف فيما بين أيدينا من كتب أهل العلم على أثر بهذا اللفظ، ولكن قد ثبت في السنة الصحيحة استحباب التَيَمُّن في كل ما من شأنه التكريم»، (انظر فتاوى موقع الشبكة الإسلامية رقم الفتوى: 110684).

حرف الثاء

حرف الثاء 983 - ثلاث إن أكرمتهم أهانوك: المرأة، والعبد، والفلاح. 984 - ثلاث لا يُرْكَن إليها: الدنيا والسلطان والمرأة. 985 - ثلاث لا يُعَاد صاحبُهن: الرمد، وصاحب الضرس، وصاحب الدمل. 986 - ثلاث من أخلاق الإيمان: من إذا غضب لم يدخله غضبه في باطل، ومن إذا رضِيَ لم يُخْرِجْه رضاه من حق، ومن إذا قدر لم يتعاطَ ما ليس له. 987 - ثلاث من الفواقر (¬1): إمام إن أحسنتَ لم يشكر، وإن أسأتَ لم يغفر، وجارٌ إنْ رأى خيرًا دفنه، وإن رأى شرًا أشاعه، وامرأة إن حضَرَتْكَ آذَتْكَ، وإن غِبْتَ خانتك. 988 - ثلاث من كنوز البر: إخفاء الصدقة، وكتمان الشكوى، وكتمان المصيبة، يقول الله - عز وجل -: «إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر، لم يَشْكُني إلى عواده أبدلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه، فإن أرسلتُه أرسلتُه ولا ذنب له، وإن توفيتُه فإلى رحمتي». 989 - ثلاث من كنوز البر: كتمان الأوجاع، والبلوى والمصيبات. ومن بَثَّ لم يصبر (¬2). 990 - ثَلاثٌ هُنَّ عَليَّ فَريضَةٌ، وَهُنَّ لَكُم تَطوعٌ: الوترُ، وَرَكعَتَا الضُحى، وَرَكعَتا الفَجرِ. ¬

(¬1) الفاقِرة: الداهية أو المُصيبة تكسر فَقَار الظَّهر مِن شدَّة هولها. قال تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)} (القيامة: 24 - 25). (¬2) (وَمَن بَثّ) أَي أذاع وَنشر وشكا مصيبته للنَّاس، (لم يصبر) لآن الشكوى مُنَافِيَة للصبر.

991 - ثلاث يُجلين البصر: النظر إلى الخضرة، وإلى الماء الجاري، وإلى الوجه الحسن. 992 - ثلاث يدرك بهن العبد رغائب الدنيا والآخرة: الصبر على البلاء، والرضا بالقضاء، والدعاء في الرخاء. 993 - ثلاث يُصْفِين لك ود أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه. 994 - ثَلاثَةٌ في ظِلِّ العَرشِ: القُرآنُ يُحاجُّ العِبادَ، وَالرَّحِمُ يُنادِي: صِلْ مَنْ وَصلَني وَاقطَعْ مَن قَطَعني، وَالأمَانةُ. 995 - ثلاثة في ظل العرش يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله: واصل الرحم يزيد الله في رزقه ويمد في أجله، وامرأة مات زوجها وترك عليها أيتامًا صغارًا فقالت: لا أتزوج، أقيم على أيتامي حتى يموتوا أو يُغْنِيَهم الله، وعبد صنع طعامًا فأضاف ضيفه وأحسن نفقته فدعا عليه اليتيم والمسكين فأطعمهم لوجه الله - عز وجل -. 996 - ثلاث لا تركن إليها: الدنيا، والسلطان، والمرأة. 997 - ثلاثة لا يستخف بحقهم إلا منافق: ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمام مقسط. 998 - ثلاثة لا يكترثون للحساب، ولا يفزعهم الصيحة، ولا يحزنهم الفزع الأكبر: حامل القرآن المؤديه إلى الله بما فيه، يقدم على ربه سيدًا شريفًا حتى يوافق المرسلين.

ومؤذن أذن سبع سنين (¬1)، لا يأخذ على أذانه طمعًا. وعبد مملوك أدى حق الله، وحق مواليه من نفسه (¬2). 999 - ثلاثة لا ينفع معهن عمل: الشرك بالله (¬3) وعقوق الوالدين والفرار من الزحف. 1000 - ثلاثة ليس عليهم حساب فيما طعموا إذا كان حلالًا: الصائم والمتسحر والمرابط في سبيل الله - عز وجل -. 1001 - ثلاثة مَن كُنَّ فيه آواه الله في كنفه، وستر عليه برحمته، وأدخله في محبته: من إذا أعطِيَ شكر، وإذا قدر غفر، وإذا غضب فتر. 1002 - ثلاثة مَن كُنَّ فيه يستكمل إيمانه: رجل لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يرائي بشيء من عمله، وإذا عرض عليه أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة اختار أمر الآخرة على الدنيا. 1003 - ثلاثة مواطن لا تُرَد فيها دعوة عبد: رجل يكون في برية حيث لا يراه أحد إلا الله فيقوم فيصلي، ورجل يكون معه فئة فيفر عنه أصحابه فيثبت، ورجل يقوم من آخر الليل. 1004 - ثلاثة مواطن لا ترد فيها دعوة: رجل يكون في بَرِيّة حيث لا يراه أحد إلا الله فيقوم فيصلي، فيقول الله - عز وجل - لملائكته: «ألا أرى عبد ي هذا يعلم أن له ربًّا ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَذَّنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَكُتِبَ لَهُ بِكُلِّ أَذَانٍ سِتُّونَ حَسَنَةً وَبِكُلِّ إِقَامَةٍ ثَلاثُونَ حَسَنَةً» (رواه الحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني). (¬2) قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ، وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَالْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا فَأَدَّبَهَا، فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ». (رواه البخاري). (¬3) قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)} (الزمر: 65).

يغفر الذنوب، فانظروا ما يطلب»، فتقول الملائكة: «أي ربّ، رضاءك ومغفرتك». فيقول تبارك وتعالى: «اشهدوا أني قد غفرت له». ورجل يقوم من الليل، فيقول الله تعالى: «أليس قد جعلتُ الليل سكنًا والنوم سباتًا فقام عبدي هذا يصلي ويعلم أن له ربًا»، فيقول الله لملائكته: «انظروا ما يطلب عبد ي هذا»، فتقول الملائكة: «يا رب، رضاك ومغفرتك». فيقول - عز وجل -: «اشهدوا أني قد غفرت له. ورجل يكون معه فئة، فيفر عنه أصحابه، ويلبث هو مكانه، فيقول تعالى لملائكته: «انظروا ما يطلب عبدي هذا»، فتقول الملائكة: «يا رب، بذل مهجة نفسه لك يطلب رضاك»، فيقول الله - عز وجل -: «اشهدوا أني قد غفرت له». 1005 - ثلاثة نفر، كان لأحدهم عشرة دنانير، فتصدق منها بدينار، وكان لآخر عشرة أوَاقٍ، فتصدق منها بأوقية، وآخر كان له مئة أوقية، فتصدق بعشرة أواق، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هم في الأجر سواء. كل قد تصدق بعشر ماله. قال الله - عز وجل -: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ}» (الطلاق: 7) (¬1). 1006 - ثلاثة هم حدّاثُ الله (¬2) يوم القيامة: رجل لم يمش بين اثنين بمراء قط، ورجل لم يحدث نفسه بزنا قط، ورجل لم يخلط كسبه بربا قط. 1007 - ثمن الجنة لا إله إلا الله (¬3). ¬

(¬1) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ». قَالُوا وَكَيْفَ قَالَ «كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا». (رواه النسائي وحسنه الألباني). (¬2) حدّاث الله: أى يكلمهم ويكلمونه فى الموقف. (¬3) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلاَ إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الجَنَّةُ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني). ... = = قَوْلُهُ: (مَنْ خَافَ) أَيْ الْبَيَاتَ وَالْإِغَارَةَ مِنْ الْعَدُوِّ وَقْتَ السَّحَرِ (أَدْلَجَ) سَارَ أَوَّلَ اللَّيْلِ، (وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ) أَيْ وَصَلَ إِلَى الْمَطْلَبِ. قَالَ الطِّيبِيُّ - رحمه الله -: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِسَالِكِ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ عَلَى طَرِيقِهِ وَالنَّفْسَ وَأَمَانِيَّهُ الْكَاذِبَةَ أَعْوَانُهُ، فَإِنْ تَيَقَّظَ فِي مَسِيرِهِ وَأَخْلَصَ النِّيَّةَ فِي عَمَلِهِ أَمِنَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَيْدِهِ وَمِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ بِأَعْوَانِهِ، ثُمَّ أَرْشَدَ إِلَى أَنَّ سُلُوكَ طَرِيقِ الْآخِرَةِ صَعْبٌ، وَتَحْصِيلَ الْآخِرَةِ مُتَعَسِّرٌ لَا يَحْصُلُ بِأَدْنَى سَعْيٍ فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللهِ الْجَنَّةَ) يَعْنِي ثَمَنُهَا الْأَعْمَالُ الْبَاقِيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (الكهف: 46)، وَبِقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} (التوبة: 111). [باختصار من تحفة الأحوذي (6/ 242)].

حرف الجيم

حرف الجيم 1008 - جاءني جبريل فقال: «يا محمد إذا توضأت فانتضح». 1009 - جالِسوا الكبراء، وسَائِلوا العلماء، وخالِطوا الحكماء. 1010 - جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش؛ فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله، وإنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش. 1011 - جُبِلت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها. 1012 - جددوا إيمانكم»، قيل: «يا رسول الله وكيف نجدد إيماننا؟»، قال: «أكثروا من قول: لا إله إلا الله». 1013 - جزى الله العنكبوت عنّا خيرًا فإنها نسجت عليَّ في الغار. 1014 - جزى الله - عز وجل - العنكبوت عنّا خيرًا، فإنها نسجت عليَّ وعليك يا أبا بكر في الغار، حتى لم يرنا المشركون ولم يَصِلوا إلينا. 1015 - جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم. 1016 - جهاد الكبير والصغير والضعيف والمرأة الحج والعمرة (¬1). 1017 - جهد البلاء كثرة العيال مع قلة الشيء. 1018 - جهنم تحيط بالدنيا والجنة من ورائها فلذلك صار الصراط على جهنم طريقًا إلى الجنة. ¬

(¬1) عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟»، قَالَ: «نَعَمْ عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ: الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ». (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وعنها - رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟»، قَالَ: «لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ». (رواه البخاري).

حرف الحاء

حرف الحاء 1019 - حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة: 18). 1020 - حامل القرآن حامل راية الإسلام، مَن أكرمه فقد أكرم الله، ومن أهانه فعليه لعنة الله. 1021 - حامل كتاب الله تعالى له في بيت مال المسلمين في كل سنة مائتا دينار. 1022 - حب أبي بكر وشكره واجب على أمتي. 1023 - حب الدنيا رأس كل خطيئة. 1024 - حب العرب إيمان، وبغضهم نفاق. 1025 - حب الوطن قتال. 1026 - حب الوطن من الإيمان (¬1). 1027 - حب قريش إيمان، وبغضهم كفر، وحب العرب إيمان، وبغضهم كفر، ومَن أحب العرب فقد أحبني، ومن أبغض العرب فقد أبغضني. 1028 - حُبِّبَ إليَّ مِن دنياكم ثلاث»، رُوِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان مع أصحابه - رضي الله عنهم - وسألهم مبتدِاً بأبي بكر: «ماذا تحب من الدنيا؟»، فقال أبو بكر سدد خطاكم: ¬

(¬1) قال الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة (1/ 110) رقم 36:: «ومعناه غير مستقيم إذ إن حب الوطن كحب النفس والمال ونحوه، كل ذلك غريزي في الإنسان لا يمدح بحبه ولا هو من لوازم الإيمان، ألا ترى أن الناس كلهم مشتركون في هذا الحب لا فرق في ذلك بين مؤمنهم وكافرهم؟».

«أحب من الدنيا ثلاثًا: الجلوس بين يديك، والنظر إليك وإنفاق مالي عليك». فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وأنت يا عمر؟». قال: «أحب ثلاثًا: أمر بالمعروف ولو كان سرًا، ونهي عن المنكر ولو كان جهرًا، وقول الحق ولو كان مرًّا». فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وأنت يا عثمان؟»، قال: «أحب ثلاثًا: «إطعام الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام». فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وأنت يا علِيّ؟»، قال: «أحب ثلاثًا: إكرام الضيف، والصوم بالصيف، وضرب العدو بالسيف». ثم سأل أبا ذر الغفاري: «وأنت يا أبا ذر: ماذا تحب في الدنيا؟». قال أبو ذر: «أحب في الدنيا ثلاثًا: الجوع، والمرض، والموت». فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ولِمَ؟». فقال أبو ذر: «أحب الجوع ليَرِقَّ قلبي، وأحب المرض ليخِفَّ ذنبي، وأحب الموت لألقى ربي». فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حُبِّبَ إلى من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة». وحينئذ تنزل جبريل - عليه السلام - وأقرأهم السلام، وقال: «وانأ أحب من دنياكم ثلاث: تبليغ الرسالة، وأداء الأمانة، وحب المساكين». ثم صعد إلى السماء وتنزل مرة أخرى وقال: «الله - عز وجل - يقرِؤُكم السلام ويقول: «إنه يحب من دنياكم ثلاثًا: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا خاشعًا، وجسدًا على البلاء صابرًا» (¬1). 1029 - حببوا الله إلى الناس يحبِبْكم الله. 1030 - حببوا الله إلى عباده يحبّكم الله. ¬

(¬1) قد صَحّ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (رواه الإمام أحمد، والنسائي، وصححه الألباني). وليس فيه: حُبِّب (إلي من دنياكم ثلاث)؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَكَر اثنتين، وهما النساء والطيب. وأما الثالثة، وهي الصلاة فهي قُرّة عينه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وليست مِن أمْر الدنيا، بل هي مِن أمر الدِّين.

1031 - حبذا المتخللون بالوضوء، والمتخللون من الطعام، أما تخليل الوضوء فالمضمضة والاستنشاق وبين الأصابع، وأما تخليل الطعام فمن الطعام إنه ليس شيء أشد على الملكين من أن يريا بين أسنان صاحبهما طعام وهو قائم يصلي. 1032 - حبك الشيء يعمي ويصم. 1033 - حجوا تستغنوا (¬1) وسافروا تصحوا. 1034 - حَدُّ الجوار أربعون دارًا. 1035 - حدثني جبريل قال: «يقول الله تعالى: لا إله إلا الله حِصْني؛ فمن دخله أمِنَ عذابي». 1036 - حسب امرئ من البخل أن يقول: آخذ حقي كله، ولا أدع منه شيئًا. 1037 - حسبي الله ونعم الوكيل أمانٌ لكل خائف. 1038 - حسبي من سؤالي علمه بحالي (¬2). 1039 - حُسْنُ الخلق يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد. 1040 - حُسْنُ الشعر مال، وحسن الوجه مال، وحسن اللسان مال، والمال مال. 1041 - حُسْنُ الظن من حسن العبادة. ¬

(¬1) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ؛ فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (¬2) أورده بعضهم من قول إبراهيم - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهو من الإسرائيليات ولا أصل له في المرفوع، وقد ذكره البغوي في تفسير سورة الأنبياء مشيرا لضعفه فقال: رُوي عن كعب الأحبار: «أن إبراهيم - عليه السلام - ... لما رموا به في المنجنيق إلى النار استقبله جبريل فقال: «يا إبراهيم ألك حاجة؟»، قال: «أما إليك فلا»، قال جبريل: «فسَلْ ربك»، فقال إبراهيم: «حسبي من سؤالي علمه بحالي». (انظر السلسلة الضعيفة للألباني، رقم 21).

1042 - حسنات الأبرار سيئات المقربين (¬1). 1043 - حضر ملَك الموت رجلًا يموت فشق أعضاءه فلم يجده عمل خيرًا، ثم شق قلبه فلم يجد فيه خيرًا، ففك لحْيَيْه فوجد طرف لسانه لاصقًا بحنكه يقول: «لا إله إلا الله» فغُفِرَ له بكلمة الإخلاص (¬2). 1044 - حفظ الغلام الصغير كالنقش في الحجر، وحفظ الرجل بعدما يكبر كالكتاب على الماء. 1045 - حفظ الغلام كالنقش في حجر، وحفظ الرجل بعدما كبر ككتاب على الماء. 1046 - حفظ الغلام كالوسمة في الحجر، وحفظ الرجل بعدما كبر ككتاب على الماء. 1047 - حق الجار: إن مرض عدته، وإن مات شيعته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أعوز سترته، وإن أصاب خيرًا هنّأتَه، وإن أصابته مصيبة عزّيْتَه، ولا ترفع بناءك فوق بناءه فتسد عليه الريح، ولا تُؤْذِه بريح قدرك إلا أن تغرف له منها (¬3). ¬

(¬1) قال الألباني في (السلسلة الضعيفة، رقم 100): «إن معنى هذا القول غير صحيح عندي؛ لأن الحسنة لا يمكن أن تصير سيئة أبدًا مهما كانت منزلة مَن أتى بها، وإنما تختلف الأعمال باختلاف مرتبة الآتين بها إذا كانت من الأمور الجائزة التي لا توصف بحسن أو قبح، مثل الكذبات الثلاث التي أتى بها إبراهيم؛، فإنها جائزة لأنها كانت في سبيل الإصلاح، ومع ذلك فقد اعتبرها إبراهيم؛ سيئة، واعتذر بسببها عن أن يكون أهلًا لِأنْ يشفع في الناس - صلى الله عليه وعلى نبينا وسائر إخوانهما أجمعين. وأما اعتبار الحسنة التي هي قربة إلى الله تعالى سيئة بالنظر إلى أن الذي صدرت منه من المقربين، فمما لا يكاد يُعقل. (¬2) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلامِهِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» (رواه الحاكم، وحسنه الألباني). (¬3) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلاَمِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ أَبِي ذَرٍّ سدد خطاكم قَالَ: إِنَّ خَلِيلِي - صلى الله عليه وآله وسلم - أَوْصَانِي: «إِذَا طَبَخْتَ مَرَقًا فَأَكْثِرْ مَاءَهُ، ثُمَّ انْظُرْ أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانِكَ، فَأَصِبْهُمْ مِنْهَا بِمَعْرُوفٍ» (رواه مسلم). وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا طَبَخْتُمُ اللَّحْمَ، فَأَكْثِرُوا الْمَرَقَ أَوِ الْمَاءَ، فَإِنَّهُ أَوْسَعُ - أَوْ أَبْلَغُ - لِلْجِيرَانِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الأرنؤوط).

1048 - حق الجوار إلى أربعين دارًا، هكذا وهكذا وهكذا يمينًا وشمالًا وقدام وخلف. 1049 - حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويحسن أدبه. 1050 - حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية، وأن لا يرزقه إلا طيبًا. 1051 - حق الولد على والده أن يحسن اسمه، ويعلمه الكتاب، ويزوجه إن أدرك. 1052 - حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده. 1053 - حقيق بالمرء أن يكون له مجالس يخلو فيها ويذكر ذنوبه فيستغفر الله منها. 1054 - حَلَفَ اللهُ - عز وجل - بِعِزَّتِهِ وَقُوَّتِهِ، لاَ يَتركُ عَبدٌ لباسَ الحريرِ في الدُنيا، إلا ألبسَهُ اللهُ إيَّاهُ يَومَ القيامَةِ، في حَظيرَةِ القُدسِ (¬1). وَلا يَتركُ عَبدٌ لباسَ الذَّهبِ وَالفِضةِ وَهُوَ يَقدِرُ عَليهمَا، إلا ألبَسهُ اللهُ إيَّاهُما يَومَ القِيامَةِ في حَظِيرةِ القُدسِ. وَلا يَتركُ الخمرَ في الدنيا، إلا سَقَاهُ اللهُ إيَّاهُ يَومَ القيامةِ في حَظيرةِ القُدسِ» (¬2). 1055 - حلق القفا - من غير حجامة - مجوسية. 1056 - حمْلُ العصا علامة المؤمن وسنة الأنبياء. ¬

(¬1) حَظيرَةِ القُدسِ: الجنة. (¬2) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ» (رواه البخاري ومسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ» (متفق عليه)، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا للهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» (حسن رواه الترمذي). (مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ) أَيْ لُبْسَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ الْقِيمَةِ. (تَوَاضُعًا للهِ) أَيْ لَا لِيُقَالَ إِنَّهُ مُتَوَاضِعٌ أَوْ زَاهِدٌ وَنَحْوُهُ. (دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ) أَيْ يُشَهِّرُهُ وَيُنَادِيهِ. (مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ) أَيْ مِنْ أَيِّ حُلَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ.

1057 - حمل نوح معه في السفينة من جميع الشجر (¬1). 1058 - حياتي خير لكم؛ تُحَدِّثُونَ وَيُحَدِّثُ لَكُمْ، فإذا أنا متُّ كانت وفاتي خيرًا لكم؛ تعرض عليَّ أعمالكم (¬2) فإن رأيتُ خيرًا حمدتُ الله وإن رأيتُ شرًا استغفرتُ لكم. 1059 - حياتي خير لكم تُحَدِّثُونَ وَيُحَدِّثُ لَكُمْ، فإذا أنا مت كانت وفاتي خيرًا لكم، تُعْرضُ علي أعمالكم فإن رأيتُ خيرًا حمدتُ الله، وإن رأيتُ غير ذلك استغفرتُ الله لكم. 1060 - حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ؛ تُحَدِّثُونَ وَنُحَدِّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ؛ تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالُكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنَ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنَ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ. 1061 - حياتي خير لكم؛ تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم؛ تُعرَض عليَّ أعمالُكم فما كان من حَسَنٍ حمدتُ الله عليه، وما كان من سَيِّئٍ استغفرتُ الله لكم. 1062 - حياتي خير لكم ومماتي خير لكم. ¬

(¬1) قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (هود: 40). (¬2) وهذه الفقرة تخالف الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم أن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ، مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: «إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ»، فَأَقُولُ: «سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي». ورواه مسلم بلفظ: «أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: «أَلاَ هَلُمَّ». فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا». (أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ) مَعْنَاهُ: تَعَالَوْا. (سُحْقًا سُحْقًا) مَعْنَاهُ: بُعْدًا بُعْدًا. فلو كانت أعمال الأمة تُعرض على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لَعَلِمَ بما حدث بعده ولما قيل له: «إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ».

حرف الخاء

حرف الخاء 1063 - خُذْ ما تشاء من الدنيا، وخُذْ بقدره هَمًّا. 1064 - خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير»، رُوِيَ عن سفينة قال: «احتجم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم قال لي: «خذ هذا الدم فادفنه من الدواب والطير»، أو قال: «الناس والدواب». قال: فتغيّبْتُ به فشربته. ثم سألني فأخبرته أني شربته، فضحك. 1065 - خُذُوا شَطرَ دِينِكُم عَنْ هَذِهِ الحُميراء (¬1). 1066 - خذوا للرأس ماءً جديدًا. 1067 - خذوا من القرآن ما شئتم لما شئتم. 1068 - خذوا من عرض لحاكم، وأعفوا طولها. 1069 - خذوهم فقراء يُغْنِكم الله (¬2). ¬

(¬1) أي عائشة - رضي الله عنها -، و (الحُمَيْرَاء) تصغير (الحمراء) أي البيضاء. قال الذهبي: «وَالحَمْرَاءُ فِي خِطَابِ أَهْلِ الحِجَازِ: هِيَ البَيْضَاءُ بِشُقْرَةٍ وَهَذَا نَادِرٌ فِيْهِم». [سير أعلام النبلاء (3/ 447)]. تنبيه: ذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في فتح الباري (2/ 443) رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ عَنْ عائشة - رضي الله عنها - قالت: «دَخَلَ الْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا حُمَيْرَاءُ، أَتُحِبِّينَ أَنْ تَنْظُرِي إِلَيْهِمْ؟»، فَقُلْت: «نَعَمْ». ثم قال الحافظ: «إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَلَمْ أَرَ فِي حَدِيثٍ صَحِيحٍ ذِكْرَ الْحُمَيْرَاءِ إِلَّا فِي هَذَا». (¬2) قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)} (النور: 32)؛ قال الحافظ ابن كثير: «{الْأَيَامَى} جمع أيِّم، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها، وللرجل الذي لا زوجة له. وسواء كان قد تزوج ثم فارق، أو لم يتزوج واحد منهما،. . . يقال: رجل أيّم وامرأة أيّم أيضًا. وقوله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: «رغّبَهم الله في التزويج، وأمر به الأحرار والعبيد، ووعدهم عليه الغنى»، فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ... ثم نقل ابن كثير أن أبا بكر الصديق سدد خطاكم قال: ... = ... = «أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح، يُنْجِزْ لكم ما وعدكم من الغنى، قال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ... ونقل أن ابن مسعود سدد خطاكم قال: «التمسوا الغِنَى في النكاح»، يقول الله تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. وذكر ابن كثير حديث الترمذي وغيره عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفَافَ». (انظر تفسير الآية 32 من سورة النور. وهذا الحديث حسنه الألباني).

1070 - خرج من عندي خليلي جبريل آنفًا فقال: «يا محمد! والذي بعثك بالحق إن لله عبدا من عبيده عبد الله خمسمائة سنة على رأس جبل في البحر عرضه وطوله ثلاثون ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، والبحر محيط به أربعة آلاف فرسخ من كل ناحية، وأخرج الله تعالى له عينا عذبة بعرض الإصبع تبضّ بماء عذب فتستنقع في أسفل الجبل، وشجرة رمان تخرج له كل ليلة رمانة فتغذيه يومه فإذا أمسى نزل فأصاب من الوضوء وأخذ تلك الرمانة فأكلها ثم قام لصلاته، فسأل ربه - عز وجل - عند وقت الأجل أن يقبضه ساجدًا وأن لا يجعل للأرض ولا لشيء يفسده عليه سبيلًا حتى يبعثه الله وهو ساجد، ففعل، فنحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا عرجنا فنجد له في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله - عز وجل - فيقول له الرب: «أدْخِلوا عبدي الجنة برحمتي» فيقول: «بل بعملي»، فيقول الرب: «أدخلوا عبدي الجنة برحمتي»، فيقول: «بل بعملي»، فيقول الرب: «أدخلوا عبدي الجنة برحمتي»، فيقول: «يا رب بل بعملي»، فيقول الرب: «أدخلوا عبدي الجنة برحمتي»، فيقول: «رب بل بعملي»، فيقول الله - عز وجل - للملائكة: «قايسوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله»، فتوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائة سنة، وبقيت نعمة الجسد فضلًا عليه، فيقول: «أدخلوا عبدي النار»، فيجر إلى النار فينادي: «رب برحمتك أدخلني الجنة»، فيقول: «رُدُّوه»، فيوقف بين يديه فيقول: «يا عبدي مَن خلقَك ولم تَكُ شيئا؟»، فيقول: «أنت يا رب»، فيقول: «كان ذلك من قِبلك أو برحمتي؟»، فيقول: «بل برحمتك»، فيقول:

«من قَوّاك لعبادة خمسمائة عام؟»، فيقول: «أنت يا رب»، فيقول: «من أنزلك في جبل وسط اللجة وأخرج لك الماء العذب من الماء المالح، وأخرج لك كل ليلة رمانة وإنما تخرج مرة في السنة، وسألتني أن أقبضك ساجدًا ففعلت ذلك بك؟»، فيقول: «أنت يا رب»، فقال الله - عز وجل -: «فذلك برحمتي، وبرحمتي أدخلك الجنة، أدخلوا عبدي الجنة فنعم العبد كنت يا عبدي»، فيُدْخِله الله الجنة. قال جبريل - عليه السلام -: «إنما الأشياء برحمة الله تعالى يا محمد». 1071 - خروج الإمام يوم الجمعة للصلاة يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. 1072 - خشية لله رأس كل حكمة. 1073 - خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق. 1074 - خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومن لم يكونا فيه لم يكتبه الله لا شاكرًا ولا صابرًا: من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه (¬1) فحمد الله على ما فضَّله به عليه كتبه الله شاكرًا صابرًا، من نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه، فأسف على ما فاته منه لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا. ¬

(¬1) قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ وَالْخَلْقِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ مِمَّنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم). وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ» (رواه مسلم). مَعْنَى (أَجْدَر) أَحَقّ، و (تَزْدَرُوا) تُحَقِّرُوا. قَالَ اِبْن جَرِير وَغَيْره: «هَذَا حَدِيث جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْر؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا رَأَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَتْ نَفْسه مِثْل ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْده مِنْ نِعْمَة اللهُ تَعَالَى، وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَاد لِيَلْحَق بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبهُ. هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي غَالِب النَّاس. وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونه فِيهَا ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَة اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ، وَفَعَلَ فِيهِ الْخَيْر.

1075 - خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده (¬1) فقال: لها تكلمي فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} (المؤمنون: 1). 1076 - خُلُقان يحبهما الله وخُلُقان يبغضهما الله: فأما اللذان يحبهما الله فالسخاء والسماحة، وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله (¬2) على قضاء حوائج الناس. 1077 - خُلقت النخلة والرمان والعنب من فضل طينة آدم. 1078 - خللوا لحاكم وقصوا أظفاركم؛ فإن الشيطان يجري ما بين اللحم والظفر. 1079 - خمس تفطر الصائم وتنقض الوضوء: الكذب، والغيبة، والنميمة، والنظر بالشهوة، واليمين الفاجرة 1080 - خمس خصال يُفطرْنَ الصائم وينقضن الوضوء: الكذب والغيبة والنميمة والنظر بشهوة واليمين الكاذبة. ¬

(¬1) قَالَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ: «مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً»، قَالَ: «هُوَ رَجُلٌ يَجِىءُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فَيُقَالُ لَهُ: «ادْخُلِ الْجَنَّةَ». فَيَقُولُ: «أَىْ رَبِّ كَيْفَ وَقَدْ نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمْ»، فَيُقَالُ لَهُ: «أَتَرْضَى أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدُّنْيَا»، فَيَقُولُ: «رَضِيتُ رَبِّ». فَيَقُولُ: «لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ». فَقَالَ فِى الْخَامِسَةِ: «رَضِيتُ رَبِّ». فَيَقُولُ: «هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذَّتْ عَيْنُكَ». فَيَقُولُ: «رَضِيتُ رَبِّ». قَالَ: «رَبِّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟»، قَالَ: «أُولَئِكَ الَّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِى، وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ». (رواه مسلم). (¬2) عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ»، قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ؟»، قَالَ «يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ». (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني، والأرنؤوط).

1081 - خمسة كتبت على ساق عرش الرحمن: لا حيلة في الرزق، ولا شفاعة في الموت، ولا راحة في الدنيا، ولا راد لقضاء الله، ولا سلامة من ألسنة الناس (¬1). 1082 - خمس ليال لا ترد فيهن الدعوة: أول ليلة من رجب، وليلة النصف من شعبان، وليلة الجمعة، وليلة الفطر، وليلة النحر. 1083 - خمس من العبادة: النظر إلى المصحف، والنظر إلى الكعبة، والنظر إلى الوالدين، والنظر في زمزم - وهي تحط الخطايا - والنظر في وجه العالِم. 1084 - خيار أمتي أحِدّاؤُهُم الذين إذا غضبوا رجعوا. 1085 - خيار أمتي الذين يشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، الذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساءوا استغفروا، وشرار أمتي الذين ولدوا في النعيم وغُذّوا به، وإنما نهمتهم ألوان الطعام والثياب ويتشدقون في الكلام. 1086 - خيار أمتي علماؤها وخيار علمائها رحماؤها، ألا وإن الله يغفر للعالم أربعين ذنبًا قبل أن يغفر للجاهل ذنبًا واحدًا، ألا وإن العالم الرحيم يجيء يوم القيامة وإن نوره قد أضاء يمشي فيه بين المشرق والمغرب كما يضيء الكوكب الدري. 1087 - خيار أمتي في كل قرن خمسمائة، والأبدال أربعون، فلا الخمسمائة ينقصون، ولا الأربعون، كلما مات رجل أبدل الله - عز وجل - من الخمسمائة مكانه، وأدخل من الأربعين مكانه، قالوا: «يا رسول الله، دلنا على أعمالهم»، قال: «يعفون عمن ظلمهم، ويحسنون إلى من أساء إليهم، ويتواسون فيما آتاهم الله - عز وجل -» (¬2). ¬

(¬1) المعاني الواردة في الرواية معانٍ صحيحة، جاء ما يشهد لها من القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، ولكن ليس كل ما صح معناه جازت نسبته إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإلا جاز لكل شخص أن يكذب على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ويختلق الأحاديث عليه، ثم تكون حجته أن ما كذبه له شواهده من القرآن والسنة. (¬2) قال الألباني: «واعلم أن أحاديث الأبدال لا يصح منها شيء، وكلها معلولة، وبعضها أشد ضعفًا من بعض»، انظر (السلسلة الضعيفة، رقم 935).

1088 - خياركم من ذكركم بالله رؤيتُه (¬1)، وزاد في علمكم منطقُه، ورغّبَكم في الآخرة عملُه. 1089 - خير الأسماء ما عُبِّد وما حُمِّد. 1090 - خير الأصحاب صاحبٌ إذا ذكرت الله أعانك وإذا نسيت ذكرك. 1091 - خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَاطُهَا (¬2). 1092 - خير البر عاجله. 1093 - خير أمتي الذين إذا أساءوا استغفروا، وإذا أحسنوا استبشروا، وإذا سافروا قصروا وأفطروا. 1094 - خير بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين، بيت فيه يتيم يساء إليه. 1095 - خير خبر حين يُسمَع الغراب. 1096 - خُيِّر سليمان بين المال والملك والعلم فاختار العلم، فأعطي الملك والمال لاختياره العلم. 1097 - خير لهو المؤمن السباحة، وخير لهو المرأة المغزل. ¬

(¬1) عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِكُمْ وَشِرَارِكُمْ؟»، قَالُوا: «بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا ذُكِرَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَشِرَارُكُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ» (رواه البيهقي في شعب الإيمان، والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني). الباغون: جمع باغ وهم المتمنون، البرآء: جمع بريء وهو البعيد عن التهم، العنت: المشقة والفساد والهلاك والإثم والغلط والزنا والحديث يحتمل كلها. (¬2) أخرج البيهقي في (شعب الإيمان) عن مطرف قال: «خير الأمور أوسطها»، وإسناده صحيح موقوف. (انظر: السلسلة الضعيفة، رقم 7056).

1098 - خير نساء أمتي أصبحهن وجهًا وأقلهن مهرًا (¬1). 1099 - خير نسائكم العفيفة الغَلِمَة (¬2) عفيفة في فرجها، غَلِمَةٌ على زوجها. 1100 - خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة إذا وافق يوم جمعة، وهو أفضل من سبعين حجة في غيرها. 1101 - خيرة الله من الشهور شهر رجب، وهو شهر الله، مَن عظم شهر رجب فقد عظم أمر الله، ومن عظم أمر الله أدخله جنات النعيم وأوجب له، وشعبان شهري، فمن عظم شعبان فقد عظم أمري، ومن عظم أمري كنت له فرطًا وذُخرًا يوم القيامة، وشهر رمضان شهر أمتي، فمن عظم شهر رمضان، وعظم حرمته، ولم ينتهكه، وصام نهاره، وقام ليله، وحفظ جوارحه، خرج من رمضان وليس عليه ذنب يطلبه الله به. 1102 - خيركم من لم يترك آخرته لدنياه، ولا دنياه لآخرته، ولم يكن كلًّا على الناس. ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرُ رَحِمِهَا». (رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه الألباني). (إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ) أي بركتها (تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا) بالكسر أي سهولة سؤال الخاطب أولياءها نكاحها وإجابتهم بسهولة من غير توقف (وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا) أي عدم التشديد في تكثير مهرها ووجدانه بيد الخاطب من غير كَدٍّ في تحصيله (وَتَيْسِيرُ رَحِمِهَا) أي للولادة بأن تكون سريعة الحمل كثيرة النسل. (¬2) الغُلْمَة: شهوة النِّكاح من الرجال والنساء، وهو غَلِمٌ، وهي غَلِمَةٌ.

حرف الدال

حرف الدال 1103 - دَارِهِمْ مَا دُمْتَ فِي دَارِهِمْ، وأَرْضِهِمْ مَا دُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ. 1104 - دخلتُ الجنة فإذا أكثر أهلها البُلْهُ. 1105 - دخلتُ الجنة فرأيتُ في عارضتَيْ الجنة مكتوبًا ثلاثة أسطر بالذهب: السطر الأول: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، والسطر الثاني: «ما قدمنا وجدنا، وما أكلنا ربحنا، وما خلفنا خسرنا»، والسطر الثالث: «أمة مذنبة ورب غفور». 1106 - دخلْتُ الجنة فسمعْتُ فيها خشفة بين يَدَيّ فقلت: «ما هذا؟»، قال: «بلال» (¬1) فمضيتُ فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين وذرارِي المسلمين، ولم أرَ أحدًا أقل من الأغنياء والنساء (¬2). قيل لي: «أما الأغنياء فهم ههنا بالباب يحاسَبُون ويُمَحَّصُون (¬3). وأما النساء فألهاهن الأحمران: الذهب والحرير». ثم خرجنا من أحد ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ خَشْفَةً بَيْنَ يَدَيَّ، فَقُلْتُ: «مَا هَذِهِ الْخَشْفَةُ؟»، فَقِيلَ: هَذَا بِلالٌ يَمْشِي أَمَامَكَ» (رواه الطبراني في الْمُعْجَمُ الصَّغِيْرُ، وصححه الألباني). خَشَفة: - بفتح الخاء، وبسكون الشين أو فتحها -: الصوت والحركة. (¬2) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا الْمَسَاكِينُ، وَإِذَا أَصْحَابُ الْجَدِّ مَحْبُوسُونَ إِلاَّ أَصْحَابَ النَّارِ فَقَدْ أُمِرَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، وَقُمْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ فَإِذَا عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا النِّسَاءُ». (رواه مسلم). الجَدّ: الحظ والسعادة والغِنَى. وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اطّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا النّسَاءَ، وَاطّلَعْتُ فِي الْجَنّةِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا الْفُقَرَاءَ» (رواه ابن حبان، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح»). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أطْفَالُ المُسْلِمِينَ فِي جَبَلٍ فِي الْجَنّةِ يَكْفُلُهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَّةُ حَتَّى يَدْفَعُونَهُمْ إِلَى آبَائِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَة». (رواه ابن عساكر وغيره، وصححه الألباني). (¬3) يُمَحَّصون: أي يخلَّصون من ذنوبهم، ويطهرون منها.

أبواب الجنة الثمانية فلما كنت عند الباب أتيت بكِفّة فوُضِعْتُ فيها ووُضِعَتْ أمتي في كِفّة فرجَحْتُ بها، ثم أتي بأبي بكر فوُضِعَ في كِفّة وجِيء بجميع أمتي في كِفّة فوُضِعُوا فرجح أبو بكر، وجيء بعمر فوضع في كفة وجيء بجميع أمتي فوضعوا فرجح عمر (¬1). وعُرِضَتْ أمتي رجلًا رجلًا فجعلوا يمرون فاستبطأتُ عبد الرحمن بن عوف، ثم جاء بعد الإياس فقلت: «عبد الرحمن فقال: «بأبي وأمي يا رسول الله، والذي بعثك بالحق ما خلصتُ إليك حتى ظننتُ أني لا أنظر إليك أبدًا إلا بعد المُشَيِّبَات» (¬2)، قال: «وما ذاك؟»، قال: «مِن كَثْرة مالي أحاسَبُ وأمَحَّصُ» (¬3). ¬

(¬1) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: «أَنَا، رَأَيْتُ كَأَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَكْرٍ فَرَجَحْتَ أَنْتَ بِأَبِي بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَحَ عُمَرُ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ»، فَرَأَيْنَا الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وعَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ رَجُلٍ، مِنْ قَوْمِهِ قَالَ: كَانَ يَقُولُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: «لَا يَمُوتُ عُثْمَانُ حَتَّى يُسْتَخْلَفَ»، قُلْنَا: «مِنْ أَيْنَ تَعْلَمُ ذَلِكَ؟»، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ أَصْحَابِي وُزِنُوا، فَوُزِنَ أَبُو بَكْرٍ فَوَزَنَ، ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ فَوَزَنَ، ثُمَّ وُزِنَ عُثْمَانُ فَنَقَصَ صَاحِبُنَا، وَهُوَ صَالِحٌ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين، وجهالة الصحابي لا تضر. . . وليس فيه أنهم وُزِنوا بالأمة». قال السندي: «ولعل تخصيص الثلاثة لأن عليًّا - رضي الله تعالى عنه - ما تقرر له الأمر كما تقرر للثلاثة. (فَوَزَنَ) أي: رجح في الوزن. (فنَقَصَ) أي: في الوزن، لكن لا نقصانًا يخل في الصلاح، وإليه أشار بقوله: «وَهُوَ صَالِحٌ». (¬2) المُشَيِّبات: اسم فاعل من شَيَّبَه، أي: بعد العوارض التي تجعل الشابَّ شيخًا. (¬3) إن عبد الرحمن بن عوف سدد خطاكم قد شهد له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجنة دون ذكر التأخير أو الدخول زحفًا. قال ابن حجر الهيتمي: «ومما يدلك على ضعف هذا أن عبد الرحمن بن عوف أحد أصحاب بدر والحديبية وأحد العشرة وهم أفضل الصحابة» [مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (8/ 359). وقال ابن الجوزي: «أفَتُرَى مَن يسبق إذا حَبَا عبد الرحمن بن عوف، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل بدر المغفور لهم، ومن أصحاب الشورى؟».

1107 - دُرْ مع الطريق ولو دارت، وخُذ بنت الكرام البِكْر ولو بارت (¬1). 1108 - دعاء المرء على حبيبه غير مقبول. 1109 - دعاء الوالد لولده مثل دعاء النبي لأمته 1110 - دَعُوا الدنيا لأهلها، دَعُوا الدنيا لأهلها، مَن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر. 1111 - دَعُوه يَئِنّ»، رُوِيَ عن عائشة أنها قالت: دخل علينا رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وعندنا عليلٌ يَئِنّ، فقلنا له: «اسكت فقد جاء رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دعوه يَئِنّ؛ فإن الأنين اسم من أسماء الله يستريح إليه العليل». 1112 - دية الذمي دية المسلم. 1113 - دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له. ¬

(¬1) عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله - رضي الله عنهما - قَالَ: «تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً فِى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَلَقِيتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا جَابِرُ تَزَوَّجْتَ؟». قُلْتُ: «نَعَمْ». قَالَ «بِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ». قُلْتُ: «ثَيِّبٌ». قَالَ «فَهَلاَّ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا». قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِى أَخَوَاتٍ فَخَشِيتُ أَنْ تَدْخُلَ بَيْنِى وَبَيْنَهُنَّ». قَالَ «فَذَاكَ إِذًا، إِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكَحُ عَلَى دِينِهَا وَمَالِهَا وَجَمَالِهَا فَعَلَيْكَ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». (رواه البخاري ومسلم).

حرف الذال

حرف الذال 1114 - ذاكرُ الله خاليًا كمبارزة إلى الكفار من بين الصفوف خاليًا. 1115 - ذاكرُ الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الفارّين. 1116 - ذاكرُ الله في الغافلين مثل الذي يقاتل عن الفارّين، وذاكر الله في الغافلين كالمصباح في البيت المظلم، وذاكر الله في الغافلين كمثل الشجرة الخضراء في وسط الشجر الذي قد تَحَاتّ من الصريد (¬1)، وذاكر الله في الغافلين يُعَرّفُه الله مقعده من الجنة، وذاكر الله في الغافلين يغفر الله له بعدد كل فصيح وأعجم. 1117 - ذِكْرُ الأنبياء من العبادة، وذِكْرُ الصالحين كفارة، وذِكْرُ الموت صدقة، وذِكْرُ القبر يقَرّبكم من الجنة. 1118 - ذِكْرُ الله شفاء القلوب (¬2). 1119 - ذنب العالم ذنب واحد، وذنب الجاهل ذنبان. 1120 - ذنب عظيم لا يسأل الناس الله المغفرة منه: حب الدنيا. 1121 - ذهب الناس وبقي النسناس»، قيل: «فما النسناس؟»، قال: «يشبهون الناس، وليسوا بناس». 1122 - ذهبتُ لقبر أمي آمنة فسألت الله أن يُحْيِيها فأحْياها فآمنَتْ بي»، رُوِيَ عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «حج بنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حجة الوداع فمر بي على عقبة الحجون وهو باكٍ حزينٌ مُغْتَمّ. فبكيت لبكاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثم إنه نزل فقال: يا حميراء ¬

(¬1) تحَاتّ: أي تساقط ورقه، الصريد: البَرْدُ. (¬2) قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} (الرعد: 28).

استمسكى فاستندتُ إلى جنب البعير فمكث عنى طويلًا، ثم إنه عاد إليَّ وهو فَرِحٌ مبتسم، فقلت له: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، نزلتَ مِن عندي وأنت باكٍ حزينٌ مُغْتَمٌ فبكيتُ لبكائك، ثم إنك عُدْتَ إليَّ وأنت فَرِحٌ مبتسمٌ، فَعَمَّ ذا يا رسول الله؟»، فقال: «ذهبتُ لقبر أمي آمنة فسألت الله أن يُحْيِيها، فأحْياها فآمنَتْ بي ورَدَّها الله - عز وجل -» (¬1). 1123 - ذو الدرهمين أشدّ حسابًا مِن ذي الدرهم، وذو الدينارين أشدّ حسابًا من ذي الدينار. 1124 - ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار (¬2). ¬

(¬1) ومِثْل ذلك في عدم الصحة قصة أولاد جابر وهي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نزل ضيفًا عند جابر وأن أحد أولاده قتل الآخر وفَرّ هاربًا فوقع في التنور فمات الآخر، وأن زوجة جابر أخفَتْ الأمر حتى فرغ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من طعامه ثم أحضرت الولدَيْن مَيِّتَيْن فدعا لهما النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقاما حَيَّيْن. وكذلك ما ورد مِن أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أحيا ولدًا لرجل من الأنصار كان قد دَبّ من سطح بيته. (¬2) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنْ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِى يَأْتِى هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ». (رواه البخاري ومسلم).

حرف الراء

حرف الراء 1125 - رأيت فيها (¬1) ملائكة يبنون لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وربما أمسكوا، فقلت لهم: «مالكم ربما بنَيْتُم وربما أمسكتم»، فقالوا: «حتى تجيئنا النفقة»، فقلت: «وما نفقتكم؟»، فقالوا: «قول المؤمن في الدنيا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فإذا قال بنينا وإذا امسك أمسَكْنَا». 1126 - رأس الحكمة مخافة الله تعالى. 1127 - رأس الدِين الورع. 1128 - رأس العقل المداراة، وأهل المعروف في الدنيا أهل المعروف في الآخرة. 1129 - رأس العقل بعد الإيمان بالله التحبُّب إلى الناس. 1130 - رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس، وأهل التودد في الدنيا لهم درجة في الجنة، ومن كانت له في الجنة درجة فهو في الجنة، ونصف العلم حسن المسألة، والاقتصاد في المعشية نصف العيش تُبقِى نصف النفقة، وركعتان من رجل ورِع أفضل من ألف ركعة من مخَلّط، وما تم دين إنسان قط حتى يتم عقله. 1131 - رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس، وما يستغني رجل عن مشورة، وإن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وإن أهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة. 1132 - رأس العقل بعد الإيمان بالله الحياء وحسن الخلق. ¬

(¬1) لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت فيها قيعان تفق.

1133 - رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. . .»، رُوِيَ عَنْ كَثِيرِ بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بِحِذَائِهِ فِى حَاشِيَةِ الْمَقَامِ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطُّوَّافِ أَحَدٌ». 1134 - رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. . .»، رُوِيَ عن كَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ عَمَّنْ، سَمِعَ جَدَّهُ يَقُولُ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصَلِّي مِمَّا يَلِي بَابَ بَنِي سَهْمٍ، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ سُتْرَةٌ». 1135 - رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا»، رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بن مَالِكٍ سدد خطاكم، قَالَ: بَيْنَمَا عَائِشَةُ - رضي الله عنها - فِي بَيْتِهَا، إِذْ سَمِعَتْ صَوْتًا رُجَّتْ مِنْهُ الْمَدِينَةُ، فَقَالَتْ: «مَا هَذَا؟»، فَقَالُوا: «عِيرٌ قَدِمَتْ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ مِنَ الشَّامِ، وَكَانَتْ سَبْعَمِائَةِ رَاحِلَةٍ»، فَقَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: «أَمَا إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «رَأَيْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَبْوًا»، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَتَاهَا فَسَأَلَهَا عَمَّا بَلَغَهُ، فَحَدَّثَتْهُ، قَالَ: «فَإِنِّي أُشْهِدُكِ أَنَّهَا بِأَحْمَالِها وَأَقْتَابِهَا، وَأَحْلاسِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ» (¬1). 1136 - رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ»، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَاتَ غَدَاةٍ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «رَأَيْتُ قُبَيْلَ الْفَجْرِ كَأَنِّي أُعْطِيتُ الْمَقَالِيدَ وَالْمَوَازِينَ، فَأَمَّا الْمَقَالِيدُ: فَهَذِهِ الْمَفَاتِيحُ، وَأَمَّا الْمَوَازِينُ: فَهَذِهِ الَّتِي تَزِنُونَ بِهَا، فَوُضِعْتُ فِي كِفَّةٍ، وَوُضِعَتْ أُمَّتِي فِي كِفَّةٍ، فَوُزِنْتُ ¬

(¬1) إن عبد الرحمن بن عوف سدد خطاكم قد شهد له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجنة دون ذِكْر التأخير أو الدخول زحفًا. قال ابن الجوزي: «أفَتُرَى مَن يسبق إذا حَبَا عبد الرحمن بن عوف، وهو من العشرة المشهود لهم بالجنة، ومن أهل بدر المغفور لهم، ومن أصحاب الشورى؟».

بِهِمْ فَرَجَحْتُ، ثُمَّ جِيءَ بِأَبِي بَكْرٍ فَوُزِنَ بِهِمْ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُمَرَ فَوُزِنَ فَوَزَنَ، ثُمَّ جِيءَ بِعُثْمَانَ فَوُزِنَ بِهِمْ ثُمَّ رُفِعَتْ» (¬1). 1137 - رأيتُ ليلة أسري بي حول العرش فريدة (¬2) خضراء مكتوب فيها بقلم من نور أبيض: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أبو بكر الصديق. 1138 - رُبَّ طاعم شاكر أعظمُ أجرًا من صائم صابر. 1139 - رُبَّ عابد جاهل ورُبَّ عالم فاجر، فاحذروا الجُهَّال مِن العُبَّاد والفُجَّار من العلماء؛ فإن ذلك فتنة الفتناء. 1140 - رُبَّ قارئ للقرآن والقرآن يلعَنُه. 1141 - ربنا الله الذي في السماء»، رُوِيَ عن أبي الدَّرداء سدد خطاكم أنه أتاه رجُلٌ فذكر له أنه احتبس بوله فأصابته حصاة البول، فعلمه رقية سمعها من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ربُنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء، فاجعل رحمتك في الأرض واغفر لنا حوبتنا (¬3) وخطايانا، أنت ربُّ الطيبين، فأنْزِلْ شفاءً من شفائك ورحمة من رحمتك على هذا الوجع فيبرأ»، وأمره أن يرقيه بها فرقاه فبرأ. 1142 - ربيع أمتي العنب والبطيخ. 1143 - رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي. ¬

(¬1) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ رُؤْيَا؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: «أَنَا، رَأَيْتُ كَأَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ فَوُزِنْتَ أَنْتَ وَأَبُو بَكْرٍ فَرَجَحْتَ أَنْتَ بِأَبِي بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ، فَرَجَحَ أَبُو بَكْرٍ، وَوُزِنَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَحَ عُمَرُ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ»، فَرَأَيْنَا الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (¬2) فريدة: 1 - جوهرة نفيسة. 2 - حبَّة من فضَّة وغيرها تفصل بين حبَّات الذَّهب أو اللُّؤلؤ في العِقد. (¬3) حَوْبَة: إثم.

1144 - رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس (¬1). 1145 - رَجُلانِ جَثَيا بَينَ يَدَي رَبِّ العِزةِ U، فَقَالَ أحَدُهُمَا: خُذ لي بِمَظلمَتي مِنْ أخِي! فَقَالَ - عز وجل - لِلطَالبِ: «كَيفَ تَصنَعُ بِأخيكَ، وَلَم يَبقَ مِنْ حَسنَاتِهِ شيءٌ؟!»، قَالَ: «يَا رَبِّ، فَيَحملُ مِنْ أوزاري». فَفَاضَتْ عَينَا رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِالبُكاءِ ثُمَّ قَالَ: «إنَّ ذَلكَ لَيَومٌ عَظيمٌ، يَحتَاجُ فِيهِ النَّاسُ إلى مَنْ يَحمِلُ عَنهُمْ أوزَارَهُم». فَقَالَ اللهُ - عز وجل - لِلطالِبِ: «ارْفَعْ بَصَرَكَ، فانْظُر في الجِنَانِ». فَرَفَعَ رَأسَهُ فَقَالَ: «أرَى مَدَائِنَ مِنْ فِضةٍ، وَقُصورًا مِنْ ذَهَبٍ، مُكَلَّلةً بِاللُؤلُؤ، لأيِّ نَبِيٍّ هَذَا؟!، لأيِّ صِدِّيقٍ هَذَا؟! لأيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟!»، قَالَ: «لِمَنْ أعطَاني الثَّمَنَ»، قَالَ: «يَا رَبِّ، وَمَنْ يَملِكُ الثَّمَنَ؟»، قَالَ: «أنتَ تَملِكُ». قَالَ: «بِمَ؟»، قَالَ: «بِعَفوكَ عَنْ أَخيكَ». قَالَ: «يَا رَبِّ، قَدْ عَفَوتُ عَنهُ». فَيَقُولُ: «خُذْ بِيَدِ أَخِيكَ، وَأدخِلهُ الجَنَّةَ». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَاتَّقُوا اللهَ، وأَصلِحُوا ذاتَ بَينِكُمْ فإنَّ اللهَ يُصلِحُ بَينَ المُؤمِنينَ يَومَ القِيامَةِ». 1146 - رحم الله أبا بكر؛ زَوَّجَني ابنَتَه، وحملني إلى دار الهجرة، وأعتق بلالًا من ماله. رحم الله عمر؛ يقول الحق وإن كان مرًّا، تَرَكَه الحق وما لَهُ صديق. رحم الله عثمان؛ تستحييه الملائكة، رحم الله عليا، اللهم أدِرْ الحق معه حيث دار. 1147 - رحم الله أبا ذر؛ يمشي وحده، ويموت وحده، ويُبعث وحده. 1148 - رحم الله أخي الخضر لو كان حيا لَزَارَني (¬2). ¬

(¬1) قال الألباني في السلسلة الضعيفة (5/ 481): «والحديث قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوي 11/ 197): «لا أصل له، ولم يَرْوِه أحد من أهل المعرفة بأقوال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأفعاله، وجهاد الكفار من أعظم الأعمال، بل هو أفضل ما تطوع به الإنسان .. ». ثم ذكر بعض الآيات والأحاديث الدالة على أنه من أفضل الأعمال، فكأنه - رحمه الله - يشير بذلك إلى استنكار تسميته بالجهاد الأصغر. (¬2) قال ابن حجر: «لا يثبت مرفوعًا، وإنما هو من كلام بعض السلف ممن أنكر حياة الخَضِر - عليه السلام -».

1149 - رحم الله أخي يحيى حين دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صغير، فقال: «ألِلّعب خُلقنا؟»، فكيف بمن أدرك الحنث من مقاله. 1150 - رحم الله أخي يوسف لو لم يقل: «اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ» (يوسف: 55) لَاسْتَعْمَلَه مِن سَاعَتِه، ولكنه أخِّرَ لذلك سنةً. 1151 - رحم الله المتسرولات من النساء. 1152 - رحم الله امرءً اكتسب طيبًا، وأنفق قصدًا، وقدم فضلًا ليوم فقره وحاجته. 1153 - رحم الله امرءً عرف قدر نفسه. 1154 - رحم الله امرءً عَلَّقَ في بيته سوطًا يؤدب به أهله. 1155 - رحم الله بلالًا. . .»، رُوِيَ عن علي بن أبي طالب قال: دخل علقمة بن علاثة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فدعا له برأس، وجعل يأكل معه، فجاءه بلال فدعاه إلى الصلاة فلم يُجِبْ فرجع فمكث في المسجد ما شاء الله ثم رجع، فقال: «يا رسول الله، قد والله أصبحت»، فقال: رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رحم الله بلالًا، لولا بلال لرجونا أن يُرَخَّص لنا ما بيننا وبين طلوع الشمس». فقال علي سدد خطاكم: «لولا أن بلالًا حلف لَأكَل رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يقول له جبريل: «ارفع يديك». 1156 - رحم الله قومًا يحسبهم الناس مَرضَى، وما هم بمرضَى. 1157 - رحم الله من زارني وزمام ناقته بيده. 1158 - رحمكِ الله يا أمي، كنتِ أمّي بعد أمي»، رُوِيَ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «لما ماتت فاطمة بنت أسد أم عليٍّ - رضي الله عنها - دخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فجلس عند رأسها فقال: «رحمكِ الله يا أمي، كنتِ أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيننى، وتعرين وتكسيننى، وتمنعين نفسك طيبًا وتطعميننى، تريدين بذلك وجه الله والدار الأخرة»، ثم أمر أن تغسل ثلاثًا ثلاثًا، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله بيده، ثم

خلع رسول الله قميصه فألبسها إياه وكفنها ببُرد (¬1) فوقه، ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلامًا أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بيده وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاضطجع فيه (¬2) وقال: «الله الذي يحيى ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقِّنْها حُجَّتها ووَسِّعْ عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي (¬3)؛ فإنك أرحم الراحمين» وكبَّر عليها أربعًا وأدخَلَها اللحد هو والعباس وأبو بكر - رضي الله عنهما -. 1159 - رحمةُ الله عليك إن كنتَ ما علِمْتُ لوَصولًا للرحم فَعولًا للخيرات»، رُوِيَ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقف على حمزة بن عبد المطلب حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه، أو أوجع لقلبه منه، ونظر إليه وقد مُثِّلَ به فقال: «رحمةُ الله عليك إن كنتَ ما علِمْتُ لوَصولًا للرحم فَعولًا للخيرات، والله لولا حزنُ مَن بعدك عليكَ لَسَرَّني أن أترككَ حتى يحشرك الله من بطون السباع، أما والله على ذلك لأمَثّلَنّ بسبعين كمُثْلَتِكَ (¬4) فنزل جبريل؛ على محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بهذه ¬

(¬1) بُرْدَة: كساء يُلْتَحف به كالعباءة، والجمع: بُرُدات وبُرْدات وبُرْد وبُرَد. (¬2) استنتج أحد الجهال من أعداء الإسلام المتحاملين عليه - من هذه اللفظة في هذا الحديث الضعيف - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اضطجع مع زوجة عمه في القبر، مع أن هذا الجاهل لو أكمل القراءة لَعلم أن ذلك الاضطجاع كان قبل إدخالها اللحد. ولو بحث هذا الجاهل بشيء من التجرد لَعَلِمَ أن هذا الحديث لا يصح الاستدلال به لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (¬3) وقد احتج مَن احتج بهذا الحديث الضعيف على جواز التوسل بالذوات، ولكن هيهات. (¬4) مُثْلَة: تنكيل بجدع الأنف أو قطع الأذن.

السورة وقرأ: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} (النحل: 126) إلى آخر الآية فكفَّر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعني عن يمينه - وأمسك عن ذلك» (¬1). 1160 - رَدُّ جواب الكتاب حق كرَدِّ السلام. 1161 - رسول المرء دال على عقله. 1162 - رضى الناس غاية لا تُدْرَك. 1163 - ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بغير سواك، ودعوة في السر أفضل من سبعين دعوة في العلانية، وصدقة في السر أفضل من سبعين صدقة في العلانية. 1164 - ركعتان بعمامة خير من سبعين ركعة بلا عمامة. 1165 - ركعتان من المتزوج أفضل من سبعين ركعة من الأعزب. 1166 - ركعتان من رجل وَرِعٍ أفضل من ألف ركعة من مُخَلّط. 1167 - ركعتان من عالم أفضل من سبعين ركعة من غير عالم. ¬

(¬1) قال الألباني: «وقد ثبت بعضه مختصرًا من طرق أخرى فأخرج الحاكم عن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مَرَّ بحمزة يوم أحد وَقَدْ جُدِعَ وَمُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: «لَوْلا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ تَرَكْتُهُ حَتَّى يَحْشُرَهُ اللهُ مِنْ بُطُونِ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ»، فَكَفَّنَهُ فِي نَمِرَةٍ». وقال: «صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. وسبب نزول الآية السابقة في هذه الحادثة صحيح فقد قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: «لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أُصِيبَ مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ فِيهِمْ حَمْزَةُ، فَمَثَّلُوا بِهِمْ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: «لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِثْلَ هَذَا لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ»، قَالَ: «فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)} (النحل: 126)، فَقَالَ رَجُلٌ: «لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُفُّوا عَنْ الْقَوْمِ إِلَّا أَرْبَعَةً» (رواه الترمذي، والحاكم، وحسنه الترمذي، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد»، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا». [باختصار من: السلسلة الضعيفة، رقم 550].

1168 - ركعتان يركعهما ابن آدم في جوف الليل الآخر خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أن أشق على أمتي لفرضتهما عليهم. 1169 - رمضان بالمدينة خير من ألف رمضان فيما سواها من البلدان، وجمعة بالمدينة خير من ألف جمعة فيما سواها من البلدان. 1170 - رمضان بمكة أفضل من ألف رمضان بغير مكة. 1171 - رَوّحُوا القلوب ساعه فساعة. 1172 - رِيحُ الولد مِن ريح الجنة. 1173 - ريقُ المؤمن شفاء.

حرف الزاي

حرف الزاي 1174 - زُر القبور تَذَكّر بها الآخرة (¬1) واغسل الموتى فإن معالجة جسد خاو موعظة بليغة، وصَلّ على الجنائز لعل ذلك يحزنك؛ فإن الحزين في ظل الله يوم القيامة يتعرض لكل خير. 1175 - زكاة الحُلي عاريته. 1176 - زِنْ وأرجح»، رُوِيَ عن أبي هريرة سدد خطاكم قال: «دخلت يومًا السوق مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فجلس إلى البزازين (¬2)، فاشترى سراويل بأربعة دراهم وكان لأهل السوق وَزّانٌ يَزِنُ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «زِنْ وأرْجِحْ»، فقال الوَزّان: «إن هذه لَكلمةٌ ما سمِعْتُها مِن أحد»، فقال أبو هريرة: فقلت له: «كفى بك من الرهق والجفاء في دينك أن لا تعرف نبيَّك»، فطرح الميزان، ووثب إلى يد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يريد أن يقَبّلها، فحذف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يده منه، فقال: «ما هذا؟ إنما يفعل هذا الأعاجم بملوكها، ولست بملك، إنما أنا رجل منكم»، فوزن وأرجح وأخذ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - السراويل. ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمِ الْآخِرَةَ». (رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي وغيرهما، وصححه الألباني، ورواه مسلم بلفظ: «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا». (¬2) البزَّاز: بائع الثياب والأقمشة.

1177 - زِنِي شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة (¬1) وأعطي القابلة رجل العقيقة»، رُوِيَ عن علي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر فاطمة - رضي الله عنها -، فقال: «زِنِي شعر الحسين وتصدقي بوزنه فضة وأعطي القابلة رِجْلَ العقيقة». 1178 - زوّجوا الأكفاء وتزوجوا الأكفاء واختاروا لنُطَفِكُم (¬2) وإياكم والزنْج فإنه خَلْقٌ مشوّه. ¬

(¬1) عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «كُلُّ غُلَامٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى» (رواه أبو داود وصححه الألباني). وعَنْ أَبِي رَافِعٍ سدد خطاكم قَالَ: «لَمَّا وَلَدَتْ فَاطِمَةُ - رضي الله عنها - حَسَنًا قَالَتْ: «أَلَا أَعُقُّ عَنْ ابْنِي بِدَمٍ؟»، قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِوَزْنِ شَعْرِهِ مِنْ فِضَّةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْأَوْفَاضِ». وَكَانَ الْأَوْفَاضُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مُحْتَاجِينَ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ فِي الصُّفَّةِ. فَفَعَلْتُ ذَلِكَ، قَالَتْ: «فَلَمَّا وَلَدْتُ حُسَيْنًا فَعَلْتُ مِثْلَ ذَلِكَ» [(رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني في الإرواء (4/ 402 - 403)]. قال السندي: قوله: «الْأَوْفَاضُ» قيل: هم الفرق والأخلاط من الناس، وقد جاءت العقيقة عنهما، فلَعَلّه قصد - صلى الله عليه وآله وسلم - أولًا الاقتصار على ذلك لعدم تيسُّر الثمن، ثم حين تيسّر عقَّ، والله أعلم». قال الحافظ في [التلخيص الحبير (4/ 366 - 367)]: «الرِّوَايَاتُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ عَلَى ذِكْرِ التَّصَدُّقِ بِالْفِضَّةِ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ذِكْرُ الذَّهَبِ». فائدة: قال الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله -: «السنة حلق رأس الطفل الذَّكَر عند تسميته في اليوم السابع فقط، أما الأنثى فلا يحلق رأسها؛ لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ غُلَامٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ، وَيُمَاطُ عَنْهُ الْأَذَى، وَيُسَمَّى» خرجه الإمام أحمد، وأصحاب السنن الأربع بإسناد حسن». (فتاوى ابن باز 10/ 48). (¬2) صَحّ بلفظ: «تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ وَانْكِحُوا الأَكْفَاءَ وَأَنْكِحُوا إِلَيْهِمْ». (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

1179 - زيِّنوا أعيادكم بالتكبير (¬1). 1180 - زيِّنوا العيدَيْن بالتهليل والتكبير والتحميد والتقديس. ¬

(¬1) من سنن العيدين كثرة الذكر بالتكبير والتهليل لقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185)، ويجهر به الرجال في البيوت والمساجد والأسواق، ويُسِرُّ به النساء. وأما صيغة التكبير فأصح ما ورد فيها عن الصحابة: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» و «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد»، و «الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر كبيرًا». [انظر: فتح الباري لابن حجر (2/ 462)، فقه السنة (1/ 326 - 327)، إرواء الغليل (3/ 125 - 126).

حرف السين

حرف السين 1181 - سأحدثكم بأمور الناس وأخلاقهم: الرجل يكون سريع الغضب سريع الفَيْء فلا له ولا عليه كفافًا، والرجل يكون بعيد الغضب سريع الفيء فذاك له ولا عليه، والرجل يقتضي الذي له ويقضي الذي عليه فذاك لا له ولا عليه، والرجل يقتضي الذي له ويمطل الناس الذي عليه فذاك عليه ولا له (¬1). 1182 - ساعةٌ من عالم متكئ على فراشه ينظر في عِلمه خير من عبادة العابد سبعين عامًا. 1183 - سافِرُوا تَصِحُّوا، واغْزُوا تَسْتَغْنُوا. 1184 - سافروا تَصِحُّوا، وتُرْزَقُوا. 1185 - سُؤْرُ المؤمنِ شِفَاء. 1186 - سألْتُ الله أن يجعل حساب أمتي إليَّ لئلا تفتضح عند الأمم، فأوحى الله إليَّ: «يا محمد بل أنا أحاسبهم؛ فإن كان منهم زلة سترْتُها عنك لئلا تفتضح عندك». 1187 - سألْتُ الله في أبناء الأربعين من أمتي فقال: «يا محمد قد غفرْتُ لهم»، قلت: «فأبناء الخمسين؟»، قال: «إني قد غفرت لهم»، قلت: «فأبناء الستين؟»، قال: «قد غفرْتُ لهم»، قلت: «فأبناء السبعين؟»، قال: «يا محمد إني لَأَسْتَحْيِي مِن ¬

(¬1) (أخلاقهم) جمع خُلُق: السَجِيَّة والطبع، (الرجل) يعني الإنسان، (سريع الفيء) أي الرجوع عن الغضب، (كفافًا) أي رأسًا برأس لمقابلة سرعة رجوعه بسرعة غضبه فالفضيلة تجبر النقيصة فكأنه لا فضيلة ولا نقيصة، (والرجل يقتضي) أي يستوفي (الذي له) على غيره (ويقضي) الدين (الذي عليه فذلك) رجل (لا له) فضيلة (ولا عليه) نقيصة للمقابلة المذكورة (والرجل يقتضي) الدين (الذي له) على غيره (ويمطل الناس الذي عليه) أي يُسَوِّفُ بالوفاء من وقت إلى وقت مع القدرة (فذلك) رجل (عليه) إثم (ولا له) فضل. [فيض القدير (4/ 74)].

عبدي أنْ أعَمِّرَه سبعين سنةً يعبُدُني لا يشركُ بي شيئًا أنْ أعَذِّبَه بالنار، فأما أبناء الأحقاب أبناء الثمانين والتسعين، فإني واقف يوم القيامة فقائل لهم: «ادخلوا من أحببتم الجنة». 1188 - سألْتُ جبريل: «هل ترى ربك؟»، قال: «إن بيني وبينه سبعين حجابًا من نور، لو رأيت أدناها لَاحترَقْتُ». 1189 - سألْتُ ربي أبناء العشرين مِن أمتي فوهبهم لي. 1190 - سألْتُ ربي - عز وجل - أن لا يُدْخِل أحدًا مِن أهل بيتي النار فأعطانيها. 1191 - سألْتُ ربي فأعطاني أولاد المشركين خدَمًا لأهل الجنة، وذلك لأنهم لم يدركوا ما أدرك آباؤهم من الشرك ولأنهم في الميثاق الأول (¬1). 1192 - سألْتُ ربي فيما تختلف فيه أصحابي من بعدي فأوحى إليَّ: «يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء بعضها أضْوَءُ مِن بعض؛ فمن أخذ بشيء مما هم عليه من اختلافهم فهو عندي على هُدَى». 1193 - سام أبو العرب، وحام أبو الحبش، ويافث أبو الروم. ¬

(¬1) قال النووي: «أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدّ بِهِ مِنْ عُلَمَاء الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَطْفَال الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْل الْجَنَّة؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا. . . وَأَمَّا أَطْفَال الْمُشْرِكِينَ فَفِيهِمْ ثَلَاثَة مَذَاهِب: قَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُمْ فِي النَّار تَبَعًا لِآبَائِهِمْ. وَتَوَقَّفَتْ طَائِفَة فِيهِمْ. وَالثَّالِث، وَهُوَ الصَّحِيح الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْل الْجَنَّة، وَيُسْتَدَلّ لَهُ بِأَشْيَاء مِنْهَا حَدِيث إِبْرَاهِيم الْخَلِيل - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِين رَآهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الْجَنَّة، وَحَوْله أَوْلَاد النَّاس قَالُوا: «يَا رَسُول اللهِ، وَأَوْلَاد الْمُشْرِكِينَ؟»، قَالَ: «وَأَوْلَاد الْمُشْرِكِينَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي صَحِيحه. وَمِنْهَا قَوْله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15)، وَلَا يَتَوَجَّه عَلَى الْمَوْلُود التَّكْلِيف وَيَلْزَمهُ قَوْل الرَّسُول حَتَّى يَبْلُغ، وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ. وَاَللَّه أَعْلَم. [باختصار من شرح النووي على مسلم (16/ 208)، وانظر: طريق الهجرتين لابن القيم، ص 572].

1194 - سبحان الله ماذا تستقبلون، وماذا يستقبل بكم؟»، قالها ثلاثًا، فقال عمر: «يا رسول الله وحْيٌ نزل أو عدو حضر؟»، قال: «لا، ولكن الله يغفر في أول ليلة من رمضان لكل أهل هذه القبلة»، قال: وفي ناحية القوم رجل يهز رأسه يقول: «بخٍ بخٍ» فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كأنك ضاق صدرك مما سمعت؟»، قال: «لا والله يا رسول الله ولكن ذكَرْتُ المنافقين، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إن المنافق كافر، وليس لكافر في ذَا شيءٌ». 1195 - سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب»، رُوِيَ عن محمد بن يحيى بن حبان قال: جاء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بيت زيد بن حارثة يطلبه وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد، فربما فقده رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الساعة فيقول: «أين زيد؟»، فجاء منزله يطلبه فلم يجده وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فضلًا فأعرض رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عنها فقالت: «ليس هو هاهنا يا رسول الله، فادخل بأبي أنت وأمي». فأبى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يدخل وإنما عجلت زينب أن تلبس لما قيل لها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على الباب فوثَبَتْ عجلَى فأعجبَتْ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يُفهم منه إلا ربما أعلن: «سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب». فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله أتى منزله. فقال زيد: «ألا قلتِ له أن يدخل؟»، قالت: «قد عرضْتُ ذلك عليه فأبَى». قال: «فسمعْتِ شيئًا؟»، قالت: «سمعْتُه حين وَلّى تكلم بكلام، ولا أفهمه، وسمعته يقول: «سبحان الله العظيم، سبحان مصرف القلوب». فجاء زيد حتى أتى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «يا رسول الله، بَلَغَني أنك جئتَ منزلي فهلّا دخلت؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك فأفارقها، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«أمسك عليك زوجك» (¬1). فما استطاع زيد إليها سبيلًا بعد ذلك اليوم فيأتي إلى رسول الله فيخبره، فيقول رسول الله: «أمسك عليك زوجك»، فيقول: «يا رسول الله، أفارقها»، فيقول رسول الله: «احبس عليك زوجك». ففارقها زيد واعتزلها وحَلّت، يعني انقضت عدتُها. قال: «فبينا رسول الله جالس يتحدث مع عائشة إلى أن أخذت رسول الله غشية فسُرّيَ عنه وهو يتبسم وهو يقول: «من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد زوجَنِيها من السماء؟»، وتلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} (الأحزاب: 37). قالت عائشة: «فأخذني ما قرب وما بعد لما يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع لها ـ زَوَّجَها الله من السماء. وقلت: هي تفخر علينا بهذا» (¬2). قالت عائشة: «فخرجتْ سلمى خادم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تشتد فتحدثها بذلك فأعطتها أوضاحًا عليها (¬3). ¬

(¬1) عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو، فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «اتَّقِ اللهَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ»، قَالَ أَنَسٌ: «لَوْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَاتِمًا شَيْئًا لَكَتَمَ هَذِهِ»، قَالَ: «فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - تَقُولُ: «زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ» (رواه البخاري). (يشكو) أي سوء خلق زوجته معه. (كاتما شيئًا) مُخْفِيًا شيئًا مِن وَحْي الله تعالى لا يبلغه للناس. (هذه) أي هذه الآية لما فيها من العتاب له - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقال الحافظ ابن حجر: «وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي كَانَ يُخْفِيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - هُوَ إِخْبَارُ اللهِ إِيَّاهُ أَنَّهَا سَتَصِيرُ زَوْجَتَهُ وَالَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ عَلَى إِخْفَاءِ ذَلِكَ خَشْيَةَ قَوْلِ النَّاسِ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ وَأَرَادَ اللهُ إِبْطَالَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ أَحْكَامِ التَّبَنِّي بِأَمْرٍ لَا أَبْلَغُ فِي الْإِبْطَالِ مِنْهُ، وَهُوَ تَزَوُّجُ امْرَأَةِ الَّذِي يُدْعَى ابْنًا، وَوُقُوعُ ذَلِكَ مِنْ إِمَامِ الْمُسْلِمِينَ لِيَكُونَ أَدْعَى لِقَبُولِهِمْ» [فتح الباري لابن حجر (8/ 524)]. (¬2) راجع الهامش السابق. (¬3) وفي القصة كما ترى طعنٌ في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن المؤسف أن الدكتورة عائشة عبد الرحمن ـ بنت الشاطئ ـ ذكرت هذه القصة دون ذِكْر ما يتعلق بعائشة - رضي الله عنها - ولم تلتفت إلى ضعف الرواية بل قالت: «قد نقلها إلينا رواة غير متهمين»، وحاولت تبرير إعجاب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بزينب بأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - بشر، وقد صرف وجهه عنها، وضبط نفسه. [انظر: تراجم سيدات بيت النبوة (ص341 - 343)]، وقد احتج بهذه القصة المكذوبة أحد القساوسة في إحدى مناظراته مع أحد الدعاة، ونَسَبَها لكتاب الدكتورة عائشة.

1196 - سخافةٌ بالمرءِ أنْ يستخدمَ ضيفه. 1197 - سطع نور في الجنة فقيل: «ما هذا؟»، فإذا هو من ثغر حوراء ضحكت في وجه زوجها. 1198 - سعة في الرزق وردع سنة الشيطان: الوضوء قبل الطعام وبعده. 1199 - سَلْ عَمّا بدَا لك»، رُوِيَ عن خالد بن الوليد سدد خطاكم قال: جاء أعرابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «يا رسول الله، جئتُ أسألك عما يُغنيني في الدنيا والآخرة»، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سَلْ عَمّا بدَا لك». قال: «أريد أن أكون أعْلَمَ الناس». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتق الله تكن أعلم الناس». قال: «أريد أن أكون أغنى الناس». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كن قانعًا تكن أغنى الناس». قال: «أريد أن أكون أعدل الناس». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن أعدل الناس». قال: «أحب أن أكون خير الناس». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كن نافعًا للناس تكن خير الناس». قال: «أحب أن أكون أخص الناس إلى الله». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اذكر الله تكن أخص الناس إلى الله». قال: «أحب أن يكمل إيماني». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَسِّنْ خُلُقك يكمل إيمانُك». قال: «أحب أن أكون من المحسنين». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اعبد الله كأنك تراه وإن لم تكن تراه فأنه يراك تكن من المحسنين». قال: «أحب أكون من المطيعين». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أدِّ فرائض الله تكنْ من المطيعين». قال: «أحب أن ألقى الله نقيًا من الذنوب». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اغتسل من الجنابة متطهرًا تلقى الله نقيًا من الذنوب». قال: «أحب أن أحْشَر يوم القيامة في النور». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تظلم أحدًا تُحشَر يوم القيامة في النور». قال: «أحب أن يرحمني ربي يوم القيامة». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ارحم نفسك وارحم عبادك يرحمْك الله يوم القيامة». قال: أحب أن تَقِلّ ذنوبي». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أكثر من الاستغفار تقل

ذنوبُك». قال: «أحب أن أكون أكرم الناس». فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تشكو من أمرك إلى الخلْق تكن أكرم الناس». قال: «أحب أن أكون أقوى الناس». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «توكل على الله تكن أقْوى الناس». قال: «أحب أن يوسَّع الله في الرزق». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دُمْ على الطهارة يُوَسّع الله عليك في الرزق». قال: «أحب أن أكون من أحباب الله ورسوله». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أحِبّ ما أحبه الله ورسوله تكن من أحبابهم». قال: «أحب أن أكون آمنًا من سخط الله يوم القيامة». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا تغضب على أحد من خلق الله تكن آمنًا من سخط الله يوم القيامة». قال: «أحب أن تستجاب دعوتي». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اجتنب أكْلَ الحرام تُسْتَجَبْ دعوتُك». قال: «أحب أن يسترني الله يوم القيامة». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «استُر عيوب إخوانك يستُرْك الله يوم القيامة». قال: «ما الذي ينجي من الذنوب؟» - أو قال -: «من الخطايا؟». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الدموع والخضوع والأمراض». قال: «أي حسنة أعظم عند الله تعالى؟»، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حسن الخلق، والتواضع، والصبر على البلاء». قال: «أي سيئة أعظم عند الله تعالى؟». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سوء الخلق والشح المطاع». قال: «ما الذي يسكن غضب الرب في الدنيا والآخرة؟». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الصدقة الخفية وصلة الرحم». قال: «ما الذي يطفئ نار جهنم يوم القيامة؟». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الصبر في الدنيا على البلاء والمصائب» (¬1). ¬

(¬1) في الحديث بعض الألفاظ التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في أحاديث أخرى، ولا يمنع أن يكون الحديث تجميعًا لعدد من الأحاديث بعضها صحيح والآخر ضعيف أو موضوع. وهذا الحديث ظاهرة عليه علامات الوضع في السند من قصة مكذوبة منكرة وفي المتن الملفق من أحاديث كثيرة فيها الثابت والواهي. وهذا الحديث بما فيه من قصة سنده، وبما فيه من قصة الأعرابي الذي يسأل والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يجيب، لا يصح. والحديث مكذوب مختلق ليس هو في شيء من كتب السنة المعتمدة لا الصحيحين ولا السنن ولا المسانيد، ومَنْ علم أنه كَذِبٌ على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، لم يحِلّ له أن يرويَه عنه أو يكتبه. فعلى الذين يقومون بطبع هذا الحديث أن ينتهوا عن تصويره وتوزيعه على الغافلين الذين لا دراية لهم بالحديث ويصدقون كل أحد. (باختصار من سلسلة تحذير الداعية من القصص الواهية للشيخ علي حشيش).

1200 - سلمان منا أهل البيت (¬1). 1201 - سلوا الله حوائجكم حتى الملح. 1202 - سَلُوا اللهَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الشسْع، فإنَّ اللهَ - عز وجل - إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ (¬2). 1203 - سَمُّوا بأسماء الأنبياء، ولا تسَمُّوا بأسماء الملائكة. 1204 - سَمُّوه بأحب الأسماء إليَّ: حمزة». رُوِيَ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، قال: وُلِدَ لرجل منا غلام فقالوا: «ما نسميه؟». فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سموه بأحب الأسماء إليَّ: حمزة بن عبد المطلب». 1205 - سُمِّيَ رجب لأنه يتَرَجّب (¬3) فيه خير كثير لشعبان ورمضان. 1206 - سوء الخلق ذنب لا يُغفر، وسوء الظن خطيئة تفوح. 1207 - سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل. ¬

(¬1) قد صحَّ الحديث موقوفًا علَى علِيٍّ سدد خطاكم؛ فعن أبي البختري قال: قالوا لعلي: «أخْبِرْنا عن سلمان»، قال: «أدركَ العلم الأول، والعلم الآخر، بحر لا يُنزَح قعره، هو منا أهل البيت». وعن زاذان قال: «سئل علي عن سلمان الفارسي، فقال: «ذاك أمير منا أهل البيت، مَن لكم بمثل لقمان الحكيم؛ عَلِمَ العلمَ الأول، وأدرك العلمَ الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرًا لا ينزف». [انظر السلسلة الضعيفة والموضوعة للألباني (رقم 3704)]. (¬2) عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «سَلُوا اللهَ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الشِّسْعَ، فإنَّ اللهَ - عز وجل - إنْ لَمْ يُيَسِّرْهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ». أخرجه ابن السني بسند حسن. (انظر السلسلة الضعيفة للألباني، رقم 1363). والشِسْع: سير يُمْسِك النّعل بأصابع القدم. والجمع أشْسَاع وشُسُوع. (¬3) يترجب: أَي: يتكثر ويتعظم.

1208 - سوداءُ ولودٌ خير من حسناءَ لا تلِدُ، إني مكاثرٌ بكم الأمم حتى بالسقط يظل مُحْبَنْطِئًا (¬1) على باب الجنة يقال له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب وأبواي؟ فيقال له: ادخل الجنة أنت وأبواك (¬2). 1209 - سيأتي على الناس زمانٌ لا يبقي من القرآن إلا رَسْمه، ولا من الإسلام إلا اسمه (¬3)، يُقْسِمون به وهُم أبعدُ الناس منه، مساجدهم عامرة، خراب من الهدى، فقهاء ذلك الزمان شر فقهاء تحت ظل السماء، منهم خرجت الفتنة، وإليهم تعود. ¬

(¬1) احْبَنْطَأ، أي: انتفخ جوفه، وامتلأ غيظًا. مُحْبَنْطِئًا: أي مُتَغَضّبًا مُمْتَنِعًا امتناع طلب لا امتناع إباء. وقيل: المُحْبَنْطِئ: المُتَغَضّب المُسْتَبْطِئ للشيء. (¬2) عن مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا جَلَسَ يَجْلِسُ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ لَهُ ابْنٌ صَغِيرٌ يَأْتِيهِ مِنْ خَلْفِ ظَهْرِهِ فَيُقْعِدُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَلَكَ فَامْتَنَعَ الرَّجُلُ أَنْ يَحْضُرَ الْحَلْقَةَ لِذِكْرِ ابْنِهِ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «مَا لِي لاَ أَرَى فُلاَنًا». قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ بُنَيَّهُ الَّذِي رَأَيْتَهُ هَلَكَ». فَلَقِيَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَسَأَلَهُ عَنْ بُنَيِّهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ هَلَكَ فَعَزَّاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا فُلاَنُ، أَيُّمَا كَانَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ تَمَتَّعَ بِهِ عُمْرَكَ أَوْ لاَ تَأْتِى غَدًا إِلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلاَّ وَجَدْتَهُ قَدْ سَبَقَكَ إِلَيْهِ يَفْتَحُهُ لَكَ». قَالَ: «يَا نَبِيَّ اللهِ، بَلْ يَسْبِقُنِي إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَيَفْتَحُهَا لِي لَهُوَ أَحَبُّ إِلَىَّ». قَالَ: «فَذَاكَ لَك» (رواه النسائي وصححه الألباني). (¬3) مِن أشراط الساعة أن يُرفع القُرْآن من الصدور والمصاحف فلا يبقى منه آية لا في الصدور ولا في المصاحف، فعَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ، وَلَا صَلَاةٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ، يَقُولُونَ: «أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا»، فَقَالَ لَهُ صِلَةُ: «مَا تُغْنِي عَنْهُمْ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ، وَلَا صِيَامٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ؟»، فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلَّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: «يَا صِلَةُ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ» ثَلَاثًا. (رواه ابن ماجه، والحاكم في المستدرك، وصححه الحاكم، والذهبي، وابن تيمية، وابن حجر العسقلاني، والألباني). ... = = (يَدْرُسُ) دَرَسَ الرَّسْمُ: عفا وهلك، دَرَسَ الثوب: صار عتيقًا. والمعنى: يُمْحَى قليلًا قليلًا، أي يذهب نسجه قليلًا قليلًا حتى يُمحى. (وَشْيُ الثَّوْبِ): نَقْشُه. (حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ، وَلَا صَلَاةٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ) أي يأتي قوم لا يَدْرُون عن هذه الأمور وعن هذه الأحكام شيئًا، (وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ) فيُرفع القُرْآن من المصاحف ومن الصدور.

1210 - سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاثة: درهم حلال أو أخ يُسْتَأنَسُ به أو سُنّة يُعمَل بها. 1211 - سَيّدُ إدامِكم (¬1) الملح. 1212 - سيد الشهداء جعفر بن أبي طالب، معه الملائكة لم يُنْحَل (¬2) ذلك أحد ممن مضى من الأمم غيره شيء أكرم الله به محمدًا (¬3). 1213 - سيد الشهور شهر رمضان وأعظمها حرمة ذو الحجة. 1214 - سيد القوم خادمهم. ¬

(¬1) الإدام: الطعام يُؤْكَلُ مع الخبز. (¬2) نحَل فلانًا: تبرّع له بشيء. نحَل المرأةَ: أعطاها مهرَها عن طيب نفسٍ من غير مطالبة. (¬3) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ورَجُلٌ قَامَ إلَى إمَامٍ جَائِرٍ فَأَمَرَهُ ونَهَاهُ فقَتَلَهُ» (رواه الحاكم، وحسنه الألباني). وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَخَلْتُ الْجَنَّةَ الْبَارِحَةَ، فَنَظَرْتُ فِيهَا، وَإِذَا جَعْفَرٌ، يَطِيرُ مَعَ الْمَلائِكَةِ، وَإِذَا حَمْزَةُ مُتَّكِئٌ عَلَى سَرِيرٍ» (رواه الحاكم والطبراني، وصححه الألباني). وَفِي رواية أُخْرَى للطبراني أَنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إنّ جَعْفَر يَطِيرُ مَعَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ لَهُ جَنَاحَانِ عَوَّضَهُ اللهُ مِنْ يَدَيْهِ»، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «وَإِسْنَادُ هَذِهِ جَيِّدٌ». وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رَأَيْتُ جَعْفَرَ بن أَبِي طَالِبٍ فِي الْجَنَّةِ ذَا جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ حَيْثُ شَاءَ». (رواه الطبراني، وصححه الألباني). وعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضي الله عنهما - كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى ابْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا ابْنَ ذِي الجَنَاحَيْنِ» (رواه البخاري). قال الحافظ ابن حجر أَنَّهُ عُوِّضَ بِذَلِكَ عَنْ قَطْعِ يَدَيْهِ فِي وَقْعَةِ مُؤْتَة حَيْثُ أَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَمِينِهِ فَقُطِعَتْ، ثُمَّ أَخَذَهُ بِشِمَالِهِ فَقُطِعَتْ، ثُمَّ احْتَضَنَهُ فَقُتِلَ. [فتح الباري (7/ 515)].

1215 - سيد الناس آدم، وسيد العرب محمد، وسيد الروم صهيب، وسيد الفرس سلمان، وسيد الحبشة بلال، وسيد الجبال طور سيناء، وسيد الشجر السدر، وسيد الأشهر المحرم، وسيد الأيام الجمعة، وسيد الكلام القرآن، وسيد القرآن البقرة، وسيد البقرة آية الكرسي؛ أما إن فيها خمس كلمات في كل كلمة خمسون بركة. 1216 - سيدٌ بنَى دارًا، واتخذ مأدبة، وبعث داعيًا، فالسيد الجبار، والمأدبة القرآن، والدار الجنة، والداعي أنا، فأنا اسمي في القرآن محمد، وفي الإنجيل أحمد، وفي التوراة أحْيَد، وإنما سميت أحْيَد لأني أحِيد عن أمتي نار جهنم (¬1)، وأحبوا العرب بكل قلوبكم. 1217 - سيد طعام الدنيا والآخرة اللحم. 1218 - سيروا إلى الله عُرَجَاء ومكاسير؛ فإن انتظار الصحة بطالة. 1219 - سيروا على سير أضعفكم. 1220 - سين بلال عند الله شين (¬2). ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَنَا المَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ» (رواه البخاري ومسلم، ولفظه: «إِنَّ لِي أَسْمَاءً، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللهُ رَءُوفًا رَحِيمًا». (¬2) قال الحافظ ابن كثير عن بلال - رضي الله عنه -: «وَكَانَ مِنْ أَفْصَحِ النَّاسِ لَا كَمَا يَعْتَقِدُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ سِينَهُ كَانَتْ شِينًا، حَتَّى إِنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَرْوِي حَدِيثًا فِي ذَلِكَ لَا أَصْلَ لَهُ عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ سِينَ بِلَالٍ عِنْدَ اللَّهِ شِينٌ». [البداية والنهاية (8/ 305)].

حرف الشين

حرف الشين 1221 - شاب سخي حسن الخلق أحب إلى الله من شيخ بخيل عابد سيء الخلق. 1222 - شاوروهن - يعني: النساء - وخالفوهن (¬1). 1223 - شر الحياة ولا شر الممات. 1224 - شرار أمتي الذين وُلِدوا في النعيم وغُذّوا به يأكلون من الطعام ألوانًا، ويلبسون من الثياب ألوانًا، ويركبون من الدواب ألوانًا، ويتشدقون في الكلام. 1225 - شراركم عزابكم ركعتان من متأهل خير من سبعين ركعة من غير متأهل. 1226 - شراركم عُزّابُكم، وأراذل موتاكم عُزَّابُكم. 1227 - شِعَارُ المُؤمِنينَ عَلَى الصِراطِ يَومَ القِيامَةِ: «رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ» (¬2). ¬

(¬1) قال الألباني في (السلسلة الضعيفة، رقم 430): «ثم إن معنى الحديث ليس صحيحًا على إطلاقه، لثبوت عدم مخالفته - صلى الله عليه وآله وسلم - لزوجته أم سلمة حين أشارت عليه بأن ينحر أمام أصحابه في صلح الحديبية حتى يتابعوه في ذلك». (¬2) عَنْ أَبِى حَازِمٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ وَأَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِىٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالاَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَجْمَعُ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - النَّاسَ فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتَّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنَّةُ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: «يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنَّةَ». فَيَقُولُ: «وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ إِلاَّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ، لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ، اذْهَبُوا إِلَى ابْنِى إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللهِ»، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ؛ إِنَّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ، اعْمِدُوا إِلَى مُوسَى الَّذِى كَلَّمَهُ اللهُ تَكْلِيمًا». فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ اذْهَبُوا إِلَى عِيسَى كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِهِ. فَيَقُولُ عِيسَى: «لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ». فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ فَتَقُومَانِ جَنَبَتَىِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ». قَالَ: قُلْتُ: «بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى أَىُّ شَىْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ»، قَالَ: «أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِى طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَشَدِّ الرِّجَالِ، تَجْرِى بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِىءَ الرَّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلاَّ زَحْفًا، وَفِى حَافَتَىِ الصِّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِى النَّارِ». (رواه مسلم).

1228 - شِعَارُ أُمتِي إذَا حُمِلُوا عَلَى الصِّرِاطِ: «لاَ إلَهَ إلاَّ أنتَ». 1229 - شعبان شهري، ورمضان شهر الله. 1230 - شفعت في هؤلاء النفر: في أبى وعمى أبى طالب وأخي من الرضاعة - يعنى ابن السعدية - ليكونوا من بعد البعث هباء. 1231 - شكوتُ إلى جبريل ضعفي عن الوقاع فدلني على الهريسة. 1232 - شهر رمضان شهر الله، وشهر شعبان شهري، شعبان المطهِّر، ورمضان المكفِّر. 1233 - شهر رمضان شهر كتب الله عليكم صيامه (¬1)، وسنَنْتُ لكم قيامه. 1234 - شهر رمضان معلق بين السماء والأرض، ولا يرفع إلى الله إلا بزكاة الفطر. 1235 - شهوة النساء تضاعف على شهوة الرجال. ¬

(¬1) قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، للهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» (رواه النسائي وحسنه الألباني).

حرف الصاد

حرف الصاد 1236 - صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر. 1237 - صاحب الحاجة أرعن. 1238 - صاحب الحاجة أعمى. 1239 - صاحب الشيء أحق بحمله». رُوِيَ عن أبي هريرة قال: دخلتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - السوق، فقعد إلى البزَّازِين (¬1)، فاشترى سراويل بأربعة دراهم، وكان لأهل السوق رجل يَزِن بينهم الدراهم يقال له فلان الوزّان، فدُعِيَ ليَزِنَ ثمن السراويل، فقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اتزن وأرجح»، فقال الوزان: «إن هذا القول ما سمعتُه مِن أحد من الناس، فمن أنت؟»، قال أبو هريرة: فقلت: «حسبك من الرهق والجفاء في دينك ألا تعرف نبيك؟»، فقال: «أهذا نبي الله؟»، وألقى الميزان ووثب إلى يد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فجذبها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقال: «مَه إنما يفعل هذا الأعاجم بملوكها، وإني لست بملِك، إنما أنا رجل منكم»، ثم جلس فاتَّزَن الدراهم وأرجحَ كما أمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فلما انصرفْنا تناولتُ السراويل من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لأحملها عنه فمنعني وقال: «صاحب الشيء أحَقُّ بحمْله إلا أن يكون ضعيفًا يعجز عنه فيعينه أخوه المسلم»، قال: قلت: «يا رسول الله أوَ إنكَ لتلبس السراويل؟»، قال: «نعم بالليل والنهار، وفي السفر والحضر». 1240 - صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال فإذا عمل العبد حسنة كتبها بعشر أمثالها، وإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أنْ يكتبها قال صاحب اليمين: «أمسك ¬

(¬1) البزَّاز: بائع الثياب والأقمشة.

فيمسك ست ساعات، فإن استغفر الله منها لم يكتب عليه شيئًا، وإن لم يستغفر كتب عليه سيئة واحدة (¬1). 1241 - صام نوح الدهر إلا يوم الفطر والأضحى، وصام داود نصف الدهر (¬2)، وصام إبراهيم ثلاثة أيام من كل شهر، صام الدهر، وأفطر الدهر. 1242 - صحة يا أم يوسف» رُوِيَ عن ابن جريج قال: أخْبِرْتُ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يبول في قدح من عَيْدَان (¬3) ثم يوضع تحت سريره، فجاء فإذا القدح ليس فيه شيء، فقال لامرأة يقال لها: بركة كانت تخدم أم حبيبة جاءت معها من أرض الحبشة: «أين البول الذي كان في القدح؟»، قالت: «شرِبْتُه»، قال: «صحة يا أم يوسف»، فما مرضَتْ قط حتى كان مرضها الذي ماتت فيه. 1243 - صدقة القليل تدفع البلاء الكثير (¬4). 1244 - صدقْتَ، صدَقْتَ، يا ذاكرَ رسول الله في كل وقت. ¬

(¬1) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لَيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوِ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللهَ مِنْهَا أَلْقَاهَا، وَإِلا كُتِبَتْ وَاحِدَةً» (رواه الطبراني، وحسنه الألباني)، وقال: «وبالتأمل في هذا اللفظ الثابت يتبين أن في اللفظ الأول الواهي أشياء زائدة عليه: أولًا: أن صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال. ثانيًا: أن صاحب الشمال يمسك عن كتابة الذنب بأمر صاحب اليمين». (انظر السلسلة الضعيفة والموضوعة للألباني، رقم 2237). (¬2) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللهِ صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللهِ صَلاَةُ دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ». (رواه البخاري ومسلم). (¬3) العَيْدانُ، بالفتح: أطْوَلُ ما يكونُ من النَّخْلِ، واحِدَتُها العَيْدانَةُ. (¬4) قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صَنَائِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وصَدَقَةُ السِّرِ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي العُمْرِ». (رواه الطبراني وحسنه الألباني).

1245 - صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ (¬1). 1246 - صدور الأحرار قبور الأسرار. 1247 - صغار قوم كبار آخرين. 1248 - صَغِّروا الخُبزَ، وَأكثِرُوا عَدَدَهُ، يُبَارَكُ لَكُم فِيهِ. 1249 - صلاةٌ الأبرار ركعتان إذا دخلت بيتك وركعتان إذا خرجْتَ. 1250 - صلاةٌ النهار عجماء، وصلاة الليل تسمع أذنيك. 1251 - صلاةٌ بخاتم تعدل سبعين صلاة بغير خاتم. 1252 - صلاةٌ بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك. 1253 صلاةٌ بعمامة تعدل خمسًا وعشرين صلاة بغير عمامة، وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة بغير عمامة، إن الملائكة ليشهدون الجمعة معتَمّين، ولا يزالون يصلون على أصحاب العمائم حتى تغرب الشمس. ¬

(¬1) بِكَسْرِ الرَّاء الْأُولَى وَحُكِيَ فَتْحهَا وَهُوَ مِنْ الْبِرّ، والصحيح أن لا تقال إذا قال المؤذن لصلاة الفجر: «الصلاة خير من النوم». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا سَمِعتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثلَ مَا يَقُولُ» (رواه البخاري ومسلم). ومن ذلك إذا قال المؤذن لصلاة الفجر: «الصلاة خير من النوم»، فإنه يستحب لسامعه أن يتابعه بمثلها فيقول: «الصلاة خير من النوم». يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «الصحيح أن يقال مثل ما يقول: «الصلاة خير من النوم»؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «إِذَا سَمِعتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثلَ مَا يَقُولُ». (رواه البخاري ومسلم). [الشرح الممتع (2/ 84)]. أما ما يستحبه بعض الفقهاء أن يقول (صدقت وبررت)، فلا دليل عليه، وهو مخالف لعموم الحديث السابق: «إِذَا سَمِعتُمُ المُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثلَ مَا يَقُولُ»، والأصل في العبادات المنع حتى يثبت الدليل. قال الصنعاني: «قِيلَ: يَقُولُ فِي جَوَابِ التَّثْوِيبِ: «صَدَقْت وَبَرَرْت»، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ مِنْ قَائِلِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ تُعْتَمَدُ». وقال ابن الملقن في تخريج أحاديث الرافعي: «لم أقف على أصله في كتب الحديث». وقال الحافظ ابن حجر: «لا أصل له».

1254 - صلاةُ تطوع أو فريضة بعمامة تعدل خمسًا وعشرين صلاة بلا عمامة، وجمعة بعمامة تعدل سبعين جمعة بلا عمامة. 1255 - صِلُوا قراباتكم ولا تجاورهم؛ فإن الجوار يُورِثُ بينكم الضغائن. 1256 - صلَّوا خلفَ كلِّ بَرٍ وفاجرٍ، وصلَّوا عَلى كُلِّ بَرٍ وفاجرٍ، وَجاهدوا مَعَ كُلِّ بَرٍ وفاجرٍ. 1257 - صلوا ركعتي الضحى بسورتيها: والشمس وضحاها، والضحى. 1258 - صَمْتُ الصائم تسبيح، ونومه عبادة، ودعاؤه مستجاب، وعمله مضاعف. 1259 - صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء. 1260 - صنفان من أمتي إذا صلحا، صلح الناس: الأمراء والفقهاء. 1261 - صومُ أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، والثاني كفارة سنتين، والثالث كفارة سنة، ثم كل يوم شهرًا. 1262 - صومُ أول يوم من رجب كفارة سنتين، والثالث كفارة سنة، ثم كل يوم شهرًا. 1263 - صوم يوم التروية كفارة سنة. 1264 - صوموا تصحوا. 1265 - صيام شهر رمضان بالمدينة كصيام ألف شهر فيما سواها. 1266 - صيام يوم عرفة كصيام ألف يوم.

حرف الضاد

حرف الضاد 1267 - ضاع العلم في أفخاذ النساء. 1268 - ضاف ضيف رجُلًا من بني إسرائيل وفي داره كلبة مُجِحٌّ (¬1) فقالت الكلبة: «والله لا أنبح ضيف أهلي»، فعوى جراؤُها في بطنها، قيل: «ما هذا؟»، فأوحى الله إلى رجل منهم: «هذا مثل أمَّةٍ تكون من بعدكم يقهر سفهاؤها حلماءَها». 1269 - ضع إصبعك السبابة على ضرسك ثم اقرأ آخر (يس)»، رُوِيَ عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لرجل اشتكى ضرسه: «ضع إصبعك السبابة على ضرسك ثم اقرأ آخر (يس)». 1270 - ضع إصبعك السبابة على ضرسك ثم أقرأ {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. . .»، رُوِيَ عن ابن عباس قال: قال - صلى الله عليه وآله وسلم - لرجل اشتكى من ضرسه: «ضع إصبعك السبابة على ضرسك ثم أقرأ {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)} (يس: 77 - 83). 1271 - ضع القلم على أذنك فإنه أذْكَرُ للمُمْلي. ¬

(¬1) (مُجِحٌّ) - بضم الميم وجيم مكسورة وحاء مشددة -: أي حامل مقرب دَنَتْ ولادَتُها.

1272 - ضعْ بَصرك مَوضِع سجودك» (¬1)، رُوِيَ عن أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «يا أنس، ضع بصرك موضع سجودك»، قَالَ أنس: قلت: «يَا رَسُول الله، هَذَا شَدِيد لَا أُطِيقهُ»، قَالَ: «فَفِي الْمَكْتُوبَة إِذن». 1273 - ضعوا السوط حيث يراه الخادم. 1274 - ضعي يدك عليه، ثم قولي ... ». رُوِيَ عن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرج علَيَّ خُراجٌ في عنقي، فتخوَّفْتُ منه، فأخبرْتُ به عائشة، فقالت: سلي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، قالت: فسألته، فقال: «ضعي يدك عليه، ثم قولي ثلاث مرات: بسم الله، اللهم أذهب عني شرَّ ما أجد، بدعوة نبيك الطيب، المبارك المكين عندك، بسم الله». 1275 - ضَعِيفَانِ يَغْلِبَانِ قَوِيًّا. ¬

(¬1) أَي انْظُر إِلَى مَحل سجودك مَا دمت فِي الصَّلَاة. وثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان إذا صلى؛ طأطأ رأسه، ورمى ببصره نحو الأرض، ولما دخل الكعبة ما خلف بصره موضع سجوده حتى خرج منها. قال الألباني: «وقد اختلف العلماء في الجهة التي ينبغي للمصلي أن يتوجه بنظره إليها؛ فذهب مالك إلى أن نظر المصلي يتجه إلى جهة القبلة. وترجم له البخاري في (صحيحه): (باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة)، وساق فيه عدة أحاديث في أن الصحابة كانوا ينظرون إلى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وهم في الصلاة في أحوال مختلفة. وذهب الشافعي، والكوفيون - وهو الصحيح من مذهب الحنفية - إلى أنه يستحب للمصلي النظر إلى موضع سجوده؛ لأنه أقرب إلى الخشوع. وهو الصواب؛ لدلالة الأحاديث السابقة عليه. وفصَّل الحافظ ابن حجر؛ فقال: «ويمكن أن نفرق بين الإمام والمأموم؛ فيستحب للإمام النظر إلى موضع السجود وكذا للمأموم؛ إلا حيث يحتاج إلى مراقبة إمامه. وأما المنفرد؛ فحكمه حكم الإمام». اهـ. وبهذا يُجمع بين الأحاديث التي ساقها البخاري وبين أحاديث النظر إلى موضع السجود، وهو جَمْعٌ حسن. والله تعالى أعلم». [انظر: صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، للألباني (1/ 230 - 233)].

1276 - ضمن الله خلقه أربعًا: الصلاة، والزكاة، وصوم رمضان، والغسل من الجنابة، وهن السرائر التي قال الله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} (الطارق: 9) (¬1). ¬

(¬1) عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ: مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ: عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ، وَصَامَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ». قَالُوا: «يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟»، قَالَ: «الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ». (رواه أبو داود وحسنه الألباني).

حرف الطاء

حرف الطاء 1277 - طاعة الزوج، واعتراف بحقه»، رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: قالت امرأة: «يا رسول الله، ما جزاء غزو المرأة؟»، قال: «طاعة الزوج، واعترافٌ بحقه». 1278 - طاعة المرأة ندامة. 1279 - طاعة النساء ندامة. 1280 - طالب العلم بين الجُهَّال كالحي بين الأموات. 1281 - طعام البخيل داء، وطعام الجوَاد دواء. 1282 - طلب الحلال جهاد، وإن الله يحب المؤمن المحترف. 1283 - طلع البدر علينا»، رُوِيَ أنه لما قدم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقولون: «طلع البدر علينا ... من ثَنِيَّاتِ الوداعْ وجب الشكر عليْنا ... ما دعا لله داعْ أيها المبعوث فِينا ... جئت بالأمر المطاعْ» (¬1) 1284 - طوبى لمن تواضع من غير منقصة، وذل في نفسه من غير مسكنة، وأنفق مالًا جمعه من غير معصية، ورحم المساكين أهل المسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة، ¬

(¬1) هذا القصة الضعيفة أوردها الغزالي في (إحياء علوم الدين) بزيادة: «بالدف والألحان»، ولا أصل لها كما أشار لذلك الحافظ العراقي في تخريجه للإحياء بقوله: «وليس فيه ذكر للدف والألحان».

وطوبى لمن ذل في نفسه، وطاب كسبه، وأصلح سريرته، وعزل عن الناس شره، طوبى لمن عمل بعلمه، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله. 1285 - طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس (¬1)، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله، ووَسِعَتْهُ السُّنّة فلم يعْدِل عنها إلى البدعة. ¬

(¬1) عن أبي هريرة سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يُبْصِرُ أحَدُكُمُ القَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ , ويَنْسَى الجِذْعَ في عَيْنِه» (رواه ابن حبان، وصححه الألباني). وعن أبي هريرة، قال: «يُبْصِرُ أحَدُكُمُ القَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْلَ- أَوِ الْجِذْعَ - فِي عَيْنِ نَفْسِهِ». قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: «الْجِذْلُ: الْخَشَبَةُ الْعَالِيَةُ الْكَبِيرَةُ». (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني). وعَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ سدد خطاكم قَالَ: «عَجِبْتُ مِنَ الرَّجُلِ يَفِرُّ مِنَ الْقَدَرِ، وَهُوَ مُوَاقِعُهُ! وَيَرَى الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَدَعُ الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ! وَيُخْرِجُ الضَّغْنَ مِنْ نَفْسِ أَخِيهِ، وَيَدَعُ الضَّغْنَ فِي نَفْسِهِ! وَمَا وَضَعْتُ سِرِّي عِنْدَ أحد فَلُمْتُه على إفشاءه، وَكَيْفَ أَلُومُهُ وَقَدْ ضِقْتُ بِهِ ذراعاً؟». (رواه البخاري في الأدب المفرد، وقال الألباني: «صحيح الإسناد». (القذاة): واحدةُ القَذى، وهي ما يقعُ في العَين والماء والشراب من تُراب أو تبن أو وَسَخ أو غير ذلك. (فِي عَيْنِ أَخِيهِ) في الإسلام , (ويَنْسَى الجِذْعَ) واحد جذوع النخل (فِي عَيْنِه) كأن الإنسان لنقصه وحب نفسه يتوفر على تدقيق النظر في عيب أخيه فيدركه مع خفائه فيعمى به عن عيبٍ في نفسه ظاهر لا خفاء به، مثلٌ ضرب لمن يرى الصغير من عيوب الناس ويعيّرهم به وفيه من العيوب ما نِسْبَتُه إليه كنسبة الجذع إلى القذاة، وذلك من أقبح القبائح وأفضح الفضائح، فرحم الله من حفظ قلبه ولسانه، ولزم شأنه وكَفّ عن عِرْض أخيه، وأعرض عما لا يعنيه، فمن حفظ هذه الوصية دامت سلامته وقَلَّتْ ندامته؛ فتسليم الأحوال لأهلها أسلم، والله أعلى وأعلم، ولله در القائل: أرَى كُلَّ إنسانٍ يرَى عيْبَ غيْرِهِ ... ويَعْمَى عن العيبِ الذي هُوَ فِيه فلَا خيرَ فيمن لا يرى عيْبَ نفْسِه ... ويَعْمَى عنِ العيبِ الذي بأخِيه [انظر: فيض القدير (6/ 456)]

حرف العين

حرف العَيْن 1286 - عَجَّ حجَرٌ إلى الله تعالى فقال: «إلهي وسيدي عَبَدْتُك منذ كذا وكذا سنة (وفي رواية: ألف سنة)»، ثم جعلتني في أس كَنِيف؟ (¬1)»، فقال: «أو ما ترضى أن عدلت بك عن مجالس القضاة؟». 1287 - عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه، وعجبت لغافل وليس بمغفول عنه، وعجبت لضاحك مِلْءَ فيه ولا يدري أرُضِيَ عنه أم سخط. 1288 - عجبت للمؤمن وجزعه من السقم، ولو يعلم ما له في السقم أحب أن يكون سقيما حتى يلقى الله - عز وجل -. 1289 - عجبْتُ وليس بالعجب، وعجبتُ وهو العجب العجيب العجيب، عجبتُ وليس بالعجب، إني بعثتُ إليكم رجلا منكم فآمن بي مَن آمن بي منكم، وصدَّقني من صدَّقني منكم، فإنه العجب وما هو بالعجب، ولكني عجبت وهو العجب العجيب العجيب لمن لم يَرَنِي وصدَّق بي (¬2). 1290 - عَجِّلوا الركعتين بعد المغرب؛ فإنهما ترفعان مع المكتوبة. ¬

(¬1) كَنِيف: مِرْحاض. (¬2) وإنما يصح من هذا الحديث بعضُه، وهو في حديث أَبِي جُمْعَةَ حَبِيبِ بْنِ سِبَاعٍ - رضي الله عنه - قال: «تَغَدَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدٌ خَيْرٌ مِنَّا، أَسْلَمْنَا مَعَكَ، وَجَاهَدْنَا مَعَكَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ، قَوْمٌ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِكُمْ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي». (قال الألباني في (السلسلة الضعيفة، رقم 649): «رواه الدارمي وأحمد والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي. وأقول: إسناد الدارمي وأحد إسنادي أحمد صحيح إن شاء الله تعالى».

1291 - عجلوا بالصلاة قبل الفَوْت (¬1)، وعجلوا بالتوبة قبل الموت. 1292 - عداوة العاقل ولا صحبة المجنون. 1293 - عدو المرء مَن يعمل بعمله. 1294 - عدو عاقل خير من صديق جاهل. 1295 - عدو عاقل خير من صاحب مجنون. 1296 - عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا. فَقُلْتُ: «لَا، يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ وَشَكَرْتُكَ» (¬2). 1297 - عُرِضَتْ عَلَىَّ أُجُورُ أُمَّتِى حَتَّى الْقَذَاةُ (¬3) يُخْرِجُهَا الرَّجُلُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَعُرِضَتْ عَلَىَّ ذُنُوبُ أُمَّتِى فَلَمْ أَرَ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنْ سُورَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ أوتِيَهَا رَجُلٌ ثُمَّ نَسِيَهَا. ¬

(¬1) فاتَ فَوْتًا وفَوَاتًا، فهو فائت، فات الأمرُ: مرَّ ومضى، ذهب وقت فعله، انقضى، يقال: فاتت الصلاة، فاتت الفرصة. (¬2) عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: دَخَلَتْ عَلَيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَرَأَتْ فِرَاشَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَطِيفَةٌ مَثْنِيَّةٌ، فَانْطَلَقَتْ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِفِرَاشٍ حَشْوُهُ الصُّوفُ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟»، قَالَتْ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ فُلَانَةٌ الْأَنْصَارِيَّةُ دَخَلَتْ عَلَيَّ، فَرَأَتْ فِرَاشَكَ فَذَهَبَتْ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِهَذَا»، قَالَ: «رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ، فَوَاللهِ لَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللهُ مَعِيَ جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ». (رواه ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: «جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: «إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ، قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟»، قَالَ جِبْرِيلُ: «تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ». قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا». (رواه الإمام أحمد في المسند، وقال الألباني: «هذا إسناد صحيح على شرط مسلم»، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط الشيخين»). (¬3) القذاة: واحدةُ القَذى، وهي ما يقعُ في العَين والماء والشراب من تُراب أو تبن أو وَسَخ أو غير ذلك.

1298 - عُرَى الإسلام وقواعد الدين ثلاثة عليهن أسِّسَ الإسلام: مَن تَرَك واحدةً منهن فهو بها كافرٌ حلال الدم: شهادة أن لا إله إلا الله، والصلاة المكتوبة، وصوم رمضان (¬1). 1299 - عشرة تمنع عشرة: سورة الفاتحة تمنع غضب الله، سورة يس تمنع عطش يوم القيامه، سورة الدخان تمنع أهوال يوم القيامة، سورة الواقعة تمنع الفقر، سورة الملك تمنع عذاب القبر، سورة الكوثر تمنع الخصومة، سورة الكافرون تمنع الكفر عند الموت، سورة الإخلاص تمنع النفاق، سورة الفلق تمنع الحسد، سورة الناس تمنع الوسواس (¬2). ¬

(¬1) عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ: لَا يَجْعَلُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ، فَأَسْهُمُ الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةٌ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ، وَلَا يَتَوَلَّى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إِلَّا جَعَلَهُ اللهُ - عز وجل - مَعَهُمْ، وَالرَّابِعَةُ لَوْ حَلَفْتُ عَلَيْهَا رَجَوْتُ أَنْ لَا آثَمَ: لَا يَسْتُرُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني). (¬2) ثبت في فضل سورة الملك، وأنها تمنع عذاب القبر قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سُورَةُ تَبَارَكَ هِيَ الْمَانِعَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ». (رواه الحاكم وغيره، وحسّنه الألباني). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً، تَشْفَعُ لِصَاحِبِهَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). وكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا ينام حتى يقرأ سورة تبارك وسورة السجدة، كما في المسند والأدب المفرد للبخاري وسُنن النسائي، وصححه الألباني. والأحاديث الواردة في فضل سورة (يس) لا يصح منها شيء. والحديث الوارد في فضل سورة الواقعة وأنها تمنع الفقر لا يصح. أما سورة الإخلاص فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ قَرَأَ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عَشْرَ مَرَّاتٍ بنى اللهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ قَرَأَ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ، فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ». (رواه الإمام أحمد في المسند، والنسائي، وصححه الألباني). ... = = وأما المعوذات فقد ورد في فضلها أحاديث صحيحة، فمن ذلك ما رواه أبو داود، وصححه الألباني عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَتَعَوَّذُ بِـ {أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} وَ {أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، وَيَقُولُ: «يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا». قَالَ: «وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَا بِهِمَا فِى الصَّلاَةِ». والأحاديث التي وضعها الوضاعون في فضائل السور كثيرة حتى وضع بعضهم لكل سورة حديث في فضلها.

1300 - عشر خصال عملها قوم لوط، بها أهلِكُوا وتزيدها أمتي بخلّة: إتيان الرجال بعضهم بعضًا، ورميهم بالجلاهق والخذف (¬1)، ولعبُهم بالحمام، وضرب الدفوف، وشرب الخمور، وقص اللحية، وطول الشارب، والصفير والتصفيق، ولباس الحرير، وتزيدها أمتي بخلة: إتيان النساء بعضهن بعضًا. 1301 - عشرة من أخلاق قوم لوط: الخذف في النادي ومضغ العلك، والسواك على ظهر الطريق، والصفير، والحمام، والجلاهق، والعمامة التي لا يُتَلَحَّى بها، والسكينية (وفي رواية: والسِّبْتية)، والتطريف بالحناء، وحل أزرار الأقبية، والمشي في الأسواق والأفخاذ بادية (¬2). 1302 - عظموا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم. ¬

(¬1) الجُلّاهِق (بضم الجيم وتشديد اللام وكسر الهاء): جمع (الجلاهقة) وهي كلمة فارسية مُعَرّبة بمعنى الطين المدَوّر الأملس الذى يرمى به كالبندق، وهي عبارة عن كرات صغيرة من الطين يُرْمَى بها للصيد. (الخَذْف): الرمي بالحصى ونحوه. (¬2) النادي هو مجلس القوم، وقد فسر بعضهم الخذف في النادي بالرمي بالحصى في المجالس. (العِلك): اللبان. (الحمام): اللعب بالحمام. (التلحي): أن يدير العمامة تحت حنكه. (السكينية): تسريح الشعر بطريقة معينة كما تفعله النصارى، وقيل: تسكين الشعر وعدم فرقه. (السِّبت) - بكسر السين - هي جلود البقر المدبوغة بالقرظ يتخذ منها النعال. (التطريف): صبغ الأنامل بالحناء. (القباء): ثوب يُلبس فوق الثياب أو القميص ويتمنطق عليه، الجمع أقبية.

1303 - عظموا مقداركم بالتغافل. 1304 - عفّوا عن نساء الناس تعفّ نساؤُكم، وبرّوا آباءَكم تبرُّكم أبناؤكم. 1305 - عقولُهُن في فروجِهِن. 1306 - علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. 1307 - علماء حكماء كادوا من صدقهم أن يكونوا أنبياء»، رُوِيَ عن أبي سليمان الداراني قال: حدثني شيخ بساحل دمشق يقال له: علقمة بن يزيد الأزدي: حدثني أبي عن جدي قال: وفدت إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - سابع سبعة من قومي فلما دخلنا عليه وكلمناه أعجبه ما رأى من سَمْتِنا وزِيِّنَا فقال: «ما أنتم؟»، قلنا: «مؤمنين»، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «إن لكل قول حقيقة فما حقيقة قولكم وإيمانكم؟»، قلنا: «خمس عشرة خصلة، خمس منها أمَرَتْنا رسلُك أن نؤمن بها، وخمس أمرَتْنا رسلُك أن نعمل بها، وخمس تخلَّقْنا بها في الجاهلية ونحن عليها إلا أن تكره منها شيئًا». قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وما الخمس التي أمرَتْكم رسلي أن تؤمنوا بها؟»، قلنا: «أمرَتْنا أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله والقدر خيره وشره»، قال: «وما الخمس التى أمرَتْكم بها رسلي؟»، قلنا: «أمرَتْنا رسلُك أن نشهد أن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله، ونقيم الصلاة المكتوبة، ونؤدي الزكاة المفروضة، ونصوم شهر رمضان ونحج البيت إن استطعنا إليه السبيل»، قال: «وما الخمس التي تخلّقتم بها في الجاهلية؟». قلنا: «الشكر عند الرخاء، والصبر عند البلاء، والصدق في مواطن اللقاء، والصبر عند شماته الأعداء، وإكرام الضيف». فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «علماء حكماء كادوا من صدقهم أن يكونوا أنبياء»، ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وأنا أزيدكم خمسًا، فيتِمّ لكم عشرون خصلة: إن كنتم كما تقولون فلا تجمعوا ما لا تأكلون، ولا تبْنُوا ما لا تسكنون، ولا تنافسوا في شيء غدًا عنه تزولون، واتقوا الله الذي إليه ترجعون وعليه تعرضون، وارغبوا فيما عليه تقدمون وفيه تخلدون». قال أبو سليمان: «قال لي علقمة بن يزيد: فانصرف القوم من عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحفظوا وصيته وعملوا بها، ولا

والله يا أبا سليمان ما بقي من أولئك النفر وأولادهم أحد غيري». قال: «وبقي إلى أيام قلائل ثم مات سدد خطاكم». 1308 - علموا أبناءكم السباحة والرماية، ونعم لهو المؤمنة في بيتها المغزل، وإذا دعاك أبواك فأجِبْ أمك (¬1). 1309 - عليٌّ أخي في الدنيا والآخرة. 1310 - عليٌّ إمام البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره، مخذول من خذله. 1311 - عليٌّ باب حطة من دخل منه كان مؤمنًا ومن خرج منه كان كافرًا. 1312 - عليٌّ خير البشر، مَن أبَى فقد كفر. ¬

(¬1) حق الأم مقدم على حق الأب ويزيد عليه بأضعاف ثلاثة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟»، قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟»، قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟»، قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟»، قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» (رواه البخاري ومسلم). قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «الصَّحَابَة هُنَا بِفَتْحِ الصَّاد بِمَعْنَى الصُّحْبَة، وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى بِرّ الْأَقَارِب، وَأَنَّ الْأُمّ أَحَقّهمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدهَا الْأَب، ثُمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب، قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب تَقْدِيم الْأُمّ كَثْرَة تَعَبهَا عَلَيْهِ، وَشَفَقَتهَا، وَخِدْمَتهَا، وَمُعَانَاة الْمَشَاقّ فِي حَمْله، ثُمَّ وَضْعه، ثُمَّ إِرْضَاعه، ثُمَّ تَرْبِيَته وَخِدْمَته وَتَمْرِيضه، وَغَيْر ذَلِكَ». وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من (صحيح البخاري): «قَالَ اِبْن بَطَّال: «مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُون لِلْأُمِّ ثَلَاثَة أَمْثَال مَا لِلْأَبِ مِنْ الْبِرّ»، قَالَ: «وَكَانَ ذَلِكَ لِصُعُوبَةِ الْحَمْل ثُمَّ الْوَضْع ثُمَّ الرَّضَاع، فَهَذِهِ تَنْفَرِد بِهَا الْأُمّ وَتَشْقَى بِهَا، ثُمَّ تُشَارِك الْأَب فِي التَّرْبِيَة. وَقَدْ وَقَعَتْ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان: 14)، فَسَوَّى بَيْنهمَا فِي الْوِصَايَة، وَخَصَّ الْأُمّ بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: «الْمُرَاد أَنَّ الْأُمّ تَسْتَحِقّ عَلَى الْوَلَد الْحَظّ الْأَوْفَر مِنْ الْبِرّ، وَتُقَدَّمَ فِي ذَلِكَ عَلَى حَقّ الْأَب عِنْد الْمُزَاحَمَة» اهـ.

1313 - عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع علِيّ، لن يفترقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض. 1314 - عليٌّ مني بمنزلة رأسي من بدني. 1315 - عليٌّ يزهر في الجنة ككواكب الصبح لأهل الدنيا. 1316 - عليٌّ يعسوب المؤمنين (¬1)، والمال يعسوب المنافقين. 1317 - عليك بالإياس مما في أيدي الناس (¬2)، وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر. 1318 - عليك بالعلم؛ فإن العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والعمل قيِّمُه، والرفق أبوه، واللين أخوه، والصبر أمير جنوده. 1319 - عليكم بالحناء فإنه يُنَوّر رؤوسكم، ويطهر قلوبكم، ويزيد في الجماع، وهو شاهد في القبر (¬3). 1320 - عليكم بالشفائين: العسل والقرآن (¬4). ¬

(¬1) (يعسوب المؤمنين) أي سيدهم، واليعسوب أمير النحل ثم كثر حتى سَمُّوا كل رئيس يعسوبًا. (¬2) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ سدد خطاكم قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّكَ النَاسُ» (رواه ابن ماجه وغيره، وصححه الألباني). (¬3) كثير من الناس يعتاد وضع الحناء في القبر مع الميت، وهو خلاف السنة، ولعل أول من فعل ذلك أو حَسّنه للناس اعتمد على ما أخرجه ابن عساكر عن معروف الخياط عن واثلة: «عليكم بالحناء فإنه ينور رؤوسكم، ويطهر قلوبكم، ويزيد في الجماع، وهو شاهد في القبر»، قال السيوطي: «ومعروف منكَر الحديث جدًا»، ولو ثبت فلا دليل فيه لأن المراد أن خضاب الشيب بالحناء عمل شاهد لمتعاطيه في القبر. (انظر: الجد الحثيث في بيان ما ليس بحديث لأحمد بن عبد الكريم الغزي العامري ص251). (¬4) في القرآن والعسل شفاء بنص القرآن الكريم، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} (الإسراء: 82)، وقال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)} (النحل: 68 - 69).

1321 - عليكم بلباس الصوف تجدوا حلاوة الإيمان في قلوبكم، وعليكم بلباس الصوف تجدوا قلة الأكل، وعليكم بلباس الصوف تُعْرَفون به في الآخرة، وإن لباس الصوف يورث القلب التفكر، والتفكر يورث الحكمة، والحكمة تجري في الجوف مجرى الدم، فمن كثر تفكره قل طعمه، وكَلّ لسانُه، ورَقَّ قلبُه، ومن قل تفكره كثر طعمه، وعظم بدنه، وقسا قلبه، والقلب القاسي بعيد من الجنة، قريب من النار. 1322 - عَمّار يزول مع الحق حيث يزول. 1323 - عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة. 1324 - عمر معي، وأنا مع عمر، والحق بعدي مع عمر حيث كان. 1325 - عمر، وإنه لحسنة من حسنات أبيك»، رُوِيَ عن عائشة قالت: «كانت ليلتي من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلما ضمني وإياه الفراش نظرتُ إلى السماء فرأيتُ النجوم مشتبكة فقلت: «يا رسول الله، في هذه الدنيا رجل له حسنات بعدد نجوم السماء؟»، فقال: «نعم»، قلت: «من؟»، قال: «عمر، وإنه لحسنة من حسنات أبيك». 1326 - عند جهينة الخبر اليقين. 1327 - عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. 1328 - عند كل ختمة للقرآن دعوة مستجابة (¬1). ¬

(¬1) يُشْرع لكل تالٍ للقرآن أن يجمع أهله بعد أن يختم القرآن وأن يدعو له ولهم بما فيه خير الدنيا والآخرة، والوارد عن السلف هو الدعاء بعد ختم القرآن، بدون التزام بدعاء معين أو صيغة معينة، فالمسلم إذا ختم القرآن الكريم سواء في رمضان أو غير رمضان، فإنه يستحب له أن يرفع يديه، ويدعو الله تعالى، ويسأله من خير الدنيا والآخرة. سئل الشيخ ابن باز - رحمه الله -: «هل هناك دعاء معين لختم القرآن؟»، فأجاب: «لم يرد دليل على تعيين دعاء معين فيما نعلم، ولذلك يجوز للإنسان أن يدعو بما شاء ويتخير من الأدعية النافعة كطلب مغفرة الذنوب والفوز بالجنة والنجاة من النار، والاستعاذة من الفتن وطلب التوفيق لفهم القرآن الكريم على الوجه الذي يرضي الله - سبحانه وتعالى -، والعمل به وحفظه، ونحو ذلك لأنه ثبت عن أنس سدد خطاكم أنه كان يجمع أهله عند ختم القرآن ويدعو» اهـ. [مجموع فتاوى ابن باز (11/ 358)]. ... = = وقال الشيخ الألباني - رحمه الله -: «إن الدعاء المطبوع في آخر بعض المصاحف المطبوعة في تركيا وغيرها تحت عنوان: (دعاء ختم القرآن)، والذي ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -؛ فهو مما لا نعلم له أصلًا عن ابن تيمية أو غيره مِن علماء الإسلام. . . ومما لا شك فيه أن التزام دعاء معين بعد ختم القرآن من البدع التي لا تجوز؛ لعموم الأدلة، كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة، وكُلّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ»، وهو من البدع التي يسميها الإمام الشاطبي بـ «البدعة الإضافية»، وشيخُ الإسلام ابن تيمية مِن أبْعَد الناس عن أن يأتي بمثل هذه البدعة، كيف وهو كان له الفضل الأول - في زمانه وفيما بعده - بإحياء السنن وإماتة البدع؟ جزاه الله خيرًا». [سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة (13/ 315)].

1329 - عند معصية آدم فى الجنة ناداه الله: «أيْ آدم لا تجزع من قولى لك: «أخرج منها»؛ فلك خلقْتُها ولكن انزل إلى الأرض وذل نفسك مِن أجلى وانكسِرْ فى حبي، حتى إذا زاد شوقُك إلىَّ وإليها تعالَ لأدخلك إليها مرة أخرى. يا آدم كنتَ تتمنى أن أعصمك؟»، قال آدم: «نعم». فقال: «يا آدم إذا عصمْتُك وعصمتُ بَنِيكَ فعَلَى مَن أجودُ برحمتي، وعلى مَن أتفضلُ بكرمي، وعلى من أتودد، وعلى من أغفر، يا آدم، ذَنبٌ تذلّ به إلينا أحَبُّ إلينا مِن طاعة تُرائي بها علينا. يا آدم أنينُ المذنبين أحبُّ إلينا من تسبيح المرائيين». 1330 - عنوانُ صحيفة المؤمن حُبُّ عليّ بن أبي طالب. 1331 - عنوانُ كتاب المؤمن يوم القيامة حُسْنُ ثناء الناس. 1332 - عودوا المرضى ومُرُوهم فلْيَدْعُوا لكم؛ فإن دعوة المريض مستجابة، وذنبه مغفور. 1333 - عُوَيْمِر حكيمُ أمتي، وجُندُب طريد أمتي؛ يعيش وحده، ويموت وحده، واللهُ يبعثه وحده (¬1). ¬

(¬1) عويمر بن زيد بن قيس الأنصاري هو أبو الدرداء، وجندب بن جنادة هو أبو ذر الغفاري، وهما صحابيّان - رضي الله عنهما -.

موضوعات عامة

موضوعات عامة

51 - البركة من الله ظاهرة قلة البركة: من الظواهر التي لاحظها كثير من الناس اليوم قلّة البركة في الأموال والأولاد وعدم الانتفاع بالأرزاق والأبناء، حتى إن الرجل ليكون مرتّبه عاليًا ودخله جيدًا وأبناؤه عُصْبَة من الرجال الأقوياء الأشداء ثم تراه يقترض ويستدين، ويعيش في بيته وحيدًا أو مع زوجه العجوز لا أحد من أبنائه يحدب عليه أو يلتفت إليه. ولربما دخل كثير من الناس السوق وجيبه مليء بالمال، فلا يخرج إلا وهو صفر اليدين أو قد تحمَّل شيئًا من الدَّين، وعندما ينظر فيما أتى به من أغراض وحاجات لأهله لا يجد إلا أشياء كمالية صغيرة، يحملها بين يديه بلا عناء، ولا تساوي ما أنفق فيها من مال. وإن هذا الأمر ليس قضية عارضة أو مسألة هينة، بل هو في الواقع يشكل ظاهرة ملموسة وقضية محسوسه، ويعد منحنى خطيرًا في حياة المجتمع المسلم، يجب على كل فرد أن يدرسه ويتعرف أسبابه، ويبحث عن حله الناجح وعلاجه الناجع، فيأخذ به ويقي نفسه، لعل الله أن ينجيه مما ابتلي به غيره من الناس، أو مما قد يكون هو نفسه مبتلى به. إن البركة قد افتقدها كثير منا في أغلب أموره، ورغم ذلك لا يتنبه إلى ذلك ولا يحزن على فقدها أو يحاول أن يفعل الأسباب لتحصيلها. ولو استعرضنا حال من نُزِعَتْ منه البركة لوجدنا ما يُحزن: الذرِّيةُ التي يقول الله تعالى عنها: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46 (صارت عند بعض الناس مصدر شقاء ومتاعب، لماذا؟ لأنه لم يبارك فيهم.

الزوجة التي يقول الله - عز وجل - عنها في كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} (الروم: 21 (لا ألفة، ولا مودّة، ولا رحمة، مشاكل، خلافات، محاكم، لماذا؟ لأنه لم يبارَك فيها. بركة العمر: العمر، أغلى ما يملك الإنسان في الدنيا عمره، تمر السنة والسنتان والعشر سنين والواحد منهم مكانه يراوح، في عبادته، في علمه، في حفظه لكتاب الله، في تفقهه، في دينه، وإن تقدم فشيئًا يسيرًا، يعيش الواحد منهم الستين والسبعين سنة وإذا قارن هذا العمر الطويل بما قدم للآخرة يجد الفارق الهائل، ربما لم يحفظ خمسة أجزاء من القرآن، لماذا؟ لأنه لم يبارَك له في عمره. أوقات كثير منهم مهدره، أربعٌ وعشرون ساعة في اليوم والليلة، لو تأملنا كيف تذهب لَحَزَنَّا على ذلك، ست ساعات في النوم، ست ساعات في العمل، وساعة للصلوات الخمس، كلها ما يقارب اثنتي عشرة إلى ثلاث عشرة ساعة، والباقي ما يقارب النصف ضائع، لماذا؟ لأن البركة نُزِعت من الوقت. ومما يزيد الأمر خطورة أننا سوف نُسأل عن أعمارنا: فيم قضيناها؟ فعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). (فِيمَا أَفْنَاهُ) أَيْ صَرَفَهُ (وَعَنْ شَبَابِهِ) أَيْ قُوَّتِهِ فِي وَسَطِ عُمُرِهِ (فِيمَا أَبْلَاهُ) أَيْ ضَيَّعَهُ. والْمُرَادُ سُؤَالُهُ عَنْ قُوَّتِهِ وَزَمَانِهِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْهُ عَلَى أَقْوَى الْعِبَادَةِ. (وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اِكْتَسَبَهُ) أَيْ أَمِنْ حَرَامٍ أَوْ حَلَالٍ؟ (وَفِيمَا أَنْفَقَهُ) أَيْ فِي طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ. ماذا نقول لله إذا سألنا عن أعمارنا فيم أفنيناها؟ نقول: نصف أعمارنا ضائع فيما لا فائدة منه، أغلى شيء نملكه في الدنيا نضيّع نصفه، خسارة كبيرة.

والوقتُ أنْفَسُ ما عُنيتَ بحفظهِ ... وأراه أسهلَ ما عليك يُضَيَّعُ ولعل أوجز كلمة في تعريف الوقت هي: «الوقت هو الحياة». وقال علي بن أبي طالب سدد خطاكم: «من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد بناه، أو حمد حصّله، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه، وظلم نفسه». وقال ابن القيم - رحمه الله -: «وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم وهو يمر مَرّ السحاب، فما كان مِن وقت لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، وإن عاش فيه عيش البهائم، فإذا قطع وقته في الغفلة واللهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطَالة، فموت هذا خير من حياته». وكما قيل: «إن الليل والنهار رأس مال المؤمن، ربحُها الجنة وخسرانها النار». وقال ابن القيم - رحمه الله -: «السَّنَةُ شجرة، والشهور فروعُها، والأيام أغصانُها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثِمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة، فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية، فثمرته حنظل». وقد قيل: «الوقت المفقود لايُشترى بالنقود، وأمس لايُرَدّ وغدًا ليس في اليد، كثير من الناس يظنون أنهم يقتلون الوقت، ولكن الوقت هو الذي يقتلهم». بركة العلم: نزعت البركة من علم كثير منا، تجد الواحد عنده شهادة جامعية أو خريج كلية علوم شرعية وليس له أثر في أهله وجيرانه وأقاربه، كم سمعنا من المحاضرات، كم حضرنا مجالس علم، كم قرأنا من كتب، أين أثر ذلك علينا وعلى أهلنا وجيراننا ومجتمعنا؟ لا شيء، لماذا؟ لأنه لم يبارَك فيه، لماذا؟ لأننا ربما لم تكن نيتنا خالصة لله، أو لم نستشعر مسؤوليه تبليغ العلم،، لا نستشعر أهمية الدعوة إلى الله. عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ابن العاص - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّى وَلَوْ آيَةً» (رواه البخاري).

هذا هو حال من نزعت منه البركة، تحولت النِعَمُ إلى نِقَم، وأسباب الراحة والسعادة إلى شقاء ومتاعب، وأصبح يجري وراء الدنيا، كالذي يشرب من البحر؛ كلما زاد شربًا زاد عطشًا. فكيف المخرج من ذلك؟ ما السبيل إلى حصول البركة؟ ماذا نعمل حتى تحصل لنا البركة ونسعد بما يعطينا الله من نعم؟ تعريف البركة: البَرَكَةُ، هي النَّماءُ والزيادةُ، وهي شيء من خير يجعله الله تعالى في بعض مخلوقاته، والتَّبْريكُ الدُّعاءُ بها. والبركة هي الزيادة في الخير والأجر وكل ما يحتاجه العبد في دينه ودنياه بسبب ذات مباركة أو زمان مبارك. وهي: أن تعمل في الزمن القصير ما لا يعمله غيرك في الزمن الكثير. ضوابط في مفهوم البركة: 1 - البركة كلها من الله كما أن الرزق من الله؛ فلا تطلب البركة إلا من الله؛ ويدل على هذا قوله تعالى: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} (هود: 48)، وقوله: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} (هود: 73). فإذا كانت البركة من الله فطلبُها من غيره شرك. البركة من الله - عز وجل - , وهو الذي يبارك ويجعل الشيء مُباركًا، قال تعالى على لسان عيسى - عليه السلام -: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (مريم: 31). والله - سبحانه وتعالى - هو الذي يجعل البركة فيمن شاء، وفيما شاء كما قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 71). ويبارك على من شاء، كما قال تعالى: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} (الصافات: 113). والله الذي يبارك وحده، ولا يجوز للمخلوق أن يقول: باركتُ على الشيء، أو يُقال له: بارِكْ لنا، أو: اجعَلْ لنا بركة.

عن سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَدْ رَأَيْتُنِي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَدْ حَضَرَتْ الْعَصْرُ وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ، فَجُعِلَ فِي إِنَاءٍ فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ ثُمَّ قَالَ: «حَيَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ، الْبَرَكَةُ مِنْ اللهِ»، فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا فَجَعَلْتُ لَا آلُوا مَا جَعَلْتُ فِي بَطْنِي مِنْهُ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ. قُلْتُ لِجَابِرٍ: «كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟». قَالَ: «أَلْفًا وَأَرْبَعَ مِائَةٍ». (رواه البخاري). قَوْله: (وَحَضَرَتْ الْعَصْر) أَيْ وَقْت صَلَاتهَا. قَوْله: (فَجَعَلْت لَا آلُو) أَيْ لَا أُقَصِّر، وَالْمُرَاد أَنَّهُ جَعَلَ يَسْتَكْثِر مِنْ شُرْبه مِنْ ذَلِكَ الْمَاء لِأَجْلِ الْبَرَكَة. 2 - ما يُتبرك به من الأعيان والأقوال والأفعال التي ورد الشرع بها إنما هو سبب للبركة وليس هو البركة. كما أن ما يُتداوى به من الأدوية إنما هو سبب للشفاء وليس هو الشفاء، وما ذكر الشرع أن فيه بركة فيُستعمل استعمال السبب الذي قد يتخلف تأثيره لفقد شرط أو وجود مانع كما هو معلوم في قاعدة الأسباب الشرعية. وما تضاف البركة إليه إنما هو من باب إضافة الشيء إلى سببه، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - عن جويرية بنت الحارث - رضي الله عنها -: “ فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا». أي: جويرية - رضي الله عنها - هي سبب للبركة وليست المعطية للبركة؛ فلذلك لما تزوجها - صلى الله عليه وآله وسلم - أعتق الصحابة من سَبَوْهُ من قومها بني المصطلق لكونهم أصهار رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فهذه بركة عظيمة من الله والسبب هو جويرية بنت الحارث؛ فهكذا الأشياء المباركة سبب للخير والنماء والزيادة. عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها - أنَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَمَّا قَسَمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ - أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ - وَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا، وأنها أَتَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ،

فَوَقَعْتُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ ـ أَوْ لِابْنِ عَمٍّ لَهُ ـ فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِي، فَجِئْتُكَ أَسْتَعِينُكَ عَلَى كِتَابَتِي». قَالَ: «فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ؟». قَالَتْ: «وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللهِ؟». قَالَ: «أَقْضِي كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ». قَالَتْ: «نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «قَدْ فَعَلْتُ». قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: وَخَرَجَ الْخَبَرُ إِلَى النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - تَزَوَّجَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، فَقَالَ النَّاسُ: «أَصْهَارُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» فَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ. قَالَتْ عائشة: «فَلَقَدْ أَعْتَقَ بِتَزْوِيجِهِ إِيَّاهَا مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً عَلَى قَوْمِهَا مِنْهَا» (رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود، وحسنه الألباني). والْمُكَاتَبَةُ مُعَاقَدَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ، يُكَاتِبُ الرَّجُل عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ عَلَى مَالٍ مُنَجَّمٍ (أي على أقساط)، وَيَكْتُبُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُعْتَقٌ إِذَا أَدَّى النُّجُومَ. (أي الأقساط). وبَعْدَ الْتِزَامِ الْعَبْدِ بِالْمُكَاتَبَةِ يُصْبِحُ كَالْحُرِّ فِي بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ، فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ وَيُقَاسِمَ شُرَكَاءَهُ، وَيُضَارِبَ وَيُعِيرَ وَيُودِعَ وَيُؤَجِّرَ وَيُقَاصَّ، وَيَتَصَرَّفَ فِي مَكَاسِبِهِ، وَيُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ تَبْذِيرٍ، وَدُونَ إِخْرَاجِ الْمَال بِغَيْرِ عِوَضٍ. وَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ مَنْعُهُ مِنْ كُل تَصَرُّفٍ فِيهِ صَلاَحُ الْمَال وَاكْتِسَابُ الْمَنَافِعِ. 3 - التماس البركة في شيء من الأشياء مَبْنِيٌّ على التوقيف؛ فالذي يدل على حصول البركة من عدمها إنما هو الدليل الشرعي فحسب. 4 - البركة التي توجد في بعض المخلوقات من الذوات أو الأماكن وغيرها من فضل الله اختصها الله بذلك لحكمة يعلمها.

من صفات الله تعالى أنه تبارك: ومن صفات الله تعالى أنه تبارك كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ... (الملك: 1) , {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} (الفرقان: 61) , {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (الفرقان: 1). واسمه تعالى مباركٌ تُنال معه البركة، قال - عز وجل -: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (الرحمن: 78). وكلُّ شيءٍ لا يكونُ لله فبركتُه منزوعَة، والربُّ هو الذي يُبارِك وحدَه، والبركةُ كلُّها مِنه، وهو سبحانَه تبارَك في ذاتِه، ويباركُ فيمن شاءَ من خلقِه، قال - عز وجل -: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الزخرف: 85). وكلُّ ما نُسِب إليه فهو مبارَك. قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} (الأعراف: 54). {يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} كلما جاء الليل ذهب النهار، وكلما جاء النهار ذهب الليل، وهكذا أبدا على الدوام، حتى يطوي الله هذا العالم، وينتقل العباد إلى دار غير هذه الدار. {تَبَارَكَ اللَّهُ} أي: عَظُم وتعالَى وكَثُر خيرُه وإحسانُه، فتبارك في نفسه لعظمة أوصافه وكمالها، وبارك في غيره بإحلال الخير الجزيل والبر الكثير، فكل بركة في الكون، فمن آثار رحمته، ولهذا قال: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}. والله سبحانه يختص بعض خلقه بما يشاء من الخير والفضل والبركة كالرسل والأنبياء. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} (آل عمران: 33)، وقال تعالى عن عيسى - عليه السلام -: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} (مريم: 31).

وكذلك فضل الله بعض الأماكن على بعض وبارك فيها كمكة والمدينة والمسجد الأقصى. وفضل بعض الأزمنة على بعض وبارك فيها، كشهر رمضان وليلة القدر وعشر ذي الحجة ويوم الجمعة. وأيضًا فقد أوجد جل وتعالى البركة في الأشياء كالمطر والسحور ونحوها. والله جلّ وعلا برحمته يأتي بالخيرات، وبفضله يضاعِف البركات، وليسَت سَعةُ الرّزق والعملِ بكثرته، ولا زيادةُ العمر بتعاقُب الشهور والأعوام، ولكن سعةُ الرزقِ والعمُر بالبركة فيه. وبالعمَل المبارَك يُكتسَب الذّكر الجميل في الحياة، وجزيلُ الثوابِ في الآخرة، فيه طهارةُ القلبِ وزكاةُ النفس وعليُّ الخلُق. لا غِنَى لأحدٍ عن بركةِ الله: والبركةُ ما كانت في قليلٍ إلاَّ كثَّرته، ولا في كثير إلا نفَعَته، ولا غِنَى لأحدٍ عن بركةِ الله، حتى الأنبياء والرسل يطلبونها من خالقِهم. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِى فِى ثَوْبِهِ، فَنَادَى رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى قَالَ بَلَى يَا رَبِّ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى لِى عَنْ بَرَكَتِكَ». (رواه البخاري). (بَيْنَا): بينما. (خَرَّ عَلَيْهِ) أَيْ سَقَطَ عَلَيْهِ. (رِجْلُ جَرَادٍ) أَيْ جَمَاعَةُ جَرَادٍ، وَالْجَرَادُ اِسْمُ جَمْعٍ وَاحِدُهُ جَرَادَةٌ كَتَمْرٍ وَتَمْرَةٍ. (يَحْثِي) أَيْ يَأْخُذُ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا. (فَنَادَاهُ رَبُّهُ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِوَاسِطَةٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ. (قَالَ: بَلَى) أَيْ أَغْنَيْتنِي. وَفِي الْحَدِيثِ جَوَازُ الْحِرْصِ عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الْحَلَالِ فِي حَقِّ مَنْ وَثِقَ مِنْ نَفْسِهِ بِالشُّكْرِ عَلَيْهِ، وَفِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَالِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ بَرَكَةً، وَفِيهِ فَضْلُ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ.

52 - أقسام البركة

52 - أقسام البركة أقسام البركة التي جعلها الله في الأشياء: البركة التي جعلها الله في الأشياء تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: بركة ذاتية، جعلها الله في الذوات: وهذه البركة هي في أجسام الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام- , فيجوز أن يتبرك من يشاء من قومهم بهم، إما بالتمسّح بأجسامهم أو بعرقهم أو بشعرهم؛ لأن الله قد جعل أجسامهم مباركة، فمن تبرك بهم تعدت إليه البركة، وقد كان نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ذا جسدٍ مبارك، فكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتبركون بشعره - صلى الله عليه وآله وسلم -، وفي حديث أنس - رضي الله عنه - قال: «لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ: «احْلِقْ»، فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: «اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» (رواه مسلم) , وكان إِذَا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ (رواه البخاري). وهذه البركة الذاتية خاصة بالأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام -. القسم الثاني: بركة معنوية، ومنها: بركة المسلم فكل مسلم مبارك , وهي بركة ما معه من الإسلام والتقوى، ومتابعة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ» (رواه البخاري). وهذه بركة عمل، وكلما كان المسلم أكثر تمسكًا واتباعًا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كان أكثر بركةً , فالتبرك بأهل العلم والتقوى هو الأخذ من علمهم والاقتداء بهم في التقوى والعمل الصالح، ولا يجوز أن يُتَمَسَّح بهم أو يُؤْخَذ ريقُهم للتبرك به لأن الصحابة الكرام - رضي الله عنهم - لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة بعد نبيها - وهم أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -.

ومن البركة المعنوية بركة بعض البلاد، كبيت الله الحرام، وحول المسجد الأقصى {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: 1). فهي مباركة بما فيها من الخير الكثير لمن أرادها لعبادة الله وطاعته، وكذلك الحجر الأسود لمن استلمه وقبَّلَه طاعةً لله فيحصل على بركة متابعة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقد قال عمر - رضي الله عنه - لمّا قبَّل الحجر: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» (رواه البخاري ومسلم). ومنها بركة بعض الأزمنة، كرمضان، والعشر من ذي الحجة، ففيها بركة بمعنى أن من أطاع الله فيها واجتهد في ذلك فإنه يحصل على ثواب عظيم مما لا يحصل عليه في غيرها من الأزمنة. ومنها بركة بعض الأشجار، كالنخلة وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ» (رواه البخاري) , فالبركة فيها لما يحصل عليه الناس منها من المنافع، من ثمرها، وعيدانها، وسعفها ونحو ذلك. القرآن كلام الله المبارك: القرآنُ العظيم كثيرُ الخيراتِ، كتابٌ مبارَك محكَم، فصلٌ مهيمِن، أنزله الله رحمة وشفاءً وبيانًا وهُدى، قال سبحانه: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} (الأنبياء: 50). {وَهَذَا} أي: القرآن {ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} فوصفه بوصفين جليلين: كونه ذكرًا يُتَذَكّرُ به جميع المطالب، من معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن صفات الرسل والأولياء وأحوالهم، ومن أحكام الشرع من العبادات والمعاملات وغيرها، ومن أحكام الجزاء والجنة والنار. وكونه مباركًا يقتضي كثرة خيراته ونمائها وزيادتها، ولا شيء أعظم بركة من هذا القرآن، فإن كل خير ونعمة، وزيادة دينية أو دنيوية، أو أخروية، فإنها بسببه،

وأثر عن العمل به، فإذا كان ذكرًا مباركًا، وجب تلقيه بالقبول والانقياد، والتسليم، وشكر الله على هذه المنحة الجليلة، والقيام بها، واستخراج بركته، بتعلم ألفاظه ومعانيه. وأما مقابلته بضد هذه الحالة، من الإعراض عنه، والإضراب عنه صفحًا وإنكاره، وعدم الإيمان به فهذا من أعظم الكفر وأشد الجهل والظلم، ولهذا أنكر تعالى على من أنكره فقال: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (الأنعام 92). أي: {وَهَذَا} القرآن الذي {أَنْزَلْنَاهُ أَنْزَلْنَاهُ} إليك {مُبَارَكٌ} أي: وَصْفُه البركة، وذلك لكثرة خيراته، وسعة مبراته. {مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: موافق للكتب السابقة، وشاهد لها بالصدق. {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي: وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى، وهي: مكة المكرمة، ومن حولها، من ديار العرب، بل، ومن سائر البلدان. فتحذر الناس عقوبة الله، وأخذه الأمم، وتحذرهم مما يوجب ذلك. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} لأن الخوف إذا كان في القلب عمرت أركانه، وانقاد لمراضي الله. وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام: 155). {وَهَذَا} القرآن العظيم، والذكر الحكيم. {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} أي: فيه الخير الكثير والعلم الغزير، وهو الذي تستمد منه سائر العلوم، وتستخرج منه البركات، فما من خير إلا وقد دعا إليه ورغب فيه، وذكر الحكم والمصالح التي تحث عليه، وما من شر إلا وقد نهى عنه وحذر منه، وذكر الأسباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة {فَاتَّبِعُوهُ} فيما يأمر به وينهى، وابنوا أصول دينكم وفروعه عليه

{وَاتَّقُوا} الله تعالى أن تخالفوا له أمرا {لَعَلَّكُمْ} إن اتبعتموه {تُرْحَمُونَ} فأكبر سبب لنيل رحمة الله اتباع هذا الكتاب، علما وعملًا. ومِن بركة القرآن: 1 - أنَّ مَن أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أممًا كثيرةً مِن الشرك. 2 - أنَّ الحرف الواحد بعشر حسنات قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا لَا أَقُولُ (الم) حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ». (رواه الترمذي وصححه الألباني). 3 - أنَّه يقدَّم صاحبُه على الناس في الإمامة، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ» (رواه البخاري ومسلم). 4 - أنَّه يقدَّم حافظهُ على غيره في اللحد، كما فعل - صلى الله عليه وآله وسلم - (رواه البخاري). 5 - أنَّ الله تعالى يرفع صاحبه درجةً بكل آيةٍ كان يحفظها في الدنيا، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). 6 - من بركات القرآن أنه رُقْيَة وجعل الله تعالى في قراءته شفاءً للمؤمنين، سواءً مِن الأمراض الحسيَّةِ، أو المعنويةِ، قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي سدد خطاكم قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ العَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الحَيِّ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ شَيْءٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: «لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلاَءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ»، فَأَتَوْهُمْ، فَقَالُوا: «يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ، وَسَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لاَ يَنْفَعُهُ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ شَيْءٍ؟».

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: «نَعَمْ، وَاللهِ إِنِّي لَأَرْقِي، وَلَكِنْ وَاللهِ لَقَدِ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ لَكُمْ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا»، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ، فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ. قَالَ: فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: «اقْسِمُوا»، فَقَالَ الَّذِي رَقَى: «لاَ تَفْعَلُوا حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَنَذْكُرَ لَهُ الَّذِي كَانَ، فَنَنْظُرَ مَا يَأْمُرُنَا»، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَذَكَرُوا لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ»، ثُمَّ قَالَ: «قَدْ أَصَبْتُمْ، اقْسِمُوا، وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا» فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - (رواه البخاري). (فَاسْتَضَافُوهُمْ): طلبوا منهم الضيافة. (فَلُدِغَ): ضربته حية أو عقرب. (الرَّهْطَ): ما دون العشرة من الرجال. (لَأرْقِي): من الرُّقْية وهي كل كلام استشفي به من وجع أو غيره. (جُعْلا): أجرة. (فصَالَحُوهم): اتفقوا معهم. (قَطِيع): طائفة من الغنم. (يَتْفِل): من التفل وهو النفخ مع قليل من البصاق. (نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ) فك من حبل كان مشدودًا به. (قلَبة) عِلّة. (وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ) ما الذي أعلمك أنها يرقى بها. (وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا) اجعلوا لي منه نصيبًا. يقول ابن القيم عن نفسه: «مكثتُ بمكة مدة يعتريني أدواء ولا أجد طبيبًا ولا دواءً فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيرًا عجيبًا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألمًا فكان كثيرٌ منهم يبرأ سريعًا». ثم يقول - رحمه الله -: «ولكن هاهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الآيات والأدعية التي يستشفى بها ويرقى بها هي في نفسها نافعة شافية، ولكن تستدعى قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره. فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل».

سورة مباركة: وسورةُ البقرة سورة مبارَكة، مأمورٌ بتعلّمها، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» (رواه مسلم). (فَإِنَّ أَخْذَهَا) يعني المواظبة على تلاوتها والعمل بها (بَرَكَةٌ): أي زيادة ونماء (وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ) أي تأسف على ما فات من الثواب (وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) بفتح الباء والطاء: أي السحرة: تسمية لهم باسم فعلهم لأن ما يأتون به باطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل. أو المراد سَحَرة البيان: أي أنهم لا يستطيعونها من حيث التحدي، كما قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23 - 24). وقيل البطلة: أهل البطالة الذين لم يؤهلوا لذلك ولم يوفقوا له أي لا يستطيعون قراءة ألفاظها وتدبر معانيها لبطالتهم وكسلهم. الأنبياء - عليهم السلام - مباركون: والرسُل والدعاةُ مبارَكون بأعمالهم الصّالحةِ ودعوتهم إلى الخيرِ والهدى، قال عيسَى - عليه السلام -: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} (مريم: 31). ونوحٌ - عليه السلام - أُغدِق ببركاتٍ من الله: قال الله - عز وجل -: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} (المؤمنون: 29). أي: وبقيت عليكم نعمة أخرى، فادعوا الله فيها، وهي أن ييسر الله لكم منزلًا مباركًا، فاستجاب الله دعاءه، قال الله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ

عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} إلى أن قال: {قِيلَ يَانُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} (هود: 48). وألقَى الله البركةَ على إبراهيمَ وآله، قال تعالى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} (الصافات: 112، 113)، {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي: أنزلنا عليهما البركة، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما. وبارَك الله في إبراهيم وفي أهل بيته، قال عزّ وجلّ: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود: 73). {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أي: لا تزال رحمته وإحسانه وبركاته، وهي: الزيادة من خيره وإحسانه، وحلول الخير الإلهي على العبد {عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} أي: حميد الصفات، لأن صفاته صفات كمال، حميد الأفعال لأن أفعاله إحسان، وجود، وبر، وحكمة، وعدل، وقسط. {مَجِيدٌ} المجد: هو عظمة الصفات وسعتها، فله صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأعمها. قال ابن القيم - رحمه الله -: “ هذا البيتُ المبارَك المطهَّر أشرفُ بيوت العالم على الإطلاق، فلم يأتِ بعدَ إبراهيمَ نبيٌّ إلاَّ من أهل بيتِه، وكلُّ من دخل الجنّةَ من أولياء الله بعدَهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوَتهم “. حبيبنا ونبينا المبارك - صلى الله عليه وآله وسلم -: وفي مقدمة الأنبياء وعلى رأسهم أفضل الأنبياء وسيد الأولين والآخرين نبينا محمد؛ فإنه سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع، وله - صلى الله عليه وآله وسلم - فضائل عظيمة ومزايا كريمة أنعم الله تعالى عليه بها، فزادَتْه شرفًا وفضلًا وبركة.

ومن أعظم بركاته - صلى الله عليه وآله وسلم - هذا الدين الذي بعث به، فمَن قَبِلَها سعد في الدنيا والآخرة، ومَن ردّها خسر الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107) وما هذا النكد وهذا الشقاء الذي تعيشه البشرية إلا لبعدها عن هذه الرسالة العظيمة. أضف إلى ذلك صورًا من بركاته الحسية: من تكثيره الطعام، ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة. عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: عَطِشَ النَّاسُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوَةٌ فَتَوَضَّأَ فَجَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ، فَقَالَ «مَا لَكُمْ؟». قَالُوا: «لَيْسَ عِنْدَنَا مَاءٌ نَتَوَضَّأُ وَلاَ نَشْرَبُ إِلاَّ مَا بَيْنَ يَدَيْكَ»، فَوَضَعَ يَدَهُ فِى الرَّكْوَةِ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَثُورُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ كَأَمْثَالِ الْعُيُونِ، فَشَرِبْنَا وَتَوَضَّأْنَا. قُلْتُ: «كَمْ كُنْتُمْ؟». قَالَ: «لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً» (رواه البخاري ومسلم). (الرَّكْوة) إناءٌ صغير من جِلْدٍ يُشْرَب فيه الماءُ والجمع رَكَوات بالتحريك ورِكاءٌ. (جَهَشَ النَّاسُ نَحْوَهُ) أَيْ أَسْرَعُوا لِأَخْذِ الْمَاء. وعَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَمَصًا فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي فَقُلْتُ لَهَا: «هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؛ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَمَصًا شَدِيدًا»، فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ. فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي فَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقَالَتْ: «لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَنْ مَعَهُ». فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا قَدْ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَتْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا؛ فَتَعَالَ أَنْتَ فِي نَفَرٍ مَعَكَ»، فَصَاحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ لَكُمْ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِكُمْ».

وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَتَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ»، فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقْدَمُ النَّاسَ حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: «بِكَ وَبِكَ». فَقُلْتُ: «قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ لِي»، فَأَخْرَجْتُ لَهُ عَجِينَتَنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ فِيهَا وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعِي خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا»، وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللهِ لَأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ» (رواه البخاري ومسلم). (خَمَصًا): أَيْ ضَامِر الْبَطْن مِنْ الْجُوع. (فَانْكَفَأْت إِلَى اِمْرَأَتِي): أَيْ اِنْقَلَبْت وَرَجَعْت. (فَأَخْرَجَتْ لِي جِرَابًا) وِعَاء مِنْ جِلْد. (وَلَنَا بُهَيْمَة دَاجِن) هِيَ بِضَمِّ الْبَاء تَصْغِير (بَهِيمَة) وَهِيَ الصَّغِيرَة مِنْ أَوْلَاد الضَّأْن، والدَّاجِن: مَا أَلِف الْبُيُوت. (فَجِئْته فَسَارَرْته فَقُلْت: يَا رَسُول اللهِ): فِيهِ: جَوَاز الْمُسَارَرَة بِالْحَاجَةِ بِحَضْرَةِ الْجَمَاعَة، وَإِنَّمَا نَهَى أَنْ يَتَنَاجَى اِثْنَانِ دُون الثَّالِث. (السُّور): هُوَ الطَّعَام الَّذِي يُدْعَى إِلَيْهِ، وَقِيلَ: الطَّعَام مُطْلَقًا. (فَحَيَّ هَلًا) بِتَنْوِينِ (هَلًا) وَقِيلَ: بِلَا تَنْوِين عَلَى وَزْن عَلَا وَيُقَال: (حَيّ هَلْ) فَمَعْنَاهُ: عَلَيْك بِكَذَا أَوْ اُدْعُ بِكَذَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: أَعْجِلْ بِهِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: هَاتِ وَعَجِّلْ بِهِ. (حَتَّى جِئْت اِمْرَأَتِي فَقَالَتْ: بِك وَبِك) أَيْ ذَمَّتْهُ وَدَعَتْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: بِك تَلْحَق الْفَضِيحَة، وَبِك يَتَعَلَّق الذَّمّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: جَرَى هَذَا بِرَأْيِك وَسُوء نَظَرَك وَتَسَبُّبك. (قَدْ فَعَلْت الَّذِي قُلْت لِي) مَعْنَاهُ: أَنَّى أَخْبَرْت النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِمَا عِنْدنَا فَهُوَ أَعْلَم بِالْمَصْلَحَةِ. (وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتكُمْ) أَيْ اِغْرِفِي، وَالْقَدَح: الْمِغْرَفَة. (تَرْكُوه وَانْحَرَفُوا) أَيْ شَبِعُوا وَانْصَرَفُوا. (تَغِطّ) أَيْ تَغْلِي، وَيُسْمَع غَلَيَانهَا. وَقَدْ تَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيث عَلَمَيْنِ مِنْ أَعْلَام النُّبُوَّة: أَحَدهمَا: تَكْثِير الطَّعَام الْقَلِيل، وَالثَّانِي: عِلْمه - صلى الله عليه وآله وسلم - بِأَنَّ هَذَا الطَّعَام الْقَلِيل الَّذِي يَكْفِي فِي الْعَادَة خَمْسَة أَنْفُس أَوْ نَحْوهمْ سَيَكْثُرُ فَيَكْفِي أَلْفًا وَزِيَادَة، فَدَعَا لَهُ أَلْفًا قَبْل أَنْ يَصِل إِلَيْهِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ صَاع شَعِير وَبُهَيْمَة.

53 - من صور البركة

53 - من صور البركة بركة مكة والمدينة والشام واليمن: ومما جاء الشرع أيضًا ببركته مكة، وبيتُ الله الحرام مبارك ليس في بيوتِ العالمَ أبرك منه ولا أكثرَ خيرًا ولا أدوم ولا أنفعَ للخلائق، قال جلّ وعلا: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} (آل عمران: 96). ووجه البركة، أن الطواف بالبيت فيه مغفرة للذنوب فهذه بركة، فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ أُسْبُوعًا فَأَحْصَاهُ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ وَلَا يَضَعُ قَدَمًا وَلَا يَرْفَعُ أُخْرَى إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ خَطِيئَةً وَكَتَبَ لَهُ بِهَا حَسَنَةً» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). طَافَ أُسْبُوعًا: أَيْ سَبْعَ مَرَّاتٍ. والصلاة فيه بمائة ألف صلاة، وأي بركة أعظم من هذا، فعَنْ جَابِرٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وأيضًا مدينة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مدينة مباركة الصلاة في مسجدها بألف صلاة، فعَنْ جَابِرٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وصلاة ركعتين في مسجد قباء كأجر عمرة. فعن سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ سدد خطاكم أن رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وقد دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - للمدينة بالبركة فعَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ» (رواه البخاري

ومسلم). قَوْله: «اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْت بِمَكَّة مِنْ الْبَرَكَة» أَيْ مِنْ بَرَكَة الدُّنْيَا. وأيضًا مما ورد في الشرع بركته أرض الشام، فأرض الشام أرض مباركة؛ قال - عز وجل - في شأن انتقال بني إسرائيل إلى الشام: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} (الأعراف: 137)، وقال تعالى مخبرًاعن هجرة إبراهيم ولوط سدد خطاكم إلى الشام {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 71).وقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء: 1). فأرض الشام أرض مباركة، ولقد دعا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للشام واليمن بالبركة فعَنْ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا وَفِي يَمَنِنَا» (رواه البخاري). وكون الرجل من غير هذه البلاد لا يستلزم أنه مذموم إذا كان صالحًا في نفسه، والعكس بالعكس. فكم في مكة والمدينة والشام من فاسق وفاجر، والفضيلة الدائمةُ في كلِّ زمانٍ ومكان بالإيمانِ والعمل الصّالح، وأيّ مكانٍ وعمل كان أعونَ للشّخص كان أفضلَ في حقِّه، فإن الْأَرْضَ لا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْمَرْءَ عَمَلُهُ. بركة بعض الأزمنة: لقد اصطَفى الله من الدهرِ أزمنةً، خصّها بالتشريف والبركة. بركة البكور: النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا لأمته بالبركةِ في البكور، فَعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا»، قَالَ: وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى

وَكَثُرَ مَالُهُ. (رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني). (فِي بُكُورهَا): أَيْ صَبَاحهَا وَأَوَّل نَهَارهَا. (قَالَ: وَكَانَ) أَيْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا) السَّرِيَّةُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَيْشِ يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمِائَةٍ تُبْعَثُ إِلَى الْعَدُوِّ جَمْعُهَا السَّرَايَا. (وَكَانَ يَبْعَث تِجَارَته): أَيْ مَالهَا. (فَأَثْرَى): أَيْ صَارَ ذَا ثَرْوَة أَيْ مَال كَثِير. (وَكَثُرَ مَاله): عَطْف تَفْسِير. من الأزمنة المباركة شهر رمضان: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ للهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ» (رواه النسائي وحسنه الألباني). ومن بركات هذا الشهر: أنه سبب لمغفرة الذنوب؛ قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه ِ، ومَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». (رواه البخاري ومسلم). ليلةُ القدر ليلةٌ مباركة: وشهر رمضان فيه ليلة القدر وهي ليلةٌ مباركة رفيعةُ القدر عظيمةُ المكانة، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (الدخان: 3). يقول - سبحانه وتعالى - في مطلع سورة الدخان: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)} (الدخان:1 - 7). وتلك الليلة المباركة هي ليلة القدر، نعلم ذلك من قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)} (القدر:1 - 5).

البركة في السحور: عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً» (رواه البخاري ومسلم). والْبَرَكَةَ فِي السُّحُورِ تَحْصُلُ بِجِهَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهِيَ اِتِّبَاعُ السُّنَّةِ، وَمُخَالَفَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالتَّقَوِّي بِهِ عَلَى الْعِبَادَة، وَالزِّيَادَةُ فِي النَّشَاطِ، وَمُدَافَعَةُ سُوءِ الْخُلُقِ الَّذِي يُثِيرُهُ الْجُوعُ، وَالتَّسَبُّبُ بِالصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ يَسْأَلُ إِذْ ذَاكَ أَوْ يَجْتَمِعُ مَعَهُ عَلَى الْأَكْلِ، وَالتَّسَبُّبُ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَقْتَ مَظِنَّةِ الْإِجَابَةِ، وَتَدَارُكُ نِيَّةِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَغْفَلَهَا قَبْلَ أَنْ يَنَامَ. بركة شجرة الزيتون: قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (النور: 35). عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). قَوْلُهُ: (كُلُوا الزَّيْتَ) أَيْ مَعَ الْخُبْزِ وَاجْعَلُوهُ إِدَامًا. (وَادَّهِنُوا بِهِ) أَمْرٌ مِنْ الِادِّهَانِ بِتَشْدِيدِ الدَّالِ، وَهُوَ اِسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ. يقال ادَّهَنَ رأسَه: أي طلاه بالدهن وتولى ذلك بنفسه، ولا يخفى أنه لا يختص بالرأس ولا يشترط التولي بالنفس. (فَإِنَّهُ) أَيْ الزَّيْتَ يَحْصُلُ. (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) يَعْنِي زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ، ثُمَّ وَصَفَهَا بِالْبَرَكَةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا وَانْتِفَاعِ أَهْلِ الشَّامِ بِهَا كَذَا قِيلَ. وَالْأَظْهَرُ لِكَوْنِهَا تَنْبُتُ فِي الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ اللهُ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ. وَيَلْزَمُ مِنْ بَرَكَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ بَرَكَةُ ثَمَرَتِهَا وَهِيَ الزَّيْتُونُ وَبَرَكَةُ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَهُوَ الزَّيْتُ.

بركة الخيل: وهذه البركة لارتباطها بالجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} (الأنفال: 60). وعن عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ» (رواه البخاري). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْبَرَكَةُ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ» (رواه البخاري). (اَلْبَرَكَة فِي نَوَاصِي اَلْخَيْلِ) اَلْخَيْل اَلْمُرَادُ بِهَا مَا يُتَّخَذُ لِلْغَزْوِ بِأَنْ يُقَاتَلَ عَلَيْهِ أَوْ يُرْتَبَط لِأَجْلِ ذَلِكَ لِقَوْلِه ِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، وَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ أَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَسِتْرًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ كَذَلِكَ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ وِزْرٌ» (رواه البخاري). (اَلْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ) وَجْه اَلْحَصْرِ فِي اَلثَّلَاثَةِ أَنَّ اَلَّذِي يَقْتَنِي اَلْخَيْل إِمَّا أَنْ يَقْتَنِيَهَا لِلرُّكُوبِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ وَكُلّ مِنْهُمَا إِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ فِعْلُ طَاعَة اَللهِ، وَهُوَ اَلْأَوَّلُ وَمَعْصِيَتُهُ وَهُوَ اَلْأَخِيرُ أَوْ يَتَجَرَّدُ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ اَلثَّانِي. (فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ) شَكٌّ مِنْ اَلرَّاوِي، وَالْمَرْج مَوْضِع اَلْكَلَأ، وَأَكْثَر مَا يُطْلَقُ عَلَى اَلْمَوْضِعِ اَلْمُطَمَئِنِّ وَالرَّوْضَةُ أَكْثَر مَا يُطْلَقُ فِي اَلْمَوْضِعِ اَلْمُرْتَفِعِ. (فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا) هُوَ اَلْحَبَل اَلَّذِي تُرْبَطُ بِهِ وَيُطَوَّلُ لَهَا لِتَرْعَى. وَيُقَالُ لَهُ طُوَلٌ بِالْوَاو اَلْمَفْتُوحَةِ أَيْضًا. وَقَوْله: «وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا» فِيهِ أَنَّ اَلْإِنْسَانَ يُؤَجَرُ عَلَى اَلتَّفَاصِيلِ اَلَّتِي تَقَعُ فِي فِعْل اَلطَّاعَة إِذَا قَصَدَ أَصْلهَا وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ تِلْكَ اَلتَّفَاصِيل.

(تَغَنِّيًا) أَيْ اِسْتِغْنَاء عَنْ اَلنَّاسِ. (تَعَفُّفًا) أَيْ عَنْ اَلسُّؤَالِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَطْلُبُ بِنِتَاجِهَا أَوْ بِمَا يَحْصُلُ مِنْ أُجْرَتِهَا مِمَّنْ يَرْكَبُهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ اَلْغِنَى عَنْ اَلنَّاسِ وَالتَّعَفُّف عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ. (وَلَمْ يَنْسَ حَقّ اَللهِ فِي رِقَابِهَا) قِيلَ اَلْمُرَاد حُسْنُ مِلْكِهَا وَتَعَهُّد شِبَعِهَا وَرِيِّهَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهَا فِي اَلرُّكُوبِ. (فَخْرًا) أَيْ تَعَاظُمًا. (وَرِيَاءً) أَيَّ إِظْهَارًا لِلطَّاعَة وَالْبَاطِن بِخِلَافٍ ذَلِكَ. (وَنِوَاءً لِأَهْلِ اَلْإِسْلَامِ) نَاوَأَتُ اَلرَّجُلَ نَاهَضْتُهُ بِالْعَدَاوَةِ. وَفِي هَذَا اَلْحَدِيثِ بَيَان أَنَّ اَلْخَيْلَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي نَوَاصِيهَا اَلْخَيْر وَالْبَرَكَة إِذَا كَانَ اِتِّخَاذُهَا فِي اَلطَّاعَةِ أَوْ فِي اَلْأُمُورِ اَلْمُبَاحَةِ وَإِلَّا فَهِيَ مَذْمُومَة. بركة النخلة: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جُلُوسٌ إِذَا أُتِيَ بِجُمَّارِ نَخْلَةٍ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ لَمَا بَرَكَتُهُ كَبَرَكَةِ الْمُسْلِمِ؟». فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْنِي النَّخْلَةَ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ هِيَ النَّخْلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا عَاشِرُ عَشَرَةٍ أَنَا أَحْدَثُهُمْ؛ فَسَكَتُّ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هِيَ النَّخْلَةُ» (رواه البخاري). وَبَرَكَة النَّخْلَة مَوْجُودَة فِي جَمِيع أَجْزَائِهَا، مُسْتَمِرَّة فِي جَمِيع أَحْوَالهَا، فَمِنْ حِين تَطْلُع إِلَى أَنْ تَيْبَس تُؤْكَل أَنْوَاعًا، ثُمَّ بَعْد ذَلِكَ يُنْتَفَع بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا، حَتَّى النَّوَى فِي عَلْف الدَّوَابّ وَاللِّيف فِي الْحِبَال وَغَيْر ذَلِكَ مِمَّا لَا يَخْفَى، وَكَذَلِكَ بَرَكَة الْمُسْلِم عَامَّة فِي جَمِيع الْأَحْوَال، وَنَفْعه مُسْتَمِرّ لَهُ وَلِغَيْرِهِ حَتَّى بَعْد مَوْته. الغنم بركة: فقد سُئِلَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنِ الصَّلَاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: «صَلُّوا فِيهَا، فَإِنَّهَا بَرَكَةٌ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وأبو داود، وصححه الألباني والأرنؤوط). ومن وجوه البركة في الغنم: ما فيها من اللباس والطعام والشراب وكثرة الأولاد؛ فإنها تلد في العام ثلاث مرات، إلى ما يتبعها من السكينة، وتحمل صاحبها عليه من خفض الجناح، ولين الجانب.

بركة الرزق: وإذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه، وكتب له الخير فيما أوْلاه من النعم: البركة في الأموال، والبركة في العيال، والبركة في الشؤون والأحوال، فإذا أراد الله بالعبد خيرًا بارك له في رزقه وقوته، إنها البركة التي يصير بها القليل كثيرًا، ويصير حال العبد إلى فضل ونعمة وزيادة وخير، فالعبرة كل العبرة بالبركة , فكم من قليل كثَّره الله، وكم من صغير كبَّره الله , وإذا أراد الله أن يبارك للعبد في ماله هيأ له الأسباب وفتح في وجهه الأبواب. والمالُ المبارَك ما كثُر خيرُه وتعدّدَت منافعه وبُذِل في طُرقِ البرّ والإحسان ابتغاءَ مرضاته، ومن قنِع بربحٍ حلال قليل وتحرّى الصدقَ في معاملاته ظهرتِ البركة في ماله وفي أولاده. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ حُلْوَةٌ، مَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ وَوَضَعَهُ فِي حَقِّهِ فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ» (رواه البخاري). “ فَنِعْمَ الْمَعُونَة “ فِيهِ حَذْف تَقْدِيره إِنْ عَمِلَ فِيهِ بِالْحَقِّ. وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى عَكْسه، وَهُوَ بِئْسَ الرَّفِيق هُوَ لِمَنْ عَمِلَ فِيهِ بِغَيْرِ الْحَقّ. وَقَوْله: «كَاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع» ذُكِرَ فِي مُقَابَلَة: «فَنِعْمَ الْمَعُونَة هُوَ». وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَشْبِيه الْمَال بِالصَّاحِبِ الَّذِي لَا يُؤْمَن أَنْ يَنْقَلِب عَدُوًّا، فَإِنَّ الْمَال مِنْ شَأْنه أَنْ يُحْرَز وَيُشَدّ وَثَاقه حُبًّا لَهُ وَذَلِكَ يَقْتَضِي مَنْعه مِنْ مُسْتَحِقّه فَيَكُون سَبَبًا لِعِقَابِ مُقْتَنِيه. وفيه تَشْبِيه آخِذه بِغَيْرِ حَقّ بِاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع. وَمَثَل الْمَال مَثَل الْحَيَّة الَّتِي فِيهَا تِرْيَاق نَافِع وَسُمّ نَاقِع، فَإِنْ أَصَابَهَا الْعَارِف الَّذِي يَحْتَرِز عَنْ شَرّهَا وَيَعْرِف اِسْتِخْرَاج تِرْيَاقهَا كَانَ نِعْمَة، وَإِنْ أَصَابَهَا الْغَبِيّ فَقَدْ لَقِيَ الْبَلَاء الْمُهْلِك. وَفِي الْحَدِيث أَنَّ الْمُكْتَسِب لِلْمَالِ مِنْ غَيْر حِلّه لَا يُبَارَك لَهُ فِيهِ لِتَشْبِيهِهِ بِاَلَّذِي يَأْكُل وَلَا يَشْبَع.

الرجل المبارك: الرجلُ المبارَك هو الذي يُنْتَفَع به حيثُما حلّ، وإذا قرُب العبد من ربّه بورِك في وقته وعمِل أعمالًا كثيرةً في زمنٍ يسير. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ صَائِمًا؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَنَا». قَالَ: «فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَنَا». قَالَ: «فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَنَا». قَالَ: «فَمَنْ عَادَ مِنْكُمْ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟». قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «أَنَا». فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (رواه مسلم). الصحبة المباركة: وخير الصُّحبةِ صُحبةُ الصالحين، وأزكى المجالس مجالسُ الذّكر، تحضرُها الملائكة، ويُغفَر لجليسها وهذا من بركَتهم على نفوسهم وعلى جليسهم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ لِلهِ مَلَائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللهَ تَنَادَوْا هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ، فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ -: «مَا يَقُولُ عِبَادِي؟». قَالُوا: «يُسَبِّحُونَكَ وَيُكَبِّرُونَكَ وَيَحْمَدُونَكَ وَيُمَجِّدُونَكَ». فَيَقُولُ: «هَلْ رَأَوْنِي؟». فَيَقُولُونَ: «لَا وَاللهِ مَا رَأَوْكَ». فَيَقُولُ: «وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟». يَقُولُونَ: «لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا». يَقُولُ: «فَمَا يَسْأَلُونِي». قَالُوا: «يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ». قَالَ: «وَهَلْ رَأَوْهَا؟». قَالُوا: «لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا». قَالَ: «فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟». قَالُوا: «لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً». قَالَ: «فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟». قَالُوا: «مِنْ النَّارِ». قَالَ: «وَهَلْ رَأَوْهَا؟». قَالُوا: «لَا وَاللهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا». قَالَ: «فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟». قَالُوا: «لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً». فَيَقُولُ: «فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ؛ فَأَعْطَيْتُهُمْ مَا سَأَلُوا

وَأَجَرْتُهُمْ مِمَّا اسْتَجَارُوا». فَيَقُولُونَ: «رَبِّ فِيهِمْ فُلَانٌ عَبْدٌ خَطَّاءٌ، إِنَّمَا مَرَّ فَجَلَسَ مَعَهُمْ». فَيَقُولُ: «وَلَهُ غَفَرْتُ؛ هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ». (رواه البخاري ومسلم). (فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) أَيْ يَدْنُونَ بِأَجْنِحَتِهِمْ حَوْل الذَّاكِرِينَ. (هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ) فِي هَذِهِ الْعِبَارَة مُبَالَغَة فِي نَفْي الشَّقَاء عَنْ جَلِيس الذَّاكِرِينَ، فَلَوْ قِيلَ: «لَسَعِدَ بِهِمْ جَلِيسهمْ» لَكَانَ ذَلِكَ فِي غَايَة الْفَضْل، لَكِنَّ التَّصْرِيح بِنَفْيِ الشَّقَاء أَبْلَغ فِي حُصُول الْمَقْصُود. وَفِي الْحَدِيث فَضْل مَجَالِس الذِّكْر وَالذَّاكِرِينَ، وَفَضْل الِاجْتِمَاع عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ جَلِيسهمْ يَنْدَرِج مَعَهُمْ فِي جَمِيع مَا يَتَفَضَّل الله تَعَالَى بِهِ عَلَيْهِمْ إِكْرَامًا لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُشَارِكهُمْ فِي أَصْل الذِّكْر. وَفِيهِ مَحَبَّة الْمَلَائِكَة بَنِي آدَم وَاعْتِنَاؤُهُمْ بِهِمْ، وَفِيهِ أَنَّ السُّؤَال قَدْ يَصْدُر مِنْ السَّائِل وَهُوَ أَعْلَم بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ مِنْ الْمَسْئُول لِإِظْهَارِ الْعِنَايَة بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ وَالتَّنْوِيَة بِقَدْرِهِ وَالْإِعْلَان بِشَرَفِ مَنْزِلَته. وَفِيهِ بَيَان كَذِب مَنْ اِدَّعَى مِنْ الزَّنَادِقَة أَنَّهُ يَرَى الله تَعَالَى جَهْرًا فِي دَار الدُّنْيَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «تَعَلَّمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ». تنبيه: ليس في هذا الحديث ولا في غيره أن مجالس الذكر هذه فيها أحد الأشخاص يذكر الله وبقية المجلس يرددون وراءه، وليس فيه أنهم يرددون بصوت جماعي. فهذه الحديث لا يدل على الذكر الجماعي واستحبابه، وإنما يدل على استحباب الاجتماع على ذكر الله، وهناك فرق كبير بين هذا وذاك فالاجتماع على ذكر الله مستحب مندوب إليه بمقتضى الأحاديث الواردة في فضله، ولكن على الوجه المشروع.

والذكر الجماعي: هو ما يفعله بعض الناس من الاجتماع في أدبار الصلوات المكتوبة أو في غيرها من الأوقات والأحوال ليرددوا بصوت جماعي أذكارًا وأدعية وأورادًا وراء شخص معين، أو دون قائد، لكنهم يأتون بهذه الأذكار في صيغة جماعية وبصوت واحد. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الْغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ مَنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً». (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). قد يفهم البعض من هذا الحديث استحباب الذكر الجماعي، وليس هذا بصحيح، وإنما فيه استحباب الاجتماع على الذكر، بمعنى أن يُعِينَ بعضُنا بعضًا عليه بالتواجد في مكان واحد، ويوضح ذلك أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما طبّق ذلك عمليًا لم يكن يذْكُر الله - عز وجل - مع أصحابه ذكرًا جماعيًّا، فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًا (رواه مسلم). ورواه أبو داود بلفظ: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ تَرَبَّعَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ»، وفي رواية لمسلم عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ سدد خطاكم: «أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قَالَ: «نَعَمْ، كَثِيرًا. كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ. وَكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ - صلى الله عليه وآله وسلم -. فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يذكر الله - عز وجل - ولم يكن الصحابة - رضي الله عنهم - يرددون خلفه أومعه - صلى الله عليه وآله وسلم -. ويكون فائدة الاجتماع عندئذ أنه أنشط للنفس لكونها مجبولة على التأسي، كما قالت الخنساء: وَلَولا كَثرَةُ الباكينَ حَولي ... عَلى إِخوانِهِم لَقَتَلتُ نَفسي

وقد ذكر ذكر الإمام الشاطبي المالكي أن البدعة مضادة للطريقة الشرعية من عدة أوجه، وذكر منها: «التزام الكيفيات والهيئات المعينة كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد» (الاعتصام (1/ 44).

54 - البركة في المجتمع المسلم

54 - البركة في المجتمع المسلم البركة في تحية المسلمين: تحيّة المسلمين بينهم عند اللّقاء طلبُ السّلام والرحمة والبركة. قال الله - عز وجل -: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (النور: 61) {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا} نكرة في سياق الشرط، يشمل بيت الإنسان وبيت غيره، سواء كان في البيت ساكن أم لا فإذا دخلها الإنسان {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} أي: فليسلم بعضكم على بعض، لأن المسلمين كأنهم شخص واحد، من تواددهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، فالسلام مشروع لدخول سائر البيوت، من غير فرق بين بيت وبيت. ثم مدح هذا السلام فقال: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} أي: سلامكم بقولكم: (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) أو (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) (¬1) إذ تدخلون البيوت. {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: قد شرعها لكم، وجعلها تحيتكم، {مُبَارَكَةً} لاشتمالها على السلامة من النقص، وحصول الرحمة والبركة والنماء والزيادة، ولأن فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه {طَيِّبَةً} لأنها من الكلم الطيب المحبوب عند الله، الذي فيه طيب نفس للمُحَيَّا فإن سامعها يستطيبها، وفيها محبة وجلب مودة. ¬

_ (¬1) قال بعض العلماء: «البيوت غير المسكونة يسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين».

البركة في الأسرة المسلمة: ولحرصِ الإسلام على الأسرةِ وحلولِ البركة فيها وعليها مِن أوّل نشأتها شُرع الدّعاء للزوجين بالبركة عند النكاح، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَسدد خطاكمأَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ إِذَا رَفَّأَ الْإِنْسَانَ إِذَا تَزَوَّجَ قَالَ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي خَيْرٍ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (كَانَ إِذَا رَفَّأَ الْإِنْسَان) أَيْ هَنَّأَهُ وَدَعَا لَهُ، وَكَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ لِلْمُتَزَوِّجِ أَنْ يَقُولُوا بِالرِّفَاءِ وَالْبَنِينَ، الرِّفَاء: الِالْتِئَام وَالِاتِّفَاق وَالْبَرَكَة وَالنَّمَاء. وَكَانَتْ هَذِهِ تَرْفِئَةَ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ نَهَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ ذَلِكَ، وَأَرْشَدَ إِلَى مَا فِي الحَدِيثِ. ونُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَاتِ الجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ الدُّعَاءُ بِإِنْجَابِ البَنِينَ فَقَط لِبُغْضِهِمْ لِلْبَنَاتِ، وَلِهَذَا سُنَّ فِيهِ غَيْره. فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، قَالَ: تَزَوَّجَ عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا، فَقُلْنَا: «بِالرَّفَاءِ وَالْبَنِينَ»، فَقَالَ: «مَهْ؛ لَا تَقُولُوا ذَلِكَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَدْ نَهَانَا عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «قُولُوا: بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَبَارَكَ لَكَ فِيهَا» (رواه الإمام أحمد، وصححه الأرنؤوط). الزواجُ السعيد ما صاحبه اليسرُ والتسهيلُ: وأوفرُ الزوجاتِ بركةً ما قلّت المؤونة في نكاحها، والزواجُ السعيد ما صاحبه اليسرُ والتسهيلُ؛ قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَسْهِيلُ أمْرِهَا، وَقِلّةُ صَدَاقِهَا “ (رواه ابن حبان والحاكم، وصححه على شرط مسلم، وحسنه الألباني) واليُمْن: البركة. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرُ رَحِمِهَا». (رواه ابن حبان والحاكم وغيرهما، وحسنه الألباني). (إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ) أي بركتها (تَيْسِيرُ خِطْبَتِهَا) بالكسر أي سهولة سؤال الخاطب أولياءها نكاحها واجابتهم بسهولة من غير توقف (وَتَيْسِيرُ صَدَاقِهَا) أي عدم التشديد في تكثير مهرها ووجدانه بيد الخاطب من غير كَدٍّ في تحصيله (وَتَيْسِيرُ رَحِمِهَا) أي للولادة بأن تكون سريعة الحمل كثيرة النسل.

والزوجةُ المبارَكة هي المطيعةُ لله القائمة بحقوق زوجها في غير معصيةِ الله. والولدُ المبارك هو الناشئ على طاعة ربِّه، المستمسِك بسُنّة نَبِيّه - صلى الله عليه وآله وسلم -، الصائنُ لنفسِه عن الذنوب والعِصيان. وإذا دَخل ربُّ الأسرةِ دارَه شُرع إفشاءُ السلام على أهله رجاءَ البركة، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا بُنَيَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ؛ يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» (رواه الترمذي وحسنه الألباني). (يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ) أَيْ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَيْ السَّلَامُ سَبَبَ زِيَادَةِ بَرَكَةٍ وَكَثْرَةِ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ. وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرْ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ: أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ» (رواه مسلم). البركة في تطبيق شرع الله: ما أَحْسَنَ الدِّيْنَ والدُّنْيا إذا اجْتَمَعَا ... لا بَارَكَ اللِه في دُنْيَا بِلا دِين لو كان باللُّبّ يَزْدادُ اللَّبِيْبُ غِنًى ... لَكانَ كُلُّ لَبيبٍ مِثْلَ قارُون لكِنَّما الرزْقُ بالميزانِ من حَكَمٍ ... يُعطِي اللبيبَ ويُعطي كلَّ مأفون ما تقولون في مطر يرسله الله على العباد والبلاد، فيسقي أرضهم وينبت الله به زرعهم، ويدر به ضرعهم، ويلطف به هواءهم، ويكثر ماؤهم، وتنشرح باخضرار الأرض صدورهم، وتقضى لهم حوائجهم؛ فهم في رغَد وسعد ونعمة ما بها نقمة ثم يدوم ذلك بهم أربعون صباحًا، إنها النعمة الكبرى تستحق من العباد إجمال الشكر لله - عز وجل -.

إن حدًا واحدًا يُعمَل به في الأرض خير من ذلك كله؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني). إن كل ما يمكن تصوره من رخاء وسعة عيش ورغد، كل ذلك لا يعدل في نظر المؤمن الحق تطبيق حد من حدود الله - عز وجل -. إن من أصول العقيدة الإسلامية تطبيق حدود الله في أرض الله، والحكم بشرع الله في عباد الله؛ الخلق خلْقُه، والأرضُ أرضُه، والملْكُ مُلْكُه، والحُكْمُ حُكْمُه، والشرعُ شرعُه، فعباد الله في أرض الله يجب أن يُحكَموا بشرع الله مهما شغب المشاغبون أو لبس الملَبّسون. إن الله - عز وجل - هو الذي خلقنا وهو الذي يعلم ما يصلحنا ويصلح لنا: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك: 14)، {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} (البقرة: 140)، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216). ادْعُ لأخيك ونفسك ومالك بالبركة فإن العين حق: عن سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: مَرَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقِيلَ لَهُ: «أَدْرِكْ سَهْلًا صَرِيعًا». قَالَ: «مَنْ تَتَّهِمُونَ بِهِ؟».قَالُوا: «عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ». قَالَ: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ». ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيَغْسِلْ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَرُكْبَتَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ. قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ: وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفَأَ الْإِنَاءَ مِنْ خَلْفِهِ. (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

ورواه الإمام أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خَرَجَ وَسَارُوا مَعَهُ نَحْوَ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِشِعْبِ الْخَزَّارِ مِنْ الْجُحْفَةِ اغْتَسَلَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ - وَكَانَ رَجُلًا أَبْيَضَ حَسَنَ الْجِسْمِ وَالْجِلْدِ - فَنَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ؛ فَلُبِطَ سَهْلٌ. فَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقِيلَ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، هَلْ لَكَ فِي سَهْلٍ، وَاللهِ مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَمَا يُفِيقُ». قَالَ: «هَلْ تَتَّهِمُونَ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ؟». قَالُوا: «نَظَرَ إِلَيْهِ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ». فَدَعَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَامِرًا فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ وَقَالَ: «عَلَامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؟ هَلَّا إِذَا رَأَيْتَ مَا يُعْجِبُكَ بَرَّكْتَ». ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اغْتَسِلْ لَهُ». فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَيْهِ، يَصُبُّهُ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَظَهْرِهِ مِنْ خَلْفِهِ يُكْفِئُ الْقَدَحَ وَرَاءَهُ. فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. (صححه الألباني والأرنؤوط). وفي رواية: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ مَالِهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيُبَرِّكْهُ؛ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ» (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني). عامر بن ربيعة هو صحابي هاجر هجرتين وشهد بدرًا، وسهل بن حنيف هو الأنصاري شهد بدرًا وأحُدًا. (لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ وَلَا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ) المُخَبَّأَةٍ: الجارية التي في خدرها لم تتزوج بعدُ؛ لأن صيانتها أبلغ ممن قد تزوجت وجلدُها أنعم، أي لم أرَ جلد غير مخبأة كجلد رأيتُ اليوم ولا جلد مخبأة. يعني كان جلدُ سهلٍ لطيفًا. (فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ) أي صُرِعَ وسقط الى الأرض من تأثير عين عامر. (فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ) أي ليَقُلْ له: «بارك الله عليك» حتى لا تؤثر فيه عينُه.

ونقل الإمام النووي في شرحه لحديث: (الْعَيْن حَقّ) من (صحيح مسلم) عن المازري قوله: «وَصِفَة وُضُوء الْعَائِن عِنْد الْعُلَمَاء أَنْ يُؤْتَى بِقَدَحِ مَاء، وَلَا يُوضَع الْقَدَح فِي الْأَرْض، فَيَأْخُذ مِنْهُ غَرْفَة فَيَتَمَضْمَض بِهَا، ثُمَّ يَمُجّهَا فِي الْقَدَح، ثُمَّ يَأْخُذ مِنْهُ مَاء يَغْسِل وَجْهه، ثُمَّ يَأْخُذ بِشِمَالِهِ مَاءً يَغْسِل بِهِ كَفّه الْيُمْنَى، ثُمَّ بِيَمِينِهِ مَاء يَغْسِل بِهِ مِرْفَقه الْأَيْسَر، وَلَا يَغْسِل مَا بَيْن الْمِرْفَقَيْنِ وَالْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ يَغْسِل قَدَمَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ الْيُسْرَى عَلَى الصِّفَة الْمُتَقَدِّمَة، وَكُلّ ذَلِكَ فِي الْقَدَح، ثُمَّ دَاخِلَة إِزَاره، وَهُوَ الطَّرَف الْمُتَدَلِّي الَّذِي يَلِي حِقْوه الْأَيْمَن. وَقَدْ ظَنَّ بَعْضهمْ أَنَّ دَاخِلَة الْإِزَار كِنَايَة عَنْ الْفَرْج، وَجُمْهُور الْعُلَمَاء عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ. فَإِذَا اِسْتَكْمَلَ هَذَا صَبَّهُ مِنْ خَلْفه عَلَى رَأْسه. وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُمْكِن تَعْلِيله وَمَعْرِفَة وَجْهه، وَلَيْسَ فِي قُوَّة الْعَقْل الِاطِّلَاع عَلَى أَسْرَار جَمِيع الْمَعْلُومَات، فَلَا يُدْفَع هَذَا بِأَلَّا يُعْقَل مَعْنَاهُ. قَالَ: وَقَدْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْعَائِن هَلْ يُجْبَر عَلَى الْوُضُوء لِلْمَعِينِ أَمْ لَا؟ وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَهُ بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي رِوَايَة مُسْلِم: «وَإِذَا اُسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» وَبِرِوَايَةِ الْمُوَطَّأ أَنَّهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمَرَهُ بِالْوُضُوءِ، وَالْأَمْر لِلْوُجُوبِ. قَالَ الْمَازِرِيّ: «وَالصَّحِيح عِنْدِي الْوُجُوب، وَيَبْعُد الْخِلَاف فِيهِ إِذَا خَشِيَ عَلَى الْمَعِين الْهَلَاك، وَكَانَ وُضُوء الْعَائِن مِمَّا جَرَتْ الْعَادَة بِالْبُرْءِ بِهِ، أَوْ كَانَ الشَّرْع أَخْبَرَ بِهِ خَبَرًا عَامًّا، وَلَمْ يَكُنْ زَوَال الْهَلَاك إِلَّا بِوُضُوءِ الْعَائِن فَإِنَّهُ يَصِير مِنْ بَاب مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ إِحْيَاء نَفْس مُشْرِفَة عَلَى الْهَلَاك، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّهُ يُجْبَر عَلَى بَذْل الطَّعَام لِلْمُضْطَرِّ، فَهَذَا أَوْلَى، وَبِهَذَا التَّقْرِير يَرْتَفِع الْخِلَاف فِيهِ». هَذَا آخِر كَلَام الْمَازِرِيّ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاض بَعْد أَنْ ذَكَرَ قَوْل الْمَازِرِيّ الَّذِي حَكَيْته: «بَقِيَ مِنْ تَفْسِير هَذَا الْغُسْل عَلَى قَوْل الْجُمْهُور، وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ الزُّهْرِيّ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَدْرَكَ الْعُلَمَاء يَصِفُونَهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ عُلَمَاؤُنَا، وَمَضَى بِهِ الْعَمَل أَنَّ غُسْل الْعَائِن وَجْهه إِنَّمَا هُوَ صَبّه، وَأَخْذه بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَكَذَلِكَ بَاقِي أَعْضَائِهِ إِنَّمَا هُوَ صَبُّهُ صَبَّةً عَلَى ذَلِكَ الْوُضُوء فِي الْقَدَح، لَيْسَ عَلَى صِفَة غَسْل الْأَعْضَاء فِي الْوُضُوء وَغَيْره، وَكَذَلِكَ غَسْل دَاخِلَة الْإِزَار إِنَّمَا هُوَ إِدْخَاله

وَغَمْسه فِي الْقَدَح، ثُمَّ يَقُوم الَّذِي فِي يَده الْقَدْح فَيَصُبّهُ عَلَى رَأْس الْمَعِين مِنْ وَرَائِهِ عَلَى جَمِيع جَسَده، ثُمَّ يَكْفَأ الْقَدَح وَرَاءَهُ عَلَى ظَهْر الْأَرْض. وَقِيلَ: يَسْتَغْفِلهُ بِذَلِكَ عِنْد صَبّه عَلَيْهِ. هَذِهِ رِوَايَة اِبْن أَبِي ذِئْب. وَقَدْ جَاءَ عَنْ اِبْن شِهَاب مِنْ رِوَايَة عُقَيْل مِثْل هَذَا، إِلَّا أَنَّ فِيهِ الِابْتِدَاء بِغَسْلِ الْوَجْه قَبْل الْمَضْمَضَة، وَفِيهِ فِي غَسْل الْقَدَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَغْسِل جَمِيعهَا، وَإِنَّمَا قَالَ: ثُمَّ يَفْعَل مِثْل ذَلِكَ فِي طَرَف قَدَمه الْيُمْنَى مِنْ عِنْد أُصُول أَصَابِعه، وَالْيُسْرَى كَذَلِكَ، وَدَاخِلَة الْإِزَار هُنَا الْمِئْزَر، وَالْمُرَاد بِدَاخِلَتِهِ مَا يَلِي الْجَسَد مِنْهُ، وَقِيلَ: الْمُرَاد مَوْضِعه مِنْ الْجَسَد، وَقِيلَ: الْمُرَاد مَذَاكِيره كَمَا يُقَال: عَفِيف الْإِزَار أَيْ الْفَرْج. وَقِيلَ: الْمُرَاد وَرِكه (¬1) إِذْ هُوَ مُعَقَّد الْإِزَار. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيث سَهْل بْن حُنَيْف مِنْ رِوَايَة مَالِك فِي صِفَته أَنَّهُ قَالَ لِلْعَائِنِ: اِغْتَسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ وَجْهه، وَيَدَيْهِ، وَمِرْفَقَيْهِ، وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَاف رِجْلَيْهِ، وَدَاخِلَة إِزَاره. وَفِي رِوَايَة: فَغَسَلَ وَجْهه، وَظَاهِر كَفَّيْهِ، وَمِرْفَقَيْهِ، وَغَسَلَ صَدْره، وَدَاخِلَة إِزَاره، وَرُكْبَتَيْهِ، وَأَطْرَاف قَدَمَيْهِ. ظَاهِرهمَا فِي الْإِنَاء. قَالَ: وَحَسِبَتْهُ قَالَ: وَأَمَرَ فَحَسَا مِنْهُ حَسَوَات. وَاللهُ أَعْلَم». قَالَ الْقَاضِي: «فِي هَذَا الْحَدِيث مِنْ الْفِقْه مَا قَالَهُ بَعْض الْعُلَمَاء أَنَّهُ يَنْبَغِي إِذَا عُرِفَ أَحَد بِالْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ يُجْتَنَب وَيُتَحَرَّز مِنْهُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ مَنْعه مِنْ مُدَاخَلَة النَّاس، وَيَأْمُرهُ بِلُزُومِ بَيْته. فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا رَزَقَهُ مَا يَكْفِيه، وَيَكُفّ أَذَاهُ عَنْ النَّاس، فَضَرَره أَشَدّ مِنْ ضَرَر آكِل الثُّوم وَالْبَصَل الَّذِي مَنَعَهُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - دُخُول الْمَسْجِد لِئَلَّا يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ، وَمِنْ ضَرَر الْمَجْذُوم الَّذِي مَنَعَهُ عُمَر - رضي الله عنه - وَالْعُلَمَاء بَعْده الِاخْتِلَاط بِالنَّاسِ، وَمِنْ ضَرَر الْمُؤْذِيَات مِنْ الْمَوَاشِي الَّتِي يُؤْمَر بِتَغْرِيبِهَا إِلَى حَيْثُ لَا يَتَأَذَّى بِهِ أَحَد. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَذَا الْقَائِل صَحِيح مُتَعَيِّن، وَلَا يُعْرَف عَنْ غَيْره تَصْرِيح بِخِلَافِهِ. (انتهى باختصار من شرح صحيح مسلم للنووي). ¬

_ (¬1) وَرْك، وَرِك، وِرْك: ما فوق الفَخِذ، والجمع أوراك.

وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا» (رواه مسلم). (العَيْن) إصابة العائن غيره بعينه بقدر الله. (لَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابِقَ الْقَدَرِ) أَيْ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَسْبِقَ شَيْءٌ الْقَدَرَ فِي إِفْنَاءِ شَيْءٍ وَزَوَالِهِ قَبْلَ أَوَانِهِ الْمُقَدَّرِ لَهُ (لَسَبَقَتْهُ) أَيْ الْقَدَرَ (الْعَيْنُ) لَكِنَّهَا لَا تَسْبِقُ الْقَدَرَ، فَإِنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ الْخَلْقِ. وَالْأَشْيَاء كُلّهَا بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى، وَلَا تَقَع إِلَّا عَلَى حَسَب مَا قَدَّرَهَا اللهُ تَعَالَى، وَسَبَقَ بِهَا عِلْمه، فَلَا يَقَع ضَرَر الْعَيْن وَلَا غَيْره مِنْ الْخَيْر وَالشَّرّ إِلَّا بِقَدَرِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ الْحَافِظُ: جَرَى الْحَدِيثُ مَجْرَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِثْبَاتِ الْعَيْنِ لَا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَرُدَّ الْقَدَرَ شَيْءٌ، إِذْ الْقَدَرُ عِبَارَةٌ عَنْ سَابِقِ عِلْمِ اللهِ وَهُوَ لَا رَادَّ لِأَمْرِهِ. وَحَاصِلُهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ شَيْئًا لَهُ قُوَّةٌ بِحَيْثُ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَكَانَ الْعَيْنَ لَكِنَّهَا لَا تَسْبِقُ فَكَيْفَ غَيْرُهَا. (وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ) بِصِيغَةِ الْمَجْهُولِ أَيْ إِذَا طُلِبْتُمْ لِلِاغْتِسَالِ. (فَاغْسِلُوا) أَطْرَافَكُمْ عِنْدَ طَلَبِ الْمَعْيُونِ ذَلِكَ مِنْ الْعَائِنِ، وَهَذَا كَانَ أَمْرًا مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَمْتَنِعُوا مِنْهُ إِذَا أُرِيدَ مِنْهُمْ، وَأَدْنَى مَا فِي ذَلِكَ رَفْعُ الْوَهْمِ الْحَاصِلِ فِي ذَلِكَ، وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ.

55 - عندما ترد الأرض بركتها

55 - عندما ترد الأرض بركتها عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ سدد خطاكم قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ: «مَا شَأْنُكُمْ». قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِى طَائِفَةِ النَّخْلِ». فَقَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِى عَلَيْكُمْ؟ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ طَافِئَةٌ، كَأَنِّى أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ؛ فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّأْمِ وَالْعِرَاقِ فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا». قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا لَبْثُهُ فِى الأَرْضِ؟»، قَالَ: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا: يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ». قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلاَةُ يَوْمٍ؟»، قَالَ: «لاَ، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ». قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِى الأَرْضِ؟»، قَالَ: «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِى عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِى الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: «أَخْرِجِى كُنُوزَكِ»، فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ. فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِىَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأَسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِى حَيْثُ يَنْتَهِى طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ

يَأْتِى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِى الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى إِنِّى قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِى لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِى إِلَى الطُّورِ. وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ: «لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ». وَيُحْصَرُ نَبِىُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ؛ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهُمُ النَّغَفَ فِى رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِىُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الأَرْضِ فَلاَ يَجِدُونَ فِى الأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلاَّ مَلأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ؛ فَيَرْغَبُ نَبِىُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللهِ فَيُرْسِلُ اللهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ. ثُمَّ يُقَالُ لِلأَرْضِ: «أَنْبِتِى ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّى بَرَكَتَكِ». فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ». (فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ) هُوَ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ فِيهِمَا، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ خَفَّضَ بِمَعْنَى حَقَّرَ وَقَوْلُهُ رَفَّعَ أَيْ عَظَّمَهُ وَفَخَّمَهُ فَمِنْ تَحْقِيرِهِ أَنَّهُ لايقدر عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ إِلَّا ذَلِكَ الرَّجُلُ ثُمَّ يَعْجِزُ عَنْهُ، وَأَنَّهُ يَضْمَحِلُّ أَمْرُهُ وَيُقْتَلُ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ وَأَتْبَاعُهُ، وَمِنْ تَفْخِيمِهِ وَتَعْظِيمِ فِتْنَتِهِ وَالْمِحْنَةِ بِهِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَأَنَّهُ ما مِنْ نَبِىٍّ إلّا وقَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ خَفَّضَ مِنْ صَوْتِهِ فِي حَالِ الْكَثْرَةِ فِيمَا تَكَلَّمَ فِيهِ فَخَفَّضَ بَعْدَ طُولِ الْكَلَامِ وَالتَّعَبِ لِيَسْتَرِيحَ ثُمَّ رَفَعَ لِيَبْلُغَ صَوْتُهُ كُلَّ أَحَدٍ. (غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ) مَعْنَى الْحَدِيثِ فِيهِ أَوْجُهٌ أَظْهَرُهَا أَنَّهُ مِنْ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ وَتَقْدِيرُهُ: غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ مُخُوفَاتِي عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُ قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلُّونَ» (¬1)، ومَعْنَاهُ أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَخَافُهَا عَلَى أُمَّتِي أَحَقُّهَا بِأَنْ تُخَافَ الْأَئِمَّةُ الْمُضِلُّونَ. وَالثَّانِي: بِأَنْ يَكُونَ أَخْوَفُ مِنْ أَخَافَ بِمَعْنَى خَوْفٍ وَمَعْنَاهُ غَيْرُ الدَّجَّالِ أَشَدُّ مُوجِبَاتِ خَوْفِي عَلَيْكُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ وَصْفِ الْمَعَانِي بِمَا يُوصَفُ بِهِ الْأَعْيَانُ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ كَقَوْلِهِمْ فِي الشِّعْرِ الْفَصِيحِ شِعْرُ شَاعِرٍ، وَخَوْفُ فُلَانٍ أَخْوَفُ مِنْ خَوْفِكَ، وَتَقْدِيرُهُ خَوْفُ غَيْرِ الدَّجَّالِ أَخْوَفُ خَوْفِي عَلَيْكُمْ. (إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطُ) - بِفَتْحِ الْقَافِ وَالطَّاءِ - أَيْ شَدِيدُ جُعُودَةِ الشَّعْرِ. (إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ) خَلَّةً: مَا بَيْنَ البلدين، أي ِالطَّرِيقِ بَيْنَهُمَا. (فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا) الْعَيْثُ الْفَسَادُ، أَوْ أَشَدُّ الْفَسَادِ وَالْإِسْرَاعِ فِيهِ يُقَالُ مِنْهُ عَاثَ يَعِيثُ. (يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ) قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهَذِهِ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ طَوِيلَةٌ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ». ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني، والأئمة المضلون هم الأمراء والعلماء والمشايخ والملوك، الآمِرُون بخلاف ما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والناهون عما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والمُخْبِرُون بخلاف ما أخبر به الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ففيهم الكذب في خبرهم والظلم في أمرهم وعِلمهم.

قَوْلُهُمْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟». قَالَ: «لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ»: هَذَا حُكْمٌ مَخْصُوصٌ بِذَلِكَ الْيَوْمِ شَرَعَهُ لَنَا صَاحِبُ الشَّرْعِ، وَلَوْلَا هَذَا الْحَدِيثُ وَوُكِلْنَا إِلَى اجْتِهَادِنَا لَاقْتَصَرْنَا فِيهِ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عِنْدَ الْأَوْقَاتِ الْمَعْرُوفَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْأَيَّامِ، ومعنى: (اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ) أَنَّهُ إِذَا مَضَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَدْرَ مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الظُّهْرِ كُلَّ يَوْمٍ فَصَلُّوا الظُّهْرَ، ثُمَّ إِذَا مَضَى بَعْدَهُ قَدْرُ مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ فَصَلُّوا الْعَصْرَ، وَإِذَا مَضَى بَعْدَ هَذَا قَدْرُ مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ فَصَلُّوا الْمَغْرِبَ، وَكَذَا الْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ، ثُمَّ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ ثُمَّ الْمَغْرِبَ وَهَكَذَا حَتَّى يَنْقَضِي ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهِ صَلَوَاتُ سَنَةٍ فَرَائِضُ كُلُّهَا مُؤَدَّاةٌ فِي وَقْتِهَا. وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي كَشَهْرٍ وَالثَّالِثُ الَّذِي كَجُمُعَةٍ فَقِيَاسُ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُمَا كَالْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا ذُكِر، وَاللهُ أَعْلَمُ. (فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلُ مَا كَانَتْ ذُرًّا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدُّهُ خَوَاصِرَ) أَمَّا تَرُوحُ فَمَعْنَاهُ تَرْجِعُ آخِرَ النَّهَارِ، وَالسَّارِحَةُ هِيَ الْمَاشِيَةُ الَّتِي تَسْرَحُ أَيْ تَذْهَبُ أَوَّلَ النَّهَارِ إِلَى الْمَرْعَى وَأَمَّا الذُّرَى - بضم الذال - فهى الأعالى والأسنمة جَمْعُ ذُرْوَةِ - بِضَمِّ الذَّالِ وَكَسْرِهَا - (وَأَسْبَغَهُ) أَيْ أَطْوَلَهُ لِكَثْرَةِ اللَّبَنِ، وَكَذَا أَمَدَّهُ خَوَاصِرَ لِكَثْرَةِ امْتِلَائِهَا مِنَ الشِّبَعِ. (ثُمَّ يَأْتِى الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَىْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (مُمْحِلِينَ) مُجْدِبِينَ مقحطين. أَي أَصَابَهُم الْمحل وَهُوَ الْقَحْط. (وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: «أَخْرِجِى كُنُوزَكِ». الْخَرِبَةِ)، أَيِ: الْأَرْضِ الْخَرَابِ. (فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبَ النَّحْلِ) هِيَ ذُكُورُ النَّحْلِ، وقيل: الْمُرَادُ جَمَاعَةُ النَّحْلِ لا ذُكُورها خَاصَّةً، لَكِنَّهُ كَنَّى عَنِ الْجَمَاعَةِ بِالْيَعْسُوبِ وَهُوَ أَمِيرُهَا لِأَنَّهُ مَتَى طَارَ تَبِعَتْهُ جَمَاعَتُهُ.

(فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ) أَيْ قِطْعَتَيْنِ، (رَمْيَةَ الْغَرَضِ) مَعْنَى رَمْيَةَ الْغَرَضِ أَنَّهُ يَجْعَلُ بَيْنَ الْجَزْلَتَيْنِ مِقْدَارَ رَمْيَتِهِ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمَشْهُورُ وَقيل: إنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا وَتَقْدِيرُهُ فَيُصِيبُهُ إِصَابَةَ رَمْيَةِ الْغَرَضِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ. (فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ) قال الإمام النووي: «وَهَذِهِ الْمَنَارَةُ مَوْجُودَةٌ الْيَوْمَ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ فَضَائِلَ دِمَشْقَ. (بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ) مَعْنَاهُ: لَابِسَ مَهْرُودَتَيْنِ أَيْ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِوَرْسٍ ثُمَّ بِزَعْفَرَانٍ، وَقِيلَ هُمَا شَقَّتَانِ وَالشَّقَّةُ نِصْفُ الْمُلَاءَةِ. (تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ) الْجُمَانُ هِيَ حَبَّاتٌ مِنَ الْفِضَّةِ تُصْنَعُ عَلَى هَيْئَةِ اللُّؤْلُؤِ الْكِبَارِ، وَالْمُرَادُ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ عَلَى هَيْئَةِ اللُؤْلُؤ فى صَفَائِه فَسُمِّي الْمَاءُ جُمَانًا لِشَبَهِهِ بِهِ فِي الصَّفَاءِ. (فَلاَ يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلاَّ مَاتَ) مَعْنَى (لَا يَحِلُّ): لَا يُمْكِنُ وَلَا يَقَعُ. (يُدْرِكُهُ بِبَابِ لُدٍّ) وَهُوَ بَلْدَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. (ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى قَوْمًا قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ) يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا الْمَسْحَ حَقِيقَةٌ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَمْسَحُ عَلَى وُجُوهِهِمْ تَبَرُّكًا وَبِرًّا، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى كَشْفِ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْخَوْفِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنِّى قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِى لاَ يَدَانِ لأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِى إِلَى الطُّورِ). (لا يَدَانِ) تَثْنِيَةُ يَدٍ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: مَعْنَاهُ لا قدرة ولا طاقة، يقال: مالى بهذا الأمر يد، ومالى بِهِ يَدَانِ؛ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ وَالدَّفْعَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْيَدِ، وَكَأَنَّ يَدَيْهِ مَعْدُومَتَانِ لِعَجْزِهِ عَنْ دَفْعِهِ. وَمَعْنَى حَرِّزْهُمْ إِلَى الطُّورِ أَيْ ضُمَّهُمْ وَاجْعَلْهُ لَهُمْ حِرْزًا. (وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) يأجوج ومأجوج هما قبيلتان عظيمتان من بني آدم، وقد سَدّ عليهم ذو القرنين، لما شُكِيَ إليه إفسادهم في الأرض، وفي آخر الزمان ينفتح السَّد عنهم، فيخرجون إلى الناس في هذه الحالة

والوصف، الذي ذكره الله من كل من مكان مرتفع، وهو الحدب، ينسلون أي: يسرعون. وفي هذا دلالة على كثرتهم الباهرة، وإسراعهم في الأرض، إما بذواتهم، وإما بما خلق الله لهم من الأسباب التي تقرب لهم البعيد، وتسهل عليهم الصعب، وأنهم يقهرون الناس، ويعلون عليهم في الدنيا، وأنه لا يَدَ لأحد بقتالهم. (فَيُرْسِلُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى) النَّغَفُ دُودٌ يَكُونُ فِي أُنُوفِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وفَرْسَى أَيْ قَتْلَى وَاحِدُهُمْ فَرِيسٌ. (زَهْمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ) أَيْ دَسْمُهُمْ وَرَائِحَتُهُمُ الْكَرِيهَةُ. (ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ). (لاَ يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ) أى لايمنع مِنْ نُزُولِ الْمَاءِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، يَعْنِي بَيت الْحَضَر والبدو، بل يغسل الْأَمَاكِن، والْمَدَرُ جمع مَدَرة وهي قطعة الطِّينِ اليابس، واللبنة، والطين اللزج الذي لا يخالطه رمل. (وَبَرٍ) بيت الوبَر هو البيت المتخذ من صوف الإبل، ووبر الإبل أي شعرها؛ لأنهم كانوا يتخذون منه، ومن نحوه خيامهم غالبًا. (فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ) مَعْنَاهُ كَالْمِرْآةِ، شَبَّهَهَا بِالْمِرْآةِ فِي صَفَائِهَا وَنَظَافَتِهَا. وَقِيلَ: كَمَصَانِعِ الْمَاءِ أَيْ إِنَّ الْمَاءَ يُسْتَنْقَعُ فِيهَا حَتَّى تَصِيرَ كَالْمَصْنَعِ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَالصَّحْفَةِ، وَقِيلَ كَالرَّوْضَةِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفِرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: «ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا»، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ كَأَشَدِّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ، وَأَرَادَ اللهُ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاسِ، حَفَرُوا، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ: «ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللهُ»، وَيَسْتَثْنِي، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ،

وَيَتَحَصَّنَ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ، فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا كَهَيْئَةِ الدَّمِ، فَيَقُولُونَ: «قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ، وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ»، فَيَبْعَثُ اللهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمَنُ وَتَشْكُرُ شُكْرًا مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ» (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني). (تَشْكُرُ): تسمن وتمتلئ شحمًا. (تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بقِحْفِها) العصابة: الجماعة، وقِحْفُها هُوَ مُقَعَّرُ قِشْرِهَا، شَبَّهَهَا بِقِحْفِ الرَّأْسِ وَهُوَ الَّذِي فَوْقَ الدِّمَاغِ، وَقِيلَ مَا انْفَلَقَ مِنْ جُمْجُمَتِهِ وَانْفَصَلَ. (وَيُبَارَكُ فِى الرِّسْلِ، حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإِبِلِ لَتَكْفِى الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِى الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِى الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ) الرِّسْلُ هُوَ اللَّبَنُ، واللقحة - بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِهَا -، هِيَ الْقَرِيبَةُ الْعَهْدِ بِالْوِلَادَةِ، فهي من ذوات الألبان. وَالْفِئَامُ: الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ. (لَتَكْفِي الْفَخْذَ مِنَ النَّاسِ) الْفَخْذُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ الْأَقَارِبِ، وَهُمْ دُونَ الْبَطْنِ، وَالْبَطْنُ دون القبيلة، والْفَخْذُ هُنَا بِإِسْكَانِ الْخَاءِ لَا غَيْرُ فَلَا يُقَالُ إِلَّا بِإِسْكَانِهَا بِخِلَافِ الْفَخِذِ الَّتِي هِيَ الْعُضْوُ فَإِنَّهَا تُكْسَرُ وَتُسَكَّنُ. (يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ) أَيْ يُجَامِعُ الرِّجَالُ النِّسَاءَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ كَمَا يَفْعَلُ الْحَمِيرُ وَلَا يَكْتَرِثُونَ لِذَلِكَ.

56 - كيف نحصل على البركة

56 - كيف نحصل على البركة 1 - التقوى: إن من أعظم الأسباب التي تفتح بها أبواب الرحمات والبركات تقوى الله - عز وجل -، تقوى الله التي يفتح الله بها أبواب الرحمات ويجزل بها العطايا والخيرات؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)} (الأعراف 96 - 99). ذكر الله - عز وجل - أن أهل القرى، لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى اللهِ تعالى ظاهرًا وباطنًا بتَرْك جميع ما حرم الله، لَفَتَح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا {فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} بالعقوبات والبلايا ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو آخَذَهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة. {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)} (الروم: 41). مَن أراد البركة فعليه بالإيمان، الإيمان الحقيقي لا الإيمان الصوري. من أراد البركة في رزقه وماله وولده وعلمه فعليه بتقوى الله - عز وجل - في كل شيء. ولو أراد أهل قرية أن يُعطوا من بركات الأرض وبركات السماء فعليهم بالإيمان والتقوى. أما أن يستمر أهل القرية على المعاصي، ويستمر أهل القرية على الغناء واللهو واللعب فمن أين تأتي البركة؟

كيف يريد أهل قرية البركة في حياتهم ومعاشهم، وما يزال الربا قائماً بين أظهرهم؟ كيف يريد أهل قرية بركات من السماء والأرض وما يزال هناك مظلومون، وما يزال الغش وما تزال البدع قائمة؟ كيف تحصل البركة لأهل قرية، وفُسَّاقُها أكثر من صالحيها، ومنكرها أكثر من معروفها؟ من أين تأتي البركة لأهل قرية وما يزال هناك نقص كبير في عدد المصلين وعدد المزكين، وعدد التائبين؟ فإن لم يتغمد الله هذه القرية برحمته، فإنها مُقْدِمة والعياذ بالله على دمار وهلاك. إن من أسباب محق البركة وجود ضعاف الإيمان الذين لا يرجون لله وَقَارًا، ويعصونه ليلاً ونهارًا، ويخالفون أمره سرًا وجهارًا، ويتبعون من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا، لا يقيمون لأوامر الدين ونواهيه وزنًا، ولا يعطونها اهتمامًا ولا قدرًا، تأتي عندهم في المرتبة الأخيرة من اهتماماتهم، وتجيء في مؤخرة أولوياتهم. إذا أظهَر العبادُ ذنوبًا تتابعَت عليهم العقوبات، وكلّما قلّتِ المعاصي في الأرض ظهرَت فيها آثار البركة من الله، وانتشارُ المعاصي وفشوّها سببٌ لنزع الخيراتِ والبركات، قال - عز وجل -: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)} (الجن: 16 - 17). ومن عقوبات المعاصي أنها تمحق بركة العمر وبركة الرزق وبركة العلم وبركة العمل وبركة الطاعة وبالجملة أنها تمحق بركة الدين والدنيا فلا تجد أقل بركة في عمره ودينه ودنياه ممن عصي الله، وما محت البركة من الأرض إلا بمعاصى الخلق. وعُمر العبد هو مدة حياته ولاحياة لمن أعرض عن الله واشتغل بغيره بل فحياة البهائم خير من حياته فإن حياة الانسان بحياة قلبه وروحه ولاحياة لقلبه إلا بمعرفة فاطره ومحبته وعبادته وحده أو الإنابة اليه والطمانينة بذكره والأُنس بقربه ومن فقد هذه الحياة فقد الخير كله ولو تعوض عنها بما تعوض به الدنيا.

2 - إقامة شرع الله - عز وجل -: قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} (المائدة: 65 - 66). إن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء لا افتراق بين دين ودنيا ولا افتراق بين دنيا وآخرة فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة، للدنيا وللدين. تجيء هذه القاعدة الإيمانية الكبيرة بمناسبة الحديث عن انحراف أهل الكتاب عن دين الله، وأكلهم السحت، وتحريفهم الكلم من بعد مواضعه لينالوا عَرَضًا من أعراض هذه الأرض، واتباع دين الله كان أجدى عليهم في الأرض والسماء وفي الدنيا والآخرة لو أنهم اختاروا الطريق. {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)} (المائدة: 65 - 66). إن هاتين الآيتين تقرران أصلًا كبيرًا من أصول التصور الإسلامي ومن ثم فهما تمثلان حقيقة ضخمة في الحياة الإنسانية. يقول الله - عز وجل - لأهل الكتاب ويصدُق القول وينطبق على كل أهل كتاب إنهم لو كانوا آمنوا واتقوا لَكَفَّر عنهم سيئاتهم ولَأدْخَلَهم جنات النعيم وهذا جزاء الآخرة، وإنهم لو كانوا حققوا في حياتهم الدنيا منهج الله الممثل في التوراة والإنجيل وما أنزله الله إليهم من التعاليم كما أنزلها الله - بدون تحريف ولا تبديل - لصلحت حياتُهم الدنيا

ونمَتْ وفاضت عليهم الأزراق ولَأكَلُوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم من فيض الرزق ووفرة النتاج وحسن التوزيع وصلاح أمر الحياة. ويبدو من خلال الآيتين أن الإيمان والتقوى وتحقيق منهج الله في واقع الحياة البشرية في هذه الحياة الدنيا لا يكفل لأصحابه جزاء الآخرة وحده وإن كان هو المقدم، وهو الأدوم، ولكنه كذلك يكفل صلاح أمر الدنيا ويحقق لأصحابه جزاء العاجلة وفرة ونماء وحُسن توزيع وكفاية يرسمها في صورة حسية تجسم معنى الوفرة والفيض في قوله تعالى: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ}. وهكذا يتبين أنْ ليس هنالك طريق مستقل لحسن الجزاء في الآخرة؛ وطريق آخر مستقل لصلاح الحياة في الدنيا إنما هو طريق واحد تصلح به الدنيا والآخرة فإذا تُنُكِّبَ هذا الطريق فسدت الدنيا وخسرت الآخرة. هذا الطريق الواحد هو الإيمان والتقوى وتحقيق المنهج الإلهي في الحياة الدنيا وهذا المنهج ليس منهج اعتقاد وإيمان وشعور قلبي وتقوى فحسب، ولكنه - كذلك وتبعا لذلك - منهج حياة إنسانية واقعية يقام وتقام عليه الحياة وإقامته مع الإيمان والتقوى هي التي تكفل صلاح الحياة الأرضية وفيض الرزق ووفرة النتاج وحسن التوزيع حتى يأكل الناس جمعيًا في ظل هذا المنهج من فوقهم ومن تحت أرجلهم. إن الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية أن يلتقي فيها طريق الدنيا وطريق الآخرة؛ وأن يكون الطريق إلى صلاح الآخرة هو ذاته الطريق إلى صلاح الدنيا وأن يكون الإنتاج والنماء والوفرة في عمل الأرض هو ذاته المؤهل لنيل ثواب الآخرة كما أنه هو المؤهل لرخاء هذه الحياة الدنيا؛ وأن يكون الإيمان والتقوى والعمل الصالح هي أسباب عمران هذه الأرض كما أنها هي وسائل الحصول على رضوان الله وثوابه الأخروي.

هذا هو الأصل في طبيعة الحياة الإنسانية ولكن هذا الأصل لا يتحقق إلا حين تقوم الحياة على منهج الله الذي رضِيَه للناس فهذا المنهج هو الذي يجعل العمل عبادة، وهو الذي يجعل الخلافة في الأرض وفق شريعة الله فريضة، والخلافة عمل وإنتاج ووفرة ونماء وعدل في التوزيع يفيض به الرزق على الجميع من فوقهم ومن تحت أرجلهم كما يقول الله في كتابه الكريم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني). وَذَلِكَ لِأَنَّ فِي إِقَامَتهَا زَجْرًا لِلْخَلْقِ عَنْ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوب، وَسَبَبًا لِفَتْحِ أَبْوَاب السَّمَاء بِالْمَطَرِ، وَفِي الْقُعُود عَنْهَا وَالتَّهَاوُن بِهَا أَنَّهُمَا كَأَنَّهُمْ فِي الْمَعَاصِي، وَذَلِكَ سَبَب لِأَخْذِهِمْ بِالسِّنِينَ وَالْجَدْب وَإِهْلَاك الْخَلْق. 3 - الدعاء: ومن أسباب البركات ومن الأمور التي يفتح به الله أبواب البركات على العباد الدعاء والالتجاء إلى الله جل وعلا، فهو الملاذ وهو المعاذ. فقد كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى ذَنْبِى وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي وَبَارِكْ لِى فِيمَا رَزَقْتَنِى». (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). (وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي) أَيْ وَسِّعْ لِي فِي مَسْكَنِي فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ ضِيقَ مَرَافِقِ الدَّارِ يُضَيِّقُ الصدْرَ وَيَجْلِبُ الْهَمَّ وَيَشْغَلُ الْبَالَ وَيَغُمُّ الرُّوحَ، أَوْ الْمُرَادُ الْقَبْرُ فَإِنَّهُ الدَّارُ الْحَقِيقِيَّةُ. (وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي) أَيْ اِجْعَلْهُ مُبَارَكًا مَحْفُوفًا بِالْخَيْرِ وَوَفِّقْنِي لِلرِّضَا بِالْمَقْسُومِ مِنْهُ وَعَدَمِ الِالْتِفَاتِ لِغَيْرِهِ. وقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ - رضي الله عنهما -: «عَلَّمَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كَلِمَاتٍ أَقُولُهُنَّ فِي قُنُوتِ الْوِتْرِ: «اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ إِنَّكَ تَقْضِي وَلَا يُقْضَى عَلَيْكَ، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ». (رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني).

(اللَّهُمَّ اِهْدِنِي) أَيْ ثَبِّتْنِي عَلَى الْهِدَايَةِ. (فِيمَنْ هَدَيْت) أَيْ فِي جُمْلَةِ مَنْ هَدَيْتهمْ أَوْ هَدَيْته مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ، كَمَا قَالَ سُلَيْمَانُ {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (النمل: 19)، وَقِيلَ: أَيْ اِجْعَلْنِي فِيمَنْ هَدَيْتهمْ إِلَى الصرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقِيلَ (فِي) بِمَعْنَى (مَعَ)؛ قَالَ تَعَالَى {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (النساء: 69). (وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْت) مِنْ الْمُعَافَاةِ الَّتِي هِيَ دَفْعُ السُّوءِ. (وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْت) تَوَلَّى أي أَحَبَّ عَبْدًا وَقَامَ بِحِفْظِهِ وَحِفْظِ أَمْرِهِ. (وَبَارِكْ) أَيْ أَكْثِرْ الْخَيْرَ لِي أَيْ لِمَنْفَعَتِي. (فِيمَا أَعْطَيْت) أَيْ فِيمَا أَعْطَيْتنِي مِنْ الْعُمْرِ وَالْمَالِ وَالْعُلُومِ وَالْأَعْمَالِ. (وَقِنِي) أَيْ اِحْفَظْنِي. (شَرَّ مَا قَضَيْت) مَا قَدَّرْت لِي (فَإِنَّك تَقْضِي) أَيْ تَقْدِرُ أَوْ تَحْكُمُ بِكُلِّ مَا أَرَدْت (وَلَا يُقْضَى عَلَيْك) فَإِنَّهُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِك. (لَا يَذِلُّ) بِفَتْحٍ فَكَسْرٍ: أَيْ لَا يَصيرُ ذَلِيلًا. (مَنْ وَالَيْت) الْمُوَالَاةُ ضِدُّ الْمُعَادَاةِ. قَالَ اِبْنُ حَجَرٍ: أَيْ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت مِنْ عِبَادِك فِي الْآخِرَةِ أَوْ مُطْلَقًا وَإِنْ اُبْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِيَ بِهِ وَسُلِّطَ عَلَيْهِ مَنْ أَهَانَهُ وَأَذَلَّهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَايَةُ الرِّفْعَةِ وَالْعِزَّةِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ أَوْلِيَائِهِ وَلَا عِبْرَةَ إِلَّا بِهِمْ، وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ الِامْتِحَانَاتِ الْعَجِيبَةِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ. (وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت): أَيْ لَا يَعِزُّ فِي الْآخِرَةِ أَوْ مُطْلَقًا وَإِنْ أُعْطِيَ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَمُلْكِهَا مَا أُعْطِيَ لِكَوْنِهِ لَمْ يَمْتَثِلْ أَوَامِرَك وَلَمْ يَجْتَنِبْ نَوَاهِيَك. (تَبَارَكْت) أَيْ تَكَاثَرَ خَيْرُك فِي الدَّارَيْنِ. (رَبَّنَا) أَيْ يَا رَبَّنَا. (وَتَعَالَيْت) أَيْ اِرْتَفَعَتْ عَظَمَتُك وَظَهَرَ قَهْرُك وَقُدْرَتُك عَلَى مَنْ فِي الْكَوْنَيْنِ. وَقَالَ اِبْنُ الْمَلَكِ: أَيْ اِرْتَفَعَتْ عَنْ مُشَابَهَةِ كُلِّ شَيْءٍ. وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ الْجَارِيَةَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ، وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُكُمْ

بَعِيرًا فَلْيَأْخُذْ بِذِرْوَةِ سَنَامِهِ وَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ وَلْيَقُلْ مِثْلَ ذَلِكَ» (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني). (وَخَيْر مَا جَبَلْتهَا) أَيْ خَلَقْتهَا وَطَبَعْتهَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَخْلَاق. (بِذُرْوَةِ سَنَامه) الذُّرْوَة - بِالْكَسْرِ وَالضَّمّ -: أَعْلَى السَّنَام، وَسَنَام الْإِبِل - بِالْفَتْحِ - مَعْرُوف. وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ (رواه البخاري ومسلم). أي: يدعو لهم بالبركة - صلى الله عليه وآله وسلم -. 4 - صلة الأرحام: وصلة الأرحام من الأسباب التي يوسع فيها على أرزاق العباد؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ أَوْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصلْ رَحِمَهُ» (رواه البخاري ومسلم). (يُنْسَأ) أَيْ يُؤَخَّر. وَ (الْأَثَر) الْأَجَل، لِأَنَّهُ تَابِع لِلْحَيَاةِ فِي أَثَرهَا. وَ (بَسْط الرِّزْق) تَوْسِيعه وَكَثْرَته، وَقِيلَ: الْبَرَكَة فِيهِ. وَأَمَّا التَّأْخِير فِي الْأَجَل فَفِيهِ سُؤَال مَشْهُور، وَهُوَ أَنَّ الْآجَال وَالْأَرْزَاق مُقَدَّرَة لَا تَزِيد وَلَا تَنْقُص، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف: 34)، وَأَجَابَ الْعُلَمَاء بِأَجْوِبَةٍ الصحِيح مِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَة بِالْبَرَكَةِ فِي عُمْره، وَالتَّوْفِيق لِلطَّاعَاتِ، وَعِمَارَة أَوْقَاته بِمَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة، وَصيَانَتهَا عَنْ الضَّيَاع فِي غَيْر ذَلِكَ. وَالثَّانِي أَنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَظْهَر لِلْمَلَائِكَةِ وَفِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَنَحْو ذَلِكَ، فَيَظْهَر لَهُمْ فِي اللَّوْح أَنَّ عُمْره سِتُّونَ سَنَة إِلَّا أَنْ يَصل رَحِمه فَإِنْ وَصلَهَا زِيدَ لَهُ أَرْبَعُونَ، وَقَدْ عَلِمَ اللهُ - سُبْحَانه وَتَعَالَى - مَا سَيَقَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} (الرعد: 39) فَبِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْم اللهِ تَعَالَى، وَمَا سَبَقَ بِهِ قَدَره وَلَا زِيَادَة بَلْ هِيَ مُسْتَحِيلَة، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ظَهَرَ لِلْمَخْلُوقِينَ تُتَصوَّر الزِّيَادَة، وَهُوَ مُرَاد الْحَدِيث.

5 - أداء الحق الذي في المال: ومن أسباب البركة في المال أداء الحق الذي فيه، سواءً كان حقا واجبا مثل الزكاة أو مندوبًا إليه غير واجب مثل الصدقة وغيرها؛ فالمالُ يكثُر بالبذلِ والعطاء في الخيرات؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: قَالَ اللهُ: «أَنْفِقْ يَا ابْنَ آدَمَ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» (رواه البخاري). وَقَال تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39). {وَمَا وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} نفقة واجبة، أو مستحبة، على قريب، أو جار، أو مسكين، أو يتيم، أو غير ذلك، {فَهُوَ} تعالى {يُخْلِفُهُ} فلا تتوهموا أن الإنفاق مما ينقص الرزق، بل وعد بالخلف للمنفق، الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} فاطلبوا الرزق منه، واسعوا في الأسباب التي أمركم بها. ومن أسباب البركات التي توجب على العباد الرحمات والنفقات والصدقات، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)} (الليل: 5 - 11). {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى} ما أمِرَ به من العبادات المالية، كالزكوات، والكفارات والنفقات، والصدقات، والإنفاق في وجوه الخير، والعبادات البدنية كالصلاة، والصوم ونحوهما والمركبة منهما، كالحج والعمرة ونحوهما. {وَاتَّقَى} ما نهي عنه، من المحرمات والمعاصي، على اختلاف أجناسها. {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أي: صدق بـ «لا إله إلا الله» وما دلت عليه، من جميع العقائد الدينية، وما ترتب عليها من الجزاء الأخروي.

{فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} أي: نسهل عليه أمره، ونجعله مُيَسَّرًا له كل خير، مُيَسَّرًا له ترك كل شر، لأنه أتى بأسباب التيسير، فيسر الله له ذلك. {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} بما أمر به، فترك الإنفاق الواجب والمستحب، ولم تسمح نفسه بأداء ما وجب لله، {وَاسْتَغْنَى} عن الله، فترك عبوديته جانبًا، ولم ير نفسه مفتقرة غاية الافتقار إلى ربها، الذي لا نجاة لها ولا فوز ولا فلاح، إلا بأن يكون هو محبوبها ومعبودها، الذي تقصده وتتوجه إليه. {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} أي: بما أوجب الله على العباد التصديق به من العقائد الحسنة. {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} أي: للحالة العسرة، والخصال الذميمة، بأن يكون ميسرًا للشر أينما كان، ومقيضًا له أفعال المعاصي. {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ} الذي أطغاه واستغنى به، وبخل به إذا هلك ومات، فإنه لا يصحبه إلا عمله الصالح. وأما ماله الذي لم يخرج منه الواجب فإنه يكون وبالا عليه، إذ لم يقدم منه لآخرته شيئًا. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (رواه البخاري ومسلم). (خَلَفًا) أَيْ: عِوَضًا. (أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا) التَّعْبِير بِالْعَطِيَّةِ فِي هَذِهِ لِلْمُشَاكَلَةِ، لِأَنَّ التَّلَفَ لَيْسَ بِعَطِيَّة. ودُعَاء الْمَلَكِ بِالْخَلَفِ يَشْمَلُ الدُّنْيَا والْآخِرَةِ. وَالدُّعَاءُ بِالتَّلَفِ يَحْتَمِلُ تَلَفَ ذَلِكَ الْمَالِ بِعَيْنِهِ أَوْ تَلَفَ نَفْسِ صاحِبِ الْمَالِ، وَالْمُرَاد بِهِ فَوَات أَعْمَالِ الْبِرِّ بِالتَّشَاغُلِ بِغَيْرِهَا. والْإِنْفَاقُ الْمَمْدُوحُ مَا كَانَ فِي الطَّاعَاتِ وَعَلَى الْعِيَالِ وَالضِّيفَانِ وَالتَّطَوُّعَاتِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهُوَ يَعُمُّ الْوَاجِبَات وَالْمَنْدُوبَات، لَكِنَّ الْمُمْسِكَ عَنْ الْمَنْدُوبَاتِ لَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الدُّعَاءَ إِلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْبُخْل الْمَذْمُوم بِحَيْثُ لَا تَطِيبُ نَفْسه بِإِخْرَاج الْحَقّ الَّذِي عَلَيْهِ وَلَوْ أَخْرَجَهُ.

فكيف يبغي البركة بخيل ممسك تدعو عليه ملائكة الرحمن بالتلف؟! وكيف ينتظر البركةَ شحيح لا يفعل خيرًا ولا يدعى له بخير؟! ألا فلا نامت عين كل هَلُوع مَنُوع، جَمّاع للمال مَنّاع للخير، يحسب أن بركة المال في وفرته، وما علم أن بركته في الانتفاع به، وهو ما لم يذقه هو ومن على شاكلته. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا نَقَصتْ صدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» (رواه مسلم). قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: (مَا نَقَصتْ صدَقَة مِنْ مَال) ذَكَرُوا فِيهِ وَجْهَيْنِ: أَحَدهمَا مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُبَارَك فِيهِ، وَيَدْفَع عَنْهُ الْمَضَرَّات، فَيَنْجَبِر نَقْص الصورَة بِالْبَرَكَةِ الْخَفِيَّة، وَهَذَا مُدْرَك بِالْحِسِّ وَالْعَادَة. وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنْ نَقَصتْ صورَته كَانَ فِي الثَّوَاب الْمُرَتَّب عَلَيْهِ جَبْر لِنَقْصهِ، وَزِيَادَة إِلَى أَضْعَاف كَثِيرَة. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا» فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدهمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره، وَأَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصفْح سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوب، وَزَادَ عِزّه وَإِكْرَامه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد أَجْره فِي الْآخِرَة وَعِزّه هُنَاكَ. قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَمَا تَوَاضَعَ أَحَد لِلهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ» فِيهِ أَيْضًا وَجْهَانِ: أَحَدهمَا يَرْفَعهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُثْبِتُ لَهُ بِتَوَاضُعِهِ فِي الْقُلُوب مَنْزِلَة، وَيَرْفَعهُ اللهُ عِنْد النَّاس، وَيُجِلّ مَكَانه. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَاد ثَوَابه فِي الْآخِرَة، وَرَفْعه فِيهَا بِتَوَاضُعِهِ فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْعُلَمَاء: وَهَذِهِ الْأَوْجُه فِي الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة مَوْجُودَة فِي الْعَادَة مَعْرُوفَة، وَقَدْ يَكُون الْمُرَاد الْوَجْهَيْنِ مَعًا فِي جَمِيعهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة.

57 - من وسائل الحصول على البركة

57 - من وسائل الحصول على البركة 6 - الصدق في البيع: فالصادقُ في البيع والشراءِ والمعاملات مبارَكٌ له في الكَسب، مترادفٌ عليه الخير، فعَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (رواه البخاري ومسلم). (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ صدَقَا وَبَيَّنَا بِوَرِكِ لَهُمَا فِي بَيْعهمَا) أَيْ بَيْن كُلّ وَاحِد لِصاحِبِهِ مَا يَحْتَاج إِلَى بَيَانه مِنْ عَيْب وَنَحْوه فِي السِّلْعَة وَالثَّمَن وَصدَقَ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْإِخْبَار بِالثَّمَنِ وَمَا يَتَعَلَّق بِالْعِوَضَيْنِ. وَمَعْنَى (مُحِقَتْ بَرَكَة بَيْعهمَا) أَيْ ذَهَبَتْ بَرَكَته وَهِيَ زِيَادَته وَنَمَاؤُهُ. 7 - قراءة سورة البقرة: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ» (رواه الإمام مسلم). (فَإِنَّ أَخْذَهَا) يعني المواظبة على تلاوتها والعمل بها (بَرَكَةٌ): أي زيادة ونماء (وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ) أي تأسف على ما فات من الثواب (وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ) بفتح الباء والطاء: السحرة: تسمية لهم باسم فعلهم لأن ما يأتون به باطل، وإنما لم يقدروا على قراءتها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل. وقيل البطلة: أهل البطالة الذين لم يؤهلوا لذلك ولم يوفقوا له أي لا يستطيعون قراءة ألفاظها وتدبر معانيها لبطالتهم وكسلهم.

8 - القناعة والرضا بعطاء الله: يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ بَارَكَ اللهُ لَهُ فِيهِ وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ» (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني). إن العبرة ليست بما تملك من مقومات المادة، وليست العبرة بما تملك من طاقات وقُدرات، ما الفائدة إذا سلبت البركة من كل ذلك. إن القليل من المادة، والقليل من الطاقات مع بركة الله، تفعل الأعاجيب. فأنت قد تُعطَى الملايين، لكن تُنْزَع منها البركة، تجد شقاءها في الدنيا قبل الآخرة، تملك الملايين لكن لا تتمتع بها لأن البركة منزوعة، وقد لا يكون معك إلا راتبك، لكن يبارك الله في هذا القليل فتعيش حياة الملوك أنت وأولادك. رجلان: الأول له عشرة من الولد، والثاني ليس له إلا بنت واحدة. تُنزع البركة من الأول، فهؤلاء العشرة لا ينفعونه بشيء، بل ربما عانوا هم سبب المتاعب التي يعيشها، والنكد الذي يعيشه، ربما مَرِضْ ولا أحد من العشرة يُحس به، أو يلتفت إليه يمر اليومان والثلاثة والأسبوع، ولا أحد يسلم عليه؛ إنهم عشرة، لكن بدون بركة. والثاني يطرح الله البركة في هذه البنت، فتكون قرة عينيَ والديها في الدنيا، تقوم بحقهما، وترعى شؤونهما مع أنها متزوجة ولها بيتها ومسئولياتها، ومع ذلك هي على صلة مستمرة بهما يوميًا، على الأقل ترفع سماعة الهاتف كل ليلة قبل أن تنام لكي تطمئن عليهما، إنها المنحة الإلهية التي لا تُشترى بالمال، ولا يجلبها الملك والسلطان وإنما هي بيد من بيده ملكوت كل شيء. واعلم يا عبد الله، بأن الله لو فتح لك باب البركة فأبشر بكل خير، مع قلة الراتب، وضيق المسكن، وانعدام الولد، وضعف الجاه.

واعلم يا عبد الله أن هذا الباب لو أغلقه الله عليك ثم فتح لك كل أبواب الدنيا من مال وولد وجاه وسلطان وصحة، فما هو بنافعك بشيء إنما يكون معها الضيق والكرب والشدة والقلق والعناء. إن من أسباب قلة البركات ونزعها تعلق الناس بالمال والدنيا، وغفلتهم عن المآل والأخرى، حتى لقد أصبح كثير منهم يوالي في المال ويعادي فيه، ويحب له ويبغض من أجله، ويرضى إن أعطِي ويسخط إن مُنع. من أين ينتظر البركة مَن قد أصبح عبدًا للمال؟! من أين تأتيه البركة وقد أصبح المال محركه وهو الذي يسكِّنُه، وهو الذي يرضيه ويسخطه؟! يا لها من تعاسة ما أشدها على الأفراد والمجتمعات! ويا لها من انتكاسة ما أقوى أثرها على القلوب والنفوس! عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الْخَمِيصةِ؛ إِنْ أعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ». (رواه البخاري). (عَبْد الدِّينَار) أَيْ طَالِبه الْحَرِيص عَلَى جَمْعه الْقَائِم عَلَى حِفْظه، فَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ خَادِمه وَعَبْده. وخُص الْعَبْد بِالذِّكْرِ لِيُؤْذَن بِانْغِمَاسِهِ فِي مَحَبَّة الدُّنْيَا وَشَهَوَاتهَا كَالْأَسِيرِ الَّذِي لَا يَجِد خَلَاصًا، وَلَمْ يَقُلْ مَالِك الدِّينَار وَلَا جَامِع الدِّينَار لِأَنَّ الْمَذْمُوم مِنْ الْمِلْك وَالْجَمْع الزِّيَادَةُ عَلَى قَدْر الْحَاجَة. (وَالْخَمِيصة: الْكِسَاء الْمُرَبَّع). (تَعِسَ) ضِدُّ سَعِدَ، تَقُولُ تَعِسَ فُلَانٌ: أَيْ شَقِيَ، وَقِيلَ مَعْنَى التَّعَس الْكَبُّ عَلَى الْوَجْهِ، وقيل: التَّعَسُ أَنْ يَعْثُرَ فَلَا يَفِيقُ مِنْ عَثْرَتِهِ، وَقِيلَ التَّعَسُ الشَّرُّ، وَقِيلَ: الْبُعْدُ، وَقِيلَ: الْهَلَاكُ، وَقِيلَ: التَّعَسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى وَجْهِهِ، وَالنَّكَسُ أَنْ يَخِرَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَقِيلَ: تَعِسَ: أَخْطَأَ حُجَّتَهُ وَبُغْيَتَهُ.

(وَانْتَكَس) أَيْ عَاوَدَهُ الْمَرَضُ، وَقِيلَ: إِذَا سَقَطَ اِشْتَغَلَ بِسَقْطَتِهِ حَتَّى يَسْقُطَ أُخْرَى. (وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) الْمَعْنَى إِذَا أَصابَتْهُ الشَّوْكَةُ فَلَا وَجَدَ مَنْ يُخْرِجُهَا مِنْهُ بِالْمِنْقَاشِ، تَقُولُ: نَقَشْتُ الشَّوْكَ، إِذَا اِسْتَخْرَجْتَهُ. وَيَحْتَمِل أَنْ يُرِيد لَمْ يَقْدِر الطَّبِيب أَنْ يُخْرِجهَا. وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى الدُّعَاء عَلَيْهِ بِمَا يُثَبِّطهُ عَنْ السَّعْي وَالْحَرَكَة، وَسَوَّغَ الدُّعَاءَ عَلَيْهِ كَوْنُه قَصرَ عَمَله عَلَى جَمْع الدُّنْيَا وَاشْتَغَلَ بِهَا عَنْ الَّذِي أُمِرَ بِهِ مِنْ التَّشَاغُل بِالْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَات. وَفِي الدُّعَاءِ بِذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى عَكْسِ مَقْصودِهِ لِأَنَّ مَنْ عَثَرَ فَدَخَلَتْ فِي رِجْلِهِ الشَّوْكَة فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُخْرِجُهَا يَصيرُ عَاجِزًا عَنْ الْحَرَكَةِ وَالسَّعْيِ فِي تَحْصيل الدُّنْيَا. وَإِنَّمَا خُص اِنْتِقَاش الشَّوْكَة بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ أَسْهَلَ مَا يُتَصوَّر مِنْ الْمُعَاوَنَة، فَإِذَا انْتَفَى ذَلِكَ الْأَسْهَل انْتَفَى مَا فَوْقه بِطَرِيقِ الْأَوْلَى. 9 - عدم الطمع والشره والجشع؛ فمن أخذ ما أُعْطِي بتعفُّف وغِنى بنفسٍ من غَير مسألةٍ ولا استشرافٍ له بالقلب بورِك له فيه: عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رضي الله عنه - قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى». قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا». فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ عُمَرُ: «إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ». فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - حَتَّى تُوُفِّيَ. (رواه البخاري ومسلم).

(خَضِرَة حُلْوَة) شَبَّهَهُ بِالرَّغْبَةِ فِيهِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ وَحِرْص النُّفُوس عَلَيْهِ بِالْفَاكِهَةِ الْخَضْرَاءِ الْمُسْتَلَذَّةِ فَإِنَّ الْأَخْضَرَ مَرْغُوب فِيهِ عَلَى اِنْفِرَادِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْيَابِسِ، وَالْحُلْوَ مَرْغُوب فِيهِ عَلَى اِنْفِرَادِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَامِضِ، فَالْإِعْجَاب بِهِمَا إِذَا اِجْتَمَعَا أَشَدُّ. قَوْله: (بِسَخَاوَةِ نَفْس) أَيْ: بِغَيْرِ شَرَهٍ وَلَا إِلْحَاح أَيْ: مِنْ أَخْذِهِ بِغَيْرِ سُؤَال، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخْذِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعْطِي أَيْ: بِسَخَاوَةِ نَفْسِ الْمُعْطِي أَيْ: اِنْشِرَاحِهِ بِمَا يُعْطِيه. (كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ) أَيْ: الَّذِي يُسَمَّى جُوعُهُ كَذَّابًا لِأَنَّهُ مِنْ عِلَّةٍ بِهِ وَسَقَم، فَكُلَّمَا أَكَلَ اِزْدَادَ سَقَمًا وَلَمْ يَجِدْ شِبَعًا. (الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى) بيَّنها قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي حديث آخر: «الْيَد الْعُلْيَا خَيْر مِنْ الْيَد السُّفْلَى، وَالْيَد الْعُلْيَا الْمُنْفِقَة، وَالسُّفْلَى السَّائِلَة» (رواه البخاري ومسلم). وَالْمُرَاد بِالْعُلُوِّ: عُلُوّ الْفَضْل وَالْمَجْد وَنَيْل الثَّوَاب. (لَا أَرْزَأُ) أَيْ: لَا أَنْقُص مَالَهُ بِالطَّلَبِ مِنْهُ. وَإِنَّمَا اِمْتَنَعَ حَكِيم مِنْ أَخْذِ الْعَطَاءِ مَعَ أَنَّهُ حَقُّهُ لِأَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا فَيَعْتَادُ الْأَخْذ فَتَتَجَاوَزُ بِهِ نَفْسه إِلَى مَا لَا يُرِيدُهُ فَفَطَمَهَا عَنْ ذَلِكَ وَتَرَكَ مَا يَرِيبُهُ إِلَى مَا لَا يَرِيبُهُ، وَإِنَّمَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ عُمَر لِأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ لَا يَنْسُبَهُ أَحَد لَمْ يَعْرِفْ بَاطِنَ الْأَمْرِ إِلَى مَنْعِ حَكِيمٍ مِنْ حَقِّهِ. وفِي هذا الحَدِيثِ فَوَائِد، مِنْهَا أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ الزُّهْد مَعَ الْأَخْذِ، فَإِنَّ سَخَاوَةَ النَّفْس هُوَ زُهْدُهَا، تَقُولُ سَخَتْ بِكَذَا أَيْ: جَادَتْ، وَسَخَتْ عَنْ كَذَا أَيْ: لَمْ تَلْتَفِتْ إِلَيْهِ. وَمِنْهَا أَنَّ الْأَخْذَ مَعَ سَخَاوَةِ النَّفْس يُحَصِّلُ أَجْرَ الزُّهْد وَالْبَرَكَة فِي الرِّزْقِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزُّهْدَ يُحَصلُ خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَفِيهِ ضَرْب الْمَثَل لِمَا لَا يَعْقِلُهُ السَّامِعُ مِنْ الْأَمْثِلَةِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ النَّاسِ لَا يَعْرِفُ الْبَرَكَة إِلَّا فِي الشَّيْءِ الْكَثِيرِ فَبَيَّنَ بِالْمِثَالِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الْبَرَكَةَ هِيَ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ

تَعَالَى، وَضَرَبَ لَهُمْ الْمَثَل بِمَا يَعْهَدُونَ، فَالْآكِلُ إِنَّمَا يَأْكُلُ لِيَشْبَعَ فَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَشْبَعْ كَانَ عَنَاء فِي حَقِّهِ بِغَيْرِ فَائِدَة، وَكَذَلِكَ الْمَال لَيْسَتْ الْفَائِدَة فِي عَيْنِهِ وَإِنَّمَا هِيَ لِمَا يَتَحَصلُ بِهِ مِنْ الْمَنَافِعِ، فَإِذَا كَثُرَ عِنْدَ الْمَرْءِ بِغَيْرِ تَحْصيلِ مَنْفَعَةٍ كَانَ وُجُودُهُ كَالْعَدَمِ. 10 - أكل الحلال وأداء العمل الذي أخذتَ الأجر عليه كما يجب: يقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ مَنْ أَصابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). يعنى أن الذي يأخذها بغير حقها لن يبارك له فيها، سواءً كانت وظيفة أو صنعة أو غيرها. قَوْلُهُ: (خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) مَعْنَاهُ أَنَّ صورَةَ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ مُونِقَةٌ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ مُشْرِقٍ نَاضِرٍ أَخْضَرَ. (الْمَالُ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ) لَيْسَ هُوَ صفَةَ الْمَالِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلتَّشْبِيهِ كَأَنَّهُ قَالَ الْمَالُ كَالْبَقْلَةِ الْخَضْرَاءِ الْحُلْوَةِ، وَالتَّاءُ فِي قَوْلِهِ خَضِرَةٌ وَحُلْوَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمَالُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا أَوْ عَلَى مَعْنَى فَائِدَةِ الْمَالِ أَيْ أَنَّ الْحَيَاةَ بِهِ أَوْ الْعِيشَةَ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَالِ هُنَا الدُّنْيَا لِأَنَّهُ مِنْ زِينَتِهَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 46). (مَنْ أَصابَهُ بِحَقِّهِ) أَيْ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ مِنْ الْحَلَالِ. (وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ) أَيْ مُتَسَارِعٍ وَمُتَصرِّفٍ. وأَصلُ الْخَوْضِ الْمَشْيُ فِي الْمَاءِ وَتَحْرِيكُهُ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي التَّلْبِيسِ بِالْأَمْرِ وَالتَّصرُّفِ فِيهِ، أَيْ رُبَّ مُتَصرِّفٍ فِي مَالِ اللَّهِ بِمَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ، أَيْ يَتَصرَّفُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَيَسْتَبِدُّونَ بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ قِسْمَةٍ، وَقِيلَ هُوَ التَّخْلِيطُ فِي تَحْصيلِهِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ كَيْفَ أَمْكَنَ. (فِيمَا شَاءَتْ نَفْسُهُ) أَيْ فِيمَا أَحَبَّتْهُ وَالْتَذَّتْ بِهِ. (لَيْسَ لَهُ) أَيْ جَزَاءٌ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ) أَيْ دُخُولُ جَهَنَّمَ. إن من أسباب عدم البركة أكل المال الحرام وتناوله والاستهانة بذلك أخذًا وعطاءً، وقد كثر في هذا الزمان ذلك المنكر العظيم، في معاملات الناس فيما بينهم،

وفي التخوض في أموال إخوانهم العامة بغير حق، فكم من المصارف الربوية التي توقع الناس في الربا فيما يدعى بالفوائد البنكية. وكم من قنوات الشر والفساد والإفساد وجرائد الشر والفتنة ومحلات الجشع والطمع من يبتلون المسلمين بمسابقات الميسر والقمار، وكم من التجار من يتعامل بالربا الذي لا مِرْية فيه، وكم من الموظفين والعمال من يأخذ الأجر ولا يقوم بالعمل كما ينبغي، وكم من الناس من يتلاعب بأموال المسلمين ومقدراتهم، سواء بأخذ الرشوة جهارًا نهارًا، أو الاقتطاع من مستحقات المشروعات والمرافق العامة، أو بأخذ ما لا يستحقه من انتدابات أو زيادات. أفلا يكون ذلك سببًا في نزع البركات وقلة الخيرات، وقد قال سبحانه في الربا: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276). صرح الله - عز وجل - في هذه الآية الكريمة بأنه يمحق الربا أي: يذهبه بالكلية من يد صاحبه أو يحرمه بركة ماله فلا ينتفع به. وعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَا أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ الرِّبَا إِلَّا كَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهِ إِلَى قِلَّةٍ» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). (أَكْثَر مِنْ الرِّبَا) أَيْ أَكْثَرَ مَاله وَجَمَعَهُ مِنْ الرِّبَا. ولا يُنال ما عند الله إلا بطاعتِه، والسعادةُ في القربِ من الله، وبالإكثار من الطاعات تحُلّ البركات، وبالرجوع إليه تتفتّح لك أبوابُ الأرزاق؛ فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «شرح السنة للبغوي - (ج 7 / ص 243) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِن رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رُوعِي أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَهَا، وتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا؛ فَاتَّقُوا اللهَ، وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنّ أحَدَكُم َاسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيةِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ» (رواه أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني). (رُوح الْقُدُسِ) أي الروح المقدسة وهو جِبْرِيلَ - عليه السلام -، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} (النحل: 102). (نَفَثَ فِي رُوعِي) - بضم الراء

- أي ألقى الوحي في خَلَدي وبالي أو في نفسي أو قلبي أو عقلي من غير أن أسمعه ولا أراه، أما الرَّوْع - بفتح الراء - فهو الفزع ولا دخل له هنا، (أَنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أجَلَهَا) الذي كتبه لها الملَك وهي في بطن أمها، (وتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا) كذلك؛ فإنه - سبحانه وتعالى - قسم الرزق وقدَّره لكل أحد بحسب إرادته لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص بحسب علمه القديم الأزلي، (فَاتَّقُوا اللهَ) أي ثِقُوا بضمانه، لكنه أمرنا تعبدًا بطلبه مِن حِلّه؛ فلهذا قال (وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ) بأن تطلبوه بالطرق الجميلة المحَلّلَة بغير كَدّ ولا حِرْص، ولا تهافت على الحرام والشبهات، أجْمَلَ: أي طلب في قصدٍ واعتدال مع عدم انشغال القلب، (وَلَا يَحْمِلَنّ أحَدَكُم اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ) أي اسْتِبْطَاءُ حصول الرزق (أَنْ يَطْلُبَهُ بِمَعْصِيةِ اللهِ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يُنَالُ مَا عِنْدَهُ) من الرزق وغيرِه (إِلَّا بِطَاعَتِهِ) فإنّ ما عند الله لايُنال بالحرام. 11 - عدم الحلف في البيع: فعن أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ» (رواه البخاري ومسلم). (الْحَلِف) أَيْ الْيَمِين الْكَاذِبَة. (مَنْفَقَة) مِنْ النَّفَاقِ - بِفَتْحِ النُّونِ - وَهُوَ الرَّوَاجُ ضِدُّ الْكَسَادِ، وَالسِّلْعَة: الْمَتَاعُ. (مَمْحَقَة) الْمَحْقُ النَّقْص وَالْإِبْطَال. وأَوْضَحَ الْحَدِيث أَنَّ الْحَلِفَ الْكَاذِبَ - وَإِنْ زَادَ فِي الْمَال - فَإِنَّهُ يَمْحَقُ الْبَرَكَةَ كَقَوْله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} (البقرة: 276) أَيْ يَمْحَق الْبَرَكَةَ مِنْ الْبَيْعِ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ الْعَدَدُ زَائِدًا، لَكِنَّ مَحْقَ الْبَرَكَةِ يُفْضِي إِلَى اضْمِحْلَالِ الْعَدَد فِي الدّنْيَا، وَإِلَى اِضْمِحْلَال الْأَجْرِ فِي الْآخِرَةِ. وهذا الحديث فِيهِ النَّهْي عَنْ كَثْرَة الْحَلِف فِي الْبَيْع، فَإِنَّ الْحَلِف مِنْ غَيْر حَاجَة مَكْرُوه، وَيَنْضَمّ إِلَيْهِ تَرْوِيج السِّلْعَة، وَرُبَّمَا اِغْتَرَّ الْمُشْتَرِي بِالْيَمِينِ.

إذًا لا تحلف ولا تغشّ ولا تكذب ـ أخي البائع ـ حتى يبارك لك في بيعك وشرائك. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، والْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» (رواه البيهقي، وصححه الألباني). (لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صلَةِ الرَّحِمِ) أي الإحسان إلى الأقارب بقول أو فعل (وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ) أي التعدي على الناس (وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ) بنحو إساءة أو هجر (والْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ) أي الكاذبة (تَدَعُ) أي تترك (الدِّيَارَ بَلَاقِعَ) أَي فارغة لذهاب المَال، جمع بَلْقَع، وهي الأرض القفراء التي لا شئ فيها، أي أن الحالف يفتقر ويذهب ما في بيته من الرزق. 12 - اتباع هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب للبركة في المأكل والمشرب: البركةُ يتحرّاها العبدُ في مأكلِه في يومه وليلتِه، والطّعام المبارَك ما أكلتَه ممّا يَلِيكَ، وتجنّبتَ الأكلَ من وسط الصحفَة، وذكرتَ اسمَ الله عليه، فعَنْ عبد الله بْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» (رواه الترمذي وصححه الألباني). (فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ) أَيْ جَانِبَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا خُصوص التَّثْنِيَةِ، فَعن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أتِيَ بِقَصعَةٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، وَدَعُوا ذُرْوَتَهَا يُبَارَكْ فِيهَا» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). (ذُرْوَتهَا) الذُّرْوَة - بِالضَّمِّ وَالْكَسْر -: أَعْلَى الشَّيْء، وَالْمُرَاد الْوَسَط، وَالْبَرَكَة وَالنَّمَاء وَالزِّيَادَة مَحَلّهَا الْوَسَط، فَاللَّائِق إِبْقَاؤُهُ إِلَى آخِر الطَّعَام لِبَقَاءِ الْبَرَكَة وَاسْتِمْرَارهَا وَلَا يَحْسُن إِفْنَاؤُهُ وَإِزَالَته.

وقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ» يدل على أن الإنسان إذا أكل من أعلاه، أي من الوسط، نُزِعَت البركة من الطعام (¬1). وأمَر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بلَعقِ الأصابعِ والصحفة بعد الفراغ من الطعام رجاءَ البركة، فعَنْ جَابِرٍ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصابِعِ وَالصحْفَةِ وَقَالَ: «إِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّهِ الْبَرَكَةُ» (رواه مسلم). إن من آداب الأكل أن الإنسان إذا فرغ من أكْله فإنه يلعق الصحفة ويلعق أصابعه، يعني: يلحسها حتى لا يبقى فيها أثر الطعام؛ فقد تكون البركة فيما علق بالأصابع من الطعام. والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يأمر أمته بشيء إلا وفيه الخير والبركة. وَقَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَدْرُونَ فِي أَيّه الْبَرَكَة» مَعْنَاهُ - وَاللهُ أَعْلَم - أَنَّ الطَّعَام الَّذِي يَحْضُرهُ الْإِنْسَان فِيهِ بَرَكَة وَلَا يَدْرِي أَنَّ تِلْكَ الْبَرَكَة فِيمَا أَكَلَهُ أَوْ فِيمَا بَقِيَ عَلَى أَصابِعه أَوْ فِيمَا بَقِيَ فِي أَسْفَل الْقَصعَة أَوْ فِي اللُّقْمَة السَّاقِطَة، فَيَنْبَغِي أَنْ يُحَافِظ عَلَى هَذَا كُلّه؛ ¬

_ (¬1) قال بعض أهل العلم: «إلا إذا كان الطعام أنواعًا وكان نوع منه في الوسط وأراد أن يأخذ منه شيئًا فلا بأس، مثل أن يوضع اللحم في وسط الصحفة فإنه لا بأس أن تأكل من اللحم ولو كان في وسطها؛ لأنه ليس له نظير في جوانبها فلا حرج. فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «إِنَّ خَيَّاطًا دَعَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَهُ، قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَهَبْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَى ذَلِكَ الطَّعَامِ، فَقَرَّبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خُبْزًا وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيْ الْقَصْعَةِ. قَالَ: «فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يَوْمِئِذٍ». (رواه البخاري ومسلم). (الدُّبَّاء) هُوَ الْقَرْع، وَهُوَ الْيَقْطِين أَيْضًا. وَقَدْ حَمَلَ بَعْض الشُّرَّاح فِعْله - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي هَذَا الْحَدِيث عَلَى التَّفْصِيل بَيْن مَا إِذَا كَانَ الْطعَامُ لَوْنًا وَاحِدًا فَلَا يَتَعَدَّى مَا يَلِيه، أَوْ أَكْثَر مِنْ لَوْن فَيَجُوز ذَلِكَ، فَقَالَ: كَانَ الطَّعَام مُشْتَمِلًا عَلَى مَرَق وَدُبَّاء وَقَدِيد فَكَانَ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْكُل مِمَّا يُعْجِبهُ وَهُوَ الدُّبَّاء وَيَتْرُك مَا لَا يُعْجِبهُ وَهُوَ الْقَدِيد. وَقَالَ بعضهم: «إِنَّمَا جَالَتْ يَد رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الطَّعَام لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَتَكَرَّه ذَلِكَ مِنْهُ وَلَا يَتَقَذَّرهُ، بَلْ كَانُوا يَتَبَارَكُونَ بِرِيقِهِ وَمُمَاسَّة يَده، بَلْ كَانُوا يَتَبَادَرُونَ إِلَى نُخَامَته فَيَتَدَلَّكُونَ بِهَا، فَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُتَقَذَّر مِنْ مُؤَاكِله يَجُوز لَهُ أَنْ تَجُول يَده فِي الصَّحْفَة.

لِتَحْصل الْبَرَكَة، وَأَصل الْبَرَكَة الزِّيَادَة وَثُبُوت الْخَيْر وَالْإِمْتَاع بِهِ، وَالْمُرَاد هُنَا - وَاللهُ أَعْلَم - مَا يَحْصل بِهِ التَّغْذِيَة وَتَسْلَم عَاقِبَته مِنْ أَذًى، وَيُقَوِّي عَلَى طَاعَة اللهِ تَعَالَى وَغَيْر ذَلِكَ. وفي الاجتماعِ على الطعام بركة، وفي التفرّق نَزعٌ لها، فعن وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَصحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ؟»، قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ»؟ قَالُوا: «نَعَمْ». قَالَ: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ؛ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ». (رواه أبو داود وحسنه الألباني). وَحْشِيّ بْن حَرْب شَامِيّ تَابِعِيّ. (تَفْتَرِقُونَ): أَيْ حَالَ الْأَكْل بِأَنَّ كُلّ وَاحِد مِنْ أَهْل الْبَيْت يَأْكُل وَحْده. (وَاذْكُرُوا اِسْم اللهِ عَلَيْهِ): أَيْ فِي اِبْتِدَاء أَكْلِكُمْ. (يُبَارَك لَكُمْ فِيهِ): أَيْ فِي الطَّعَام. قال الشيخ ابن عثيمين في شرح هذا الحديث من (رياض الصالحين): «والتفرق على الطعام من أسباب نزع البركة؛ لأن التفرق يستلزم أن كل واحد يجعل له إناء خاص، فيتفرق الطعام وتنزع بَرَكته، وذلك لأنك لو جعلْتَ لكل إنسان طعامًا في صحن واحد أو في إناء واحد لَتَفَرَّق الطعام، لكن إذا جعلته كله في إناء واحد اجتمعوا عليه وصار في القليل بركة، وهذا يدل على أنه ينبغي للجماعة أن يكون طعامهم في إناء واحد ولو كانوا عشرة أو خمسة يكون طعامهم في صحن واحد بحسبهم؛ فإن ذلك من أسباب نزول البركة والتفرق من أسباب نزع البركة». 13 - صلاة أربع ركعات من أول النهار: إن مما يساعد الإنسان على تحصيل البركة في عمره وماله صلاة أربع ركعات من أول النهار، قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قَالَ اللهُ – عز وجل -: «يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ». وفي رواية: «قَالَ رَبُّكُمْ - عَزَّ وَجَلَّ -: «يَا ابْنَ آدَمَ صلِّ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوَّلَ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ» (رواه الإمام أحمد وغيره، وصححه الألباني).

(يَا ابْنَ آدَمَ لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ) أي عن صلاتها. (مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ) يَحْتَمِل أَنْ يُرَاد بِهَا فَرْض الصبْح وَرَكْعَتَا الْفَجْر أَوْ أُرِيدَ بِالْأَرْبَعِ الْمَذْكُورَة صلَاة الضُّحَى. (أَكْفِك آخِره): يَحْتَمِل أَنْ يُرَاد كِفَايَته مِنْ الْآفَات وَالْحَوَادِث الضَّارَّة، وَأَنْ يُرَاد حِفْظه مِنْ الذُّنُوب وَالْعَفْو عَمَّا وَقَعَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ أَوْ أَعَمّ مِنْ ذَلِكَ. 14 - شكر الله - عز وجل - على نعمه: قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (إبراهيم: 7). وحقيقة الشكر: أن تُظهِر في قلبك الفرح بالله وبنعمته وفضله عليك، ثم تخوض في العمل بموجبه، وذلك بالجوارح والقلب واللسان. أما الجوارح فباستعمالها في طاعة الله، والقلب فشكره دوام المراقبة، واللسان فشكره ذكر الله - عز وجل -.

58 - التبرك المشروع والتبرك الممنوع

58 - التبرك المشروع والتبرك الممنوع (¬1) التّبرُّك: هو طلب البركة، والتبرك بالشيء: طلب البركة بواسطته. ولا شك أن الخير والبركة بيد الله - عز وجل -، وقد اختص الله - عز وجل - بعض خلقه بما شاء من الفضل والبركة، وأصل البركة: الثبوت واللزوم، وتطلق على النماء والزيادة. والتبريك: الدعاء، يقال: برَّك عليه: أي دعا له بالبركة، ويقال: بارك الله الشيءَ وبارك فيه أو بارك عليه: أي وضع فيه البركة. وتبارك لا يوصف بها إلا الله - عز وجل -، ولا تسند إلا إليه،، فلا يقال: تبارك فلان؛ لأن المعنى عَظُمَ وهذه صفة لا تنبغي إلا لله - عز وجل -. وتباركه - سبحانه وتعالى -: دوام جوده، وكثرة خيره، ومجده وعلوِّه، وعظمته وتقدسه، ومجيء الخيرات كلها من عنده، وتبريكه على من شاء من خلقه. واليُمْنُ: هو البركة: فالبركة واليُمن لفظان مترادفان. والتبرك المشروع يكون بأمور، منها ما يأتي: أولًا: التبرك بأمرٍ شرعيٍّ معلومٍ مثل كذكر الله - سبحانه وتعالى - وتلاوة القرآن، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} (ص:29). والتبرك بذكر الله وتلاوة القرآن الكريم، يكون على الوجه المشروع، وهو طلب البركة من الله - عز وجل - بذكر القلب، واللسان، والعمل بالقرآن والسنة على الوجه المشروع؛ لأن من بركات ذلك اطمئنان القلب، وقوة القلب على الطاعة، والشفاء من ¬

_ (¬1) انظر: نور السنة وظلمات البدعة في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني، التبرك المشروع والتبرك الممنوع، للدكتور علي بن نفيع العلياني، التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور ناصر الجديع.

الآفات، والسعادة في الدنيا والآخرة، ومغفرة الذنوب، ونزول السكينة، وأن القرآن يكون شفيعًا لأصحابه يوم القيامة. ولا يُتَبَرّك بالمصحف كوضعه في البيت أو في السيارة وإنما التبرك يكون بالتلاوة والعمل به. والتبرك باسم الله - سبحانه وتعالى -، والاستعانة بالله في التسمية، فهذا مشروع، فيما شرعت فيه التسمية. ثانيًا: التبرك بأمرٍ حسيٍّ معلومٍ، مثل العلم، والدعاء، ونحوهما، فالرجلُ يُتَبَرّك بعلمه، ودعوته إلى الخير، فيكون هذا بركة لأننا نِلْنا منه خيرًا كثيرًا. ثالثًا: التبرك بهيئةٍ شرعيَّةٍ مثل الاجتماع على الطعام، والأكل مِن جوانب القصعة، ولعق الأصابع، وكيْل الطعام. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ اجْتَمِعُوا عَلى طَعَامِكُم وَاذْكُروا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» (رواه أبو داود وابن ماجه، وحسنه الألباني). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ البرَكَةُ تَنْزِلُ في وَسَطِ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَّتَيْهِ، وَلاَ تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وأمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بلعق الأصابع وقال: “ فإِنَّهُ لاَ يَدْرِي في أَيَّتِهِنَّ البَرَكَةُ “ (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “كِيلُوا الطَّعامَ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ “ (رواه البخاري). رابعًا: التبرك بالأمكنة، فهناك أمكنةٌ جعل الله فيها البركة إذا تحقق في العمل الإخلاص والمتابعة كالمساجد، وخاصة المسجد الحرام والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء، وأحاديث فضل الصلاة فيها مشهورةٌ معلومةٌ. خامسًا: التبرك بالأطعمة، وهناك أنواعٌ مِن الطعام جعل الله فيها بركة مثل: 1 - الزيت، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ كُلُوا الزَّيْتَ وَادَّهِنُوا بِهِ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ “ أي: الزيتون (رواه الترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني).

2 - الحبَّةُ السوداء، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ الحبَّةُ السَّوْداءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ إِلاَّ السَّام “ (رواه البخاري ومسلم)، والسام: الموت. 3 - التبرك بشرب ماء زمزم؛ لأنه أفضل مياه الأرض، ويُشبع من شربه ويكفيه عن الطعام، ويُستشفى بشربه مع النية الصالحة من الأسقام؛ لأنه لما شرب له؛ وزمزم قال عنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ؛ إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» (رواه مسلم). قَوْله - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي زَمْزَم: «إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» أَيْ تُشْبِعُ شَارِبهَا كَمَا يُشْبِعُهُ الطَّعَام. وفي قصة أبي ذر أنه لما دخل مكة أقام بها شهرًا لا يتناول غير مائها، وقال: «مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا أَجِدُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوع» (رواه مسلم). (حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَن بَطْنِي) يَعْنِي اِنْثَنَتْ لِكَثْرَةِ السِّمَن وَانْطَوَتْ. (سُخْفَة جُوع) أي رِقَّةُ الْجُوعِ وَضَعْفه وَهُزَاله. وأيضًا ماء زمزم خير ماء على وجه الأرض قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ مَاءٍ عَلَى وَجْهِ الْأرْضِ مَاءُ زَمْزَم؛ فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُعْمِ وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ» (صحيح رواه الطبراني). (فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُعْمِ) أي طعام إشباع أو طعام شبع من إضافة الشيء إلى صفته، والطُعم: الطعام (وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ) أي شفاء من الأمراض إذا شرب بنية صالحة. وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ سدد خطاكم قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني). وعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَائِشَةَ كَانَتْ تَحْمِلُ مَاءَ زَمْزَمَ وَتُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَفْعَلُهُ. (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وَحَمَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِى الأَدَاوَى وَالْقِرَبِ وَكَانَ يَصُبُّ عَلَى الْمَرْضَى وَيَسْقِيهِمْ. (رواه البيهقي، وصححه الألباني).

4 - التبرك بماء المطر، فلا شك أن المطر مبارك لما جعل الله فيه من البركة: من شرب الناس منه، والأنعام، والدواب، وإنبات الأشجار، والثمار، وأحيى به الله كل شيء. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} (ق: 9 - 12). وعَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم قَالَ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَطَرٌ، فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ثَوْبَهُ حَتَّى أَصَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟». قَالَ: «لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِرَبِّهِ تَعَالَى». (رواه مسلم). قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «مَعْنَى (حَسِرَ) كَشَفَ أَيْ كَشَفَ بَعْض بَدَنه. وَمَعْنَى (حَدِيث عَهْد بِرَبِّهِ) أَيْ بِتَكْوِينِ رَبّه إِيَّاهُ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَطَر رَحْمَة، وَهِيَ قَرِيبَة الْعَهْد بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى لَهَا فَيَتَبَرَّك بِهَا». سادسًا: التبرك بالأزمنة، وهناك أزمنةٌ خصّها الشرع بزيادة فضلٍ وبركةٍ؛ مثل: شهر رمضان، وليلة القدر، والعشر الأول من ذي الحجة، ويوم الجمعة، والثلث الأخير من الليل. سابعًا: التبرك المشروع بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مُبَارَك في ذاته وما اتصل بذاته؛ ولهذا تبرك الصحابة - رضي الله عنهم - بذاته - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومن ذلك، ما ثبت عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْبَطْحَاءِ، فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَقَامَ النَّاسُ فَجَعَلُوا يَأْخُذُونَ يَدَيْهِ فَيَمْسَحُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ. قَالَ: فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَوَضَعْتُهَا عَلَى وَجْهِي فَإِذَا هِيَ أَبْرَدُ مِنْ الثَّلْجِ وَأَطْيَبُ رَائِحَةً مِنْ الْمِسْكِ» (رواه البخاري). الهَجِيرُ والهَجِيرَةُ والهَجْرُ والهاجِرَةُ: نصفُ النهارِ عندَ زوالِ

الشمسِ مع الظُّهْرِ، أو من عندِ زوالِها إلى العَصْرِ لأنَّ الناسَ يَسْتَكِنُّونَ في بُيُوتِهِمْ كأَنَّهُم قد تَهاجَرُوا، وشدَّةُ الحَرِّ. وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: «لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ: «احْلِقْ»، فَحَلَقَهُ فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ: «اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ» (رواه مسلم). (نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ): أي ناول الحلاق. وعَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا. (رواه مسلم). وفي رواية عَنْها - رضي الله عنها - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِى مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ؛ لأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِى». (رواه مسلم). وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتبركون بثياب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومواضع أصابعه، وبماء وضوئه، وبفضل شربه، ويتبركون بالأشياء المنفصلة منه: كالشعر، والأشياء التي استعملها وبقيت بعده: كالآنية، والنعل، وغير ذلك مما اتصل بجسده - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬1). ¬

_ (¬1) الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مبارك، جعل الله فيه البركة، وهذه البركة نوعان: أ- بركة معنوية: وهي ما يحصل من بركات رسالته في الدنيا والآخرة، لأن الله أرسله رحمة للعالمين، وأخرج الناس من الظلمات إلى النور, وأحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وختم به الرسل، ودينه يحمل اليسر والسماحة. ب- بركة حسّيّة، وهي على نوعين: النوع الأول: بركة في أفعاله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهي ما أكرمه الله به من المعجزات الباهرة الدالة على صدقه. النوع الثاني: بركة في ذاته وآثاره الحسية: وهي ما جعل الله له - صلى الله عليه وآله وسلم - من البركة في ذاته؛ ولهذا تبرك به الصحابة في حياته، وبما بقي له من آثار جسده بعد وفاته.

والتبرك بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حياته لا يقاس عليه أحد من خلق الله - عز وجل -؛ لما جعل الله فيه من البركة. فلا يقاس عليه غيره - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فإنه لم يُؤْثَرْ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه أمر بالتبرك بغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - أو غيرهم، ولم يُنْقَل أن الصحابة - رضي الله عنهم - فعلوا ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد مماته، ولم يفعلوه مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا مع الخلفاء الراشدين المهديين، ولا مع العشرة المشهود لهم بالجنة. قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: «الصحابة - رضي الله عنهم - بعد موته - عليه الصلاة والسلام - لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه، إذ لم يترك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق سدد خطاكم، فهو كان خليفته، ولم يُفْعَل به شيءٌ من ذلك، ولا عمر سدد خطاكم، وهو كان أفضل الأمة بعده، ثم كذلك عثمان، ثم علي، ثم سائر الصحابة الذين لا أحدَ أفضلُ منهم في الأمة، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركًا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها» (¬1). ولا شك أن الانتفاع بعلم العلماء الصالحين، والاستماع إلى وعظهم، ودعائهم، والحصول على فضل مجال الذكر معهم فيها من الخير والبركة والنفع الشيء العظيم، ولكن لا يُتَبَرَّكُ بذواتهم وإنما يُعمل بعلمهم الصحيح، ويقتدى بأهل السنة منهم. والتبرك بمعنى أن يُقال: بركة فلان، وذلك بما استفيد منه من العلم والتعليم والدعوة إلى الله - عز وجل - وما حصل بسببه من الخير والصدقات التي يقدمها للفقراء والمساكين والمحتاجين والأيتام فهذا جائز، كما قال أسيد بن الحضير - رضي الله عنه -: «مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» (رواه البخاري). ¬

_ (¬1) الاعتصام للشاطبي (2/ 8، 9) ونظر: التبرك: أنواعه وأحكامه، للدكتور الجديع، (ص 261 - 269).

والتبرك الممنوع منه ما يأتي: أولًا: التبرك بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته ممنوع إلا في أمرين: الأمر الأول: الإيمان به وطاعته وإتباعه، فمَن فعل ذلك حصل له الخير الكثير والأجر العظيم والسعادة في الدنيا والآخرة. الأمر الثاني: التبرك بما بقي من أشياء منفصلة عنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: كثيابه، أو شعره، أو آنيته، فهذا جائز حتى لو تبرك أحد بشعر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته، فهذا لا محذور فيه. وما عدا ذلك من التبرك فلا يشرع، فلا يتبرك بقبره، ولا تشد الرحال لزيارة قبره، وإنما تشد الرحال لزيارة أحد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي. وإنما تستحب الزيارة لقبره لمن كان في المدينة، أو زار المسجد ثم زار قبره، وصفة الزيارة: إذا دخل المسجد صلى تحية المسجد، ثم يذهب إلى القبر ويقف بأدب مستقبلًا الحجرة فيقول بأدب وخفض صوت: «السلام عليك يا رسول الله». ولا يدعو عند القبر؛ لظنه أن الدعاء عنده مستجاب، ولا يطلب منه الشفاعة، ولا يتمسح بالقبر ولا يُقَبّلُه ولا شيء من جدرانه، ولا يتبرك بالمواضع التي جلس فيها أو صلى فيها، ولا بالطرق التي سار عليها، ولا بالمكان الذي أنزل عليه فيه الوحي، ولا بمكان ولادته، ولا بليلة مولده، ولا بالليلة التي أسري به فيها، ولا بذكرى الهجرة، ولا غير ذلك مما لم يشرعه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. تنبيهات: 1 - التبرك بآثاره - صلى الله عليه وآله وسلم - له شروط منها الإيمان الشرعي المقبول عند الله، فمن لم يكن مسلمًا صادق الإسلام فلن يحقق الله له أي خير بتبركه هذا. 2 - يشترط للراغب في التبرك أن يكون حاصلًا على أثر من آثاره - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويستعمله؛ ونحن نعلم أن آثاره من ثياب أو شعر أو فضلات قد فُقِدَتْ وليس بإمكان أحد إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين.

وإذا كان الأمر كذلك فإن التبرك بهذه الآثار يصبح أمرًا غير ذي موضوع في زماننا هذا ويكون أمرًا نظريًّا محضًا فلا ينبغي إطالة القول فيه. 3 - إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإن أقر الصحابة في غزوة الحديبية وغيرها على التبرك بآثاره - صلى الله عليه وآله وسلم - والتمسح بها وذلك لغرض مهم وخاصة في تلك المناسبة - وذلك الغرض هو إرهاب كفار قريش وإظهار مدى تعلق المسلمين بنبيهم وحبهم له وتفانيهم في خدمته وتعظيم شأنه - إلا أن الذي لا يجوز التغافل عنه ولا كتمانه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد تلك الغزوة رغَّبَ المسلمين بأسلوب حكيم وطريقة لطيفة عن هذا التبرك وصرَفَهم عنه وأرشدهم إلى أعمال صالحة خير لهم منه عند الله - عز وجل - وأجدى. وهذا ما يدل عليه الحديث الآتي: عن عبد الرحمن بن أبي قُرَاد سدد خطاكم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تَوَضَّأَ يَوْمًا فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ، فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟». قَالُوا: «حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ». فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهَ إِذَا حَدَّثَ، وَلْيُؤَدِّ أَمَانَتَهُ إِذَا اؤْتُمِنَ، وَلْيُحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ». (رواه الطبراني، وحسنه الألباني). «مَا يَحْمِلُكُمْ عَلَى هَذَا؟» أي التمَسُّح، وكان هذا من المعلوم الواضح عنده أنه للتبرك الناشىء عن حسن الاعتقاد في الله ورسوله، فالسؤال لإظهار ما يترتب على الجواب. قَالُوا: «حُبُّ اللهِ وَرَسُولِهِ» أي الحامل، أو حملنا. فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ» أي على وجه الكمال. «أَوْ يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» (أو) للتنويع، أو بمعنى بل، وهو الأظهر، ويحتمل شك الراوي. «فَلْيَصْدُقْ حَدِيثَهَ» أي في حديثه. «إِذَا حَدَّثَ» أي متى تكلم وتحدث. «وَلْيُحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَهُ» أي مجاورة جيرانه ومعاشرة أصحابه وإخوانه؛ فإن هذه الأوصاف من أخلاق المؤمنين، وأضدادها من علامات المنافقين؛ فالمدار على الأفعال الباطنة دون الأحوال الظاهرة، فكأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - نبههم على أن جملة همتهم يجب أن تكون على أمثال هذه الأخلاق دون الاكتفاء بظواهر الأمور المشترك فيها المؤمن والمنافق والمخالف والموافق.

وخلاصة معناه أن ادعاءكم محبة الله ومحبة رسوله لا يتم ولا يستتب بمسح الوضوء فقط، بل بالصدق في المقال وبأداء الأمانة وبالإحسان إلى الجار. 4 - هناك قصة مفتراة على الصحابية أم أيمن مولاة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنها شربت بول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. رُوي عن أم أيمن أنها قالت: قام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الليل إلى فخارة من جانب البيت فبال فيها، فقمت من الليل وأنا عطشى فشربت ما في الفخارة وأنا لا أشعر، فلما أصبح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «يا أم أيمن قومي إلى تلك الفخارة فأهريقي ما فيها». قلت: «قد والله شربت ما فيها». قالت: فضحك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى بدت نواجذه ثم قال: «أما أنك لا يفجع بطنك بعده أبدًا». (الحديث الذي جاءت به هذه القصة أخرجه الحاكم في (المستدرك) ولا يصح، وهذه القصة مفتراة على أم أيمن - رضي الله عنها -). ثانيًا: من التبرك الممنوع: التبرك بالصالحين: فلا يُتَبَرّك بذواتهم، ولا آثارهم، ولا مواضع عباداتهم، ولا مكان إقامتهم، ولا بقبورهم، ولا تشد الرحال إلى زيارتها، ولا يُصَلَّى عندها، ولا تُطلَب الحوائج عند قبورهم، ولا يُتَمَسَّح بها، ولا يُعْكَفُ عندها، ولا يُتَبَّرك بمواليدهم، وغير ذلك ومن فعل شيئًا من ذلك تقربًا إليهم فقد أشرك بالله شركًا أكبر، إذا اعتقد أنهم يضرون أو ينفعون، أو يعطون أو يمنعون، أما من فعل ذلك يرجو البركة من الله بالتبرك بهم فقد ابتدع بدعة نكراء، وعمل عملًا قبيحًا. ثالثًا: من التبرك الممنوع: التبرك بالأشجار، والأحجار، والقبور، والحيطان، والغيران كغار ثور وغار حراء، أو بالعيون أو غير ذلك، معتقدًا أنه بتمسحه بها، أو أخذ ترابها أو العكوف عندها، أنها تشفع له عند الله وأنها تعطيه الخير الكثير، وتمنحه النفع بنفسها وتدفع عنه الضر، فهذا شركٌ أكبر مخرج من ملة الإسلام، وفي حديث أبي واقد الليثي - رضي الله عنه - قال: «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حُدَثَاءُ عَهْدٍ بِكُفْرٍ، ولِلْمُشْرِكِينَ سِدْرَةٌ

يَعْكُفُونَ عِنْدَهَا، ويَنُوطُونَ بِهَا أَسْلِحَتَهُمْ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ، قَالَ: فَمَرَرْنَا بِالسِّدْرَةِ، فَقُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ , اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السُّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ كَمَا قَالَتْ بنو إِسْرَائِيلَ: { ... اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (¬1) لَتَرْكَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» (رواه أحمد والترمذي والطبراني، وصححه الألباني). والتبرك بالأشجار، والأحجار، والقبور وغيرها معتقدًا أنها سبب لحصول البركة، ولا يعتقد أنها تقرب إلى الله، أو تنفعه وتضره من دون الله، فهذا شركٌ أصغر. والتبرك بالجبال والمواضع، يخالف ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، والتبرك بذلك يسبب تعظيم هذه الجبال والمواضع، ولا يجوز القياس على تقبيل الحجر الأسود أو الطواف بالبيت، فإن ذلك عبادة لله - عز وجل - توقيفية، ولا يمسح غير الحجر الأسود والركن اليماني من الكعبة، لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يستلم من الأركان إلا الركنين، اليمانيين باتفاق العلماء. ولا يجوز التمسح ولا تقبيل مقام إبراهيم ولا الحِجْر، ولا شيء من جدران المسجد، ولا يُتَبَرّك بجبل حراء، ويسمى جبل النور، ولا تشرع زيارته، ولا الصعود إليه ولا قصده للصلاة، ولا يُتَبَرّك بجبل ثور، ولا تشرع زيارته، ولا جبل عرفات، ولا جبل أبي قبيس، ولا جبل ثبير، ولا يتبرك بالدور: كدار الأرقم ولا غيرها، ولا تشرع زيارة جبل الطور، ولا تشد الرحال إليه، ولا يتبرك بالأشجار والأحجار ونحوها. ¬

_ (¬1) الأعراف: 138.

59 - قصة أصحاب الأخدود

59 - قصة أصحاب الأخدود (¬1) شَرِّدُوا أخيارَنا بَرًّا وبحرًا ... واقْتُلوا أبناءَنا حُرًا فَحُرّا إنما الصالحُ يبقَى صالحًا أبَدَ ... الدهْرِ ويبقى الشرُّ شَرّا كَسِّرُوا الأقلامَ هل تَكسيرُها ... يمنعُ الأيدِي أن تنقُشَ صخْرَا اقطَعُوا الأيدِي هل تقطيعُها ... يمنعُ الأعينَ أن تنظرَ شَذْرا أطفِئُوا الأعينَ هل إطفاؤُها ... يَمنعُ الأنْفُسَ أنْ تَصْعَدَ زَفْرَا أخْمِدُوا الأنْفُسَ هذَا جُهْدُكُم ... وبهِ مَنْجَاتُنا مِنكُم فَشُكْرَا النَّظر الشَّذْر: هو نَظَر المُغْضَبِ، زفَرَ الشَّخصُ زَفْرًا وزَفِيرًا: أخرج نَفَسه من رئتيه بعد مَدِّه إيّاه. مذابح: إن ما يتعرض له المسلمون من مذابح وتحريق وتشريد على أيدي اليهود في فلسطين، وعلى أيدي الهندوس في الهند وكشمير، وعلى أيدي البوذيين في بورما والصين، وعلى أيدي الروس في الشيشان، وعلى أيدي النصارى الأمريكان في العراق وأفغانستان وعلى أيدي الإثيوبيين في الصومال، وعلى أيدي الشيعة في العراق، وفي غيرها من بلاد المسلمين لَيُذَكِّرُنا بواجبنا نحو هذا الدين ووجوب الثبات عليه ونصرته والدفاع عنه والتضحية بأنفسنا وبأنفَس ما لدينا في سبيل الله - عز وجل -. ¬

_ (¬1) هذه الخطبة واللتان بعدها بتصرف من رسالة (أصحاب الأخدود) للشيخ رفاعي سرور.

إن لسان حال هؤلاء المستضعفين: كَتَبنا بالدّمِ الغالي بيانَا ... نُخَبِّر مَن نُحبُّ بما دهَانَا ونَنْقُل صورةً عَنَّا إليْكُم ... تَرَوْنَ بها الحرائقَ والدُخَانَا تَرَوْنَ مَدامِعَ الأطفالِ لَمَّا ... يُجَمِّدُها الجليدُ على لِحَانا تَرَوْنَ نساءَنا مُتلَفِّعاتٍ ... بحسْرَتِهِنَّ يَنْشُدْن الحَنَانَا تَرَوْنَ شيوخَنا عجَزَتْ خُطاهُمْ ... فما هربُوا ولا وَجدُوا الأمَانَا تَرَوْنَ بُيوتَنا صارتْ قُبورًا ... وتحتَ رُكامِها دفنُوا رُؤَانا أحِبَّتَنَا أعَادِينَا قُساةٌ ... فلا تتَعجَّبُوا مِمَّا اعْتَرَانَا همُ اختطفوا هُدوءَ الليلِ مِنَّا ... ومِن أجواءِنا سَرَقُوا شَذَانَا نَلُوذُ بِمَنْ أرَانا الحقَّ حقًّا ... ومَن بظلالِ رحمتِه احْتوانا أمِا والله مَا نخشَى عدُوًّا ... يَظَلُّ برَغْم قسوتِه جبَانَا زَرَعْنا للبُطولةِ جانِحَيْها ... فطارَتْ نحونا تحْمِي حِمَانَا وذَوَّبْنَا الجليدَ بها وسِرْنا ... تُغَرِّد تحتَ أرجُلِنا خُطَانَا بُطُولَتُنا غَذَوْناها يَقينًا ... وأسْرَجْنَا لجوْلَتِها الحِصانَا سقَيْنَاها الدُعَاءَ ومَا مَلَلْنَا ... نُنَاشِدُ مَن بقُدْرتِه كفَانَا تكَامَل موقفُ الأعداءِ مِنَّا ... وأيَّدَ بعضُهم بعضًا عَيانَا لِقاءٌ بين شَرقٍ مُستَبِدٍّ ... وغربٍ بالعداوةِ واجَهَانَا أحِبَّتَنَا لنا حقٌّ عليكمْ ... ومَن عرَفَ الحقوقَ رعَى وصَانَا أقَمْنا حُجَّةَ الإسلامِ فيكُمْ ... وأحْيَيْنا الجهادَ علَى ثَرانَا بذَلْنا النفْسَ للمولَى وطِرْنَا ... بأجنحةِ الرضَا لما دعانَا

فماذا تبذُلون لنَصْرِ دِينٍ ... وأعيُنُكم بِلا غَبَشٍٍ ترانَا ألَسْتُمْ تُبصِرُون دُخَانَ غَدْرٍ ... وإرهابًا به الباغي رَمَانَا ومَا إرهابُ هذَا العصرِ مِنَّا ... ولَا فِينَا ولا هُو مِن هُدَانَا دَعاوَى مِن عَدُوّ اللهِ يرمِي ... بأسْهُمِها لِيُوقِفَ مُرتَقانَا يُفَرِّقُ بَيْنَنا ويُثِيرُ فِينَا ... خِلافاتٍ يَزيدُ بِها أسَانا وكَمْ مِن وَاهِن في الأرضِ يحْبُو ... ويَحْسَبُ أنَّهُ بلغَ العَنانَا أمَا علِم المكابِرُ أنَّ فينَا ... كتابَ اللهِ يمنَحُنا البيانَا يُضِيءُ لنا الوجودَ فنحنُ نبنِي ... على أضواء منهجِه الكيانَا نقولُ له وللدنيا جميعًا ... بأنَّا سوفَ نرعَى من رعَانا وسوف نُلَقِّنُ الباغينَ درسًا ... يُعيدُ إلى المودةِ مَن جَفانا سَنُرهُبُ بالجهادِ طُغاةَ حربٍ ... ونَمنَحُهم إذا صَدقُوا الأمانَا قصة طفل بطل: وها هي قصة من قصص الثبات الرائعة بطلها طفل صغير ضحَّى بحياته في سبيل نشر دين الله - عز وجل -. عن صُهَيْبٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ»، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: «إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ»، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا

فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ»، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ. فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: «أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ». وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: «مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي»، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ» فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟» قَالَ: «رَبِّي» قَالَ: «وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟» قَالَ: «رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ»، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ. فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ»، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ» فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ»، فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ»، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ»، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ»، فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ».

فَقَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ»، قَالَ: «وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي». فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: «آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ». فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ»، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ»، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: «يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» (رواه مسلم). (الْأَكْمَه): الَّذِي خُلِقَ أَعْمَى، (الْمِئْشَار): الْمِنْشَار، (ذُرْوَة الْجَبَل): أَعْلَاهُ، (رَجَفَ بِهِمْ الْجَبَل): أَيّ اِضْطَرَبَ وَتَحَرَّكَ حَرَكَة شَدِيدَة، (الْقُرْقُور): السَّفِينَة الصَّغِيرَة، (انْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَة): اِنْقَلَبَتْ، (الصَّعِيد): الْأَرْض الْبَارِزَة، (كَبِد الْقَوْس): مِقْبَضهَا عِنْد الرَّمْي، (الصدغ): جانب الوجه من العين إلى الأذن، (نَزَلَ بِك حَذَرك): أَيْ مَا كُنْت تَحْذَر وَتَخَاف، (الْأُخْدُود): هُوَ الشَّقّ الْعَظِيم فِي الْأَرْض، وَجَمْعه أَخَادِيد، (السِّكَك): الطُّرُق، وَأَفْوَاههَا: أَبْوَابهَا. (مَنْ لَمْ يَرْجِع عَنْ دِينه فَأَحْمُوهُ فِيهَا): اِرْمُوهُ فِيهَا مِنْ قَوْلهمْ: «حَمَيْت الْحَدِيدَة، وَغَيْرهَا» إِذَا أَدْخَلْتهَا النَّار لِتُحْمَى، (تَقَاعَسَتْ): تَوَقَّفَتْ وَلَزِمَتْ مَوْضِعهَا، وَكَرِهَتْ الدُّخُول فِي النَّار.

راوي القصة أحد الأبطال: هذه القصة حديث عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. وراوي هذا الحديث هو صهيب الرومي سدد خطاكم والذي كان مستضعفًا في مكة وحِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَالَ لَهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ: «أَتَيْتَنَا صُعْلُوكًا، فَكَثُرَ مَالُكَ عِنْدَنَا، وَبَلَغْتَ ما بَلَغْتَ، ثم تريد أن تَخْرُجَ بِنَفْسِكَ وَمَالِكَ، وَاللهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ»، فَقَالَ لَهُمْ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَعْطَيْتُكُمْ مَالِي أَتُخَلُّونَ سَبِيلِي؟» فَقَالُوا: «نَعَمْ»، فَقَالَ: «أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ لَكُمْ مَالِي»، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «رَبِحَ صُهَيْبُ، رَبِحَ صُهَيْبُ» (رواه ابن حبان وغيره، وصححه الألباني)، الصعلوك: الفقير. وفي صهيب سدد خطاكم نزل قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة: 207). وقال له النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أبَا يَحْيَى، رَبِحَ البَيْعُ»، وتلا عليه هذه الآية. (رواه الحاكم وقال: “ صحيح على شرط مسلم “، وسكت عنه الذهبي في التلخيص). وعن صهيب سدد خطاكم قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى المدينة وخرج معه أبو بكر سدد خطاكم وكنت قد هممت بالخروج معه فصدني فتيان من قريش فجعلت ليلتي تلك أقوم ولا أقعد، فقالوا: «قد شغله الله عنكم ببطنه»، ولم أكُنْ شاكيًا، فقاموا فلحقني منهم ناس بعدما سرت بَرِيدًا ليَرُدُّوني فقلت لهم: «هل لكم ان أعطيكم أواقي من ذهب وتخلون سبيلي وتَفُون لي؟»، فَتَبِعْتُهم إلى مكة فقلت لهم: «احفروا تحت أسكفة الباب فإنّ تحتها الأواق واذهبوا إلى فلانة فخذوا الحلتين». وخرجْتُ حتى قدِمْتُ على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل أن يتحول منها - يعني قباء - فلما رآني قال: «يَا أبَا يَحْيَى رَبِحَ الْبَيْعُ» ثلاثًا. فقلت: «يا رسول الله، ما سبقني إليك أحدٌ، وما أخبرك إلا جبريل – عليه السلام». (رواه الحاكم في المستدرك وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في التلخيص)، الأسكفة: عتبة الباب، والبَرِيدُ: مسافة قدرها فرسخان وقيل غير ذلك.

بطانة السوء: عن صُهَيْبٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ». من هذا القول نجد نموذجًا لبطانة السوء التى يهمها أن تبقى الأوضاع التي يستفيدون منها وينعمون فيها، ومثلهم الواضح سحرة فرعون الذين جاءوا إلى المدائن لمواجهة موسى فكان أول ما قالوا: {وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (الأعراف: 113). فلم يسألوا عمن سيواجهون وما هي قضيته، فهذا لا يهم ولكن الذي يهم هو الأجر، غير أننا نلحظ أن الساحر في طلبه للغلام لم يكن يريد منفعة شخصية لأن الطلب جاء لما أحس الساحر بِدُنُوِّ أجله. فلم يكن يريد بهذا الطلب شخصه. وهنا يبرز معنى جديد وهو أن الساحر لما كبر وعاش عمره في تهيئة الواقع للملك مستفيدًا ومنعمًا لم يصبح الأمر بالنسبة له منفعة ذاتية بل أصبح ذاته نفسها التي أحب أن تستمر في شخص الغلام فقد قضى عمره ساحرًا ولابد من امتداد لهذا العمر بعمر جديد. فكان طلبه للغلام. وهنا مثال آخر: لما انتهت معركة بدر وجد عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أبا جهل وبه آخر رمق، فوضع رِجْله على عنقه وأخذ لحيته ليحتز رأسه، وقال: «هل أخزاك الله يا عدو الله؟»، قال: «وبماذا أخزاني؟ هل فوق رجل قتلتموه؟»، وقال: «فلو غير أكَّار قتلنى»، ثم قال: «أخبرني لمن الدائرة اليوم؟» قال: «لله ورسوله»، ثم قال لابن مسعود - وكان قد وضع رِجْله على عنقه -: «لقد ارتقيت مرتقى صعبًا يا رُوَيْعِىَ الغنم»، وكان ابن مسعود من رعاة الغنم في مكة. وبعد أن دار بينهما هذا الكلام احتز ابن مسعود رأسه.

فها هو أبو جهل في الرمق الأخير يريد أن يطمئن على الباطل الذي كان يحمله. فتأمل حرص أهل الباطل على نشر باطلهم، فكيف لا يحرص المسلم على نشر الحق الذي يحمله. الهداية من الله - عز وجل -: (فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: «إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ»). الغلام في لغة العرب: من كان بعد سن الفطام وقبل البلوغ. وبِقَدَر الله - سبحانه وتعالى - يلتقى الغلام بالراهب في طريقه إلى الساحر بصورة عجيبة فقد قعد إليه وسمع كلامه فأعجبه، فكان يجلس إلى الراهب راغبًا وإلى الساحر كارهًا. وتلمح من النص أن الغلام كان على إصرار في القعود إلى الراهب لأنه كان يقعد إليه كلما أتى الساحر، رغم أن الساحر كان يضربه كلما تأخر عنه. وهذا الضرب يمثل بالنسبة للغلام بلاءًا وامتحانًا إذا راعينا أنه غلام صغير. ولكن الله - سبحانه وتعالى - يريد أن يتربى هذا الغلام - من البداية - تربية حقيقية كاملة ويريد أن يكون ارتباطه بالدعوة متفقًا مع طبيعتها لأن هذا الغلام سيكون منطلقًا أساسيًا لتلك الدعوة، وسيكون دليل الناس إليها. ولكن الغلام يشتكي إلى الراهب هذا البلاء شكوى الذي يعاني من مشكلة تعوق انطلاقه واستمراره ولم تكن شكوى الذي يقدم المعاذير ليتخلى ويتراجع. ومن قول الراهب تتبين لنا نظرته إلى الواقع فقد كان يعتبره “ دار حرب “ ولهذا أجاز لغلامه أن يكذب إذ أن الكذب لا يجوز إلا في ثلاث حالات كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلاَّ فِى ثَلاَثٍ: يُحَدِّثُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَالْكَذِبُ فِى الْحَرْبِ، وَالْكَذِبُ لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وَكَذِبه لِزَوْجَتِهِ وَكَذِبهَا لَهُ الْمُرَاد بِهِ فِي إِظْهَار الْوُدّ وَالْوَعْد بِمَا لَا يَلْزَم وَنَحْو ذَلِكَ، فَأَمَّا الْمُخَادَعَة فِي مَنْع مَا عَلَيْهِ أَوْ عَلَيْهَا، أَوْ أَخْذ مَا لَيْسَ لَهُ أَوْ لَهَا فَهُوَ حَرَام بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وانْظُرْ فِي حِكْمَةِ اللهِ - عز وجل - وَمَحَبَّتِهِ لِاجْتِمَاعِ الْقُلُوبِ كَيْفَ حَرَّمَ النَّمِيمَةَ وَهِيَ صِدْقٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إفْسَادِ الْقُلُوبِ وَتَوْلِيدِ الْعَدَاوَةِ وَالْوَحْشَةِ، وَأَبَاحَ الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَ حَرَامًا، إذَا كَانَ لِجَمْعِ الْقُلُوبِ وَجَلْبِ الْمَوَدَّةِ وَإِذْهَابِ الْعَدَاوَةِ. والحرب هي الحالة التي كان الراهب يعتبر نفسه عليها مع المجتمع الذي يعيش فيه. ولتوضيح فكرة جواز الكذب في هذه الحالات الثلاث التي جاءت في الحديث نجد أن الجواز جاء بتلك الصيغة: «لاَ يَحِلُّ الْكَذِبُ إِلاَّ فِى ثَلاَثٍ»، فالجواز هنا ليس أساسه أمر أو إباحة مطلقة ولكنه إباحة مقيدة بحالات محددة. وليحذر كل مسلم الخروج عن حدود النصوص التي حددها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في جواز الكذب حتى لا تتسرب تلك الصفة إلى طبيعته فيكتب عند الله كذابًا. آيات تعين على الصبر: ومع شدة البلاء والأذى تظهر الآيات التى تعين على الصبر وتطمئن النفوس: «فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ»، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: «أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ». وهنا نَكتَشف أن الغلام كان قلقًا لتَلَقِّيه من الراهب والساحر في وقت واحد، ولقد كان من الممكن أن يستمر الغلام في تَلَقِّيه للدين والسحر دون قلق إذا كان يسمع للراهب والساحر بدون شعور أو تفكير لأن السماع حينئذ سيكون مجردًا من التأثر

وسيصبح الدين والسحر عند الغلام مجرد فكر وكلام ولكن القلق الذي نشأ في نفس الغلام كان بسبب تأثره العميق بكلام الراهب وإدراكه السليم لمعنى الدين. وكان الغلام يطمئن إلي صدق ما عليه الراهب بدليل أنه لما أراد الدعاء الذي سيتحقق به الاطمئنان فعلًا قال: «اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ»، فالبدء بذكر أمر الراهب قبل الساحر يعني أنه يريد أن يرتبط إيمانه بالراهب. وكذلك نجد أن الغلام قال: (اللهُمَّ) وهذا بلا شك ما تعلمه من الراهب ويكون هذا معناه أن المقياس الذي أراد الغلام أن يفاضل به بين الراهب والساحر هو من عند الراهب وبتعاليمه مما يدل على أن حقيقة الدين استقرت في ضمير الغلام وملأت عقله وكيانه. المعلم التقي النقي: كان الراهب تقيًا نقيًا «فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: «أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ». كلمات كلها إخلاص وتجرد. فهذا الراهب المعلم أخبر الغلام أنه قد أصبح أفضل منه بلا حرج، ومن أين سيأتيه الحرج وقد خلصَتْ نفسُه لله تبارك وتعالى؟ فهو لم يكن يُعَلّم ليُقَال عنه عالم، ولم يكن يدعو ليكون على رأس أتباع، وإذا تذكرنا أن الغلام كان صغيرًا سنًا، وأنه ما التقى بالراهب إلا منذ وقت قريب فإننا ندرك مدى الفهم الصحيح عند الراهب للدعوة؛ فالدعوة ليست بالعمر الذي يعيشه الإنسان ولكن بالإيمان والكفاءة والأثر. المعلم المربي: إن الراهب لما ذكر للغلام ميزته أتبعها بالمسئولية التى تقع عليه باعتبار تلك الميزة، وهذا في الواقع حماية للإنسان من الغرور؛ لأن الإحساس بتكاليفها يجعل

الإنسان يعيش في شعور دائم بميزاته فينحرف به ذلك الشعور إلى الغرور ولهذا لما قال الراهب للغلام: «أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي»، قال له: «وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى». السرية والكتمان: «فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ». وهذه هي فكرة السرية في منهج الدعوة. وقد كانت السرية مرحلة أساسية في تاريخ الدعوة منذ بدايتها؛ فهذا نوح - عليه السلام - يقول {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9)} (نوح: 8 - 9). وتكشف لنا آيات القرآن إيمانَ رَجُلً من آل فرعون: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (غافر: 28). فقد كان الرجل من آل فرعون واستطاع أن يكتم إيمانه. وأيضًا زوجة فرعون نفسه كانت تكتم إيمانها؛ {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)} (التحريم: 11). وذلك دون أن يدري فرعون.

60 - استضعاف وثبات

60 - استضعاف وثبات كرامة الغلام: «وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: «مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي»، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ» فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ. يتجاهل الغلام الفكرة التي عرضها الجليس- فكرة الهدايا - والتي لم تَنَل من إحساسه شيئًا ويقول له: «إِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ» وهنا ترتفع قيمة الأمر بالإيمان الذي طلبه الغلام في تصور الجليس لأن شفاؤه سيكون بهذا الإيمان ولأن الأمر بالإيمان كان بديلًا للهدايا والمادة التي تنال من نفوس الناس تقديرًا واعتبارًا فانعكس هذا التقدير والاعتبار على الأمر الذي طلبه الغلام «فَآمَنَ (جليس الملك) بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ». والملاحظة الدقيقة في تحرك الغلام أنه لم يقل للجليس: «فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ». مثلما قال له الراهب وذلك لأن الغلام انتقل بالدعوة من مرحلة السرية إلى المرحلة العلنية بهذا التحرك العلني العام وبدليل أنه كان «يُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ»، كل الناس. إن الجليس قد أتى إلى الملك فجلس إليه كما كان يجلس من قبل. فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟» قَالَ: «رَبِّي» قَالَ: «وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟» قَالَ: «رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ» فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ. وفظيع جدًا أن يدعى الإنسان الربوبية لنفسه ولكن كيف يكون هذا الادعاء؟ فمن خلال دراسة هذه الظاهرة البشعة نجد أن القرآن سجلها على فرعون وعلى الملك

الذي حاجّ إبراهيم في ربه وهذان يتفقان مع هذا الملك في أمرين هما: الكفر بالله، والملك على الناس. ونجد في رد الجليس نفيًا لربوبية الملك المدعاة من خلال إثبات ربوبية الله وحده على الملك حيث إنه ليس هناك رب لرب وبذلك يكون الجليس قد سوى بين الملك والناس في عبوديتهم لله - سبحانه وتعالى - ولم يكن الجليس ليستطيع هذه المواجهة إلا إذا خالط قلبه بشاشة الإيمان لأنه حينما يكون ذلك، تكون الثقة والطلاقة والقوة، وهؤلاء هم سحرة فرعون يسجدون لله بعد أن علموا أن موسى رسول الله وليس ساحرًا فيهددهم فرعون قائلًا: {فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)} (طه: 71). فيردون عليه قائلين: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)} (طه: 72). وهكذا أيضًا تعامل الملك مع الجليس «فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ». لم يقتله فورًا حتى يكشف بقية المؤمنين. فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ»، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ» فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ»، فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. الملك الكافر يقول: (أَيْ بُنَيَّ) كلمة كلها مكر وخبث وضغط على نفس الغلام، وإغراء له بالقرب منه بما يتضمن هذا القرب من مستقبل زاهر وحياة مترفة، ويقول الملك: «قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ»، وقد حاول الملك بهذه العبارة أن يسرق ما كسبه الغلام من تقدير في نفوس الناس بأن يعود

بتفسير أعمال الغلام إلى السحر الذي تعلمه من ساحر الملك الذي أتى الملك إليه بالغلام. ويفشل الملك في إغراء الغلام «فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ». ليست خيانة ولا عمالة ولكنها الطاقة البشرية المحدودة. ولكن حدوث هذه النتيجة التي انتهى إليها الغلام لا يكون إلا بعد بلوغ حد الاستطاعة في الصبر والتحمل والثبات وهذا هو الحد الفاصل بين أن يكون المتكلم في محنة التعذيب معذورًا أو مقصرًا. استضعاف وثبات: فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ»، فَأَبَى فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. وهذا الذي حدث من الملك مع الراهب والجليس هو الذي أخبر به الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - عندما شكوا إليه الاستضعاف. عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ سدد خطاكم قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: «أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللهَ لَنَا؟»، قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ. وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (رواه البخاري). (حَتَّى يَسِير الرَّاكِب مِنْ صَنْعَاء إِلَى حَضْرَمَوْت) صَنْعَاء الْيَمَن بَيْنهَا وَبَيْن حَضْرَمَوْت مِنْ الْيَمَن أَيْضًا مَسَافَة بَعِيدَة نَحْو خَمْسَة أَيَّام. مفاوضات مع الغلام:

ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ» فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ» فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟»، قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ». فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ» فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ»؛ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ». إن الملك لا قضية عنده ولا مبدأ، ولهذا لم يجد وسيلة في مواجهة الموقف إلا التعذيب والتقتيل، ونلاحظ أن الملك كان حريصًا على أن يرتد الراهب والجليس قبل أن يقتلهما؛ لأن ارتدادَهما قَتْلٌ للدعوة، وقتلهما حياة لها؛ ولهذا لم يقتلهما إلا بعد أن عرض عليهما الدعوة ويئس من الاستجابة. ونلحظ حرص الملك الشديد على ارتداد الغلام حتى لا يسبب قتله حرجًا للملك وبلبلة في عقول الناس؛ لأن الغلام كان معروفًا لهؤلاء الناس بأعماله الطيبة وبحبه للخير. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى فإن الملك أراد أن تخسر الدعوة هذا الداعية، ويتحدث الناس أن الغلام لم يكن على شيء، لأنه ارتد عن دعوته. ومن ناحية ثالثة فإن الملك كان طامعًا في أن يستفيد من هذا الغلام في تثبيت موقفه بجَعْله ساحرًا له، وداعيًا إلى مُلْكه طالما أن عنده هذه القدرة العجيبة على أن يعالج الناس من أدوائهم. والذي يؤكد لنا حرص الملك على ارتداد الغلام هو الأسلوب الذي تعامل به معه. فقد أخَّره عن الراهب والجليس حتى يشهد مصرعهما فيتأثر ويضعف، وكذلك فإن الملك اختار وسيلة غير الوسيلة التي قتل بها الراهب والجليس. وسيلة فيها فرصة

للتردد والتفكير أثناء المسافة بين القصر والجبل، ثم صعود الجبل، والذي يؤكد لنا أن الملك كان يفعل ذلك بقصد ردة الغلام هو أنه طلب من أصحابه أن يعرضوا عليه الارتداد في ذروة الجبل وقبل أن يقذفوه. ولكن الغلام يدعو الله فوق الجبل: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ». بأي كيفية يرضاها الله - سبحانه وتعالى - وبأي سبب يختاره - عز وجل - فليس التوكل على الله عند المؤمن محدودًا بخبرة الواقع ودراسة الظروف لأنه لو كان الأمر كذلك لما استطاع الغلام أن يدعو بهذا الدعاء؛ لأن الواقع لم يكن يحتمل أي تفكير، ولكنه التوكل بكامل حقيقته وجوهر معناه انطلاقًا إيمانيًا لا يتقيد بضيق الواقع وارتفاعًا وجدانيًا لا يهبط بشدة الظروف. وعندما يتحقق التوكل، تتحقق الاستجابة بإذن الله. فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ. وسبب عودته إلى الملك هو سبب طلبه للنجاة من أصحاب الملك فوق الجبل وهو أن الدعوة لم تتم، وليست الحياة هدفًا يحرص عليه الدعاة إلا من خلال كونها ضرورة من ضرورات الدعوة سواء أكان تحقيق هذه الضرورة يتطلب الحرص على الحياة أو الحرص على الموت. والذين يفسرون مصلحة الدعوة بالحرص على حياة الدعاة فحسب هم أصحاب التصور الناقص الذي لا يعدو أن يكون فلسفة للجبن أو للارتداد عن سبيل الله. والذين يندفعون إلى الموت برغبتهم النفسية دون اعتبار لمصلحة الدعوة إنما يبددون بذلك الاندفاع والتهور طاقة الدعوة وإمكانياتها. وكما أن مصلحة الدعوة هي الحد الفاصل بين الجبن والشجاعة، فهي أيضًا الحد الفاصل بين الشجاعة والتهور، فالجُبْن هو عدم الاستعداد للتضحية، والتهور هو التضحية بلا ضرورة أو منفعة، والشجاعة هي التضحية الضرورية النافعة، وعلى هذا

لم يكن طلب الغلام للنجاة جبنًا ولم تكن عودته إلى الملك تهورًا بل كان في كلا الموقفين شجاعًا حكيمًا. جَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ. لم تؤثر محنته على منهج، عاد إلى نفس النقطة التي كان عليها، نفس الموقف الذي كان فيه، موقف المواجهة مع الملك، فقد تحقق للغلام إمكانية تلك المواجهة فلا يجوز التراجع ولا حتى التأجيل. ولما ذهب إلى الملك سأله: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟». ولا يريد الملك أن ينسب الأصحاب إليه لأنهم منهزمون أمام الغلام، حتى لا يكون لهزيمته بأصحابه أمام الغلام حساسية تؤثر على ادعاء الربوبية لنفسه فقال: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟». ولم يقل ماذا فعل أصحابي رغم أنهم أصحابه كما قال الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ». قال الغلام: «كَفَانِيهِمُ اللهُ». ولعلنا نلاحظ أن قول الغلام للملك بعد النجاة: «كَفَانِيهِمُ اللهُ»، كان مثل قوله قبل النجاة: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ». نفس الكلمة التي قالها عند الضر فوق الجبل، قالها بعد كشف الضر واهتزاز الجبل بلا زيادة ولا تغيير، فقد ينطلق لسان الإنسان عند الضر بكلمات اللجوء إلى الله والاستغاثة به فإذا ما انكشف الضر تتغير الكلمات والألفاظ ويدخل فيها إحساس الإنسان بنفسه وعمله ويفسر الكشف الإلهي لضره بمجهود بذله أو تصرف تصرفه. محاولة أخرى فاشلة: ويحاول الملك قتله مرة ثانية. فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ» فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ»؛ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ».

إن اختيار الملك لأسلوب القذف بالغلام في وسط البحر بعد محاولة القذف به من فوق الجبل يعتبر نموذجًا للمادية البحتة في مواجهة دين الله - عز وجل -، تلك المادية البحتة التى أعمت أصحابها عن قَدَر الله فوق ذروة الجبل حيث اهتز الجبل فسقطوا هم وعاد هو سالمًا. وكما اهتز الجبل فسقطوا، انكفأت السفينة فغرقوا، وعاد هو سالمًا. وكما اهتز الجبل فسقطوا، انكفأت السفينة فغرقوا، وعاد هو سالمًا، وجاء يمشي إلى الملك. ويقين الغلام بعجز الملك عن قتله وإن كان موقفًا خاصًا إلا أنه تضمن حقيقة اعتقادية مطلقة قالها رسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لابن عباس في حديثه: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» (رواه الترمذيُّ، وصححه الألباني). الغلام الضعيف يأمر الملك: «فَقَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ»، قَالَ: «وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ»، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي». ونرى في كلمات الغلام شيئين: إثبات عجز الملك، والأمر الذي سيأمر الملك به، ولعل هذا أول أمر يتلقاه الملك في حياته ويجد نفسه مضطرًا إلى تنفيذه. وبذلك يُنهِي الغلام ادعاء الربوبية الذي يدعيه الملك بإثبات عجزه واضطراره إلى تنفيذ الأمر الذي يصدر إليه. ولقد حرص الغلام على إنهاء هذا الإدعاء في ذلك الموقف لأنه الموقف الأخير الذي يجب أن ينتهي معه هذا الإدعاء الفظيع. ويكون الأمر هو: «تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ»، حتى يشهدوا الأحداث ويفهموا معناها، ولقد بدأ الغلام أوامره بهذا الأمر حتى لا يُخفي الملك الحقائق التي

تفيد الناس وتساعدهم على الإيمان ومعرفة الحق. وهذا هو ماقصده موسى - عليه السلام - عندما طلب من فرعون أن يكون موعد المواجهة بينه وبين السحرة يوم اجتماع الناس {يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (طه: 59). ويستمر الغلام في إصدار الأوامر إلى الملك العاجز: «وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ» حتى يكتمل ضعف الغلام في إحساس الناس فيكون غلامًا صغيرًا مصلوبًا في جذع شجرة، حتى يسهل على الناس الانطلاق بإحساسهم نحو الإيمان بالقوة التي قهرت الملك والتي تقف مع ذلك الغلام الصغير المصلوب، قوة الله رب الغلام. «ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي». واشتراط أن يكون السهم من كنانته هو؛ فيكون سبب القتل من عنده وتتأكد رغبته في القتل. «ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ». ولقد كان من الطبيعي أن يوضع السهم في كبد القوس ولكن الغلام جعل التصرف الطبيعي تنفيذًا لأمر منه حتى لا يتحرك الملك أي حركة من تلقاء نفسه ليكون خضوعه كاملًا ونهائيًا لأوامر الغلام. «ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي». وبهذا يكون الغلام قد أعطى للناس تفسيرًا للموقف فيكون قتله رغبة منه وسببًا من عنده، يتحقق بقدَر الله بعد أن عجز الملك. الملك ينفذ أوامر الغلام: «فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قَالَ: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ»، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ».

يستجيب الملك لأوامر الغلام استجابة الضعيف المضطر فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهمًا من كنانته ثم وضع السهم في كبد القوس ثم قال: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ». استجاب الملك لأوامر الغلام لأنه وجد نفسه أمام ثلاثة أمور: 1 - إما أن يترك الغلام يدعو بدعوته كيفما شاء، وهذا الحال كان سينتهي بإيمان الناس. 2 - وإما أن يستمر في تأكيد عجزه عن ذلك وتتأكد للناس قوة الله الذي يحمي الغلام، وكان هذا الحال أيضًا سينتهي بإيمان الناس. 3 - والأمر الثالث وهو ما اختاره الملك، والذي انتهى بقتل الغلام وأيضًا آمن الناس، فقد أراد الله أن يؤمن الناس وأن تعلو كلمته وقضى بذلك سبحانه وحكم ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. حقيقة قدرية هائلة: «ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ». هذه العبارة تتضمن حقيقة قدرية هائلة. حقيقة الربط بين السبب والنتيجة وهي لحظة الفرق بين الضرب بالسهم وموت الغلام حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ». فلم يَمُتْ. لم يتحقق ربط السبب بالنتيجة. «فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ». وقد كانت هذه الحقيقة القدرية الأخيرة التي تتحدد بها العلاقة بين السبب والنتيجة. سبقها عدة حقائق. ففي القصة النتيجة التي تتحقق بعكس مقصود البشر من السبب فنفس الغلام الذي أراد البشر أن يكون داعية للضلال. يريد الله أن يكون داعية للحق، وفي نفس طريق الغلام إلى الساحر يلتقي بالراهب ويجلس إليه ويسمع منه ويعجبه كلامه.

وفي القصة النتيجة الهائلة بالسبب البسيط، مثلما قتل الغلام الدابة التي كانت تسد على الناس الطريق بحجر صغير. وهو المعنى المتحقق كذلك بهزيمة الملك ووقوع ما كان يحذره بسبب هذا الغلام الصغير. وفي القصة المختلفة النتيجة الهائلة بالسبب الواحد وذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك فوق الجبل فرجف بهم الجبل وجاء إلى الملك وكذلك عندما كان الغلام وأصحاب الملك في السفينة فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك.

61 - الثبات حتى الممات

61 - الثبات حتى الممات فتح باب الإيمان: «فَقَالَ النَّاسُ: «آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ». لقد كان آخر ما قاله الغلام هو أمره للملك بأن يقول: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ». وبهذه الكلمة فتح الغلام للناس باب الإيمان. فقد كانوا يعرفونه محبًا لهم وساعيًا لمنفعتهم ومداويًا لأدوائهم وما بقي إلا أن يعرف الناس أن للغلام ربًّا هداه إلى محبتهم وأذِنَ له بشفائهم. «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» باسمه تحقق عجز الملك، وباسمه سيموت الغلام راغبًا من أجل إيمانهم، وهنا نشعر بمدى القهر الذي انتهى إليه الملك. فبعد أن كان يدَّعي الربوبية ويعذب ويقتل من لا يدَّعيها له، يقول في النهاية بنفسه: «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ». ولذلك لم يكن الغلام خائفًا من أن تنعكس رؤية الناس له وهو يموت خوفًا من الملك بعد قهره بهذا الموقف. كما أن الغلام لم يكن خائفًا لأنه استطاع أن ينشئ تعاطفًا كاملًا له في نفوس هؤلاء الناس بسلوكه معهم قبل ذلك وبموقف الموت ذاته حيث تحدد الفارق بينه كغلام صغير مصلوب على جذع شجرة وبين الملك الظالم. وداعًا أيُّها البطلُ ... لفَقْدِك تَدمعُ المقلُ لئنْ ناءَتْ بنا الأجسادُ ... فالأرواحُ تتصلُ فنسألُ ربَّنا المولَى ... وفي الأسحارِ نبتهلُ بأنْ نلقاكَ في فَرَحٍ ... بِدارٍ مَا بها مَللُ بجنّاتٍ وروضاتٍ ... بها الأنهارُ والحُلَلُ بها الحورُ تُنادينَا ... بصوتٍ مَا له مَثَلُ

بها الأحبابُ قاطبةً ... كذا الأصحابُ والرسلُ بها أبطالُ أمَّتِنا ... بها شُهَدَاؤُنا الأوَلُ فيَا مَن قَدْ سَبَقْتَ ... إلى جِنَانِ الخُلْدِ ترتحِلُ هنيئًا ما ظفرْتَ به ... هَنيئًا أيُّها البطَلُ واستجاب الناس: وعندما انتهى الخوف من الملك المقهور وبدأ التعاطف مع الغلام الداعية بدأ الناس في الإحساس الصحيح بالموقف: غلام صغير يحب الناس ويقدم لهم المنافع والخير، يموت برغبته من أجلهم، بعد أن أثبت عجز الملك وضعفه، يموت من أجل أن يؤمنوا بالله رب الغلام. انظُرْ إلى الماءِ إنّ البذْلَ شيمَتُه ... يأتي الحقولَ فيرْوِيها ويحْمِيها واستجاب الناس، فاندفعوا من كل مكان بلا خوف يرددون نداءات الإيمان: «آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ». مواجهة بين أهل الحق وأهل الباطل: فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ» فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ»، فَفَعَلُوا. لم يتوقف اندفاع الناس من كل طريق وفي كل السكك وواصلوا الاندفاع حتى أخاديد النيران. وواصل الملك مواجهة الجماهير المندفعة فقال: «مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ»؛ ليقاوم كل إنسان بنفسه حب البقاء في نفسه فيكون أقل مقدار للضعف كافيًا وسببًا للارتداد. وقد كانت هذه الفكرة آخر ما أفرزته رأس هذا الملك المهزوم من سموم المكر. ولكن الإيمان أبطل أثرها، وعالجت قوة الاندفاع الأصيل إلى الموت أثر أي ضعف كان كامنًا في النفوس.

موقف لغلام آخر: ويذكر لنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مشهدًا لمعالجة الإيمان لإحساس التعلق بالحياة فيه: «حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: «يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ». جاءت الأم بولدها متمسكة به إلى النهاية لم تَفْصلها أهوال الأحداث عنه حتى جاءت إلى حافة الأخدود واشتعلت مشاعر الأمومة وكراهية الموت فيها فترددت أن تقع بابنها ولكن الطفل - مرة أخرى طفل - يُطْفئ في إحساس أمه لهيب النار ذات الوقود لتُلْقِي بنفسها وتنجو من الضعف والتقاعس، وكان حديث هذا الصبي هو آخر كلمات القصة عند حافة الأخدود، قصة الانتصار للحق. كمْ في خيامِ الذُلِّ مِن فتيانِنَا ... مَن نالَهُ ما نالني ودهاهُ لكنَّنِي عِفْتُ الحياةَ مشردًا ... ورضيتُ دربًا لا أريدُ سواهُ لاتمسحِي دمعي ولكن ودِّعي ... بطلًا يباركُ ربُّه مَسْعاهُ لاتجزعي فلَقَدْ يَطُول غيابُه ... عن مُقْلَتَيْكِ وتخْتَفِي رُؤْيَاهُ وإلى اللقاءِ لدَى الإلهِ وخُلْدِه ... في عالمِ الأرواحِ يا أمَّاهُ ومضَى الفِدائِيُّ الشهيدُ لربِّهِ ... عَجِلًا إليه كَيْ ينالَ رِضاهُ وتبقى مشاهد العذاب وأخاديد النيران بشررها المتطاير ولهيبها ترتفع ألسنته بأجساد المؤمنين الطاهرة. ويبقى أثر تلك النار في قلب كل مؤمن مستضعف في الأرض ترتفع ألسنتها كلما استشهد شهيد في سبيل تلك الدعوة من أجل التمكين لها في الأرض وهذه الحياة. لدى ذِكْرِكم تحْيَى المحامدُ والعُلَى ... وما ماتَ مَن في ذِكْرِه للْعُلَى ذِكْرُ فإنْ ستَرَتْ تلكَ القبورُ جُسومَكم ... فثَمَّ خصالٌ ليسَ يستُرُها قبرُ من المجدِ نِلْتُم غايةً بعدَ غايةٍ ... يقودُكم عزمٌ ويدفعُكم صَبْرُ

القرآن الكريم يذكر القصة: قال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} تبدأ السورة قبل الإشارة إلى حادث الأخدود بهذا القسم: بالسماء ذات البروج، وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية، كما قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)} (الذاريات: 47) وكما قال: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)} (النازعات: 27) وإما أن تكون هي المنازل التي تنتقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها، وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء. {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا، وتصفية حساب الأرض وما كان فيها. وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه، ووعد بالحساب والجزاء فيه؛ وأمهل المتخاصمين والمتقاضين إليه. وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق، وتترقبه لترى كيف تصير الأمور. {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال، وتعرض فيه الخلائق، فتصبح كلها مشهودة، ويصبح الجميع شاهدين، ويُعلَم كل شيء، ويظهر مكشوفًا لا يستره ساتر عن القلوب والعيون.

وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ}. وهي كلمة تدل على الغضب، غضب الله على الفعلة وفاعليها. كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم، ونقمته، ووعيده بالقتل لفاعليه. ثم يجيء تفسير الأخدود: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} والأخدود: الشق في الأرض. وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه نارًا، فصارت النار بدلًا في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها. قتل أصحاب الأخدود، واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب، في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم، ويزاولون تلك الجريمة: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)}. وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم، وهم يوقدون النار، ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار، قريبون من عملية التعذيب البشعة، يشاهدون أطوار التعذيب، وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار، كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع! وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)} فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد. العزيز القادر على ما يريد، الذي له العزة التي قهر بها كل شيء. وهو الحميد في أقواله وأوصافه وأفعاله، المستحق للحمد في كل حال، والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له. وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء. وهو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود، وهذه لمسة تُطَمْئِنُ قلوب المؤمنين، وتهدد العتاة المتجبرين. فالله كان شهيدًا. وكفى بالله شهيدًا.

وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار، التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها، كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة. روعة الإيمان المستعلي على الفتنة، والعقيدة المنتصرة على الحياة. فقد كان يمكن للمؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم. ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة؟ وكم كانت البشرية كلها تخسر؟ كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير: معنى زهادة الحياة بلا عقيدة. إنه معنى كريم جدًا ومعنى كبير جدًا هذا الذي ربحوه وهم بَعْدُ في الأرض. ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم، وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تُذْكِيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب، ولأعدائهم الطاغين حساب. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} علمًا وسمعًا وبصرًا، أفلا خاف هؤلاء المتمردون على الله، أن يبطش بهم العزيز المقتدر، أو ما علموا أنهم جميعهم مماليك لله، ليس لأحد على أحد سلطة، من دون إذن المالك؟ أوَخفي عليهم أن الله محيط بأعمالهم، مجاز لهم على فعالهم؟ كلا إن الكافر في غرور، والظالم في جهل وعمى عن سواء السبيل. ثم وعدهم، وأوعدهم، وعرض عليهم التوبة، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي: العذاب الشديد المحرق. {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف. فالبقية آتية هناك. والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه، ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آتٍ. وهو مقرر مؤكد، وواقع كما يقول عنه الله - سبحانه وتعالى - وينص على {الْحَرِيقِ} وهو مفهوم

من عذاب جهنم. ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلًا للحريق في الأخدود. وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث. ولكن أين حريق من حريق؟ في شدته أو في مدته! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق. وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق! قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِى يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ». قَالُوا: «وَاللهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللهِ». قَالَ: «فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا». (رواه البخاري ومسلم). وحريق الدنيا لحظات وتنتهي، وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله! ومع حريق الدنيا رِضَى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم. ومع حريق الآخرة غضب الله، والارتكاس الهابط الذميم! ولما ذكر عقوبة الظالمين، ذكر ثواب المؤمنين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بقلوبهم {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بجوارحهم {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} الذي حصل به الفوز برضا الله ودار كرامته. الدنيا الهينة: إن الدنيا هينةُ على الله - عز وجل - فقد قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وفي صحيح مسلم عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ - وَأَشَارَ يَحْيَى ـ أحد رواة الحديث ـ بِالسَّبَّابَةِ - فِى الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ». وفي صحيح مسلم أيضًا عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ». فَقَالُوا: «مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَىْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ»،

قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ». قَالُوا: «وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأَنَّهُ أَسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ»، فَقَالَ: «فَوَاللهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ». (الكَنفَ: الجانِب والناحِية. أسكَّ: أي: صغير الأُذنين). إن الدنيا هينةُ على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفةُ التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. فقيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة. وإذا كانتِ الدنيا هينةُ على اللهِ هذا الهوان، فإن اللهَ - عز وجل - لم يَرْضَها جزاءً لأوليائِه. وأيضًا لم يجعلَ العذابُ فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه. كلا إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين. استمع إلى هذه الآيات: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)} (الزخرف: 33 - 35). أما الدنيا فأهون على الله من أن يجعلها للمتقين جزاء، أو يجعل العذاب فيها فقط جزاء الكافرين. كلا. لولا أن تفتن قلوب الناس لأعطى الدنيا للكافرين، كل ذلك قليلُ وحقير وتافه: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} (الزخرف: 35). ولكن قلةَ هذا المتاع وضآلته وتفاهته لا تظهرُ إلا إذا قورن بالعمرِ الأبديِ الخالدِ في الآخرة. هناك تظهرُ قلةَ هذا المتاع. ولذا لما ذكر اللهُ زهو الكافرين ومظاهر القوة التي يتمتعون بها، وتقلبَهم في البلاد واستيلاءهم عليها، ذكر ذلك وعبر عنه بقوله - عز وجل -: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ} (آل عمران: 196 - 197).

{قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)} (الزمر: 8). نعم قليلًا، تمتع بكفرك قليلًا، قد يكون هذا القليل ستون سنة. قد يكون سبعون، قد يكون مائة، ولكن كم تساوي هذه الومضة في عمر الخلود الأبدي في الآخرة؟ كم تساوي هذه الومضة في عمر أبدي خالد في دار الجزاء. {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)} (المؤمنون: 12 - 13). قالوا يومًا .. ثم تكاثروا اليوم، فرجعوا: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}، {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا} (المؤمنون: 114). كان هذا القليل عشرات السنين، ولكنها أصبحت في عمر الخلود الأبدي في الآخرة يومًا، كلا فاليوم كثير، بعض يوم، بعض يوم وهم مستيقنون أنه بعض يوم فاسأل العادين. {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)} (المؤمنون: 14). هناك يأتي الجزاءُ الحقيقي. ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزل على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقي، والعقوبةَ الحقيقةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)} (الغاشية: 25 - 26). {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)} (يونس: 46). قد ترى شيئًا من عقوبتهم، وقد يتوفاك قبل ذلك. ولكن العبرةُ بالمرجع إلينا، وهناك سيلقون ربًا كان شهيدًا على فعلهم كلِه، كلِ الذي فعلُوه لم يكن خافيًا على الله، كان مطلعًا عليه: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)} (الزخرف: 83). حينها كيف سيكون حالهم؟ {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (المعارج: 43 - 44). فاليوم أبصارهم خاشعة، وكبرياؤهم ذليل، لماذا؟ {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} (المعارج: 44). لأنهم في يوم الموعد، لقد وعدوا ذلك اليومَ.

وعدوا به في الدنيا ولكن استهانوا واستخفوا، فما بالوا وما اكترثوا ولا استعدوا فما أسرعَ ما لقوه. {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)} (إبراهيم: 42 - 43). {لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}: أي تنفتح فلا تغمض لشدة ما ترى من الأهوال. {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}: أي مسرعين الى الداعي الذي دعاهم الى الحشر، رافعي رؤوسهم. {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}: أي فارغة من العقل لشدة الخوف والفزع. هنا نعلم أنه ليس بالحتم أن تحلَ العقوبةُ بالظالمينَ في الدنيا. ليس بالحتم أن يعجلوا بالعقوبة. ولكن الذي نحن منه على يقين أن ظلمَهم واجتراءهم على الله، وانتهاكَهم لحرماتِ الله، لم يجرِ في غفلةٍ من الله. ثم ليست كلُ عقوبةٍ لابد أن تكون ماثلةً للعيان، فهناك عقوباتُ تدبُ وتسري إلى المعاقبينَ بخفية، تسري فيهم وتمضي منهم وتتمكن من هؤلاء وهم - لمكر الله بهم - لا يشعرون. قد يُمْلِي اللهُ لظالمِ ولكن ليزدادَ من الإثمِ وليحيطَ به الظلمُ، ثم يوافي اللهَ بآثامه كلِها وجرائمهِ كلِها، ليوافي حينئذٍ جزاءه عند ربٍ كان في الدنيا مطلعًا عليه، شهيدًا عليه، رقيبًا عليه. {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)} (آل عمران: 178). إنا إذا رأينا إملاء اللهِ للظالمين وتمكينه للمجرمين فينبغي أن نعلم باليقين وإلا فنحن نعلم بالإيمان أن الجزاءَ مدخرٌ هناك، ولذا فلا دعي للبحث عن كوارث دنيوية تحل بهم. إنك تشفق على بعض الطيبين عندما تراهم يجهدون أنفسهم في البحث عن عقوبة دنيوية حلت بهذا الظالم أو ذاك المجرم، حتى إذا لم يجدوا شيئًا قالوا الموت هو العقوبة. كلا. لقد مات الأطهار والأبرار والرسل الكرام، ولكن العبرة هناك في دار الجزاء. ويجب أن لا يغترَ أحدُ بأي مظهرٍ من مظاهر القوةِ أُتيها، فمظاهرُ القوةِ في الدنيا نسبية، ولكنها كلها على تفاوتها تتعطل حينما يوقفُ العبدُ بين يدي الله - عز وجل -.

62 - مفهوم االإفساد في الإسلام

62 - مفهوم الإفساد في الإسلام من أعظم الإفساد الصد عن سبيل الله - سبحانه وتعالى - وتعطيل شريعته: قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)} (النحل: 88). حيث كفروا بأنفسهم، وكذبوا بآيات الله، وحاربوا رسله، وصدوا الناس عن سبيل الله - عز وجل -، وصاروا دعاة إلى الضلال فاستحقوا مضاعفة العذاب، كما تَضاعَف جرمُهم، وكما أفسدوا في أرض الله - عز وجل -. تطبيق القوانين الوضعيّة والبعد عن شرع الله - سبحانه وتعالى - من أعظم الفساد في الأرض: قال تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)} (المؤمنون: 71). فالحق واحد ثابت، والأهواء كثيرة متقلبة. وبالحق الواحد يُدَبَّر الكون كلّه، فلا ينحرف ناموسه لهوى عارض، ولا تتخلف سنته لرغبة طارئة. ولو خضع الكون للأهواء العارضة، والرغبات الطارئة لَفَسَد كله، ولفسد الناسُ معه، ولفسدت القيم والأوضاع، واختلت الموازين والمقاييس، وتأرجحت كلها بين الغضب والرضى، والكره والبغض، والرغبة والرهبة، والنشاط والخمول، وسائر ما يعرض من الأهواء والمواجد والانفعالات والتأثرات، وبناء الكون المادي واتجاهه إلى غايته كلاهما في حاجة إلى الثبات والاستقرار والاطراد، على قاعدة ثابتة، ونهج مرسوم، لا يتخلف ولا يتأرجح ولا يحيد. ومن هذه القاعدة الكبرى في بناء الكون وتدبيره، جعل الإسلام التشريع للحياة البشرية جزءًا من الناموس الكوني. والبشر جزء من هذا الكون خاضع لناموسه الكبير؛ فأولى أن يشرع لهذا الجزء من يشرع للكون كله، ويدبره في تناسق عجيب.

بذلك لا يخضع نظام البشر للأهواء فيفسد ويختل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (المؤمنون:71) إنما يخضع للحق الكلي، ولتدبير صاحب التدبير. وهذه الأمة التي جاء لها الإسلام كانت أوْلى الأمم باتباع الحق الذي يتمثل فيه. ففوق أنه الحق هو كذلك مجد لها وذكر. وما كان لها من ذكر لولاه في العالمين: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 71). وقد ظلت أمة العرب لا ذكر لها في تاريخ العالم حتى جاءها الإسلام. وقد ظل ذكرها يُدَوّي في آذان القرون طالما كانت به مستمسكة. وقد تضاءل ذكرها عندما تخلت عنه، فلم تعد في العير ولا في النفير. ولن يقوم لها ذكر إلا يوم أن تفيء إلى عنوانها الكبير. قال تعالى: { ... لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (الأنبياء: 10). وقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44)} (الزخرف: 43 - 44). {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} فعلًا، واتّصافًا بما يأمر بالاتصاف به، ودعوةً إليه، وحرصًا على تنفيذه في نفسك وفي غيرك. {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} مُوَصِّلٍ إلى الله وإلى دار كرامته، وهذا مما يوجب عليك زيادة التمسك به والاهتداء إذا علمت أنه حق وعدل وصدق، تكون بانيًا على أصلٍ أصيل، إذا بَنَى غيرك على الشكوك والأوهام، والظلم والجور. {وَإِنَّهُ} أي: هذا القرآن الكريم {لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} أي: فخر لكم، ومنقبة جليلة، ونعمة لا يُقَادر قدْرُها، ولا يُعرَف وصْفُها، ويذكركم أيضًا ما فيه الخير الدنيوي والأخروي، ويحثكم عليه، ويذكركم الشر ويرهبكم عنه، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} عنه: هل قمتم به فارتفعتم وانتفعتم، أم لم تقوموا به فيكون حجة عليكم، وكفرًا منكم

بهذه النعمة؟ فنَصّ هذه الآية هنا يحتمل أحد مدلولين: أن هذا القرآن تذكير لك ولقومك تسألون عنه يوم القيامة، فلا حجة بعد التذكير. أو أن هذا القرآن يرفع ذِكْرَك وذِكْرَ قومك. وهذا ما حدث فعلًا. فأما الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن مئات الملايين من الشِفَاه تُصلي وتسلم عليه، وتذكره ذكر المحب المشتاق آناء الليل وأطراف النهار منذ قرابة ألف وأربع مئة عام. ومئات الملايين من القلوب تخفق بذِكْرِه وحُبِّه منذ ذلك التاريخ البعيد إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأما قومه فقد جاءهم هذا القرآن والدنيا لا تحس بهم، وإن أحست اعتبرتهم على هامش الحياة. وهو الذي جعل لهم دورهم الأكبر في تاريخ هذه البشرية. وهو الذي واجهوا به الدنيا فعرفَتْهم ودانَتْ لهم طوال الفترة التي استمسكوا فيها به. فلما أنْ تخلّوْا عنه أنكَرَتْهم الأرض، واستصغرَتْهم الدنيا؛ وقذفت بهم في ذيل القافلة هناك، بعد أن كانوا قادة الموكب المرموقين!! وإنها لَتَبِعَةٌ ضخمة تُسأل عنها الأمة التي اختارها الله لدينه، واختارها لقيادة القافلة البشرية الشاردة، إذا هي تخلت عن الأمانة: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}. المسلم لا يطيع المفسدين من العَلَمانيين وغيرهم: قال تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 151 – 152). {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ} الذين تجاوزوا الحد {الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} أي الذين وَصْفُهم ودأبُهم الإفساد في الأرض بعمل المعاصي والدعوة إليها إفسادا لا إصلاح فيه وهذا أضر ما يكون لأنه شر محض. ويجب فضح المناهج والاتجاهات والأوضاع والمبادئ والسبل المخالفة للإسلام ليحيى مَن حَيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة. ولقد كان من مهمة الأنبياء

والمرسلين - عليهم السلام - كشف طريق الضلال لئلا يلتبس بطريق الحق. فكان النبي يقول لقومه: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 151 – 152). واستبانة سبيل المجرمين هي من مقاصد القرآن: قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} (الأنعام:55). فمن مهمات الدعوة الإسلامية على مدى الزمن أن تزيل أي التباس أو غموض قد يصيب الناس، فيلبسون المنافق ثوب المؤمن الصادق، أو يلبسون المبتدع الضال ثوب المتّبِع المهتدي. من الإفساد استضعاف المؤمنين وتعذيبهم: قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} (القصص: 4). {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ} في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته، فصار من أهل العلو فيها، لا من الأعلين فيها. {وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} أي: طوائف متفرقة، يتصرف فيهم بشهوته، وينفذ فيهم ما أراد من قهره، وسطوته. {يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ} وتلك الطائفة، هم بنو إسرائيل، استضعفهم بحيث إنه رأى أنهم لا مَنَعة لهم تمنعهم مما أراده فيهم، فصار لا يبالي بهم، ولا يهتم بشأنهم، وبلغت به الحال إلى أنه {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} فلا يقتلهن، يفعل ذلك خوفًا من أن يكثروا، فيغمروه في بلاده، ويصير لهم الملك. { ... إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} الذين لا قصد لهم في إصلاح الدين، ولا إصلاح الدنيا، وهذا من إفساده في الأرض. من الإفساد التخريب والتدمير: قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي

قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)} (البقرة: 204 – 206). هذا المخلوق الذي يتحدث، فيصور لك نفسه خلاصة من الخير، ومن الإخلاص، ومن التجرد، ومن الحب، ومن الترفع، ومن الرغبة في إفاضة الخير والبر والسعادة والطهارة على الناس. هذا الذي يعجبك حديثه. تعجبك ذلاقة لسانه، وتعجبك نبرة صوته، ويعجبك حديثه عن الخير والبر والصلاح. {وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} زيادة في التأثير والإيحاء، وتوكيدًا للتجرد والإخلاص، وإظهارًا للتقوى وخشية الله. {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} تزدحم نفسه باللدد والخصومة، فلا ظل فيها للود والسماحة، ولا موضع فيها للحب والخير، ولا مكان فيها للتجمل والإيثار. هذا الذي يتناقض ظاهره وباطنه، ويتنافر مظهره ومخبره، هذا الذي يتقن الكذب والتمويه والدهان، حتى إذا جاء دور العمل ظهر المخبوء، وانكشف المستور، وفضح بما فيه من حقيقة الشر والبغي والحقد والفساد: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}. وإذا انصرف إلى العمل، كانت وجهته الشر والفساد، في قسوة وجفوة ولدد، تتمثل في إهلاك كل حي من الحرث الذي هو موضع الزرع والإنبات والإثمار، ومن النسل الذي هو امتداد الحياة بالإنسال، وإهلاك الحياة على هذا النحو كناية عما يعتمل في كيان هذا المخلوق النكد من الحقد والشر والغدر والفساد، مما كان يستره بذلاقة اللسان، ونعومة الدهان، والتظاهر بالخير والبر والسماحة والصلاح. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ولا يحب المفسدين الذين يُنْشِئون في الأرض الفساد. والله لا تخفى عليه حقيقة هذا الصنف من الناس، ولا يجوز عليه الدهان والطلاء الذي

قد يجوز على الناس في الحياة الدنيا، فلا يعجبه من هذا الصنف النكد ما يعجب الناس الذين تخدعهم الظواهر وتخفى عليهم السرائر. {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}. إذا تولى فقصد إلى الإفساد في الأرض، وأهلك الحرث والنسل، ونشر الخراب والدمار، وأخرج ما يعتمل في صدره من الحقد والضغن والشر والفساد. إذا فعل هذا كله ثم قيل له: {اتَّقِ اللَّهَ} تذكيرًا له بخشية الله والحياء منه والتحرج من غضبه، أنكر أن يقال له هذا القول، واستكبر أن يُوَجَّهَ إلى التقوى، وتعاظم أن يُؤْخَذ عليه خطأ وأنْ يُوَجَّه إلى صواب. وأخذته العزة لا بالحق ولا بالعدل ولا بالخير ولكن {بِالْإِثْمِ} فاستعز بالإجرام والذنب والخطيئة، ورفع رأسه في وجه الحق الذي يُذَكَّر به، وأمام الله بلا حياء منه، وهو الذي كان يُشْهِد الله على ما في قلبه، ويتظاهر بالخير والبر والإخلاص والتجرد والاستحياء! هذا الذي عناه القرآن تراه أمامك ماثلا في الأرض الآن وفي كل آن! وفي مواجهة هذا الاعتزاز بالإثم، واللدد في الخصومة، والقسوة في الفساد، والفجور في الإفساد. {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} حسبه! ففيها الكفاية! جهنم التي وقودها الناس والحجارة. جهنم التي يُكَبْكَبُ فيها الغاوون وجنود إبليس أجمعون. جهنم الحطمة التي تطلع على الأفئدة. جهنم التي لا تُبقِي ولا تذر. جهنم التي تكاد تميز من الغيظ! حسبه جهنم {وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} ويا للسخرية القاصمة في ذكر {الْمِهَادُ} هنا. ويا لبؤس من كان مهاده جهنم بعد الاعتزاز والنفخة والكبرياء! الله - سبحانه وتعالى - لا يحب الفساد والمفسدين: قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)} (القصص: 77). قال تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (البقرة: 205).

الله - سبحانه وتعالى - لا يصلح عمل المفسدين: قال تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)} (يونس: 81). {فَلَمَّا أَلْقَوْا} حبالهم وعصيهم، إذا هي كأنها حيات تسعى، فـ {قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ} أي: هذا السحر الحقيقي العظيم، ولكن مع عظمته {إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} فإنهم يريدون بذلك نصر الباطل على الحق، وأي فساد أعظم من هذا؟!! وهكذا كل مفسد عمل عملًا واحتال كيدًا، أو أتى بمكر، فإن عمله سيبطل ويضمحل، وإن حصل لعمله روَجَانٌ في وقت ما، فإن مآله الاضمحلال والمحق. وأما المصلحون الذين قصْدُهم بأعمالهم وجه الله تعالى، وهي أعمال ووسائل نافعة، مأمور بها، فإن الله يصلح أعمالهم ويرقيها، وينميها على الدوام، فألقى موسى عصاه، فتلقفت جميع ما صنعوا، فبطل سحرهم، واضمحل باطلهم. الله - سبحانه وتعالى - يعلم المفسد من المصلح: قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} (البقرة:220). فيجازي كل إنسان بما يستحق، وهذا يقتضي أن يميز بينهما في الثواب والجزاء، ويشمل ذلك الإفساد الديني، والدنيوي، والإصلاح الديني، والدنيوي، ويشمل الذي وقع منه الإفساد، أو الصلاح. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)} (آل عمران:62 - 63). أى فإن أعرضوا عن اتباعك وتصديقك بعد هذه الآيات البينات والحجج الواضحات التى أخبرناك بها وقصصناها عليك، فأنذرهم بسوء العاقبة، وأخبرهم أن

الله - عز وجل - عليم بهم، وبما يقولونه ويفعلونه من فساد في الأرض، وسيعاقبهم على ذلك العقاب الأليم. فأخبرهم بأنهم مفسدون وأن لهم سوء العقبى لأن الله عليم بإفسادهم ولن يتركهم بدون عقوبة. وهذه الجملة الكريمة تتضمن فى ذاتها تهديدًا شديدًا لكل من أعرض عن الحق الذى جاء به النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - ليس غافلًا عن إفساد المفسدين، وإنما يأخذهم أخذ عزيز مقتدر. نتيجة الإفساد عذاب الله - عز وجل -: قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)} (الفجر: 6 – 14). يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ} بقلبك وبصيرتك كيف فعل الله - عز وجل - بهذه الأمم الطاغية، وهي {إِرَمَ} القبيلة المعروفة في اليمن {ذَاتِ الْعِمَادِ} أي: القوة الشديدة، والعتو والتجَبُّر. {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا} أي: مثل عاد {فِي الْبِلَادِ} أي: في جميع البلدان في القوة والشدة، كما قال لهم نبيهم هود - عليه السلام -: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأعراف: 69). {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي: وادي القرى، نحتوا بقُوّتهم الصخور من الجبال يبنون به القصور بالوادى. {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} أي: ذي الجنود الذين ثبتوا ملكه، كما تُثَبِّت الأوتاد ما يراد إمساكه بها، والذين يشدون ملكه كما تشد الأوتاد الخيام، {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} هذا

الوصف عائد إلى عاد وثمود وفرعون ومَن تَبِعَهُم، فإنهم طغوا في بلاد الله - عز وجل -، وآذَوْا عباد الله، في دينهم ودنياهم، ولهذا قال: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} وهو العمل بالكفر وشُعَبِه من جميع أجناس المعاصي، وسَعَوْا في محاربة الرسل وصَدِّ الناس عن سبيل الله، فلما بلغوا من العتو ما هو موجب لهلاكهم، أرسل الله عليهم من عذابه ذنوبًا وسوط عذاب، {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} لمن عصاه يُمْهِلُه قليلًا ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر. المفسدون خاسرون: قال تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)} (البقرة: 27). {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه والذي بينهم وبين عباده، الذي أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة والإلزامات، فلا يُبَالون بتلك المواثيق، بل ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه، وينقضون العهود التي بينهم وبين الخلق. {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة، فإن الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به والقيام بعبوديته، وما بيننا وبين رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بالإيمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه، وما بيننا وبين الوالدين والأقارب والأصحاب وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق التي أمر الله أن نَصِلَها. فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم، معتاضين عنها بالفسق والقطيعة، والعمل بالمعاصي، وهو: الإفساد في الأرض. فـ {أُولَئِكَ} أي: من هذه صفته {هُمُ الْخَاسِرُونَ} في الدنيا والآخرة، فحصر الخسارة فيهم، لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم، ليس لهم نوع من الربح؛

لأن كل عمل صالح شرطه الإيمان؛ فمن لا إيمان له لا عمل له، وهذا الخسار هو خسار الكفر. وأما الخسار الذي قد يكون كفرًا، وقد يكون معصية، وقد يكون تفريطًا في ترك مستحب، المذكور في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (العصر:2)؛ فهذا عام لكل مخلوق، إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وحقيقة فوات الخير الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه. المفسدون لهم اللعنة: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)} (الرعد: 25). {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} أي: من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله - عليهم السلام -، وغلظ عليهم، فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم، بل قابلوه بالإعراض {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} فلم يَصِلُوا ما بينهم وبين ربهم بالإيمان والعمل الصالح، ولا وَصَلوا الأرحام ولا أدَّوْا الحقوق، {وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} بل أفسدوا في الأرض بالكفر والمعاصي، والصَدّ عن سبيل الله وابتغائها عوجًا، {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} ... أي: البعد والذم من الله وملائكته وعباده المؤمنين، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} وهي: الجحيم بما فيها من العذاب الأليم. المفسدون يندمون حين لا ينفع الندم: قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)} (يونس: 90 - 92).

قال المفسرون: إن بني إسرائيل لِمَا في قلوبهم من الرعب العظيم من فرعون، كأنهم لم يصدقوا بإغراقه، وشَكُّوا في ذلك، فأمر الله البحر أن يلقيه على نجوة مرتفعة ببدنه، ليكون لهم عبرة وآية. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} فلذلك تمر عليهم وتتكرر فلا ينتفعون بها؛ لعدم إقبالهم عليها. وأما من له عقل وقلب حاضر، فإنه يرى من آيات الله ما هو أكبر دليل على صحة ما أخبرَتْ به الرسل. لولا أن الله يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومَنْعِهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه: قال تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)} (البقرة: 251).

63 - مفهوم الإصلاح في الإسلام

63 - مفهوم الإصلاح في الإسلام الإصلاح هو منهج الرسل وأتباع الرسل: كانت دعوات الرسل جميعهم دعوة للإصلاح كما قال نبي الله شعيب - عليه السلام - عندما دعا قومه إلى توحيد الله وعبادته والالتزام بما شرعه لهم من الأحكام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} (هود:88)، فالإصلاح هو منهج الرسل وأتباع الرسل، بعكس الإفساد الذي هو منهج المنافقين ومعارضي رسل الله رغم تبجحهم بزعم الصلاح. قال الله - سبحانه وتعالى - عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)} (البقرة: 11 - 12). ومن هنا فإن الله ينهى عن طاعة المسرفين أصحاب الفساد في الأرض إذ يقول تعالى: {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} (الشعراء: 151 – 152). ولا أحد أحسن في سلوك طريق السياسة النافعة أو الإصلاح من رسل الله الذين أرسلهم لقيادة العالمين في طريق الهداية والخير. والصلاح والإصلاح والعزة والكرامة واللحاق بركب التقدم، كل ذلك يتحقق بإسلام الوجه لله - عز وجل - بعيدًا عن المتاجرة بالشعارات، نحن نريد إقامة حضارة على منهاج النبوة. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الإصلاح والنجاة: قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)} (هود: 116 - 117). ذكر - سبحانه وتعالى - أنه لولا أنه جعل في القرون الماضية بقايا، من أهل الخير يدعون إلى

الهدى، وينهون عن الفساد والردى، فحصل من نفعهم ما بقيت به الأديان، ولكنهم قليلون جدًا. وغاية الأمر، أنهم نجوا، باتباعهم المرسلين، وقيامهم بما قاموا به من دينهم، وبكون حجة الله أجراها على أيديهم، ليهلِك مَن هلك عن بيِّنة ويحيا من حيَّ عن بيِّنة. وَلكن {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي: اتبعوا ما هم فيه من النعيم والترف، ولم يبغوا به بدلا. {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أي: ظالمين، باتباعهم ما أترفوا فيه، فلذلك حق عليهم العقاب، واستأصلهم العذاب. وفي هذا حَثّ لهذه الأمة، أن يكون فيهم بقايا مصلحون، لما أفسد الناس، قائمون بدين الله، يَدْعُون مَن ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويبصرونهم من العمى. وهذه الحالة أعلى حالة يرغب فيها الراغبون، وصاحبها يكون إماما في الدين، إذا جعل عمله خالصا لرب العالمين. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}. أي: وما كان الله ليهلك أهل القرى بظلم منه لهم، والحال أنهم مصلحون، أي: مقيمون على الصلاح، مستمرون عليه، فما كان الله ليهلكهم، إلا إذا ظلموا، وقامت عليهم حجة الله. ويحتمل، أن المعنى: وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم السابق، إذا رجعوا وأصلحوا عملهم، فإن الله يعفو عنهم، ويمحو ما تقدم من ظلمهم. وهاتان الآيتان تكشفان عن سُنة من سنن الله في الأمم. فالأمة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله، في صورة من صوره، فيجد من ينهض لدفعه هي أمم ناجية، لا يأخذها الله بالعذاب والتدمير. فأما الأمم التي يظلم فيها الظالمون، ويفسد فيها المفسدون، فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد، أو يكون فيها من يستنكر، ولكنه لا يبلغ أن يؤثر في الواقع الفاسد، فإن سنة الله تحق عليها، إما بهلاك الاستئصال. وإما بهلاك الانحلال والاختلال! فأصحاب الدعوة إلى ربوبية الله وحده، وتطهير الأرض من الفساد الذي

يصيبها بالدينونة لغيره، هم صمام الأمان للأمم والشعوب؛ وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لإقرار ربوبية الله وحده، الواقفين للظلم والفساد بكل صوره. إنهم لا يؤدون واجبهم لربهم ولدينهم فحسب، إنما هم يحُولُون بهذا دون أممهم وغضب الله، واستحقاق النكال والضياع. الإصلاح لا يكون إلا بطاعة الله ـ واتباع شرعه: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} (الأعراف: 170). {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} أي: يتمسكون به علما وعملا فيعلمون ما فيه من الأحكام والأخبار، التي علمها أشرف العلوم. ويعلمون بما فيها من الأوامر التي هي قرة العيون وسرور القلوب، وأفراح الأرواح، وصلاح الدنيا والآخرة. ومن أعظم ما يجب التمسك به من المأمورات، إقامة الصلاة، ظاهرا وباطنًا، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات. ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم. وهذه الآية وما أشبهها دلت على أن الله بعث رسله - عليهم السلام - بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل مَن كان أصلح، كان أقرب إلى اتباعهم. إن الصيغة اللفظية: {يُمَسِّكُونَ} تصور مدلولًا يكاد يُحَسّ ويُرَى. إنها صورة القبض على الكتاب بقوة وجِدّ وصرامة. الصورة التي يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه، في غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت، فالجد والقوة والصرامة شيء والتعنت والتنطع والتزمُّت شيءٌ آخر. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافي اليسر ولكنها تنافي التميُّع! ولا تنافي سعة الأفق ولكنها تنافي الاستهتار! ولا تنافي مراعاة الواقع ولكنها تنافي أن يكون

«الواقع» هو الحكم في شريعة الله! فهو الذي يجب أن يظل محكومًا بشريعة الله! والتمسك بالكتاب في جد وقوة وصرامة؛ وإقامة الصلاة - أي شعائر العبادة - هما طرفا المنهج الرباني لصلاح الحياة. والتمسك بالكتاب في هذه العبارة مقرونًا إلى الشعائر يعني مدلولًا معينًا. إذ يعني تحكيم هذا الكتاب في حياة الناس لإصلاح هذه الحياة، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس. فهما طرفان للمنهج الذي تصلح به الحياة والنفوس، ولا تصلح بسواه. والإشارة إلى الإصلاح في الآية: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} يشير إلى هذه الحقيقة، حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملًا، وإقامة الشعائر عبادة هما أداة الإصلاح الذي لا يضيع الله أجره على المصلحين. وما تفسد الحياة كلها إلا بترك طرفي هذا المنهج الرباني: ترك الاستمساك الجاد بالكتاب وتحكيمه في حياة الناس، وتَرْك العبادة التي تصلح القلوب فتطبق الشرائع دون احتيال على النصوص، كالذي كان يصنعه أهل الكتاب، وكالذي يصنعه أهل كل كتاب، حين تفتر القلوب عن العبادة فتفتر عن تقوى الله. إنه منهج متكامل يقيم الحكم على أساس الكتاب، ويقيم القلب على أساس العبادة، ومِن ثَمَّ تتوافى القلوب مع الكتاب؛ فتصلح القلوب، وتصلح الحياة. إنه منهج الله، لا يُعْدَل عنه ولا يُستَبْدَلُ به منهجٌ آخر، إلا الذين كتبت عليهم الشقوة وحق عليهم العذاب! الإصلاح طريق الأنبياء: قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (هود: 84 - 88). {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} أي: وأرسلنا إِلَى {مَدْيَنَ} القبيلة المعروفة، الذين يسكنون مدين في أدنى فلسطين {أَخَاهُمْ} في النسب {شُعَيْبًا} لأنهم يعرفونه، وليتمكنوا من الأخْذِ عنه. فـ {قَالَ} لهم {يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي: أخلصوا له العبادة، فإنهم كانوا يشركون به، وكانوا - مع شركهم - يبخسون المكيال والميزان، ولهذا نهاهم عن ذلك فقال: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} بل أوفوا الكيل والميزان بالقسط. {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي: بنعمة كثيرة، وصحة، وكثرة أموال وبنين، فاشكروا الله على ما أعطاكم، ولا تكفروا بنعمة الله، فيزيلها عنكم. {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أي: عذابا يحيط بكم، ولا يُبْقِي منكم باقية. {وَيَاقَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل الذي ترضون أن تُعْطَوْه، {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} أي: لا تنقصوا من أشياء الناس، فتسرقوها بأخْذِها، بنقص المكيال والميزان. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فإن الاستمرار على المعاصي يُفْسِد الأديان، والعقائد، والدين، والدنيا، ويُهْلك الحرث والنسل.

{بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: يكفيكم ما أبقى الله لكم من الخير، وما هو لكم فلا تطمعوا في أمر لكم عنه غُنْيَة، وهو ضار لكم جدًا. {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فاعملوا بمقتضى الإيمان، {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: لست بحافظ لأعمالكم، ووكيل عليها، وإنما الذي يحفظها الله تعالى، وأما أنا، فأبلغكم ما أرْسِلْتُ به. {قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي: قالوا ذلك على وجه التَهَكّم بنبيهم، والاستبعاد لإجابتهم له. ومعنى كلامهم: أنه لا موجب لنَهْيِك لنا، إلا أنك تصلي لله، وتتعبد له، أفإن كنت كذلك، أفيوجب لنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، لقول ليس عليه دليل إلا أنه موافق لك، فكيف نتبعك، ونترك آباءنا الأقدمين أولي العقول والألباب؟! {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} وكذلك لا يوجب قولك لنا: ما قلت لنا، من وفاء الكيل، والميزان، وأداء الحقوق الواجبة فيها، بل لا نزال نفعل فيها ما شئنا، لأنها أموالنا، فليس لك فيها تصرف. ولهذا قالوا في تهكمهم: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} أي: أئنك أنت الذي، الحلمُ والوقارُ لك خُلُق، والرشدُ لك سجية، فلا يصدر عنك إلا رُشْد، ولا تأمر إلا برشد، ولا تنهى إلا عن غيٍّ، أي: ليس الأمر كذلك. وقصدهم أنه موصوف بعكس هذين الوصفين: بالسفه والغواية، أي: أن المعنى: كيف تكون أنت الحليم الرشيد، وآباؤنا هم السفهاء الغاوون؟!! وهذا القول الذي أخرجوه بصيغة التهكم، وأن الأمر بعكسه، ليس كما ظنوه، بل الأمر كما قالوه: إن صلاته تأمره أن ينهاهم، عما كان يعبد آباؤهم الضالون، وأن يفعلوا في أموالهم ما يشاءون، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأي فحشاء ومنكر، أكبر من عبادة غير الله، ومِن مَنْع حقوق عباد الله، أو سرقتها بالمكاييل

والموازين، وهو - عليه الصلاة والسلام - الحليم الرشيد. {قَالَ} لهم شعيب: {يَاقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: يقين وطمأنينة، في صحة ما جئتُ به، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي: أعطاني الله من أصناف المال ما أعطاني. {وَمَا} أنا لا {أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} فلست أريد أن أنهاكم عن البخس، في المكيال، والميزان، وأفعله أنا، وحتى تتطرق إليَّ التهمة في ذلك. بل ما أنهاكم عن أمر إلا وأنا أول مُبْتَدِرٍ لتَرْكِه. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي: ليس لي من المقاصد إلا أن تصلح أحوالكم، وتستقيم منافعكم، وليس لي من المقاصد الخاصة لي وحدي، شيء بحسب استطاعتي. ولما كان هذا فيه نوع تزكية للنفس، دفع هذا بقوله: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} أي: وما يحصل لي من التوفيق لفعل الخير، والانفكاك عن الشر إلا بالله تعالى، لا بحولي ولا بقوتي. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدتُ في أموري، ووثقْتُ في كفايته، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} في أداء ما أمرني به من أنواع العبادات، وفي هذا التقرب إليه بسائر أفعال الخيرات. وبهذين الأمرين تستقيم أحوال العبد، وهما الاستعانة بربه، والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123) وقال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (الفاتحة: 5). المؤمن المصلح يستعين بالله على المفسدين: قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ

كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)} (العنكبوت: 28 - 30). أرسل الله لوطا إلى قومه، وكانوا مع شركهم، قد جمعوا بين فعل الفاحشة في الذكور، وتقطيع السبيل، وفشو المنكرات في مجالسهم، فنصحهم لوط عن هذه الأمور، وبيَّن لهم قبائحها في نفسها، وما تئول إليه من العقوبة البليغة، فلم يَرْعَوُوا ولم يذّكّروا. {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فأيس منهم نبيُّهم، وعَلِم استحقاقهم العذاب، وجزع من شدة تكذيبهم له، فدعا عليهم و {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} فاستجاب اللهُ دعاءه، فأرسل الملائكة لإهلاكهم. طريق الإصلاح في البعد عن طريق المفسدين من الشيوعيين والعَلَمانيين وغيرهم والبعد عن نظرياتهم التي تخالف شرع الله - سبحانه وتعالى -: قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)} (الأنبياء: 22 - 23). وقال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)} (الأعراف: 142). {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} يعني: قال له قبل انطلاقه إلى الجبل: كن خليفتي على قومي. {وَأَصْلِحْ} أي: اتبع طريق الصلاح، ومُرْهُم بالصلاح، وأصلح بينهم {وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} أي ولا تتبع طريق الذين يعملون بالمعاصي، ولا ترضى به، واتّبع سبيل المطيعين. النهي عن الإفساد بعد الإصلاح: قال ابن القيّم - رحمه الله - في قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}

(الأعراف: 56): «قال أكثر المفسّرين: لا تفسدوا فيها بالمعاصي، والدّعاء إلى غير طاعة الله، بعد إصلاح الله لها ببعث الرّسل، وبيان الشّريعة، والدّعاء إلى طاعة الله؛ فإنّ عبادة غير الله والدّعوة إلى غيره والشّرك به هو أعظم فساد في الأرض، بل فساد الأرض في الحقيقة إنّما هو بالشّرك به ومخالفة أمره. فالشّرك والدّعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره، ومطاع متّبع غير رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أعظم فساد في الأرض، ولا صلاح لها ولا لأهلها إلّا بأن يكون الله وحده هو المعبود المطاع، والدّعوة له لا لغيره، والطّاعة والاتّباع لرسوله ليس إلّا، وغيره إنّما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرّسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة. ومَن تدبّر أحوال العالم وجد كلّ صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكلّ شرّ في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدوّ وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والدّعوة إلى غير الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬1). أعداء الإسلام الذين يحاربون شرع الله - سبحانه وتعالى - يقلبون الموازين ويتهمون دعاة الشريعة بالإفساد: قال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)} (غافر: 26). هل هناك شيءٌ أطْرَفُ من أن يقول فرعون الضال الوثني، عن موسى رسول الله - عليه السلام -: { ... إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}؟!! أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل؟ أليست هي بعينها كلمة الخداع الخبيث لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟ ¬

_ (¬1) التفسير القيم، لابن القيم (ص 255).

إنه منطق واحد، يتكرر كلما التقى الحق والباطل، والإيمان والكفر، والصلاح والطغيان على توالي الزمان واختلاف المكان. والقصة قديمة مكررة تعرض بين الحين والحين. وقال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} (الأعراف: 127). فالإفساد في الأرض - من وجهة نظرهم - هو الدعوة إلى ربوبية الله وحده؛ حيث يترتب عليها تلقائيًّا بطلان شرعية حكم فرعون ونظامه كله. إذ أن هذا النظام قائم على أساس حاكمية فرعون بأمره - أو بتعبير مرادف على أساس ربوبية فرعون لقومه - وإذن فهو - بزعمهم - الإفساد في الأرض، بقَلْب نظام الحكم، وتغيير الأوضاع القائمة على ربوبية البشر للبشر، وإنشاء وضع آخر مخالف تمامًا لهذه الأوضاع، الربوبية فيه لله لا للبشر. ومن ثم قرنوا الإفساد في الأرض بتَرْكِ موسى وقومه لفرعون ولآلهته التي يعبدها هو وقومه.

64 - خصائص الشريعة الإسلامية

64 - خصائص الشريعة الإسلامية أيا عجبًا لأمتنا عُجابَا ... فكم طرقَتْ من الأفكارِ بابَا تظنُّ به من الخيراتِ فيضًا ... وتنْشُدُ فيه أنهارًا عِذَابَا فَقَدْ جرَّبْتُمُوا شرقًا وغربًا ... مناهجَ للصلاحِ غدَتْ خرابَا فمنكم قائلٌ: “ رأسٌ لمالٍ “ (¬1) ... به تَحْلو الحياةُ لمن أجابَا ومنكم قائلٌ: بل “ لاشتراكٍ “ (¬2) ... ومنكم قائلٌ نرجُو “ انقلابَا” فررْتُم من شِراكِ الظالمينَ ... وصافَحْتُم بأيديكُم ذئابَا فلَا فِي الشرقِ بُغْيَتُكم ولَا فِي ... بلادِ الغربِ تلقَوْن انتسابَا فنِسْبَتُكم إلى الإسلامِ فخرٌ ... “ أبي الإسلام “ أفدِيه احتسابَا خزايَا الغربِ شاهدةٌ عليهِمْ ... ضلالُ الشرقِ بالإلحادِ آبَا فما في النارِ للظمآنِ ماءٌ ... وهل يُمسِي اللهيبُ بها شرابَا ومَن يَرْجُ الحياةَ بغيرِ وَحْيٍ ... فهل يلقَى بها إلا السَّرابَا ومَن يركَنْ لغيرِ الله يومًا ... فقدْ ضلّتْ مساعيهِ وخابَا فطَاعةُ ربِّنا شرْط النجاةِ ... يقينًا ما عرفْتُ لَهُ ارْتِيابَا ¬

_ (¬1) أي الرأسمالية. (¬2) أي الاشتراكية.

سِئِمْنَا قَولَ أشباهِ الرجالِ ... رويبضةٍ (¬1) ... فما يدْرِي الخِطابَا مسيلمةٌ لنا في كُلِ عصرٍ ... يُنادينا ويَنْتَحِبُ انْتِحَابَا ويُقْسِمُ مثل إبليسٍ بخيرٍ ... ويُقْسمُ أنَّ في الدينِ اضطرابَا فيا عُقَلاءَ أمتِنَا أفيقوا ... سيُفلحُ مَن تَوكلَ واستجابا فدِينُ الله لم يمسَسْهُ شَكٌ ... وشَرُّ القومِ مَن أزرَى وعابَا فيَا ليْتَ الرشادَ لنَا دليلٌ ... فيهدينا الحقيقةَ والصوابَا فقدْ قال الإلهُ به شفاءٌ ... لأمّتِنَا إذا عانَتْ مُصَابَا به الرَّحَمَاتُ تشمَلُ كلَّ حَيٍّ ... به البركاتُ تنْسكِبُ انسكابَا أما علِمَتْ بأنَّ الشّرْعَ نورٌ ... ومَن يُعرضْ فقد ذاق العذابا؟ فدينُ اللهِ منصورٌ لزامًا ... كَنُورِ الشمسِ يخترقُ السحابَا ومَن في الناسِ يُطفِئُ نورَ ربّي ... ومَن يُرْخِي عَلَى الحقِّ الحجَابَا؟! ¬

_ (¬1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتُ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ»، قِيلَ: «وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟» قَالَ: «الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ». (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وفي رواية: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ») رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط). وفي رواية: «الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط). (سَنَوَاتٌ) جَمْعُ سَنَةٍ، (خَدَّاعَاتُ) الخداع المكر والحيلة، وإضافة الخداعات إلى السنوات مجازية. والمراد أهل السنوات. (الرُّوَيْبِضَةُ) تضغير رابضة. وهو العاجز الذي ربض عن معالي الأمور وقعد عن طلبها، وَالتَّافِهُ الْحَقِيرُ الْيَسِيرُ، أَيْ: قَلِيلُ الْعِلْمِ» (بتصرف من حاشية السندي على سنن ابن ماجه، ومن تعليق محمد فؤاد عبد الباقي عليها).

خصائص الشريعة الإسلامية (خصائص الإسلام): الخصيصة الأولى: أنه من عند الله: مصدر الإسلام، ومشرع أحكامه ومناهجه، هو الله - سبحانه وتعالى - فهو وحْيُه إلى رسوله الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - باللفظ والمعنى (القرآن الكريم) وبالمعنى دون اللفظ (السنة النبوية). فالإسلام بهذه الخصيصة يختلف اختلافًا جوهريًا عن جميع الشرائع الوضعية لأن مصدرها الانسان، أما الإسلام فمصدره رب الانسان، إن هذا الفرق الهائل بين الإسلام وغيره لا يجوز إغفاله مطلقًا ولا التقليل من أهميته. قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (النساء:105). يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق، أي: محفوظًا في إنزاله من الشياطين، أن يتطرق إليه منهم باطل، بل نزل بالحق، ومشتملًا أيضًا على الحق، فأخباره صدق، وأوامره ونواهيه عَدْل، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)} (الأنعام: 115)، وأخْبَرَ أنه أنزلَه ليَحْكُمَ بين الناس. وفي الآية الأخرى: قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل: 44).فيحتمل أن هذه الآية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والاختلاف، وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه، ويحتمل أن الآيتين كلتيهما معناهما واحد، فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل الأحكام. {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} أي: لا بِهَوَاك، بل بما علَّمك الله وألهمك، كقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم: 3 – 4). وفي هذا دليل على عصمته - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها، وأنه يشترط في القاضي: العلم والعدل لقوله: {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضًا الحكم بين الناس

على معرفة الكتاب، ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال: {وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} أي: لا تخاصم عن مَن عرفت خيانته، مِن مُدَّعٍ ما ليس له، أو مُنكرٍ حقًّا عليه، سواء علم ذلك أو ظنه. ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في باطل، والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية. ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يُعرَف منه ظُلم. ما يترتب على كون الإسلام من عند الله: أولًا: كماله وخلوه من النقائص: يترتب على كون الإسلام من عند الله كماله وخلوه من معاني النقص والجهل والهوى والظلم، لسبب بسيط واضح هو أن صفات الصانع تظهر في ما يصنعه. ولما كان الله تعالى له الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله ويستحيل في حقه خلاف ذلك، فان أثر هذا الكمال يظهر في ما يشرعه من أحكام ومناهج وقواعد، وبالتالي لا بد أن يكون كاملا. وهذا بخلاف ما يصنعه الانسان ويشرعه فإنه لا ينفك عن معاني النقص والهوى والجهل والجَوْر؛ لأن هذه المعاني لاصقة بالبشر ويستحيل تجردهم عنها كل التجرد وبالتالي تظهر هذه النقائص في القوانين والشرائع التي يصنعونها. ثانيًا: ويترتب أيضا على كون الإسلام من عند الله، أنه يظفر بقدر كبير جدًا من الهيبة والاحترام مِن قِبَل المؤمنين به، مهما كانت مراكزهم الاجتماعية وسلطاتهم الدنيوية؛ لأن هذه السلطات وتلك المراكز لا تُخْرِجُهم من دائرة الخضوع لله تعالى واحترام شرعه، وطاعة هذا الشرع طاعة اختيارية تنبعث من النفس وتقوم على الإيمان ولا يقسر عليها المسلم قسرًا. وفي هذا ضمان عظيم لحسن تطبيق القانون الإسلامي وعدم الخروج عليه ولو مع القدرة على هذا الخروج.

أما القوانين والمبادئ الوضعية التي شرعها الإنسان فإنها لا تظفر بهذا المقدار من الاحترام والهيبة، إذ ليس لها سلطان على النفوس ولا تقوم على أساس من العقيدة والايمان كما هو الحال بالنسبة للإسلام ولهذا فان النفوس تجرؤ على مخالفة القانون الوضعي كلما وجدت فرصة لذلك وقدرة على الإفلات من ملاحقة القانون وسلطان القضاء ورأت في هذه المخالفة اتباعًا لأهوائها وتحقيقًا لرغباتها. إن القانون لا يكفي أن يكون صالحًا بل لا بد له من ضمانات تكفل حسن تطبيقه، ومن أول هذه الضمانات، إيجاد ما يصل هذا القانون بنفوس الناس ويحملهم على الرضى به والانقياد له عن طواعية واختيار. ولا يحقق مثل هذه الضمانة مثل الإسلام، لأنه أقام تشريعاته على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر ورسوله محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإن الالتزام الاختياري بهذه التشريعات واحترامها هو مقتضى هذا الايمان. وللتدليل على صحة ما نقول نضرب مثلًا واحدًا بشأن واقعة معينة عالجها الإسلام بتشريعه ونجح في هذه المعالجة، وعالجت هذه الواقعة بالذات القوانين الوضعية وفشلت في هذه المعالجة. من المعروف أن العرب قبل الإسلام كانوا مولعين بشرب الخمر لا يجدون فيه منقصة ولا منكرًا، وكانت زقاق الخمر ودنانه في البيوت كالماء المخزون في القِرَب. فلما أتى الإسلام بتحريم الخمر بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} (المائدة:90) كان لكلمة ... {فَاجْتَنِبُوهُ} قوة هائلة تفوق قوة الجيش والشرطة وما يمكن أن تستعمله أي دولة لتنفيذ أوامرها بالقوة والجبر.

لقد قام المسلمون الى زقاق الخمر فأراقوها، وإلى دنانه فكسروها، وفطموا نفوسهم من شرب الخمر حتى غدوا وكأنهم لا يعرفون الخمر ولم يتذوقوها من قبل؛ لأن أمر الله ورد {فَاجْتَنِبُوهُ}، وأوامر الله من شأنها الاحترام والطاعة. وفي القرن العشرين أرادت الولايات المتحدة الأمريكية تخليص مواطنيها من الخمر، وقبل أن تُشَرِّعَ قانون تحريم الخمر، مهدت له بدعاية واسعة جدًا لتهيئة النفوس إلى قبول هذا القانون، وقد استعانت بجميع أجهزة الدولة وبذوي الكفاية في هذا الباب. استعانت بالسينما ومسارح التمثيل وبالاذاعة وبنشر الكتب والرسائل والنشرات والمحاضرات والإحصائيات من قبل العلماء والأطباء والمختصين بالشؤون الاجتماعية. وقد قُدِّر ما أُنفِق على هذه الدعاية بـ (65) مليون من الدولارات وكُتبت تسعة آلاف صفحة في مضار الخمر ونتائجه وعواقبه. وأنفِقَ ما يقرب من عشرة ملايين دولار من أجل تنفيذ القانون. وبعد هذه الدعاية الواسعة والمبالغ المنفقة شرعت الحكومة قانون تحريم الخمر لسنة 1930م وبموجبه حُرّم بيعُ الخمور وشراؤها وصنعها وتصديرها واستيرادها. فماذا كانت النتيجة؟ لقد دلت الاحصائيات للمدة الواقعة بين تشريعه وبين سنة 1933م أنه قتل في سبيل تنفيذ هذا القانون مائتا نفس، وحُبس نصف مليون شخص، وغُرّم المخالفون له غرامات بلغت ما يقرب من أربعة ملايين دولار، وصودرت أموال بسبب مخالفته قدرت بألف مليون دولار. وكان آخر المطاف أن قامت الحكومة الأمريكية بإلغاء قانون تحريم الخمر في أواخر سنة 1933م، ولم تستطِع تلك الدعايات الضخمة التي قامت بها الدولة أن توجد القاعدة التي يرتكز عليها القانون في نفوس المواطنين، وبالتالي قاموا بمخالفته مما

حمل الحكومة على إلغائه؛ لأن القانون لم يكن له سلطان على النفوس يحملها على احترامه وطاعته، ومن ثم فشل وأُلغِي. أما كلمة {فَاجْتَنِبُوهُ} التي جاء بها الإسلام في جزيرة العرب فقد أثرت أعظم التأثير وطُبِّقَت فعلًا، وأريقت الخمور مِن قِبَل أصحابها وامتنعوا عنها، لا بقوة شرطي ولا بقوة جندي ولا رقيب ولكن بقوة الإيمان وطاعة المسلمين لشرائع الإسلام واحترامهم لها. الخصيصة الثانية: الشمول: الإسلام نظام شامل لجميع شؤون الحياة وسلوك الانسان. وهذا الوصف للإسلام وصف حقيقي ثابت للإسلام لا يجوز تجريده منه إلا بالافتراء عليه أو بسبب الجهل به. وشمول الإسلام هذا لشؤون الحياة وسلوك الانسان لا يقبل الاستثناء ولا التخصيص، فهو شمول تام بكل معاني كلمة الشمول، وهذا بخلاف المبادئ والنظم البشرية فإن الواحد منها له دائرته الخاصة التي ينظم شؤونها، ولا شأن له فيما عدا ذلك. وعلى هذا فلا يمكن للمسلم أن يقول إن هذا المجال لي أنظم أموري كما أشاء بمعزل عن تنظيم الإسلام، لا يمكن أن يقول المسلم هذا لأن الإسلام يحكمه من يافوخه إلى أخمص قدميه، وللإسلام في كل ما يصدر الانسان حكم خاص، كما له حكمه في كل ما يضعه في رأسه من أفكار وفي قلبه من ميول. وعلى هذا لا يجوز للمسلم أبدًا أن يسمح لغير نظام الإسلام أن ينظم أي جانب من جوانب حياته لأنه إن فعل ذلك دخل في نطاق معنى قول الله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي

الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)} ... (البقرة: 85). الخصيصة الثالثة: العموم: من بديهيات الإسلام وصفاته الأصلية أنه جاء لعموم البشر ولم يأت لطائفة معينة منهم أو لجنس خاص من أجناسهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)} (سبأ: 28). وقال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158). وعموم الإسلام هذا غير مقصور على فترة معينة من الزمن أو جيل خاص من البشر وإنما هو عموم في الزمان كما هو عموم في المكان، ولهذا فهو باق لا يزول ولا يتغير ولا يُنْسَخ، لأن الناسخ يجب أن يكون في قوة المنسوخ سواء أكان النسخ كليًّا أم جزئيًّا، وحيث أن الإسلام ختم الشرائع السابقة كلها وأن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين، فمعنى ذلك أن الشرائع الإلهية انقطعت وأن الوحي الإلهي لم يَعُدْ ينزل على أحد، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (الأحزاب:40). وعلى هذا لا يُتَصَوَّرُ أن ينسَخَ الإسلامَ أو يغيّره شيءٌ. وعموم الشريعة الإسلامية وبقاؤها وعدم قابليتها للنسخ والتبديل والتغيير بالتنقيص أو الزيادة كل ذلك يستلزم - عقلًا وعدلا - أن تكون قواعدها وأحكامها ومبادئها وجميع ما جاءت به على نحو يحقق مصالح الناس في كل عصر ومكان ويَفِي بحاجاتهم ولا يضيق بها ولا يتخلف عن أي مستوى عال يبلغه المجتمع البشري. إن هذا والحمد لله متوافر في الشريعة الإسلامية؛ لأن الله تعالى، وهو العليم الخبير، إذْ جعلها عامة في المكان والزمان، وخاتمة لجميع الشرائع، جعل قواعدها وأحكامها صالحة لكل زمان ومكان، ومهيأة للبقاء والاستمرار لهذا العموم.

الخصيصة الرابعة: الجزاء في الإسلام: أحكام الإسلام، ليست نصائح وارشادات خالية من الثواب والعقاب. إنها ارشادات ونصائح حقًا ولكن لها ثواب حسن ينال الملتزم بها، ولها عقاب يصيب المخالف لها، على درجات متفاوتة في العقاب والثواب. والأصل في أجزية الإسلام وعقوباته أنها في الآخرة لا في الدنيا، ولكن مقتضيات الحياة وضرورة استقرار المجتمع وتنظيم علاقات الافراد على نحو واضح مؤثر وضامن لحقوق الناس كل ذلك دعا الى أن يكون مع الجزاء الأخروي جزاء دنيوي، أي مع العقاب الأخروي عقاب توقعه الدولة في الدنيا على المخالف لأحكام الإسلام. ونطاق الجزاء في الإسلام واسع شامل شمول الإسلام لجميع شؤون الحياة ومِن ثَمّ فأجْزِيَةُ الإسلام تتعلق بأمور العقيدة والأخلاق والعبادات والمعاملات. فكل مخالفة لهذه الأمور لها جزاؤها في الآخرة وقد يكون لها جزاء في الدنيا أيضًا. والجزاء في الدنيا لا يمنع الجزاء في الآخرة عن المخالف العاصي الا إذا اقترنت معصيته بالتوبة النصوح والتوبة النصوح تقوم على الندم على ما اقترفه الانسان، وعلى العزم الأكيد على عدم العودة إلى هذه المخالفة، وعلى التحلل من حقوق الغير إذا كانت معصية تتعلق بهذه الحقوق. وقد ترتب على هذا الجزاء الأخروي خضوع المسلم لأحكام الشريعة خضوعًا اختياريًا في السر والعلن خوفًا من عقاب الله، وحتى لو استطاع الإفلات من عقاب الدنيا؛ لأن العقاب الأخروي ينتظره ولا يستطيع الإفلات منه. وهكذا تنزجر النفوس من مخالفة القانون الإسلامي إما بدافع الاحترام له والحياء من الله - سبحانه وتعالى -، وإما بدافع الخوف من العقاب الآجل الذي ينتظر المخالفين، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا

وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} (آل عمران: 30). وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7 - 8 (.وفي هذا وذاك أعظم ضمان لزجر النفوس عن المخالفة والعصيان. الخصيصة الخامسة: المثالية والواقعية: المثالية في الإسلام: الإسلام يحرص على إبلاغ الانسان الكمال المقدور له، وهذا يكون بِجَعْل تصرفاته وأقواله وأفعاله وتروكه وقصوده وأفكاره وميوله وفق المناهج والأوضاع والكيفيات التي جاء بها الإسلام، وقد تحقق ذلك كله في رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولذلك أمرنا الله - سبحانه وتعالى - بالتأسي به، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} (الأحزاب: 21). وقوام هذه المثالية الاعتدال والشمول. أولًا: الاعتدال: والمقصود بالاعتدال عدم الإفراط والتفريط في أي شيء وإعطاء كل ذي حق حقه، يدل على ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (الفرقان: 67). ثانيا: الشمول: والمثالية في الإسلام تتصف بالشمول، لأن الإسلام يريد من المسلم أن يبلغ الكمال المقدور له بتناسق وفي جميع شؤونه، فلا يُقبِل على جانب واحد أو عدة جوانب ويبلغ فيها المستوى العالي من الكمال، بينما يهمل الجوانب الأخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى المطلوب، إن مثله مثل من يقوي يديه ويترك سائر أعضائه رخوة هزيلة ضعيفة.

وعلى هذا الأساس فَهِمَ الصحابة الكرام مثالية الإسلام فلم تأسرهم عبادة ولم تقيدهم عادة، وإنما تقلبوا في جميع العبادات والأحوال، فلم يحبسوا نفوسهم في مكان ولا على نوع من العبادة ولا على نمط معين من الأعمال، وانما باشروا الجميع، فعند الصلاة كانوا في المسجد يصلون، وفي حلقات العلم يجلسون معلمين أو متعلمين، وعند الجهاد يقاتلون، وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون، وهكذا كان شأنهم في جميع الأحوال. الواقعية في الإسلام: الإسلام لا يغفل طبيعة الإنسان وتفاوت الناس في مدى استعدادهم لبلوغ المستوى الرفيع الذي يرسمه لهم، وفي ضوء هذا النظر الواقعي جعل الإسلام حدًا أدنى أو مستوى أدنى من الكمال لا يجوز الهبوط عنه لأن هذا المستوى ضروري لتكوين شخصية المسلم على نحو معقول، ولأنه أقل ما يمكن قبوله من المسلم ليكون في عداد المسلمين ولأنه وضع على نحو يستطيع بلوغه أقل الناس قدرة على الارتفاع إلى مستوى الكمال. إن هذا المستوى الأدنى يتكون من جملة من معانٍ يجب القيام بها وهي المسماة بالفرائض، كما يشمل جملة معانٍ يجب هجرها وهي المسماة بالمحرمات. إن هذه الفرائض والمحرمات جُعِلَتْ بقدر طاقة أقل الناس استعدادًا لفعل الخير وابتعادًا عن الشر، ومِن ثَمَّ يستطيع كل واحد الوفاء بمقتضاه، ولا يُعذَر في التخلف عنها. ولكن بجانب هذا المستوى الإلزامي الواجب بلوغه على كل مسلم، وضعت الشريعة مستوى آخر أرفع منه وأوسع منه وحببت إلى الناس بلوغ هذا المستوى العالي، فإلزامهم به ارهاق لهم وحرج شديد، والحرج في شرع الإسلام مرفوع لأنه يخالف نظرة الإسلام الواقعية، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78).وقال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} (البقرة: 286). وهذا المستوى العالي يشمل المندوبات التي ترغب الشريعة في القيام بها، والمكروهات التي ترغب الشريعة في ترك المسلم لها.

65 - نظام الحكم في الإسلام

65 - نظام الحكم في الإسلام نِظام الحُكم في الإسلام: قد يسأل البعض، هل يوجد في الإسلام نظام للحكم؟ والجواب نعم، لأن من خصائص الإسلام الشمول، فمن البديهي أن يَرِدَ فيه من القواعد والأحكام ما يكوّن نظامًا خاصًا للحكم في الإسلام، فنحن نجد في القرآن الكريم الأمر بالشورى، ولزوم طاعة الحكام، والحكم بما أنزل الله، ونحو ذلك. وفي السنة النبوية تتكرر ألفاظ الأمير والإمام والبيعة، وطاعة الأمير في غير معصية الله. وفي اجتهادات الفقهاء القائمة على نصوص القرآن والسنة كثير من الأحكام والقواعد المهمة المتعلقة بالحكم. وكل هذا يدل على أن للإسلام نظامه الخاص في الحكم. شروط الحاكم المسلم: يشترط في الخليفة جملة شروط، كلها تلتقي في تحقيق كفايته للنهوض بأعباء هذا المنصب الخطير على الوجه المُرضِي لله تعالى والمحقِّق لمصلحة الأمة. وهذه الشروط، على ما ذكره الفقهاء هي: أولًا: الإسلام: فيجب أن يكون مسلمًا لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59 (. أي منكم أيها المسلمون، فهو من المسلمين. ولقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} (النساء: 141)، والخلافة أعظم السبيل فلا تكون لغير مسلم، ولأن حقيقة الخلافة أن يقوم الخليفة بحفظ الدين، فمن البديهي أن تُودَع هذه الأمانة بيد من يؤمن بهذا الدين، وأن لا تُسْنَدَ لمن يكفر به.

ولقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (آل عمران: 118). قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: «{لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ} أي: من غيركم من أهل الأديان، وبطانة الرجل: هم خاصّة أهله الذين يطّلعون على داخل أمره. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو أيوب محمد بن الوَزَّان، حدثنا عيسى بن يونس، عن أبي حَيّان التيمي عن أبي الزِّنْباع، عن ابن أبي الدِّهْقانة قال: قيل لعمر بن الخطاب سدد خطاكم: «إن هاهنا غُلاما من أهل الحِيرة، حافظ كاتب، فلو اتخذته كاتبًا؟ فقال: «قد اتخذت إذًا بطانة من دون المؤمنين». ففي هذا الأثر مع هذه الآية دلالة على أن أهل الذَّمَّة لا يجوز استعمالهم في الكتابة، التي فيها استطالة على المسلمين واطِّلاع على دَوَاخل أمُورهم التي يُخْشَى أن يُفْشوها إلى الأعداء من أهل الحرب؛ ولهذا قال تعالى: {لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}. ثم قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} أي: قد لاح على صَفَحات وجوههم، وفلتات ألسنتهم من العداوة، مع ما هم مُشتَملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل؛ ولهذا قال: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} (¬1). وعن أبي موسى الأشعري سدد خطاكم قال: قلت لعمر سدد خطاكم: «إن لي كاتبًا نصرانيًا»، قال: «ما لَكَ؟ قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (المائدة:51)؛ ألَا اتخذت حنيفًا؟»، قال: ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (2/ 108).

قلت: «يا أمير المؤمنين لي كتابتُه وله دينُه»، قال: «لا أكْرِمُهم إذْ أهانهم الله، ولا أعزهم إذْ أذلهم الله، ولا أُدْنِيهم إذ أقصاهم الله». (رواه ابن أبي شيبة والبيهقي بسند حسن). وقال الإمام ابن القيم: «ولما كانت التَوْلية شقيقةَ الولاية كانت توليتُهم نوعًا من تَوَلّيهم، وقد حكم تعالى بأنّ من تولاهم فإنه منهم، ولا يتم الإيمان إلا بالبراءة منهم، والولاية تنافي البراءة، فلا تجتمع الولاية والبراءة أبدًا، والولاية إعزاز فلا تجتمع ومعاداة الكافر أبدًا» (¬1). ورغم وضوح هذا الأمر يعجب المرء حينما يجد نيجيريا ذلك البلد المسلم يحكمها نصراني رغم أن أكثر من90% من سكانها مسلمون، وما هذا إلا ثمرة من ثمار الديمقراطية الخبيثة التي تُسَوّي بين المسلم والكافر. ثانيًا: أن يكون رجلًا: لقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} (النساء:34). ولقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً»، وهذا حديث صحيح رواه البخاري وغيره من أئمة الحديث. ثالثًا: أن يكون جامعًا للعلم بالأحكام الشرعية: لأنه مكلف بتنفيذها، ولا يمكنه التنفيذ مع الجهل بها، والعلم قبل العمل، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} (محمد: 19). واشترط بعض الفقهاء الاجتهاد ولم يكتفوا بمجرد العلم عن طريق التقليد. ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة (1/ 242).

رابعًا: أن يكون عدلًا في دينه: لا يُعْرَفُ عنه فسق، متقيًا لله، ورعًا، عارفًا بأمور السياسة وشؤون الحكم جريئًا على إقامة حدود الله لا تأخذه في الله لومة لائم، شجاعًا، ذا دراية بمصالح الأمة وسبل تحقيقها مع حرص عليها وتقديمه لها. الدولة الإسلامية دولة قانونية: إن الخليفة والأمة خاضعون لسلطان الإسلام، ومعنى ذلك أن الدولة الإسلامية يمكن وصفها بأنها (دولة قانونية) أو (دولة قانون) أي أنها تخضع في جميع تصرفاتها وشؤونها، كما يخضع جميع الأفراد في جميع تصرفاتهم وعلاقاتهم إلى القانون. والقانون هنا، بالنسبة للدولة الإسلامية هو القانون الإسلامي المتمثل في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وما قام عليهما من استنباط صحيح واجتهاد سائغ مقبول، قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3). وقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)} (آل عمران: 132). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (النساء: 59). ويترتب على ذلك أن نظام الحكم الإسلامي لا يقوم على معنى باطل قد يتلبس الحكم أو يقارنه أو يخالطه مثل الهوى والطغيان والتكبر في الأرض وحب الفساد والتسلط على الآخرين وغمط حقوق الناس وتسخيرهم للشهوات ونحو ذلك من المعاني الفاسدة التي لا تنفك عنها نظم الحكم الوضعية؛ لأن نظام الحكم الإسلامي خاضع للقانون الإسلامي المبرأ من هذه العيوب والمفاسد.

وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة قانون، وقانونها هو شرع الله - الإسلام - فإنَّ أي خلاف ينشب يكون مرجعه إلى هذا الشرع، لا إلى شيء غيره، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (النساء: 59). والمُحِقّ مَن كان الحق بجانبه ببرهان من الشرع ومن ثم تكون الدولة بجانبه وإن كان ضعيفًا، والمُبْطِل مَن لم يكن الحق بجانبه ببرهان من الشرع ومِن ثَمّ تكون الدولة ضده وإن كان قويًا. وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة قانونية، خاضعة لسلطان الإسلام فإنَّ معنى ذلك أن الحكم الحقيقي والسلطان الحقيقي لمشرِّع هذا الإسلام وهو الله - سبحانه وتعالى - قال تعالى: ... {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} (يوسف: 40). مقاصد الحكم في الإسلام: المقصد الأول: حراسة الدين: ويقصد بالدين هنا بداهة الإسلام، فهو الدين المطلوب حراسته بالحكم. وحراسته تعني شيئين: حفظه وتنفيذه. أولًا: حفظه: وحفظ الإسلام يعني إبقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بين الناس كما بلغها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وسار عليها صحابته الكرام - رضي الله عنهم - ونقلوها إلى الناس من بعده. وعلى هذا لا يجوز أي تبديل أو تحريف في هذه الحقائق والمعاني؛ لأن التحريف والتبديل يدخلان في نطاق الابتداع المذموم في دين الله. ولا يجوز التردد أبدًا في منع التبديل والتحريف بحجة حق الفرد في إبداء الرأي وحرية الفكر والاجتهاد؛ لأن الفرد إن كان مسلمًا فليس من حقه أن يبدل دين الله، وإذا اختار لنفسه الضلالة ولعقيدته الفساد فليس من حقه أبدًا أن يضل الآخرين أو يفسد عقائدهم.

وإن كان الفرد غير مسلم فليس من حقه أبدًا أن يخرج على نظام دار الإسلام ويُشَوّه حقائق الإسلام وإلا كان ناقضًا لعقد الذمة. ومع هذا فقد يقع المسلم في زيغ أو شبهة أو خطأ، نتيجة فهم سقيم أو تضليل خبيث فيجب على ولي الأمر ـ الخليفة أو نائبه ـ، أن يعمل على كشف الشبهة وإظهار الصواب بالدليل والبرهان حتى يظهر الحق وتقوم الحجة، فإن أصر المبطل على باطله وسعى ِإلى نشره في الناس منع من ذلك وأقيم عليه ما يوجبه الشرع. ومِن لوازم حفظ الدين تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظهر الأعداء بغرّةٍ ينتهكون فيها محرمًا ويسفكون فيها لمسلم أو معاهدًا دمًا، والحقيقة أن دفع الأعداء عن دار الإسلام ضروري لحفظ الدين وبقائه؛ لأن استيلاء الكفرة على دار الإسلام ضياعٌ للإسلام وطمس لحقائقه وفتنة عظيمة للمسلمين وزعزعة لعقائدهم بسبب حكم الكفرة له وما يبذلونه لصرف المسلمين عن دينهم الحق بالوعد والوعيد والتلبيس والخداع والتضليل. بل نستطيع القول إن من لوازم وتمام حفظ الدين إعلاءه وإظهاره على جميع أنظمة الكفر حتى لا يبقى للباطل حكم قائم ولا راية مرفوعة. ثانيًا: تنفيذ الدين: وأما تنفيذ الدين، الإسلام، وهو المظهر الثاني لحراسته، فيتحقق في أمور منها: تطبيق أحكامه في سائر معاملات الناس وعلاقاتهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم مع الدولة، وفي علاقة الدولة - دار الإسلام - مع غيرها من الدول. ومنها: حمل الناس على الوقوف عند حدود الله والطاعة لأوامره وترغيبهم في ذلك ومعاقبة المخالفين بالعقوبات الشرعية.

ومنها إزالة المفاسد والمنكرات من المجتمع كما يقضي به الإسلام، إذ لا يمكن الادعاء بحفظ الدين مع ترك المفاسد والمنكرات بلا إنكار ولا إزالة مع توفر القدرة على ذلك. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المقصد من مقاصد الحكم الإسلامي، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (الحج: 40 - 41). {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي: يقوم بنصر دينه، مخلصًا له في ذلك، يقاتل في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا. {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي: كامل القوة، عزيز لا يُرام، قد قهر الخلائق، وأخذ بنواصيهم، فأبشروا، يا معشر المسلمين، فإنكم وإن ضعف عَدَدُكم وعُدَدُكم، وقوي عَدد عدُوكم وعُدّتهم فإن ركنكم القوي العزيز، ومعتمَدَكم على من خلقكم وخلق ما تعملون، فاعملوا بالأسباب المأمور بها، ثم اطلبوا منه نصركم، فلا بد أن ينصركم. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد:7)، وقوموا، أيها المسلمون، بحق الإيمان والعمل الصالح، فقد قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55). ثم ذكر علامة من ينصره، وبها يُعرَف، أن من ادعى أنه ينصر الله وينصر دينه، ولم يتصف بهذا الوصف، فهو كاذب فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} أي: ملّكْناهم إياها، وجعلناهم المتسلطين عليها، من غير منازع ينازعهم، ولا معارض،

{أَقَامُوا الصَّلَاةَ} في أوقاتها، وحدودها، وأركانها، وشروطها، في الجمعة والجماعات. {وَآتَوُا الزَّكَاةَ} التي عليهم خصوصًا، وعلى رعِيّتِهم عمومًا، آتوها أهلَها الذين هم أهلُها، {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} وهذا يشمل كل معروفٍ حُسْنُه شرعًا وعقلًا من حقوق الله، وحقوق الآدميين، {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} كل مُنكَرٍ شَرعًا وعقلًا معروفٌ قُبحُه، والأمر بالشيء والنهي عنه يدخل فيه ما لا يتم إلا به، فإذا كان المعروف والمنكر يتوقف على تعلم وتعليم، أجبروا الناس على التعلم والتعليم، وإذا كان يتوقف على تأديب مقَدَّر شرعًا، أو غير مُقَدَّر، كأنواع التعزير، قاموا بذلك، وإذا كان يتوقف على جَعْل أناسٍ مُتَصَدّين له، لزم ذلك، ونحو ذلك مما لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به. {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} أي: جميع الأمور، ترجع إلى الله، وقد أخبر أن العاقبة للتقوى، فمَن سلّطه اللهُ على العباد من الملوك، وقام بأمر الله، كانت له العاقبة الحميدة، والحالة الرشيدة، ومَن تسَلطَ عليهم بالجبروت، وأقام فيهم هوى نفسه، فإنه، وإن حصل له ملك مؤقت، فإن عاقبته غير حميدة، فولايته مشئومة، وعاقبته مذمومة. المقصد الثاني: سياسة الدنيا بالدين: إن هذا المقصد يعني أن الدنيا داخلة في نطاق الدين، محكومة به، غير خارجة عنه. والقول الجامع في سياسة الدنيا بالدين هو إدارة شؤون الدولة والرعية على وجه يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، وهذا يتم إذا كانت إدارة شؤون الحياة وفقًا لقواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها المنصوص عليها أو المستنبطة منها وفقًا لقواعد الاجتهاد السليم. فهذه هي السياسة الشرعية لأمور الدنيا بالدين.

الشورى: مبدأ الشورى من أهم مقومات نظام الحكم في الإسلام، به نطق القرآن، وجاءت السنة، وأجمع عليه الفقهاء. وهو حق للأمة وواجب على الخليفة، والتفريط به سبب لعزله. والأدلة على وجوبه تستفاد من القرآن ومن سيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن أقوال الفقهاء: أولًا: قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (آل عمران: 159). وظاهر الأمر يدل على الوجوب. ثانيًا: ومما يؤكد وجوب المشاورة على رئيس الدولة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على جلالة قدره وعظيم منزلته كان كثير المشاورة لأصحابه. في أي شيء تجري الشورى: المشاورة مع الأمة تجري في شؤون الدولة المختلفة وفي الأمور الشرعية الاجتهادية التي لا نص فيها، والمشاورة في أمور الدنيا أي في شؤون الدولة المهمة منها مثل تسيير الجيوش وإعلان الحرب وعقد المعاهدات وإسناد المناصب المهمة في الدولة إلى مستحقيها ونحو ذلك، فلا تكون المشاورة في كل شيء من شؤون الدولة حتى في صغائرها وجزئياتها، فإنَّ هذا غير ممكن ولا مطلوب ولا حاجة اليه ولا منفعة فيه ولا دليل عليه. الشورى لا الديمقراطية: إن الإسلام لا يقبل الديمقراطية إذ هما مذهبان مختلفان في أصولهما وجذورهما، أو فلسفتهما، ونتائج تطبيقهما. وأوجه الاختلاف بينهما أوصلها إلى أكثر من خمس وعشرين نقطة وجعل منها حاجزاَ للفصل مابين الشورى والديمقراطية فالديمقراطية غالباَ ما كانت تمارس في

أنظمة سياسية لادينية , لاسيما في الغرب , لأن الاعتقاد كان سائدًا أن الحكم الديني ينتج طبقة كهنوتية ويجعل الحاكم مقدسًا، في حين أن الشورى تنبع عن مجتمع يؤمن بأن الإسلام لا يحكم بعيدًا عن معاني الإيمان المرتبطة بالحياة بكافة أشكالها وصورها ويجعل الدين منهاجًا للحياة , ولا يحصر العبادة في طائفة أو فرقة وإن كانت حاكمة أو عالمة. ومفهوم الأمة لا يتحدد في الإسلام بجنس أو عرق أو أرض , بل بمفهوم الأمة الأوسع وبالتالي روح العقيدة الإسلامية ومفهوم الوحدة بين المسلمين هي الأصل في حين أن النظام الديمقراطي يحدد ذلك في قطر معين , مع وجود المشاحنات والتنافر بين أبناء القطر الواحد. وفي النظام الديمقراطي يكون الشعب هو مصدر التشريع وبالتحديد في إيكال أمر التمثيل إلى فئة تمثلهم في البرلمان أو المجلس النيابي , علما ان أرادة الشعب تتمثل غالباَ في الأغلبية أو الأكثرية , كما أن النظام النيابي أو البرلماني الديمقراطي يعوزه نوع من الدقة في مسألة التمثيل النسبي وهو أن ينال كل حزب سياسي نصيبًا من مقاعد الهيئة التشريعية , يتناسب مع ما ناله من مجمل الأصوات التي أدلي بها في الانتخابات وهو يتيح أيضًا فرصًا لمرشحي أحزاب الأقلية في الانتخابات للحصول على مقاعد فى المجلس , إلى ضبابية البرامج الانتخابية والدعائية , أي أن الذين يمثلون الشعب ليس بالتأكيد هم الشرعية وإن كانوا حاصلين على تفويض بناءً على إجراءات النظام البرلماني. في حين أن في نظام الشورى يكون التشريع فيه لله ـ وحده والحاكمية له سبحانه، وحتى في المسائل الاجتهادية أو الخلافية، الأصل أن لا تخرج عن مقررات الشريعة وهذا ما يوازيه في النظام الديمقراطي السيادة في الفكر الغربي , بيد أن سلطة الشعب في ظل النظام الإسلامي ليس مطلقة , بل هي مقيدة بمقرارات الشريعة وأحكامها أو بصورة أوضح , أن الديمقراطية تتجاهل المبادئ العليا والشرائع السماوية , بل قد تكون في بعض الأحيان في حال رفض وازدراء لكل المعتقدات السماوية.

والشورى مرتبطة بالنظام الإسلامي الذي يجمع ما بين الأخلاق والتشريع، والعمل السياسي الإسلامي لا يخرج عن إطار العمل الأخلاقي، لأن الغاية من هذا النظام هو العمل على كسب الدنيا والآخرة معاَ، من خلال تحقيق مصالح الأفراد والدولة بصورة فيها صلاح وعمران لمفهوم الاستخلاف في الأرض. في حين أن الديمقراطية تخضع غالبًا في الفكر الغربي إلى تحصيل المنافع والقيم النسبية , حسب رأي الأغلبية , لاسيما إذا كانت الأغلبية مطلقة وعليه قد تقع الحيل والمخادعات وسياسات مكيافيللي: «الغاية تبرر الوسيلة»، مما يوقع الفساد الأخلاقي والإصلاحي باسم الديمقراطية لاسيما إذا كان الدستور والقيم تنحصر في هذه الأغلبية , فمن الممكن أن تنحصر القيم التي تحكم الإجراءات الديمقراطية , وأن يقرر الناخبون القانون والقيمة , بدون أي مرجعية أخلاقية أو معرفية , كما فعل هتلر بعد حصوله على الأغلبية من خلال العملية الديمقراطية فقام بتصفية الأقليات العرقية والدينية بموافقة الأغلبية الألمانية. وهذا النوع من الديمقراطية هو الممارس في الغرب، إذ بهذا النظام القائم على تحصيل المنفعة واللذة يمكن إجازة الزواج المثلي، أو السحاق أو الإجهاض، وغير ذلك من الأفعال المخالفة للقيم الإنسانية بحجج تحصيل الأغلبية من النواب , إذ يكون بعضهم مرشحًا من قبل هذه الجمعيات الشاذة أخلاقيًا وهذا ما يجعلنا نؤكد على أن الأنظمة الغربية تقوم على منظومة قيم تختلف جذريًا عن تلك القائمة عند المسلمين وليس المشكلة في النظام السياسي فقط , بل إجراءات تحصيل المصلحة للشعوب وهذا يعود بالأساس إلى فلسفة القيم والخلق. إن قيمة الشورى كمفهوم شرعي لها من الدلالات والمعاني الإيمانية ما هو أشمل وأوسع استخدامًا واستعمالًا من المقيدات والمحددات في العملية الديمقراطية, إذ أن المواطن في الدولة الإسلامية يستشعر مدى المسؤولية الشرعية أمام الله ـ في إنكار

المنكر, وفي حمل الغير على ذلك, أي أن المسؤولية الشرعية أقوى من المسؤولية القانونية في النظام الديمقراطي. بل أجمع الفقهاء على وجوب طاعة الأئمة والولاة في غير معصية, وعلى تحريمها في المعصية. من آفات الديمقراطية: من أكبر الآفات التي تعاني منها الديمقراطية اليوم، سيطرة أرباب المال على مقاليدها, بدءًا من السيطرة على المؤسسة السياسية بما يتبعها من مؤسسات متحكمة وموجهة ثم التحكم في تأسيس الأحزاب الكبرى وتمويلها ثم تمويل الحملات الانتخابية الباهظة التكاليف، بطرق قانونية وغير قانونية، ثم امتلاك وسائل الإعلام الكبرى والتحكم فيها وتوجيهها لصالح من يريدون، وضد من يريدون، وهكذا نصل في النهاية إلى أغلبية برلمانية تابعة للأقلية، أو نصل إلى حكومة الأقلية المسماة بحكومة الأغلبية. ولا تزال كلمات برنادرشو عن الديمقراطية تمثل رأْيَ مَن رأَى الديمقراطية في الواقع ورأى ما فيها من خلل واضطراب وإفساد، وهذه هي كلماته: «الديمقراطية هي السماح لكل المسافرين بقيادة القطار لتكون النتيجة المحتومة الاصطدام والكارثة». لقد بذلتْ أمريكا جهودًا ضخمة من أجل الدعوة إلى (الديمقراطية)، جهودًا سياسيّة وإعلامية ومؤسساتية وعسكرية، ولقد حقَّقت اختراقات واضحة في صفوف المسلمين، وكوّنت لها أتباعًا منهم يردِّدون نعيقها. ولكن مع كل هذا النشاط والنجاح النسبي الذي حققوه، فإن الديمقراطية التي وعدوا بها لم يظهر لها وجود إلا في المجازر التي أقاموها، والتدمير المروّع، والإبادة الجماعية، كل ذلك في العالم الإسلامي. فإن كانت هذه هي الديمقراطية التي يدعون لها فليطبّقوها في ديارهم أولًا لنرى الأشلاء والتدمير والإبادة هناك عندهم.

أساس الديمقراطية ومحورها عزل الدنيا عن الآخرة، والانصراف كلية إلى الدنيا، كأن الدار الآخرة هي مسؤولية الفرد وحده ليست مسؤولية الأمة كلها، والإنسانية كلها. وأساس الإسلام هو الدار الآخرة وإيثارها على الدنيا، لتكون هذه القضية هي القضية الرئيسة في حياة البشرية، ولتكون قضية الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو هي الحقيقة الكبرى في الكون كله والحياة كلها، وفي حياة الإنسان والبشرية كلها، وهي مسؤولية الأمة كلها لتصوغ نظامها ومواقفها من الإسلام! إنه فرق كبير واسع بين الإسلام والديمقراطية، فرق يجب أن لا يخفى على من يتلو كتاب الله ويدرس سنة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا يجوز أن يغيب عن بال العلماء المسلمين والدعاة المسلمين! إن الخسارة التي يُبتلى بها المسلمون بالدعوة إلى خدعة الديمقراطية هي خسارة الدنيا والآخرة. خسارة الدنيا لأَن هذه الدعوة لم تحقّقْ أيّ عزّة أو كرامة أو تقدم أو نصر للمسلمين، وخسارة الآخرة لأنها تنبذ الدار الآخرة التي هي الحقيقة الكبرى في الكون والحياة. في تطبيق الشريعة الهداية والبركة لجميع المسلمين: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابَ اللهِ» (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ». (رواه الإمام موطأ مالك في الموطأ، وحسنه الألباني). وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)} (المائدة:65 - 67). إن إقامة دين الله في الأرض معناها الصلاح والكسب والفلاح في حياة المؤمنين في هذه الدنيا وفي الآخرة على السواء، لا افتراق بين دين ودنيا، ولا افتراق بين دنيا وآخرة، فهو منهج واحد للدنيا وللآخرة، للدنيا وللدين. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِى الأَرْضِ خَيْرٌ لأَهْلِ الأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا». (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني). إن الأمن والطمأنينة والسعادة في الدنيا قبل الآخرة لن تكون إلا بتطبيق شرع الله في عباد الله، وإلا فهو الشقاء والنكد والفوضى والسلب والنهب والهرج والمرج، ولنعتبر ذلك حتى بالدول التي تسمى اليوم متقدمة فكم معدلات الجريمة فيها من قتل وسلب ونهب وسرقة وزنا وغيرها، إن الوحشية حقًّا هي في ترك الحبل على الغارب للمجرمين يعيثون في الأرض فسادًا أو في إيقاع عقوبة مخالفة لما شرعه الله من الحدود أو القصاص. وهذا التغيير الذي تسود فيه شريعة الله قادم لا محالة فعن حُذَيْفَةُ بنِ اليَمَان سدد خطاكمقال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ» ثُمَّ سَكَتَ. (رواه الإمام أحمد وحسنه الألباني).

66 - دين اسمه العلمانية

66 - دين اسمه العلمانية العَلَمانية SECULARISM ترجمتها الصحيحة: اللادينية أو الدنيوية، وهي دعوة إلى إقامة الحياة على العلم الوضعي والعقل ومراعاة المصلحة بعيدًا عن الدين. وتعني في جانبها السياسي بالذات اللادينية في الحكم، وهي اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم SCIENCE ، وقد ظهرت العلمانية في أوروبا منذ القرن السابع عشر وانتقلت إلى الشرق في بداية القرن التاسع عشر وانتقلت بشكل أساسي إلى مصر وتركيا وإيران ولبنان وسوريا ثم تونس ولحقتها العراق في نهاية القرن التاسع عشر. أما بقية الدول العربية فقد انتقلت إليها في القرن العشرين، وقد اختيرت كلمة علمانية لأنها أقل إثارة من كلمة لا دينية. ومدلول العَلَمانية المتفق عليه يعني عزل الدين عن الدولة وحياة المجتمع وإبقاءه حبيسًا في ضمير الفرد لا يتجاوز العلاقة الخاصة بينه وبين ربه فإن سمح له بالتعبير عن نفسه ففي الشعائر التعبدية والمراسم المتعلقة بالزواج والوفاة ونحوهما. وتتفق العلمانية مع الديانة النصرانية في فصل الدين عن الدولة حيث لقيصر سلطة الدولة ولله سلطة الكنيسة، وهذا واضح فيما ينسبه النصارى إلى السيد المسيح - عليه السلام - من قوله: «اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله». أما الإسلام فلا يعرف هذه الثنائية والمسلم كله لله وحياته كلها لله؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)} (الأنعام: 162). الأفكار والمعتقدات: - بعض العلمانيين ينكرون وجود الله أصلًا. - وبعضهم يؤمنون بوجود الله لكنهم يعتقدون بعدم وجود أية علاقة بين الله وبين حياة الإنسان.

- الحياة تقوم على أساس العلم المطلق وتحت سلطان العقل والتجريب. - فصل الدين عن السياسة وإقامة الحياة على أساس مادي. - تطبيق مبدأ النفعية Pragmatism على كل شيء في الحياة. - اعتماد مبدأ الميكيافيلية في فلسفة الحكم والسياسة والأخلاق. - نشر الإباحية والفوضى الأخلاقية وتهديم كيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الإجتماعية. وإذا كان هناك عذر ما لوجود العلمانية في الغرب فليس هناك أي عذر لوجودها في بلاد المسلمين؛ لأن النصراني إذا حكمه قانون مدني وضعي لا ينزعج كثيرًا ولا قليلًا لأنه لا يعطل قانونًا فرضه عليه دينه وليس في دينه ما يعتبر منهجًا للحياة، أما مع المسلم فالأمر مختلف حيث يوجب عليه إيمانُه الاحتكام إلى شرع الله. ومن ناحية أخرى فإنه إذا انفصلت الدولة عن الدين بقى الدين النصراني قائمًا في ظل سلطته القوية الفتية المتمكنة وبقيت جيوشها من الرهبان والراهبات والمبشرين والمبشرات تعمل في مجالاتها المختلفة دون أن يكون للدولة عليهم سلطان بخلاف ما لو فعلت ذلك دولة إسلامية فإن النتيجة أن يبقى الدين بغير سلطان يؤيده ولا قوة تسنده حيث لا بابوية له ولا كهنوت ولا أكليروس. بعض الثمار الخبيثة التي أنتجتها العلمانية في بلاد المسلمين، وإلا فثمارها الخبيثة أكثر من ذلك بكثير: 1 - الطعن في حقيقة الإسلام والقرآن والنبوة. 2 - الزعم بأن الإسلام استنفذ أغراضه وهو عبارة عن طقوس وشعائر روحية. 3 - الزعم بأن الإسلام لا يتلاءم مع الحضارة ويدعو إلى التخلف.

4 - رفض الحكم بما أنزل الله سبحانه وتعالى، وإقصاء الشريعة عن كافة مجالات الحياة، والاستعاضة عن الوحي الإلهي المُنزَّل على سيد البشر - صلى الله عليه وآله وسلم -، بالقوانين الوضعية التي اقتبسوها عن الكفار المحاربين لله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، واعتبار الدعوة إلى العودة إلى الحكم بما أنزل الله وهجر القوانين الوضعية، اعتبار ذلك تخلفًا ورجعية وردة عن التقدم والحضارة، وسببًا في السخرية من أصحاب هذه الدعوة واحتقارهم، وإبعادهم عن تولي الوظائف التي تستلزم الاحتكاك بالشعب والشباب، حتى لا يؤثروا فيهم. 5 - تشويه الحضارة الإسلامية وتحريف التاريخ الإسلامي وتزييفه، وتصوير العصور الذهبية لحركة الفتوح الإسلامية، على أنها عصور همجية تسودها الفوضى، والمطامع الشخصية. 6 - تضخيم حجم الحركات الهدامة في التاريخ الإسلامي والزعم بأنها حركات إصلاح. 7 - إذابة الفوارق بين حَمَلة الرسالة الصحيحة، وهم المسلمون، وبين أهل التحريف والتبديل والإلحاد، وصهر الجميع في إطار واحد، وجعلهم جميعًا بمنزلة واحدة من حيث الظاهر، وإن كان في الحقيقة يتم تفضيل أهل الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان على أهل التوحيد والطاعة والإيمان، فالمسلم والنصراني واليهودي والشيوعي والمجوسي كل هؤلاء وغيرهم، في ظل هذا الفكر بمنزلة واحدة يتساوون أمام القانون، لا فضل لأحد على الآخر إلا بمقدار الاستجابة لهذا الفكر العلماني. وفي ظل هذا الفكر لا حرج عندهم أن يكون اليهودي أو النصراني أو غير ذلك من النِحَل الكافرة حاكمًا على بلاد المسلمين، وهم يحاولون ترويج ذلك في بلاد المسلمين تحت ما سموه بـ (الوحدة الوطنية)، بل جعلوا (الوحدة الوطنية) هي الأصل وكل ما خالفها من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - طرحوه ورفضوه، وقالوا: «هذا يعَرّض الوحدة الوطنية للخطر!!».

8 - الدعوة إلى تحرير المرأة وفق الأسلوب الغربي، ونشر الإباحية والفوضى الأخلاقية، وتهديم بنيان الأسرة باعتبارها النواة الأولى في البنية الاجتماعية، وتشجيع ذلك والحض عليه: وذلك عن طريق: أ - القوانين التي تبيح الرذيلة ولا تعاقب عليها، وتعتبر ممارسة الزنا والشذوذ من باب الحرية الشخصية التي يجب أن تكون مكفولة ومصونة. ب - وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز التي لا تكَلّ ولا تمَلّ من محاربة الفضيلة، ونشر الرذيلة بالتلميح مرة، وبالتصريح مرة أخرى ليلًا ونهارًا. جـ - محاربة الحجاب وفرض السفور والاختلاط في المدارس والجامعات والمصالح والهيئات. 9 - محاربة الدعوة الإسلامية عن طريق: أ - تضييق الخناق على نشر الكتاب الإسلامي، مع إفساح المجال للكتب الضالة المنحرفة التي تشكك في العقيدة الإسلامية، والشريعة الإسلامية. ب - إفساح المجال في وسائل الإعلام المختلفة للعلمانيين المنحرفين لمخاطبة أكبر عدد من الناس لنشر الفكر الضال المنحرف، ولتحريف معاني النصوص الشرعية، مع إغلاق وسائل الإعلام في وجه علماء المسلمين الذين يُبصِّرون الناس بحقيقة الدين. 10 - مطاردة الدعاة إلى الله، ومحاربتهم، وإلصاق التهم الباطلة بهم، ونعتهم بالأوصاف الذميمة، وتصويرهم على أنهم جماعة متخلفة فكريًا، ومتحجرة عقليًا، وأنهم رجعيون، يُحاربون كل مخترعات العلم الحديث النافع، وأنهم متطرفون متعصبون لا يفقهون حقيقة الأمور، بل يتمسكون بالقشور ويَدَعون الأصول.

11 - التخلص من المسلمين الذين لا يهادنون العلمانية، وذلك عن طريق النفي أو السجن أو القتل. 12 - إنكار فريضة الجهاد في سبيل الله، ومهاجمتها واعتبارها نوعًا من أنواع الهمجية وقطع الطريق. وذلك أن الجهاد في سبيل الله معناه القتال لتكون كلمة الله هي العليا، وحتى لا يكون في الأرض سلطان له القوة والغلبة والحكم إلا سلطان الإسلام، والقوم - أي العلمانيين - قد عزلوا الدين عن التدخل في شؤون الدنيا، وجعلوا الدين - في أحسن أقوالهم - علاقة خاصة بين الإنسان وما يعبد، بحيث لا يكون لهذه العبادة تأثير في أقواله وأفعاله وسلوكه خارج مكان العبادة. فكيف يكون عندهم إذن جهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين؟!! والقتال المشروع عند العلمانيين وأذنابهم إنما هو القتال للدفاع عن المال أو الأرض، أما الدفاع عن الدين والعمل على نشره والقتال في سبيله، فهذا عندهم عمل من أعمال العدوان والهمجية التي تأباها الإنسانية المتمدنة – بزعمهم -!! 13 - إحياء الحضارات القديمة، والدعوة إلى القومية أو الوطنية، وهي دعوة تعمل على تجميع الناس تحت جامع وهمي من الجنس أو اللغة أو المكان أو المصالح، على ألا يكون الدين عاملًا من عوامل التجميع، بل الدين من منظار هذه الدعوة يُعد عاملًا من أكبر عوامل التفرق والشقاق. 14 - تربية الأجيال تربية لادينية، وإفساد التعليم وجعله خادمًا لنشر الفكر العلماني وذلك عن طريق: أ- بث الأفكار العلمانية في ثنايا المواد الدراسية بالنسبة للتلاميذ، والطلاب في مختلف مراحل التعليم. ب- تقليص الفترة الزمنية المتاحة للمادة الدينية إلى أقصى حد ممكن.

جـ - منع تدريس نصوص معينة لأنها واضحة صريحة في كشف باطلهم. د- تحريف النصوص الشرعية عن طريق تقديم شروح مقتضبة ومبتورة لها، بحيث تبدو وكأنها تؤيد الفكر العلماني، أو على الأقل أنها لا تعارضه. هـ- إبعاد الأساتذة المتمسكين بدينهم عن التدريس، ومنعهم من الاختلاط بالطلاب، وذلك عن طريق تحويلهم إلى وظائف إدارية أو عن طريق إحالتهم إلى المعاش. و- جعل مادة الدين مادة هامشية، حيث يكون موضعها في آخر اليوم الدراسي، وهي في الوقت نفسه لا تؤثر في تقديرات الطلاب. 14 - اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية عن الغرب ومحاكاته فيها. لماذا يرفض المسلمون العلمانية: 1 - نحن نرفض العلمانية لأنها تُحِل ما حرم الله: إذا كانت الشريعة مُلْزِمة من حيث المبدأ، فإن في داخل هذه الشريعة أحكامًا ثابتة لا تقبل التغيير، وأحكامًا عامة ثابتة في ذاتها، ولكنها تقبل أن تدخل تحتها متغيرات. ومن بين الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا يدخل تحتها متغيرات، أحكام العبادات كلها، والحدود، وعلاقات الجنسين. فماذا فعلت العلمانية بهذه الثوابت؟ إن الأنظمة العلمانية تبيح الزنا برضا الطرفين، و «المتشدد» منها يشترط موافقة الزوج أو الزوجة، والكثير منها يبيح اللواط للبالغين، وكلها يبيح الخمر والخنزير!! فأما الزنا برضى الطرفين فنجد مثلًا أن قانون العقوبات في مصر والعراق يؤكد على أن الزنا إذا وقع برضى الطرفين وهما غير متزوجَيْن وسِنّهما فوق الثامنة عشرة، فلا شيء عليهما، وإن كانا متزوجين فلا عقوبة عليهما ما لم يرفع أحد الزوجين دعوى ضد

الزوج الخائن (قانون العقوبات المصري، مواد 267، 279، وقانون العقوبات العقوبات العراقي، المواد 232، 240). وإذن ففي شريعة العلمانية يكتسب الزنا شرعية حين يقع برضاء الطرفين والصلة بامرأة بالغة برضائها لا تقوم به جريمة إذا لم يقع في ظروف تجعله داخلًا تحت قانون مكافحة الدعارة. وتبيح العلمانية ظهور النساء على شواطئ البحر بملابس الاستحمام مع أنها تكشف العورات. فالعِرض في شريعة العلمانية هو مجرد حرية السلوك الجنسي، ولكل شخص في هذه الشريعة أن يتخذ لنفسه السلوك الجنسي الذي يروق له، والأفعال التي يحرّمها قانون العلمانية في جرائم العرض، إنما يحَرّمها لكونها تشكل اعتداء على الحرية الجنسية فحسب لا باعتبارها أمرًا يغضب الله ويحرّمه الدين، فإذا اتخذت الجريمة صورة الاغتصاب أو هتك العرض بالقوة فإن القانون الوضعي يُحرّم ذلك لكونه اعتداءً على الحرية الجنسية، لأن الجاني قد أرغم المجني عليه على سلوك جنسي لم تتجه إليه إرادته ورغبته. ونفس الأمر نجده في جريمة الزنا فهي لا تعد جريمة إذا كان الطرفان غير متزوجين، أو إذا ارتكبها الزوج في غير منزل الزوجية، ولا تتحرك الدعوى الجنائية في جريمة الزنا إلا بناء على شكوى من الزوج، وللزوج الحق في التنازل عن الشكوى بعد تقديمها، وبالتالي تنقضي الدعوى الجنائية، وتوقف إجراءات رفع الدعوى الجنائية وللزوج حق وقف تنفيذ العقوبة!! ذلك قانون العلمانية، وتلك فلسفته فيما يتعلق بجرائم العِرْض والزنا، وما ذُكِرَ ليس إلا شرحًا لنصوص هذا القانون الذي تُحْكَمُ به محاكمنا، ويدرسه طلاب كلية الحقوق. قانون يمجد الحرية الجنسية، ويجعل من الشرطة حاميًا لها، بل وتشرف الدول العلمانية على الملاهي الليلية وتعد لها شُرطة خاصة لحمايتها، وكأنها بيوت رسمية للبغاء، بل هي على الحقيقة كذلك فلا يستطيع إنسان كائنًا مَن كان، مَنْع راقصة من

الذهاب إلى هذه الملاهي، وإلا اعتُبِرَ ذلك مَنْعٌ لموظفة من أداء وظيفتها، وتعرض مَنْ منعها للعقوبة الجنائية والمدنية، واحتفظ صاحب الملهى بحق مقاضاتها ومطالبتها بالتعويض لعدم وفائها بالتزامها التعاقدي معه!!. وهكذا تبيح العلمانية الزنا، وتهيئ له الفرص، وتعد له المؤسسات، وتقيم له الحفلات في الملاهي والمسارح. وأما الربا فهو عماد الاقتصاد العلماني، تؤسَّسُ عليه البنوك، وتُقَدَّم به القروض، بل ويدخل الناس فيه كرهًا، ومن شاء فليراجع المواد 226 ـ 233 من القانون المدني المصري، والتي تنص على الفوائد والقواعد المتعلقة بها فتحل ما حرم الله بقوله تعالى: ... {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)} (البقرة: 278 - 279). فكيف بمن يقيمون للربا بنوكًا ويعطون للتعامل به الشرعية الكاملة؟. وأما الخمر فإن النظم العلمانية تبيح شربها، وتفتح المحلات لبيعها وشرائها والتجارة بها، وتجعلها مالًا متقوّمًا يَحْرُم إهداره، بل إن النظم العلمانية تنشئ المصانع لإنتاج الخمور وتعطي على الاجتهاد في إنتاجها جوائز إنتاج، وبالتالي فهي تبيح تصديرها واستيرادها، وعقد الصفقات للتجارة بها، وتحرّم على الأطراف المتعاقدة عدم الالتزام بنصوص العقد أو عدم مطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها، هكذا كأي سلعة تدخل في نظام التغذية!! وإذن فالعلمانية تحِلّ شرب الخمر وبيعها وعصرها، فتحل ما حرم الله، وتحرم إهدارها والإنكار على شاربها وعدم الوفاء بالالتزام التعاقدي عليها، فهي تحرم ما أحله الله.

فالعلمانية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحله الله. وليس هذا في الزنا والربا والخمر فقط، أو في الحدود والتعازير فقط، أو في مادة أو أكثر من مواد القانون الوضعي العلماني، بل إن قضية تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحله الله هي قضية النظام القانوني العلماني بأكمله، وبجميع جوانبه المختلفة. ولما كان تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله كفرًا لمن فعله، ومَن قَبِله، ولنبقى مسلمين يجب علينا أن نرفض الكفر، وشريعة الكفر، وأن نرفض العلمانية التي تقوم على هذه الشريعة التي تحلّ ما حرم الله، وتحرّم ما أحل الله. 2 - ونحن نرفض العلمانية لأنها كفر بواح: العلمانية هي قيام الحياة على غير الدين، أو فصل الدين عن الدولة، وهذا يعني – بداهة - الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعته سبحانه، وقبول الحكم والتشريع من غير الله - سبحانه وتعالى -؛ لذلك فالعلمانية هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في الشريعة، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة. قال الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله -: «إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله - عز وجل -: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59). فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مع الإيمان في قلب عبد أصلًا، بل أحدهما ينافي الآخر؛ فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه،

وتحتمه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن محمدًا رسول الله بعد هذه المناقضة». إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، وهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة. وقبول الكفر والرضا به كفر، ولذلك فلا بد لنا من رفض العلمانية لنبقى في دين الله، ونحقق لأنفسنا صفة الإسلام. 3 - نحن نرفض العلمانية لتكون شريعة الله هي العليا: فقد جاء الإسلام ليكون دين البشرية كلها، ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعًا ولتهيمن على ما قبلها من الشرائع، وتكون هي المرجع النهائي، ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله ومن عليها. والمنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها، والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها، وتستمد منها تصورها الاعتقادي، ونظامها الاجتماعي، وآداب سلوكها الفردي والجماعي. الخلاصة: العلمانية دعوة إلى إقامة الحياة على أسس العلم الوضعي والعقل بعيدًا عن الدين الذي يتم فصله عن الدولة وحياة المجتمع وحبسه في ضمير الفرد ولا يصرح بالتعبير عنه إلاَّ في أضيق الحدود. وعلى ذلك فإن الذي يؤمن بالعلمانية بديلًا عن الدين ولا يقبل تحكيم الشرعية الإسلامية في كل جوانب الحياة ولا يحرم ما حرم الله يعتبر مرتدًا ولا ينتمي إلى الإسلام. والواجب إقامة الحجة عليه واستتابته حتى يدخل في حظيرة الإسلام وإلا جرت عليه أحكام المرتدين المارقين في الحياة وبعد الوفاة.

67 - شريعة الله لا شريعة البشر حتى لا تغرق السفينة

67 - شريعة الله لا شريعة البشر حتى لا تغرق السفينة أقوال ليست عابرة: قال الشيخ محمد متولي الشعراوي - رحمه الله -: «إياك أن ترد الأمر على الله - سبحانه وتعالى -؛ لا تَقُل إن هذه الشريعة لم تَعُدْ تناسب العصر الحديث؛ فإنك بذلك تكون قد كفرت، والعياذ بالله» (¬1). وقال الشيخ جاد الحق على جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق - رحمه الله -: «الإسلام والسياسة متداخلان لا انقصام بينهما، وهو شريعة وعقيدة لا ينفصل عن السياسة ولا تضر به؛ لأنه صمام الأمن والأمان لها، وغير المسلمين يلتزمون بالقانون الإسلامى كقانون فقط لا مساس فيه بالعقيدة ولا ما يتبعها من الأمور اللصيقة بها» (¬2). وجاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: «إن أول واجب على مَن يَلِي أمور المسلمين تطبيق شريعة الله فيهم، ويناشد المجمع جميع الحكومات في بلاد المسلمين المبادرة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية وتحكيمها تحكيمًا تامًا كاملًا مستقرًا، في جميع مجالات الحياة، ودعوة المجتمعات الإسلامية، أفرادًا وشعوبًا ودولًا، للالتزام بدين الله تعالى وتطبيق شريعته، باعتبار هذا الدين عقيدة وشريعة وسلوكًا ونظام حياة» (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير الشعراوي، عند تفسير قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (سورة البقرة:37). (¬2) فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com ، تاريخ الفتوى: محرم 1402هجرية ـ 10 نوفمبر 1981م. (¬3) قرار رقم: 48 بشأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، مجلة المجمع العدد الخامس.

وهذه شهادة من غير المسلمين، فقد قال البابا شنودة: «إن الأقباط في ظل حكم الشريعة يكونون أسعدَ حالًا وأكثر أمنًا، ولقد كانوا كذلك في الماضي، حينما كان حكم الشريعة هو السائد. إن مصر تجلب القوانين مِن الخارج حتى الآن، وتطبقها علينا، ونحن ليس عندنا مثل ما في الإسلام مِن قوانين مُفَصَّلَة، فكيف نرضى بالقوانين المجلوبة، ولا نرضى بقوانين الإسلام؟!» (¬1) لا نرضى بالإسلام بديلا: نحن كمسلمين لا نرضى بالإسلام بديلًا، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} (يوسف: 40)، ونريد أن نُحْكَم بكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولو حكمنا عبد حبشي بشرع الله سنقول له: «سمعًا وطاعة». قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ أَسْوَدُ، يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللهِ تَعَالَى، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا» (رواه مسلم). (عَبْدٌ مُجَدَّعٌ) أي مقطع الأعضاء، والمقصود التنبيه على نهاية خسته فإن العبد خسيس في العادة ثم سواده نقص آخر وجدعه نقص آخر ومن هذه الصفات مجموعة فيه فهو في نهاية الخسة والعادة أن يكون ممتهنا في أرذل الأعمال. وديننا لا فصل فيه بين الأرض والسماء، والدنيا والآخرة، ولا يصح الفصل بين رجال الدين ورجال الدولة، فالحكم الإسلامي موضوع لإقامة الدين وسياسة الدنيا به، وعندنا علماء أما مصطلح رجال الدين فمأخوذ من أوربا. وكل مسلم مُطالَبٌ أن يقيم الحق في نفسه وفي الخلق، وأن يحكم بشرع الله سواء كان حاكمًا أو محكومًا؛ في سياسته واقتصاده واجتماعه وأخلاقه وحياته الخاصة ¬

_ (¬1) صحيفة الأهرام القاهرية، بتاريخ 6 مارس 1985م.

والعامة، لا فصل بين العلم والعمل، ولا يصح أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر بالبعض الآخر؛ قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85). وإن وجود بعض الهفوات أو الجنايات من الدول التي تطبق الإسلام أو من حكام المسلمين لا يقدح في مرجعيةِ الشريعة، ووجوبِ إقامةِ الدين، وسياسةِ الدنيا به؛ فكل إنسان يؤخذ منه ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والحق مقبول من كل من جاء به والباطل مردود على صاحبه كائنًا من كان، والطبيب والمهندس قد يخطئ ولا نطالب بإلغاء مهنة الطب والهندسة؛ فكذلك الأمر هنا. الإسلام المنزل من عند الله - سبحانه وتعالى - هو دين الفطرة: والإسلام المنزل من عند الله - سبحانه وتعالى - هو دين الفطرة، الدين الذي يعرف أسرار الفطرة فيقدم لها ما يصلح لها وما يصلحها. الدين الذي يعالج الفطرة على أحسن وجه وأنسب طريقة، ليخرج منها بأقصى ما تستطيع أن تمنحه من الخير. الدين الذي يتلبس بالفطرة فيملؤها كلها ولا يترك فراغًا واحدًا لا ينفذ إليه. الدين الذي يأخذ الفطرة كما هي كلًا واحدًا لا يتجزأ، كلًا يشمل الجسم والعقل والروح، فيعالجها العلاج الشامل الذي يأخذ في حسابه الجوانب كلها. ويأخذها مرتبطًا بعضها ببعض في نظام وثيق. ومن ثم لا يأخذ شعور الإنسان ويترك سلوكه. لا يأخذ آخرته ويدع دنياه. وإنما يعمل حساب ذلك كله في توجيهاته وتشريعاته سواء. إن الإسلام يتناول الحياة كلها، بكل ما تشتمل عليه من تنظيمات. ويرسم للبشر صورة كاملة لما ينبغي أن تكون عليه حياتهم في هذه الأرض. إنه يتناول الإنسان من يقظته في الصباح الباكر حتى يسلم جنبه للنوم في آخر المساء. يعلمه ويلقنه ماذا

يصنع وماذا يقول أول مايفتح عينيه، ثم حين يقوم، ثم حين يقضي ضرورته، ثم حين يؤدي صلاته، ثم حين يضرب في مناكب الأرض باحثًا عن رزقه: زارعًا أو صانعًا أو عاملًا أو بائعًا أو شاريًا .. ثم حين يتناول طعامه، ثم حين يستريح من القيلولة، ثم حين يعود في آخر اليوم، ثم حين يلقى زوجه وأطفاله، ثم حين يضع جنبه، ثم حين يأخذ في النوم. بل إذا صحا كذلك في وسط النوم فزعًا أو غير مفزّع! وكما تناول الإنسان فردًا في جميع أحواله، فقد تناوله كذلك وهو يعيش في المجتمع مع غيره من الأفراد. فعلم المجتمع ولقنه كيف تكون الصلات بين أفراده، وكيف تكون العلاقات. وكيف ينشئ تقاليده على المودة والإخاء والحب، والتكافل والتعاون. وكيف يشتري وكيف يبيع. وكيف يزرع وكيف يجني. وكيف يملك وكيف يوزع الثروة بين الأفراد. وكما تناول الفرد والمجتمع تناول كذلك الدولة ممثلة المجتمع. فأعطى ولي الأمر حقوقًا وأوجب عليه واجبات. وعلمه ولقنه كيف يحكم الناس، وكيف يقيم بينهم العدل، وكيف يوزع المال بينهم، بأي نسب وعلى أي الفئات ومن أي الموارد. وكيف يعلن الحرب وكيف يقيم السلم، وكيف يتعامل مع الدول والجماعات والأفراد. الحياة كلها بجميع دقائقها وتفصيلاتها. الحياة المادية والفكرية والروحية. الحياة الفردية والاجتماعية. الحياة بكل ما تشمله من مفاهيم. وكانت تلك هي طريقة الإسلام الفذة في إصلاح البشرية. إن الإسلام به نظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، ونظام سياسي راشد محكم الرباط؟ هل البشر الذين يشرعون ما يخالف شرع الله يحسبون أنهم أدرى من الله - سبحانه وتعالى - الذي خلق الخلق - سبحانه وتعالى -؟ سبحانه وتعالى عما يصفونه علوًا كبيرًا.

إن الإسلام قد بيَّن أن الحياة السليمة النظيفة المتكاملة لا يمكن أن تتم في داخل القلب معزولة عن واقع الحياة. لا يمكن أن تتم في الوجدان والمشاعر إن لم يكن لها رصيد مواز لها من العمل والسلوك. ومن ثم لم يجعل الدين عقيدة كامنة في الضمير. وإنما جعلها نظامًا قائمًا على عقيدة، ومجتمعًا قائمًا على هذا النظام. إن الإسلام دين الفطرة وكلمة الله، ومن ثم يجعل في حسابه الباطن والظاهر، والشعور والعمل، والوجدان والسلوك. من أجل ذلك يحرص الإسلام على واقع المجتمع أن يكون نظيفًا ليعاون الفرد على نظافة الضمير. ولن تكون نظافة المجتمع إلا بنظام اقتصادي عادل، ونظام اجتماعي متوازن، ونظام سياسي راشد محكم الرباط بالعقيدة الصحيحة والإيمان الصحيح. التغيير الذي ننشده شرع الله، لا شرع البشر شرع الخالق، لا شرع المخلوق الشريعة الإسلامية لا العَلَمانية الوضعية نريد خلافة على منهاج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تسود فيها شريعة الله ـ، قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} (الحج: 41). ويجب على كل مسلم أن يعلم أن مسألة تطبيق الشريعة الإسلامية ليست مسألة هينة، بل هي من أصول التوحيد؛ فالله - سبحانه وتعالى - هو الذي خلق وبالتالي هو الذي يشرع، قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)} (الأعراف: 54). والذي يشرع من دون الله يزعم أنه شريك لله - سبحانه وتعالى - في الأمر والنهي والتحليل

والتحريم؛ قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى: 21). وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 40). وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (النساء: 65). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (النساء: 59). وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} (النساء: 66). وقال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (المائدة: 48 - 50). يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -: «يقف الإنسان أمام هذه النصاعة في التعبير، وهذا الحسم في التقرير، وهذا الاحتياط البالغ لكل ما قد يهجس في الخاطر من مبررات لِتَرْك شيء ـ ولو قليل ـ من هذه الشريعة في بعض الملابسات والظروف. يقف الإنسان أمام هذا كله، فيعجب كيف ساغ لمسلم - يَدّعِي الإسلام - أن يترك شريعة الله كلها، بدعوى الملابسات والظروف! وكيف ساغ له أن يظل يَدّعِي

الإسلام بعد هذا التَرْك الكُلّي لشريعة الله؟! وكيف لا يزال الناس يسمون أنفسهم «مسلمين» وقد خلعوا ربقة الإسلام من رقابهم، وهم يخلعون شريعة الله كلها؛ ويرفضون الإقرار له بالإلوهية، في صورة رفضهم الإقرار بشريعته، وبصلاحية هذه الشريعة في جميع الملابسات والظروف، وبضرورة تطبيقها كلها في جميع الملابسات والظروف؟!! {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}. يتمثل الحق في صدوره من جهة الألوهية، وهي الجهة التي تملك حق تنزيل الشرائع، وفرض القوانين، ويتمثل الحق في محتوياته، وفي كل ما يعرض له من شئون العقيدة والشريعة، وفي كل ما يقصه من خبر، وما يحمله من توجيه. {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}. فهو الصوره الأخيره لدين الله، وهو المرجع الأخير في هذا الشأن، والمرجع الأخير في منهج الحياة وشرائع الناس، ونظام حياتهم، بلا تعديل بعد ذلك ولا تبديل. ومِن ثَمّ فكل اختلاف يجب أن يُرَدَّ إلى هذا الكتاب ليفصل فيه، سواء كان هذا الاختلاف في التصور الاعتقادي بين أصحاب الشرائع السماوية، أو في الشريعة التي جاء هذا الكتاب بصورتها الأخيرة، أو كان هذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم، فالمرجع الذي يعودون إليه بآرائهم في شأن الحياة كله هو هذا الكتاب، ولا قيمه لآراء الرجال ما لم يكن لها أصل تستند إليه من هذا المرجع الأخير. وتترتب على هذه الحقيقه مقتضياتها المباشره: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ}. والأمر موجه ابتداء إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما كان فيه من أمر أهل الكتاب الذين يجيئون إليه متحاكمين، ولكنه ليس خاصًا بهذا السبب، بل هو عام، وإلى آخر الزمان،

طالما أنه ليس هناك رسول جديد، ولا رسالة جديدة، لتعديل شيءٍ ما في هذا المرجع الأخير! لقد كمل هذا الدين، وتمت به نعمة الله على المسلمين، ورَضِيَهُ الله لهم منهج حياه للناس أجمعين، ولم يعد هنالك من سبيل لتعديل شيء فيه أو تبديله، ولا لترك شيء من حكمه إلى حكم آخر، ولا شيء من شريعته إلى شريعة أخرى. وقد علم الله حين رضيه للناس، أنه يسع الناس جميعًا، وعلم الله حين رضيه مرجعًا أخيرًا أنه يحقق الخير للناس جميعًا، وأنه يسع حياة الناس جميعًا، إلى يوم الدين. وأي تعديل في هذا المنهج - ودَعْكَ مِن العدول عنه - هو إنكار لهذا المعلوم من الدين بالضرورة، يُخْرِجُ صاحبه من هذا الدين، ولو قال باللسان ألف مرة: إنه من المسلمين! وقد علم الله أن معاذير كثيرة يمكن أن تقوم وأن يبرر بها العدول عن شيء مما أنزل الله واتباع أهواء المحكومين المتحاكمين، وأن هواجس قد تتسرب في ضرورة الحكم بما أنزل الله كله بلا عدول عن شيء فيه، في بعض الملابسات والظروف، فحَذّر الله نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذه الآيات مرتين من اتباع أهواء المتحاكمين، ومن فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه. وأولى هذه الهواجس: الرغبة البشرية الخفية في تأليف القلوب بين الطوائف المتعددة، والاتجاهات والعقائد المتجمعة في بلد واحد، ومسايرة بعض رغباتهم عند ما تصطدم ببعض أحكام الشريعة، والميل إلى التساهل في الأمور الطفيفة، أو التي يبدو أنها ليست من أساسيات الشريعة! وقد شاء الله - سبحانه وتعالى - أن يحسم في هذا الأمر، وأن يقطع الطريق على الرغبة البشرية الخفية في التساهل مراعاة للاعتبارات والظروف، وتأليفًا للقلوب حين تختلف الرغبات والأهواء فقال لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ

لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. إن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة؛ ولكنه جعل لكل منهم طريقًا ومنهاجًا، وجعلهم مبتلين مختبرين فيما آتاهم من الدين والشريعة، وما آتاهم في الحياة كلها من عطايا، وأن كلًا منهم يسلك طريقه؛ ثم يرجعون كلهم إلى الله، فينبئهم بالحقيقة، ويحاسبهم على ما اتخذوا من منهج وطريق. إذن لا يجوز أن يفكر في التساهل في شيء من الشريعة لتجميع المختلفين في المشارب والمناهج؛ فهم لا يتجمعون: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}. بذلك أغلق الله - سبحانه وتعالى - مداخل الشيطان كلها، وبخاصة ما يبدو منها خيرًا وتأليفًا للقلوب وتجميعًا للصفوف؛ بالتساهل في شيء من شريعة الله؛ في مقابل إرضاء الجميع! أو في مقابل ما يسمونه وحدة الصفوف! إن شريعة الله أبقى وأغلى من أن يُضَحَّى بجزء منها في مقابل شيء قَدَّر الله ألا يكون! فالناس قد خُلِقوا ولكل منهم استعداد، ولكل منهم مشرب، ولكل منهم منهج، ولكل منهم طريق. ولحكمة من حكم الله خُلِقوا هكذا مختلفين، وقد عرض الله عليهم الهدى وتركهم يستبقون، وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون.

وإنها لتَعِلّة باطلة (¬1) إذن، ومحاولة فاشلة، أن يحاول أحد تجميعهم على حساب شريعة الله، أو بتعبير آخر على حساب صلاح الحياة البشرية وفلاحها؛ فالعدول أو التعديل في شريعة الله لا يعني شيئًا إلا الفساد في الأرض، وإلا الانحراف عن المنهج الوحيد القويم، وإلا انتفاء العدالة في حياة البشر، وإلا عبودية الناس بعضهم لبعض، واتخاذ بعضهم لبعض أربابًا من دون الله. وهو شر عظيم وفساد عظيم، لا يجوز ارتكابه في محاولة عقيمة لا تكون؛ لأنها غير ما قدره الله في طبيعة البشر؛ ولأنها مضادة للحكمة التي من أجلها قدر ما قدر من اختلاف المناهج والمشارع، والاتجاهات والمشارب، وهو خالق الخلق وصاحب الأمر الأول فيهم والأخير، وإليه المرجع والمصير. إن محاولة التساهل في شيء من شريعة الله، لمثل هذا الغرض، تبدو - في ظل هذا النص الصادق الذي يبدو مصداقه في واقع الحياة البشرية في كل ناحية - محاولة سخيفة لا مبرر لها من الواقع، ولا سند لها من إرادة الله، ولا قبول لها في حس المسلم، الذي لا يحاول إلا تحقيق مشيئة الله. فكيف وبعض من يسمون أنفسهم «مسلمين» يقولون: إنه لا يجوز تطبيق الشريعة حتى لا نخسر «السائحين»؟!!! ويعود السياق فيؤكد هذه الحقيقة، ويزيدها وضوحًا؛ فالنص الأول: ... {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} قد يعني النهي عن ترك شريعة الله كلها إلى أهوائهم! فالآن يحذره من فتنتهم له عن بعض ما أنزل الله إليه: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}. فالتحذير هنا أشد وأدق؛ وهو تصوير للأمر على حقيقته؛ فهي فتنة ¬

_ (¬1) تَعِلَّةُ: ذريعة، حجَة. تَعِلَّةُ الصبيِّ: ما يُعَلَّل ويتلهى به ليسكت.

يجب أن تُحْذَر، والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكمًا بما أنزل الله كاملًا؛ أو أن يكون اتباعًا للهوى وفتنة يحذر الله منها. ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر؛ فيُهَوّن على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة، وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينًا؛ أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة الله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}. فإن تولوا فلا عليك منهم؛ ولا يفْتِنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم الله وشريعته. ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك. فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن الله يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم، فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض، لا أنت ولا شريعة الله ودينه، ولا الصف المسلم المستمسك بدينه. ثم إنها طبيعة البشر: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} فهم يخرجون وينحرفون لأنهم هكذا، ولا حيلة لك في هذا الأمر، ولا ذنب للشريعة، ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق! وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة؛ ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة؛ لغرض من الأغراض، في ظرف من الظروف. ثم يقفهم على مفرق الطريق: فإنه إما حكم الله، وإما حكم الجاهلية. ولا وسط بين الطرفين ولا بديل. حكم الله يقوم في الأرض، وشريعة الله تُنَفّذ في حياة الناس، ومنهج الله يقود حياة البشر. أو أنه حكم الجاهلية، وشريعة الهوى، ومنهج العبودية. فأيهما يريدون؟ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص؛ فالجاهلية - كما يصفها الله - سبحانه وتعالى - ويحددها قرآنه - هي حكم البشر للبشر، لأنها هي عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله، والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله. إن الجاهلية - في ضوء هذا النص - ليست فترة من الزمان، ولكنها وضْعٌ من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس، ويوجد اليوم، ويوجد غدًا، فيأخذ صفة الجاهلية، المقابلة للإسلام، والمناقضة للإسلام. والذي لا يبتغي حكم الله يبتغي حكم الجاهلية، والذي يرفض شريعة الله يقبل شريعة الجاهلية، ويعيش في الجاهلية. وهذا مفرق الطريق، يقف الله الناس عليه. وهم بعد ذلك بالخيار! ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية؛ وسؤال تقرير لأفضلية حكم الله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.أجل! فمن أحسن من الله حكمًا؟ ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس، ويحكم فيهم، خيرًا مما يشرع الله لهم ويحكم فيهم؟ وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أرحم بالناس من رب الناس؟ أيستطيع أن يقول: إنه أعْرَفُ بمصالح الناس من إله الناس؟ أيستطيع أن يقول: إن الله - سبحانه وتعالى - وهو يشرع شريعته الأخيرة، ويرسل رسوله الأخير؛ ويجعل رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - خاتم النبيين، ويجعل رسالته خاتمة الرسالات، ويجعل شريعته شريعة الأبد - كان - سبحانه وتعالى - يجهل أن أحوالًا ستطرأ وأن حاجات ستستجد، وأن ملابساتٍ ستقع، فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه، حتى انكشفت للناس في آخر الزمان؟! ما الذي يستطيع أن يقوله من يُنَحِّي شريعة الله عن حكم الحياة، ويستبدل بها شريعة الجاهلية وحكم الجاهلية، ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب، أو هوى جيل من أجيال البشر، فوق حكم الله، وفوق شريعة الله؟

ما الذي يستطيع أن يقوله، وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟! الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟!! ألم يكن هذا كله في علم الله - سبحانه وتعالى - وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته، وأن يسيروا على منهجه وألا يُفْتَنوا عن بعض ما أنزله؟ ألم يكن ذلك في علم الله وهو يشدد هذا التشديد، ويحذر هذا التحذير؟ يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء. ولكن المسلم - أو من يدّعون الإسلام - ما الذي يقولونه من هذا كله، ثم يبقون على شيء من الإسلام؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام؟ إنه مفرق الطريق، إما إسلام وإما جاهلية. إما إيمان وإما كفر. إما حكم الله وإما حكم الجاهلية. والذين لا يحكمون بما أنزل الله هم الكافرون الظالمون الفاسقون. والذين لا يقبلون حكم الله من المحكومين ما هم بمؤمنين. إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم، وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه، والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء! وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية، فلن يستقيم له ميزان، ولن يتضح له منهج، ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل، ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح. وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس، فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا «المسلمين» وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم» (¬1). ¬

_ (¬1) في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب - رحمه الله - (2/ 901 - 905) باختصار وتصرف يسيرين.

حتى لا تنحرف صحوة الشعب في مصر عن مسارها الصحيح: وحتى لا تنحرف صحوة الشعب في مصر عن مسارها الصحيح يجب التأكيد على هُويَّة مِصرَ الإسلاميةِ؛ كدَولةٍ إسلاميةٍ مرجعيةُ التشريع فيها إلى الشريعة الإسلامية، وكُلُّ ما يخالفها يُعَدُّ باطلًا، وهذا في الحقيقة هو الضمان الحقيقي لحماية غير المسلمين واستمرارِ السلام والتسامح في المجتمع. ويجب تفعيل المادة الثانية مِن الدُّستور، ومراجعةِ كافَّة التشريعات المخالفةِ للشريعة، وصياغتِها مِن جديد بصورةٍ تُوافِق الشريعةَ؛ فإن الأُمَّةَ لم تَخترْ هذه المادةَ لتَبقى حَبيسةَ الأوراقِ لمُدَّةِ أكثر مِن ثلاثين سنة! وهذا مِن شأنه أن يُزيلَ التناقضَ الواقعَ في التشريعات والقوانين، كما يرفع الإثمَ عن أجهزة الدَّولة المختلِفة في مخالفة شَرْع الله والحُكْمِ بغير ما أَنزل اللهُ، وهو أعظم سببٍ لحصول النِّقَم والبلاءِ بالأُمَّة. في حماك ربنا، في سبيل ديننا. لا يَرُوعُنا الفَنَا، فتَوَلّ نصْرَنا، واهدِنا إلى السَّنن. نحن عُصبةُ الإلهْ، دينُه لنا وطنْ. نحنُ جُنْدُ مصطفاهْ، نستخف بالمحنْ. ولنا الكتاب جاهْ، شرعُه هو السَّننْ. فلنعشْ على هداهْ، سادة أعزةً، أو نَمُتْ له فدىً. الكفوف بالكفوفْ، فاشهدوا عهودنَا. الثباتُ في الصفوفْ، والمضاءُ والفَنَا. المِئُونَ والألُوفْ فديةٌ لديننا. وعلى شفا السيوفِ نستردّ مجدنا. بالكتاب شِرْعةً، والرسول قدوةً، واليقين عُدّةً.

68 - الشريعة خير كلها

68 - الشريعة خيرٌ كلها إن الشريعة الإسلامية ما شُرِعَتْ إلا لتحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، أي في الدنيا والآخرة، ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل أيضًا، حتى إن بعض الفقهاء، قال - وقوله حق -: «إن الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح». ودَرْءُ المفسدة لا شك في أنه وجه من وجوه المصلحة؛ لأن المصلحة لها وجه إيجابي وهو جلب نفع لم يكن، ووجه سلبي وهو دفع ضرر أو مفسدة. وجميع الأحكام بلا استثناء مصالح لا يخرج منها أي حكم كان سواء أكان من أحكام الاعتقادات أو العبادات أو غير ذلك. نعم، قد يجهل البعض تفاصيل المصلحة في حكم من الأحكام، ولكن هذا الجهل ليس بحجة على انتفاء المصلحة، فإن الانسان قد يجهل تفاصيل منفعة دواء ولكن جهله به لا يمنع من تحقيق المصحلة فيه، فإذا كان هذا واقعيًا فيما يضعه إنسان فكيف لا يكون فيما يضعه خالق الانسان؟ هذه واحدة. والثانية أن المصلحة المقصودة في التشريع الإسلامي لا تقتصر على مصالح الدنيا وإنما تتجاوزها الى مصالح الآخرة أي إلى إعداد الانسان للظفر بالسعادة الدائمة بالجنة. ونكتفي هنا بذكر بعض الأدلة الجزئية على هذه الحقيقة: 1 - قال تعالى في تعليل رسالة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107)، والرحمة تتضمن قطعًا رعاية مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، ولا يمكن أن تكون رحمة إذا أغفلت هذه المصالح.

2 - قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 179 (، فالقصاص شُرِعَ لتحقيق هذه المصلحة - وهي الحياة للناس، أي الأمن والاستقرار والاطمئنان وحقن الدماء - بزَجْر مَن تُسَوّلُ له نفسه الاعتداء على أرواح الناس. 3 - قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} (المائدة: 90 - 91). يذم تعالى هذه الأشياء القبيحة، ويخبر أنها من عمل الشيطان، وأنها رجس. {فَاجْتَنِبُوهُ} أي: اتركوه {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإن الفلاح لا يتم إلا بترك ما حرم الله، خصوصًا هذه الفواحش المذكورة، وهي الخمر وهي: كل ما خامر العقل أي: غطاه بسُكْره، والميسر، وهو: جميع المغالبات التي فيها عِوَضٌ من الجانبين، كالمراهنة ونحوها، والأنصاب التي هي: الأصنام والأنداد ونحوها، مما يُنصب ويُعبد من دون الله، والأزلام التي يستقسمون بها، فهذه الأربعة نهى الله عنها وزجر، وأخبر عن مفاسدها الداعية إلى تركها واجتنابها. فمنها: أنها رجس، أي: خبث، نجس معنًى، وإن لم تكن نجسةً حسًّا. والأمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها. ومنها: أنها من عمل الشيطان، الذي هو أعدى الأعداء للإنسان. ومن المعلوم أن العدو يحذر منه، وتحذر مصايده وأعماله، خصوصًا الأعمال التي يعملها ليُوقِعَ فيها عدوه، فإنها فيها هلاكه، فالحزم كل الحزم البعد عن عمل العدو المبين، والحذر منها، والخوف من الوقوع فيها. ومنها: أنه لا يمكن الفلاح للعبد إلا باجتنابها، فإن الفلاح هو: الفوز بالمطلوب المحبوب، والنجاة من المرهوب، وهذه الأمور مانعة من الفلاح ومُعَوّقَةٌ له.

ومنها: أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس، والشيطان حريصٌ على بثّها، خصوصًا الخمر والميسر، ليُوقِع بين المؤمنين العداوة والبغضاء. فإن في الخمر من انغلاب العقل وذهاب حجاه، ما يدعو إلى البغضاء بينه وبين إخوانه المؤمنين، خصوصًا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من لوازم شارب الخمر، فإنه ربما أوصل إلى القتل. وما في الميسر من غلبة أحدهما للآخر، وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة، ما هو من أكبر الأسباب للعداوة والبغضاء. ومنها: أن هذه الأشياء تصد القلب، ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلاة، اللذين خلق لهما العبد، وبهما سعادته، فالخمر والميسر، يصدانه عن ذلك أعظم صد، ويشتغل قلبه، ويذهل لبه في الاشتغال بهما، حتى يمضي عليه مدة طويلة وهو لا يدري أين هو. فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها، وتجعله من أهل الخبث، وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه، فينقاد له كما تنقاد البهيمة الذليلة لراعيها، وتحُولُ بين العبد وبين فلاحه، وتوقع العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وتصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فهل فوق هذه المفاسد شيء أكبر منها؟! ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها، عرضا بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} لأن العاقل - إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد - انزجر عنها وكفت نفسه، ولم يحتجْ إلى وعظ كثير ولا زجر بليغ. 4 - تشريع الرخص عند وجود المشقات في تطبيق الأحكام اذا كانت هذه المشقات فوق طاقة البشر المعتادة، من ذلك اباحة النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها بالتهديد بالقتل ونحوه، وإباحة المحَرَّم عند الضرورة مثل أكل الميتة ولحم الخنزير عند التعرض للهلاك جوعًا، وإباحة الفطر في رمضان للمريض والمسافر. ولا شك أن دفع المشقة ضَرب من ضروب رعاية المصلحة ودرء المفسدة عن الناس.

5 - من محاسن الشريعة الإسلامية ملاءمتها لفطرة الإنسان وتلبيتها لحاجاته البدنية والعقلية والروحية، فمن محاسن الشريعة أنها حرمت كل ما يضر ببدن الإنسان وعقله، ومن ذلك تحريم المسكر لضرره، وتحريم قليله الذي لا يسكر لأنه سبيل إلى تناول كثيره، ولا يمكن لكل الناس التحكم في الكمية، والتشريع يكون للجميع، إلى غير ذلك من الحكم المعلومة والمجهولة. 6 - بر الوالدين من محاسن الشريعة الإسلامية؛ ذلك أنه اعتراف بالجميل، وحفظ للفضل. 7 - ويُعَدّ الوقف من محاسن الشريعة الإسلامية الغرّاء حيث أثبتت الدراسات الاقتصادية أنه أنجح وسيلة لاستمرار المؤسسات العلمية والاجتماعية في أداء وظيفتها ورسالتها. 8 - من محاسن الشريعة الإسلامية، أنها لم تُحَرّم شيئًا إلا عَوّضَت خيرًا منه، مما يسد مسَدَّه، ويغني عنه، فالله - سبحانه وتعالى -، لم يضيق على عباده من جانب، إلا وسَّع عليهم من جانب آخر، من جنسه، فإنه - سبحانه وتعالى - لا يُريد بعباده عنتًا، ولا إرهاقًا، بل يُريد بهم اليُسرَ والخير والهداية والرحمة، فقد حرم الله عباده، الاستقسام بالأزلام، وعوضهم عنه دعاء الاستخارة، حرم عليهم الزنا، وأعاضهم عنه الزواج الحلال، حرم عليهم شرب المسكرات، وأعاضهم عنها بالأشربة اللذيذة. ليس في الدين حرمان، كما يتوهم الجهلة، فكل شهوة أودعها الله في الإنسان، جعل لها قناةً نظيفةً تتحرك من خلالها، وكل حاجة، ألجأ الله إليها عباده، جعل لهم، أكثر من سبب لتحقيقها، فالحلال يُغني عن الحرام، أيما غناء. وهذا من محاسن الشريعة الإسلامية حيث أن البيوت المسلمة التي بُنيت على أساس الرضا والرغبة غالبًا ما تكون أكثر استقرارًا وطمأنينة.

9 - والإسلام بتشريعه للطلاق يكون منسجمًا مع نهج التوسط بين الإفراط والتفريط، بخلاف غيره من الشرائع، والتي منها ما تبيح الطلاق على إطلاقه بلا محاذير ولو بغير سبب، ومنها ما يجعل الزواج مؤبدًا ولا تبيح الطلاق مطلقًا كما هو الحال في الغرب حيث عمت الفوضى في الحياة الاجتماعية وشاع اتخاذ الأخدان والعشيقات، فجاء الإسلام وجعل الطلاق حاجة من حاجات البشر لا يتم اللجوء إليها إلا عند الضرورة ووجود المبرر القوي لها. 10 - ومن محاسن الشريعة الإسلامية أن جعلت الطلاق بيد الرجل، وذلك لأن المرأة سريعة الغضب شديدة التأثر وغالبًا تدفعها طبيعتها إلى الجري وراء عواطفها بلا تَرَوٍّ، ذلك لأنها خلقت على رقة في الطبع، وبها من الغرائز ما يصلح أن تكون مصدرًا للحنان والأمومة، إذ لو جعل الطلاق بيدها - وهي على ما أسلفنا من رقة العاطفة وسرعة الانفعال - لانهارت كثير من العلاقات الأسرية والزوجية في لحظة طائشة وبمجرد خصام عارض وهذا لا يمنع أن تكون هنالك نساء يتصفن بالحكمة والتروي ولكن أحكام الشرع تبنى على غالب الأحوال. 11 - من محاسن الشريعة الإسلامية تحريم الكذب لما فيه من مضار ومفاسد على الفرد والمجتمع. 12 - مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنَ الشَّرِيعَةِ إيجَابُ الْغُسْلَ مِنْ الْمَنِيِّ دُونَ الْبَوْلِ: فَإِنَّ الْمَنِيَّ يَخْرُجُ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلِهَذَا سَمَّاهُ الله - سبحانه وتعالى -: «سُلَالَةً»؛ لِأَنَّهُ يَسِيلُ مِنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ، وَأَمَّا الْبَوْلُ فَإِنَّمَا هُوَ فَضْلَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الْمُسْتَحِيلَةِ فِي الْمَعِدَةِ وَالْمَثَانَةِ؛ فَتَأَثُّرُ الْبَدَنِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ أَعْظَمُ مِنْ تَأَثُّرِهِ بِخُرُوجِ الْبَوْلِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْ خُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ أَنْفَعِ شَيْءٍ لِلْبَدَنِ وَالْقَلْبِ وَالرُّوحِ، بَلْ جَمِيعُ الْأَرْوَاحِ الْقَائِمَةِ بِالْبَدَنِ فَإِنَّهَا تَقْوَى بِالِاغْتِسَالِ، وَالْغُسْلُ يَخْلُفُ عَلَيْهِ مَا تَحَلَّلَ مِنْهُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ، وَهَذَا أَمْرٌ يُعْرَفُ بِالْحِسِّ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْجَنَابَةَ تُوجِبُ ثِقَلًا وَكَسَلًا وَالْغُسْلُ يُحْدِثُ لَهُ نَشَاطًا وَخِفَّةً.

ولَوْ شُرِعَ الِاغْتِسَالُ مِنْ الْبَوْلِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ أَعْظَمُ حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْأُمَّةِ تَمْنَعُهُ حِكْمَةُ اللَّهِ وَرَحْمَتُهُ وَإِحْسَانُهُ إلَى خَلْقِهِ. 13 - إن إباحة السَّلَم وتحريم الربا من محاسن الشريعة الكاملة، وقد أباح الله - سبحانه وتعالى - السَّلَمَ لحاجة العباد إليه, وشرط فيه شروطًا تخرجه عن المعاملات المحرمة , فهو عقد على موصوف في الذمة بصفات تميزه وتبعده عن الجهالة والغرر إلى أجل معلوم بثمن معجل في المجلس , يشترك فيه البائع والمشتري في المصلحة المترتبة على ذلك. فالبائع ينتفع بالثمن في تأمين حاجاته الحاضرة والمشتري ينتفع بالمسلم فيه عند حلوله؛ لأنه اشتراه بأقل من ثمنه عند الحلول وذلك في الغالب , فحصل للمتعاملين في عقد السلم الفائدة من دون ضرر ولا غرر ولا جهالة ولا ربا. أما المعاملات الربوية فهي مشتملة على زيادة معينة نص الشارع على تحريمها في بيع جنس بجنسه نقدا أو نسيئة , وجعله من أكبر الكبائر لما له - سبحانه وتعالى - في ذلك من الحكمة البالغة , ولما للعباد في ذلك من المصالح العظيمة والعواقب الحميدة التي منها سلامتهم من تراكم الديون عليهم , ومن تعطيلهم المشاريع النافعة والصناعات المفيدة اعتمادًا على فوائد الربا. 14 - تعدد الزوجات من محاسن الشريعة الإسلامية، ومن رعايتها لمصالح المجتمع وعلاج مشكلاته، وقد تنبه بعض أعداء الإسلام لهذا الأمر، واعترفوا بحسن ما جاءت به الشريعة في هذه المسألة، رغم عداوتهم لها، إقرارا بالحق واضطرارًا للاعتراف به، فمن ذلك ما نقله صاحب المنار في الجزء الرابع من تفسيره (ص 360) عن جريدة (لندن ثروت) بقلم بعض الكاتبات ما ترجمته ملخصًا: «لقد كثرت الشاردات من بناتنا، رغم البلاء، وقَلّ الباحثون عن أسباب ذلك، وإذْ كنتُ امرأة، تراني أنظر إلى هاتيك البنات وقلبي يتقطع شفقةً عليهن وحزنًا، وماذا عسى يفيدهن بثي وحزني وتفجعي وإن شاركني فيه الناس جميعًا، إذْ لا فائدة إلا في العمل بما ينفع هذه الحالة الرجسة.

ولله در العالم (توس) فإنه رأى الداء ووصف له الدواء الكافل للشفاء، وهو الإباحة للرجل التزويج بأكثر من واحدة، وبهذه الواسطة يزول البلاء لا محالة، وتصبح بناتنا ربات بيوت، فالبلاء كل البلاء في إجبار الرجل الأوروبي على الاكتفاء بامرأة واحدة، فهذا التحديد هو الذي جعل بناتنا شوارد، وقذف بهن إلى التماس أعمال الرجل، ولا بد من تفاقم الشر إذا لم يبح للرجل التزوج بأكثر من واحدة، أيُّ ظن وخرص يحيط بعدد الرجال المتزوجين الذين لهم أولاد غير شرعيين، أصبحوا كَلّا وعالة على المجتمع الإنساني. فلو كان تعدد الزوجات مباحًا لما حاق بأولئك الأولاد وأمهاتهم ما هم فيه من العذاب والهوان، ولَسلِمَ عِرضُهن وعِرْض أولادهن، فإن مزاحمة المرأة للرجل ستحل بنا الدمار، ألم تروا أن حال خلقتها تنادي بأن عليها ما ليس على الرجل، وعليه ما ليس عليها، وبإباحة تعدد الزوجات تصبح كل امرأة ربة بيت وأم أولاد شرعيين». وقال جوستاف لوبون: «إن نظام تعدد الزوجات نظام حسن يرفع المستوى الأخلاقي في الأمم التي تمارسه، ويزيد الأسر ارتباطًا , ويمنح المرأة احترامًا وسعادة لا تجدهما في أوروبا». 15 - ومن محاسن الشريعة أن الأصل الشرعي هو: الحل في المعاملات والشروط. 16 - ومن محاسن الشريعة أَنَّ الْوَالِيَ وَالْقَاضِيَ وَالشَّافِعَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ (¬1) وَهُوَ أَصْلُ فَسَادِ الْعَالَمِ، وَإِسْنَادُ الْأَمْرِ إلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَتَوْلِيَةُ الْخَوَنَةِ وَالضُّعَفَاءِ وَالْعَاجِزِينَ، وَقَدْ دَخَلَ بِذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا الله، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِمَّنْ لَمْ ¬

_ (¬1) عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ سدد خطاكم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ» (رواه أحمد في المسند، وصححه الألباني).

تَجْرِ عَادَتُهُ بِمُهَادَاتِهِ ذَرِيعَةٌ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَحُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ، فَيَقُومُ عِنْدَهُ شَهْوَةٌ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مُكَافَأَةً لَهُ مَقْرُونَةٌ بِشَرِّهِ وَإِغْمَاضٍ عَنْ كَوْنِهِ لَا يَصْلُحُ. 17 - ومن محاسن الشريعة أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ تَوْرِيثَ الْقَاتِلِ ذَرِيعَةٌ إلَى وُقُوعِ هَذَا الْفِعْلِ؛ فَسَدَّ الشَّارِعُ الذَّرِيعَةَ بِالْمَنْعِ. 18 - ومن محاسن الشريعة أَنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ (¬1) أَوْ يَبِيعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى التَّبَاغُضِ وَالتَّعَادِي. 19 - ومن محاسن الشريعة أَنَّها نَهَت الْمَرْأَةَ إذَا خَرَجَتْ إلَى الْمَسْجِدِ أَنْ تَتَطَيَّبَ أَوْ تُصِيبَ بَخُورًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى مَيْلِ الرِّجَالِ وَتَشَوُّفِهِمْ إلَيْهَا، فَإِنَّ رَائِحَتَهَا وَزِينَتَهَا وَصُورَتَهَا وَإِبْدَاءَ مَحَاسِنِهَا تَدْعُو إلَيْهَا؛ فَأَمَرَهَا أَنْ تَخْرُجَ تَفِلَةً، وَأَنْ لَا تَتَطَيَّبَ، وَأَنْ تَقِفَ خَلْفَ الرِّجَالِ، وَأَنْ لَا تُسَبِّحَ فِي الصَّلَاةِ إذَا نَابَهَا شَيْءٌ، بَلْ تُصَفِّقَ بِبَطْنِ كَفِّهَا عَلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى، كُلُّ ذَلِكَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ وَحِمَايَةً عَنْ الْمَفْسَدَةِ. 20 - ومن محاسن الشريعة أَنَّها نَهَت أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبَاعُ حَتَّى تُنْقَلَ عَنْ مَكَانِهَا، وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى جَحْدِ الْبَائِعِ الْبَيْعَ وَعَدَمِ إتْمَامِهِ إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي قَدْ رَبِحَ فِيهَا، فَيَغُرُّهُ الطَّمَعُ، وَتَشِحُّ نَفْسُهُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ. 21 - ومن محاسن الشريعة أَنَّها أَمَرَتْ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْمَضَاجِعِ، وَأَنْ لَا يُتْرَكَ الذَّكَرُ يَنَامُ مَعَ الْأُنْثَى فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ ذَرِيعَةً إلَى نَسْجِ الشَّيْطَانِ بَيْنَهُمَا الْمُوَاصَلَةَ الْمُحَرَّمَةَ بِوَاسِطَةِ اتِّحَادِ الْفِرَاشِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ الطُّولِ، وَالرَّجُلُ قَدْ يَعْبَثُ فِي نَوْمِهِ بِالْمَرْأَةِ فِي نَوْمِهَا إلَى جَانِبِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ. ¬

_ (¬1) المعنى: أَنْ يَكُون قَدْ اِتَّفَقَ مَالِكُ السِّلْعَةِ وَالرَّاغِبُ فِيهَا عَلَى الْبَيْع وَلَمْ يَعْقِدَاهُ، فَيَقُول الْآخَر لِلْبَائِعِ: «أَنَا أَشْتَرِيه»، وَهَذَا حَرَام بَعْد اِسْتِقْرَار الثَّمَن.

22 - ومن محاسن الشريعة أَنَّها نَهَتْ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إلَى أَكْلِ مَالِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ حَقٍّ إذَا كَانَتْ مُعَرَّضَةً لِلتَّلَفِ، وَقَدْ يَمْنَعُهَا اللهُ - سبحانه وتعالى -. 23 - ومن محاسن الشريعة أنها جَعَلَت لِلْقَاذِفِ إسْقَاطَ الْحَدِّ بِاللِّعَانِ فِي الزَّوْجَةِ دُونَ الْأَجْنَبِيَّةِ، وَكِلَاهُمَا قَدْ أَلْحَقَ بِهِمَا الْعَارَ، وهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ؛ فَإِنَّ قَاذِفَ الْأَجْنَبِيَّةِ مُسْتَغْنٍ عَنْ قَذْفِهَا، لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ؛ فَإِنَّ زِنَاهَا لَا يَضُرُّهُ شَيْئًا، وَلَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ فِرَاشَهُ، وَلَا يُعَلِّقُ عَلَيْهِ أَوْلَادًا مِنْ غَيْرِهِ، وَقَذْفُهَا عُدْوَانٌ مَحْضٌ، وَأَذًى لِمُحْصَنَةٍ غَافِلَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ زَجْرًا لَهُ وَعُقُوبَةً. وَأَمَّا الزَّوْجُ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ بِزِنَاهَا مِنْ الْعَارِ وَالْمَسَبَّةِ وَإِفْسَادِ الْفِرَاشِ وَإِلْحَاقِ وَلَدِ غَيْرِهِ بِهِ، وَانْصِرَافِ قَلْبِهَا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ؛ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى قَذْفِهَا، وَنَفْيِ النَّسَبِ الْفَاسِدِ عَنْهُ وَتَخَلُّصِهِ مِنْ الْمِسَبَّةِ وَالْعَارِ؛ لِكَوْنِهِ زَوْجَ بَغْيٍ فَاجِرَةٍ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهَا فِي الْغَالِبِ، وَهِيَ لَا تُقِرُّ بِهِ، وَقَوْلُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ؛ فَلَمْ يَبْقَ سِوَى تَحَالُفِهَا بِأَغْلَظِ الْإِيمَانِ، وَتَأْكِيدِهَا بِدُعَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّعْنَةِ وَدُعَائِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالْغَضَبِ إنْ كَانَا كَاذِبَيْنِ. ثُمَّ يَفْسَخُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا؛ إذْ لَا يُمْكِنُ أَحَدُهُمَا أَنْ يَصْفُوَ لِلْآخَرِ أَبَدًا؛ فَهَذَا أَحْسَنُ حُكْمٍ يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَهُمَا فِي الدُّنْيَا، وَلَيْسَ بَعْدَهُ أَعْدَلُ مِنْهُ، وَلَا أَحْكَمُ، وَلَا أَصْلَحُ، وَلَوْ جُمِعَتْ عُقُولُ الْعَالَمِينَ لَمْ يَهْتَدُوا إلَيْهِ، فَتَبَارَكَ مَنْ أَبَانَ رُبُوبِيَّتَهُ وَوَحْدَانِيَّتَهُ وَحِكْمَتَهُ وَعِلْمَهُ فِي شَرْعِهِ وَخَلْقِهِ. من محاسن الشريعة فَرْض الحجاب على المراة المسلمة ومَنْع الاختلاط بين النساء والرجال غير المحارم: بل إنَّها نَهَتْ أَنْ تَصِفَ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا، فقد قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا». (رواه

البخاري). وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ سَدٌّ لِلذَّرِيعَةِ وَحِمَايَةٌ عَنْ مُفْسِدَةِ وُقُوعِهَا فِي قَلْبِهِ وَمَيْلِهِ إلَيْهَا بِحُضُورِ صُورَتِهَا فِي نَفْسِهِ، وَكَمْ مِمَّنْ أَحَبَّ غَيْرَهُ بِالْوَصْفِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ. قال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن الصويان: «كنت في زيارة لأحد المراكز الإسلامية في ألمانيا فرأيت فتاة متحجبة حجابًا شرعيًا ساترًا قلَّ أن يوجد مثله في ديار الغرب؛ فحمدتُ الله على ذلك، فأشار عليَّ أحد الإخوة أن أسمع قصة إسلامها مباشرة من زوجها، فلما جلستُ مع زوجها قال: «زوجتي ألمانية أبًا لجدٍّ، وهي طبيبة متخصصة في أمراض النساء والولادة، وكان لها عناية خاصة بالأمراض الجنسية التي تصيب النساء، فأجْرَت عددًا من الأبحاث على كثير من المريضات اللاتي كُنَّ يأتين إلى عيادتها، ثم أشار عليها أحد الأطباء المتخصصين أن تذهب إلى دولة أخرى لإتمام أبحاثها في بيئة مختلفة نسبيًا، فذهَبَتْ إلى النرويج، ومكثت فيها ثلاثة أشهر، فلم تجد شيئًا يختلف عمَّا رأتْهُ في ألمانيا، فقررَتْ السفر للعمل لمدة سنة في السعودية. تقول الطبيبة: «فلما عزمتُ على ذلك أخَذْتُ أقرأ عن المنطقة وتاريخها وحضارتها، فشعَرْتُ بازدراء شديد للمرأة المسلمة، وعجبتُ منها كيف ترضى بذُلِّ الحجاب وقيوده، وكيف تصبر وهي تُمتهَن كل هذا الامتهان؟! ولمَّا وصلتُ إلى السعودية علِمْتُ أنني ملزمة بوضع عباءة سوداء على كتفيَّ، فأحسست بضيق شديد وكأنني أضع إسارًا من حديد يقيدني ويشلُّ من حريتي وكرامتي (!!)، ولكني آثرت الاحتمال رغبة في إتمام أبحاثي العلمية. لبِثْتُ أعمل في العيادة أربعة أشهر متواصلة، ورأيت عددًا كبيرًا من النسوة، ولكني لم أقف على مرض جنسي واحد على الإطلاق؛ فبدأتُ أشعر بالملل والقلق، ثم مضت الأيام حتى أتمَمْتُ الشهر السابع، وأنا على هذه الحالة، حتى خرجْتُ ذات يوم من العيادة مغضَبة ومتوترة. فسألتني إحدى الممرضات المسلمات عن سبب ذلك، فأخبرتها الخبر، فابتسمت وتمتمت بكلام عربي لم أفهمْه، فسألْتُها: «ماذا تقولين؟!»،

فقالت: «إن ذلك ثمرة الفضيلة، وثمرة الالتزام بقول الله تعالى في القرآن الكريم: ... {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ}» (الأحزاب: 35). هزتني هذه الآية وعرّفتْني بحقيقة غائبة عندي، وكانت تلك بداية الطريق للتعرف الصحيح على الإسلام، فأخذْتُ أقرأ القرآن العظيم والسنة النبوية، حتى شرح الله صدري للإسلام، وأيقنْتُ أنَّ كرامة المرأة وشرفها إنما هو في حجابها وعفتها، وأدركت أن أكثر ما كُتب في الغرب عن الحجاب والمرأة المسلمة إنما كتب بروح غربية مستعلية لم تعرف طعم الشرف والحياء!». إن الفضيلة لا يعدلها شيء، ولا طريق لها إلا الالتزام الجاد بهدي الكتاب والسنة، وما ضاعت الفضيلة إلا عندما استُخدمت المرأة ألعوبة بأيدي المستغربين وأباطرة الإعلام (¬1). دعوات غربية لتطبيق الشريعة الإسلامية كحلٍ للأزمة المالية: نشر موقع (الإسلام اليوم) أن كبرى الصحف الاقتصادية الغربية دعت إلى تطبيق الشريعة الإسلامية كحل مؤكد للخروج من الأزمة المالية العالمية التي تهدد بانهيار أسواق المال العالمية، بعد الأزمة الاقتصادية الخطيرة التي هزت أمريكا وأوروبا. فقد كتب (بوفيس فانسون) رئيس تحرير مجلة تشالينجز موضوعا بعنوان (البابا أو القرآن) تساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ ودور (المسيحية) كديانة، والكنيسة الكاثوليكية بالذات في تكريس هذا المنزع والتساهل في تبرير الفائدة، مشيرًا إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلى الهاوية. وتساءل الكاتب بأسلوب يقترب من التهكم من موقف الكنيسة قائلًا: «أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلًا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا ¬

_ (¬1) ثمرة الفضيلة، أحمد بن عبد الرحمن الصويان، مجلة البيان (العدد 161).

وبمصارفنا (¬1) لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود». بدوره، طالب (رولان لاسكين) - رئيس تحرير صحيفة (لوجُورنال دِ فَيْنَانْس) - بوضوح أكثر بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة. وعرض لاسكين في مقاله بافتتاحية الصحيفة التي يرأس تحريرها والذي جاء بعنوان: «هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟»، المخاطر التي تحدق بالرأسمالية وضرورة الإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع، وقدم سلسلة من المقترحات المثيرة في مقدمتها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية برغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية. ومن ناحيتها , أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية - وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك - في وقت سابق قرارًا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي. كما أصدرت نفس الهيئة قرارًا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية. والصكوك الإسلامية هي عبارة عن سندات إسلامية مرتبطة بأصول ضامنة بطرق متنوعة تتلاءم مع مقتضيات الشريعة الإسلامية. ¬

_ (¬1) المصرف: البنك.

كما أكد تقرير صادر عن مجلس الشيوخ الفرنسي أن النظام المصرفي الإسلامي مريح للجميع مسلمين وغير مسلمين ويمكن تطبيقه في جميع البلاد فضلًا عن كونه يلبي رغبات كونية. وكانت لجنة المالية ومراقبة الميزانية والحسابات الاقتصادية للدولة بمجلس الشيوخ الفرنسي قد نظمت طاولتين مستديرتين في منتصف مايو 2008 حول النظام المصرفي الإسلامي لتقييم الفرص والوسائل التي تسمح لفرنسا بولوج هذا النظام الذي يعيش ازدهارًا واضحًا وجمعت أعمال الطاولتين في تقرير واحد. وتظهر منافسة النظام المصرفي الإسلامي للنظام المصرفي الغربي في كون معدل النمو السنوي للأنشطة الإسلامية يتراوح ما بين 10 إلى 15%. كما بلغ مجموع الأنشطة المسيرة من قبل المصارف ومؤسسات التأمين الإسلامية 500 مليار دولار نهاية عام 2007، وتبلغ قيمة الأصول المتداولة التي تراعي أحكام الشريعة والمعلن عنها وغير المعلن حدود 700 مليار دولار في الوقت الراهن.

69 - شبهات حول تطبيق الشريعة

69 - شبهات داحضة حول تطبيق الشريعة قبل الرد: قبل الرد على الشبهات المتهافتة لأعداء الإسلام وشرعه المُحْكَم من الكفار، ومن المنافقين - الذين يحملون أسماء إسلامية ولكنهم في الحقيقة حرب على الإسلام وأهله - يجب أن يُعلم أنه ليست هناك مقارنة بين شرع الله وشرع البشر، فالأمر كما قال الشاعر: ألمْ ترَ أن السيفَ ينقصُ قدرُه إذَا ... قِيلَ إنَّ السيفَ أمْضَى من العصَا وهذه الردود إنما هي بيان لشبهات ثُلة من الجهال ظنوا أنفسهم عقلاء بينما هم في الحقيقة لا يعرفون الفرق بين السيف والعصا، وإلا فالمسلم يكفيه أن يعلم أن هذا الحكم حكم الله فلا يَرُدّ على الله - سبحانه وتعالى - حكمه بل يسلم تسليمًا، كما قال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} (النساء: 65). وكما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} (الأحزاب: 36). وشريعة الله - سبحانه وتعالى - صالحة لكل زمان ومكان ويكفي أنها من عند الله، وهذا الأمر واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكن العالمانيين وأساتذتهم من اليهود والنصارى يتجاهلون هذه الحقيقة الواضحة؛ فهم كما قال المتنبي: وَلَيسَ يَصِحُّ في الأَفهامِ شَيءٌ ... إِذا اِحتاجَ النَهارُ إِلى دَليلِ وكانت هذه الردود حتى لا ينخدع السُذّج من المسلمين بباطل العَلَمانيين الذي يلبسونه ثوب الحق خداعًا وتمويهًا: إنّ الأفاعِي وإنْ لانَتْ ملامِسُها ... عندَ التقلّبِ في أنيابِها العطبُ

الشبهة الأولى: أنتم أعلم بأمر دنياكم: عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ فَقَالَ «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ». قَالَ فَخَرَجَ شِيصًا فَمَرَّ بِهِمْ فَقَالَ: «مَا لِنَخْلِكُمْ». قَالُوا: «قُلْتَ كَذَا وَكَذَا»، قَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ». (رواه مسلم). قصة هذا الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مَرَّ في المدينة على قوم يؤبرون النخل - أي يلقحونه - فقال: «لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ»، فامتنع القوم عن تلقيح النخل في ذلك العام ظنًا منهم أن ذلك من أمر الوحي، فلم ينتج النخل إلا شيصًا (أي بلحًا غير ملقح، وهو مُرٌّ لا يُؤْكَل)، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على هذه الصورة سأل عما حدث له، فقَالُوا: «قُلْتَ كَذَا وَكَذَا»، فقَالَ: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ». وفي صحيح مسلم أيضًا عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ فَقَالَ: «مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ». فَقَالُوا: يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِى الأُنْثَى فَيَلْقَحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا أَظُنُّ يُغْنِى ذَلِكَ شَيْئًا». قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ: «إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّى إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلاَ تُؤَاخِذُونِى بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّى لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ». الجواب: قصة الحديث واضحة الدلالة فيما تركه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - للناس من أمور يتصرفون فيها بمعرفتهم، لأنهم أعلم بها وأخبر بدقائقها، إنها المسائل العلمية الفنية التطبيقية التي تتناولها خبرة الناس في الأرض، منقطعة عن كل عقيدة أو تنظيم سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، وهي في الوقت ذاته تصلح للتطبيق مع كل عقيدة وكل تنظيم، لأنها ليست جزءًا من أي عقيدة أو أي تنظيم. بل إنها حقائق علمية مجردة عن وجود الإنسان ذاته بكل عقائده وكل تنظيماته. كحقيقة اتحاد الأكسجين والهيدروجين لتكوين الماء، وحقيقة انصهار الحديد في درجة

كذا مئوية. هي حقائق ليسن ناشئة عن وجود الإنسان. وإنما هي سابقة له، موجودة منذ وجدت هذه العناصر في الكون. وقصارى تدخل الإنسان فيها أن يكتشفها ويعرفها، ثم يستغلها لصالحه، ويطبقها في حياته العملية. وقصة النخل لا تخرج عن كونها حقيقة علمية اكتشفها الإنسان فطبقها في حياته العملية: حقيقة التلقيح والإخصاب في عالم النبات. وهي عملية لا يتم بدونها تكون الثمرة ونضجها على النحو المعروف. والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يقطع فيها برأي - كما هو ظاهر من الحديث - وإنما قال: «إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا» ولعل الشك الذي ساوره - صلى الله عليه وآله وسلم - قد جاء من اعتقاده بأن الله - عز وجل - لا بد أن يكون قد أودع فطرة الحياة ما تتم به عملياتها البيولوجية دون حاجة إلى تدخل الإنسان. هي إذن المسائل التكنيكية البحتة بتعبيرنا العلمي الحديث، المسائل التي يتحصل عليها المؤمنون والكفار سواء، ولا تؤثر بذاتها في عقيدة القلب أو اتجاه الشعور. ومع ذلك فإن فريقًا من الناس يريدون أن يفهموا منها غير ما قصده الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وحدده. يريدون أن يبسطوها حتى تشمل الحياة الدنيا كلها، بتشريعاتها وتطبيقاتها، باقتصادياتها واجتماعياتها، بسياساتها وتنظيماتها. فلا يدَعُون لدين الله - سبحانه وتعالى - ولا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مهمة غير «تنظيف القلب البشري وهدايته» بالمعنى الروحي الخالص، الذي لا شأن له بواقع الحياة اليومي، ولا شأن له بتنظيم المجتمع وسياسة الأمور فيه. ثم يسندون هذا اللون من التفكير للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويجعلونه هو - صلى الله عليه وآله وسلم - شاهدًا عليه!! ولكن قليلًا من النظر كان جديرًا أن يردهم إلى التفكير الصائب والتقدير الصحيح، ويرفع عنهم هذه الذِلة الفكرية التي يعانونها إزاء الغرب، فتلوي أفكارهم - بوعي أو بغير وعي - وتفسد مشاعرهم فينحرفون عن السبيل.

لو كان الإسلام رسالة روحية بالمعنى المفهوم لهذا اللفظ - المعنى الوجداني الخالص الذي لا شأن له بواقع الحياة اليومي - ففيم إذن كان هذا الحشد الهائل من التشريعات والتوجيهات في القرآن والحديث؟!! وفيم إذن يقول الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، ثم يعقب في نفس الآية بالتهديد للمخالفين: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. فيم هذا كله إذا كانت المسألة هي «تنظيف القلب» ليس غير؟! إن تنظيف القلب البشري مهمة ضخمة دون شك. مهمة تحتاج إلى رسول. وإنها - حين تنجح - هي الضمان الأول لسلامة الحياة كلها واستقامتها ونظافتها. فإن أخفقت، فلا ضمان! والإسلام يوجه لهذا القلب أكبر عناية يمكن أن يوجهها إليه نظام أو دين. فهو يربطه دائما بالله، ويوجهه دائمًا لخشيته وتقواه والعمل على رضاه. ثم هو يتتبع هذا القلب في كل نزعة من نزعاته، وكل ميل من ميوله، في الأعمال الظاهرة والمشاعر المستترة، في السر الذي يخفى على الناس ولا يخفى على الله، بل فيما هو أخفى من السر، من المشاعر الساربة في حنايا الضمير. يتتبعه في كل ذلك، عملًا عملًا وخاطرًا خاطرًا وفكرة فكرة، فينظفها بخشية الله، والحياء من رقابته الدائمة التي لايغيب عنها شيء في الأرض ولا في السماء، ويوجهه إلى صفحة الكون الواسعة، وما فيها من آيات الله - سبحانه وتعالى -، ليَمْسَح عنه الغلظة التي تحجر المشاعر، والغبش الذي يحجب عنه النور، ويطلقه من إسار الشهوات والضرورات التي تُثْقِله وتشده إلى الأرض، لينطلق خفيفًا صافيًا شفيفًا يسبح الله ويفرح بهداه. نعم، يبذل الإسلام ذلك الجهد الضخم كله «لتنظيف القلب»، ومن صميم مهمة الدين إذن في تنظيف القلب كانت هذه التشريعات وهذه التوجيهات التي تتناول الأسرة والمجتمع، وسياسة الحكم، وسياسة المال.

يستوي في ذلك التشريع الاقتصادي، والتشريع السياسي، والتشريع الجنائي، والتشريع المدني، والتشريع الدولي، والتوجيهات العديدة المتعلقة بكل هذه الشئون. ولم يكن الإسلام - وهو جاد في تناول الإنسان والحياة البشرية بالتنظيم والتنظيف - لِيغفل هذه الشئون الواقعية كلها، وينصرف إلى تهذيب الضمير في عالم المثل والأحلام. ولم يكن رسول الإسلام - صلى الله عليه وآله وسلم - ليتخلى عن مهمته الهائلة في ذلك الشأن، وينفض يديه منها، ويقول للناس: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»، أي تصرفوا أنتم في تشريعاتكم وتنظيماتكم، في سياسة المال وفي سياسة الحكم، في علاقات المجتمع، وفي القوانين التي تنظم الحياة. كلا! لم يكن ليفعل ذلك. ولو فعل فما أدى إذن رسالة الله. والله هو الذي يقول له في مجال التكليف: قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} (الجاثية: 18). الشبهة الثانية: أثر عمر - رضي الله عنه - في عدم قطع يد السارق في عام المجاعة: الجواب: هذا الأثر لم يثبت عن عمر - رضي الله عنه - فقد رواه ابن أبي شيبة في (المصنف 10/ 28) بإسناد فيه مجهولان كما قال الشيخ الألباني في (إرواء الغليل)، برقم (2428). وقد رواه ابن أبي شيبة (10/ 27)، وعبد الرزاق في (المصنف) برقم (18990) وفيه تدليس ابن جريج، وانقطاع بين يحيى بن أبي كثير وبين عمر؛ على أنه يدور على نفس السند الأول فإن الرجلين المجهولين هما الساقطان بين يحيى وبين عمر. ثم رواه عبد الرزاق برقم (18991) لكن فيه أبان، وهو ابن أبي عياش: ضعيف الحديث جدًا؛ فلا يُعْتَد بهذا الطريق، على أنها منقطعة بين أبان وبين عمر أيضًا!

والخلاصة: لم يصح هذا عن عمر؛ ولو صح فلا علاقة له بما يقوله أعداء الشريعة؛ لأن هذا ليس بإسقاط لحد؛ بل هو درءٌ لحد القطع بسبب الشبهة، وهي المجاعة ها هنا. حتى وإن صحت الروايه فإن عمر سدد خطاكم حين أسقط القطع عن السارق في عام المجاعة، لم يشرع عقوبة جديدة للسارق، وإنما رأى أن هناك شبهات تدرأ الحدّ؛ فإن السَنة إذا كانت سَنة مجاعة وشدة غلب على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسد به رمقه، وهذه شبهة قوية تدرأ القطع عن المحتاج. وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون ولا يتميز المستغنى منهم والسارق لغير حاجة من غيره فاشتبه من يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدُرِئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به وهو مستغن عن السرقة قُطِع» (¬1). فكل ما فعله الخليفة الراشد أنه أسقط الحد لقيام مانع أو عدم توافر شرط، ولذلك ذكر ابن القيم أنه إذا بان أن السارق لا حاجة به حتى في عام المجاعة، فلابد من إقامة الحد عليه، فأين هذا مما هو حادث الآن من التشريع من دون الله - عز وجل -؟! الشبهة الثالثة: قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)} (التوبة:60). فهل أبطل عمر سدد خطاكم سهم المؤلفة قلوبهم من مصارف الزكاة؟ ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (3/ 14 - 15).

الجواب: أولًا: لم أجد بعد بحثي القاصر مَن صحح هذه الرواية عن عمر سدد خطاكم، بل وجدت الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية قد ذكرها بصيغة التمريض التي توحي بضعف الرواية، فقال: «وهل تعطى المؤلفة على الإسلام بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فيه خلاف، فرُوِيَ عن عمر، وعامر الشعبي وجماعة: أنهم لا يُعطَون بعده؛ لأن الله قد أعز الإسلام وأهله، ومَكَّن لهم في البلاد، وأذل لهم رقاب العباد. وقال آخرون: بل يُعطَون؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هَوازن، وهذا أمر قد يُحْتَاجُ إليه فيصرف إليهم. ثانيًا: هل أبطل عمر سدد خطاكم شرع الله؟ أم إنه نظر في دواعي التطبيق، فوجد - باجتهاده - أن الداعي لتأليف القلوب لم يَعُدْ قائمًا بعد أن أعز الله - عز وجل - الإسلام، فلم يَعْدْ لهذا السهم باب للإنفاق فيه في تلك الحالة، وهي عزة الإسلام، ودخول الناس فيه طواعية أو خضوعًا للغالب المنتصر، وفي كلتا الحالتين لا يحتاج الأمر إلى تأليف القلوب، فالذي دخل طواعية مؤمن صادق قد استقر الإيمان في قلبه، والذي دخل خضوعًا للغالب المنتصر قد وجد السبب الذي يدعوه للإسلام فدخل فيه استجابة لذلك السبب، وهو كافٍ عنده للدخول فيه. لو قال عمر سدد خطاكم: إن هناك من نحتاج إلى تأليف قلبه للإسلام، لأن الإسلام لم يتمكن في الأرض بعد، ولكني أرى مع ذلك ألا أنفق هذا السهم من الزكاة لتأليف القلوب. لو قال ذلك - وحاشا لعمر المؤمن التَقِيّ أن يقوله - لَوَقَعَتْ عندئذ المخالفة التي لا تُقْبَل من عمر ولا غير عمر، لأنها تكون عندئذ تغييرًا وتبديلًا في شرع الله. أما قيام حالة لا يكون النص منطبقًا فيها، فلا يطبق النص لعدم انطباقه على الحالة القائمة، فتصرُفٌ أبعد ما يكون عن التغيير أو التبديل في شرع الله. ونأخذ مثالًا من حالة أخرى للتوضيح.

يقول يحيى بن سعيد: «بعثني عمر بن عبد العزيز على صدقات إفريقية فاقتضَيْتُها، فطلبْتُ فقراء أعطيها لهم فلم أجد، فقد أغنى عمر بن عبد العزيز الناس. فاشتريت بها رقيقًا فأعتقْتُهم». فهل نقول إن عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أبطل الشريعة أو عدَّل فيها لأنه لم ينفق سهم الفقراء من أموال الزكاة؟ أم نقول إنه وجدت حالة لم ينطبق فيها النص فلم يطبق؟ وكذلك تصرف عمر بن الخطاب سدد خطاكم، سواء في عدم تطبيق حد السرقة عام الرمادة، أو وقف إنفاق السهم الخاص بالمؤلفة قلوبهم من أموال الزكاة. فأين من هذا دعوة الداعين إلى إعطاء (أولياء الأمور) حق إبطال الشريعة بكاملها والاستعاضة عنها بالشرائع الجاهلية بحجة عدم مناسبة الأحوال؟! إن (ولي الأمر) في الإسلام يكون شرط تَوْلِيَتِه، الذي يعطيه شرعية تولي الأمر، والذي بدونه لا تكون له شرعية، هذه الشرط هو تطبيق شريعة الله - عز وجل -، فكيف يكون من حقه إبطال شرط توليته ومصدر شرعيته؟! وولي الأمر له على رعيته حق السمع والطاعة، ولكن في حدود طاعته هو لله ورسوله، فإن عصى الله ورسوله - بتعطيل شيء من شرع الله - فلا طاعة له على الناس. ثم كيف يتصور أحد حين يخرج ولي الأمر عن طاعة الله ورسوله بإبطال شريعة الله، يكون له حق السمع والطاعة على رعيته، ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقرر أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق - سبحانه وتعالى -؟ وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ» (رواه البخاري ومسلم). فليس لولي الأمر أن يتصرف في الشريعة بالإبطال أو التعديل أو الاستبدال؛ لأن هذا الحق ليس لأحد على الإطلاق، لا الحاكم ولا المحكوم. ولا يوجد سبب واحد في الأرض يبرر لولي الأمر أن يفعل ذلك. لا الله أذِنَ له، ولا السوابق التي يتصيدونها من تصرفات عمر سدد خطاكم – إن صحت عنه - تؤيدهم فيما يذهبون إليه. ومحك الإيمان،

الذي بينه الله في كتابه المنزل هو التحاكم إلى شرع الله أو الإعراض عنه؛ قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)} (النور: 46 – 50). فهؤلاء يقولون: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا}، ثم يزيدون على ذلك فيزعمون أنهم مطيعون لله ورسوله، والله يقول عنهم {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} فينفي عنهم ما زعموه من دعوى الإيمان، ويبين أن السبب في نفي الإيمان عنهم أنهم إذا دُعُوا إلى شريعة الله أعرضوا عنها، إلا حين يكون لهم مصلحة ذاتية في تطبيقها! {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} ويبين تعالى موقف المؤمنين الحقيقيين إذا دعوا إلى شريعة الله فإنهم على الفور يقولون سمعنا وأطعنا، بصرف النظر عما يصيب ذواتهم من تطبيقها، إنما هي الطاعة المطلقة لله ورسوله، هي صفة المؤمنين، وهي سبيل الفلاح في الدنيا والآخرة. قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)} (النور: 51). والخلاصة أن عمر بن الخطاب ما أسقط سهم المؤلفة قلوبهم وما كان في استطاعته أن يسقط نصًّا قرآنيًّا، ولكن عمر منع إعطاء أناس كانوا يأخذون في عهد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وعهد الصديق سدد خطاكم كالزبرقان بن بدر وغيره، فهو ما اعتبر إعطاءهم حقهما مكتسبًا، بل اعتبر مثل هذا العطاء موقوفًا بحال الشخص وحال المسلمين. وقد يقول: ولكنه لم يعط غيره، ونقول: إنه رأى أنه لا موضع لتطبيق النص؛ لعدم حاجة المسلمين إليه، ومثل ذلك سهم المَدِينِين، فهل يُعَدّ إسقاطًا للسهم إذا لم

يجد مدينًا يُسَدّ عنه، وكذلك سهم الرقاب فهل يعد إسقاطًا للسهم إذا لم يوجد عبد مسلم يُعْتَق. فعمر سدد خطاكم استغنى في زمنه عن إعطاء المؤلفة قلوبهم فترك ذلك لعدم الحاجة إليه لا لنسخه كما لو فُرض أنه عُدم في بعض الأوقات ابن السبيل، والغارم ونحو ذلك. الشبهة الرابعة: من الشبهات التي يعترض بها البعض أن القول بإسلامية الدولة يعني عدم إمكانية سؤال الحاكم أو محاسبته فيقولون: كَوْن الدولة إسلامية أو شرعية أو دينية يمنع من نقد الحكام عند وقوعهم في الخطأ، ويجعلهم في مكانة عالية لا يقدر أحد على حسابهم، إذ كل ما يقولونه فهو تعبير عن الإرادة الإلهية. الجواب: أنتم تتحدثون عن دين غير دين الإسلام، وإلا فَأْتُوا لنا بآية أو حديث يدل على هذا الزعم، أو يمكن أن يستفاد منه هذا الزعم، ثم هذا تاريخ المسلمين مَنْ مِن الحكام ادعى هذه المنزلة؟ ومَنْ مِن أهل العلم قال بشيء مثل ذلك؟ وأمامكم سِيَرُ الخلفاء حيث كانت رعيتهم تنصحهم وتنتقد عليهم ما يرونه خطأ من تصرفاتهم، والأمثلة كثيرة وهي معلومة لكثير من الناس ومعلومة لكم أيضا، بل حتى في أشد المواقف حُلكة كان الناس يراجعون ولاة أمورهم أو يعترضون عليهم، فهذا أبو بكر - رضي الله عنه - عندما أراد قتال مانعي الزكاة، بعد وفاة الرسول - رضي الله عنه - عارضه عمر - رضي الله عنه -، فلم يمنعه أبو بكر من ذلك، بل بَيَّن له بالدليل صواب موقفه، حتى اقتنع عمر - رضي الله عنهما - بذلك. ولو قُدِّر أن هناك أحدًا من الولاة منع من ذلك لَعُدَّ عند الناس ظالمًا مما يعني أن الثقافة الشعبية لا تقبل مثل هذا الادعاء.

الشبهة الخامسة: من الشبهات أن الدولة الإسلامية أو الشرعية أو الدينية يترتب عليها ظلم المخالفين في الدين. الجواب: هذا مجرد ادعاء عارٍ عن الدليل كما أن التاريخ والسيرة العملية التي درج عليها المسلمون في تعاملهم مع المقيمين بينهم من أهل الديانات المغايرة لدين الإسلام، تدحض ذلك. أما إذا كانت هناك حالات فردية يقع فيها بعض الناس في ذلك، فلا يَسْلَم مِن ذلك أحد سواء في معاملته مع هو من أهل دينه أو مع من يختلف معه، وإنما الشأن أن يكون النظام العام هو الذي يشرع ذلك أو يقبله. الشبهة السادسة: من الشبهات: أن يقال أن الدولة الإسلامية أو الدينية تحمل المخالفين على تغيير دينهم: وهذا أيضًا ادعاء لا يعضده نصوص شرعية أو واقع تاريخي، والغريب أن هؤلاء الذين أهمهم هذا الأمر، لم يهمهم أمر الأمة كلها، فهم من أجل ألا يحمل المخالفون على تغيير دينهم بزعمهم، يطالبون الأمة بأن تتخلى عن التمسك بدينها في السياسة والاقتصاد والقضاء والمعاملات، والرجوع في ذلك كله إلى عقول الناس وخبرتهم. وهذا من أغرب أنواع الظلم؛ إذ بزعم العدل مع المقيمين من غير المسلمين في بلاد المسلمين، يُظلم المسلمون أنفسهم في بلادهم، وهل هناك ظلم أشد من أن يُحمل المسلمون على ترك الكثير من أمور دينهم.

70 - شبهات حول تطبيق الشريعة

70 - شبهات داحضة حول تطبيق الشريعة الشبهة السابعة: أن العقوبات الشرعية تتسم بالقسوة والهمجية التي تبعث على الاشمئزاز ولا تتناسب وروح هذا العصر، وإنسانيته، وحمايته لحقوق الإنسان وكرامته. الجواب: هذه شبهة داحضة من وجوه: أولًا: أن العقوبة ليست مكافأة على عمل مبرور، وإنما هي جزاء مقرر على ارتكاب جريمة، يقصد به الإيلام والردع، وإذا لم تكن العقوبة مؤلمة؛ فليس لتطبيقها أي أثر في الزجر والردع. حتى تأديب الرجل ولده؛ لا بد أن يكون فيه شيء من الإيلام والقسوة، ليتأتى تأديبه وإصلاحه. وقديمًا قال الشاعر الحكيم: فقسا ليزدجروا، ومَنْ يَكُ حازمًا ... فليَقْسُ أحيانًا على مَنْ يرحمُ ولا شك أن الإنسان يتمنى ألا توجد في المجتمع جريمة أبدًا، حتى لا توجد عقوبات أصلًا؛ بحيث يفهم كل فرد ما له فيقتصر عليه، وما عليه فيؤديه عن طواعية واختيار. ولكن هذا حُلم لا يمكن أن يتحقق، ورغبة خيالية تصطدم بالواقع المعاش. فهناك نفوس جاهلة حمقاء لا تلتزم بما لها وما عليها، ونفوس شريرة ظالمة قد تأصّل فيها الإجرام والإفساد، وسعت للإضرار بالآخرين وبخسهم حقوقهم. والحياة لا يمكن أن تستقيم وتنتظم إلا بالالتزام، واحترام حقوق الآخرين، وعدم المضارة بهم. فمن خرج عن هذا الالتزام، وسعى للإضرار بنفسه وبغيره، كان ردعه واجبًا عقلًا وشرعًا، ولا ردع إلا بقسوة وإيلام. واسم العقوبة مشتق من العقاب، ولا يكون العقاب عقابًا إذا كان موسومًا بالرخاوة والضعف.

فعنصر القسوة - إذًا - يمثل الركن الأساسي لمعنى العقوبة، فلو فُقدت القسوة فُقدت معها العقوبة بدون شك. ولكن ما هي الدرجة التي يجب أن تقف عندها قسوة العقوبة على جريمة ما؟ إن الذي يحدد هذه الدرجة هو تصور مدى خطورة الجريمة التي استلزمتها؛ أي أن القسوة يجب أن تكون ملائمة للجريمة، فتزيد بزيادة خطورتها وشدة آثارها، وتنقص بنقص ذلك. وهذه الحقيقة محل وفاق عند جميع المشتغلين بالتشريع والتقنين، مهما اختلفوا في تحليل فلسفة العقاب. وإن اختلاف القوانين العقابية الوضعية أكبر شاهد على ذلك. فإذا كان في الناس من يصف العقوبات الشرعية بقسوة زائدة على مقتضى هذه القاعدة التي لا خلاف فيها؛ فسبب ذلك أنهم يخطئون في تقويم خطورة الجرائم التي رتبت عليها هذه العقوبات، دون أن يعتبروا في ذلك نظرة المشرِّع لها، وتقويمه لخطورتها. والعجيب أن خصوم الشريعة الإسلامية يدركون هذه الحقيقة، ويفقهون هذا المعنى، عندما يكون البحث متعلقًا بقانون من القوانين الوضعية. فرُبَّ كلمة لا نرى بها بأسًا، يتفوه بها فرد من رعايا دولة تطبق قانونًا وضعيًا؛ تواجهه بسببها عقوبة الإعدام. ورُبَّ فاحشة عظمى يجب مكافحتها، تشيع بين رعايا تلك الدولة؛ فلا يُؤْبَهُ بها، ولا يلتفت إليها بأي نقد أو استنكار! وليس أيسر على خصوم الشريعة الإسلامية من أن يدافعوا عن كلا المذهبين؛ بأن كل أمة إنما تسن قوانينها حسب مبادئها وفلسفتها التي تنظر بها إلى الإنسان والكون والحياة. أفيحق لكل أمة أن تسن ما تشاء من قوانين الردع والزجر، حسب نظرتها إلى الكون والإنسان والحياة - خطأ كانت النظرة أم صوابًا -، ثم لا يحق لخالق الكون والإنسان والحياة أن يشرع هو الآخر قوانين الردع والزجر بما يتفق مع مقاصد شريعته، ويتسق مع نظام كونه، ويحقق مصالح عباده؟!!

والحكمة في تغليظ العقوبات الشرعية التي توصف بالوحشية والهمجية، من قتل القاتل، ورجم الزاني، وقطع السارق، وغيرها من العقوبات المقدرة؛ ظاهرة جلية؛ فإن هذه الجرائم هي أمهات المفاسد، وكل واحدة منها تتضمن اعتداء على واحدة أو أكثر من المصالح الخمس الكبرى، والتي أجمعت الشرائع والعقلاء في كل زمان على وجوب حفظها وصيانتها؛ لأنها لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونها. ولأجل هذا كان المرتكب لشيء منها جديرًا بأن تغلّظ عليه العقوبة، حتى تكون زاجرة له، ورادعة لغيره. وها هي ذي الجرائم الكبرى تعصف بكثير من الدول التي لا تطبق الشريعة الإسلامية، مع كل ما توفر لها من إمكانيات وقدرات، وتقدم مادي وتقني، وأجهزة أمنية وإدارية واستخبارية. ثانيًا: أن هؤلاء الطاعنين في هذه العقوبات قد اعتبروا مصلحة المجرم، ونسوا مصلحة المجتمع، وأشفقوا على الجاني، وأهملوا الضحية، واستكثروا العقوبة، وغفلوا عن قسوة الجريمة. ولو أنهم قرنوا العقوبة بالجريمة، ولاحظوا الاثنتين معًا، لخرجوا موقنين بالعدالة في العقوبات الشرعية، ومساواتها لجرائمها. فإذا استحضرنا مثلًا فعل السارق وهو يسير في جنح الظلام متخفيًا، ينقب الجدار، ويكسر القفل، ويُشهر السلاح، ويروّع الآمنين، هاتكًا حرمة البيوت، وعازمًا على قَتْلِ مَن يقاومه، وكثيرًا ما تقع جريمة القتل كوسيلة يتذرع بها السارق إلى إتمام سرقته، أو الفرار من تبعاتها فيقتل من غير تمييز. وإذا تصورنا حالة النساء والأطفال في البيت وهم يستيقظون ويفتحون أعينهم على وجه السارق المرعب الشرس، وهو شاهرٌ سلاحَه يهدد من يواجهه. وتصورنا ما يُحدثه فعل السارق من قلق عند الناس جميعًا، وتعطيل لحركتهم، وبث للرعب في نفوسهم، وإذهاب لطاقاتهم في حماية أموالهم، وتأمينها بالمغاليق والأقفال؛ لأن السارق يبغي المال، وهو موجود عندهم جميعًا، فهم معَرّضون لإجرامه

دون تمييز. لو تصورنا هذا أو بعضه مما يحدثه فعل السارق، ثم قارناه بقطع يده الآثمة الظالمة؛ لَمَا قلنا عن عقوبته: إنها قاسية ظالمة. وهكذا الشأن في بقية العقوبات، علينا أن نستحضر جرائمها، وما فيها من أخطار وأضرار، وظلم واعتداء، حتى نستيقن أن الله تعالى قد شرع لكل جريمة ما يناسبها، وجعل الجزاء من جنس العمل، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} (فصلت: 46). ثالثًا: أن الله تعالى أراد للناس أن يعيشوا آمنين مطمئنين، ولن يتيسر لهم ذلك إلا ببتر الفاسدين وقطع دابرهم. وهذه سنة الله في خلقه: فإن الإنسان إذا كان فيه عضو فاسد، لا علاج له إلا بقطعه كله أو بعضه، فلا مناص من الإقدام على ذلك. وهذا الطبيب الذي يستأصل بمبضعه المرهف هذا العضو الفاسد من جسم أخيه؛ أليس ضربه المبضع في لحمه، وقطعه الجزء الفاسد من جسمه مظهرًا من مظاهر القسوة؟! ولكن هذه القسوة هي عين الحكمة والرحمة والمصلحة، بخاصة إذا قيست بما يترتب على تركها من هلاك وتلف، وما ينشأ عنها من آلام وأوجاع تفوق مصلحة بقائها. والمجتمع هو الجسم كله، وما الفرد الفاسد إلا عضو من أعضائه. فهي تحفظ للمجتمع حقه، ولا تضحي به في سبيل الأفراد الخارجين عليه. والعقوبة التي تحابي هؤلاء الأفراد على حساب الجماعة؛ إنما تضيع مصلحة الفرد والجماعة معًا؛ لأنها تؤدي إلى ازدياد الجرائم واختلال الأمن، وانحلال المجتمع، وإذا دبَّ الانحلال في مجتمع، فقُلْ على الأفراد وعلى المجتمع العفاء. قال عز الدين بن عبد السلام: «وربما كانت أسباب المصالح مفاسد، فيؤمر بها أو تباح؛ لا لكونها مفاسد، بل لكونها مؤدية إلى المصالح، وذلك كقطع الأيدي المتآكلة حفظًا للأرواح، وكالمخاطرة بالأرواح في الجهاد. وكذلك العقوبات الشرعية كلها ليست مطلوبة لكونها مفاسد، بل لأدائها إلى المصالح المقصودة من شرعها، كقطع

السارق، وقطّاع الطريق، وقتل الجناة، ورجم الزناة وجلدهم وتغريبهم، وكذلك التعزيرات، كل هذه مفاسد أوجبها الشرع لتحصيل ما رتب عليها من المصالح الحقيقية» (¬1). رابعًا: أن الإسلام قبل أن يستأصل هؤلاء المجرمين، ويقرر عليهم العقوبات الرادعة؛ قد أعذر إليهم: حيث قدم لهم من وسائل التربية والوقاية ما كان يكفي لإبعادهم عن الجريمة التي اقترفوها؛ لو كانت لهم قلوب تعقل، أو نفوس ترحم. ثم إنه لا يطبقها أبدًا حتى يضمن أن الفرد الذي ارتكب الجريمة قد ارتكبها دون مسوّغ ولا شبهة اضطرار. فوقوعه فيها بعد كل هذا دليل على فساده وشذوذه، واستحقاقه للعقوبات الرادعة المؤلمة. فهو مثلًا لا يقطع يد السارق إلا بعد توفير الوسائل التي تمنع من السرقة، فقد عمل على توزيع الثروة توزيعًا عادلًا، وجعل في أموال الأغنياء حقًا معلومًا للفقراء، وأوجب النفقة على الزوج والأقارب، وأمر بإكرام الضيف والإحسان إلى الجار، وجعل الدولة مسؤولة عن كفالة أفرادها بتوفير تمام الكفاية لهم في الحاجات الضرورية من مطعم وملبس ومسكن وغيرها، بحيث يعيشون حياة لائقة كريمة. كما أنها تكفل أفرادها بفتح أبواب العمل الكريم لمن يستطيعه، وتمكين كل قادر من أن يعمل بمقدار طاقته، وتهيئة الفرص المتساوية للجميع. وبذلك يمنع الإسلام الدوافع المعقولة للسرقة، فإن وقعت بعد ذلك؛ فإنه يتحقق من ثبوتها، وانتفاء موانعها، وعدم وجود شبهة تسقطها، كأن يرتكبها بدافع الحاجة والاضطرار. ¬

_ (¬1) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ص 35 - 36.

وهو يعترف بقوة الدافع الجنسي، وعنف إلحاحه على البشر، ولكنه يعمل على إشباع هذا الدافع بالطريق المشروع: طريق الزواج، فيدعو إلى الزواج المبكر، ويعين العاجز عن تكاليفه المادية بوسائل كثيرة، من الزكاة والصدقات، والنفقة، وبيت المال. كما أنه يحرص على تنظيف المجتمع من كل وسائل الإغراء والإثارة التي تؤجج الغريزة، وتحرك كوامن الشهوة. كما أنه يأمر بغض البصر، وحفظ الفرج، والاستعفاف، ومجاهدة النفس والتسامي بها. ويحرص كذلك على شغل أوقات الفراغ، واستنفاد الطاقة الحيوية الفائضة بالتقرب إلى الله، والمسارعة إلى الخير، وفعل كل ما من شأنه أن يحقق لصاحبه النفع في الدنيا والآخرة. وبذلك كله يمنع الدوافع التي تسوِّغ الجريمة. ثم إذا وقعت فإنه يحتاط احتياطًا شديدًا في إثباتها، فلا يقيمها إلا على مَنْ أقَرّ بها إقرارًا صريحًا أربع مرات، وطلب تطهيره بالحد، ولم يتراجع عن إقراره حتى تنفيذ الحد عليه، أو يكون قد تبجح بارتكابها، حتى يراه أربعة شهود وهو على هذه الحال. وهكذا شأن الإسلام في بقية العقوبات، يعمل على وقاية المجتمع أولًا من دوافع الجريمة، ثم يدرأ الحدود بالشبهات زيادة في الاحتياط. فليست العقوبة هي الوسيلة الأولى أو الوحيدة للإصلاح والتقويم، ولكن حين يأتي دورها في التطبيق، فإنها تمثل مواجهة حاسمة للظاهرة الإجرامية. فهل يبقى بعد ذلك مجال للطعن في عدالة هذه العقوبات ومناسبتها؟!! خامسًا: أن الغاية الكبرى من هذه العقوبات هو التخويف والردع الذي يمنع وقوعها ابتداء، ولا يُحْوِج إلى اللجوء إليها إلا في أضيق الحدود؛ فإن هؤلاء الذين يشنعون بهذه العقوبات يتصورون خطًا أنها كالعقوبات الوضعية، ستطبق كل يوم، وعلى أعداد غفيرة من الناس، فيتصورون في المجتمع الإسلامي مجزرة هائلة: هذا يُجلد، وهذا يُقطع، وهذا يُرجم.

ولكن الواقع أن هذه العقوبات الرادعة؛ لا تكاد تنفذ إلا في نطاق محدود، وعلى أعداد يسيرة غارقة في الفساد، ومتأصلة في الشر والإفساد، وفي إيذاء الأمة، وزعزعة أمنها واستقرارها. الشبهة الثامنة: العقوبات الشرعية قديمة وجامدة قد عفّى عليها الزمان، وتجاوزتها الحضارة، ولم تعد ملائمة لهذا العصر، عصر التقدم والمدنية، والتحضر التقني والصناعي. فالأخذ بها تقهقر للإنسانية الراقية، ورجعة بها إلى عهود الظلام الدامس، والقرون الوسطى. ولئن كانت هذه العقوبات صالحة للبيئة البدوية التي نزل فيها القرآن، ومناسبة لأولئك الحفاة الجفاة من الأعراب قبل ألف وأربعمائة عام؛ فإنها لا تصلح للعالم المتحضر الحديث، ولا تناسب المتحضرين المتمدينين في القرن العشرين، وكيف يليق بهم أن يخضعوا لقانون نشأ بين جبال مكة والمدينة، وجلاميد الصحراء، وأحراش الجزيرة. الجواب: هذا قول متهافت ساقط من وجوه: 1 - أن العاقل المنصف لا يزن الأحكام والتشريعات بالزمان الذي صدرت فيه أو نُقلت منه، ولا بالبقعة التي جاءت منها أو كانت فيها، ولكن الميزان الذي تُقَوّم به هو مدى صلاحيتها، وتحقيقها للغاية المبتغاة منها. فالعاقل نصير الحق، وناشد الحكمة أنَّى وجدها، ومن أي شخص جاء بها، وفي أي زمان أو مكان وقعت فيه. وهو عدو الباطل، بصرف النظر عن مصدره وعن زمانه ومكانه، ومن دعا إليه وعمل به. وعليه؛ فليس كل قديم مردودًا، ولا كل جديد مقبولًا، ولا كل ما نشأ في البادية فاسدًا، ولا كل ما نشأ في الحضر صالحًا.

2 - أن مصدر هذا التشريع ليس بقعة من بقاع الأرض، ولا اجتهادًا بشريًا قاصرًا، وإنما هو شريعة الله التي أنزلها هدى ورحمة للعالمين. فهو لم ينبع من أرض عربية أو أعجمية، ولا اخترعته أدمغة بشرية، وإنما هو حكم الله الذي أوحى به إلى عبده ورسوله محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ليبلغه للناس، وليحملهم تبعة تطبيقه والعمل به. 3 - أن تعلق هؤلاء بالجديد ونبذهم للقديم؛ ليس مبنيًا على منطق عقلي سليم وإنما هو استجابة لوهم من الأوهام النفسية التي تتعلق بالجديد أيًا كان نوعه، ظنًا منها بأنه لا يزال يحتفظ بذخره ومكنون خيراته، وتعاف القديم مهما كان نوعه أيضًا لتبرمها به وتوهمها بأن الزمن قد استحلب خيراته، وقضى على فوائده، وأن العقل البشري لا بد أن يكون قد تجاوزه إلى ما هو أجدى وأنفع. ولا يجوز لعاقل يحترم عقله أن يستجيب لهذه الإيحاءات النفسية الخاطئة، ويلغي ما يقتضيه العقل السليم، والمنطق الصحيح. ولئن كانت النفس البشرية تخيل لصاحبها أن القديم قد زال نفعه، وجنيت ثماره، فإن العقل السديد يقرر أن قيمة كل قديم وجديد بجدواه وآثاره، وتحقيقه للثمرة المرجوة منه. ورُبّ جديد كان مبعث شقاء ودمار على الإنسان، ورب قديم شهد له العقلاء، والتاريخ الغابر، والواقع المعاصر، على أنه كان ولا يزال مصدر خير وسعادة لكل من ظفر به. ولقد علم كل إنسان أن مقومات الحياة في هذه الدنيا، من شمس وهواء، وأرض وماء، وزرع وضرع؛ لم يُخْلِقْها تعاقب الزمان، وكَرُّ الليالي والأيام! فهل قاطع أصحاب النفوس التي تشمئز من القديم هذه المقومات الأساسية لقِدَمِها؟ وهل تحولوا ساعة عن التعامل معها؟

والعقوبات المقدرة في الشريعة؛ إنما هي عقوبات على جرائم ثابتة لا يتبدل وجه المفسدة فيها مهما اختلفت الأزمان والأماكن، وتطورت الحياة والنظم. ولهذا فإنها لا تزال صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان. 4 - أن هذه الشبهة جاءت من قياس العقوبات الشرعية على العقوبات الوضعية التي تتطور مع الزمن، ويحصل فيها التغيير والتبديل بين الحين والحين، تلافيًا لما فيها من الأخطاء، وتحقيقًا لما هو أجدى وأكمل. فقالوا إنه ما دامت القوانين تُلغى أو تُعدل؛ فلم لا نفعل مثل ذلك في العقوبات الشرعية؟!! وهذه نظرة خاطئة إلى الشريعة الإسلامية، ومكمن الخطأ فيها قياس شريعة الله - سبحانه وتعالى - العادلة المحكمة، على الاجتهادات البشرية القاصرة التي تتأثر بما حولها من مؤثرات شخصية أو اجتماعية أو بيئية، أو غيرها. 5 - أن تحقيق هذه العقوبات الشرعية للأمن، وحمايتها لمصالح الناس، ومكافحتها للجرائم، على مدى القرون الماضية التي طبقت فيها، مع اختلاف البيئات والثقافات والأجناس؛ دليل على أنها تشريع من حكيم خبير، وأنه لا يمكن أن يقوم غيرُها مقامها، ولا أن يحقق الثمرة التي تتحقق من خلالها. الشبهة التاسعة: شبهة في قالب شعري: قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة: 38). هناك قصة تناقلها أهل التاريخ والأدب، والله أعلم بصحتها حتى لا نتهم أحدًا بما هو منه بريء، فلم ترد بسندٍ صحيح، ولكن نذْكُرُها لنأخذ منها العبرة بغض النظر عن أشخاصها، فقد رُوِيَ أن أبا العلاء المعري، (أو آخر يحمل نفس اللقب، الله أعلم) سأل: «كم دية اليد؟»، فقالوا: «ديتها خمسمائة دينار من الذهب»، فقال: «في كم تُقْطع؟»، فقالوا: «إذا سرقت ربع دينار قُطِعَت». فقال:

يَدٌ بخمْسِ مِئِينٍ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ (¬1) ... ما بالُهَا قُطعَتْ في رُبْعِ دينار تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له ... ونستعيذُ بمولانا من النار وهو بكلامه هذا يعترض على الله وكتابه، وقد رد عليه عبد الوهاب المالكي - رحمه الله - فقال: قُل للمعري عارٌ أيُّما عارِ جهْلُ ... الفتَى وهو عن ثوبِ التُقَى عاري لا تَقْدَحَنَّ بنودَ الشرعِ عنْ شُبَهٍ ... شعائرُ الدينِ لم تُقْدَح بأشعار يَدٌ بخمسِ مِئِينٍ عَسْجَدٍ وُدِيَتْ ... ما بالُهَا قُطعَتْ في رُبْعِ دينار عِزُّ الأمانةِ أغْلاها وأرخَصَها ... ذُلُّ الخيانةِ فافْهَمْ حكمةَ البارِي ¬

_ (¬1) أي ديتها خمسمائة دينار من الذهب.

71 - الاختلاط بين الرجال والنساء

71 - الاختلاط بين الرجال والنساء (¬1) لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ: الحمد لله العليم بخلقه، القائل في محكم كتابه: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (الملك: 14)، الرحيم بهم، ومن رحمته أنزل شريعته ناصحة لهم، ومُصلحة لمفاسدهم، ومُقوّمة لاعوجاجهم، ومن ذلك ما شرع من التدابير الوقائية، والإجراءات العلاجية التي تقطع دابر الفتنة بين الرجال والنساء، وتُعين على اجتناب المُوبقات رحمةً بهم، وصيانة لأعراضهم، وحماية لهم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وبيَّن لهم أن غايةَ الشيطان في هذا الباب أن يُوقع النوعين في حضيض الفحشاء!! لكنه يسلك في تزيينها، والإغراء بها مسلك التدرج , عن طريق خطوات يقود بعضها إلى بعض، وتُسلم الواحدة منها إلى الأخرى، وهي المعنيَّة بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (النور: 21). والصلاة والسلام على الصادق الأمين , المبعوث رحمةً للعالمين ـ القائل: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» (رواه البخاري ومسلم). والقائل: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِى النِّسَاءِ» (رواه البخاري ومسلم). ¬

_ (¬1) بتصرف من كتاب (الاختلاط بين الرجال والنساء، أحكام وفتاوى، ثمار مرة وقصص مخزية، كشف 136 شبهة لدعاة الاختلاط) للمؤلف.

والذي حذرنا من خطوات الشيطان إلى إشاعة الفساد , خصوصًا ما أضلَّ به كثيرًا من العباد من تزيين التبرج، وإشاعة الفاحشة، وإطلاق البصر إلى ما حرَّم الله، ومصافحة النساء الأجنبيات، وسفر المرأة بدون مَحرَم، وخروجها متطيبة متعطرة , وخضوعها بالقول للرجال، وخلوتها بهم واختلاطها معهم. قال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)}. (النساء: 27).وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)}. (النور: 19). قال الشاعر: لا تَأْمَنَنَّ على النساءِ ولو أخًا ... ما في الِرجالِ على النساءِ أمينُ إنَّ الأمِينَ وإنْ تَعَفَّفَ جهْدَهُ ... لابُدَّ أنْ بِنَظْرَةٍ سَيَخُونُ الْقَبْرُ أوْفَي مَن وَثِقْتَ بعَهْدِهِ ... ما للنساءِ سِوَى الْقُبُورِ حُصونُ ويقول البروفيسور الألماني (يودفو ليفيلتز) كبير علماء الجنس في جامعة برلين في إحدى دراساته الجنسية بأنه درس علوم الجنس وأدوار الجنس وأدوية الجنس فلم يجد علاجًا أنجح ولا أنجع من قول الكتاب الذي نُزِّل على محمد: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}، {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور: 30 - 31). فتاةُ اليومِ ضيَّعتِ الصوابَا ... وألقَتْ عن مفاتِنِها الحجابَا فلنْ تخشَى حياءً مِن رقيبٍ ... ولم تخْشَ من الله الحسابَا بِرَبِّكِ هلْ سألتِ العقلَ يومًا ... أهذَا طبْعُ مَن رامَ الصوابَا أهذَا طبْعُ طالبةٍ لعِلْمٍ إلَى ... الإسلامِ تنتسِبُ انتِسابَا

ما كانَ التقدمُ صبْغُ وجْهٍ ... وما كانَ السفورُ إليه بابَا شبابُ اليومِ يا أختِي ذئابٌ ... وطبعُ الحَملِِ أن يخشَ الذئابَا قرار المرأة في بيتها هو الأصل: إن قرار المرأة في بيتها هو الأصل، فهو عزيمة شرعية في حقهن، وخروجهن من البيوت رخصة لا تكون إلا لضرورة أو حاجة، بضوابط الخروج الشرعية؛ قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب: 33). فقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ليس مقصورًا على نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو قول جمهور المفسرين منهم: 1 - القرطبي - رحمه الله -، قال: «مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة الْأَمْر بِلُزُومِ الْبَيْت , وَإِنْ كَانَ الْخِطَاب لِنِسَاءِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَدْ دَخَلَ غَيْرهنَّ فِيهِ بِالْمَعْنَى. هَذَا لَوْ لَمْ يَرِد دَلِيل يَخُصّ جَمِيع النِّسَاء , كَيْف وَالشَّرِيعَة طَافِحَة بِلُزُومِ النِّسَاء بُيُوتهنَّ , وَالِانْكِفَاف عَنْ الْخُرُوج مِنْهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ» (¬1). 2 - ابن كثير - رحمه الله -، قال في تفسيره لهذه الآية: «هذه آداب أمر الله - تعالى - بها نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونساء الأمة تبعٌ لهن في ذلك» (¬2). 3 - العلامة الآلوسي البغدادي - رحمه الله -، قال: «والمراد - على جميع القراءات - أمرهن - رضي الله عنهن - بملازمة البيوت، وهو أمر مطلوب من معاشر النساء» (¬3). ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (14/ 178). (¬2) تفسير ابن كثير (3/ 482). (¬3) روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني (22/ 6).

4 - الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي الديار المصرية السابق، وعضو جماعة كبار العلماء بالأزهر الشريف - رحمه الله -، قال في تفسيره لقوله - عز وجل -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}: «الزمنها! فلا تخرجن لغير حاجة مشروعة، ومثلهن في ذلك سائر نساء المؤمنين» (¬1). ومن نظر في آيات القرآن الكريم، وجد أن البيوت مضافة إلى النساء في ثلاث آيات من كتاب الله تعالى، مع أن البيوت للأزواج أو لأوليائهن، وإنما حصلت هذه الإضافة - والله أعلم - مراعاةً لاستمرار لزوم النساء للبيوت، فهي إضافة إسكان ولزوم للمسكن والتصاق به، لا إضافة تمليك، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، وقال سبحانه: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} (الأحزاب: 34)، وقال عز شأنه: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} (الطلاق: 1). ومع ذلك قد تقتضي الحاجة خروج النساء، وعندها فلا حرج في خروجهن إذا أمِنَتْ الفتنة، وكان خروجها منضبطًا بضوابط الشريعة، فلا تخرج متطيبة ولا متزينة، أو متبرجة ولا سافرة، ولاتزاحم الرجال في وسط الطرقات، بل تلتزم حافتها، وإذا احتاجت إلى الكلام مع الأجانب فلا تخضع بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، فمتى انقضت الحاجة أو ارتفعت الضرورة عاد كلٌ إلى أصله. أما إذا لم تكن هناك حاجة فقد قال الله - عز وجل -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}، ومع هذا الأمر بالقرار وحذرًا من مغبة الاختلاط منع من الدخول على النساء، وكل ذلك لعِظَمِ فتنة النساء؛ قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)} (آل عمران: 14)، فجعلهن مِن عين الشهوات، وبدأ بهن قبل بقية الأنواع، إشارة إلى أنهن الأصل في ذلك». ¬

_ (¬1) صفوة البيان لمعاني القرآن» (ص 531).

ومما سبق نخلص إلى أن الأصل أمْر النساء بلزوم البيوت ونهيهن عن الخروج منها، أما عند الحاجة فيجوز لها أن تخرج ومن ذلك خروجها للعبادة، كالصلاة في المسجد رغم أن صلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في المسجد، وكصلاة العيدين، ويجوز للمرأة أن تخرج للحج على أن تكون مع محرم، ويجوز لها الخروج لزيارة الآباء , والأمهات , وذوي المحارم , وشهود مَوْت مَن ذُكِر , وحضور عُرسه وقضاء حاجة لا غَناء للمرأة عنها ولا تجد من يقوم بها، كل ذلك مع مراعاة الضوابط الشرعية. والدليل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قَدْ أَذِنَ اللهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ» (رواه البخاري ومسلم). فللمرأة أن تخرج من بيتها، ويكون هذا الخروج ممثلًا لحركة طارئة من حيث الأصل، ومنضبطًا بالشرع من حيث الممارسة، وبما لا يخل بقاعدة «القرار»، ومن ذلك: 1 - أن تكون المرأة غير مخشية الفتنة , أما التي يخشى الافتتان بها فلا تخرج أصلًا. 2 - أن تكون الطريق مأمونة من تَوَقُّعِ المفسدة وإلا حَرُمَ خروجُها. 3 - أن يكون خروجها في زمن أمن الرجال، ولا يفضي إلى خلوتها أو اختلاطها بهم؛ لأن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر. 4 - الالتزام بالحجاب فيكون خروجها في تستر تام، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)} (الأحزاب: 59). 5 - عدم التبرج: لقوله تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} (الأحزاب: 33). 6 - أن يكون الخروج بإذن الزوج , فلا يجوز لها الخروج إلا بإذنه.

6 ـ أن لا يؤدي خروجها إلى خلل في أداء واجباتها الأصلية في مقرها وهو المنزل. 7 ـ الالتزام بغض البصر؛ قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النور: 31). 8 ـ عدم التعطر أو إصابة البخور؛ لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَعْطَرَتْ، فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ لِيَجِدُوا رِيحَهَا فَهِيَ زَانِيَةٌ» (رواه الإمام أحمد والنسائي، وحسنه الألباني). 9 - عدم الخضوع بالقول إذا كان هناك حاجة إلى مخاطبة الرجال. معنى الخضوع بالقول: قال تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)} (الأحزاب: 32). قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونساء الأمة تبعٌ لهن في ذلك، فقال مخاطبًا لنساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنهن إذا اتقين الله كما أمرهن، فإنه لا يشبههن أحد من النساء، ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة». ثم قال: «{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} قال السُّدِّي وغيره: «يعني بذلك: ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال»؛ ولهذا قال: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي: دَغَل، {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} قال ابن زيد: «قولًا حسنًا جميلًا معروفًا في الخير». ومعنى هذا: أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم، أي: لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها» (¬1). ¬

_ (¬1) تفسير ابن كثير (3/ 482).

قال البغوي: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} لَا تَلِنَّ بِالْقَوْلِ لِلرِّجَالِ وَلَا تُرَقِّقْنَ الْكَلَامَ؛ {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أَيْ: فُجُورٌ وَشَهْوَةٌ، وَقِيلَ: نِفَاقٌ، وَالْمَعْنَى: لَا تَقُلْنَ قَوْلًا يَجِدُ مُنَافِقٌ أَوْ فَاجِرٌ بِهِ سَبِيلًا إِلَى الطَّمَعِ فِيكُنَّ. وَالْمَرْأَةُ مَنْدُوبَةٌ إِلَى الْغِلْظَةِ فِي الْمَقَالَةِ إِذَا خَاطَبَتِ الْأَجَانِبَ لِقَطْعِ الْأَطْمَاعِ» (¬1). وقال القرطبي: «أَمَرَهُنَّ اللهُ أَنْ يَكُون قَوْلهنَّ جَزْلًا وَكَلَامهنَّ فَصْلًا , وَلَا يَكُون عَلَى وَجْه يُظْهِر فِي الْقَلْب عَلَاقَة بِمَا يَظْهَر عَلَيْهِ مِنْ اللِّين , كَمَا كَانَتْ الْحَال عَلَيْهِ فِي نِسَاء الْعَرَب مِنْ مُكَالَمَة الرِّجَال بِتَرْخِيمِ الصَّوْت وَلِينه , مِثْل كَلَام الْمُرِيبَات وَالْمُومِسَات. فَنَهَاهُنَّ عَنْ مِثْل هَذَا. {مَرَضٌ} أَيْ شَكّ وَنِفَاق , عَنْ قَتَادَة وَالسُّدِّيّ. وَقِيلَ: تَشَوُّف الْفُجُور , وَهُوَ الْفِسْق وَالْغَزَل , قَالَهُ عِكْرِمَة. وَهَذَا أَصْوَبُ , وَلَيْسَ لِلنِّفَاقِ مَدْخَل فِي هَذِهِ الْآيَة. وَالْمَرْأَة تُنْدَب إِذَا خَاطَبَتْ الْأَجَانِب وَكَذَا الْمُحَرَّمَات عَلَيْهَا بِالْمُصَاهَرَةِ إِلَى الْغِلْظَة فِي الْقَوْل , مِنْ غَيْر رَفْع صَوْت , فَإِنَّ الْمَرْأَة مَأْمُورَة بِخَفْضِ الْكَلَام. وَعَلَى الْجُمْلَة فَالْقَوْل الْمَعْرُوف: هُوَ الصَّوَاب الَّذِي لَا تُنْكِرهُ الشَّرِيعَة وَلَا النُّفُوس» (¬2). وخضوع المرأة بالقول يفتح باب زنا الأذن، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ». (رواه مسلم). ¬

_ (¬1) تفسير البغوي (6/ 348). (¬2) تفسير القرطبي (14/ 177 - 178).

وقد يفتح باب العشق وإن لم يرها الرجل كما أنشد أعمى: يا قومِ أذْنِي لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ ... والأذْنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانَا كُلُّ الحوادثِ مبدؤُها مِن النظرِ: كُلُّ الحوادثِ مبدؤُها مِن النظرِ ... ومعظمُ النارِ مِن مُستصغَرِ الشرر كمْ نظرةٌ بلغتْ في قلبِ صاحبِها ... كمَبلَغِ السهمِ بينَ القوسِ والوتر والعبدُ ما دامَ ذا طرْفٍ يقلّبُهُ ... في أعيُنِ الْغِيْدِ مَوْقُوفٌ عَلْى الْخَطَر يَسُرُّ مُقْلَتَهُ ما ضَرَّ مُهْجَتَهُ ... لا مرحبًا بسرورٍ عادَ بالضررِ (¬1) اتِّفَقَ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى جَمِيعِ بَدَنِ الْمَرْأَةِ بِشَهْوَةٍ. والشَّهْوَةُ لُغَةً: اشْتِيَاقُ النَّفْسِ إِلَى الشَّيْءِ، وَالْجَمْعُ: شَهَوَاتٌ. وَاشْتَهَاهُ وَتَشَهَّاهُ: أَحَبَّهُ وَرَغِبَ فِيهِ. وَفِي الاِصْطِلاَحِ: تَوَقَانُ النَّفْسِ إِلَى الْمُسْتَلَذَّاتِ. ومن النظر بشهوة تكرار النظر وإمعانه وهذا لا يجوز؛ فالمسلم ليس له إلا النظرة الأولى ـ وهي نظرة الفجأة ـ فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِى أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِى» (رواه مسلم)، وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعليِّ ابن أبي طالب - رضي الله عنه -: «يَا عَلِىُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ». (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} (النور: 30)، وَِقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا، أَدْرَكَ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ: فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ» (رواه البخاري ومسلم). ¬

_ (¬1) امرأة غَيْداءُ وغادَةٌ، أي ناعمةٌ بيِّنة الغَيَدِ: أي النُعومة.

والْوَجْهُ والكَفَّانِ مِنْ عَوْرَةِ المرْأةِ، فَيَحْرُمُ نَظَرُ الرَّجُل بِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ إِلَى وَجْهِ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَكَفَّيْهَا كَسَائِرِ أَعْضَائِهَا، سَوَاءٌ أَخَافَ الْفِتْنَةَ مِنَ النَّظَرِ أَمْ لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ، وَالدَّلِيلُ: قَوْلُهِ تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53). فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ إِلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مُبَاحًا لَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يَسْأَلُوا نِسَاءَ النَبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَلأَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَسْأَلُوهُنَّ مُوَاجَهَةً، قَال الْقُرْطُبِيُّ: «فِي هَذِهِ الآْيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَذِنَ فِي مَسْأَلَتِهِنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فِي حَاجَةٍ تَعْرِضُ، أَوْ مَسْأَلَةٍ يُسْتَفْتِينَ بِهَا، وَيَدْخُل فِي ذَلِكَ جَمِيعُ النِّسَاءِ بِالْمَعْنَى، وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ أُصُول الشَّرِيعَةِ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ، بَدَنَهَا وَصَوْتَهَا، فَلاَ يَجُوزُ كَشْفُ ذَلِكَ إِلاَّ لِحَاجَةٍ كَالشَّهَادَةِ عَلَيْهَا أَوْ دَاءٍ يَكُونُ بِبَدَنِهَا، أَوْ سُؤَالِهَا عَمَّا يَعْرِضُ وَتَعَيَّنَ عِنْدَهَ» (¬1). والأَخْبَارُ الَّتِي جَاءَتْ تَنْهَى عَنِ النَّظَرِ الْمُتَعَمَّدِ، وَالزِّيَادَةِ عَلَى النَّظْرَةِ الْأُولَى - وَهِيَ نَظَرُ الْفُجَاءَةِ - قَدْ جَاءَتْ عَامَّةً تَشْمَل جَمِيعَ بَدَنِ الْمَرْأَةِ، وَكُل مَا وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأْخْبَارِ مِنْ جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ حَالَةُ الضَّرُورَةِ أَوِ الْحَاجَةِ. وإِنَّ إِبَاحَةَ نَظَرِ الْخَاطِبِ إِلَى الْمَرْأَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَخْطُبَهَا يَدُل عَلَى التَّحْرِيمِ عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ خِطْبَتِهَا، إِذْ لَوْ كَانَ مُبَاحًا عَلَى الإِْطْلاَقِ، فَمَا وَجْهُ التَّخْصِيصِ (¬2). إنَّ الرجالَ الناظرينَ إلى النِّسَا ... مِثْلُ السباعِ تطوفُ باللحمان إنْ لم تَصُنْ تلكَ اللحومَ أسُودُها ... أُكِلَتْ بِلا عِوَضٍ ولا أثمان ¬

_ (¬1) تفسير القرطبي (14/ 227). (¬2) الحاوي الكبير (9/ 35)، ونهاية المحتاج (6/ 187)، والمغني (7/ 460).

نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الرَّجُل الأَجْنَبِيِّ: نَظَرَ الْمَرْأَةِ إِلَى أَيِّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الرَّجُل الأَجْنَبِيِّ يَكُونُ حَرَامًا إِذَا قَصَدَتْ بِهِ التَّلَذُّذَ أَوْ عَلِمَتْ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهَا وُقُوعُ الشَّهْوَةِ أَوْ شَكَّتْ فِي ذَلِكَ، بِأَنْ كَانَ احْتِمَال حُدُوثِ الشَّهْوَةِ وَعَدَمِ حُدُوثِهَا مُتَسَاوِيَيْنِ، لأَنَّ النَّظَرَ بِشَهْوَةٍ إِلَى مَنْ لاَ يَحِل بِزَوْجِيَّةٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ نَوْعُ زِنًا، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْفُقَهَاءِ. أَمَّا إِذَا كَانَ نَظَرُ الْمَرْأَةِ إِلَى الأَْجْنَبِيِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ يَقِينًا فالرَّاجِحُ أنَّه لَا يجُوز أيضًا أَنْ تَنْظُرَ إلى أَيَّ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِه، وهو قول جمهور العلماء وأكثر الصحابة لِقَوْلِهِ تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} (النور: 31)، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْآدَمِيِّينَ فَحُرِّمَ عَلَيْهِنَّ النَّظَرُ إلَى النَّوْعِ الْآخَرِ قِيَاسًا عَلَى الرِّجَالِ وَيُحَقِّقُهُ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُحَرِّمَ لِلنَّظَرِ هُوَ خَوْفُ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا فِي الْمَرْأَةِ أَبْلَغُ فَإِنَّهَا أَشَدُّ شَهْوَةً وَأَقَلُّ عَقْلًا، فَتُسَارِعُ إلَيْهَا الْفِتْنَةُ أَكْثَرَ مِنْ الرَّجُلِ. وَممَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أيْضًا حَدِيث نَبْهَان مَوْلَى أُمّ سَلَمَة عَنْ أُمّ سَلَمَة أَنَّهَا كَانَتْ هِيَ وَمَيْمُونَة عِنْد النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَدَخَلَ اِبْن أُمّ مَكْتُوم فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اِحْتَجِبَا مِنْهُ»، فَقَالَتَا: «إِنَّهُ أَعْمَى لَا يُبْصِر»، فَقَالَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا فَلَيْسَ تُبْصِرَانِهِ؟» (¬1). ¬

_ (¬1) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيّ وَغَيْرهمَا، قَالَ التِّرْمِذِيّ: «هُوَ حَدِيث حَسَن»، وقال النووي: «وَلَا يُلْتَفَت إِلَى قَدْح مِنْ قَدَح فِيهِ بِغَيْرِ حُجَّة مُعْتَمَدَة» [شرح صحيح مسلم (10/ 77)]. وقد اختلف قول الحافظ ابن حجر فيه فقال في (الفتح 1/ 550): «وَهُوَ حَدِيثٌ مُخْتَلَفٌ فِي صِحَّتِهِ»، وقال في موضع آخر (9/ 337): «إِسْنَاده قَوِيّ، وَأَكْثَر مَا عَلَّلَ بِهِ اِنْفِرَاد الزُّهْرِيِّ بِالرِّوَايَةِ عَنْ نَبْهَان وَلَيْسَتْ بِعِلَّةٍ قَادِحَة، فَإِنَّ مَنْ يَعْرِفهُ الزُّهْرِيُّ وَيَصِفهُ بِأَنَّهُ مُكَاتَب أُمّ سَلَمَة وَلَمْ يُجَرِّحهُ أَحَد لَا تُرَدّ رِوَايَته». وقال في (التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير: «لَيْسَ فِي إسْنَادِهِ سِوَى نَبْهَانَ مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ شَيْخِ الزُّهْرِيِّ، وَقَدْ وُثِّقَ، وَعِنْدَ مَالِكٍ: عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا احْتَجَبَتْ مِنْ أَعْمَى، فَقِيلَ لَهَا: إنَّهُ لَا يَنْظُرُ إلَيْك، قَالَتْ: لَكِنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ» اهـ. وقال العينى: وهو حديث صحَّحه الأئمة بإسناد قوى. ومِمَّن صحَّحه: التركمانى في الجوهر النقى, والشوكانى في نيل الأوطار. ... = = وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن السعد: «إسناده صالح». والحديث قد ضعفه الألباني، والأرنؤوط، ومصطفى العدوي.

نظر النساء إلى الرجال على شاشات التلفاز والحاسوب: لا فرق بين نظر المرأة إلى الرجل في الحقيقة وبين نظرها إليه على الشاشة لِمَا في النظر إلى صورهم من خشية الفتنة؛ فينبغي على النسوة المسلمات اجتناب صور المشايخ فى دروس أقراص الحاسوب المدمجة (أي ما يُسمى بالكمبيوتر)، وما يشابهها بالفيديو والقنوات الفضائية، وأن يُكتفى بسماع الصوت. وقد وقع من بعض النسوة ما ينْدَى له الحبين، فواحدة تقول: يا محْلَى الشيخ، يا عيون الشيخ، يا جمال الشيخ»، وأخرى تقول: «الشيخ الفلاني أجمل»، وثالثة تقول: «عيون الشيخ الفلانى لونها كذا»، ورابعة تقول: «يد الشيخ الفلانى بيضاء للغاية»، بل قد صارت بعض النسوة ترى أن الأجمل من المشايخ هو الأكثر علمًا، وهذا رجل يجلس مع زوجته فظهر الشيخ على الشاشة فقالت زوجته: «ها هم الرجال لا غيرهم» قالت هذه الجملة بالعامية، كل هذه الأخبار عن ثقة سواء كانت أقوال الرجال أو النساء.

72 - الفرق بين الخلوة والاختلاط

72 - الفرق بين الخلوة والاختلاط مراعاة المنع من الاختلاط في التشريع: إذا عرضت للمرأة حاجة تسوغ خروجها فلا حرج عليها إن خرجت وفقًا لما سبق بيانه، غير أن تلك الحاجة لاتسوغ اختلاطها بالرجال إلاّ أن تكون ضرورة، وذلك لحرمة الاختلاط وإن من أقوى الأدلة على تحريم الاختلاط، رعاية الشارع للنساء، وصيانته لهن من الاختلاط في سائر أحكام التشريع. إن العِفَّة حجاب يُمَزِّقه الاختلاط، ولهذا صار طريق الإسلام التفريق والمباعدة بين المرأة والرجل الأجنبي عنها، فالمجتمع الإسلامي مجتمع فردي لا زوجي فللرجال مجتمعاتهم، وللنساء مجتمعاتهن، ولا تخرج المرأة إلى مجتمع الرجال إلا لضرورة أو حاجة بضوابط الخروج الشرعية. كل هذا لحفظ الأعراض والأنساب، وحراسة الفضائل، والبعد عن الرِّيب والرذائل، وعدم إشغال المرأة عن وظائفها الأساس في بيتها، ولذا حُرِّم الاختلاط، سواء في التعليم، أم العمل، والمؤتمرات، والندوات، والاجتماعات العامة والخاصة، وغيرها؛ لما يترتب عليه من هتك الأعراض ومرض القلوب، وخطرات النفس، وخنوثة الرجال، واسترجال النساء، وزوال الحياء، وتقلص العفة والحشمة، وانعدام الغَيْرَة. ولهذا فأهل الإسلام لا عهد لهم باختلاط نسائهم بالرجال الأجانب عنهن، بل إن علماء الحملة الصليبية الفرنسية أشاروا إلى ذلك في كتابهم (وصف مصر) الذي ذكروا فيه أحوال المجتمع المصري في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر فقالوا: «النساء في كل الظروف لا يخرُجْن مطلقًا سافراتِ الوجوه، بل يغطين وجوههن بالبرقع ... ولا يدخل الرجال مطلقًا - فيما عدا بعض الأهل الأقربين - إلى

مسكن السيدات ... ولم يستطع الرحالة السابقون على الغزو أن يتعرفوا على أحوال سيدات الطبقة المسيطرة، وذهبت أدراجَ الرياحِ كلُّ توسلاتهم اللحوح؛ فلم يكن عظماء مصر ليسمحوا لأحد بأن يتطلع إلى جمال زوجاتهم» (¬1). وإنما حصلت أول شرارة قدحت للاختلاط على أرض الإسلام من خلال المدارس الاستعمارية الأجنبية والعالمية، التي فتحت أول ما فتحت في بلاد الإسلام في (لبنان)، وقد علم تاريخيًا أن ذلك من أقوى الوسائل لإذلال الرعايا وإخضاعها، بتضييع مقومات كرامتها، وتجريدها من الفضائل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. كما عُلِم تاريخيًا أن التبذل والاختلاط من أعظم أسباب انهيار الحضارات، وزوال الدول، كما كان ذلك لحضارة اليونان والرومان. ولهذا حُرِّمَتْ الأسباب المفضية إلى الاختلاط - هتك سنة المباعدة بين الرجال والنساء - ومنها: (تحريم الدخول على الأجنبية والخلوة بها، للأحاديث المستفيضة كثرة وصحة، ومنها: خلوة السائق، والخادم، والطبيب وغيرهم بالمرأة، وقد تنتقل من خلوة إلى أخرى، فيخلو بها الخادم في البيت، والسائق في السيارة، والطبيب في العيادة وهكذا!!. (تحريم سفر المرأة بلا محرم، والأحاديث فيه متواترة معلومة. (تحريم النظر العمد من أي منهما إلى الآخر، بنص القرآن والسنة. (تحريم دخول الرجال على النساء، حتى الأحماء - وهم أقارب الزوج - فكيف بالجلسات العائلية المختلطة، مع ما هن عليه من الزينة، وإبراز المفاتن، والخضوع بالقول، والضحك ... ؟!! ¬

_ (¬1) وصف مصر (1/ 64 - 65) تأليف ج دي شابرول، ترجمة زهير الشايب.

(تحريم مَسّ الرجل بدن الأجنبية، حتى المصافحة للسلام. (تحريم تَشَبُّه أحدهما بالآخر. (وشرع لها صلاتها في بيتها، فهي من شعائر البيوت الإسلامية، وصلاة المرأة في بيتها خير لها من صلاتها في مسجد قومها، وصلاتها في مسجد قومها خير من صلاتها في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، كما ثبت الحديث بذلك. (ولهذا سقط عنها وجوب الجمعة، وأُذن لها بالخروج للمسجد وفق الأحكام التالية: 1 - أن تؤمن الفتنة بها وعليها. 2 - أن لا يترتب على حضورها محذور شرعي. 3 - أن لا تزاحم الرجال في الطريق ولا في الجامع. 4 - أن تخرج تَفِلةً غير متطيبة. 5 - أن تخرج متحجبة غير متبرجة بزينة. 6 - إفراد باب خاص للنساء في المساجد، يكون دخولها وخروجها معه، كما ثبت الحديث بذلك في سنن أبي داود وغيره. 7 - تكون صفوف النساء خلف الرجال. 8 - خير صفوف النساء آخرها بخلاف الرجال. 9 - إذا نابَ الإمامَ شيء في صلاته سَبَّح رجل، وصفقت امرأة. 10 - تخرج النساء من المسجد قبل الرجال، وعلى الرجال الانتظار حتى انصرافهن إلى دُورهن، كما في حديث أم سلمة - رضي الله عنها - في صحيح البخاري وغيره. إلى غير ذلك من الأحكام التي تباعد بين أنفاس النساء والرجال.

الفرق بين الخلوة والاختلاط: الخلوة المحرمة: هي أن ينفرد رجل بامرأة أجنبية عنه، في غيبة عن أعين الناس، وهي من أفعال الجاهلية , وكبائر الذنوب. والمرأة الأجنبية: هي غير المَحرمَ , والمَحْرمَ: كل من حَرُم تزوجها على التأبيد , وتحريمها إما بالنسب , أو بالرضاع , أو بالمصاهرة , فالمحرمات بالنسب: الأمهات , ثم البنات , ثم الأخوات , ثم العمات , والخالات , ثم بنات الأخ , وبنات الأخت , ويحرم من الرضاع كل ما يحرم من النسب. أما المحرمات بسبب المصاهرة: فزوجة الأب , وزوجة الابن , وأمّ الزوجة (وهذه تحرُم بمجرد العقد على ابنتها) , وبنت الزوجة (وهذه لا تحرم إلا بالدخول بالأم). وعلى هذا من الأجنبيات على الرجل ابنة كل من: عمه , وعمته , وخاله , وخالته، وزوجة كل من: عمه , وخاله , وابن أخيه , وابن أخته , وكذا أخت زوجته وابنة الصديق والجار , وهكذا. الدليل على تحريم الخلوة: 1 - قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» (رواه البخاري ومسلم). 2 - قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» (رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني والأرنؤوط). وهذا يعم جميع الرجال , ولو كانوا صالحين أو مُسِنِّين, وجميع النساء , ولو كنَّ صالحات أو عجائز. تعريف الاختلاط: الاختلاط هو امتزاج الرجل بالمرأة التي ليست بمحرم - أي التي يباح له زواجها - اجتماعًا يؤدي إلى ريبة.

أو هو اجتماع الرجل بالمرأة التي ليست بمَحْرَم له اجتماعًا يؤدي إلى ريبة. أو هو اجتماع الرجال بالنساء غير المحارم في مكان واحد , يمكنهم فيه الاتصال فيما بينهم بالنظر , أو الإشارة , أو الكلام , أو البدن من غير حائل أو مانع يدفع الريبة والفساد. فدخول الأجنبي على النساء اختلاط بهن، ودخول الأجنبية على الرجال اختلاط بهم، ودخول بعضهم على بعضهم اختلاط، وأما دخول أحدهما على الآخر في رقعة ليس فيها سواهما ممن يعقل، أو كان فيها ولكن قام فاصل معتبر حال بينه وبينهم فتلك خلوة، وهي صورة خاصة من الاختلاط. ويمكن تقسيم الاختلاط إلى قسمين: القسم الأول: اختلاط محرم: وهو كل ما كان في مكان خاص, أو موطن يدعو إلى الفساد والريبة أو اشتمل على محظور شرعي. وحقيقته أن يخالط الرجل المرأة ويجلس إليها كما يجلس إلى امرأته أو إحدى محارمه بحيث يرتفع الحاجز بينهما , ويتمكن من التأثير عليها لو أراد. ويزداد الضرر من الاختلاط كلما طالت مدته وكثر تكراره، أو عند حدوثه مع الشَوَابّ، أو عند فقد المَحْرَم. ويزداد الأمر سوءًا إذا كان ملازمًا لها كالاختلاط في التعليم , أو مجال العمل، وكل من ابْتُلِيَ بذلك علم أنه لابد أن يطلع على خصوصيات المرأة , ولا بد أن يخلو بها. ومما يُعْرَفُ به الاختلاط المحرم: - أنه يؤدي إلى زوال الكلفة بين الرجال والنساء. - أنه يكثر من خلاله العلاقات المحرمة. - أنه قد يؤدي إلى الخلوة بالمرأة الأجنبية. - أنه قد يؤدي إلى تلاصق وتزاحم بالأجساد.

من صور الاختلاط المحرم: 1 - اختلاط الأولاد الذكور والإناث - ولو كانوا إخوة - بعد التمييز في المضاجع؛ وقد أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالتفريق بينهم في المضاجع. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِى الْمَضَاجِعِ». (رواه أبو داود، وصححه الألباني). ولما كان النوم مظنة انكشاف العورة، وثوران الشهوة جاءت الشريعة الكاملة المطهرة بالأمر بالتفريق بين الأولاد في المضاجع، وقد ذُكِر أن التساهل في عدم التفريق بين الأولاد أثناء النوم أحد أسباب زنا المحارم، والعياذ بالله. 2 - السماح للخطيبين بالمصاحبة والمخالطة التي تجر إلى الخلوة، ثم إلى ما لا تحمد عقباه، فيقع العبث بأعراض الناس بحجة التعارف ومدارسة بعضهم بعضًا. 3 - استقبال المرأة أقارب زوجها الأجانب، أو أصدقاءه في حال غيابه. 4 - الاختلاط في دور التعليم كالمدارس والجامعات والمعاهد، والدروس الخصوصية. 5 - الاختلاط في الوظائف، والأندية، والمستشفيات، والزيارات بين الجيران، والأعراس، والحفلات. 6 - الخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد، والمكاتب، والعيادات، وغيرها. 7 - ومن الصور المحرّمة أيضًا اجتماع رجل بامرأة، ولو كان ذلك في مكانٍ عامٍ إذا ترتّبت عليه ريبةٌ أو سوء ظنّ فيهما، ما لم يُزِل اللبس الذي قد يقَع في نفس من رآه ظنًّا أو يقينًا؛ لما رواه البخاري ومسلم أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - تَزُورُهُ فِى اعْتِكَافِهِ فِى الْمَسْجِدِ، فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ

أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ». فَقَالاَ: «سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ». وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا». وهناك صور أظهر في تحريم الاختلاط من غيرها: كإِذَا كَانَ فِيهِ: - الْخَلْوَةُ بِالأَجْنَبِيَّةِ، وَالنَّظَرُ بِشَهْوَةٍ إِلَيْهَا. - تَبَذُّل الْمَرْأَةِ وَعَدَمُ احْتِشَامِهَا. - عَبَثٌ وَلَهْوٌ وَمُلاَمَسَةٌ لَلأَبْدَانِ كَالاِخْتِلاَطِ فِي الأَفْرَاحِ وَالْمَوَالِدِ وَالأَعْيَادِ. فَالاِخْتِلاَطُ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ مِثْل هَذِهِ الأُمُورِ وَاضِحُ التَّحْرِيمِ؛ لِمُخَالَفَتِهِ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ. القسم الثاني: اختلاط جائز: وهو كل ما كان في الأماكن العامة وتدعو الحاجة إليه ويشق التحرز عنه , ولا محظور فيه كاختلاط النساء بالرجال في الأسواق والطرقات لقضاء حاجة سريعة كسؤال عن متاع أو استفتاء وسؤال عن حاجة وبيع وشراء ونحوه، إذ يسعى الجميع في حاجته ذهابًا وجيئةً، ويبيعون ويشترون، فلا بأس في هذا ما لم يتلبّس من وَقع فيه بمحرّم خارجٍ عنه، فما هو إلا لقاء عابر , واللقاء العابر لقاء محدود لا تزول به الكلفة، وتلتزم فيه المرأة بالضوابط الشرعية في التعامل مع الرجال الأجانب. فالاختلاط العابر، في موضع لايخشى منه الفتنة - في الغالب - ليس من الصور المحرّمة، بل هو مما تعمّ به البلوى، ويضطر إليه الناس لمعاشهم في كلّ زمانٍ ومكان.

ومن الصوَر التي لا حَرجَ فيها: 1 - الأصل جواز اختلاط النساء بمحارمهن، وكذلك الأطفال الذين لم يظهروا على عورات النساء (¬1)، ومن كان نحوهم، ما دام جانب الفتنة مأمونًا. 2 - اجتماع الرجال والنساء في المسجد الواحد لأداء فريضة أو عبادة، كما هو الحال منذ صدْرِ الإسلام وحتى يومنا هذا، في المساجد الثلاثة التي تُشدّ إليها الرحال وغيرِها، وقد كانت النساء يشهدن الصلاة مع النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في المسجد، ولم يَنْهَ عن ذلك، كما لم يأمر بضرب حاجزٍ بين صفوف الرجال وصفوف النساء. 3 - الدخول على المخطوبة ورؤيتها مع وجود المحرم , فقد رخص الإسلام في ذلك. 4 - ما يكون من وراء حجاب كما هو الحال في الدائرة التلفزيونية المعمول به في جامعات وكليات البنات في السعودية. 5 - إذا بعدت أنظار الرجال عن النساء والعكس، وصعب التحرز مما فوق ذلك. 6 - الاختلاط مع وجود فاصل معتبر وإن كان فضاءً. 7 - يجوز اختلاط النساء بالرجال غير المحارم لحاجة مع وجود محرم، وفق ضوابط تُؤمن معها الفتنة، تختلف باختلاف الحال والمقام. ويشترط لجواز الاختلاط على هذا النحو شروط: - أن لا تكون هناك خلوة بين الرجل والمرأة. ¬

_ (¬1) قال تعالى: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) (النور: 31) أي: الأطفال الذين دون التمييز، فإنه يجوز نظرهم للنساء الأجانب، وعلل تعالى ذلك، بأنهم لم يظهروا على عورات النساء، أي: ليس لهم علم بذلك، ولا وجدت فيهم الشهوة بعدُ، ودل هذا أن المميز تستتر منه المرأة، لأنه يظهر على عورات النساء. (تفسير السعدي، ص 566 - 567).

- استفراغ الجهد في المباعدة بين الرجال والنساء قدر الإمكان، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك. - أن يكون حضور المرأة لحاجة يشق عليها تركها وتكون الحاجة طارئة ينتهي الحضور بزوالها. - أن تكون المرأة مستترة بالحجاب الشرعي الساتر لجميع جسدها، ومنه الوجه والكفان. ومن أوضح الأدلة على وجوب ستر المرأة المسلمة لوجهها وكفيها عند الرجال الأجانب: الرخصة للقواعد من النساء بوضع الحجاب، وأن يستعففن خير لهن؛ قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)} (النور: 60). فقد رخَّص الله - سبحانه وتعالى - للقواعد من النساء، أي: العجائز، اللائي تقدم بهن السنّ، فقَعَدْنَ عن الحيض والحمل ويئِسْنَ من الولد أن يضعن ثيابهن الظاهرة من الجلباب والخمار، التي ذكرها الله سبحانه في آيات ضرب الحجاب على نساء المؤمنين، فيكشفن عن الوجه والكفين، ورفع تعالى الإثم والجناح عنهن في ذلك بشرطين: الشرط الأول: أن يَكُنَّ من اللاتي لم يبق فيهن زينة ولا هن محل للشهوة، وهن اللائي لا يرجون نكاحًا، فلا يَطْمَعْنَ فيه، ولا يُطْمَع فيهن أنْ يُنْكَحْنَ؛ لأنهن عجائز لا يَشتَهين ولا يُشتَهَيْن، أما من بقيت فيها بقية من جمال ومحل للشهوة، فلا يجوز لها ذلك. الشرط الثاني: أن يكن غير متبرجات بزينة، وهذا يتكون من أمرين: أحدهما: أن يَكُنَّ غير قاصدات بوضع الثياب التبرج، ولكن التخفيف إذا احتجن إليه.

وثانيهما: أن يكن غير متبرجات بزينة من حلي وكحل وأصباغ وتجمل بثياب ظاهرة، إلى غير ذلك من الزينة التي يفتن بها. فلتحذر المؤمنة التعسف في استعمال هذه الرخصة، بأن تدعي بأنها من القواعد، وليست كذلك، أو تبرز متزينة بأيٍّ من أنواع الزينة. ثم قال ربُنَا جل وعلا: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}، وهذا تحريض للقواعد على الاستعفاف وأنه خير لهن وأفضل، وإن لم يحصل تبرج منهن بزينة. فدلَّت هذه الآية على فرض الحجاب على نساء المؤمنين لوجوههن وسائر أبدانهن وزينتهن؛ لأن هذه الرخصة للقواعد، اللاتي رُفع الإثم والجناح عنهن، إذ التهمة في حقهن مرتفعة، وقد بلغن هذا المبلغ من السن والإياس، والرخصة لا تكون إلا من عزيمة، والعزيمة فرض الحجاب في الآيات السابقة. وبدلالة أن استعفاف القواعد خير لهن من الترخص بوضع الثياب عن الوجه والكفين، فوجب ذلك في حق من لم تبلغ سن القواعد من نساء المؤمنين، وهو أولى في حقهن، وأبعد لهن عن أسباب الفتنة والوقوع في الفاحشة، وإن فعلن فالإثم والحرج والجناح. ولذا فإن هذه الآية من أقوى الأدلة على فرض الحجاب للوجه والكفين وسائر البدن، والزينة بالجلباب والخمار. ومن أقوى الأدلة كذلك قوله - عز وجل -: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} (الأحزاب: 59)، والقائلون بكشف وجه المرأة متفقون على أن الواجب على نساء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يستُرْن وجوههن للأدلة الكثيرة على هذا، ولكنهم يرونه خاصًا بهن! فكيف يكون ذلك والخطاب في هذه الآية للجميع؟! ولماذا أدخلهن الله في هذه الآية وهي - حسب زعمهم - لا تدل على وجوب ستر الوجه؟؟!! أليس هذا من التناقض الذي ينزه عنه كتاب الله؟!

في قوله تعالى: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ} وجوب حجب أزواجه - صلى الله عليه وآله وسلم - وستر وجوههن، لا نزاع فيه بين أحد من المسلمين، وفي هذه الآية ذكر أزواجه - صلى الله عليه وآله وسلم - مع بناته ونساء المؤمنين، وهو ظاهر الدلالة على وجوب ستر الوجوه بإدناء الجلابيب على جميع المؤمنات. الضرورة إذا اقتضت اختلاطًا: تقرر أن الاختلاط محرم، ولا يدخل في ذلك ما تدعو إليه الضرورة وتشتد الحاجة إليه ويكون في مواضع العبادة كما يقع في الحرم المكي والحرم المدني. ومن حالات الاضطرار إسعاف غريق ونحوه، أو مداواة مريض عند فقدان المماثل في الجنس، أو إن احتاج القاضي اللقاء بالنساء. ومن المقرر أن الضرورات تبيح المحظورات، بَيْدَ أن الضرورة تقدر بقدرها، فيتقي المرءُ ربَّه ويتحرز عما نهاه عنه ما استطاع. فإذا اقتضت الضرورة اختلاطًا، كما في الحج - على سبيل المثال - فإن الحج ركن من أركان الإسلام وهو فعل مأمور مقدم على ترك المحظور، فإن اشتد الزحام ولم يمكن تجنبه كالحال في هذه الأزمنة، فتؤدي المرأة فرضها، متقيدة بضوابط الشرع. ومثل الحج سائر الضرورات التي تبيح المحظورات، فينبغي أن تقدر بقدرها، ولايتعدى قدر الاضطرار فيها، وهذا يقدره ويقرره أهل العلم والشأن فهم أعلم بضابط الضروريات وأجدر بعرض الوقائع على الأحاديث والآيات، فإن وجدت ضرورة لا تكون إلاّ مع الاختلاط فكشأن سائر المحظورات تباح بقدر الحاجة، وبعد انتهائها يعود كل حكم إلى أصله. ويشترط في حالات الاضطرار ألا يبغى فيها ولا يعتدى كما قال تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)} (البقرة:173).

73 - أدلة تحريم الاختلاط

73 - الأدلة على تحريم اختلاط المرأة بالرجال الأجانب اختلاط الرجال بالنساء له ثلاث حالات: الأولى: اختلاط النساء بمحارمهن من الرجال وهذا لا إشكال في جوازه. الثانية: اختلاط النساء بالأجانب لغرض الفساد، وهذا لا إشكال في تحريمه. الثالثة: اختلاط النساء بالأجانب في دور العلم، والحوانيت، والمكاتب، والمستشفيات، والحفلات، ونحو ذلك، فهذا في الحقيقة قد يظن السائل في باديء الأمر أنه لا يؤدي إلى افتتان كل واحد من النوعين بالأخر، ولكشف حقيقة هذا القسم فإنا نجيب عنه من طريق مجمل ومفصل: أما المجمل: فهو أن الله - تعالى - جَبَلَ الرجال على القوة والميل إلى النساء، وجبل النساء على الميل إلى الرجال مع وجود ضعف ولين، فإذا حصل الاختلاط نشأ عنه آثار تؤدي إلى حصول الغرض السيء؛ لأن النفوس أمارة بالسوء، والهوى يعمى ويُصِمّ، والشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر. وأما المفصل: فالشريعة مبنية على المقاصد ووسائلها، ووسائل المقصود الموصلة إليه لها حكمه، فالنساء مواضع قضاء وطر الرجال. وقد سَدَّ الشارع الأبواب المُفضية إلى تعلق كل فرد من أفراد النوعين بالآخر. بعض الأدلة على تحريم اختلاط المرأة بالرجال الأجانب: الدليل الأول: قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} (الأحزاب: 53).

فلا يقل أحد غير ما قال الله، لا يقل أحد إن الاختلاط، وإزالة الحجب، والترخص في الحديث واللقاء والجلوس والمشاركة بين الجنسين أطهر للقلوب، وأعف للضمائر، وأعون على تصريف الغريزة المكبوتة، وعلى إشعار الجنسين بالأدب وترقيق المشاعر والسلوك ... إلى آخر ما يقوله نفر من خلق الله الضعاف والمهازيل الجهال المحجوبين، لا يقل أحد شيئًا من هذا ... يقول الله هذا عن نساء النبي الطاهرات، أمهات المؤمنين، وعن رجال الصدر الأول من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ممن لا تتطاول إليهن وإليهم الأعناق. وإذا كانت هذه الآية نزلت في أمهات المؤمنين فالعبرة - كما يقول الأصوليون - بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كانت أمهات المؤمنين المقطوع بعفتهن وطهارتهن مأمورات بالحجاب، وعدم الظهور أمام الأجانب فالنساء المسلمات بشكل عام مأمورات بالستر وعدم الظهور من باب أولى. الدليل الثاني: الأمر بغض البصر دليل على المنع من الاختلاط: أمر الله الرجال بغض البصر، وأمر النساء بذلك؛ قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} ... (النور: 30 - 31). فلو كان الاختلاط سائغًا في الشرع لكان في هذه الأوامر الربانية تكليف بما لا يطاق؛ إذ كيف تختلط المرأة بالرجل، وتجلس بجواره في العمل أو الدراسة، ولا ينظر كل واحد منهما للآخر وهما يتبادلان الأعمال والأوراق والدروس؟! كيف نتصور غض البصر لكل من الرجل والمرأة وهما مجتمعان في مكان واحد؛ فالآية إذن في مدلولها تنهى عن الاختلاط وتحرمه.

إن غض البصر من الرجال عن محاسن المرأة؛ سواء البشرة إذا انكشفت، أو تقاسيم البدن إذا بدت من وراء الحجاب: مأمور به. وسواء قيل بوجوب تغطية الوجه والكفين أم لا، فإن غض البصر واجب عن سائر البدن. وغض البصر متعذر بل ممتنع في الاختلاط المنظم؛ لطول المكث في مجلس واحد، فصَرْفُ البصر من كليهما غير ممكن، وتحوط المرأة في حجابها شاق؛ إذ طول المقام يلجؤها إلى تغيير أوضاعها، مما سيبدي حتما ما يجب ستره. فما كان الشارع ليأمر بغض البصر من كليهما، ثم يبيح اختلاطهما على هذه الصورة، فإن في الإباحة تحريضًا وتيسيرًا للنظر، وإتْبَاعه بنظرة أخرى، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لعليِّ - رضي الله عنه -: «يَا عَلِىُّ لاَ تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ». (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). فالمختلط إذا قدر على الغض في الأولى، فهل سيصمد في الثانية، أو الثالثة إلى المائة، وهي كذلك، هما كل يوم في لقاءات مستمرة لساعات طويلة، قد تبلغ الثمان والعشر؟. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا» (رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم). وإنما كان زنًا لأنه تمتع بالنظر إلى محاسن المرأة ومُؤَدٍّ إلى دخولها في قلب ناظرها، فتعلق في قلبه، فيسعى إلى إيقاع الفاحشة بها. فإذا نهى الشارع عن النظر إليهن لما يؤدي إليه من المفسدة وهو حاصل في الاختلاط، فكذلك الاختلاط يُنهى عنه لأنه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من التمتع بالنظر والسعي إلى ما هو أسوأ منه. وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن من حق الطريق: «غَضّ البَصَر» (رواه البخاري ومسلم). فإذا كان غض البصر واجبًا على الرجال إذا مرت بمجلسهم في الطريق امرأة مرورًا عابرًا، فكيف يسوغ لبعض الناس أن يزعموا أن شريعة الله تعالى لا تُمانع من اختلاط الرجال بالنساء يوميًا في مكان مغلق الساعات الطوال؟!

وإذا كان استراق النظر خيانة كما في قول الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر: 19)؛ فكيف تكون المخالطة؟ وإذا نهى الشارع عن النظر إلى النساء بسبب ما يؤدي إليه من المفسدة وهو حاصل في الاختلاط، فكذلك الاختلاط ينهى عنه لأنه وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من التمتع بالنظر والسعي إلى ما هو أسوأ منه، وواقع الناس اليوم يبين أن الاختلاط يفضي لزامًا لوقوع البصر فيما أمر الله بحفظه عنه. الدليل الثالث: عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟»، قَالَ: «الْحَمْوُ الْمَوْتُ» (رواه البخاري ومسلم). وجه الاستدلال: أنه حذّر من الدخول على النساء باسم فعل الأمر (إيَّاك)، والمعنى احفظوا أنفسكم واتقوا الدخول على النساء، فهو أمرٌ باتِّقَاء الدخول على النساء والأمر يفيد الوجوب، ونهي عن الدخول عليهن؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضدّه، والنهي يفيد التحريم. وسمى - صلى الله عليه وآله وسلم - دخول قريب الرجل على امرأته وهو غير مَحْرَم لها باسم الموت، ولا شك أن تلك العبارة هي أبلغ عبارات التحذير، وهذا دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} (الأحزاب: 53) عام في جميع النساء؛ إذ لو كان حكمه خاصًا بأزواجه - صلى الله عليه وآله وسلم - لَمَا حذر الرجالَ هذا التحذير البالغ العام من الدخول على النساء. وظاهر الحديث التحذير من الدخول عليهن ولو لم تحصل الخلوة بينهما، وهو كذلك، فالدخول عليهن والخلوة بهن كلاهما محرم تحريمًا شديدًا بانفراده.

فتأملوا قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في دخول قريب الزوج على زوجته «الْحَمْوُ الْمَوْتُ»؛ لتدركوا أن اختلاط الرجال الأجانب بالنساء الأجنبيات أنه هو الموت.

الدليل الرابع: عن أَبِى أُسَيْدٍ الأَنْصَارِىِّ سدد خطاكم أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ - وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ فَاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِى الطَّرِيقِ - فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِلنِّسَاءِ: «اسْتَأْخِرْنَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْقُقْنَ الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَاتِ الطَّرِيقِ». فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَلْتَصِقُ بِالْجِدَارِ حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لَيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ. (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). (وَهُوَ خَارِج): أَيْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، (أَنْ تَحْقُقْنَ) هُوَ أَنْ يَرْكَبْنَ حُقّهَا وَهُوَ وَسَطهَا، أَيْ ابْعُدْنَ عَنْ الطَّرِيق، وَالْمَعْنَى أَنْ لَيْسَ لَهُنَّ أَنْ يَذْهَبْنَ فِي وَسَط الطَّرِيق. (بِحَافَّاتِ): جَمْع حَافَّة وَهِيَ النَّاحِيَة. (ثَوْبهَا): أَيْ الْمَرْأَة (مِنْ لُصُوقهَا): أَيْ الْمَرْأَة (بِهِ): بِالْجِدَارِ. ووجه الدلالة: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا منع الاختلاط في الطريق لأنه يؤدى إلى الافتتان، فكيف يقال بجواز الاختلاط في غير ذلك؟!. الدليل الخامس: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؛ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ». (رواه مسلم). ووجه الدلالة أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر باتقاء النساء، وهو يقتضي الوجوب، فكيف يحصل الامتثال مع الاختلاط؟!! الدليل السادس: قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً هِيَ أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ» (رواه البخاري ومسلم). ووجه الدلالة: أنه وصَفَهُنَّ بأنهن فتنة فكيف يُجمع بين الفاتن والمفتون؟ هذا لا يجوز. الدليل السابع: قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ فَإِذَا خَرَجَتْ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

(فَإِذَا خَرَجَتْ اِسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ) أَيْ زَيَّنَهَا فِي نَظَرِ الرِّجَالِ، وَقِيلَ أَيْ نَظَرَ إِلَيْهَا لِيُغْوِيَهَا وَيُغْوِيَ بِهَا. وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِشْرَافِ رَفْعُ الْبَصَرِ لِلنَّظَرِ إِلَى الشَّيْءِ وَبَسْطُ الْكَفِّ فَوْقَ الْحَاجِبِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يُسْتَقْبَحُ بُرُوزُهَا وَظُهُورُهَا فَإِذَا خَرَجَتْ أَمْعَنَ النَّظَرَ إِلَيْهَا لِيُغْوِيَهَا بِغَيْرِهَا، وَيُغْوِيَ غَيْرَهَا بِهَا لِيُوقِعَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فِي الْفِتْنَةِ. أَوْ يُرِيدَ بِالشَّيْطَانِ شَيْطَانُ الْإِنْسِ مِنْ أَهْلِ الْفِسْقِ سَمَّاهُ بِهِ عَلَى التَّشْبِيهِ. والاختلاط وسيلة إلى تسهيل هذا التزيين والإغواء. دَعِي عنكِ قومًا زاحمَتْهُم نساؤُهم ... فكانوا كما حفَّ الشرابَ ذبابُ تساوَوا فهذا بينهم مثلُ هذهِ ... وسِيَّانُ معنىً يافعٌ وكَعَابُ وما عجبي أنَّ النساءَ ترجَّلَتْ ... لكنَّ تأنيثَ الرجالِ عُجَاب الغُلامُ إذا كادَ يَبْلُغُ الحُلُمَ أوْ بَلَغَهُ فهو يافِع وَمُرَاهِق، والكَعَاب: المرأة حين يَبْدُو ثَدْيُها للنّهود، والمعنى: لا فرق عندهم بين ذكر وأنثى، فالرجال مثل النساء. الدليل الثامن: قول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» (رواه مسلم). ووجه الدلالة أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - شرع للنساء إذا أتَيْن إلى المسجد فإنهن ينفصلن عن الجماعة على حدة، ثم وصف أول صفوفهن بالشر، والمؤخر منهن بالخير، وما ذلك إلا لبُعد المتأخرات عن الرجال عن مخالطتهم ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم، وذمّ أول صفوفهن لحصول عكس ذلك، ووصف آخر صفوف الرجال بالشر إذا كان معهم نساء في المسجد؛ لفوات التقدم والقُرْب من الإمام وقربه من النساء اللاتى يشغلن البال، وربما أفسدن به العبادة وشوشن النية والخشوع. فإذا كان الشارع توقع حصول ذلك في مواطن العبادة مع أنه لم يحصل اختلاط فحصول ذلك إذا وقع اختلاط من باب أولى فيمنع الاختلاط من باب أولى.

وقد أفرد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في المسجد بابًا خاصًّا للنساء يدخلن , ويخَرجن منه , لا يُخالطهن , ولا يُشاركهن فيه الرجال. فعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ تَرَكْنَا هَذَا الْبَابَ لِلنِّسَاءِ»، قَالَ نَافِعٌ: «فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ حَتَّى مَاتَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). وشرع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - للرجال إمامًا ومؤتمين ألاَّ يخرُجوا فور التسليم من الصلاة , إذا كان بالصفوف الأخيرة بالمسجد نساء , حتى يخرجن , وينصرفن إلى دورهن قبل الرجال , لكي لا يحصل الاختلاط بين الجنسين ـ ولو بدون قصد ـ إذا خرجوا جميعًا. فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَتْ: «كَانَ يُسَلِّمُ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه البخاري). وهذا كله في حال العبادة والصلاة التي يكون فيها المسلم أو المسلمة أبعد ما يكون عن وسوسة الشيطان وإغوائه , فكيف بما عداها؟!. الدليل التاسع: روى البخاري ومسلم أَنَّ صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جَاءَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - تَزُورُهُ فِى اعْتِكَافِهِ فِى الْمَسْجِدِ، فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَتَحَدَّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً، ثُمَّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ، فَقَامَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَعَهَا يَقْلِبُهَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ بَابَ الْمَسْجِدِ عِنْدَ بَابِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرَّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ، فَسَلَّمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ لَهُمَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «عَلَى رِسْلِكُمَا إِنَّمَا هِىَ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ». فَقَالاَ: «سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ». وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِى قُلُوبِكُمَا شَيْئًا». والشاهد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قرر أن خلطة الرجل بالمرأة موطن ريبة، ومحل تهمة، مع أن هذه الخلطة كانت: - عند المسجد.

- وفي مكان عام مطروق (يمر فيه الناس). - وزمانها ليلة من ليال العشر الأواخر من رمضان. - مع امرأة مضروب عليها الحجاب الكامل بغير خلاف لكونها من أزواجه - صلى الله عليه وآله وسلم -. - أضف إلى ذلك الأصول المقررة؛ كعصمة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ورسوخ إيمان صحابته - رضي الله عنهم -. كل ذلك لم يبرر ترك بيان أن الاختلاط بالنساء موضع تهمة، ومحل شبهة. الدليل العاشر: قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُبَاشِرْ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا» (رواه البخاري)؛ فالمرأة المسلمة منهية عن وصف المرأة الأجنبية لزوجها كأنه ينظر إليها، والْحِكْمَة فِي هَذَا النَّهْي خَشْيَة أَنْ يُعْجِب الزَّوْج الْوَصْف الْمَذْكُور فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى تَطْلِيق الْوَاصِفَة أَوْ الِافْتِتَان بِالْمَوْصُوفَةِ، فكيف يُعقَل أن ينهى الإسلام المرأةَ المسلمة أن تصف امرأةً أجنبية لزوجها لئَلّا يتعلق قلبُه بها، ثم يبيح لهذا الزوج أن يجالس هذه المرأة الأجنبية ويخالطها في العمل أو الدراسة مخالطةً مستديمة؟!!!

74 - من الثمار المرة للاختلاط

74 - من الثمار المُرّة للاختلاط خطر الاختلاط على الدنيا والدين: يا قومِ لا تُفْنُوا الفضيلة واحذروا ... مِن كُل مَن يدعو إلى الإضلال يا قومِ شاعَ دعاةُ شرٍ بيننا ... يَنْوُونَ خلْط نسائنا برجال يا قومِ ما في الاختلاط سوى ... الأذى وبقاؤنا في أرذلِ الأحوال ثم انظروا يا قومِ فيمن حولنا ... ممن أطاعوا دعوةَ الإضلال لما تخالط بالرجالِ نساؤُهم ... ذهبت كرامتهم كطَيْفِ خيال شاع الفسادُ بأرْضِهم وتخالطتْ ... أنسابُهم وبقُوا بأرذلِ حال يا قومِ قد أبدَيْتُ نُصحي فاحذرُوا ... مِن كل مَن يدعو إلى الإضلال إن جعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة، التي تمثل صفعة قوية في وجه كل من يجادل في الحق بعدما تبين. وإن الإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي فيها الاختلاط ناطقة بل صارخة بخطر الاختلاط على الدنيا والدين، لخصها العلامة أحمد وفيق باشا العثماني، الذي كان سريع الخاطر، حاضر الجواب عندما سأله بعض عُشَرائه من رجال السياسة في أوربا، في مجلس بإحدى تلك العواصم قائلًا: «لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن، من غير أن يخالِطْنَ الرجال، ويغْشَيْنَ مجامِعَهُم؟»، فأجابه في الحال قائلًا: «لأنهن لا يرغَبْنَ أنْ يَلِدْنَ من غيرِ أزواجهن». وكان هذا الجواب كصَبِّ ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر. ونستطيع - بكل قوة - أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها، وهي أنك إذا وقفت على جريمة فيها نُهِش العرضُ، وذُبِح العفافُ، وأهدِرَ الشرف، ثم فتشت عن الخيوط

الأولى التي نسجت الجريمة، وسهَّلت سبيلها، فإنك حتمًا ستجد أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة الإسلامية بين الرجال والنساء. ومن خلال هذه الثغرة ... دخل الشيطان! وصدق الله العظيم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (النساء: 27 – 28). من ثمار الاختلاط المرة: إن الاختلاط بين الرجال والنساء في العمل وغيره، له آثاره السيئة، ومفاسده الواضحة، على كلٍّ من الرجل والمرأة، ومن ذلك: 1 - تعسير غضّ البصر , وتيسير زنا العين بحصول النظر المحرم، وقد أمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بغض البصر. 2 - قد يحصل فيه اللمس المُحَرّم، ومنه المصافحة باليد، وقد قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لأَنْ يُطْعَنَ فِي رَأْسِ رَجُلٍ بِمِخْيَطٍ مِنْ حَدِيدٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمَسَّ امْرَأَةً لا تَحِلُّ لَهُ». (رواه الطبراني، وصححه الألباني). 3 - الاختلاط قد يوقع في خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه، وهذا محرم. إن أنواع الزنا الأصغر تتحقق عند اختلاط الرجال بالنساء، فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ «كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنَ الزِّنَى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لاَ مَحَالَةَ؛ فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الاِسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلاَمُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ». (رواه البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم). والمختلطون بالنساء لا يكاد أحد منهم يسلم من الوقوع في هذة الأنواع أو بعضها.

4 - ومن مفاسده التسبب في بلاء العشق الذي يتلف الدنيا والدين، حيث تعلق قلب الرجل بالمرأة وافتتانه بها، أو العكس، وذلك من جراء الخلطة، وطول المعاشرة. 5 - دمار الأسر وخراب البيوت، فكم من رجل أهمل بيته، وضيع أسرته، لانشغال قلبه بزميلته في الدراسة أو العمل، وكم من امرأة ضيعت زوجها وأهملت بيتها، لنفس السبب، بل: كم من حالة طلاق وقعت بسبب العلاقة المحرمة التي أقامها الزوج أو الزوجة، وكان الاختلاط في العمل رائدها وقائدها؟. إن من الآثار المدمرة الخطيرة للاختلاط أن يفقد الزواج الطاهر قيمته في نفوس من استحوذ عليهم مرض الاختلاط، حيث يجد كلا الجنسين سبيله إلى متعة مغرية تجعله لا يفكّر بالزواج، بل تُفقِد المتزوج اهتمامه برابط الزوجية مع زوجته، فيفارقها أو تفارقه إلى اتخاذ الأخدان من الأخلاّء والخليلات، أو الطلاق والفرقة لأتفه الأسباب. قالت مفيدة عبد الرحمن - وهي أشهر محامية طلاق في مصر-: «الاختلاط أنا ضده تمامًا؛ الاختلاط مفسدة، يحدث أن تذهب الزوجة إلى عملها في حالة اكتئاب فتجد زميلها يلاطفها ويصغي إليها ويريحها، وتتكرر هذه الجلسات: مرة في الصباح مع فنجان القهوة، ومرة أثناء غداء في المكتب، ومرة ثالثة وهو يدعوها لتوصيلها بسيارته، وفي كل مرة يحدث التقارب النفسي، فالتعارف الشخصي المباشر، وتعود الزوجة تطلب الطلاق وتتزوج الآخر، وقد تجد هناءها المنشود، وقد تكتشف أنها مجرد (نزوة) ونفس الموقف يحدث للزوج؛ إن هذا الاختلاط بهذه الصورة حيث لا ضوابط جعل الطلاق أمرًا هينًا وسهلًا بعد أن كان من المستحيلات. 6 - من آثار الاختلاط ذلك التبرّج والتفنّن بإبداء الزينة والجمال، يصل الأمر إلى الخلاعة والعري من أجل إطفاء شهوة الجنس المحرمة بنص الكتاب والسنة. 7 - ومن آثاره المدمرة انعدام الغيرة , واضمحلال الحياء , وفساد الأخلاق , وقد ترى امرأة تحادث أجنبيًا تظن من حالهما أنهما زوجان بعقد أُشْهِد عليه أبو هريرة

- رضي الله عنه -، ولو رآها الديوث زوجها وهي على هذه الحال، لما تحركت منه شعرة، لموات غيرته، نعوذ بالله من موت الغيرة ومن سوء المنقلب. 8 - ومن آثار الاختلاط المدمّرة اضمحلال القوى الجسدية والفكرية في شباب الأمة حين تغتالهم الشهوات المحرمة البهيمية وتسيطر عليهم الاستثارة الجنسية، ويصبح جُلّ تفكيرهم وهدفهم واهتمامهم بصور الإغراء والأدب المكشوف الهابط والموسيقى الراقصة والأغاني الماجنة في الإذاعة والفيديو والسينما والتلفزيون. فيتحوّل المجتمع إلى لهو وعبث ومجون وخلاعة، وهذا بالطبع يؤدي إلى أن يورد المجتمع موارد الهلاك والدمار والعطب والفناء وفشوّ الفاحشة. 9 - الاختلاط سبب في انتشار ما يسمى بالزواج العرفي (¬1): في إحصائية أجراها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية بالقاهرة عام 1426 هـ 2006 م تم رصد عشرة آلاف حالة زواج عرفي بين مديري الشركات والسكرتيرات. ¬

_ (¬1) الزواج العرفي له صورتان: الصورة الأولى: تزوج المرأة في السر، ودون موافقة وليها، وإذا كان كذلك: فهو عقد محرّم ولا يصح أيضًا؛ لأن موافقة الولي من شروط صحة عقد النكاح. والصورة الثانية: التزوج بموافقة المرأة ووليها، لكن دون إعلان أو إشهار، أو دون توثيقه في المحاكم الشرعية أو النظامية، بشرط الإشهاد عليه، وإذا كان كذلك: فهو عقد صحيح من حيث شروطه وأركانه، لكنه مخالف للأمر الشرعي بوجوب الإعلان، ويترتب على عدم توثيقه ضياع لحقوق الزوجة من حيث المهر والميراث، وقد يحصل حمل وإنجاب فكيف سيثبت هذا الولد في الأوراق الرسمية؟ وكيف ستدفع المرأة عن عِرْضها أمام الناس؟. هذا مع العلم أنه قد قال بعض الفقهاء بأن إعلان النكاح من شروط صحته، وهو قول ليس بعيدًا عن الصواب. (فتاوى موقع الإسلام سؤال وجواب، بإشراف الشيخ محمد المنجد، (سؤال رقم 45663).

وكشفت دراسة حكومية مصرية أن أكثر من (14) ألف طفل مصري على الأقل بلا اسم ولا هوية أو نسب، ولا وجود قانوني أو رسمي، بعدما رفض آباؤهم!!! الاعتراف بهم، وأن أغلب هؤلاء الأطفال جاؤوا نتاج زواج عرفي أو غير رسمي ينكره الأب دائمًا. ضحايا الاختلاط ... قصص واقعية: الأمل المفقود؟ امرأة تجاوزت الأربعين تحكي حكايتها: «عشتُ مع زوجي حياة مستورة وإن لم يكن هناك ذاك التقارب والانسجام، لم يكن زوجي تلك الشخصية القوية التي ترضي غروري كامرأة، إلا أن طيبته جعلتني أتغاضى عن كوني أتحمل الشق الأكبر من مسؤولية القرارات التي تخص عائلتي. كان زوجي كثيرًا ما يردد اسم صاحبه وشريكه في العمل على مسمعي وكثيرًا ما اجتمع به في مكتبه الخاص بالعمل الذي هو بالأصل جزء من شقتنا وذلك لسنوات عدة. إلى أن زارنا هذا الشخص هو وعائلته. وبدأتْ الزيارات العائلية تتكرر وبحكم صداقته الشديدة لزوجي لم نلاحظ كم ازداد عدد الزيارات ولا عدد ساعات الزيارة الواحدة. حتى أنه كثيرًا ما كان يأتي منفردًا ليجلس معنا أنا وزوجي الساعات الطوال. ثقة زوجي به كانت بلا حدود، ومع الأيام عرفتُ هذا الشخص عن كثب، فكم هو رائع ومحترم وأخذت أشعر بميل شديد نحوه، وفي نفس الوقت شعرتُ أنه يبادلني الشعور ذاته. وأخذت الأمور تسير بعدها بطريقة عجيبة، حيث أني اكتشفت أن ذلك الشخص هو الذي أريد وهو الذي حلمت به يومًا ما ... لماذا يأتي الآن وبعد كل هذه السنين؟!. كان في كل مرّة يرتفع هذا الشخص في عيني درجة، ينزل زوجي من العين الأخرى درجات. وكأني كنت محتاجة أن أرى جمال شخصيته لأكتشف قبح شخصية زوجي.

لم يتَعَدّ الأمر بيني وبين ذلك الشخص المحترم عن هذه الهواجس التي شغلتني ليل نهار. فلا أنا ولا هو صرّحنا بما ... في قلوبنا .. وليومي هذا ... ومع ذلك فإن حياتي انتهت. زوجي لم يعد يمثل لي سوى ذلك الإنسان الضعيف المهزوز السلبي، كرهتُه، ولا أدري كيف طفح كل ذلك البغض له، وتساءلت كيف تحملته كل هذه السنين ثقلًا على ظهري، وحدي فقط أجَابِهُ معتركات الحياة، ساءت الأمور لدرجة أني طلبت الطلاق، نعم طلقني بناء على رغبتي، أصبح بعدها حطام رجل. الأمرّ من هذا كله أنه بعد خراب بيتي وتحطم أولادي وزوجي بطلاقي، ساءت أوضاع ذلك الرجل العائلية لأنه بفطرة الأنثى التقطت زوجته ما يدور في خفايا القلوب، وحوّلَتْ حياته إلى جحيم. فلقد استبدت بها الغيرة لدرجة أنها في إحدى الليالي تركتْ بيتها في الثانية صباحًا بعد منتصف الليل لتتهجم على بيتي، تصرخ وتبكي وتكيل لي الاتهامات. لقد كان بيتُه أيضًا في طريقه للانهيار. أعترف أن الجلسات الجميلة التي كنّا نعيشها معًا أتاحت لنا الفرصة لنعرف بعضنا في وقتٍ غير مناسب من هذا العمر. عائلتُه تهدمت وكذلك عائلتي، خسرتُ كلَّ شيء وأنا أعلم الآن أن ظروفي وظروفه لا تسمح باتخاذ أي خطوة إيجابية للارتباط ببعضنا، أنا الآن تعيسة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى وأبحث عن سعادة وهمية وأملٍ مفقود». واحدة بواحدة: تقول: «كان لزوجي مجموعة من الأصدقاء المتزوجين، تعودنا بحكم علاقتنا القوية بهم أن نجتمع معهم أسبوعيًا في أحد بيوتنا، للسهر والمرح.

كنت بيني وبين نفسي غير مرتاحة من ذلك الجو، حيث يصاحب العشاء، والحلويات، والمكسرات، والعصائر موجات صاخبة من الضحك، بسبب النكات والطرائف التي تجاوزت حدود الأدب في كثير من الأحيان. باسم الصداقة رُفِعَتْ الكلفة لتسمع بين آونة وأخرى قهقهات مكتومة سرية بين فلانة وزوج فلانة، كان المزاح الثقيل الذي يتطرق - ودون أي خجل - لمواضيع حساسة كالجنس وأشياء خاصة بالنساء - كان شيئًا عاديًا بل مستساغًا وجذابًا. برغم انخراطي معهم في مثل هذه الأمور إلا إن ضميري كان يؤنّبني إلى أن جاء ذلك اليوم الذي أفصح عن قبح وحقارة تلك الأجواء. رنّ الهاتف، وإذا بي أسمع صوت أحد أصدقاء الشلّة، رحبت به واعتذرت لأن زوجي غير موجود، إلا أنه أجاب بأنه يعلم ذلك وأنه لم يتصل إلا من أجلي أنا (!) ثارت ثائرتي بعد أن عرض عليّ أن يقيم علاقة معي، أغلظت عليه بالقول وقبحته، فما كان منه إلا أن ضحك قائلًا: «بدل هذه الشهامة معي، كوني شهمة مع زوجك وراقبي ماذا يفعل». حطمني هذا الكلام، لكني تماسكت وقلت في نفسي أن هذا الشخص يريد تدمير بيتي، لكنه نجح في زرع الشكوك تجاه زوجي. وخلال مدّة قصيرة كانت الطامة الكبرى، اكتشفت أن زوجي يخونني مع امرأة أخرى، كانت قضية حياة أو موت بالنسبة لي، كاشفْتُ زوجي وواجهته قائلة: «لست وحدك الذي تستطيع إقامة علاقات، فأنا عُرِضَ علَيَّ مشروع مماثل، وقصَصْتُ عليه قصة صاحبه، فذهل لدرجة الصّدمة. إن كنت تريدني أن أتقبل علاقتك مع تلك المرأة، فهذه بتلك. صفْعَتُه زلزلت كياني وقتها، هو يعلم أني لم أكن أعني ذلك فعلًا، لكنه شعر بالمصيبة التي حلّت بحياتنا وبالجو الفاسد الذي نعيش، عانيت كثيرًا حتى ترك زوجي تلك الساقطة التي كان متعلقًا بها كما اعترف لي.

نعم لقد تركها وعاد إلى بيته وأولاده ولكن من يُرْجِع لي زوجي في نفسي كما كان؟؟ من يعيد هيبته واحترامه وتقديره في أعماقي؟؟ وبقى هذا الجرح الكبير في قلبي الذي ينزّ ندمًا وحرقة من تلك الأجواء النتنة، بقى شاهدًا على ما يسمونه السهرات البريئة وهي في مضمونها غير بريئة، بقي يطلب الرحمة من رب العزة». كانت تجلس معه ومع زوجته فاختار أن يتزوجها ويطلق زوجته: مشكلتي هي أني مقبلة على الزواج من زوج صديقة أختي، كنت أذهب إلى بيتها وأجلس معها وزوجها، وكنا نتحدث دائمًا مع بعض ولما كانت تنصحها أختي: «هذا حرام» - أي الاختلاط - استهزأتْ مِن أختي، وقالت لها: «أنتم متخلفون» , إلى أن تقدم زوجُها وخطبني وهو يقول إنه معجب بي من أول نظرة. ماذا لو علم زوجها؟!!! أثناء الجماع تتخيل زميلها في العمل مكان زوجها: حدث بينها وبين زوجها بعض المشكلات البسيطة - كما يحدث في معظم البيوت - فوجدتْ المعاملة الحسنة من زميلها في العمل، فتعلقتْ به، فبدأت علاقتها مع زوجها تسوء أكثر وأكثر، لدرجة أنها تمنَّت الطلاق من زوجها، ولم تطالبه بذلك حفاظًا على أولادها، وكرهَتْ إعطاءه حقه في الجماع، وإنْ حدث فإنها تتخيل أن زميلها في العمل هو الذي يجامعها، كل هذا وزميلها في العمل لا يعلم شيئًا عن تعلقها به. وأخرى: تحكي بالتفصيل لزملائها الرجال!!! ما يحدث بينها وبين زوجها أثناء الجماع. وأخرى: تنصح زميلها في العمل - المقبل على الزواج - بما ينبغي أن يفعله مع عروسه عند الدخول بها، كل هذا بالتفصيل طبعًا، مع أنه لم يطلب منها النصيحة، وكان - مع أنه رجل - في موقفٍ سبب له إحراجًا بالغًا.

75 - واجبنا نحو آل بيت النبي

75 - واجِبُنا نحو آل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - (¬1) فضل محبة الله تعالى: إن أعظم ما يُحَصِّلُه العبد في دنياه وآخرته هو محبة الله تعالى له، فهي الغاية التي يتنافس فيها المتنافسون , وإليها شَخَصَ العاملون , وإلى عَلَمها شمر الصادقون , فهي جنة الدنيا ولذة القلب وقوته وحياته , فالقلب لا يفلح ولا يصلح ولا يتنعم ولا يبتهج ولا يلتذ ولا يطمئن ولا يسكن إلا بمعرفة الله - عز وجل - ومحبته , فمحبة العبد لربه ومحبة الله لعبده هي النور والشفاء والسعادة واللذة , تالله لقد ذهب أهل المحبة بشرف الدنيا والآخرة. إن مِن محبة الله وطاعته محبةَ رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وطاعته، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (آل عمران:31)، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (رواه البخاري ومسلم). ومن علامات محبته - صلى الله عليه وآله وسلم - محبة من أحبّ، وطاعة من أمر بطاعته، ومن ذلك محبه آل بيته - صلى الله عليه وآله وسلم -. مَن هم أهل البيت؟ القولُ الصحيحُ في المرادِ بآل بيت النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - هم مَن تَحرُم عليهم الصَّدقةُ، وهم أزواجُه وذريَّتُه، وكلُّ مسلمٍ ومسلمةٍ من نَسْل عبد المطلب، وهم بنُو هاشِم بن عبد مَناف؛ ويدلُّ لدخول بنِي أعمامه في أهل بيته ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أنَّه ذهب هو والفضل بن عباس إلى رسول ¬

_ (¬1) انظر: فضلُ أهل البيت وعلوُّ مكانتِهم عند أهل السُّنَّة والجماعة، للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر.

الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يطلبان منه أن يُولِّيهما على الصَّدقةِ ليُصيبَا مِن المال ما يتزوَّجان به، فقال لهما: “ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَنْبَغِي لِآلِ مُحَمَّدٍ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ “، ثمَّ أمر بتزويجهما وإصداقهما من الخُمْس. وقد ألْحَق بعضُ أهل العلم - منهم الشافعي وأحمد - بنِي المطلب بن عبد مَناف ببَنِي هاشم في تحريم الصَّدقة عليهم؛ لمشاركتِهم إيَّاهم في إعطائهم من خمس الخُمس؛ وذلك للحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن جُبير بن مُطعِم، الذي فيه أنَّ إعطاءَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لبَنِي هاشم وبنِي المطلب دون إخوانِهم من بنِي عبد شمس ونوفل؛ لكون بنِي هاشم وبَنِي المطلب شيئًا واحدًا. فأمَّا دخول أزواجه - رضي الله عنهن - في آلِه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فيدلُّ لذلك قول الله - عز وجل -: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)} (الأحزاب: 33 - 34).فإنَّ هذه الآيةَ تدلُّ على دخولِهنَّ حتمًا؛ لأنَّ سياقَ الآيات قبلها وبعدها خطابٌ لهنَّ. حديث الكساء: ولا يُنافي ذلك ما جاء في صحيح مسلم عن أم المؤمنين عَائِشَةُ - رضي الله عنها - قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ، مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (¬1). ¬

_ (¬1) الأحزاب: 33، والمرط: كساء، وجمعه: مروط، والمرحَّل: الموشى المنقوش عليه صور رحال الإبل.

لأنَّ الآيةَ دالَّةٌ على دخولِهنَّ؛ لكون الخطابِ في الآيات لهنَّ، ودخولُ عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - في الآيةِ دلَّت عليه السُّنَّةُ في هذا الحديث، وتخصيصُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لهؤلاء الأربعة - رضي الله عنهم - في هذا الحديث لا يدلُّ على قَصْرِ أهل بيته عليهم دون القرابات الأخرى، وإنَّما يدلُّ على أنَّهم مِن أخصِّ أقاربه. وعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، قَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ، مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ، فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ، ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (¬1) (رواه مسلم). وعن عُمَرَ بْنِ أَبِى سَلَمَةَ رَبِيبِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (¬2) فِى بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَدَعَا فَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْنًا فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ وَعَلِىٌّ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَجَلَّلَهُمْ بِكِسَاءٍ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِى فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا». قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: «وَأَنَا مَعَهُمْ يَا نَبِىَّ اللهِ؟»، قَالَ: «أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (أَنْتِ عَلَى مَكَانِك وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ) أَنْتِ على خَيْرٌ وَعَلَى مَكَانِك مِنْ كَوْنِك مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، وَلَا حَاجَةَ لَك فِي الدُّخُولِ تَحْتَ الْكِسَاءِ، وكَأَنَّهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَنَعَهَا عَنْ ذَلِكَ لِمَكَانٍ عَلِيٍّ - رضي الله عنه -. معنى هذا الحديث أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بما له من مكانة عند ربه - سبحانه وتعالى -، جمع عليًّا وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم - تحت ثوب ثم دعا الله أن يدخلهم في أهل بيته بدلالة ¬

_ (¬1) الأحزاب:33. (¬2) الأحزاب:33.

قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَأَذْهِبْ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهِّرْهُمْ تَطْهِيرًا»؛ فلو كانوا داخلين في الآية من قَبْل لَمَا دعا لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا الحديث بذهاب الرجس والتطهير، ولَمَا خاطَبَ اللهَ - سبحانه وتعالى - بقوله: «اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِى»، فالله - سبحانه وتعالى - قد بَيَّنَ في الآية أن المخاطَب هن نساء الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يمكن أن يقصد من قوله: «اللَّهُمَّ هَؤُلاَءِ أَهْلُ بَيْتِى» أنه يريد تعريف الله - سبحانه وتعالى - مَن هُم أهل بيته، ولكن أراد مِن ربّه ضَمَّهُم لأهل البيت. ولذلك عندما أرادت أُمُّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - أن تدخل تحت الكساء قال لها - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنْتِ عَلَى مَكَانِكِ وَأَنْتِ عَلَى خَيْرٍ» أي أنك قد ذُكِرْتِ بالآية فلا حاجة لدخولك تحت الكساء، وإنما أطلب من الله أن يضيف هؤلاء إلى أهل البيت. مُجملُ عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في أهل البيت: عقيدةُ أهل السُّنَّة والجماعة وسَطٌ بين الإفراطِ والتَّفريط، والغلُوِّ والجَفاء في جميعِ مسائل الاعتقاد، ومِن ذلك عقيدتهم في آل بيت الرَّسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنَّهم يَتوَلَّونَ كلَّ مسلمٍ ومسلمةٍ من نَسْل عبد المطلِّب، وكذلك زوجات النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - جميعًا، فيُحبُّون الجميعَ، ويُثنون عليهم، ويُنْزلونَهم منازلَهم التي يَستحقُّونَها بالعدلِ والإنصافِ، لا بالهوى والتعسُّف، ويَعرِفون الفضلَ لِمَن جَمع اللهُ له بين شرِف الإيمانِ وشرَف النَّسَب، فمَن كان من أهل البيت من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإنَّهم يُحبُّونَه لإيمانِه وتقواه، ولصُحبَتِه إيَّاه، ولقرابَتِه منه - صلى الله عليه وآله وسلم -. ومَن لَم يكن منهم صحابيًّا، فإنَّهم يُحبُّونَه لإيمانِه وتقْواه، ولقُرْبِه من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويَرَون أنَّ شرَفَ النَّسَب تابعٌ لشرَف الإيمان، ومَن جمَع اللهُ له بينهما فقد جمع له بين الحُسْنَيَيْن، ومَن لَم يُوَفَّق للإيمان، فإنَّ شرَفَ النَّسَب لا يُفيدُه شيئًا، وقد قال الله - عز وجل -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13)، وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ، لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ “. (رواه مسلم). ومعناه أنَّ العملَ هو الذي يَبلُغُ بالعبدِ درجات الآخرة، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} (الأنعام: 132)، فمَن أبطأ به عملُه أن يبلُغَ به المنازلَ العاليةَ عند الله تعالى لَم يُسرِع به نسبُه، فيبلغه تلك

الدَّرجات؛ فإنَّ اللهَ رتَّب الجزاءَ على الأعمال لا على الأنساب، كما قال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)} (المؤمنون: 101). ويشهد لهذا كلِّه ما في الصحيحين عن عمرو بن العاص سدد خطاكم أنَّه سمع النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: “ أَلَا إِنَّ آلَ أَبِي، يَعْنِي فُلَانًا، لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ “، يشير إلى أنَّ ولايتَه لا تُنال بالنَّسَب وإن قَرُب، وإنَّما تُنال بالإيمان والعمل الصالح، فمن كان أكملَ إيمانًا وعملًا فهو أعظم ولايةً له، سواء كان له منه نسبٌ قريبٌ أو لم يكن، وفي هذا المعنى يقول بعضُهم: وربِّكَ مَا الإنسانُ إلاَّ بدينِهِ فلَا ... تَتْرُكِ التقوَى اتِّكالًا على النَّسب لقدْ رفعَ الإسلامُ سلمانَ فارسٍ ... وقدْ وضعَ الشركُ النَّسِيبَ أبا لهب أهل السنة وسط في حب آل البيت بين المذاهب: فالشيعة يغالون في حب آل البيت، ومنهم من يطوف على قبورهم، ويدعوهم بكشف الضر وجلب النفع، ومنهم من يزعم أنهم يعلمون الغيب ... إلخ. وأما النواصب فيبغضون آل البيت ويحاربونهم، والخوارج منهم قتلوا علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وشنعوا عليه. وأما أهل السنة فيحبون آل البيت ويذكرون فضائلهم، ويعتبرون حبهم إيمانًا، وبغضهم نفاقًا، لكنهم لا يغلون فيهم، فلا يطوفون حول قبورهم؛ لأن الله أمر بالطواف حول الكعبة فقط، ولأن الطواف عبادة والعبادة لا تكون إلا لله ... وكذلك لا يدَّعون فيهم أنهم يعلمون الغيب، قال تعالى: { ... قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (النمل: 65). وهذه العقيدة - عقيدة أهل السنة في آل البيت رضوان الله عليهم - موجودة في كتبهم: كتب الحديث، وكتب العقائد، وكتب الفقه، حيث يذكرها كل صاحب

مصنَّف في الموضع الذي يناسبه، ففي كتب الحديث تجد أبوابًا في فضائلهم، وفي كتب العقائد تجد أبوابًا في بيان المعتقد فيهم، وفي كتب الفقه تجد أبوابًا فيما يتعلق بهم من أحكام، كتحريم الصدقة عليهم، وغير ذلك. فضائل آل البيت: أولا: فضائل عامة: ومنها 1 - قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} (الأحزاب: 33). 2 - حديث زيد بن أرقم - رضي الله عنه - وفيه قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَأَهْلُ بَيْتِي أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» (رواه مسلم) وهذا عام في كل أهل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وأهلَ السُّنَّة والجماعة هم أسعَدُ الناس بتنفيذ وصيَّة النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في أهل بيتِه التي جاءت في هذا الحديث؛ لأنَّهم يُحبُّونَهم جميعًا ويتوَلَّونَهم، ويُنزلونَهم منازلَهم التي يستحقُّونَها بالعدلِ والإنصافِ، وأمَّا الشيعة فهم أبعدُ الناسِ عن هذه الوصيَّة؛ فإنَّهم يُعادُون العبَّاس وذُريَّتَه، بل يُعادون جمهور أهل البيت. 3 - قال - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح: «كُلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ سَبَبي ونَسَبي»، (رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وللحديث طرقٌ كثيرة، جوَّدَ بعضَها ابنُ كثير، وصححه ابن السَّكَن، والحاكم، والضياء، والذهبي، والألباني، وغيرُهم). 4 - أحاديث الصلاة عليهم في التشهد: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وَنَحْنُ فِي مَجْلِسِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ: «أَمَرَنَا اللهُ تَعَالَى أَنَّ نُصَلِّيَ عَلَيْكَ، يَا رَسُولَ اللهِ؛ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟»، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - حَتَّى تَمَنَّيْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْأَلْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ

اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه مسلم). وعن أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ - رضي الله عنه - أَنَّهُمْ قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟»، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه البخاري). ثانيًا: الفضائل الخاصة: 1 - عن عَلِيّ بن أبي طالب سدد خطاكمقَالَ: «وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَيَّ أَنْ لَا يُحِبَّنِي إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا يُبْغِضَنِي إِلَّا مُنَافِقٌ» (رواه مسلم). (فَلَق الْحَبَّة) شَقَّهَا بِالنَّبَاتِ. (وَبَرَأَ النَّسَمَة) خَلَقَ النَّسَمَة وَهِيَ الْإِنْسَان، وَقِيلَ: النَّفْس. 2 - عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاص سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا، فَقَالَ: «أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاء». قَالَ: «أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي» (رواه البخاري ومسلم). قَالَ الْقَاضِي عياض: هَذَا الْحَدِيث مِمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِ سَائِر فِرَق الشِّيعَة فِي أَنَّ الْخِلَافَة كَانَتْ حَقًّا لِعَلِيٍّ سدد خطاكم، وَأَنَّهُ وَصَّى لَهُ بِهَا. ثُمَّ اِخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ، فَكَفَّرَتْ الرَّوَافِض سَائِر الصَّحَابَة فِي تَقْدِيمهمْ غَيْره، وَزَادَ بَعْضهمْ فَكَفَّرَ عَلِيًّا لِأَنَّهُ لَمْ يَقُمْ فِي طَلَب حَقّه بِزَعْمِهِمْ. وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ مَنْ قَالَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَفَّرَ الْأُمَّةَ كُلّهَا وَالصَّدْر الْأَوَّل فَقَدْ أَبْطَلَ نَقْل الشَّرِيعَة، وَهَدَمَ الْإِسْلَام. وَهَذَا الْحَدِيث لَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ، بَلْ فِيهِ إِثْبَات فَضِيلَة لِعَلِيٍّ سدد خطاكم، وَلَا تَعَرُّضَ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَفْضَل مِنْ غَيْره أَوْ مِثْله، وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ لِاسْتِخْلَافِهِ بَعْده، لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِعَلِيٍّ سدد خطاكم حِين اِسْتَخْلَفَهُ فِي الْمَدِينَة فِي غَزْوَة تَبُوك.

وَيُؤَيِّد هَذَا أَنَّ هَارُون الْمُشَبَّه بِهِ لَمْ يَكُنْ خَلِيفَة بَعْد مُوسَى، بَلْ تُوُفِّيَ فِي حَيَاة مُوسَى، وَقَبْل وَفَاة مُوسَى بِنَحْوِ أَرْبَعِينَ سَنَة عَلَى مَا هُوَ مَشْهُور عِنْد أَهْل الْأَخْبَار وَالْقَصَص. قَالُوا: وَإِنَّمَا اِسْتَخْلَفَهُ حِين ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبّه لِلْمُنَاجَاةِ».اهـ باختصار من (شرح صحيح مسلم للنووي). 3 - عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). مَعْنَاهُ مَنْ كُنْت أَتَوَلَّاهُ فِعْلِيٌّ يَتَوَلَّاهُ - مِنْ الْوَلِيِّ ضِدُّ الْعَدُوِّ - أَيْ مَنْ كُنْتُ أُحِبُّهُ فِعْلِيٌّ يُحِبُّهُ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: مَنْ يَتَوَلَّانِي فِعْلِيٌّ يَتَوَلَّاهُ. قَالَ الإمام الشَّافِعِيُّ - رحمه الله -: «يَعْنِي بِذَلِكَ وَلَاءَ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)} (محمد:11) وَقَوْلُ عُمَرَ لِعَلِيٍّ - رضي الله عنهما -: “ أَصْبَحْت مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ» أَيْ وَلِيُّ كُلِّ مُؤْمِنٍ. 4 - عن أَبي بَكْرَةَ سدد خطاكم قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» (رواه البخاري). 5 - عَنْ ابْنِ عُمَرَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَبُوهُمَا خَيْرٌ مِنْهُمَا» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). 6 - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ إلا ابْنَي الخَالَةِ عِيسَى بْنِ مَرْيَم ويحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا، وَفَاطِمَةُ سَيِّدَةُ نِسَائِهِمْ إِلَّا مَا كَانَ لِمَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني). 7 - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «العَبَّاسُ عَمُّ رَسُولِ اللهِ، وَإِنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ، أَوْ مِنْ صِنْوِ أَبِيهِ»، (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

(صِنْوُ أَبِيهِ): أَي أَصله وَأَصله شَيْء وَاحِد أَو مثله فِي رِعَايَة الْأَدَب وَحفظ الْحُرْمَة. 8 - عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ، فَوَضَعْتُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - طَهُورًا، فَقَالَ: «مَنْ وَضَعَ هَذَا؟»، قَالَتْ مَيْمُونَةُ: «عَبْدُ الله»، فَقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني). من فضائل زوجات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: 1 - قوله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (الأحزاب: 6)؛ فقد وصفهنَّ بأنَّهنَّ أمّهات المؤمنين. 2 - كونهنَّ خُيِّرْن بين إرادة الدنيا وزينتها، وبين إرادة الله ورسوله والدار الآخرة، فاخترنَ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخرة، - رضي الله عنهن -. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)} (الأحزاب: 28 – 29) لما اجتمع نساء رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في الغيرة، وطلبْن منه النفقة والكسوة، طلبن منه أمرًا لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يزلن في طلبهن متفقات، شَقَّ ذلك على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا. فأراد اللهُ - عز وجل - أن يسهل الأمر على رسوله، وأن يرفع درجة زوجاته - رضي الله عنهن -، ويُذْهِبَ عنهن كل أمر ينقص أجرهن، فأمر رسوله أن يخَيِّرَهُنّ فقال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} (الأحزاب: 28)، أي: ليس لكن في غيرها مطلب، وصِرْتُنَّ ترْضَيْنَ لوجودها، وتغضَبْنَ لفَقْدِها، فليس لي فيكن أرَبٌ وحاجة، وأنتن بهذه الحال.

{فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} شيئًا مما عندي، من الدنيا {وَأُسَرِّحْكُنَّ} أي: أفارقكن {سَرَاحًا جَمِيلًا} من دون مغاضبة ولا مشاتمة، بل بسعة صدر، وانشراح بال، قبل أن تبلغ الحال إلى ما لا ينبغي. {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ} أي: هذه الأشياء مرادُكُنَّ، وغاية مقصودِكُنَّ، وإذا حصل لَكُنَّ الله ورسوله والجنة، لم تُبالِينَ بسعة الدنيا وضيقها، ويُسرِها وعسرها، وقنعْتُنَّ من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بما تيسر، ولم تطلُبْنَ منه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يشق عليه، {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} رتب الأجر على وصفهن بالإحسان؛ لأنه السببُ الموجِبُ لذلك، لا لكَوْنِهِنَّ زوجاتٍ للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن مجرد ذلك لا يكفي، بل لا يفيد شيئًا، مع عدم الإحسان، فخيَّرهن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في ذلك فاخْتَرْن اللهَ ورسوله، والدار الآخرة، كلُهُنّ، ولم يتخلف منهن واحدة، - رضي الله عنهن -. وفي هذا التخيير فوائد عديدة: منها: سلامة زوجاته - رضي الله عنهن - عن الإثم، والتعرض لسخط الله ورسوله. فحسم اللهُ بهذا التخيير عنهن، التسخط على الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، الموجب لسخطه، المسخط لربه، الموجب لعقابه. ومنها: إظهار رِفْعَتِهِنَّ، وعلو درجَتَهِنَّ، وبيان عُلُوِّ هِمَمِهِنَّ، أن كان اللهُ ورسوله والدار الآخرة، مرادَهُنَّ ومقصودَهُنَّ، دون الدنيا وحطامها. ومنها: استعدادُهُنَّ بهذا الاختيار، للأمر الخيار للوصول إلى خيار درجات الجنة، وأن يَكُنَّ زوجاته في الدنيا والآخرة. ومنها: ظهور المناسبة بينه - صلى الله عليه وآله وسلم - وبينهن، فإنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أكمل الخلق، وأراد اللهُ - عز وجل - أن تكون نساؤه كاملاتٍ مُكَمَّلَاتٍ، طيباتٍ مُطَيَّبَاتٍ {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}.

ومنها: أن يكون اختيارهن هذا، سببًا لزيادة أجرِهِنَّ ومضاعفته، وأن يَكُنَّ بمرتبة، ليس فيها أحد من النساء. عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: «لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ بِى فَقَالَ: «إِنِّى ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِى حَتَّى تَسْتَأْمِرِى أَبَوَيْكِ». قَالَتْ: «وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَىَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِى بِفِرَاقِهِ»، قَالَتْ: ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللهَ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ - قَالَ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} إِلَى {أَجْرًا عَظِيمًا} (¬1). قَالَتْ: «فَقُلْتُ: فَفِى أَىِّ هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَىَّ؛ فَإِنِّى أُرِيدُ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ»، قَالَتْ: «ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِثْلَ مَا فَعَلْتُ» (رواه البخاري ومسلم). علوُّ مكانة أهل البيت عند الصحابة - رضي الله عنهم -: لقد حرص السلف الصالح - رحمهم الله - من الصحابة والتابعين على هذه الحقوق، وقاموا بها خير قيام، وما ذلك إلا لاستشعارهم مكانة الآل من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وامتثالًا لوصيته - صلى الله عليه وآله وسلم - بهم. 1 - أبو بكر الصديق سدد خطاكم: روى البخاري ومسلم في صحيحهما أنَّ أبا بكر قال لعليٍّ - رضي الله عنهما -: “ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي» (رواه البخاري ومسلم). وفي صحيح البخاري عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الحَارِثِ سدد خطاكم قَالَ: «رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ سدد خطاكم، وَحَمَلَ الحَسَنَ، وَهُوَ يَقُولُ: «بِأَبِي شَبِيهٌ بِالنَّبِيِّ، لَيْسَ شَبِيهٌ بِعَلِيٍّ» وَعَلِيٌّ يَضْحَكُ. قال الحافظ ابن حجر في شرحه: “ قَوْلُهُ (بِأَبِي) فِيهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ أَفْدِيهِ بِأَبِي». ¬

_ (¬1) قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 28 – 29).

2 - عمر بن الخطاب سدد خطاكم: روى البخاري في صحيحه عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ سدد خطاكم، كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا - صلى الله عليه وآله وسلم - فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، قَالَ: «فَيُسْقَوْنَ». والمرادُ بتوسُّل عمر سدد خطاكم بالعباس سدد خطاكم التوسُّلُ بدعائه كما جاء مبيَّنًا في بعض الروايات، وقد ذكرها الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في كتاب الاستسقاء من فتح الباري. واختيار عمر سدد خطاكم للعباس سدد خطاكم للتوسُّل بدعائه إنَّما هو لقرابتِه مِن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولهذا قال سدد خطاكم في توسُّله: “ وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا “، ولم يقل: بالعباس. ومن المعلوم أنَّ عليًّا سدد خطاكم أفضلُ من العباس، وهو من قرابة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، لكن العباس أقربُ، ولو كان النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُورَث عنه المال لكان العباس هو المقدَّم في ذلك؛ لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» (رواه البخاري ومسلم). وقال عمر بن الخطاب للعباس - رضي الله عنهما -: “والله لإِسلاَمُك يوم أسلمتَ كان أحبَّ إليَّ من إسلامِ الخطاب - يعني والده - لو أسلَمَ؛ لأنَّ إسلامَك كان أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من إسلام الخطاب “، (رواه ابن سعد في الطبقات، وابن عساكر في تاريخ دمشق). 3 - عن عمار بن أبي عمار أن زيد بن ثابت ركب يوما فأخذ ابن عباس بركابه فقال: «تنح يا ابن عم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -»، فقال: «هكذا أمِرْنا أن نفعلَ بعلمائنا وكبرائنا»، فقال زيد: «أرِنِي يدك»، فأخرج يده فقبَّلها فقال: «هكذا أمِرْنَا أن نفعل بأهل بيت رسولنا - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه ابن سعد في الطبقات، والذهبي في السير، وابن الجوزي في صفة الصفوة والحافظ في الإصابة وجود إسنادها الحافظ في الفتح).

4 - ولما دخل عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - في حاجة له على عمر بن عبد العزيز، قال له عمر: “إذا كانت لك حاجةٌ فأرسِلْ إليَّ أو اكتب؛ فإني أستحيي من الله أن يَرَاكَ على بابِي» (ذكره القاضي عياض في (الشفا). حقوق آل البيت: إن لآل بيت النبوة علينا حقوقا عظيمة يجب مراعاتها والقيام بها، فمنها: 1 - محبتهم وإجلالهم بما يليق بهم، وإكرام الصالحين منهم وموالاتهم، ومعرفة أقدارهم، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللهِ فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ» فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي» (رواه مسلم). قال الآجُرِّيُّ - رحمه الله -: “ واجب على كل المسلمين محبة أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإكرامهم واحتمالهم، وحسن مداراتهم والصبر عليهم، والدعاء لهم “. 2 - استحقاقهم من الخمس والفيء، قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (الأنفال:41)، وقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)} (الحشر: 7). 3 - الدعاء لهم في الصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. 4 - تَوَلّي الصالحين منهم ومجالستهم والأخذ عنهم، والبرّ بهم وتطييب خواطرهم؛ فإنهم من آثار النبي، ومحاولة القرب منهم، ومصاهرتهم تزوجًا أو تزويجًا. 5 - مناصرتهم والبذل لهم، والذبُّ عنهم، وذكر مناقبهم ومحاسنهم.

6 - تأكيد مناصحة غير الصالح منهم والشفقة عليه والرحمة به، ودعوته إلى نهج آل البيت الطيبين الطاهرين. ويشترط لهذه الحقوق صحة ثبوت انتسابه لرسول الله في النسب، وصحة انتسابه له في الدين. تحريم الانتساب بغير حق إلى أهل البيت: أشرفُ الأنساب نسَبُ نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأشرف انتسابٍ ما كان إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - وإلى أهل بيتِه إذا كان الانتسابُ صحيحًا، وقد كثُرَ في العرب والعجم الانتماءُ إلى هذا النَّسب، فمَن كان من أهل هذا البيت وهو مؤمنٌ، فقد جمَع الله - عز وجل - له بين شرف الإيمان وشرف النَّسب، ومَن ادَّعى هذا النَّسبَ الشريف وهو ليس من أهله فقد ارتكب أمرًا محرَّمًا، وهو متشبِّعٌ بِما لَم يُعط، وقد قال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ» (رواه مسلم). (الْمُتَشَبِّعُ) أَي المتزين بِمَا لَيْسَ عِنْده يتكثر بذلك، قَالَ الْعُلَمَاءُ مَعْنَاهُ الْمُتَكَثِّرُ بِمَا لَيْسَ عِنْدَهُ بِأَنْ يُظْهِرَ أَنَّ عِنْدَهُ ما ليس عِنْدَهُ يَتَكَثَّرُ بِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ وَيَتَزَيَّنُ بِالْبَاطِلِ فهومَذْمُومٌ كَمَا يُذَمُّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْ زُورٍ، وقيل: هُوَ الَّذِي يَلْبَسُ ثِيَابَ أَهْلِ الزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ وَالْوَرَعِ وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُظْهِرَ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَيُظْهِرَ مِنَ التَّخَشُّعِ وَالزُّهْدِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي قَلْبِهِ فَهَذِهِ ثياب زُورٍ وَرِيَاءٍ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ لِغَيْرِهِ وَأَوْهَمَ أَنَّهُمَا لَهُ. وقد جاء في الأحاديث الصحيحة تحريمُ انتساب المرء إلى غير نسبِه، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ - وَهُوَ يَعْلَمُهُ - إِلَّا كَفَرَ، وَمَنِ ادَّعَى مَا ليْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه البخاري ومسلم). وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الفِرَى أَنْ يَدَّعِيَ الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، أَوْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ، أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللهٍِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا لَمْ يَقُلْ» (رواه البخاري). وَالْفِرَى: جمع فِرْيَة، والْفِرْيَةُ: الْكِذْبَةُ الْعَظِيمَةُ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا. (أَنْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ)، أي: في المنام. ومَعْنَى نِسْبَةِ الرُّؤْيَا إِلَى عَيْنَيْهِ مَعَ أَنَّهُمَا لَمْ يَرَيَا شَيْئًا أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْهُمَا بِالرُّؤْيَةِ وَهُوَ كَاذِبٌ.

76 - معاوية بن أبي سفيان

76 - معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - (¬1) إن سلامة القلب تجاه الصحابة - رضي الله عنهم - والتأدب معهم من صميم اعتقاد أهل السنة والجماعة، وإن الطعن فيهم هو وسيلة للطعن في الدين الإسلامي فأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كلهم عدول ثقات، وهم الذين نقلوا لنا هذا الدين. أولئك أصحابُ النبيِّ وحِزْبُه ... ولولاهُمُ ما كانَ في الأرضِ مُسْلِمُ ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - كاتب وحي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأمير المؤمنين الذي مكث عشرين سنة أميرًا على الشام في خلافة عمر وخلافة عثمان سدد خطاكم، ثم خليفةً للمسلمين مثلَها. ولعله لم تَنَلْ شخصيةٌ في التاريخ من التشويه مثل شخصية معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - خاصة من أهل الأهواء قديمًا للنزاعات السياسية والمذهبية، ثم وجد المستشرقون في رواياتهم مرتعًا خصبًا للنيل من الإسلام. إن معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - من الصحابة الأجلّة الكرام، الذين يجبُ الترضّي عن جميعهم، ولا يجوز الطعنُ فيهم، كما هو اعتقادُ الفرقة الناجية: أهلِ السُنَّة والجماعة، كيف وقد قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» (رواه البخاري ومسلم). ومَعْنَى الْحَدِيث: لَا يَنَال أَحَدكُمْ بِإِنْفَاقِ مِثْل أُحُد ذَهَبًا مِنْ الْفَضْل وَالْأَجْر مَا يَنَال أَحَدهمْ بِإِنْفَاقِ مُدّ طَعَام أَوْ نَصِيفه. ¬

_ (¬1) هذه الخطبة واللتان بعدها بتصرف واختصار من كتاب: (معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -، أمير المؤمنين وكاتب وحي النبي الأمين - صلى الله عليه وآله وسلم -، دفع شبهات وردّ مفتريات) للمؤلف.

ومعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - هو أحد الصحابة الذين أكرمهم الله - عز وجل - بصحبة نبيه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وكل كلام يقال في الصحابة فيما يتعلق بفضلهم عمومًا وما يجب لهم عمومًا، فإن معاوية سدد خطاكم يدخل في ذلك. أما من تكلم فيهم بكلام لا ينبغي فهو في الحقيقة لم يضرَّهم إنما ضرَّ نفسه؛ وذلك أنهم - رضي الله عنهم - قدِموا على ما قدَّموا، وقد قدَّموا الخير الكثير، وقد قدَّموا الأعمال الجليلة التي قاموا بها مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فالذي يتكلم فيهم بما لا ينبغي هو في الحقيقة لا يضرهم وإنما يضرُّ نفسه. بل إن ذلك يكون زيادة في حسناتهم، ورفعة في درجاتهم؛ لأنه إذا تكلم فيهم بغير حق أضيف إليهم من حسنات المتكلم فيهم إذا كان له حسنات، فيكون ذلك رِفْعةً في درجاتهم، وإن لم يكن له حسنات فإنه لا يضر السحاب نبح الكلاب - كما يقولون. وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: «أمِرُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَسَبُّوهُمْ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي في (شرح صحيح مسلم): «وَأَمَّا الْأَمْر بِالِاسْتِغْفَارِ الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ فَهُوَ قَوْله تَعَالَى تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (الحشر: 10)، وَبِهَذَا اِحْتَجَّ مَالِك فِي أَنَّهُ لَا حَقّ فِي الْفَيْء لِمَنْ سَبَّ الصَّحَابَة - رضي الله عنهم -، لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَهُ لِمَنْ جَاءَ بَعْدهمْ مِمَّنْ يَسْتَغْفِر لَهُمْ». وقال أبو زرعة الرازى - رحمه الله -: «إذا رأيتَ الرجُل ينتقِصُ أحدًا من أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فاعلم أنه زنديق؛ وذلك أن القرآن حق، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حق، وما جاء به حق، وما أدّى إليْنا ذلكَ كُلَّه إلا الصحابة. فمَن جَرَحَهُم إنما أراد إبطال الكتاب والسنة، فيكون الجرح به أليَق، والحكم عليه بالزندقة والضلال أقوَم وأحَقّ».

فلا يجوز الطعنُ في آحادهم، فكيف بمن له فضائل ثابتة - خاصة وعامة - مثلَ معاوية - رضي الله عنه -؟ وما من شخصية في تاريخنا الإسلامي، من الرعيل الأول من الصحابة الذين تربَّوْا على يَدَيْ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قد نالها من التشويه والدَّسّ والافتراء والظلم، مثل ما ناله معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما -. حيث امتلأت معظم المصادر التاريخية بعشرات الروايات الضعيفة أو المكذوبة على هذا الصحابي الكريم سدد خطاكم. وإن الشبهات التي قيلَتْ في ذم معاوية رضي الله عنه ليست بشيء! وهذه الشبهات التي ذكرت في معاوية - رضي الله عنه - إما أحاديث صحيحة ليس فيها ذم لمعاوية سدد خطاكم بل يُفْهَم منها المدح له. وإما أخبار ساقطة يرويها الأخباريون وأهل التاريخ بلا زمام ولا خطام، ويتولى كبر الترويج لها أهل البدع والأهواء. ومنها من يكون رواتها من المتروكين كأبي مخنف لوط بن يحيى، والرافضي نصر بن مزاحم صاحب كتاب (صفين)، ومحمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن عمر الواقدي متروك. ولمعاوية - رضي الله عنه - فضائل كثيرة وبسبب ثبوت هذه الفضائل وغيرها عن السلف، فقد نهَوْا نهيًا شديدًا عن التكلم في معاوية - رضي الله عنه - وبقية الصحابة - رضي الله عنهم -، وعَدّوا ذلك من الكبائر. وكان بعض السلف يجعل حب معاوية سدد خطاكم ميزانًا للسنة. قال الربيع بن نافع: «معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإذا كَشَفَ الرجلُ السِّتْرَ اجترأ على ما وراءه». وسُئِلَ أبو عبد الرحمن النسائي عن معاويةَ بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - صاحبِ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «إنما الإسلام كدارٍ لها بابٌ، فبابُ الإسلام الصحابة، فمن آذى الصحابةَ إنما أرادَ الإسلام، كمن نَقرَ البابَ إنما يريدُ دخولَ الدار. فمن أراد معاويةَ فإنما أراد الصحابة».

قال الإمام عبد الله بن المبارك - رحمه الله -: «معاوية عندنا مِحْنة، فمن رأيناه ينظر إليه شزَرًا اتهمناه على القوم»، يعني الصحابة. وقد صَدَقُوا في ذلك، فإنه ما من رجل يتجرأ ويطعن في معاوية - رضي الله عنه - إلا تجرأ على غيره من الصحابة - رضي الله عنهم -. والسبب في ذلك أن من تجرأ على معاوية - رضي الله عنه - فإنه يكون قد أزال هيبة الصحابة - رضي الله عنهم - من قلبه فيقع فيهم. قال الأوزاعي: «أدركَتْ خلافةُ معاوية جماعةً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، لم ينتزعوا يدًا من طاعة، ولا فارقوا جماعة، وكان زيد بن ثابت يأخذ العطاء من معاوية». وقال الميموني: «سمعْتُ أحمد يقول: «ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية». وقال لي: «يا أبا الحسن، إذا رأيتَ أحدًا يذكر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بسوء فاتهمه على الاسلام». وسُئِلَ الإمام أحمد - رحمه الله - عن رجل انتقص معاوية وعمرو بن العاص أيُقَالُ له رافضي؟ فقال: «إنه لم يجترئ عليهما إلا وله خبيئة سوء، ما انتقص أحدٌ أحدًا من أصحاب رسُول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إلا له داخلة سُوء؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى» (رواه البخاري ومسلم). وما ضر معاوية سدد خطاكم شتم من شتمه؛ فإنه «ما ضر المسك عطره، أن مات من شمه الجُعْل”. الجُعْل: دُوَيْبَّة سَوْدَاء تُدِير الْخِرَاء بِأَنْفِهَا. وَمِنْ شَأْنِه جَمْع النَّجَاسَة وَادِّخَارهَا. وَمِنْ عَجِيب أَمْره أَنَّهُ يَمُوت مِنْ رِيح الْوَرْد وَرِيح الطِّيب فَإِذَا أُعِيدَ إِلَى الرَّوْث عَاشَ. وَمِنْ عَادَته أَنْ يَحْرُس النِّيَام فَمَنْ قَامَ لِقَضَاءِ حَاجَته تَبِعَهُ وَذَلِكَ مِنْ شَهْوَته لِلْغَائِطِ لِأَنَّهُ قُوتُه. و «لا يضر السحابَ نبحُ الكلاب، ولن يضير السماء نقيق الضفادع». يا نَاطِحَ الجَبَلَ العالي ليَكْلِمَه ... أَشفِقْ على الرّأسِ لا تُشْفِقْ عل الجَبَلِ

معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - في سطور: هو خال المؤمنين (¬1)، وكاتب وحي رسول الله رب العالمين - صلى الله عليه وآله وسلم -، أمير المؤمنين ملك الإسلام، أبو عبد الرحمن مُعاوية بن أبي سُفيان - صَخْر بن حَرْب - بن أُمَيَّة بن عبد شَمْس بن عبد مَناف بن قُصي بن كِلاب القرشي الأمويُ المكي، يلتقي نسبُه مع النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - في عبدِ مَناف. وأٌمُّه: هِند بنت عُتبة بن رَبيعة بن عبد شمس - رضي الله عنها -. وُلد معاوية - رضي الله عنه - قبل البعثة بخمس سنين على الأشهر، وقيل بسبع، وقيل بثلاث عشرة. وكان معاوية - رضي الله عنه - رجلًا طويلًا أبيضَ جميلًا مهيبًا أجلح (¬2). ومعاوية - رضي الله عنه - لم يُعْرَف عنه قبل الإسْلام أذىً للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، لا بيد، ولا بلسان. وبعد إسلام أبيه أبي سفيانسدد خطاكم: انتقلَ وأهله إلى المدينة، وآخَى رسُول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بين معاوية والحُتات بن يزيد المُجاشِعي، وتوفي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو عن معاوية راضٍ. وصحب معاويةُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتب الوحي بين يديه مع الكُتَّاب، ورَوَى عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما من السنن والمسانيد، وروى عنه جماعة من الصحابة والتابعين. رُوِيَ له عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مائة حديث وثلاث وستون حديثًا، رَوَى عنه من الصحابة ابنُ عباس وابنُ عمر وابنُ الزبير وأبو الدرداء وجرير البجلي والنعمان بن بشير وغيرهم، ومن التابعين ابنُ المسيَّب وحميد بن عبد الرحمن وغيرهما. ¬

_ (¬1) فأخته أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان - رضي الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. (¬2) من انْحَسَرَ الشَّعرُ عن مقَدَّم رأسِه فهو أَجْلَحُ.

مكث معاوية سدد خطاكم عشرين سنة أميرًا على الشام في خلافة عمر وخلافة عثمان - رضي الله عنهما -، ثم خليفةً للمسلمين مثلَها. فتح معاوية قيسارية (¬1) سنة تسع عشرة في خلافة عمر بن الخطاب سدد خطاكم. وافتتح في سنة سبع وعشرين جزيرة قبرص. ولم تزل الفتوحات والجهاد قائما على ساقه في أيامه في بلاد الروم والفرنج وغيرها. ثم كان ما كان بينه وبين علي بعد قتل عثمان، على سبيل الاجتهاد والرأي، فجرى بينهما قتال عظيم، وكان الحق والصواب مع علي سدد خطاكم، ومعاوية سدد خطاكم معذور عند جمهور العلماء سلفًا وخلفًا. وقد شهدت الأحاديث الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين - أهل العراق وأهل الشام - (¬2). ولما كان من أمره وأمر أمير المؤمنين علي - رضي الله عنهما - ما كان، لم يقع في تلك الأيام فتح بالكلية، لا على يديه ولا على يدي عليسدد خطاكم، وطمع في معاويةَ ملكُ الروم بعد أن كان قد أخشاه وأذله، وقهر جنده، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية بحرب علي - رضي الله عنهما - تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه: «والله لئِنْ لم تَنْتَهِ وترجع إلى بلادك يا لعين، لأصْطَلِحَنَّ أنا وابنُ عمي عليك، ولأخْرِجَنَّكَ من جميع بلادك، ولأضَيِّقَنَّ عليْكَ الأرضَ بما رحُبَتْ». ¬

_ (¬1) قيسارية وتلفظ أيضا (قيسرية أو قيصرية)، مدينة كانت من أهم المدن في دولة سلاجقة الروم، تقع جنوبي مدينة سيواس إلى الشرق. وهناك مدينة بهذا الاسم في فلسطين تقع على ساحل البحر المتوسط في منتصف الطريق بين مدينتي حيفا ويافا. (¬2) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «هَذِهِ الرِّوَايَات صَرِيحَة فِي أَنَّ عَلِيًّا - رضي الله عنه - كَانَ هُوَ الْمُصِيبَ الْمُحِقَّ، وَالطَّائِفَة الْأُخْرَى أَصْحَاب مُعَاوِيَة - رضي الله عنه - كَانُوا بُغَاة مُتَأَوِّلِينَ، وَفِيهِ التَّصْرِيح بِأَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ مُؤْمِنُونَ لَا يَخْرُجُونَ بِالْقِتَالِ عَنْ الْإِيمَان وَلَا يَفْسُقُونَ».

فعند ذلك خاف ملكُ الروم وانْكَفّ، وبعث يطلب الهدنة. ثم كان من أمر التحكيم ما كان، وكذلك ما بعده إلى وقت اصطلاحه مع الحسن بن علي - رضي الله عنهما - فانعقدت الكلمة على معاوية، وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين للهجرة، فلم يزل مستقلًا بالأمر في هذه المدة إلى السنة التي كانت فيها وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم، وكلمة الله عالية، والغنائم تَرِدُ إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل، وصفح وعفو. وكان يغزو الروم في كل سنة مرتين، مرة في الصيف ومرة في الشتاء، ويأمر رجلًا من قومه فيحج بالناس، وحج هو سنة خمسين، وحج ابنه يزيد سنة إحدى وخمسين. وفيها - أو في التي بعدها - غزا ابنُه يزيد بلاد الروم فسار معه خلق كثير من كبراء الصحابة حتى حاصر القسطنطينية، وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِى يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ». (رواه البخاري). وكان معاوية سدد خطاكم من الموصوفين بالدهاء والحِلم. وكان يُضرَب بحِلمه المثل. وكان معاوية سدد خطاكم أول من اتخذ ديوان الخاتم وختم الكتب، وديوان الخاتم شبيه بدائرة السجلات أو الأرشيف العام في الوقت الحاضر. وقد عين معاوية موظفين مشرفين على هذا الديوان. توفي معاوية - رضي الله عنه - بدمشق في رجب سنة ستين. أغمي عليه ثم أفاق فقال لأهله: «اتقوا الله؛ فإن الله تعالى يَقِي مَن اتقاه، ولا يَقِي مَن لا يتقي، ثم مات - رحمه الله -. وقد وَرَدَ من غير وجه أنه أوصى أن يكفن في ثوب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي كساه إياه، وكان مُدَّخَرًا عنده لهذا اليوم. ومن أشهر أولاده يزيد. وعاش معاوية ثمانية وسبعين عامًا، وقيل غيرُ ذلك، - رضي الله عنه -.

أبو سفيان بن حرب والد معاوية - رضي الله عنهما -: كان أبو سفيان سدد خطاكم من سادات قريش ومن عُتاة الجاهلية الذين حاربوا الإسلام، إلا أن الله - عز وجل - أراد الهداية له؛ فأسلم قبل فتح مكة بقليل، وقد حسن إسلامه وقَدَّم خدمات جليلة للإسلام، فقد كان مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حُنَيْن، وشارك في حصار الطائف وفقد إحدى عينيه فيها، وفي اليرموك فقد الثانية، وبعد ثقيف أرسله رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مع المغيرة بن شعبة لهَدْم اللات - صنم ثقيف -، وقد كانت اللات مُعَظّمَةً عند قريش كذلك، وكانوا يحلفون بها. ورُوي عن سعيد بن المسَيَّب عن أبيه قال: فُقِدَت الأصوات يوم اليرموك إلا صوت رجل واحد يقول: «يا نصر الله اقتَرِبْ»، والمسلمون يقتتلون هم والروم، فذهبتُ أنظر فإذا هو أبو سفيان تحت راية ابنه يزيد. ورُوي أنه كان يوم اليرموك يقف على الكراديس: فيقول للناس: «اللهَ اللهَ؛ إنكم ذادَةُ العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادَةُ الروم وأنصار الشرك، اللهمَّ هذا يومٌ من أيامك، اللهمَّ أنزل نصرك على عبادك». هند بنت عتبة بن ربيعة أم معاوية - رضي الله عنهما -: أسلمت - رضي الله عنها - يوم الفتح، بعد إسلام زوجها أبي سفيان سدد خطاكم، ولما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من بيعة الرِّجال، بايع النساء، وفيهنَّ هند بنت عتبة، وقد بايعن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - من غير مصافحة، فقد كان لا يصافح النساء، ولا يمس يد امرأة إلا امرأة أحلّها الله له، أو ذات محرم منه. ولما أسلمت هند وبايعت عادت إلى بيتها فجعلت تكسر صنمًا كان عندها وهي تقول: «كنتُ منك في غرور».

موقف في الجاهلية: وكان لهند في جاهليتها موقف مع زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقد كانت بمكة مع زوجها أبي العاص بن الربيع وأرسل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من يأتيه بها إلى المدينة، وكان ذلك بعد (غزوة بدر) ولم تجف دماء قريش بعد، وكانت هند قد أصيبت بأبيها وأخيها وعمها، وكانت تطوف على مجالس قريش وأنديتها تُذكي نار الثأر، وتؤجج أوار الحرب. وفي الطريق لقِيَتْ زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكان قد تسرَّب خبر استعدادها للخروج لأبيها فقالت هند: «أي بنت محمد: بلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك، أي ابنة عمي، إن كانت لك حاجة بمتاع مما يعينك في سفرك، أو بمال تبلغين به إلي أبيك، فعندي حاجتك فلا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما يكون بين الرجال». تروي زينب - رضي الله عنها - ذلك، وتقول: «ووالله ما أراها قالت إلا لتفعل». ثم يوم خروج زينب يتعرض لها رجال من قريش، يريدون إرجاعها، فتسقط مِن على ناقتها وكانت حاملًا، فتنزف، وتسمع هند، فتخرج مسرعة، وتقول لقومها: «أين كانت شجاعتكم يوم بدر؟». وتحول بينهم وبين زينب وتضمها إليها وتمسح عنها ما بها، وتصلح شأنها، حتى استأنفت الخروج إلى أبيها في أمن وأمان».

77 - من فضائل معاوية

77 - من فضائل معاوية - رضي الله عنه - من فضائل معاوية - رضي الله عنه - في القرآن الكريم قال الله - عز وجل -: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)} (الحديد: 10). ومعاوية - رضي الله عنه - لا يخلو أن يكون على حالَين: أن يكون قد أسلم قبل فتح مكة كما رجّح وصحّح الحافظُ ابنُ حَجَر، أو يكون بعد ذلك، وقد أنفق وقاتل في حُنين والطائف مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو ممن وعَدَهم الله الحُسنى بنص الآية، والحُسنى: الجنّة، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} (الأنبياء: 101)، وهل يُخْلِف الله وعده؟! وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)} (التوبة: 117). وساعةُ العُسرة هي غزوةُ تَبُوك، وقد شَهِدَها مُعاوية - رضي الله عنه -. وقال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (التحريم: 8)، فقد ضمن الله الكريم بأن لا يُخزيه، لأنه ممَّنْ آمَنَ برسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. من فضائل معاوية سدد خطاكم في السنة النبوية الصحيحة: ثبوت كونه كاتبًا للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكتابته الوحي: عن ابْنَ عَبَّاسٍ سدد خطاكم قال: كُنْتُ غُلَامًا أَسْعَى مَعَ الصِّبْيَانِ قَالَ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَلْفِي مُقْبِلًا، فَقُلْتُ: «مَا جَاءَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَّا إِلَيَّ».

قَالَ: فَسَعَيْتُ حَتَّى أَخْتَبِئَ وَرَاءَ بَابِ دَارٍ فَلَمْ أَشْعُرْ حَتَّى تَنَاوَلَنِي فَأَخَذَ بِقَفَايَ فَحَطَأَنِي حَطْأَةً، قَالَ: «اذْهَبْ فَادْعُ لِي مُعَاوِيَةَ» ـ وَكَانَ كَاتِبَهُ ـ فَسَعَيْتُ فَقُلْتُ: «أَجِبْ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنَّهُ عَلَى حَاجَةٍ». (رواه الإمام أحمد وصححه ابن عساكر والذهبي، وقال شعيب الأرنؤوط: «إسناده حسن»). (حَطَأَنِي حَطْأَة): هُوَ الضَّرْب بِالْيَدِ مَبْسُوطَة بَيْن الْكَتِفَيْنِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هَذَا بِابْنِ عَبَّاس مُلَاطَفَة وَتَأْنِيسًا. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: «إن معاوية كان يكتبُ بين يَدَي رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -». (إسنادُه حسن، رواه الطبراني وأبوعوانة والبزار والآجري). وعن سَهْلِ بن الحَنْظَلِيَّة الأنصاري - رضي الله عنه -: أن عُيَيْنَةَ والأَقْرَعَ سألا رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - شيئًا، فأمرَ معاويةَ أن يكتُبَ به لهما، ففعلَ، وختَمَها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأَمَر بدفعه إليهما». (رواه أحمد، وأبو داود، وإسناده صحيح على شرط مسلم). ومن فضائل معاوية سدد خطاكم كوْنُه خال المؤمنين: فهو أخو أمِّ المؤمنين، زوجِ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، أمِّ حَبيبة رَمْلة بنت أبي سفيان - رضي الله عنهم -؛ ولذلك قال الإمام أحمد: «أقول: معاوية خال المؤمنين، وابن عمر خال المؤمنين». (رواه الخلال في السنة بسند صحيح). وروى العجلي في (الثقات) ومن طريقه ابن عساكر بسند صحيح أن رجلا سأل الحكم بن هشام الكوفي: «ما تقول في معاوية؟»، قال: «ذاك خالُ كلِّ مؤمن». * وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلُّ سَبَبٍ ونَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ سَبَبي ونَسَبي»، وفي رواية: «غَيْرَ نَسَبِي وصِهْرِي» (وللحديث طرقٌ كثيرة، جوَّدَ بعضَها ابنُ كثير، وصححه ابن السَّكَن، والحاكم، والضياء، والذهبي، والألباني، وغيرُهم). ولا شك أن معاوية داخلٌ في هذا الفضل.

وروى الخلال في السنة واللالكائي عن عبد الملك بن عبد الحميد الميموني، قال: قلت لأحمد بن حنبل: أليس قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ صِهْرٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ إلّا صِهْرِي وَنَسَبِي»؟، قال: «بلى». قلت: «وهذه لمعاوية؟»، قال: «نعم! له صهر ونسب». (إسناده صحيح، ويستفادُ منه تثبيتُ الإمام أحمد - رحمه الله - للحديث). ومن فضائل معاوية سدد خطاكم أنه أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وقد وجبت له الجنة: روى البخاري في صحيحه عن أم حَرَام الأنصارية - رضي الله عنها - أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا». قَالَتْ أُمُّ حَرَامٍ - رضي الله عنها - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا فِيهِمْ؟»، قَالَ: «أَنْتِ فِيهِمْ». ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ»، فَقُلْتُ: «أَنَا فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟»، قَالَ: «لَا». (مَدِينَةَ قَيْصَر) يَعْنِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة. (قَدْ أَوْجَبُوا) أَيْ فَعَلُوا فِعْلًا وَجَبَتْ لَهُمْ بِهِ الْجَنَّة. وفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَنْقَبَة لِمُعَاوِيَة لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا الْبَحْرَ، وَمَنْقَبَةٌ لِوَلَدِهِ يَزِيد لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَزَا مَدِينَةَ قَيْصَرَ. ومن فضائل معاوية سدد خطاكم أنه من الذين رآهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ أُمِّ حَرَامٍ - رضي الله عنها - وَهِيَ خَالَةُ أَنَسٍ - قَالَتْ: «أَتَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمًا، فَقَالَ عِنْدَنَا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقُلْتُ: «مَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟»، قَالَ: «أُرِيتُ قَوْمًا مِنْ أُمَّتِي يَرْكَبُونَ ظَهْرَ الْبَحْرِ كَالْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ». فَقُلْتُ: «ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ». قَالَ: «فَإِنَّكِ مِنْهُمْ». قَالَتْ: «ثُمَّ نَامَ فَاسْتَيْقَظَ أَيْضًا وَهُوَ يَضْحَكُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَتِهِ، فَقُلْتُ: «ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ». قَالَ: «أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ». فَرَكِبَتِ الْبَحْرَ فِى زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِى سُفْيَانَ فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، فَهَلَكَتْ.

وفي رواية: فَخَرَجَتْ مَعَ زَوْجِهَا عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ غَازِيًا أَوَّلَ مَا رَكِبَ الْمُسْلِمُونَ الْبَحْرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا مِنْ غَزْوِهِمْ قَافِلِينَ فَنَزَلُوا الشَّأْمَ، فَقُرِّبَتْ إِلَيْهَا دَابَّةٌ لِتَرْكَبَهَا فَصَرَعَتْهَا فَمَاتَتْ». (رواه البخاري ومسلم). هذا الحديث فِيهِ مُعْجِزَات لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِنْهَا إِخْبَاره بِبَقَاءِ أُمَّته بَعْده، وَأَنَّهُ تَكُون لَهُمْ شَوْكَة وَقُوَّة وَعَدَد، وَأَنَّهُمْ يَغْزُونَ وَأَنَّهُمْ يَرْكَبُونَ الْبَحْر، وَأَنَّ أُمّ حَرَام تَعِيش إِلَى ذَلِكَ الزَّمَان، وَأَنَّهَا تَكُون مَعَهُمْ، وَقَدْ وُجِدَ بِحَمْدِ اللهِ تَعَالَى كُلّ ذَلِكَ. وَفِيهِ: فَضِيلَة لِتِلْكَ الْجُيُوش، وَأَنَّهُمْ غُزَاة فِي سَبِيل اللهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء مَتَى جَرَتْ الْغَزْوَة الَّتِي تُوُفِّيَتْ فِيهَا أُمّ حَرَام فِي الْبَحْر؟ وَقَدْ ذكرَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فِي مُسْلِم أَنَّهَا رَكِبَتْ الْبَحْر فِي زَمَان مُعَاوِيَة، فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتهَا فَهَلَكَتْ، قَالَ أَكْثَر أَهْل السِّيَر وَالْأَخْبَار: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي خِلَافَة عُثْمَان بْن عَفَّان - رضي الله عنه - وَأَنَّ فِيهَا رَكِبَتْ أُمّ حَرَام وَزَوْجهَا إِلَى قُبْرُص فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتهَا هُنَاكَ، فَتُوُفِّيَتْ وَدُفِنَتْ هُنَاكَ، وَعَلَى هَذَا يَكُون قَوْله: (فِي زَمَان مُعَاوِيَة) مَعْنَاهُ: فِي زَمَان غَزْوِهِ فِي الْبَحْر لَا فِي أَيَّام خِلَافَته، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ فِي خِلَافَته، وَهُوَ أَظْهَر فِي دَلَالَة قَوْله فِي زَمَانه. (مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّة) أَرَادَ - وَاَللهُ أَعْلَم - أَنَّهُ رَأَى الْغُزَاة فِي الْبَحْر مِنْ أُمَّته مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّة فِي الْجَنَّة، وَرُؤْيَاهُ وَحْي، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي صِفَة أَهْل الْجَنَّة: {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الصافات:44) وَقَالَ: {عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} (يسن:56) وَالْأَرَائِك السُّرَر فِي الْحِجَال. والحَجَلة مثل القُبَّة، وحَجَلة العروس هي بيت يُزَيَّن بالثياب والأَسِرَّة والستور لَهَا عُرًى وَأَزْرَار. فإذا تبيَّن هذا الفضلُ العظيم، كان معاوية سدد خطاكم مِن أولى الناس به، إذ أنه أميرُ تلك الغزاة بالاتفاق، وقد قال ابنُ عبد البر عن هذا الحديث في التمهيد (1/ 235): «وفيه فضلٌ لمعاوية - رحمه الله -، إذ جَعَلَ مَن غَزا تحتَ رايَتِه مِن الأوَّلين».

ومن فضائل معاوية سدد خطاكم أنه كان من الذين أحبُّ النبيُ - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يَعِزّوا، فأعزّهم الله: عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُذِلَّهُمْ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يُعِزَّهُمْ اللهُ مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ». فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه». (رواه البخاري ومسلم). (خِبَاء) خَيْمَة مِنْ وَبَر أَوْ صُوف، ثُمَّ أُطْلِقَتْ عَلَى الْبَيْت كَيْف مَا كَانَ. (قَالَ وَأَيْضًا وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) فِيهِ تَصْدِيق لَهَا فِيمَا ذَكَرَتْهُ، كَأَنَّهُ رَأَى أَنَّ الْمَعْنَى: وَأَنَا أَيْضًا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْك مِثْل ذَلِكَ. فالمدح في قوله: «وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه»؛ وهو أنه - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يَوَدُّ أن هندَ وأهلَها وكلَّ كافر يَذلّوا في حال كفرهم، فلما أسلموا كان يحبُّ أن يَعِزّوا، فأعزّهم الله، يعني أهلَ خبائها». والحديث يدلُّ على تخصيص هند وأهل خبائها بالذات، ثم مما يؤكدُ إعزازَ النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لها بعد الإسلام؛ أنه استَغفرَ لها لما جاءته مبايعةً مع النساء، فنَزل قولُ الله تعالى: {فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ} (الممتحنة:12)، وجاء وصفُ المبايعات في الآيات بأنهن من (المؤمنات). ويَدخلُ معاويةُ في فضل الحديث السابق، فهو من أهل خباء هند - رضي الله عنها -. ومن فضائل معاوية سدد خطاكم دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له بالهداية: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ» (رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني). (هَادِيًا) أَيْ لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَيْ مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ.

ومن فضائل معاوية سدد خطاكم دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - له بالوقاية من العذاب: ثَبَتَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا لمعاوية فقال: «اللهم عَلِّمْهُ الكِتابَ والحِسَابَ، وقِهِ العَذَابَ». (رواه الطبراني وغيره وصححه الألباني). ومن فضائل معاوية سدد خطاكم: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ» (رواه مسلم). (يُصَلُّونَ): أَيْ يَدْعُونَ. ومعاوية - رضي الله عنه - كان من أحسن الناس سيرة في ولايته، وكانت رعيته تحبه وهو يحبهم، ويصلون عليه وهو يصلي عليهم. معاوية سدد خطاكم أحد الخلفاء الاثني عشر: عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ انْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَمَعِى أَبِى فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «لاَ يَزَالُ هَذَا الدِّينُ عَزِيزًا مَنِيعًا إِلَى اثْنَىْ عَشَرَ خَلِيفَةً». فَقَالَ كَلِمَةً صَمَّنِيهَا النَّاسُ فَقُلْتُ لأَبِى: «مَا قَالَ؟»، قَالَ «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ». (رواه مسلم). وبالتأمل في النص بكل حيدة وموضوعية نجد أن هؤلاء الاثني عشر وصفوا بأنهم يتولون الخلافة , وأن الإسلام في عهدهم يكون في عزة ومنعة، وأن الناس تجتمع عليهم، ولا يزال أمر الناس ماضيًا وصالحًا في عهدهم، وكل هذا الأوصاف لا تنطبق على مَن تَدّعِي الشيعة الاثنا عشرية فيهم الإمامة فلم يتوَلَّ الخلافة منهم إلا أمير المؤمنين علي والحسن - رضي الله عنهما -. ثم أنه ليس في الحديث حصر لأئمة بهذا العدد , بل نبوة منه , بأن الإسلام لا يزال عزيزًا في عصور هؤلاء, وكان عصر الخلفاء الراشدين وبني أميه عصر عزة ومَنَعَة , وعدّ شيخُ الإسلام ابنُ تيمية معاويةَ سدد خطاكم من الأئمة المقصودين بالحديث.

معاوية سدد خطاكم أم عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -؟ إن عمر بن عبد العزيز من أئمة الهدى ومن المجددين، واعتُبِرَ خامسُ الخلفاء الراشدين؛ لأنه سار على نهجهم في سيرتهم مع الرعية والخلافة وطريقة العيش وغيرها من الأمور، لكن هذا لا يعني أن نفضل عمر بن عبد العزيز على معاوية سدد خطاكم، فمعاوية سدد خطاكم صحابي جليل القدر والمنزلة رأى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وصافحت يدُه يدَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وعن رباح بن الجراح الموصلي قال: سمعت رجلا يسأل المعافى بن عمران، فقال: «يا أبا مسعود أيْش عمر بن عبد العزيز من معاوية بن أبي سفيان؟». فغضب من ذلك غضبًا شديدًا وقال: «لا يقاس بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحد، معاويةُ صاحبُه، وصِهْره، وكاتبُه وأمينُه على وحي الله - عز وجل -». وسئل المعافى بن عمران أيضًا: «معاوية أفضل أو عمر بن عبد العزيز؟»، فقال: «كان معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز». وسُئل عبد الله بن المبارك: «أيهما أفضل: معاوية بن أبي سفيان أم عمر بن عبدالعزيز؟»، فقال: «والله إن الغبار الذي دخل في أنف معاوية مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل من عمر بألف مرة. صلى معاوية خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «سمع الله لمن حمده»، فقال معاوية: «ربنا ولك الحمد»، فما بعد هذا؟». ومعلوم أن (سمع) بمعنى استجاب، فمعاوية حصل له هذا الفضل وهو الصلاة خلف رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «سمع الله لمن حمده»، ومعاوية - رضي الله عنه - كان ممن يصلي وراءه ويقول: «ربنا ولك الحمد». وعن أبي بكر المروذي قال: قلت لأبي عبد الله (أي الإمام أحمد بن حنبل): «أيهما أفضل: معاوية أو عمر بن عبد العزيز؟»، فقال: «معاوية أفضل، لسنا نقيس

بأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أحدًا، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي الذِي بُعِثْتُ فِيهِمْ». وعن الأعمش أنه ذكر عنده عمر بن عبد العزيز وعدله، فقال: «فكيف لو أدركتم معاوية؟»، قالوا: «يا أبا محمد يعني في حلمه؟»، قال: «لا، والله، بل في عدله». وإن الجمع الذي بايع معاوية سدد خطاكم بالخلافة خير من الجمع الذي بايع عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، فقد بايع لمعاوية جم غفير من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - و - رضي الله عنهم -. تعظيم معاوية سدد خطاكم لسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: 1 - عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ: «اجْلِسْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ): أَيْ يَقُوم وَيَنْتَصِب لَهُ. (فَلْيَتَبَوَّأْ): أَيْ فَلْيُهَيِّئْ، أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَةً مِنْ النَّارِ وَحُقَّ لَهُ ذَلِكَ. 2 - قال أبو الدَّرداء - رضي الله عنه -: «ما رأيتُ أشْبَهَ صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مِن أميركم هذا»، يعني معاوية - رضي الله عنه -. (رواه الطبراني، وسنده صحيح). 3 - روى ابن أبي عاصم أن معاوية قال: «إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى، فلا تشبهوا بهم». (قال الألباني: «إسناده صحيح»). يشير معاوية - رضي الله عنه - إلى ما رواه مسلم في صحيحه، عن أَنَّ ثُمَامَةَ بْنَ شُفَىٍّ قَالَ كُنَّا مَعَ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرُودِسَ فَتُوُفِّىَ صَاحِبٌ لَنَا فَأَمَرَ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ بِقَبْرِهِ فَسُوِّىَ ثُمَّ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَأْمُرُ بِتَسْوِيَتِهَا».

4 - وعَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّكَ إِنْ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ»، فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا». (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ): شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي. معنى الحديث: إِذَا بَحَثْت عَنْ مَعَائِبِهِمْ وَجَاهَرْتهمْ بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى قِلَّة حَيَائِهِمْ عَنْك فَيَجْتَرِئُونَ عَلَى اِرْتِكَاب أَمْثَالهَا مُجَاهَرَة. قول أَبي الدَّرْدَاءِ: «كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللهِ نَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا». قال ابن كثير: «يعني أنه كان جيّدَ السريرة، حَسَنَ التجاوُز، جميلَ العفو، كثيرَ السِّتر، رحمه الله تعالى». 5 - قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ لِمُعَاوِيَةَ: «إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ إِلَّا أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ»، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ رَجُلًا عَلَى حَوَائِجِ النَّاسِ. (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (وَمَا مِنْ إِمَامٍ يُغْلِقُ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ) أَيْ يَحْتَجِبُ وَيَمْتَنِعُ مِنْ الْخُرُوجِ عِنْدَ اِحْتِيَاجِهِمْ إِلَيْهِ، وَالْخَلَّةُ: الْحَاجَةُ وَالْفَقْرُ. فَالْحَاجَةُ وَالْخَلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ أَلْفَاظٌ مُتَقَارِبَةٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا لِلتَّأْكِيدِ وَالْمُبَالَغَةِ. (إِلَّا أَغْلَقَ اللهُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ دُونَ خَلَّتِهِ وَحَاجَتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ) أَيْ أَبْعَدَهُ وَمَنَعَهُ عَمَّا يَبْتَغِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أَوْ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَجِدُ سَبِيلًا إِلَى حَاجَةٍ مِنْ حَاجَاتِهِ الضَّرُورِيَّةِ. 6 - عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنهما - يَوْمَ عَاشُورَاءَ عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ وَلَمْ يَكْتُبْ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ»، وَأَنَا صَائِمٌ فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ» (رواه البخاري).

قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث في (فتح الباري): «فِي سِيَاق هَذِهِ الْقِصَّة إِشْعَار بِأَنَّ مُعَاوِيَة لَمْ يَرَ لَهُمْ اِهْتِمَامًا بِصِيَامِ عَاشُورَاء، فَلِذَلِكَ سَأَلَ عَنْ عُلَمَائِهِمْ، أَوْ بَلَغَهُ عَمَّنْ يُكَرِّهُ صِيَامَهُ أَوْ يُوجِبُهُ». 7 - ومن تعظيم معاوية - رضي الله عنه - لسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - تحريه موضع صلاة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - داخل الكعبة، فعن سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قَالَ: «اعْتَمَرَ مُعَاوِيَةُ فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عُمَرَ وَجَلَسَ يَنْتَظِرُهُ حَتَّى جَاءَهُ فَقَالَ: «أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَوْمَ دَخَلَ الْبَيْتَ؟». قَالَ: «مَا كُنْتُ مَعَهُ وَلَكِنِّي دَخَلْتُ بَعْدَ أَنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ فَلَقِيتُ بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ أَيْنَ صَلَّى، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ صَلَّى بَيْنَ الْأُسْطُوَانَتَيْنِ». فَقَامَ مُعَاوِيَةُ فَصَلَّى بَيْنَهُمَا. (رواه الإمام أحمد، وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح على شرط الشيخين»). هذا معاوية سدد خطاكم أيُّها الشَّانِئُ (¬1) أَقْصِرْ ... إِنَّمَا جِئْتُ لِأَفْخَرْ بِابْنِ هندٍ مَنْ كَسَيْلٍ ... لِصُرُوحِ الْكُفْرِ دَمَّرْ سيفهُ قَامَ يُنادِي ... فِي الدُّنَى: اللهُ أَكْبَرْ بَذَلَ الْغالِي انْتِصَارًا ... لِلْهُدَى فِي كُلِّ مَعْبَرْ مَجْدُ (رُومَانٍ) و (فُرْسٍ) ... كُلُّ ذَا وَلَّى ... تَبَخَّرْ زَانَهُ اللهُ بِحِلْمٍ صَارَ ... فِي الْأَمْثَالِ يُذْكَرْ كَاتِبُ الْوَحْيِ أَمِينٌ ... لِلتُّقَى وَالْعَدْلِ مُسْفِرْ جَاءَهُ بِالْحَقِّ بُشْرَى ... الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ تُظْهِرْ أَنَّهُ حَازَ الْجِنَانَ ... سَبْقَ مَنْ في الْيَمِّ أَبْحَرْ كَالْمُلُوكِ فِي الْأَسِرَّةْ ... إِنَّ فَضْلَ اللهِ أَكْبَرْ ¬

_ (¬1) الشانئ: المبغِض.

وَلَهُ يُدْعَى بِحِفْظٍ ... مِنْ لَظَى - نَارٍ تُسَعَّرْ وَدُعَاءٍ بِاهْتِدَاءٍ ... وَالْهُدَى فِي النَّاسِ يَنْشُرْ أَيُّهَا الشَّانِي تَدَبَّرْ ... فِي جَزَاءِ مَنْ تَجَبَّرْ عِنْدَ رَبِّ الْعَرْشِ تَلْقَى ... كُلَّ مَا تَجْنِي مُسَطَّرْ هل يَضِيرُ الشَّمْسَ يَوْمًا ... جَحْدُ مَنْ لِلنُّورِ أَنْكَرْ هَلْ يُمِيطُ الضَّوْءَ عَنْهَا ... أمْ بِنُورِ الْحَقِّ يُقْهَرْ أَيُّ وَجْهٍ لِقِرَانٍ؟ (¬1) ... ذَاكَ نَجْمٌ لَسْتَ تُذْكَرْ أَنْتَ لَا تَسْمُو لِتُرْبٍ (¬2) ... دَاسَهُ الْغازِي الْمُظَفَّرْ شَادَ فِي الْآفَاقِ عِزًّا ... أُسُّهُ الدِّينُ الْمُطَهَّرْ لَيْتَ هَذَا العزَّ فِينَا ... إِنَّنِي كَمْ أَتَحَسَّرْ أيْنَ هَذَا مِنْ قُرَانَا ... سَاسَهَا كِسْرَى وَقَيْصَرْ ظُلْمُ (أَمْرِيكَا) وَ (رُوسْيَا) ... وَجْهُ مَنْ بِالْكُفْرِ أَسْفَرْ جَرْحُ (شِيشَانٍ) وَ (بُورْمَا) ... جَرْحُ أَفْغَانَ الْمُسَعَّرْ جَرْحُ أَقْصَانَا سَجِينًا ... جَرْحُ صُومَالَ الْمُفَغَّرْ (¬3) جَرْحُ غَزَةَ قَدْ دَهَانَا ... جَرْحُ بَغْدَادَ تَفَجَّرْ أَيُّهَا الْفُجَّارُ مَهْلًا ... إِنَّنَا يَوْمًا سَنَثْأَرْ إِنْ أَقَمْنَا الشَّرْعَ فِينَا ... إِنَّنَا حَتْمًا سَنُنْصَرْ ¬

_ (¬1) قِران: مقارنة. (¬2) تُرْب: تراب. (¬3) المفَغَّر: المتسع.

78 - من صفات معاوية

78 - من صفات معاوية - رضي الله عنه - توقير معاوية سدد خطاكم لآل بيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْجُرَشِيِّ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَمُصُّ لِسَانَهُ أَوْ قَالَ شَفَتَهُ - يَعْنِي الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - وَإِنَّهُ لَنْ يُعَذَّبَ لِسَانٌ أَوْ شَفَتَانِ مَصَّهُمَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». (رواه الإمام أحمد وقال الأرنؤوط: «إسناده صحيح»). وأخرج ابن كثير في البداية والنهاية بسند صحيح، أن معاوية - رضي الله عنه -، كان إذا لَقِيَ الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال: «مرحبًا بابن رسول الله وأهلًا»، ويأمر له بثلاثمائة ألف، ويلقى ابن الزبير - رضي الله عنهما - فيقول: «مرحبًا بابن عمة رسول الله وابن حواريِّه»، ويأمر له بمائة ألف. وأخرج الآجري عن الزهري قال: لما قُتل علي بن أبي طالب وجاء الحسن بن علي إلى معاوية - رضي الله عنهم -، فقال له معاوية: «لو لم يكن لك فضل على يزيد (¬1) إلا أن أمك من قريش وأمه امرأة من كلب (¬2)، لكان لك عليه فضل، فكيف وأمك فاطمة بنت رسول - صلى الله عليه وآله وسلم -؟!». ورواية أهل البيت عن معاوية - رضي الله عنه - دالة على فضله وصدقه عندهم , وممن روى عنه ابن عباس - رضي الله عنهما - ومحمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية). ¬

_ (¬1) يزيد بن معاوية. (¬2) قبيلة من قبائل العرب.

أمر معاوية سدد خطاكم بالمعروف وإنكاره للمنكر: 1 - عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنه - عَامَ حَجَّ عَلَى الْمِنْبَرِفَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ وَكَانَتْ فِي يَدَيْ حَرَسِيٍّ، فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ: «إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَهَا نِسَاؤُهُمْ» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ قَتَادَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ: «إِنَّكُمْ قَدْ أَحْدَثْتُمْ زِيَّ سَوْءٍ وَإِنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَهَى عَنْ الزُّورِ». قَالَ: «وَجَاءَ رَجُلٌ بِعَصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَلَا وَهَذَا الزُّورُ». قَالَ قَتَادَةُ: «يَعْنِي مَا يُكَثِّرُ بِهِ النِّسَاءُ أَشْعَارَهُنَّ مِنْ الْخِرَقِ» (رواه مسلم). قال الإمام النووي: «الْقُصَّة: الْخُصْلَة مِنْ الشَّعْر، وهِيَ شَعْر مُقَدَّم الرَّأْس الْمُقْبِل عَلَى الْجَبْهَة، وَقِيلَ: شَعْر النَّاصِيَة. وَالْحَرَسِيّ: وَاحِد الْحُرَّاس، وَهُمْ خَدَم الْأَمِير الَّذِينَ يَحْرُسُونَهُ. (يَا أَهْل الْمَدِينَة أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ) هَذَا السُّؤَال لِلْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ بِإِهْمَالِهِمْ إِنْكَار هَذَا الْمُنْكَر وَغَفْلَتهمْ عَنْ تَغْيِيره. وفِي هَذَا الحَدِيث اِعْتِنَاء معاوية - رضي الله عنه - بِإِنْكَارِ الْمُنْكَر، وَإِشَاعَة إِزَالَته، وَتَوْبِيخ مَنْ أَهْمَلَ إِنْكَاره مِمَّنْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ» (¬1). 2 - عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ قَالَ سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانَ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «إِنَّكُمْ لَتُصَلُّونَ صَلَاةً لَقَدْ صَحِبْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَمَا رَأَيْنَاهُ يُصَلِّيهَا وَلَقَدْ نَهَى عَنْهُمَا يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ» (رواه البخاري). ¬

_ (¬1) باختصار من شرحه لصحيح مسلم.

3 - عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ هُرْمُزَ الْأَعْرَجُ أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أَنْكَحَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَكَمِ ابْنَتَهُ وَأَنْكَحَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنَتَهُ وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا، فَكَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَرْوَانَ يَأْمُرُهُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: «هَذَا الشِّغَارُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). (وَكَانَا جَعَلَا صَدَاقًا) أَيْ كَانَا جَعَلَا إِنْكَاح كُلّ وَاحِد مِنْهُمَا الْآخَر اِبْنَته صَدَاقًا. (فَكَتَبَ مُعَاوِيَة) بْن أَبِي سُفْيَان الْخَلِيفَة. (إِلَى مَرْوَان) بْن الْحَكَم وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَة مِنْ قِبَل مُعَاوِيَة - رضي الله عنه -. (وَقَالَ فِي كِتَابه) الَّذِي كَتَبَ إِلَى مَرْوَان. (هَذَا الشِّغَار الَّذِي نَهَى عَنْهُ رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وآله وسلم -). قَالَ الْإِمَام الْخَطَّابِيّ: «إِذَا وَقَعَ النِّكَاح عَلَى هَذِهِ الصِّفَة كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَهَى عَنْهُ». 4 - عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي الْخُوَارِ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ أَرْسَلَهُ إِلَى السَّائِبِ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ يَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ رَآهُ مِنْهُ مُعَاوِيَةُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: «نَعَمْ صَلَّيْتُ مَعَهُ الْجُمُعَةَ فِي الْمَقْصُورَةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قُمْتُ فِي مَقَامِي فَصَلَّيْتُ فَلَمَّا دَخَلَ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: «لَا تَعُدْ لِمَا فَعَلْتَ إِذَا صَلَّيْتَ الْجُمُعَةَ فَلَا تَصِلْهَا بِصَلَاةٍ حَتَّى تَكَلَّمَ أَوْ تَخْرُجَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَنْ لَا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّمَ أَوْ نَخْرُجَ» (رواه مسلم). (صَلَّيْت مَعَهُ الْجُمُعَة فِي الْمَقْصُورَة) فِيهِ دَلِيل عَلَى جَوَاز اِتِّخَاذهَا فِي الْمَسْجِد إِذَا رَآهَا وَلِيّ الْأَمْر مَصْلَحَة، قَالُوا: وَأَوَّل مَنْ عَمِلَهَا مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان حِين ضَرَبَهُ الْخَارِجِيّ. قَوْله: (فَإِنَّ رَسُول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَمَرَنَا بِذَلِكَ أَلَّا تُوصَلَ صَلَاةٌ بِصَلَاةٍ حَتَّى نَتَكَلَّم أَوْ نَخْرُج) فِيهِ دَلِيل على أَنَّ النَّافِلَة الرَّاتِبَة وَغَيْرهَا يُسْتَحَبّ أَنْ يَتَحَوَّل لَهَا عَنْ مَوْضِع الْفَرِيضَة إِلَى مَوْضِع آخَر، وَأَفْضَله التَّحَوُّل إِلَى بَيْته، وَإِلَّا فَمَوْضِع آخَر مِنْ الْمَسْجِد أَوْ غَيْره لِيَكْثُر مَوَاضِع سُجُوده وَلِتَنْفَصِل صُورَة النَّافِلَة عَنْ صُورَة الْفَرِيضَة.

وَقَوْله: (حَتَّى نَتَكَلَّم) دَلِيل عَلَى أَنَّ الْفَصْل بَيْنهمَا يَحْصُل بِالْكَلَامِ أَيْضًا. معاوية سدد خطاكم طالبًا للعلم والنصيحة: 1 - عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَأَلَ أُخْتَهُ أُمَّ حَبِيبَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُصَلّيِ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُهَا فِيهِ؟»، فَقَالَتْ: «نَعَمْ إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِ أَذًى» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). 2 - وكَتَبَ مُعَاوِيَةُ بنُ أبي سُفْيَان - رضي الله عنهما - إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ - رضي الله عنها - أَنْ اكْتُبِي إِلَيَّ كِتَابًا تُوصِينِي فِيهِ وَلَا تُكْثِرِي عَلَيَّ، فَكَتَبَتْ عَائِشَةُ - رضي الله عنها - إِلَى مُعَاوِيَةَ: «سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ»، وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (مَنْ اِلْتَمَسَ) أَيْ طَلَبَ، (بِسَخَطِ النَّاسِ) السَّخَطُ وَالسُّخُطُ وَالسُّخْطُ وَالْمَسْخَطُ: الْكَرَاهَةُ لِلشَّيْءِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِهِ، (كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ) لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ حِزْبِ اللهِ وَهُوَ لَا يَخِيبُ مَنْ اِلْتَجَأَ إِلَيْهِ، أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ. (وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ) أَيْ سَلَّطَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤْذُوهُ. تواضع معاوية سدد خطاكم وزهده: 1 - روى الإمام أحمد في (الزهد) وابن أبي عاصم بسند صحيح عن أبي حملة قال: «رأيت معاوية على المنبر بدمشق يخطب الناس وعليه قميص مرقوع». 2 - وعن يونس بن ميسر الحميري الزاهد - وهو من شيوخ الأوزاعي - قال: «رأيت معاوية في سوق دمشق وهو مُرْدِفٌ وراءَه وصيفًا، وعليه قميص مرقوع الجَيْب يسير في أسواق دمشق». (الوصيف: الخادم). 3 - قال ابن دريد عن أبي حاتم عن العتبي قال: قال معاوية: «يأيها الناس! ما أنا بخيركم وإن منكم لَمَن هو خيرٌ مِنّي، عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو،

وغيرهما من الأفاضل، ولكن عسى أن أكون أنفعكم ولاية، وأنكاكم في عدوكم، وأدَرّكم حلبًا». 4 - عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ فَقَامُوا لَهُ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه الإمام أحمد، وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين). وعَنْه أيضًا قَالَ: «خَرَجَ مُعَاوِيَةُ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَابْنِ عَامِرٍ، فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَجَلَسَ ابْنُ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِابْنِ عَامِرٍ: اجْلِسْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» (رواه الترمذي وأبو داود، واللفظ له، وصححه الألباني). حِلم معاوية سدد خطاكم ورحابة صدره: لقد كان حلم معاوية - رضي الله عنه - ورحابة صدره مضرب المثل، وأخباره في ذلك كثيرة جدًا، وقد أفرد الحافظان ابن أبي الدنيا وابن أبي عاصم تصنيفًا في حلم معاوية. 1 - قال ابن عون: «كان الرجل يقول لمعاوية: «والله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنُقَوِّمَنَّكَ»، فيقول: «بماذا؟»، فيقول: «بالخشب»، فيقول: «إذن نستقيم». 2 - وقال قبيصة بن جابر: «صحبتُ معاوية فما رأيت رجلًا أثقل حلمًا ولا أبطأ جهلًا ولا أبعد أناةً منه». 3 - عن أبي مسلم الخولاني، أنه نادى معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - وهو جالس على منبر دمشق فقال: «يا معاوية، إنما أنت قبر من القبور؛ إن جئتَ بشيء كان لك شيء، وإن لم تجئ بشيء فلا شيء لك. يا معاوية، لا تحسبَنَّ الخلافة جمع المال، وتفرقته ولكن الخلافة العمل بالحق والقول بالمعدلة، وأخذ الناس في ذات الله، يا معاوية، إنا لا نبالي بكدر الأنهار وما صفَت لنا رأس عيننا وإنك رأس أعيننا، يا معاوية إنك إن تَحِفْ على قبيلة من قبائل العرب يذهب حَيْفُك بعدلِك».

فلما قضى أبو مسلم مقالته أقبل عليه معاوية فقال: «يرحمك الله يرحمك الله». 4 - وقال بعضهم: أسمَعَ رجلٌ معاويةَ كلامًا سيئًا شديدًا، فقيل له: «لو سطوت عليه؟»، فقال: «إني لأستحيي من الله أن يضيق حِلمي عن ذنبِ أحدٍ من رعيتي». وفي رواية قال له رجل: «يا أمير المؤمنين ما أحلمك؟»، فقال: «إني لاستحيي أن يكون جرم أحد أعظم من حلمي». 5 - وقال له ابن أخته عبد الرحمن بن أبي الحكم: «إن فلانًا يشتمني»، فقال له معاوية: «طأطئ لها؛ فتمر؛ فتجاوزك». 6 - وقال: «لا يبلغ الرجل مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ الرجل ذلك إلا بقوة الحلم». جهاد معاوية سدد خطاكم وفتوحاته: شهد معاويةُ - رضي الله عنه - مع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حُنينا والطائف، وشهد غزوة تبوك، وهي العُسرة. وفي أيام أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - شهد حرب المرتدين في اليمامة. ثم جمع أبو بكر - رضي الله عنه - أناسًا ووجههم إلى الشام، وأمَّر عليهم معاوية - رضي الله عنه -، وأمرهم باللحاق بيزيد بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، وهي أول مهمة قيادية يتولاها معاوية. ثم صَحِبَ أخاهُ يَزيدَ أميرَ الشام في فُتوحها، وشهد اليرموك، وفتح دمشق تحت راية يزيد. وفي عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أرسل يزيدُ حملةً بإمرة أخيه معاوية - رضي الله عنهما - إلى سواحل بلاد الشام فافتتحها. وكان معاوية - رضي الله عنه - من الجيش الذي فتح بيت المقدس، ودخل المسجد مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، وكان أحد أربعة شهدوا على العَهد العُمَري الشهير. وفي سنة تسع عشرة زمن عمر كانَ معاويةُ - رضي الله عنه - قائدَ فتحِ قَيْسَارِيَّة، من المعارك الفاصلة مع الروم، وكان فيها بَطارِقَتُهم، وقد حاصرها معاوية حصارًا شديدًا، وأبلى فيها بلاءً كبيرًا.

وكان قد استأذن عمر في بناء قوة بحرية لمحاربة الروم فلم يأذن. ثم توفي عمر وهو عن معاوية راض، فأقرّه عثمان بن عفان - رضي الله عنهم - على إمرة الشام كلها، وكان معاوية يغزو الروم، وكان على رأس صائفة، واستطاع أن يصل إلى عمّورية (موقع أنقرة اليوم)، ومعه عدد من الصحابة، منهم: عبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء، وشداد بن أوس - رضي الله عنهم -. وأعاد معاوية طلب بناء قوة بحرية للمسلمين، فوافق عثمان - رضي الله عنه -، فبنى أسطولًا، وغزا بنفسه جزيرة قبرص سنة خمس وعشرين وقيل سنة ثمان وعشرين. وعندما قامت الدولة الأموية استكمل معاوية - رضي الله عنه - ما بدأه في بناء القوة البحرية لحماية سواحل الدولة الإسلامية بإقامة المراكب للغزو إلى جانب ترتيب الحفظة في السواحل مما استولى عليه المسلمون من قواعد ومنشآت بحرية، وعندما خرجت الروم في عهده إلى السواحل الشامية أمر بجمع الصناع من النجارين فجُمعوا ورتبهم في السواحل الشامية وجعل مقر دار صناعة السفن في جند الأردن بعكا. كما أنشأ الخليفة معاوية - رضي الله عنه - أول دار صناعة للأساطيل لإنتاج السفن الحربية المختلفة بمصر سنة 54 هـ في عهد واليها مسلمة بن مخلد الأنصاري، وبلغت السفن الحربية في عهد معاوية - رضي الله عنه - نحوًا من ألف وسبعمائة سفينة شراعية مشحونة بالرجال والسلاح وجميع العتاد، والمستلزمات القتالية البحرية. روى البخاري في صحيحه عن أم حَرَام الأنصارية أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «أوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ الْبَحْرَ قَدْ أَوْجَبُوا».، ومعاوية هو أمير تلك الغزوة، ومعه عدد من الصحابة، وقام بتحصين أسوار سواحل الشام عند ذهابه إلى قبرص، مثل عكا وصور، وأنشأ حصونًا وشحنها بالجند. توقفت الفتوحات بعد مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - مظلومًا.

وغزا جُزُرَ صقلية، ورودس، وجربا، كريت، وكثير من جزر بحر إيجة قرب القسطنطينية. وأما في إفريقية، فقد جدد معاوية فتحها، ووصل إلى مكان تونس اليوم، كما فتح مناطق من فزّان، والسودان. وفي عهده افتتح بعض المناطق في المشرق، مثل الرُّخّج وبعض سجستان، وقوهستان، وغزا أمراؤه بلادَ السِّند، وجبال الغور، وبلاد اللان، واجتازوا النهر، وهم أول من اجتازه من جند المسلمين، ودخلوا بخارى، وسمرقند، وتِرْمِذ. والحاصل كما قال أبونعيم في (معرفة الصحابة): «مَلَكَ الناسَ كلَّهم عشرين سنة منفردًا بالمُلك، يفتح الله به الفتوح، ويغزو الروم، ويقسم الفيء والغنيمة، ويقيم الحدود، والله تعالى لا يُضِيْعُ أجرَ من أحسنَ عَملًا». وتحدث القاضي ابن العربيِّ المالكي في كتابه (العواصم من القواصم) عن الخصال التي اجتمعت في معاوية - رضي الله عنه - , فذكر منها: « ... قيامه بحماية البيضة, وسدِّ الثغور , وإصلاح الجند , والظهور على العدوِّ , وسياسة الخلق». عدل معاوية سدد خطاكم: عن عطية بن قيس قال: «خطبنا معاوية فقال: «إن في بيت مالكم فضلًا عن أعْطِيَاتِكُمْ وأنا قاسمٌ بينكم ذلك، فإن كان فيه في قابلَ فَضْلٌ قسمناه بينكم، وإلا فلا عتيبة علينا فيه؛ فإنه ليس بمالنا إنما هو فَيْءُ الله الذي أفاءه عليكم». وعن الزهري قال: «عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئًا». وقال ابن كثير في ترجمة معاوية - رضي الله عنه -: «وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلًا بالأمر في هذه المدة إلى هذه السنة التي كانت فيها

وفاته، والجهاد في بلاد العدو قائم وكلمة الله عالية، والغنائم ترد إليه من أطراف الأرض، والمسلمون معه في راحة وعدل وصفح وعفو» (¬1). اهتمام معاوية سدد خطاكم برعيته: عن أبي قبيل قال: «كان معاوية يبعث رجلًا يقال له أبو الجيش في كل يوم فيدور على المجالس يسأل هل ولد لأحد مولود؟ أو قدم أحد من الوفود؟ فإذا أخبر بذلك أثْبِتَ في الديوان» - يعني ليجري عليه الرزق. (يجري عليه الرزق: أي يحدد له راتبًا من بيت المال). وعن أبي عثمان الشامي، قال: كان معاوية يَخرج علينا ونحن في الكُتّاب، ويقول للمعلم: «يا معلِّم، أَحْسِن أَدَبَ أبناءِ المُهاجرين». ومن إصلاحات معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - أنه أول من بلّط المدينة المنورة بالحجارة، وبنى فيها مرافق وحصنًا لأهلها. وكان يُرسل الأطعمة إلى المدينة كما كان يُفعل أيام عمر، وأمر بحفر نهر مَعْقِل. واهتم بالمسجد الحرام وأمر بتوسعته وأجرى له القناديل والزيت من بيت المال وأضاء المصابيح فيه لأهل الطواف، واهتم بالمسجد الأقصى، وقام مسلمة بن مخلد أمير مصر من قبل معاوية بالزيادة في المسجد الجامع بالفُسطاط عام 53 هـ وبنى له أربع منارات شامخة وفرشه بالحصير. واهتم معاوية - رضي الله عنه - بالمرافق العامة في الدولة الإسلامية، وحرص على توفير مياه الشرب في المدينة، وأجرى في الحرم المكي عيونًا وأنشأ آبار المياه على الطرقات، فربط بين أجزاء مملكته ربطًا محكمًا. ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (8/ 119).

وجعل دار المراجل بمكة، والتي كان يطبخ فيها طعام الحجاج وطعام الصائمين من الفقراء في شهر رمضان المبارك وقفًا في سبيل الله. ذكر بعض ما جاء من ثناء الصحابة على معاوية سدد خطاكم: * قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قُبيل وفاته: «اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ عَلَى أُمَرَاءِ الْأَمْصَارِ، وَإِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَعْدِلُوا عَلَيْهِمْ وَلِيُعَلِّمُوا النَّاسَ دِينَهُمْ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِمْ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَيَقْسِمُوا فِيهِمْ فَيْئَهُمْ وَيَرْفَعُوا إِلَيَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِهِم». (رواه مسلم). وقد توفي عمر سدد خطاكم ومعاوية سدد خطاكم أمير الشام. قال الإمام الذهبي - رحمه الله -: «حسبُك بمن يُؤَمِّرُه عمر، ثم عثمان على إقليم - وهو ثغر - فيضبطُه ويقومُ به أتمّ قيام». (سير أعلام النبلاء 3/ 132). وروى الطبري في التاريخ بسند صحيح عن سعيد المقبُري، قال: قال عمر بن الخطاب: «تَذكرونَ كِسْرَى وقَيْصَرَ ودَهاءَهُما؛ وعندَكم معاوية». وعن ابن عمر سدد خطاكمما أنه قال: «ما رأيت بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أسْوَدَ من معاوية»، فقيل: «ولا أبوك؟»، قال: «أبي عمر - رحمه الله - خير من معاوية، وكان معاوية أسْوَدَ منه». (أسْوَدَ: من السيادة). وقال ابن عباس سدد خطاكمما: ما رأيت رجلًا كان أخْلَق للملك من معاوية». (أخلق: أجدر). وعَنْ أَبِى إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِىِّ قَالَ: «لَمَّا عَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عُمَيْرَ بْنَ سَعِيدٍ عَنْ حِمْصَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ، فَقَالَ النَّاسُ: «عَزَلَ عُمَيْرًا وَوَلَّى مُعَاوِيَةَ». فَقَالَ عُمَيْرٌ: «لاَ تَذْكُرُوا مُعَاوِيَةَ إِلاَّ بِخَيْرٍ فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «اللَّهمَّ اهْدِ بِهِ». (رواه الترمذي وصححه الألباني). وقالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: «إني لأتمنى أن يزيدَ اللهُ – عز وجل - معاويةَ مِن عُمري في عُمره».

وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: «ليس أحدٌ منا أعلم من معاوية». وروى البخاري عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: «أَوْتَرَ مُعَاوِيَةُ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِرَكْعَةٍ وَعِنْدَهُ مَوْلًى لِابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: «دَعْهُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». وعن ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: «هَلْ لَكَ فِي أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةَ؛ فَإِنَّهُ مَا أَوْتَرَ إِلَّا بِوَاحِدَةٍ؟»، قَالَ: «أَصَابَ إِنَّهُ فَقِيهٌ». (رواه البخاري). وقال أبوالدَّرداء - رضي الله عنه -: «ما رأيتُ أشْبَهَ صلاةً برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مِن أميركم هذا»، يعني معاوية. ذكر بعض ما جاء من ثناء التابعين على معاوية سدد خطاكم: قال أبو إسحاق السبيعي الكوفي: «كان معاوية، وما رأينا بعده مثله». وعن مجاهد قال: «لو رأيتم معاوية لقُلْتم هذا المهدي؛ من فضله». وقال قتادة: «لو أصبحتم في مِثْلِ عمل معاوية لقال أكثَرُكُم: «هذا المهدي». وقال أبومُسْلِم الخَوْلاني لمعاوية: «فلا والله ما أبغضْناكَ منذ أَحببْناك، ولا عَصَيناك بعدما أَطَعْناك، ولا فارَقْناكَ بعدَما جامَعَنْاك، ولا نَكَثْنا بَيْعَتَنا منذُ بايَعْناك، سُيوفُنا على عَواتِقِنا، إنْ أَمَرْتَنا أَطَعْناك، وإنْ دَعَوْتَنا أَجَبْناك، وإنْ سَبَقْتَنا أَدْرَكْناك، وإنْ سَبَقْناكَ نَظَرْناك». وعن الزهري قال: «عمل معاوية بسيرة عمر بن الخطاب سنين لا يخرم منها شيئًا». ذكر بعض ما جاء من ثناء العلماء على معاوية سدد خطاكم: قال ابن أبي العز الحنفي: «وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين». وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَفْضَلُ مُلُوكِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَإِنَّ الْأَرْبَعَةَ قَبْلَهُ كَانُوا خُلَفَاءَ نُبُوَّةٍ وَهُوَ أَوَّلُ الْمُلُوكِ؛ كَانَ مُلْكُهُ مُلْكًا وَرَحْمَةً

كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ... (¬1) وَكَانَ فِي مُلْكِهِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْحِلْمِ وَنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ خَيْرًا مِنْ مُلْكِ غَيْرِهِ». وقال أيضًا: «فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ أَنَّهُ أَمَّرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَمَا أَمَّرَ غَيْرَهُ وَجَاهَدَ مَعَهُ وَكَانَ أَمِينًا عِنْدَهُ يَكْتُبُ لَهُ الْوَحْيَ وَمَا اتَّهَمَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي كِتَابَةِ الْوَحْيِ. وَوَلَّاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الَّذِي كَانَ مِنْ أَخْبَرِ النَّاسِ بِالرِّجَالِ - وَقَدْ ضَرَبَ اللهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِ وَقَلْبِهِ - وَلَمْ يَتَّهِمْهُ فِي وِلَايَتِهِ. وَقَدْ وَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَبَاهُ أَبَا سُفْيَانَ إلَى أَنْ مَاتَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ عَلَى وِلَايَتِهِ فَمُعَاوِيَةُ خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ وَأَحْسَنُ إسْلَامًا مِنْ أَبِيهِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ». وقال الإمام الذهبي عن معاوية - رضي الله عنه -: «أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ، مَلِكُ الإِسْلاَمِ، أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيُّ، الأُمَوِيُّ، المَكِّيُّ». وقال: «حَسْبُكَ بِمَنْ يُؤَمِّرُهُ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ عَلَى إِقْلِيْمٍ - وَهُوَ ثَغْرٌ – فَيَضْبِطُهُ، وَيَقُوْمُ بِهِ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَيُرْضِي النَّاسَ بِسَخَائِهِ وَحِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ تَأَلَّمَ مَرَّةً مِنْهُ، وَكَذَلِكَ فَلْيَكُنِ المَلِكُ. وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - خَيْرًا مِنْهُ بِكَثِيْرٍ، وَأَفْضَلَ، وَأَصْلَحَ، فَهَذَا الرَّجُلُ سَادَ وَسَاسَ العَالَمَ بِكَمَالِ عَقْلِهِ، وَفَرْطِ حِلْمِهِ، وَسَعَةِ نَفْسِهِ، وَقُوَّةِ دَهَائِهِ وَرَأْيِهِ». وقال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: «وأجمعت الرعايا على بيعته في سنة إحدى وأربعين ... فلم يزل مستقلًا بالأمر إلى ... السنة التي كانت فيها وفاته , والجهاد في بلاد العدو قائم , وكلمة الله عالية , والغنائم تَرِد إليه من أطراف الأرض , والمسلمون معه في راحة وعدل , وصفح وعفو». ¬

_ (¬1) قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أوَّلُ هَذَا الْأمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةً ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً» (رواه الطيالسي وأحمد والبزار، وصححه العراقي والألباني، انظر: الصحيحة3270).

وقال المؤرخ العلامة ابن خلدون: «إن دولة معاوية وأخباره كان ينبغي أن تلحق بدول الخلفاء الراشدين وأخبارهم، فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصحبة». وقال الشيخ محب الدين الخطيب - رحمه الله -: «سألني مرة أحد شباب المسلمين ممن يحسن الظن برأيي في الرجال: «ما تقول في معاوية؟». فقلت له: «ومن أنا حتى أسأل عن عظيم من عظماء هذه الأمة، وصاحب من خيرة أصحاب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها على نوره». بعض ما رُوي من أقوال معاوية سدد خطاكم: 1 - «إني لأرفع نفسي من أن يكون ذنبٌ أعظمَ من عَفوي، وجهلٌ أكثر من حِلمي، أو عورةٌ لا أواريها بسِتْري، أو إساءةٌ أكثر من إحساني». 2 - «ما مِن شيء ألذُّ عندي من غيظٍ أتجَرَّعُه أرجو بذلك وجه الله». 3 - «العقلُ والحِلمُ أفضل ما أُعطي العبدُ، فإذا ذُكِّرَ ذَكَر، وإذا أُعطيَ شَكر، وإذا ابتُليَ صَبر، وإذا غضب كظم، وإذا قَدر غَفر، وإذا أساءَ استغفر، وإذا وعَد أنجز». 4 - «إصلاحُ مالٍ في يَدَيك أفضلُ مِن طَلَب الفَضْلِ مِن أيدي الناس، وحُسن التدبير مع الكَفاف أحبُّ إليَّ من الكثير». 5 - «لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت». قيل: «وكيف يا أمير المؤمنين؟». قال: «كانوا إذا مَدّوها خلّيْتُها، وإذا خَلوها مدَدْتُها». 6 - «إياكم وقذف المحصنات، وأن يقول الرجل: «سمعتُ وبلغني»، فلو قذف أحدكم امرأة على عهد نوح لَسُئِلَ عنها يوم القيامة».

79 - لا تدعوا على اولادكم

78 - لا تدعوا على أولادكم الأولاد نعمة: مِنْ عظيمِ فضلِ اللهِ وكبيرِ نِعَمهِ على خلْقهِ أَنَّهُ - سبحانه وتعالى - كما قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)} (الشورى: 49 - 50). وَحُبُّ الذُّريَةِ مفْطورٌ في النَّفْسِ الإنْسانيةِ، وطلَبُها والسَّعْيُ إليْها ليسَ غريبًا على النَّفسِ الإنسانيةِ؛ لأنَّ المالَ والبنينَ زينةُ الحياةِ الدنيَا، كما قالَ اللهُ تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (46)} (الكهف: 46). وإذا كانَ الإنسانُ يُحِبُّ أنْ يكونَ لهُ ذريةٌ فعبادُ اللهِ المؤمنونَ من طبيعتِهِم وصفاتِهِم أن يبْتَهِلوا إلى اللهِ أنْ يرزقَهُم أولادًا مؤمنينَ صالحينَ مهْديينَ إلى الإسلام، مُطيعينَ للهِ، يعملونَ الخيرَ، ويبتعدُونَ عنِ الشَّرِّ، تَقَرُّ بِهِمْ أعْيُنُهُم، وتُسَرُّ بِهِمْ نفوسُهُم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)} (الفرقان: 74). {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا} أي: قرنائنا من أصحاب وأقران وزوجات، {وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} أي: تقر بهم أعيننا. قُرَّة العَيْن: ما يصادف المرء به سرورًا فلا تطمح العين إلى ما سواه، يقال: هو قرَّة عين أمّه: سرورها وسكونها. قَالَ الضَّحَّاك: أَيْ مُطِيعِينَ لَك. وَفِيهِ جَوَاز الدُّعَاء بِالْوَلَدِ. وإذا استَقْرَأنا حاله وصفات عباد الرحمن عرفنا من هممهم وعلو مرتبتهم أنهم لا تقر أعينهم حتى يرَوْهم مطيعين لربهم عالمين عاملين وهذا كما أنه دعاء لأزواجهم وذرياتهم في صلاحهم فإنه دعاء لأنفسهم لأن نفعه يعود عليهم ولهذا جعلوا ذلك هبة

لهم فقالوا: {هَبْ لَنَا} بل دعاؤهم يعود إلى نفع عموم المسلمين؛ لأن بصلاح مَن ذُكِرَ يكون سببًا لصلاح كثير ممن يتعلق بهم وينتفع بهم. وقد دعا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لِأَنَسٍ: «اللهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَارِكْ لَهُ فِيهِ» (رواه البخاري ومسلم). وَالْإِنْسَان إِذَا بُورِكَ لَهُ فِي مَاله وَوَلَده قَرَّتْ عَيْنه بِأَهْلِهِ وَعِيَاله , حَتَّى إِذَا كَانَتْ عِنْده زَوْجَة اِجْتَمَعَتْ لَهُ فِيهَا أَمَانِيّه مِنْ جَمَال وَعِفَّة وَنَظَر وَحَوْطَة أَوْ كَانَتْ عِنْده ذُرِّيَّة مُحَافِظُونَ عَلَى الطَّاعَة , مُعَاوِنُونَ لَهُ عَلَى وَظَائِف الدِّين وَالدُّنْيَا , لَمْ يُلْتَفَت إِلَى زَوْج أَحَد وَلَا إِلَى وَلَده , فَتَسْكُن عَيْنه عَنْ الْمُلَاحَظَة , وَلَا تَمْتَدّ عَيْنه إِلَى مَا تَرَى؛ فَذَلِكَ حِين قَرَّتْ الْعَيْن , وَسُكُون النَّفْس. هل أنت مسئول عن البر أو التمرد؟ وكثيرٌ من الآباءِ والأمَّهاتِ يرجونَ برَّ أولادِهِم بِهِمْ واحترامِهِمْ لَهُمْ، وهذا واجبٌ على الأولادِ لِوالِديهِمْ، إلاَّ أنَّ كثيرًا من الآباءِ والأمَّهاتِ يشْكونَ منْ تمرُّدِ وانْحرافِ أبنائِهِم وفسادِ أخْلاقِهِمْ. ومهما كانتْ أسبابُ ذلك فإنَّ التَّبِعَةَ في الواقِعِ يَبُوءُ بها الآباءُ، فالطِّفلُ يولدُ على الفِطْرَةِ السَّليمَةِ والصَّفاءِ والنَّقاءِ، ولَكِنَّ المُجتَمَعَ هو الذي يُفْسِدُه، والبِيئةَ التي يعيشُ فيها هيَ الَّتِي تُلَوِّثُ فِطْرَتَهُ وتُفْسِدُ خُلُقَهُ ودينَهُ، ولا سِيَما أبَوَيهُ فَهُما سَببُ هلاكِهِ ودمارهِ، وسبَبُ فسادِهِ أو صلاحِهِ، وسبَبُ استقامَتِهِ أو اعْوِجاجِهِ، ففي الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: “ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ “ (رواه البخاري). ولِهذا جعلَ الإسلامُ من أعظمِ الواجباتِ على الآباءِ والأمَّهاتِ تِجاهَ أولادِهِمْ حسنَ تعَهُّدِهِم ورعايتِهِم، واعْتَبَرَ كلَّ مُفرِّطٍ في أداءِ هذا الواجِبِ ظالمًا لنفْسِهِ وولدِهِ ومُجْتَمَعِهِ وأُمَّتِهِ، فهلْ قُمْنا بواجِبِنا نحْو أبنائِنا؟!

علينا قَبْلَ أن نلومَ أبناءَنا ونشكُوَ منَ انحِرافِهِم وفسادِ أخلاقِهِم أن نَسألَ أنْفُسَنا: هل تعهَّدناهُمْ ورعيْناهُمْ منذ صِغَرِهِمْ كما عَلَّمَنَا الإسلامُ؟! هل غرسْنا ورسَّخْنا الإيمانَ والعقيدةَ الصحيحةَ في نفوسِهِمْ؟! هل عوَّدْناهُمُ الصَّلاةَ وهم صغارٌ كما أمرنا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (مُرُوا): أَمْر مِنْ الْأَمْر. (أَوْلَادكُمْ): يَشْمَل الذُّكُور وَالْإِنَاث. (بِالصَّلَاةِ): وَبِمَا يَتَعَلَّق بِهَا مِنْ الشُّرُوط (وَهُمْ أَبْنَاء سَبْع سِنِينَ): لِيَعْتَادُوا وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا، (وَاضْرِبُوهُمْ): أَيْ الْأَوْلَاد (عَلَيْهَا): أَيْ عَلَى تَرْك الصَّلَاة (وَهُمْ أَبْنَاء عَشْر سِنِينَ): لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا أَوْ قَارَبُوا الْبُلُوغ (وَفَرِّقُوا بَيْنهمْ فِي الْمَضَاجِع): أَيْ فَرِّقُوا بَيْن أَوْلَادكُمْ فِي مَضَاجِعهمْ الَّتِي يَنَامُونَ فِيهَا إِذَا بَلَغُوا عَشْرًا حَذَرًا مِنْ غَوَائِل الشَّهْوَة وَإِنْ كُنَّ أَخَوَاته. هل ربَّيْناهُمْ على حُبِّ اللهِ ورسولِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟! هل حرصْنا على تحفيظِهِمْ كتابَ اللهِ؟! هل شجَّعْناهُمْ على قِراءةِ السُّنَّةِ النَّبويةِ؟! هل صحِبْناهُم معنا إلى مجالسِ العلمِ والمحاضراتِ والنَّدواتِ التي تُعْقَدُ في المساجدِ وغيرِها؟! هل غرسْنا القِيَمَ الحميدَةَ والخِلالَ الكريمَةَ في نُفُوسِهِمْ وأدَّبْناهُمْ بِآدابِ الإسلامِ؟! هل خَصَّصْنا جُزْءًا من أوقاتِنا لأولادِنا وراقَبْنا تصرُّفاتِهِم في المنْزِلِ والشَّارعِ وتتبَّعْنا أحوالَهُمْ في المدارِسِ؟! هل نحنُ قُدوَةٌ صالِحةٌ لأبنائِنا؟! هل قمنا بتربية أبنائنا على الوجه الصحيح أم أننا تركناهم للشارع لكي يربِّيهِم على الأخلاق الدَّنِيئة والألفاظِ البذيئةِِ؟! أسئِلةٌ كثيرةٌ كثيرةٌ يجبُ أن يطرَحَها كلُّ واحدٍ منَّا على نفسِهِ، ويجيبَ عليها بصِدْقٍ. رُوِيَ أن قاضيًا حَكَمَ على سارقٍ بقطْعِ يدِهِ، فما أنْ لَفَظَ القاضي بالحُكْمِ حتى اهتَزَّتْ جَنَبَاتُ المَحْكَمَةِ بِصَوْتٍ يُجَلْجِلُ: اقْطَعُوا لِسانَ أُمِّي قَبْلَ أَنْ تقْطَعوا يَدِي، فلقد سَرَقْتُ في طفولتي بيضةً من جيراننا، فلم تُؤَنّبْنِي، وإنما هشَّتْ لي وبشَّتْ، مستحسنةً ما فعلتُ، إنني لولا لسانُ أمِّي الذي هَلَّلَ للجريمة في صغري لما كنتُ اليوم سارقًا تقطعُ يدُهُ.

وهذا حال بعضنا اليوم مع أولادنا، نسكتُ عن خطيئاتهم الصغيرة، بل نضحك لهم ونشجعهم على الإساءاتِ. وعاتبَ بعضهم ولده على العقوق فقال: يا أبت، إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتُكَ شيخًا. لقد أهملنا رعايةَ أولادِنا في أول الطريق فساءت أخلاقُهُم في نهايته. وماذا كنا ننتظر غيرَ هذا وقد أضعنا أمرَ الله فيهمْ، وغفلنا عن إصلاحهم والعنايةِ بهم ووقايتهم؟! قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (التحريم: 6). ولا أظن أن أحدا منا لا يخاف على أولاده من النار مثلما نخاف على أنفسنا منها، إننا نخافُ أن يتأذَّوا ولو بشوكة، فهل نقبل أن يتلظى أبناؤنا في النار؟! إذً فاحموهم من النار. إن مسؤوليتنا في تربيةِ أبنائِنا مسؤوليةٌ كاملةٌ، سنحاسب عليها أمام ربنا، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَ: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (رواه البخاري ومسلم). دعاء الوالدين مستجابٌ: كثير من الآباء والأمهات بمجرد أن يَرَوْا من أبنائهم عقوقا أو تمردًا يَدْعُون عليهم بشتى المصائب، وما علموا أن دعاء الوالدين مستجابٌ، وربما وافق ساعة إجابةٍ، فتقع الدعوة موقعها، فيشقى الولدُ بعدها شقاءً عظيمًا. ولهذا حذر رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - من الدعاء على الأولاد فقَالَ: “ لا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَوْلادِكُمْ، وَلا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لا تُوَافِقُوا مِنْ اللَّهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ “ (رواه مسلم)، وقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ»

وفي رواية: «وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» (رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي، وحسنه الألباني). أيها الآباء، أيتها الأمهات، ما دامت دعوتكم مستجابة فلِمَ تحرمون أولادكم فضلَ دعوةٍ صالحةٍ تكون سببًا إن شاء الله تعالى في هدايتهم واستقامتهم؟! فأنبياءُ اللهِ ورسُلُهُ لم يغفلوا عن الدعاء والالتجاء إلى الله أن يهب لهم الذرية الصالحة، فهذا إبراهيم الخليل - عليه السلام - قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (الصافات:100)، وقال: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} (إبراهيم:40)، وهذا زكريا - عليه السلام - دعا وقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران: 38)، وقال تعالى في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (الفرقان: 74). فأَكْثِرُوا من الدُّعاء لأولادكم، واعلموا أن صلاحهم ينفعكم بعد موتكم؛ فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني). فخذوا بأسباب صلاح ذرياتكم بغرس محبة الله ومحبة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في قلوبهم، وبملء أوقات فراغهم بالمفيد، وبتشويقهم إلى الذهاب للمسجد صغارًا وحملهم عليه كبارًا. من الخطأ في تربية الأولاد: الدعاءُ عليهم: فكم من الوالدين ـ وخصوصًا الأمهات ـ من يدعو على أولاده، فتجد الأم - لأدنى سَبَبٍ - تدعو على ولدها البريء بالحُمَّى، أو أن يقتل بالرصاص، أو أن تدهسه سيارة، أو أن يصاب بالعمى أو الصمم، وتجد من الآباء من يدعو على أبنائه بمجرد أن

يرى منهم عقوقًا أو تمردًا ربما كان هو السببَ فيه. وما علم الوالدان أن هذا الدعاء ربما وافق ساعة إجابة، فتقع الدعوة موقعها، فيندمان ولات ساعة مندم. ولا يجوز الدعاء على الولد، ولا لعْنُه، ولا سَبُّه، فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ؛ لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ» (رواه مسلم). ولفظ أبي داود: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ» (صححه الألباني). (لَا تَدْعُوا) أَيْ دُعَاء سُوءٍ (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) أَيْ بِالْهَلَاكِ وَمِثْلِهِ (وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ) أَيْ بِالْعَمَى وَنَحْوِهِ (وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ) أَيْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ بِالْمَوْتِ وَغَيْرِهِ (لَا تُوَافِقُوا) نَهْيٌ لِلدَّاعِي وَعِلَّةُ النَّهْيِ أَيْ لَا تَدْعُوا عَلَى مَنْ ذُكِرَ لِئَلَّا تُوَافِقُوا (مِنَ اللَّهِ سَاعَةَ نَيْلٍ) أَيْ عَطَاءٍ (فِيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) أَيْ لِئَلَّا تُصَادِفُوا سَاعَةَ إِجَابَةٍ وَنَيْلٍ فَتُسْتَجَابَ دَعَوْتُكُمُ السُّوءُ. جاء رجل يشكو إلى سعيد بن المسيب فساد ولده، فقال له سعيد بن المسيب: «علّك دعوتَ عليه»، قال: «نعم»، قال: «أنت أفسدته بالدعوة عليه». (علك: لعلك). قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث من رياض الصالحين: «وهذا يقع كثيرًا عند الغضب، إذا غضب الإنسان ربما يدعو على نفسه وربما يدعو على ولده، ويقول - مثلًا -: «قاتلك الله، أو جزاك الله بسوء»، وما أشبه ذلك حتى إن بعضهم يدعوا على ولده باللعنة؛ نسأل الله العافية، وكذلك نجد بعض الناس يدعو على أهله , يدعو على زوجته , يدعو على أخته بل ربما دعا على أمه، والعياذ بالله، مع الغضب وكذلك يدعو على ماله يقول - مثلًا - على سيارة: «يكثر عطلها، الله لا يبارك

في هذه السيارة، هذه الدار، هذا الفراش، وما أشبه ذلك، كل ذلك نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن ندعو عليها؛ لأنه ربما يصادف ساعة إجابة، فإذا صادف ساعة إجابة فإنه يستجاب. لو قلت مثلًا لولدك: «تعال، قاتلك الله؛ لماذا فعلت كذا وكذا , الله لا يوفقك، الله لا يربحك، الله لا يصلحك»، كل هذا حرام لا يجوز؛ لأنه ربما يصادف ساعة إجابة. كذلك المال: المال الذي يتعسر عليك، السيارة، أو الشغل في البيت أو غير ذلك لا تدعوا عليه، لا تقل: «الله لا يبارك في كذا». لكن قل: «اللهم يَسِّرْ الأمر، اللهم سَهِّلْ» حتى يحصل التسهيل والتيسير. قصص واقعية لنقارن بين دعاء الخير ودعاء الشر: 1 - شاب لم يوفق بسبب دعوة والده عليه: شابٌ في زمن ليس ببعيد، كان يرعى الغنم لأبيه، ورأى تهافتَ الشباب على السفر والانخراط في السلك العسكري، فطلب من أبيه أن يسمح له ليذهب معهم، فرفض الوالدُ ذلك، حاول مرارًا فلم يأذن له، قال الشاب: «سأذهب أذِنْتَ أم لم تأذن»، قال: «أما القوة فما لي عليك من قوة، لكن مالي عليك إلا سلاح أوجهه في وقت السحر»، وجاء يوم من الأيام وترك هذا الشاب غنمه مع أحد أقرانه، وذهب إلى إحدى قريباته فزوَّدَتْه بما يحتاجه المسافر وذهب إلى سفره. وعلم الأب - وكان صالحًا تقيًا - بسفره بدون إذنه، فرفع يديه إلى الحي القيوم وسأل الله - عز وجل - أن يُرِيَه فيه ما يكره، فعَمِيَ الولدُ وهو في الطريق، واستقبله بعض أفراد قبيلته في الطائف، وسألوه: «ماذا تريد؟»، قال: «كنت أريد الوظيفة أما الآن فأعمى لا يقبل مثلي في الوظيفة»، أخذوه وجاءوا به إلى أبيه، وعندما دخل عليه البيت وهو في الليل - ووالده قليل البصر وهذا الشاب أعمى- فقال أبوه: «أفلان أنت؟»، قال: «نعم». قال: «هل وجدت السهم؟». قال: «نعم والله».

لكن الأب الحنون حزن حزنًا عظيمًا، وتأثر تأثرًا كبيرًا، وكان يود لو كانت في غير عينيه، وقام ليلته يبكي ويَئِنّ يركع ويسجد ويلحس بلسانه عين ولده ويدعو الله - عز وجل -، والله قريب مجيب، فما قام لصلاة الفجر حتى عاد لولده البصر، فحمد الله كثيرًا. هذه القصة ذكرها الشيخ علي القرني في أحد دروسه وقال في نهايتها: «وهو معروف عند بعضكم أيها الجالسون، قد يكون هنا مَن يعلم الشخص الذي حصلَتْ له الدعوة والذي كانت منه الدعوة». 2 - ذُكِر أن شابًا اسمه مُنازِل كان مُكبًّا على اللهو واللعب لا يفيق عنه، وكان له والدٌ صاحب دِينٍ، كثيرًا ما يعظ هذا الابن ويقول له: «يا بني، احذر هفوات الشباب وعثراته، فإن لله سطوات ونقمات ما هي من الظالمين ببعيد»، وكان إذا ألَحّ عليه زاد في العقوق. ولما كان يوم من الأيام ألَحّ على ابنه بالنصح على عادته، فمدّ الولد يده على أبيه، فحلف الأب بالله مجتهدًا ليأتينّ بيت الله الحرام ويدعو على ولده، فخرج حتى انتهى إلى البيت الحرام وأنشأ يقول: يا مَن إليهِ أتَى الحجّاجُ قد قطعُوا ... عَرضَ المَهامِهِ مِن قُربٍ ومِن بُعْد إنِّي أتَيْتُكَ يا مَن لا يُخيِّبُ مَن ... يَدْعُوهُ مبتهلًا بالواحد الصمَد هذا مُنازِلُ لا يرتدُّ من عَقَقِي ... فخذ بحقّيَ يا رحمن من ولدي وشُلَّ مِنْهُ بحَوْلٍ مِنْكَ جانِبهُ ... يا مَن تَقَدَّس لم يُولَد ولم يَلِد (المهَامِه: جمع مهمهة، وهي المفازة البعيدة). فما أنزل الأب يدَيْه إلا وقد شَلَّ اللهُ نصفَ جسدِ هذا الابن العاق، وأصبح مشلولًا إلى أن مات، نعوذ بالله من العقوق.

3 - تقول هذه المرأة المكلومة: عزمنا على السفر إلى مدينة الرياض وعند ركوب السيارة جرى خلاف بينها وبين أحد أبنائها حول لبس الشماغ، حيث طلبت منه إحضاره فرفض فكانت المشادة بينهما وانتهت بدعائها عليه بقولها: «اذهب لا رَدَّك الله» تقول هذه الأم الحزينة: «وسافرنا إلى الرياض وكانت المصيبة في أحد الشوارع في الرياض حيث كنت أسير معه فإذا بسيارة تتجه نحوه وتصدمه، فيسقط يصارع الموت ولم يلبثْ سوى ساعات ثم يموت، وأعود إلى بلدي بعد هذا السفر بدونه»، هكذا كانت النهاية الأليمة؛ أستجاب الله دعاءها وذهب ابنها. 4 - تذْكُر إحدى الأمهات أنه في أحد الأيام، وقبل أذان المغرب بقليل أراد أحد أبنائها السفر فحاولت أن يؤجله إلى الغد ليكون سفره نهارًا، ولكن الولد أصَرَّ على السفر، وبالفعل سافر، تقول والدته: «لقد قلقتُ عليه أشد القلق، فما كان مني إلا أن فزعْتُ إلى الصلاة وذلك في الساعة الثامنة مساءً، وتضرعْتُ إلى الله وسألْتُه أنْ يحفظ ابني، وقدَّمْتُ مبلغًا يسيرًا صدقة لوجه الله. وما هي إلا ساعات، ويتصل ابني بالهاتف يُطَمْئِنُنِي على وصوله سالمًا، وقال لي: «هل دعوْتِ اللهَ لي؟»، فسألْتُه: «لماذا تسأل؟»، قال: «في الساعة الثامنة تقريبًا، وبينما أنا أسير بسيارتي مسرعًا، وإذ بي أرى زجاج السيارة الأمامي، وقد أصبح عليه ظل أسود جعلني لا أرى أمامي فأصابني الخوف فحاولت إيقاف السيارة، وإذا بها واقفة فوضعت رأسي على مقود السيارة لحظات، ولما رفعت رأسي إذْ بالذي كان أمامي قد ذهب، ويبدو لي والله أعلم أنه كان جملًا، وبعد هذا الموقف سارت السيارة، ولم أصَبْ بأذى ولله الحمد». وما كان ذلك إلا بفضل الله، ثم بفضل وبركة دعاء والدته.

80 - سلامة الصدر

79 - سلامة الصدر (¬1) القلب السليم: قد علق الله - سبحانه وتعالى - النجاة والفوز يوم القيامة بسلامة القلوب بقوله تعالى: { ... يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء: (88) – (89))، والقلب السليم هو القلب السالم من الشرك وغيره من محبطات الأعمال، والسالم من سيِّءِ الأخلاق كالغِلّ والحسد والبغضاء والحقد، وهو الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه ومن كل شبهة تعارض خبره. والقلب السليم المحمود هو الذي يريد الخير لا الشر، وكمال ذلك بأن يعرف الخير والشر، فأما من لا يعرف الشر فذاك نقص فيه لا يمدح به. وسئل ابن سيرين - رحمه الله -: «ما القلب السليم؟»، فقال: «الناصح لله في خلقه». وصاحب القلب السليم عنده من اليقين والنور ما يهتدي به إلى المطالب العالية. أقصر طرق الجنة: قال قاسم الجُوعي - رحمه الله -: أصل الدين الورع، وأفضل العبادة مكابدة الليل، وأقصر طرق الجنة سلامة الصدر». وعن سفيان بن دينار قال: «قلت لأبي بشير - وكان من أصحاب علي سدد خطاكم -: «أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟»، قال: «كانوا يعملون يسيرًا ويُؤْجَرُون كثيرًا». قلت: ولِمَ ذاك؟ قال: «لسلامة صدورهم». ¬

_ (¬1) هذه الخطبة واللتان بعدها بتصرف من محاضرة (الأنقياء) للشيخ إبراهيم الدويش، ورسالة (البدر في فضل سلامة الصدر)، للدكتور نايف بن أحمد الحمد، القاضي في المحكمة العامة بالرياض.

وعن زيد بن أسلم قال: «دُخِل على أبي دجانة سدد خطاكم وهو مريض، وكان وجهه يتهلل، فقيل له: «ما لِوجهكَ يتهلل؟»، فقال: «ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين. أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى فكان قلبي للمسلمين سليمًا». سليم القلب من أفضل الناس: عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو بن العاص - رضي الله عنهما - قَالَ: «قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟» قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ». قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ لَا إِثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَدَ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني) (¬1). ¬

_ (¬1) تنبيه: حديث أَنَس بْن مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: “ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ “، فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ، قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِثْلَ الْمَرَّةِ الْأُولَى. فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مِثْلَ مَقَالَتِهِ أَيْضًا، فَطَلَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ الْأُولَى، فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - تَبِعَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ: «إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ». قَالَ أَنَسٌ: «وَكَانَ عَبْدُ اللهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ، فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَكَبَّرَ، حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ. قَالَ عَبْدُ اللهِ: «غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا، فَلَمَّا مَضَتِ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْقِرَ عَمَلَهُ، قُلْتُ: «يَا عَبْدَ اللهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ: “ يَطْلُعُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ “، فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ، فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ، فَأَقْتَدِيَ بِهِ، فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ، فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -؟»، فَقَالَ: «مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ». قَالَ: «فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي»، فَقَالَ: «مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ، غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا، وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ». فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: «هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ، وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وهو حديث لا يصح». ... = = فهذا الحديثُ ضعيفٌ - وإن كان ظاهر إسناده الصحة - فإنه معلول؛ لأن فيه انقطاعًا بين الزهري وأنس بن مالك سدد خطاكم، وممن أشار إلى هذه العلة الحافظ المزي في تحفة الأشراف (1/ 395)، وابن كثيرٍ في تفسيره (8/ 96)، والحافظ ابن حجر في النكت الظراف. وكان الألباني قد صححه في الضعيفة (1/ 26)، ثم تراجع عن ذلك وضعَّفَه في ضعيف الترغيب (1728). وقال: «وجَرَيْنَا على ذلك بُرْهة من الزمن، حتى تبينْتُ العلة» (انظر: حديث: يطلع عليكم الآن رجل ... في ميزان النقد لعبد الله زقيل). فالحديث ضعيف ويخالف دأب الصحابة - رضي الله عنهم -، فإن في القصة أنّ عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال للرجل (إنّي لاحَيْتُ أبي) أي تخاصمت معه، وهذا كذب يُنَزَّه عبد الله ابن عمرو - رضي الله عنهما - عن الوقوع فيه إذ كان يكفيه أن يسأل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بدلًا من أن يكذب على الرجل. فينبغي عدم رواية هذه القصة حتى لا نُسِيءَ إلى الصحابة - رضي الله عنهم - دون أن نشعر.

يُقَالُ رَجُلٌ مَخْمُومُ الْقَلْبِ إِذَا كَانَ نَقِيَّ الْقَلْبِ مِنَ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ، هُوَ مِنْ خَمَمْتُ الْبَيْتَ إِذَا كَنَسْتُهُ وَنَظَّفْتُهُ. فَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مَكْنُوسًا وَمُنَظَّفًا مِنْ أَخْلَاقِ الْأَقْذَارِ. (صَدُوقِ اللِّسَانِ): أَيْ: مُبَالِغٍ لِلصِّدْقِ فِي لِسَانِهِ، فَيَحْصُلُ بِهِ الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ تَحْسِينِ لِسَانِهِ وَبَيَانِهِ، فَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُنَافِيًا أَوْ مُرَائِيًا مُخَالِفًا، (النَّقِيُّ) أَيْ: نَقِيُّ الْقَلْبِ، وَطَاهِرُ الْبَاطِنِ، (لَا إِثْمَ فيه): فَإِنَّهُ مَحْفُوظٌ، وَبِالْغُفْرَانِ مَحْظُوظٌ، (وَلَا بَغْيَ) أَيْ: لَا ظُلْمَ لَهُ، (وَلَا غِلَّ) أَيْ: لَا حِقْدَ، (وَلَا حَسَدَ) أَيْ: لَا تَمَنِّيَ زَوَالِ نِعْمَةِ الْغَيْرِ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ وَالتَّعْمِيمِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْمِيلِ وَالتَّعْمِيمِ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ اخْتِصَاصُ الْإِثْمِ بِحَقِّ اللَّهِ، فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ عَلَيْهِ لَا مِنَ الْخَلْقِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْخَالِقِ. وما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة الخلاف والنزاع والفرقة، فامتلأت النفوس وأوغِرَتْ الصدور، فلا تسمع إلا كلمات التنقص، والازدراء، وسوء الظن، والدخول في النيات والمقاصد! فما هي النتيجة؟! إن خُوطِبُوا كذَبُوا أو طُولِبُوا غضبُوا ... أو حُورِبُوا هربُوا أو صُوحِبُوا غدرُوا على أرائِكِهِمْ سُبْحانَ خالِقِهِم عاشُوا ... وما شَعَرُوا مَاتُوا وما قُبِرُوا!

ما أحوجنا لمثل هذا النقي. فالأنقياء لا يعرفون الانتقام ولا التشفي، ويتجاوزون عن الهفوات والأخطاء. الأنقياء: يتثبتون ولا يتسرعون. الأنقياء: سليمة قلوبهم نقية صدورهم. الأنقياء: يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم. الأنقياء: ألسنتهم نظيفة فلا يسبون ولا يشتمون. الأنقياء: صفاء في السريرة ونقاء في السيرة. دعاؤهم: اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)} (الحشر: 9). لماذا الحديث عن الأنقياء؟ ولماذا الحديث عن سلامة الصدر؟ لقد خُلِقْنا لعبادة الله ومرضاته، وطلبًا لجنات الفردوس، فلا يجوز لمن كان هذا هو هدفه ومقصده من هذه الدنيا أن يغفل عن قلبه؛ فيطلق لهذه المضغة العنان في البغضاء والشحناء، والحَمْل على الآخرين والانتقام والتَشَفّي. سلامة الصدر وتنقية القلب مطلب عزيز: اعلم أن سلامة الصدر وتنقية القلب مطلب عزيز، والحرص عليه واجب، وبذل الأسباب إليه وسلوك طريقه مُتَعَيَّن، ولكن لا تنس أن الناس بشر وأن النفس ضعيفة، فلا بد من الخطأ ولا بد للنفس أن تتأثر، فتنبه لهذا وعامل الآخرين بحسبه. ولهذا يقول سعيد بن المسيب - رحمه الله -: «إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله». سامِحْ أخاكَ إذا خلطْ ... مِنه الإصابةُ والغلطْ وتجافَ عن تعنِيفِهِ ... إنْ زاغَ يومًا أو قَسَطْ

واحفَظْ صنِيعَكَ عندَهُ ... شَكَرَ الصّنيعةَ أو غمَطْ وأطِعْهُ إن عاصَى وهُنْ ... إن عَزّ وادْنُ إذا شمَطْ واقْضِ الوفاءَ ولو أخَلّ ... بِمَا اشترطْتَ وما اشْتَرَطْ واعلمْ بأنّكَ إنْ طلبْتَ ... مُهَذَّبًا رُمْتَ الشطَطْ مَن الذي ما سَاءَ قَطْ؟ ... ومَن له الحُسنَى فَقَطْ؟ الحذر من الأعداء: الحيطة والحذر لا تنافي سلامة القلب والأخذ بالظاهر، فإن هناك من الناس من يَسْتَدْرِج الناس ويستغْفِلُهم ويُلَبِّسُ عليهم، فعليك أن تكون فطِنًا متنبهًا، فالله - سبحانه وتعالى - يقول للمؤمنين: {خُذُوا حِذْرَكُمْ} (النساء:71)، ويقول - سبحانه وتعالى -: {وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)} (الروم: 60). القرآن يدعوك: إن قرآننا هو كلام ربنا، ودستور حياتنا، ومنبع صفائنا، وميزاننا الذي نحتكم إليه عند خلافنا، بل وفي كل حياتنا وأمورنا. إن القرآن يدعونا جميعًا، وفي أكثر من سورة وأكثر من آية لمثل هذا الموضوع، فالقرآن يدعوك لبراءة القلب من الغل للذين آمنوا: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} (الحشر:10). والقرآن يدعوك فيقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (الأعراف:199). والقرآن يدعوك فيقول: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} (البقرة: 109). والقرآن يدعوك فيقول: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)} (المائدة: 13). والقرآن يدعوك فيقول: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التغابن:

14). والقرآن يدعوك فيقول: {وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) (الحجر: 85). والقرآن يدعوك فيقول: { ... قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} (البقرة: 263). والقرآن يدعوك فيقول: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)} (آل عمران: 134). والقرآن يدعوك فيقول: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} (الشعراء: 88 - 89). وأخيرًا! القرآن - يا أخي الحبيب – القرآن يدعوك فيقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)} (النور: 22)؟ «بَلَى وَاللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي»، قالها أبو بكر الصديق سدد خطاكم مع سخاء نفسه وسلامة صدره ونصحه للأمة، فماذا نقول نحن وهذه حالنا مع قلوبنا؟! قالت عائشة - رضي الله عنها - في أثناء حديثها عن حادثة الإفك: « ... فَأَنْزَلَ اللهُ - عز وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي، قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ سدد خطاكم - وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ -: «وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ مَا قَالَ». فَأَنْزَلَ اللهُ: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: «بَلَى وَاللهِ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي»، فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ: «وَاللهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا» (رواه البخاري). وعن أنس بن مالك في قول الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا

الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} (فصلت: 34 - 35)، قال: «الرجل يشتمه أخوه فيقول: «إن كنتَ صادقًا فغفر اللهُ لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر اللهُ لك». أخي الحبيب: هلا وقفت مع هذه الآيات وتدبرتها جيدًا؟! إن القرآن يدعوك! {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} (محمد: 24)؟! هل استمعت جيدًا لهذه الآيات؟! تدبَّرْها وقِفْ معها طويلًا! كم من المشاجرات والخصومات تقع بيننا وبين الناس؟ وإذا رجعنا للقرآن وجدنا هذه الآيات تحدونا إلى العفو والصفح عن المؤمنين وعن الناس {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} (الشورى: 40)! تدبر قوله تعالى: {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}! فما أعظم هذا الأجر، فهو من مالك الملك - سبحانه وتعالى -، فلم تحرم نفسك هذا الأجر؟! صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء: الصورة الأولى: هذا نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - لقي من الأذى مالا تطيقه الجبال ومع هذا كان أسلم الناس صدرًا وأكثرهم عفوا فعن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - أنها قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا رَسُولَ اللهِ! هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟»، فَقَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلاَّ بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ. فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي. فَقَالَ: «إنَّ اللهَ – عز وجلّ - قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ». قَالَ: «فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ. ثُمَّ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ، إنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ. فَمَا شِئْتَ؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟».

فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (رواه البخاري ومسلم) (¬1). (مَا لَقِيتُ) أي لقِيتُ الكثير منَ الأذَى. (يَوْمَ الْعَقَبَة) أي كان ما لاقاه عندها وقيل المراد بالعقبة جمرة العقبة التي بمنى وقيل مكان مخصوص في الطائف ولعل هذا أوْلى. (عَلَى وَجْهِي) باتجاه الجهة المواجهة لي. (فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلا بقرن الثعالب) أي لم أَتَنَبَّهْ لِحَالِي وَلِلْمَوْضِعِ الَّذِي أَنَا ذَاهِبٌ إِلَيْهِ وَفِيهِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَ قَرْنِ الثَّعَالِبِ لِكَثْرَةِ هَمِّي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ. وقَرْنُ الثَّعَالِبِ هُوَ قَرْنُ الْمَنَازِلِ، وَهُوَ مِيقَاتُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَهُوَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَأَصْلُ الْقَرْنِ كُلُّ جَبَلٍ صَغِيرٍ يَنْقَطِعُ مِنْ جَبَلٍ كَبِيرٍ. (الْأَخْشَبَيْنِ) هُمَا جَبَلَا مَكَّةَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالْجَبَلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ، سُمِّيَا بذلك لصَلَابَتِهِما وغِلَظِ حِجَارَتِهِمَا. الصورة الثانية: يوسف - عليه السلام - فَعَلَ إخوتُه فيه ما حكاه الله تعالى لنا، فلما أمكن منهم {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 92). {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} أي: لا أثرب عليكم ولا ألومكم {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فسمح لهم سماحًا تامًّا، من غير تعيير لهم على ذكر الذنب ¬

_ (¬1) تنبيه: حديث قتادة السدوسي أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال في فتح مكة: «يا معشر قريش، ويا أهل مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟»، قالوا: «خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم». ثم قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه ابن جرير في التاريخ وذكره البيهقي، وضعّفه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، والألباني، وقال: «هذا الحديث على شهرته ليس له إسناد ثابت».

السابق، ودعا لهم بالمغفرة والرحمة، وهذا نهاية الإحسان، الذي لا يتأتى إلا من خواص الخلق وخيار المصطفين. الصورة الثالثة: سلمان الفارسي سدد خطاكم لما شُتِمَ قال: «إن خَفَّتْ موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثَقُلَتْ موازيني لم يَضُرّني ما تقول». فقد كان همه مصروفًا إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم. الصورة الرابعة: انشغال قلب الحاقد بما لا ينفع: قال رجل لعمرو بن العاص سدد خطاكم: «والله لأتفرغن لك!»، يعني بالكيد والتشفي والانتقام وغير ذلك، فماذا كان رد عمرو؟! فقال عمرو بن العاص سدد خطاكم بذكائه وعقله: «إذن تقع في الشغل، إذن تقع في الشغل!». نعم. إن الذي يتفرغ لِيَنَالَ من الناس ويشتم الناس لا يكون فارغًا أبدًا، إنما تشغله نفسه وحقده بالناس، فيضيع عمره فيما لا ينفع، ولا شك أن قول عمرو هو الصواب {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} (البقرة: 269). كم نحب أن نسمع مثل هذه الكلمات لمن وقع بينه وبين أحد خصومة أو من هدده وتوعده، (إذن تقع في الشغل)؛ لأن القلب الذي امتلأ بالحسد والانتقام من الناس، وتتبع زلاتهم والتشفي منهم، قلب مشغول دائمًا، أما القلب السليم الذي امتلأ بسلامة الصدر وحب الناس وجمع القلوب فهو لا يفكر إلا فيما ينفعه: كطلب علم أو عمل خير ونحوهما، أما أعراض الناس فهو بريء منها؛ لأنه عاهد الله أن يترك مثل ذلك. الصورة الخامسة: تواضع جمّ: في سيرة سالم بن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - أن رجلًا زاحمه في مِنًى - وأنتم تعلمون حال الناس في مِنًى كيف يكون؟ وكيف تبلغ النفوس مبلغها في مثل هذه المواقف نظرًا للزحام الشديد؟ - فالتفت الرجل إلى سالم - وسالم هذا علّامة التابعين سدد خطاكم، فقال

الرجل لسالم: «إنني لأظنك رجل سوء»، فبماذا أجاب سالم سدد خطاكم؟! قال كلمتين: «ما عرفني إلا أنت!». وإذَا تَشَاجَرَ في فؤادِكَ مَرَّةً ... أمْرانِ فاعْمِدْ للأعَفِّ الأجْمَل وإذَا هَمَمْتَ بِأمْرِ سُوءٍ فاتَّئِدْ ... وإذَا همَمْتَ بأمرِ خَيرٍ فافْعَلِ! الصورة السادسة: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ قال أبو داود: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: “ أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَبِي ضَيْغَمٍ أَوْ ضَمْضَمٍ - شَكَّ ابْنُ عُبَيْدٍ -، كَانَ إِذَا أَصْبَحَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ) أَيْ فَلَوِ انْتَقَصَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ عِرْضِي فَلَيْسَ لِي عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الِانْتِصَارِ، وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه. الصورة السابعة: استطالَ رجلٌ علَى عَلِيّ بنِ الحُسَيْن، فتغافَلَ عنه، فقال له الرجل: «إياك أعْنِي»، فقال له عليّ: «وعَنْك أغْضِي». الصورة الثامنة: قال أبو وهب: جاء رجل إلى الشعبي فشتمه في ملأ من الناس فقال الشعبي: «إن كنت صادقًا فغفر الله لي، وإن كنت كاذبًا فغفر الله لك». الصورة التاسعة: شُتم الربيع بن خثيم فقال: «يا هذا قد سمع الله كلامك، وإن دون الجنة عقبة إن قطعْتُها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شَرٌّ مما تقول». الصورة العاشرة: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله: الإمام البخاري محمد بن إسماعيل، صاحب الصحيح - رحمه الله -، كان كثير من أصحابه يقولون له: «إن بعض الناس يقع فيك!». - لو قيلت هذه الكلمة لأحدنا ماذا

سيقول؟ ربما يبادر ويقول مباشرةً: ماذا يقولون؟! ومتى؟! ومن هم؟! أما الإمام البخاري - رحمه الله - تعالى لما قيلت له هذه الكلمة: «إن بعض الناس يقع فيك»، قال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)} (النساء: 76)، ويتلو أيضًا قوله تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (فاطر: 43). الصورة الحادية عشرة: هذا شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - يقول في رسالته التي أرسلها لتلاميذه من السجن معلمًا ومُرَبّيًا لهم: «لا أحب أن ينتصر من أحد بسبب كذبه عليَّ أو ظلمه وعدوانه؛ فإني قد أحلَلْتُ كل مسلم، وأنا أحب الخير لكل المسلمين وأريد بكل مؤمن من الخير ما أحبه لنفسي، والذين كذبوا وظلموا فهُمْ في حِلٍ مِن جهتي».

81 - أسباب التشاحن

81 - من أسباب غِلّ القلب من أسباب التشاحن والتباغض وامتلاء الصدر وغل القلب: 1 - طاعة الشيطان: قالتعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)} (الإسراء: 53)، والفرقة والخلاف وملء الصدر بالشحناء وضيق الصدر غاية من غايات الشيطان. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ» (رواه مسلم). والمعنى أنهم لا يزين لهم عبادته ولكن يرغبهم في التحريش بينهم ، أي: بالخصومات وبالشحناء والحروب والفتن وغيرها، ومن نظر لحال المسلمين اليوم عرف كيف نجح الشيطان في التحريش بين المسلمين في كل مكان؟. 2 - أمراض القلوب بأنواعها: ومنها سوء الظن، والنجوى، والغرور، والهوى، وحب التصدر وغيرها كثير، وجماع ذلك: الغفلة عن القلب وإهماله، والمسلم لو اهتم بقلبه أكثر مما يهتم حقيقة بمظهره وبيته وأكله وشربه؛ لَوَجَدَ أن الله - سبحانه وتعالى - وفَّقَه في كل صغيرة وكبيرة. فخُذْ مثلًا: سوء الظن! وهو ترجيح ما يخطر في النفس من احتمال السوء، ويبدأ سوء الظن بخاطرة تنقدح في الذهن، ثم لا يزال الشيطان ينفخ فيها حتى ينزلها منزلة الحقيقة، فنقول مثلًا: فلان يريد كذا، ويقصد من كلامه كذا، فدخلنا في النوايا والمقاصد، وكأننا أصبحنا نعلم الغيب بما يدور في صدور هؤلاء وفي نفوسهم.

3 - الغضب: فالغضب مفتاح كل شر عن أبي هريرةَ سدد خطاكم أنَّ رجلًا قال للنبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أوصِني. قال: «لَا تَغْضَبْ». فَردَّدَ مِرَارًا، قال: «لَا تَغْضَبْ». (رواه البخاري). فإن الغضب طريق إلى التهكم بالناس والسخرية منهم وبخس حقوقهم وإيذائهم وغير ذلك مما يُوَلّد البغضاءَ والفرقة. 4 - النميمة: وهي من أسباب الشحناء وطريق إلى القطيعة والتنافر ووسيلة إلى الوشاية بين الناس وإفساد قلوبهم، قال تعالى في ذمه أهل هذه الخصلة الذميمة: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} (القلم: 11)، يعني وقاعًا في الناس عائبًا لهم بما ليس فيهم، ينقل الكلام من بعضهم إلى بعض على وجه الوقيعة بينهم. وعَنْ حُذَيْفَةَ سدد خطاكم أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنِمُّ الْحَدِيثَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: “ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ “ (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «خِيَارُ عِبَادِ اللهِ الَّذِينَ إِذَا رُءُوا، ذُكِرَ اللهُ، وَشِرَارُ عِبَادِ اللهِ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ الْبُرَآءَ الْعَنَتَ» (رواه الإمام أحمد في المسند وحسنه الألباني والأرنؤوط). (إذا رُؤُوا ذُكِر الله) أي لما في وجوههم من سيما الصلاح وأنوار الذكر. (الْبُرَآء) جمع بريء، كالكُرَمَاء جمع كريم. (العَنَت) أي: يطلبون لهم الهلاك والتعب بأن يتهموهم بالفواحش. 5 - الحسد: وهو تمني زوال النعمة عن صاحبها وفيه تَعَدٍّ وأذى للمسلمين نهى الله عنه ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأمر الحسد خطير، حتى إن الله تعالى يأمرنا بالاستعاذة من شر

الحاسد، قال - سبحانه وتعالى -: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (الفلق: 5). وقال الله - سبحانه وتعالى -: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} (النساء: من الآية54). قال ذلك عن الكفار. وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - موجهًا أمتَه: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَقَاطَعُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا» (رواه البخاري ومسلم). والحسد يُفْضي بصاحبه إلى اغتياب المحسود وشتمه وقد يُتْلِف ماله أو يسعى في سفك دمه، وكل ذلك مظالم يقتص منها في الآخرة ويذهب في عوض ذلك حسنات. 6 - التنافس على الدنيا: خاصة التنافس المذموم المؤدي إلى الوقوع في المحرمات فهذا يحقد على زميله لأن راتبه أكثر منه أو لكونه نال رتبة أعلى، وتلك تغار من أختها لأنها تزوجت قبلها، وهذا يكيد لجاره لكون منزله أفضل من منزله والأمر دون ذلك فكل ذلك إلى زوال. وَمَا هِي إلاَّ جِيفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ ... عليها كلابٌ همّهنَّ اجتذابُها فإنْ تَجْتَنِبْها كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا ... وإن تَجْتَذِبْهَا نَازَعتْكَ كِلابُهَا وعَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سدد خطاكم أنّ النّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: “ وَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ “ (رواه البخاري ومسلم). 7 - حب الشهرة والرياسة: وهي الداء العضال والمرض الخطير، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ أَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ، لِدِينِهِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني والأرنؤوط).

والمراد من الحديث أن الحرص على المال والشرف، وهو الجاه والمنصب، أكثر إفسادًا للدِّين من إفساد الذئبين للغنم، لأن ذلك الأشر والبطر يستفز صاحبه ويأخذ به إلى ما يضره، وذلك مذموم لاستدعائه العلو في الأرض والفساد المذمومين شرعًا. قال الفضيل بن عياض - رحمه الله -: «ما من أحدٍ أحب الرياسة إلا حَسد وبَغى وتَتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحَدٌ بخير». حُبُّ الرياسةِ داءٌ يُخْلِقُ الدُنْيَا ... ويجعلُ الحُبَّ حَرْبًا للمُحِبِّينَا يَفْرِي الحلَاقِمَ والأرحامَ يقْطَعُها ... فلا مروءةَ تبقَى لا ولا دينَا (يُخْلِقُ الدُنْيَا): يُفسدها، (يَفْرِي): يشق، (الحلقوم): تجويف خلف تجويف الفم، وهي مجرى الطعام والشراب والنفس، والجمع حلاقم وحلاقيم. والمعنى أنه يؤدي إلى قتل النفوس وإزهاق الأرواح. 8 - كثرة المزاح: فإن كثيره يورث الضغينة ويجر إلى القبيح والمزاح كالملح للطعام قليله يكفي وإن كثُرَ أضَرَّ وأهلَكَ. لا تمزَحَنَّ فإنْ مزَحْتَ فلَا يَكُنْ ... مَزحًا تُضافُ به إلى سُوءِ الأدبْ واحْذرْ ممازحةً تعودُ عداوةً ... إن المزاحَ علَى مُقَدّمةِ الغضبْ وقال ميمون بن مهران - رحمه الله - “ إذا كان المزاح أمام الكلام كان آخره اللطمُ والشِتَام».

9 - العُجب: وهو تصور استحقاق الشخص رتبةً لا يكونُ مستحقًّا لها، وتغَيُّرُ النفس بما خفي سببه وخرج عن العادة مثله. والعُجْبُ بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة إن لم يُمنع بالدين، وذلك برده ودفعه فالعُجْبُ قرينُ الكِبْر وملازمٌ له , والكِبْر من كبائر الذنوب؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ سدد خطاكم الله عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» (رواه مسلم). وقال أبو الدرداء سدد خطاكم: «لولا ثلاثٌ لصلح الناس: شُحٌّ مطاع، وهوًى مُتَّبَع، وإعجابُ المرءِ بنفسه». 10 - المراء: قال النَّبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (رواه أبو داود وحسنه الألباني). (أَنَا زَعِيم): أَيْ ضَامِن وَكَفِيل (بِبَيْتٍ): قَالَ الْخَطَّابِيُّ: الْبَيْت هَا هُنَا الْقَصْر. (فِي رَبَضِ الْجَنَّة): مَا حَوْلهَا خَارِجًا عَنْهَا تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُون حَوْل الْمُدُن وَتَحْت الْقِلَاع. (الْمِرَاء): أَيْ الْجِدَال؛ كَسْرًا لِنَفْسِهِ كَيْلَا يَرْفَع نَفْسه عَلَى خَصْمه بِظُهُورِ فَضْله. وحقيقة المراء طَعْنُك في كلام غيرك لإظهار خللٍ فيه لغير غرض سوى تحقير قائله وإظهار مزيتك عليه. وقال أحدُهم لابنه: «يا بُنَيَّ، إياك والمراء؛ فإن نفعه قليل، وهو يهيج العداوة بين الإخوان». وقال بعضهم: «ما رأيت شيئًا أذْهَبَ للدين ولا أنقَصَ للمروءة ولا أضْيَعَ للّذّة، ولا أشغل للقلب من المخاصمة».

11 - التناصح: كيف يكون التناصح سببًا للحسد والحقد؟! بعض الناس لا يحتمل النصيحة، فيبدأ بالكيد للناصح والتفتيش عن عيوبه وبَثِّها، مع أنك حرصْتَ على أن تكون الوسيلة صحيحةً: بانفراد بينك وبينه، وبالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، ومع ذلك وجد في نفسه شيئًا عليك، ولا يزال يتحرى ويبحث عن أخطائك، حتى يرد الصاع صاعين. 12 - التجارة والبيع والشراء والتعامل مع الآخرين: فالمشكلات الناتجة عن التعامل المادي قد توغر الصدور، والمسلم ينبغي أن يتصف بما ورد في الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى» (رواه البخاري). (سَمْحًا) جوَادًا متساهلًا يوافق على ما طُلِبَ منه. (اقْتَضَى) طلب الذي له على غيره.

82 - السبيل إلى سلامة الصدر

82 - السبيل إلى سلامة الصدر مما يعين على سلامة الصدر: أولًا: الإخلاص: عن أنس بن مالك سدد خطاكم عن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: “ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ صَدْرُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِله، وَمُنَاصَحَةُ أُولِي الْأَمْرِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَاءِهِمْ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الأرنؤوط). (ثَلَاثٌ لَا يَغِلّ) - بتشديد اللام - من الغِلّ: وهو الحقد والشحناء، أي: لا يدخله حقد يُزيله عن الحق، ورُوِيَ: “ يَغِلُ “ بالتخفيف، من الوُغُول: وهو الدخول في الشر، ويُروَى بضم الياء (يُغِلّ) من الإغلال: وهو الخيانة، والمعنى: أن هذه الخلال الثلاث تُستَصلَح بها القلوبُ، فمن تمسَّك بها، طَهُرَ قلبُه من الخيانة والدََّخَل والشر. (فإنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَاءِهِمْ) (مَنْ وَرَاءَهِمْ) بفتح الميم في (مَن) على أنه اسم موصول بمعنى (الذي)، ونصب (وَرَاءَهِمْ) أي: تنال غائبهم. أو بكسر الميم في (مِن) وجر (وَرَاءِهِمْ) على أن (مِن) حرف جرّ، أي: تجمعهم بحيث لا يَشِذُ منهم شيء. ثانيًا: رضا العبد بما قسمه الله - سبحانه وتعالى - له: فقد كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ» (رواه النسائي، وصححه الألباني). (وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ) أي الرضا بما قدرته لي في الأزل لأتلقاه بوجه منبسط، وخاطر منشرح، وأعلم أن كل قضاء قضيته لي فلي فيه خير. إن الرضى يفتح للعبد باب السلامة فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغش والغل، ولا ينجو من عذاب الله إلا مَن أتَى الله بقلب سليم، وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى وكلما كان العبد أشد رِضًى كان قلبه أسلم؛ فالخبث والغش قرين

السخط، وسلامة القلب وبره ونصحه قرين الرضى، وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى. ثالثًا: قراءة القرآن وتدبره: فهو الدواء لكل داء، والمحروم مَن لم يتداوَ بكتاب الله، قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (فصلت: 44)، وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)} (الإسراء: 82). وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} (يونس: 57)، فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية وأدواء الدنيا والآخرة. وما كُلّ أحدٍ يُؤَهَّل ولا يُوَفَّق للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووَضَعَه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاوِمْه الداء أبدًا، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء - سبحانه وتعالى - الذي لو نزل على الجبال لَصَدَّعها أو على الأرض لَقَطّعها؛ فما مِن مرض مِن أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحِمْية منه لمن رزقه فَهْمًا في كتابه. فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية لكن لا يحسن التداوي به إلا الموفقون، ولله - سبحانه وتعالى - حكمة بالغة في إخفاء سِرّ التداوي به عن نفوس أكثر العالمين كما له حكمة بالغة في إخفاء كنوز الأرض عنهم. فمن تدبر كتاب الله تعالى علم ما أعده الله تعالى لمن سلمت صدورهم لإخوانهم وآثاروهم على كثير من دنياهم. رابعًا: تذكر الحساب والعقاب: قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)} (ق: 18) فمن أيقن أنه محاسَبٌ ومسئول عن كل شيء هانت الدنيا عليه، وزهد بما فيها، وفعل ما ينفعه عند

الله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)} (الكهف: 49). فينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلامًا تظهر المصلحة فيه ومتى استوى الكلام وتَرْكُه في المصلحة فالسُنّة الإمساك عنه لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه بل هذا كثير أو غالب في العادة والسلامة لا يَعْدِلها شيء. قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» (رواه البخاري ومسلم)، فهذا الحديث نص صريح في أنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلم إلا إذا كان الكلام خيرًا وهو الذي ظهرت مصلحته للمتكلم.

خامسًا: الدعاء: فتدعو الله بصِدْقٍ وإلحاحٍ أن يَرزقَك قلبًا سليمًا محبًا للمسلمين؛ قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} (الحشر: 10). وعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عن شَدَّادُ بْنُ أَوْسٍ سدد خطاكم قال: «احْفَظُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ حُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط، ورواه الحاكم في المستدرك، وقال: «صحيح على شرط مسلم»). (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ)، أَيْ: فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِأَمْرِ الدِّينِ، (وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ): وَهِيَ كَالْعَزْمِ عَقْدُ الْقَلْبِ عَلَى إِمْضَاءِ الْأَمْرِ، وَقَدَّمَ الثَّبَاتَ عَلَى الْعَزِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلُ الْقَلْبِ مُقَدَّمًا عَلَى الْفِعْلِ، وَالثَّبَاتُ عَلَيْهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ؛ لِأَنَّ الْغَايَاتِ مُقَدَّمَةٌ فِي الرُّتْبَةِ وَإِنْ كَانَتْ مُؤَخَّرَةً فِي الْوُجُودِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3)} (الرحمن: 1 - 3). وَالرُّشْدُ: بِمَعْنَى الْهِدَايَةِ، (وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ) الْمُرَادُ لُزُومُهَا وَدَوَامُهَا، (وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ)، أَيِ: التَّوْفِيقَ عَلَى شُكْرِهَا بِصَرْفِ النِّعْمَةِ فِي طَاعَةِ الْمُنْعِمِ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِالْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ الزَّوَاجِرِ، (وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ): بِأَدَاءِ شَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَالْقِيَامِ بِإِخْلَاصِهَا، (وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا) أَيْ: مِنَ الْعَقَائِدِ الْفَاسِدَةِ وَالْمَيْلِ إِلَى الشَّهَوَاتِ؛ فَإِنَّهَا مَرَضُ الْقَلْبِ، وَصِحَّتُهُ الْعِلْمُ وَالْأَخْلَاقُ الْفَاضِلَةُ. أَوِ الْمُرَادُ سَلِيمًا مِنَ الْغِلِّ وَالْغِشِّ وَالْحِقْدِ، وَسَائِرِ الصِّفَاتِ الرَّدِيئَةِ، وَالْأَحْوَالِ الدَّنِيئَةِ.

(وَلِسَانًا صَادِقًا): نِسْبَةُ الصِّدْقِ إِلَى اللِّسَانِ مَجَازٌ بِأَنَّهُ لَا يَبْرُزُ عَنْهُ إِلَّا الْحَقُّ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ. سادسًا: الصدقة: فهي تطهر القلب، وتُزكي النفس، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (التوبة: 103). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَاوُوا مَرْضَاكُمْ بِالصَّدَقَةِ» (رواه البيهقي، وحسنه الألباني). وإن أحق المرضى بالمداواة مرضى القلوب، وأحق القلوب بذلك قلبك الذي بين جنبيك. سابعًا: إحسان الظن بالآخرين وحمل الكلمات والمواقف على أحسن المحامل: فعليك بحسن الظن والتماس الأعذار، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} (الحجرات: 12)، وقال النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ إِيَّاكُمْ وَالظّنَّ؛ فَإِنّ الظّنَّ أكْذَبُ الْحَدِيثِ “. (رواه البخاري ومسلم). ورُوِيَ عن عمر بن سدد خطاكم أنه قال: «لا تظن بكلمة صدرت من أخيك شرًّا وأنت تجد لها في الخير مَحْمَلًا». ورُوِيَ عن محمد بن سيرين - رحمه الله -: “ إذا بلغَكَ عن أخيك شيءٌ، فالتَمِسْ له عُذرًا، فإن لم تجد له فقل: لعل له عذرًا “. ورُوِيَ عن أبي قلابة أنه قال: «التمس لأخيك العذر بجهدك، فإن لم تجد له عذرًا، فقُلْ لعلَّ لأخي عذرًا لا أعلمه». ورُوِيَ عن جعفر بن محمد أنه قال: «إذا بلغك عن أخيك الشيءَ تنكره؛ فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعينَ عذرًا، فإن أصَبْتَه وإلا قُلْ لعل له عذرًا لا أعْرِفُه». ورُوِيَ عن حمدون القصار أنه قال: «إذا زل أخٌ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذرًا، فإن لم تقْبلْه قلوبُكم فاعلموا أن المعيب أنفسَكم؛ حيث ظهر لمسلم سبعين عذرًا فلم تقبله». تَأَنَّ ولا تعجَلْ بلَوْمِكَ صاحبًا ... لعَلَّ لهُ عذرًا وأنتَ تلومُ

أحد العلماء نزع عمامته يومًا، وتوضأ في نهر دجلة فجاء لص فأخذها وترك عمامةً رديئةً بدَلها، فطلع الشيخ فلبسها، وما شعر حتى سألوه، وهو يدرس في درسه! فقال: «لعل الذي أخذها محتاج»! ثامنًا: التغافل وإقالة العثرات والتغاضي عن الزلات: قال محمد بن عبد الله الخُزاعيّ: سمعتُ عُثمان بن زائدة يقول: «العافية عشرة أجزاء: تسعة منها في التغافل». قال: فحدثت به أحمد بن حنبل فقال: «العافية عشرة أجزاء كلها في التغافل». وَمَنْ لَمْ يُغْمِضْ عَيْنَهُ عَنْ صديقِهِ ... وَعَنْ بَعْضِ مَا فِيهِ يَمُتْ وَهْوَ عَاتِبُ ... صَدِيقِه وَمَنْ يَتَتبَعْ جَاهِدًا كُلَّ عَثْرَةٍ ... يَجِدْهَا وَلا يَسْلَمْ لَهُ الدَّهْرَ صَاحِبُ وقيل: أَقِلْ ذَا الْوُدِّ عَثَرْتَهُ وَقِفْهُ ... عَلَى سُنَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةْ وَلَا تُسْرِعْ بِمَعْتَبَةٍ إلَيْهِ ... فَقَدْ يَهْفُو وَنِيَّتُهُ سَلِيمَةْ تاسعًا: إفشاء السلام: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا. أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَينَكُمْ “. (رواه مسلم). وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سدد خطاكم: «ثلاث يصفين لك وُدّ أخيك: تبدؤه بالسلام إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه».

إن من فوائد إفشاء السلام حصول الألفة؛ فتتألف الكلمة وتَعُمّ المصلحةُ وتقع المعاونة على إقامة شرائع الدين وإخزاء الكافرين، وهي كلمةٌ إذا سُمِعَت أخلصت القلب الواعي لها غير الحقود إلى الإقبال على قائلها. عاشرًا: الابتسام والبشاشة: للابتسامة أثر حسن على الآخرين صغارًا وكبارًا وهي مما يزرع الألفة والمحبة بين الناس وقد حث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عليها وأمر بها مع فِعْلِه - صلى الله عليه وآله وسلم - لها فعن أبي ذَرٍّ سدد خطاكم قال: قال رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ “ (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وقال ابن عيينة - رحمه الله -: «البشاشة مصيدةُ المودة، والبر شيء هَيِّن: وجْهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ». تَجَافى النومُ بَعدَك عن جُفوني ... ولكن ليس يَجفوها الدموعُ يذَكِّرُني تَبَسُّمَك الأقاحي ... ويَحكِي لي تَوَرُّدَك الربيعُ الْأُقْحُوَانُ: مِنْ نَبَاتِ الرَّبِيعِ لَهُ زهر أَبْيَضُ، والجمع أقاحي. الحادي عشر: ترك السؤال عما لا يعنيك وتتبع أحوال الناس وعيوبهم: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني). وعن زيد بن أسلم قال: دُخل على أبي دجانة سدد خطاكم وهو مريض وكان وجهه يتهلل فقيل له: «ما لِوَجْهِك يتهلل؟»، فقال: «ما من عملي شيء أوثق عندي من اثنتين: أما إحداهما: فكنت لا أتكلم فيما لا يعنيني، وأما الأخرى: فكان قلبي للمسلمين سليمًا».

والواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه ولم يُتْعِب قلبه، فكلما اطلع على عيبٍ لنفسه هان عليه ما يرى مثلَه مِن أخيه، ومن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمى قلبه وتعب بدنه وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابَهم بما فيه، مَن عابَ الناسَ عابُوه. إذَا أنتَ عِبْتَ الناسَ عَابُوا وأكثَرُوا ... عليك وأبدَوْا منكَ ما كان يُستَرُ وقدْ قالَ في بعضِ الأقاويلِ قائلٌ ... له منطقٌ فيهِ كلامٌ محبَّرُ إذا ما ذكرتَ الناسَ فاتركْ عيوبَهمُ ... فلا عيبَ إلا دُونَ ما مِنكَ يُذكرُ فإنْ عبتَ قومًا بالذي ليسَ فيهمُ ... فذلك عندَ اللهِ والناسِ أكبرُ وإنْ عِبْتَ قومًا بالذِي فيكَ مِثْلُهُ ... فكيفَ يعيبُ العُورَ مَن هُو أعْورُ وكيفَ يعيبُ الناسَ مَن عيبُ نفسِهِ ... أشَدُّ إذا عَدَّ العيوبَ وأنكرُ متَى تلتمِسْ للناسِ عيبًا تجِدْ لهُم ... عيُوبًا، لكِنِ الذي فيكَ أكثرُ فسالمْهُمْ بالكَفِّ عنهم فإنهم ... بعيبِكَ مِن عَيْنَيْكَ أهْدَى وأبصرُ الثاني عشر: محبة الخير للمسلمين: عَنْ أَنَسٍ سدد خطاكم عنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: “ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» (رواه البخاري ومسلم). إن القلب لا يكون سليمًا إذا كان حقودًا حسودًا معجبًا متكبرًا وقد شرط النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

الثالث عشر: تَرْكُ الاستماع للغيبة والنميمة والإنكار على مرتكبهما حتى يبقى قلب الإنسان سليمًا: دخل رجل على عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - فذكر له عن رجلٍ شيئًا فقال له عمر: «إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} (الحجرات: 6)، وإن كنت صادقا فأنت من أهل هذه الآية {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} (القلم: 11)، وإن شئت عفونا عنك»، فقال: «العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا». وعن الفضل بن أبي عياش قال: كنت جالسًا مع وهب بن مُنَبِّه فأتاه رجل فقال: «إني مررْتُ بفلانٍ وهو يشتمُكَ»، فغضب فقال: «ما وجد الشيطانُ رسولًا غيرك؟»، فما بَرِحْتُ من عنده حتى جاءه ذلك الرجل الشاتم فسلم على وهب، فرَدَّ عليه، ومد يده، وصافحه، وأجلسه إلى جنبه. الرابع عشر: إصلاح القلب ومداومة علاجه: عن النُّعمان بن بَشيرٍ سدد خطاكم قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: “ ألَا وإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلّهُ، ألَا وَهِيَ الْقَلْبُ “ (رواه البخاري ومسلم). خُصِّصَ القلب بالذِكْر؛ لأنه محلٌ لأصول الأعمال. ولذا ذكره الله - سبحانه وتعالى - في معرض الذم، قال تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة: (283))، وذكره في معرض المدح، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} (الأنفال: (2)). (إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلّهُ)، يصلح بصلاحها ويفسد بفسادها، فإذا فعل الإنسان بجوارحه الطاعات وعمل الخيرات دل

ذلك على صلاح قلبه , وإذا فعل المعاصي وارتكب المنكرات وتجنب الطاعات دل ذلك على فساد قلبه، ومما قيل في إصلاح القلب. دواءُ قلبِكَ خمْسٌ عندَ قسوتِهِ ... فدُمْ عليها تَفُزْ بالخَيْرِ والظَفَر خلاءُ بطنٍ وقرآنٌ تَدَبُّرُه كذَا ... تضَرُّعُ باكٍ ساعةَ السحر كذا قيامِك جنحَ الليلِ أوسطَهُ ... وأنْ تُجالسَ أهلَ الخيرِ والخبَر الخامس عشر: الإيمان بالقدر: فإن العبد إذا أيقن أن الأرزاق مقسومة مكتوبة رضي بحاله ولم يجد في قلبه حسدا لأحد من الناس على خير أعطاه الله إياه؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ» (رواه مسلم). (انْظُرُوا إِلَى من هُوَ أَسْفَل مِنْكُم) فِي أُمُور الدُّنْيَا، (وَلَا تنظروا إِلَى من هُوَ فَوْقكُم) فِيهَا (فَهُوَ أَجْدَر) أَي فالنظر إِلَى من هُوَ أَسْفَل لَا إِلَى من هُوَ فَوق حقيق (أَن لَا تَزْدَرُوا) أَي بِأَن لَا تحتقروا (نعْمَة الله عَلَيْكُم) فَإِن الْمَرْء إِذا نظر إِلَى من فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا استصغر مَا عِنْده من نعم الله فَكَانَ سَببا لمقته، وَإِذا نظر للدون شكر النِّعْمَة وتواضع وحمد؛ فَيَنْبَغِي للْعَبد أَن لَا ينظر إِلَى تجمل أهل الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يُحَرك دَاعِيَة الرَّغْبَة فِيهَا ومصداقه قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)} (طه: (131)). أي: لا تمد عينيك مُعجَبًا، ولا تكرر النظر مستحسنًا إلى أحوال الدنيا والممتعين بها، من المآكل والمشارب اللذيذة، والملابس الفاخرة، والبيوت المزخرفة، والنساء المجملة، فإن ذلك كله زهرة الحياة الدنيا، تبتهج بها نفوس المغترين، وتأخذ إعجابًا بأبصار المعرضين، ويتمتع بها - بقطع النظر عن الآخرة - القومُ الظالمون، ثم تذهب

سريعًا، وتمضي جميعًا، وتقتل محبيها وعشاقها، فيندمون حيث لا تنفع الندامة، ويعلمون ما هم عليه إذا قدموا في القيامة، وإنما جعلها الله فتنة واختبارًا، ليعلم مَن يقفُ عندها ويغْتَرُّ بها، ومن هو أحسن عملًا. {وَرِزْقُ رَبِّكَ} العاجل من العلم والإيمان وحقائق الأعمال الصالحة، والآجل من النعيم المقيم والعيش السليم في جوار الرب الرحيم {خَيْرٌ} مما متعنا به أزواجًا في ذاته وصفاته {وَأَبْقَى} لكَوْنِه لا ينقطع، أكُلُها دائم وظلها، كما قال تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) (الأعلى: (16) - (17)). وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد إذا رأى من نفسه طموحًا إلى زينة الدنيا وإقبالًا عليها أن يذكرها ما أمامها من رزق ربه وأن يوازن بين هذا وهذا. وقيل لحاتم الأصم: «عَلَامَ بنَيْتَ أمْرَك؟»، فقال: «على التوكل». ثم قال: «بنَيْتُ أمري على أربع خصال: علمتُ أن رزقي لا يأكلُه غيري؛ فاطمأنَّتْ نفسي، وعلمتُ أنّ عملي لا يعملُه غيري؛ فلم أشتغل لغيره، وعلمتُ أنّ الموت يأتيني بغتةً؛ فأنا أبادِرُه، وعلِمْتُ أني لا أخلو من عين الله - عز وجل - حيث ما كنت؛ فأنا مُستحْيِي منه». السادس عشر: أن يضع المرء نفسه موضع خصمه: فإن ذلك يدعوه إلى حسن الظن، قال ابن حزم - رحمه الله -: «من أراد الإنصاف فلْيَتَوَهَّمْ نفْسَهُ مكانَ خصمِه فإنه يلوح له وجهُ التعسف». وقال إبراهيم بن جنيد - رحمه الله -: «اتخذ مرآتين، وانظر في إحداهما عيب نفسك، وفي الأخرى محاسن الناس». السابع عشر: صحبة الجليس الصالح والابتعاد عن الجليس السوء: فعن أَبِي مُوسَى سدد خطاكم عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: “ إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ، كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ. فَحَامِلُ الْمِسْكِ، إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ،

وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً. وَنَافِخُ الْكِيرِ، إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً “ (رواه البخاري ومسلم). فالجليس الصالح يعين صاحبه على الصفح والعفو عمن أساء إليه والصبر على ما يصيبه من أذى من الآخرين وبهذا يسلم صدره من الغِلّ وغيرِه. وصحبةُ الأشرار تُورِثُ سوء الظن بالأخيار، ومَن صاحَبَ الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم، فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الرّيَب لئلا يكون مريبًا، فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير كذلك صحبة الأشرار تورث الشر. الثامن عشر: استحضار حال أهل الجنة: فقد أخبر الله تعالى عن حالهم فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} (الأعراف: 43)، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (الحجر: 47). وهذا من كرمه - سبحانه وتعالى - وإحسانه، على أهل الجنة، أن الغِلَّ الذي كان موجودًا في قلوبهم، والتنافس الذي كان بينهم، أنّ الله يقلعه ويزيله، حتى يكونوا إخوانًا متحابين، وأخلاء متصافين. ويخلق الله لهم من الكرامة، ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة والسرور، ويرى أنه لا فوق ما هو فيه من النعيم نعيم، فبهذا يأمنون من التحاسد والتباغض، لأنه فقدت أسبابه. التاسع عشر: معرفة أن مُخَالِط الناس لن يسلم من أذاهم: عن ابن عمر سدد خطاكمما عن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنّه قال: “ المُؤْمِنُ الذي يُخالِطُ النّاسَ وَيَصْبِرْ عَلى أَذاهم أَعْظَمُ أَجْرًا مِنَ الّذِي لا يُخالِطَهُمْ ولا يَصْبِرْ على أَذاهم “ (رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي، وابن ماجه، وصححه الألباني). قال أبو مسلم الخولاني - رحمه الله -: «كان الناس ورقًا لا شوك فيه، فإنهم اليوم شوك لا ورق فيه، إن سابَبْتَهم سابُّوك، وإن ناقدتَهم ناقدوك، وإن تركْتَهم لم يتركوك، وإن

نفرتَ منهم يدركوك». قيل له: «فما أصنع؟»، قال: «هَبْ عِرْضَك ليوم فقرك، وخُذْ شيئًا من لا شيء». ومن أعظم أنواع الصبرِ الصبرُ على مخالطة الناس وتحَمُّلُ أذاهم، فكن فيما بينهم سميعًا لحَقّهم، أصمَّ عن باطلهم، نطوقًا بمحاسنهم، صموتًا عن مساوئهم. العشرون: قبول اعتذار المخطئين: قال أمير المؤمنين عمر سدد خطاكم: «أعقل الناس أعذَرُهُم لهم». وقال الأحنف: «إياكم ورأيَ الأوغاد». قالوا: «وما رأيُ الأوغاد؟»، قال: «الذين يَرَوْنَ الصفح والعفو عارًا». قِيلَ لي قد أساءَ إليكَ فلانٌ ... ومقامُ الفتى علَى الذُلِّ عارُ قلت قدْ جاءَنا فأحدَثَ عُذْرًا ... ودِيَةُ الذنبِ الاعتذارُ وقيل: اقبل معاذير مَن يأتيكَ معتذرًا ... إنْ بَرَّ عندكَ فيما قالَ أو فَجَرَا فقد أطاعك مَن يُرضِيكَ ظاهرُه ... وقد أجَلَّك مَن يعصيكَ مُسْتَتِرا الحادي والعشرون: أقْلِلْ من العتاب: ولَسْتُ معاتبًا خِلًّا لأني ... رأيتُ العتبَ يُغرِي بالعقوق وَلَوْ أَنِّي أُوَقِّفُ لِي صَدِيقًا ... عَلَى ذَنْبٍ بَقِيتُ بِلَا صَدِيق

فكثير منا يعتب على أخيه في أمر هو يأتيه ومن نفسه يرتضيه، وأبغض منه من يعتب على من يحسن إليه، فإن عاتبْتَ فليكُنْ عتابُك بحق ورفق ولطف ولا تبالغ فيه فتسيء أكثر من إساءة المعاتَب. تَرَفَّقْ أيُّها المولَى عليهِمْ ... فإنَّ الرِّفْقَ بالجانِي عِتابُ وقد قيل: «إن أفضل العتاب ما غَرس العفوَ وأثمر المحبة، وعَتْبٌ يوجب العفو والصفاء أفضلُ من تركٍ يُعْقِبُ الجفاء». رأيتُ أساليبَ للعتابِ كثيرةً ... وألطَفُها ما أكّدَ الحُبَّ في القلب إذا ما خلَوْنا لم أجِدْ ما أقولُه ... يَلِذُّ سوَى الشكوَى إليهِ مع العَتْب وعلى المعاتَب أن يصبر على من يعاتبه ويحسن إليه فلعله بذلك يريح نفسه بتلك المعاتبة فتصفو نفسُه بعدها. قُلْ لأحبابِنا الجناةِ علينَا ... دَرِّجُونا على احتمالِ الملال أحْسِنُوا في عتابِكم أو أسِيئُوا ... لا عَدِمْنَاكم علَى كلِّ حال ومن أراد العتاب فليحسن اختيار الوقت والمكان المناسبين له؛ فلا يعاتب بحضرة أناس آخرين، كما لا يعاتب في حال فرح أو حزن أو انشغال؛ فهذا مما يزيد الأمر سوءًا وقد أحسن القائل: ولو كان هذا موضعُ العَتْبِ لاشْتَفَى ... فُؤادِي ولكنْ للعتابِ مواضعُ

وقيل: حُجَجِي عليكَ إذا خلوتُ كثيرةٌ ... وإذا حضرتَ فإنني مخصومُ لا أستطيعُ أقولُ أنتَ ظلمْتَنِي ... واللهُ يعلمُ أنني مظلومُ وقال حاتم الأصم - رحمه الله -: «إذا رأيتَ من أخيك عيبًا فإن كتمْتَه عليه فقد خُنْتَه، وإن قُلْتَه لغيرِه فقد اغْتَبْتَه، وإنْ واجَهْتَه به فقد أوْحَشْتَه»؛ قيل له: «كيف أصنع؟» قال: «تُكَنِّي عنه، وتعَرِّض به وتجعله في جملة الحديث». الثاني والعشرون: استحضار الأضرار المترتبة على فساد ذات البين في الدنيا والآخرة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: “ تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الإِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ. فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا. إِلاَّ رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ. فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هاذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أَنْظِرُوا هاذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أَنْظِرُوا هاذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا “ (رواه مسلم). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلَاثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (فَمَاتَ): أَيْ عَلَى تِلْكَ الْحَالَة مِنْ غَيْر تَوْبَة. (دَخَلَ النَّار): أَيْ اِسْتَوْجَبَ دُخُول النَّار. وعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ؛ يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» (رواه البخاري ومسلم، ولفظه: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ». (أَخَاهُ) أَيْ الْمُسْلِمَ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أُخُوَّةِ الْقَرَابَةِ وَالصَّحَابَةِ.

(فَوْقَ ثَلَاثٍ) الْمُرَادُ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا. قَالَ الْعُلَمَاءُ: «فِي هَذَا الْحَدِيثِ تَحْرِيمُ الْهَجْرِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَإِبَاحَتُهَا فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلُ بِنَصِّ الْحَدِيثِ، قَالُوا: «وَإِنَّمَا عَفَا عَنْهَا فِي الثَّلَاثِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مَجْبُولٌ مِنْ الْغَضَبِ وَسُوءِ الْخُلُقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَعَفَا عَنْ الْهَجْرِ الثَّلَاثَ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ الْعَارِضُ». (يَلْتَقِيَانِ) أَيْ يَتَلَاقَيَانِ. (فَيَصُدُّ هَذَا وَيَصُدُّ هَذَا) مَعْنَى (يَصُدُّ) يُعْرِضُ أَيْ يُوَلِّيهِ عُرْضَهُ - بِضَمِّ الْعَيْنِ - وَهُوَ جَانِبُهُ، وَالصُّدُّ بِضَمِّ الصَّادِ، وَهُوَ أَيْضًا الْجَانِبُ وَالنَّاحِيَةُ. (وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ) أَيْ هُوَ أَفْضَلُهُمَا. الثالث والعشرون: العفو والصفح: قال تعالى: { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)} (الشورى:40). ذكر الله - سبحانه وتعالى - في هذه الآية مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل وفضل وظلم. فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئةٍ مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يُضْمَنُ بمِثْله. ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}، يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به. وفي جَعْلِ أجر العافي على الله ما يُهَيِّجُ على العفو، وأنْ يعامل العبدُ الخلقَ بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل. ومن علامة العفو الدعاء لإخوانك، خاصةً من كان بينك وبينه جفوة أو شحناء، حاول أن تدعو له مع أن البعض قد يقول إن هذا لا يطاق، لكن جرب

وحاول أن تدعو لإخوانك، وأرغم نفسك والشيطان على الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والتوفيق والهداية. والعجب أن ينام المسلم ملء جفنيه، وبينه وبين أخيه شحناء أو جفوة، وقد تأتيه المنية تلك الليلة، وما أجمل قول المقنع الكندي: وإن الذي بينِي وبينَ بَنِي أبِي ... وبينَ بنِي عمِّي لمُختلفٌ جِدّا فإنْ أكلُوا لحمِي وفَرْتُ لحومَهُم ... وإنْ هدمُوا مجْدِي بنيْتُ لهُم مجْدَا وإن ضيَّعوا غيبِي حفظْتُ غُيوبَهم ... وإنْ هُم هَوَوْا غَيِّي هوَيْتُ لهمْ رُشْدَا ولا أحملُ الحقدَ القديمَ عليهِم ... وليسَ كريمُ القومِ مَن يحملُ الحِقْدَا

83 - السهر

83 - السهر أسبابه وأقسامه (¬1) آية من آيات الله: من آيات الله الدالةِ على فضله وكرمه، أنْ جعل الليل ليسكنوا فيه، والنهار مضيئًا ليعملوا فيه فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} (يونس: 67). وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)} (الروم: 23). وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} (غافر: 61). وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)} (النمل: 86). وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)} (الفرقان: 47). ما يستفاد من هذه الآيات الكريمات: 1 - بيان الحكمة في خلق الليل والنهار، وهي السكن والراحة في الليل، والتصرف في مختلف الأعمال والمصالح في النهار. 2 - أن في ذلك آياتٍ ودلالات على قدرة الله - سبحانه وتعالى - وعظمته وتوحيده، لمن كان له سمع يسمع به ما ينفعه ويضره. 3 - أنه لا يَعتبِر ويتفكر في آيات الله ومخلوقاته إلا من كان له سمع يسمع به سماعَ قَبولٍ وفهم، وتفكُّر وإيمان. ¬

_ (¬1) هذه الخطبة والتي بعدها بتصرف من رسالة (السهر أسبابه وأقسامه) للدكتور محمد بن عبدالله الهبدان. ورسالة (تذكير البشر بفوائد النوم المبكر وأضرار السهر) لعبد الله بن جار الله الجار الله.

4 - أن النوم بالليل، وابتغاء فضل الله بالنهار، من آيات الله، ودلائل توحيده وقدرته. 5 - أن من اعتاد سهر الليل بدون عبادة وضرورة، فقد خالف الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها. 6 - أن تسخير الليل للسكن والنوم والراحة من فضل الله على الناس، ومن أعظم النعم الموجبة للشكر {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)} (غافر: 61). 7 - أنه لا يتفكَّر في عجائب الليل والنهار، ويستدل بها على قدرة خالقها إلا المؤمنون. 8 - من نِعَمِ الله على خلقه أن جعل لهم الليل ساترًا بظلامه كاللباس، والنوم راحةً لأبدانهم، قاطعًا لأعمالهم، والنهار مضيئًا لانتشارهم وتصرفاتهم وقضاء حوائجهم، فلله الحمد والشكر والثناء على ذلك. ظاهرة سيئة: إن من الظواهر التي بدت في الأمة وظهرت وانتشرت حتى تغيرت مفاهيم كثير من الناس، صغارًا وكبارا، ذكورا وإناثا، تجاه من تلبس بهذه الظاهرة، إنها ظاهرة السهر إلى ساعات متأخرة أو إلى قبيل الفجر، خاصة في أوقات الإجازات، فترى الناس في الليل قيامًا، وفي النهار نيامًا!! ويعُدّون ذلك تقدمًا ورُقِيًّا، أما الذين ينامون بعد صلاة العشاء فهؤلاء - كما يقول بعضهم - (كالدجاج) نسأل الله تعالى السلامة والعافية. فأصبحت سنة نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - تشبه بمثل هذا التشبيه القذر الذي يخشى على قائلها!! إذا لم يتدارك نفسه ويعود إلى رشده. لماذا الحديث عن السهر؟ 1 - لما فيه من الأضرار والأخطار على الفرد والجماعة.

2 - لتصور بعض الشباب - حتى وصل الأمر إلى صغار السن - أن السهر فخرٌ ورُقِيٌّ فيتفاخر أمام زملائه بأنه قد سهر إلى الساعة الثانية ليلًا!! والآخر يقول بل سهرت إلى الساعة الثالثة!! وهكذا يستمر وضع الشاب على هذا المنوال حتى يصبح ليله نهارًا ونهاره ليلًا!! 3 - لما حصل فيه من التفريط في رعاية الأسرة والأولاد فيأتي الولي وهم نائمون ويخرجون من بيته وهو نائم فمتى يحصل اللقاء؟ 4 - ضياع كثير من الطاقات، وإهدار الكثير من القدرات في مثل هذا المرض. لذا كان لابد من علاج هذا الموضوع وطرحه بموضوعية وإنصاف وبدون شطط وإجحاف. أسباب السهر: 1 - المصالح الدنيوية كالتجارة أو المناوبات في العمل أو الاختبارات للطلاب. 2 - المشاكل الصحية للمرء أو لأفراد أسرته. 3 - المشاكل العائلية أو الدراسية أو غيرها. 4 - المناسبات العائلية أو الزيارات الأخوية. 5 - متابعة القنوات الفضائية. 6 - مصالح شرعية كحماية ثغور المسلمين، وطلب العلم ونحو ذلك. 7 - النوم في النهار كثيرًا. 8 - السفر. 9 - الإجازات الصيفية. 10 - غفلة وقلة عناية الكثير من أولياء الأمور بالسؤال عن حال أبنائهم وفيما هم فيه من حال.

11 - مجالسة رفقاء السوء الذين هم فتيل الشر والمقود إلى طريق الانحراف فكل قرين إلى قرينه ينسب. 12 - الدخول على الشبكة العالمية والتي تسمى بالإنترنت. 13 - ارتفاع حرارة الجو. 14 - محاكاة الناس وتقليد الأصدقاء. أقسام السهر: القسم الأول: السهر في طاعة الله - سبحانه وتعالى -: قبل الخوض في هذا النوع من السهر لابد أن نَعلمَ قضيتين: الأولى: إذا ترتب على هذا السهر ضياع واجب كتفويت صلاة الفجر مثلًا فإنه يأثم الإنسان على فعله. الثانية: قد يُلَبّس الشيطان على كثير من الصالحين أن سهرهم من أجل طاعة الله تعالى فيسهر لمعالجة قضية من القضايا أو بحث مسألة علمية مع إخوانه وخِلّانه فيمتد بهم الحديث من موضوع إلى موضوع والحديث - كما يقال - ذو شجون، فتذهب الساعات تلو الساعات وهم منهمكون في حديثهم ولو أنصفوا أنفسهم لَعَلِموا أن هذا الموضوع أو تلك المسألة لا تحتاج كل ذلك الوقت وذاك السهر؛ فلماذا نخادع أنفسنا ونضيع أوقاتنا ونهمل أسرنا في أمر لا طائل من جرائه؟!! أنواع السهر في طاعة الله - سبحانه وتعالى -: 1 - السهر لمتابعة مصالح المسلمين: كمن يسهر في متابعة المنكرات على مختلف أنواعها وصورها أو متابعة الشباب في أماكن تواجدهم؛ فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سدد خطاكم قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَسْمُرُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْأَمْرِ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُمَا» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

2 - السهر في طلب العلم: قال الإمام البخاري - رحمه الله - (بَاب السَّمَرِ فِي الْفِقْهِ وَالْخَيْرِ بَعْدَ الْعِشَاءِ) ثم أورد حديث قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ: «انْتَظَرْنَا الْحَسَنَ وَرَاثَ عَلَيْنَا حَتَّى قَرُبْنَا مِنْ وَقْتِ قِيَامِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: «دَعَانَا جِيرَانُنَا هَؤُلَاءِ»، ثُمَّ قَالَ: «قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: «انْتَظَرْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْلِ يَبْلُغُهُ فَجَاءَ فَصَلَّى لَنَا ثُمَّ خَطَبَنَا، فَقَالَ: “ أَلَا إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا ثُمَّ رَقَدُوا وَإِنَّكُمْ لَمْ تَزَالُوا فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ “، قَالَ الْحَسَنُ: «وَإِنَّ الْقَوْمَ لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا انْتَظَرُوا الْخَيْرَ» (رواه البخاري). (اِنْتَظَرْنَا الْحَسَن) أَيْ اِبْن أَبِي الْحَسَن الْبَصْرِيّ. (وَرَاثَ عَلَيْنَا) أَيْ أَبْطَأَ وتأخر. (مِنْ وَقْت قِيَامه) أَيْ الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ بِالْقُعُودِ مَعَهُمْ فِيهِ كُلَّ لَيْلَة فِي الْمَسْجِد لِأَخْذِ الْعِلْم عَنْهُ. (دَعَانَا جِيرَانُنَا) كَأَنَّ الْحَسَن أَوْرَدَ هَذَا مَوْرِدَ الِاعْتِذَار عَنْ تَخَلُّفِهِ عَنْ الْقُعُود عَلَى عَادَتِهِ. (ثُمَّ قَالَ) أَيْ الْحَسَن. (حَتَّى كَانَ شَطْرُ اللَّيْل) بِرَفْعِ شَطْر، وَكَانَ تَامَّة. (يَبْلُغهُ) أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ. (ثُمَّ خَطَبَنَا) أَيْ بَعْدَ صَلَاة العشاء. وهَذا مَوْضِع الشاهد من الحديث. وَأَوْرَدَ الْحَسَن ذَلِكَ لِأَصْحَابِهِ مُؤْنِسًا لَهُمْ وَمُعَرِّفًا أَنَّهُمْ وَإِنْ كَانَ فَاتَهُمْ الْأَجْر عَلَى مَا يَتَعَلَّمُونَهُ مِنْهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى ظَنُّهُمْ فَلَمْ يَفُتْهُمْ الْأَجْر مُطْلَقًا لِأَنَّ مُنْتَظِر الْخَيْر فِي خَيْر فَيَحْصُلُ لَهُ الْأَجْر بِذَلِكَ، وَالْمُرَاد أَنَّهُ يَحْصُل لَهُمْ الْخَيْر فِي الْجُمْلَة لَا مِنْ جَمِيع الْجِهَات. وَاسْتَدَلَّ الْحَسَن عَلَى ذَلِكَ بِفِعْلِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَإِنَّهُ آنَسَ أَصْحَابه بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَن بَعْدُ: «وَأَنَّ الْقَوْم لَا يَزَالُونَ بِخَيْرٍ مَا اِنْتَظَرُوا الْخَيْر». وَلَا تَسْأَمَنَّ الْعِلْمَ وَاسْهَرْ لَنَيْلِهِ ... بِلَا ضَجَرٍ تَحْمَدْ سُرَى اللَّيْلِ فِي غَدِ وهكذا كان أسلافنا الأوائل، يحيون ليلهم في مدارسة حديث رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. يقول فضيل ابن غزوان: «كنا نجلس أنا ومغيرة - وعدَّدَ ناسا - نتذاكر الفقه فربما لم نَقُمْ حتى نسمع النداء بصلاة الفجر».

وقال علي بن الحسن بن شقيق: قمت مع عبدالله بن المبارك في ليلة باردة، ليخرج من المسجد، فذاكرني عند الباب بحديث وذاكرته، فما زال يذاكرني حتى جاء المؤذن فأذن للفجر!! وكان وكيع بن الجراح إذا صلى العتمة ينصرف معه أحمد بن حنبل، فيقف على الباب فيذاكره وكيع، فلم يزل قائما حتى جاءت الجارية فقالت: «قد طلع الكوكب». 3 - السمر مع الضيف: قال البخاري - رحمه الله -: (باب السمر مع الضيف والأهل) ثم أورد حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وفيه اشتغال أبي بكر بعد صلاة العشاء بمجيئه إلى بيته ومراجعته لخبر الأضياف واشتغاله بما دار بينهم. 4 - السهر للمرابطة في الثغور: عن أبي رَيْحَانَةَ قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللهِ “ (رواه الإمام أحمد في المسند وحسنه الأرنؤوط). ومن ذلك ما فعله عبَّاد بن بشرٍ سدد خطاكم مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لما قفلَ عائدًا من غزوة ذاتِ الرقاع نزل بالمسلمين في شِعْبٍ من الشعاب ليقضُوا ليلتهم فيه. فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما -، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَأُصِيبَتْ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَافِلًا، وَجَاءَ زَوْجُهَا وَكَانَ غَائِبًا، فَحَلَفَ أَنْ لَا يَنْتَهِيَ حَتَّى يُهْرِيقَ دَمًا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَخَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَنَزَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَنْزِلًا، فَقَالَ: “ مَنْ رَجُلٌ يَكْلَؤُنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ؟ “ فَانْتَدَبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَا: «نَحْنُ يَا رَسُولَ اللهِ»، قَالَ: “ فَكُونُوا بِفَمِ الشِّعْبِ “.

قَالَ: وَكَانُوا نَزَلُوا إِلَى شِعْبٍ مِنَ الْوَادِي، فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلَانِ إِلَى فَمِ الشِّعْبِ، قَالَ الْأَنْصَارِيُّ لِلْمُهَاجِرِيِّ: «أَيُّ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَنْ أَكْفِيَكَهُ؟ أَوَّلَهُ أَوْ آخِرَهُ؟»، قَالَ: «اكْفِنِي أَوَّلَهُ»، فَاضْطَجَعَ الْمُهَاجِرِيُّ فَنَامَ، وَقَامَ الْأَنْصَارِيُّ يُصَلِّي، وَأَتَى الرَّجُلُ. فَلَمَّا رَأَى شَخْصَ الرَّجُلِ عَرَفَ أَنَّهُ رَبِيئَةُ الْقَوْمِ، فَرَمَاهُ بِسَهْمٍ، فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، وَثَبَتَ قَائِمًا، ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ، فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، وَثَبَتَ قَائِمًا، ثُمَّ عَادَ لَهُ بِثَالِثٍ، فَوَضَعَهُ فِيهِ، فَنَزَعَهُ فَوَضَعَهُ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، ثُمَّ أَهَبَّ صَاحِبَهُ، فَقَالَ: «اجْلِسْ؛ فَقَدْ أُوتِيتَ»، فَوَثَبَ، فَلَمَّا رَآهُمَا الرَّجُلُ عَرَفَ أَنْ قَدْ نَذَرُوا بِهِ فَهَرَبَ. فَلَمَّا رَأَى الْمُهَاجِرِيُّ مَا بِالْأَنْصَارِيِّ مِنَ الدِّمَاءِ، قَالَ: «سُبْحَانَ اللهِ، أَلَا أَهْبَبْتَنِي»، قَالَ: «كُنْتُ فِي سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا، فَلَمْ أُحِبَّ أَنْ أَقْطَعَهَا حَتَّى أُنْفِذَهَا، فَلَمَّا تَابَعَ الرَّمْيَ رَكَعْتُ فَأُرِيتُكَ، وَايْمُ اللهِ، لَوْلَا أَنْ أُضَيِّعَ ثَغْرًا أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِحِفْظِهِ، لَقَطَعَ نَفْسِي قَبْلَ أَنْ أَقْطَعَهَا، أَوْ أُنْفِذَهَا». (رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط). (ربِيئَة القَوْمِ) الربيئة هو الرقيب والجاسوس، والمراد بالقوم المسلمون. (أهَبَّ) أي: أيقظ. (نَذَرُوا) شعروا به وعلموا بمكانه. القسم الثاني: السهر في مباح. كمن يسهر في حراسة أو طبيب مناوب أو سفر لمباح أو يحادث أهله وزوجه لما أخرجه البخاري ومسلم، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، قَالَ: «بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ»، فدل ذلك على جواز الحديث مع الأهل لمعاشرتهم بالمعروف. القسم الثالث: السهر في معصية الله: كالسهر في لعب الورق (الكوتشينة)، أو السهر في سماع الموسيقى، أو على متابعة القنوات الفضائية، أو معاكسة النساء في الأسواق أو عبر الهاتف أو السهر في المقاهي سواء كانت الإنترنت أو مقاهي الشيشة ونحو ذلك.

84 - أضرار السهر

84 - أضرار السهر آثار السهر وأضراره: إن للسهر أضرارا وله آثاره المدمرة على الفرد والأسرة .. بل على المجتمع ككل، ولذلك استُخْدِمَ التعذيب بالسهر في العصور الوسطى لإجبار السجناء على الاعتراف، وقد أسَرَتْ الصين أثناء الحرب الكورية مجموعة من الطيارين الأمريكيين وأخضعتهم للحرمان من النوم كنوع من غسيل المخ حتى انهارت مقاومتهم. وهاهي بعض آثاره حتى يدرك المسلم فداحة المصيبة وعظيم الخطيئة، فمن أضراره: أولًا: مخالفة هدْيِ النبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: فعَنْ أَبِي بَرْزَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - «كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا “ (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: “ جَدَبَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - السَّمَرَ بَعْدَ الْعِشَاءِ “ قَالَ خَالِدٌ: «مَعْنَى جَدَبَ إِلَيْنَا، يَقُولُ: عَابَهُ، ذَمَّهُ». (رواه الإمام أحمد في المسند، وابن ماجه وحسنه الأرنؤوط). وخَالِدٌ هو خالد بنُ عبد الله الواسطي الطحان، وهو أحد رواة الحديث. والحديث بعد العشاء يعني في الأمر المباح أما إذا كان الحديث في محرم فلا يجوز سواء كان بعد العشاء أو قبلها أو في أي وقت من ليل أو نهار. ثانيًا: إضاعة صلاة الفجر وتفويتها: إن السهر من أسباب النوم عن صلاة الفجر في وقتها مع الجماعة، التي تعدل قيامَ الليل كله مع صلاة العشاء مع الجماعة؛ فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ». (رواه مسلم).

وقد أفاد كثير من الشباب بذلك فيقول أحدهم: دائما ننصرف قبيل الفجر فننام ولا نصليها!!! ويحدث هذا أيضا في قصور الأفراح للنساء فتعود المرأة لبيتها في ساعة متأخرة من الليل وهي مرهقة متعبة ثم تلقي بنفسها في فراشها ولا تشعر بنفسها إلا والساعة قد بلغت العاشرة أو الحادية عشرة!! حتى من قام الليل أو طلب العلم إذا خشي فوات هذه الصلاة فإنه لا يصح له ذلك، وقد أنكر عمر بن الخطاب سدد خطاكم على الذي أحيا الليل بالصلاة ثم غلبت عليه عينه ونام عن الصلاة المكتوبة؛ فعَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أبِي حَثْمَةَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سدد خطاكم فَقَدَ سُلَيْمَانَ بْنَ أبِي حَثْمَةَ فِي صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سدد خطاكم غَدَا إِلَى السُّوقِ - وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ بَيْنَ السُّوقِ وَالْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ – فَمَرَّ عَلَى الشِّفَاءِ أُمِّ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ لَهَا: «لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ فِي الصُّبْحِ»، فَقَالَتْ: «إِنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ». فَقَالَ عُمَرُ: «لأَنْ أَشْهَدَ صَلاَةَ الصُّبْحِ فِي الْجَمَاعَةِ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً». (رواه مالك في الموطأ، وصححه الألباني). هذا يقال في من قام الليل فكيف بمن أسهر ليله على الأغاني والمعازف؟ كيف بمن أسهر ليله على الأفلام والمسلسلات؟! كيف بمن أسهر ليله في تصيد بنات المسلمين عبر الهاتف أو في الأسواق؟!! وقد جاء الوعيد الشديد للذي ينام عن الصلاة المكتوبة ففي البخاري عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي الرُّؤْيَا قَالَ: “ أَمَّا الَّذِي يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفِضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ» (رواه البخاري). يُثْلَغُ: يُكْسَر ويُشَجّ. وهذه الصلاة هي الفارقة بين أهل الإيمان وأهل النفاق فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ إِنَّ أَثْقَلَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَصَلَاةُ الْفَجْرِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» (رواه مسلم). وقد يقول قائل: أليس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: “ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا “ (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ أَبِي قَتَادَةَ سدد خطاكم قَالَ:

«ذَكَرُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - نَوْمَهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: “ إِنَّهُ لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ فَإِذَا نَسِيَ أَحَدُكُمْ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا “ (رواه الترمذي، وصححه الألباني). والجواب عن ذلك أن يقال: 1 - أن مراد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في حديثه في حق مَن فَعَل الأسباب مِن وَضْع منبه ونومٍ مبكر، ولكن غلبت عليه عينه فنام، فهنا نقول لا حرج وصَلّها إذا ذكَرْتَها كما حصل للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في إحدى غزواته، فعن أَبِي قَتَادَةَ سدد خطاكم قَالَ: «سِرْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَيْلَةً فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: «لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟»، قَالَ: «أَخَافُ أَنْ تَنَامُوا عَنِ الصَّلَاةِ»، قَالَ بِلَالٌ: «أَنَا أُوقِظُكُمْ فَاضْطَجَعُوا»، وَأَسْنَدَ بِلَالٌ ظَهْرَهُ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ، فَقَالَ: «يَا بِلَالُ، أَيْنَ مَا قُلْتَ؟»، قَالَ: «مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ»، قَالَ: «إِنَّ اللهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ حِينَ شَاءَ، وَرَدَّهَا عَلَيْكُمْ حِينَ شَاءَ، يَا بِلَالُ، قُمْ فَأَذِّنْ بِالنَّاسِ بِالصَّلَاةِ»، فَتَوَضَّأَ فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الشَّمْسُ وَابْيَاضَّتْ قَامَ فَصَلَّى» (رواه البخاري). (لَوْ عَرَّسْتَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ) التَّعْرِيسُ نُزُولُ الْمُسَافِرِ لِغَيْرِ إِقَامَةٍ، وَأَصْلُهُ نُزُولٌ آخِرَ اللَّيْلِ، وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَكَانَ أَسْهَلَ عَلَيْنَا. (فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَقَدْ طَلَعَ حَاجِبُ الشَّمْسِ) فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: «فَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَالشَّمْسُ فِي ظَهْرِهِ». (يَا بِلَالُ أَيْنَ مَا قُلْتَ) أَيْ أَيْنَ الْوَفَاءُ بِقَوْلِكَ أَنَا أُوقِظُكُمْ. (قَالَ مَا أُلْقِيَتْ عَلَيَّ نَوْمَةٌ مِثْلُهَا قَطُّ) مِثْلُهَا أَيْ مِثْلُ النَّوْمَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ. (إِنَّ اللَّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَكُمْ) هُوَ كَقَوْلِه تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} (الزمر:42)، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَبْضِ الرُّوحِ الْمَوْتُ فَالْمَوْتُ انْقِطَاعُ تَعَلُّقِ الرُّوحِ بِالْبَدَنِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَالنَّوْمُ انْقِطَاعُهُ عَنْ ظَاهِرِهِ فَقَطْ. (وَابْيَاضَّتْ) أَيْ صَفَتْ.

والشاهد من الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قبل أن ينام أمر بلالًا أن يوقظه للصلاة ففعل السبب ولكن غلبت عليه عينه فما قام إلا وقد طلعت الشمس. ففرقٌ بين من يسهر في آخر الليل ولم يفعل الأسباب الشرعية للاستيقاظ، وبين من حصل له ظرف طارئ للسهر ولكن فعل الأسباب فوضع الساعة أو الجوال أو غيرها من الأسباب. 2 - هل يا ترى يعذر من ينام كل يوم عن الحضور لوظيفته؟!! ويُتَسامَح معه، ويُتَغَاضى عنه أم أنه يحاسب على هذا التفريط والإضاعة؟ إذن فشتان بين من تغلبه عينه في الشهر مرة لمرض أو تعب أو أرق أو نحو ذلك؟!! وبين من اعتاد النوم عن الصلاة كل يوم!! ثالثًا: إهمال المنزل وأهله: يجلس الشاب في المقهى أو على الأرصفة أو في الاستراحات أو في غيرها، ويتلذذ بالسمر مع أصحابه إما بمشاهدة القنوات الفضائية أو بلعب الكرة، وينسى نفسه وأهله ووالديه وقضاء حوائجهما، وتزداد المصيبة إذا كان صاحب أسرة فهو مشغول عن متابعة أولاده ورعايتهم والنظر في مصالحهم وقضاء حوائجهم ومتابعة دروسهم. أما الزوجة فهي آخر ما يفكر فيها فتجلس المسكينة إلى ساعة متأخرة من الليل واضعة يدها على خدها تنتظر زوجها الذي لم تكن في باله، ولم تَرِدْ في خياله. وهذا كله من التفريط الذي يحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ فعَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: “ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ فِي أَهْلِهِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» (رواه البخاري). فأعِدّ للسؤال جوابًا وللجواب صوابًا. كما أن الاستمرار على هذه العادة قد يؤدي إلى الانفصال بين الزوجين؛ لأن المرأة مع كثرة الضغوط التي تواجهها والمصاعب التي تقابلها مِن جَرّاء تخَلِّي الزوج عن

المنزل والأولاد قد تنفجر بكثرة المشاكل، أو بطلب الفراق والطلاق!! ثم لك بعد ذلك أن تفكر في المفاسد المترتبة على الطلاق خاصة إذا كان بينهما أولاد. رابعًا: التفريط في الأداء الوظيفي أو الحضور المدرسي: فإذا كان الشاب يسهر إلى ساعات متأخرة من الليل فهل يمكن لهذا الشاب أن يحضر لمدرسته مبكرا؟! وهل يمكن لهذا الموظف أن يأتي لعمله في الوقت المحدد؟ وإذا أتى على سبيل الافتراض في الوقت المحدد، فهل سيكون حضوره له فعاليته ونشاطه المطلوب؟ أم يكون على حالة يُرْثَى لها؟!! فيكون وجوده كعدمه!! فجسم الإنسان لابد أن يأخذ قسطًا من الراحة حتى يستعيد قدراته ونشاطاته الفكرية والبدنية، وبدون هذه الراحة سيظل طيلة يومه متعبًا قلقًا. خامسًا: تفويت بركة البكور: إن النبيّ - صلى الله عليه وآله وسلم - دعا لأمته بالبركةِ في البكور، فَعَنْ عُمَارَةَ بْنِ حَدِيدٍ عَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ سدد خطاكم عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا»، قَالَ: «وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلًا تَاجِرًا، وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَكَثُرَ مَالُهُ». (رواه أصحاب السنن وصححه الألباني). (فِي بُكُورهَا): أَيْ صَبَاحهَا وَأَوَّل نَهَارهَا. (قَالَ: وَكَانَ) أَيْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً أَوْ جَيْشًا) السَّرِيَّةُ طَائِفَةٌ مِنْ الْجَيْشِ يَبْلُغُ أَقْصَاهَا أَرْبَعَمِائَةٍ تُبْعَثُ إِلَى الْعَدُوِّ جَمْعُهَا السَّرَايَا. (وَكَانَ يَبْعَث تِجَارَته): أَيْ مَالهَا. (فَأَثْرَى): أَيْ صَارَ ذَا ثَرْوَة أَيْ مَال كَثِير. (وَكَثُرَ مَاله): عَطْف تَفْسِير. والنومُ بين صلاة الصبحِ وشروقِ الشمس تفويتٌ لزهرة اليوم. فالبركة في التبكير وليعلم أولئك الذين ينامون إلى نصف النهار أنهم قد حرموا أنفسهم بركة ذلك اليوم. وإن من سهروا الليل على ما لا يرضي الله، وناموا النهار عن طاعته، قد كسلوا عن السعي في الأرض لطلب رزقه والأكل مما أحله. فأين مِن البركة مَن نام في وقت البركة؟! أين مِن البركة مَن نام عن صلاة الفجر مع الجماعة؟!

سادسًا: السهر مخالفة للسنة الإلهية: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} (الفرقان:47) ويقول - سبحانه وتعالى -: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} (غافر: 61) فالله - عز وجل - جعل الليل سكنًا ولباسًا يغشى العالم فتسكن فيه الحركات، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها، والطير إلى أوكارها، وتستجم فيه النفوس وتستريح من كدِّ السعي والتعب، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وسباتها وتطلعت إلى معايشها وتصرفها، جاء فالق الإصباح - سبحانه وتعالى - بالنهار؛ فانتشر الحيوان وتصرف في معاشه ومصالحه وخرجت الطيور من أوكارها. فلماذا أنت أيها المسلم تخالف هذه السنة الربانية والحكمة الإلهية؟! سابعًا: السهر وأضراره على صحة الإنسان: وأضرار السهر متنوعة فمنها: 1 - سوء التغذية: فمع تغير مواعيد النوم يصحو الإنسان مبكرًا أو متأخرًا، وتتغير مواعيد وجباته الغذائية، خاصة لدى صغار السن والشباب، وهذا بدوره يؤدي إلى البنية الهزيلة، وضعف المقاومة ويعرض الجسم لمختلف الأمراض بسهولة. 2 - أضرار نفسية: فإذا استمر - أي على السهر - وأصبح عادةً لديه فقد يصبح ذلك التأثير دائمًا وتصطبغ به شخصية الفرد وسلوكياته فيبدو متعكر المزاج، سريع الاستثارة بعض الشيء غير قادر على تحمل المهام التي تتطلب الجهد والتركيز. وكثيرًا ما يراجع العيادات النفسية أشخاص لديهم مشكلات نفسية وبدنية ناتجة عن اضطرابات في النوم وأهم ذلك: الكآبة والحزن - تعكر المزاج وسرعة الانفعال - القلق والتوتر - ضعف التركيز - سرعة النسيان - الكسل - الفتور - سرعة الاجهاد. 3 - أضراره على ذاكرة الإنسان والجهاز العصبي: أكدت الدراسات والبحوث أن السهر من أقوى العوامل المؤثرة على الجهاز المناعي والمثبطة لنشاط ذاكرة الجسم

المناعية وحركة خلايا الجهاز المناعي. وقد ثبت أيضًا أن السهر يعوق طرفيات الجهاز العصبي وخلايا الإحساس من أداء عملها بشكل فعال. وللسهر تأثير سلبي حاد على الجهاز العصبي والمخ. ويتسبب السهر في فقدان التركيز وضعف الذاكرة وبُطْء الاستجابة العصبية. وينصح من يريد الإبداع والإنتاج وزيادة القدرة العقلية والجسدية بالنوم مبكرًا والاستيقاظ مبكرًا لكي تنتظم حياته وتستقر صحته. وفي بريطانيا أكد د. جيمس هور - مدير معامل أبحاث النوم بجامعة لوبرا ببريطانيا - أن عدم النوم ولو لليلة واحدة يضيع على الإنسان مقدرة الابتكار والإتيان بأفكار جديدة، وقد توصل إلى هذه النتيجة بعد تجربة أجراها على طلاب جامعيين بعد أن قضوا ليلة لم يذوقوا فيها طعم النوم، وجرى توجيه أسئلة إليهم، فكانت إجاباتهم عنها تفتقر إلى الفورية والنشاط الذهني. 4 - أضراره في نمو الإنسان وتكامل بنيته: لقد أثبتت الأبحاث العلمية ذلك وأوضحت أن الكثير من الهرمونات التي تفرزها ساعات النوم ومنها - على سيبل المثال لا الحصر - هرمون النمو وهو مسؤول عن إكساب الجسم المزيد من القوة العضلية والقوة الذهنية، ومع طول السهر يُحْرَم الإنسان من إفراز الهرمونات بالصورة الطبيعية. ولوحظ كذلك زيادة إفراز هرمون الميلاتونين أثناء النوم ليلًا وهو المسؤول عن إعطاء الجسم المزيد من الحيوية والنشاط وإكسابه المزيد من المناعة ضد الإصابة بالأمراض المختلفة بما فيها الأورام الخبيثة؛ ولذلك نلاحظ أن الذين يدمنون سهر الليالي يعانون من الكسل والهزال وضعف البنية الجسدية. وفي تقرير آخر ذُكِرَ أن سهر الأطفال يؤدي إلى التأخير في نموهم أو حتى توقفه، وذلك لعدم إفراز هرمون النمو بكمية كافية، وهذه الهرمونات تنشط البروتينات التي تساعد على بناء خلايا الجسم التي يموت منها عشرات الآلاف يوميًّا

وتقوي العظام وتعطي الطاقة للعضلات، كما أن هرمون النوم الذي تقوم بإفرازه الغدة النخامية، ينظم نشاط الهرمونات التي تساعد على التئام كسور العظام وتقلل نسبة الكوليسترول في الدم، إضافة إلى أن المعادن التي يحتاج إليها الجسم لا تثبت إلا ليلًا. وثبت علميًّا أن النوم مهم جدًّا لنضج مخ الطفل، كما أن النوم يمنزلة المأوى والهرب من المشكلات ويساعدنا على مواجهة ضغوط الحياة. هذه الحقائق دعت فريقا من الباحثين وعلماء النفس بجامعة فلوريدا الأمريكية إلى دعوة الآباء والأمهات والمعلمين إلى ضرورة تعليم الأطفال نظام النوم منذ الصغر بنفس طريقة تلقينهم آداب المائدة والمحادثة. وأجريت دراسة على ألف طفل في نيويورك، من أولئك الأطفال الذين يشخص الأطباء حالتهم على أنها نوع من الضعف الذهني، وهم في الواقع أصحاء نفسيا وذهنيا، ولكنهم يعانون اضطرابا في النوم يشتت أذهانهم وقدراتهم على التركيز والتذكر والتعليم. وأظهرت الدراسة أن 40% من الأطفال لا يحصلون على قسط كاف من النوم، وأن 17% يشكون دائما من الإرهاق، وأكثر من 11 % يشكون من صعوبات في النوم. 5 - أضراره على العين: من أضرار العين بسبب السهر إصابة العين باحمرار ونقص في حدة الأبصار وذلك بسبب نقص إفراز مادة أرووبسين التي تفرز بكثرة أثناء النوم ليلًا. 6 - يفوت نوم الليل المفيد: هل تعلم أن سهرك بالليل معناه تفويت لجسمك من الاستفادة من نوم الليل الذي أثبت الطب الحديث فائدته وأن نوم النهار لا يُغْنِي عنه وأن قليلًا من نوم الليل يكفي عن كثير من نوم النهار. وهناك دراسات أثبتت أن نوم الإنسان ليلًا هو الطريقة المثلى لإعطاء الجسم كفايته من الراحة وإعادة الحيوية والنشاط لأعضاء الجسم الأخرى. أما الذين يسهرون

في الليل وينامون في النهار فإنهم يفتقدون لتلك العملية الحيوية المهمة للجسم؛ لأن نوم النهار لا يعوِّض ولا يعتبر بديلًا عن نوم الليل؛ وذلك بسبب اختلاف الجاذبية وطبيعة السكون وعوامل فيزيائية كثيرة وصدق الله العظيم حينما قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11)} (النبأ: 10 - 11). ولا يمكن تغيير هذه الطبيعية الفيزيائية ولا تغيير طباع الإنسان لكي يتعايش معها. فالليل هو السكن وهو وقت الراحة. ثامنًا: السهر سبب من أسباب الحوادث: أعرب خبراء بريطانيون عن قلقهم من أن السهر وقلة النوم مشكلة كانت سببًا في كثرة الحوادث العالمية كانفجار تشيرنوبل، وكارثة مكوك الفضاء الأمريكي تشالينجر وغيرها من الحوادث، وضع فيها اللوم على العمال الذين غلبهم النعاس، أو الذين يشكون من التعب الشديد ولم يتمكنوا من القيام بعملهم على أكمل وجه، كما أثبتت دراسة أمريكية أن 90% من الحوادث الصناعية و (200) ألف حادث مروري كل عام سببها قلة النوم!!. تاسعًا: السهر نزيف اقتصادي: فعلى سبيل المثال: تصرف الولايات المتحدة الأمريكية 16 بليون دولار للتعامل مع المشاكل الناجمة عن اضطراب النوم، كما يصرف الأطباء 215 ألف وصفة طبية في بريطانيا كل عام لمرضى يعانون اضطراب النوم، فلو حسبنا تكلفة ذلك سواء قيمة الأدوية أو تكلفة العمالة الصحية لوَصَلَتْ بلايين!! السهر في رمضان: تزداد مصيبة السهر إذا كان ذلك في ليالي رمضان المباركة، ويجل الخطب، وتعظم المصيبة، إذا كان في العشر الأواخر من رمضان!! فبينما المشمرون في صلاة ودعاء وتضرع والتجاء، إذا بفريق من الناس قد استعدوا في تجهيز ملاعب الطائرة والكرة أو الجلوس على الأرصفة إلى الفجر أو ما بعد الفجر، ثم النوم حتى صلاة المغرب!!

وأما من جهة النساء فالأمر أطم، فما تحلو الأسواق إلا في العشر الأواخر من رمضان!! في كل يوم سوق!! وفي كل ليلة مجمع تجاري!! تمضي الساعات وهي في غاية السعادة!! وما تحلو الزيارات هنا أو هناك إلا في الأيام المباركات!! فسبحان الله، مواسم عظمية تضيع؟!! ومواسم جليلة يفرط فيها؟!! فرطوا في الثلث الأخير من الليل؟!! وضيعوا الصلوات المكتوبات في النهار!! أما عَلِمْتَ أن من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليله؟! أما علِمْتَ أن في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر؟!! ليلة القدر التي مَن قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه!! فلماذا إذن التفريط والإضاعة؟ لماذا التكاسل والتهاون في العبادة؟ عجبًا لأمرك كيف تُضَيِّع هذا الموسم العظيم وتلك الأوقات الثمينة بمثل لعب الورق (الكوتشينة) ومشاهدة القنوات الفضائية!! يا ساهيًا لاهيًا عَمَّا يُرادُ بهِ ... آنَ الرحيلُ وما قدمْتَ مِن زاد ترجُو البقاءَ صحيحًا سالمًا أبدًا ... هيهاتَ أنتَ غدًا فيمنْ غدَا غادِي ما الحل؟ عرفنا جميعا الداء الذي يعاني منه فئام من الناس .. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: أنا الآن أدركْتُ خطورة السهر ومضاره الدينية والصحية والاجتماعية وغيرها فماذا أفعل؟ وماذا أصنع؟ فالجواب: هناك عدة أمور منها: أولًا: شعورك بالخطأ؛ هذا بحد ذاته مكسب يجعلك تفكر في محاولة إصلاح نفسك من جديد. ثانيًا: تذكر عواقب السهر وأضراره الدينية والدنيوية والاجتماعية. ثالثًا: تذكر ثمرات النوم المبكر وما يعيشه صاحبه من نشاط وحيوية. رابعًا: تذكر هدي المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - وأنه كان ينام مبكرًا إلا من حاجة، وهو قدوتك وحبيبك {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)} (الأحزاب: 21).

خامسًا: الزواج؛ لأن الزوجة تجعلك تضبط نفسك في السهر خارج المنزل. سادسًا: تجنب النوم نهارًا، وتكتفي بالقيلولة بشرط أن تكون أقل من ساعة. سابعًا: مجاهدة النفس في النوم مبكرًا على حد قول القائل: النفْسُ كالطفْلِ إنْ شَبَّ علَى ... حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطُمْهُ يَنْفَطِمِ ثامنًا: الحد بقدر المستطاع من قبول الدعوة ليلًا. تاسعًا: التعود على الاستيقاظ المبكر حتى يأخذ الجسم كفايته ويكون للنوم طريق عليه في الليل. عاشرًا: الابتعاد عن الأسباب الجالبة للسهر كالقنوات الفضائية والأصدقاء والتلفاز وغيرها.

85 - أنواع الهموم

85 - أنواع الهموم (¬1) عسَى الهمُّ الذي أمسَيْتَ فيهِ ... يكونُ وراءَه فَرجٌ قَريبُ فيأمنُ خائفٌ ويُفَكُ عَانٍ ... ويأتي أهلَه النائي الغريبُ عانٍ (مفرد): والجمع عانون وعُناة، والمؤنث عَانية، والجمع عانيات وعَوَانٍ، والعاني: الأسير. الهموم والغموم من طبيعة الحياة الدنيا: إن من طبيعة الحياة الدنيا الهموم والغموم التي تصيب الإنسان فيها، فهي دار الشدة والضنك، ولهذا كان مما تميزت الجنة به عن الدنيا أنه ليس فيها هم ولا غم؛ قال تعالى: {لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر:48)، وأهلها لا تتكدر خواطرهم ولا بكلمة، قال تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} (الواقعة:25 – 26). وطبيعة الحياة الدنيا المعاناة والمقاساة التي يواجهها الإنسان في ظروفه المختلفة وأحواله المتنوعة، كما دل عليه قول الحق تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} (البلد: 4). فهو حزين على ما مضى، مهموم بما يستقبل، مغموم في الحال. والمكروه الوارد على القلب إن كان من أمر ماض أحدث الحزن، وإن كان من مستقبل أحدث الهم، وإن كان من أمر حاضر أحدث الغم. ¬

_ (¬1) هذه الخطبة واللتان بعدها بتصرف من رسالة (علاج الهموم)، للشيخ محمد صالح المنجد.

والقلوب تتفاوت في الهم والغمّ كثرة واستمرارًا بحسب ما فيها من الإيمان أو الفسوق والعصيان فهي على قلبين: قلب هو عرش الرحمن، ففيه النور والحياة والفرح والسرور والبهجة وذخائر الخير، وقلب هو عرش الشيطان فهناك الضيق والظلمة والموت والحزن والغم والهمّ. والناس يتفاوتون في الهموم بتفاوت بواعثهم وأحوالهم وما يحمله كل واحد منهم من المسئوليات: فمن الهموم هموم سامية، ذات دلالات طيبة، كهموم العالم في حلّ المعضلات التي يحتاج المسلمون فيها إلى جواب وخصوصًا إذا استعصت المسألة واستغلقت، وكذلك همّ إمام المسلمين بمشكلات رعِيَّتِه. ومن الهموم الشريفة همّ الداعية في نشر الدين وحَمْل الرسالة والأخذ بيد المدعو إلى طريق الهداية، وهموم العابد في تصحيح عبادته في القصد والأداء، وهَمّ المسلم بما يصيب إخوانه في أقطار الأرض. ومن الهموم ما يكون ناشئًا عن المعاصي، كالهموم التي تصيب المذنب بعد ذنبه كما يحدث في هم من أصاب دمًا حرامًا، أو هم الزانية بحملها. ومن الغموم ما يكون بسبب ظلم الآخرين كظلم الأقرباء كما قال الشاعر: وظلمُ ذَوِي القُربَى أشَدُّ مَضَاضَةً علَى ... النفْسِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ (المَضَاضةً: التألّم من وجع المصيبة. حُسام: سيف قاطع. حُسام السَّيْف: طرفُه الذي يُضرب به. هنَّد السَّيفَ: شحَذه، فهو مُهنِّد). وكذلك الغموم الحاصلة بسبب مصائب الدنيا، كالأمراض المزمنة والخطيرة، وعقوق الأبناء، وتسلط الزوجة، واعوجاج الزوج. ومن الهموم ما يكون بسبب الخوف من المستقبل كهموم الأب بذريته من بعده وخاصة إذا كانوا ضعفاء وليس لديه ما يخلفه لهم. وهكذا تتنوع الغموم والهموم.

الهم الذي يعتري الداعية أثناء دعوته لقومه: وقد نال منه الأنبياء النصيب الأوفى، فهذه عائشة - رضي الله عنها - تحدث ابن أختها عروة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟»، قَالَ: «لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ؟»، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» (رواه البخاري). (الْأَخْشَبَيْنِ) هُمَا جَبَلَا مَكَّةَ أَبُو قُبَيْسٍ وَالَّذِي يُقَابِلُهُ. وَسُمِّيَا بِذَلِكَ لِصَلَابَتِهِمَا وَغِلَظِ حِجَارَتِهِمَا، وَالْمُرَادُ بِإِطْبَاقِهِمَا أَنْ يَلْتَقِيَا عَلَى مَنْ بِمَكَّةَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهُمَا يَصِيرَانِ طَبَقًا وَاحِدًا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ شَفَقَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى قَوْمِهِ وَمَزِيدِ صَبْرِهِ وَحِلْمِهِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِهِ تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (آل عمران:159)، وَقَولِهِ تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). وكذلك أصابه - صلى الله عليه وآله وسلم - الكرب لما كذبه قومه في مَسْرَاه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا؛ فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ؛ فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ». (رواه مسلم).

ومن الهموم هم العبادات: فهذا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يهمه أمر إعلام الناس بالصلاة: فعَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَالَ: اهْتَمَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لِلصَّلَاةِ كَيْفَ يَجْمَعُ النَّاسَ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: «انْصِبْ رَايَةً عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا رَأَوْهَا آذَنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا»، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، قَالَ: فَذُكِرَ لَهُ الْقُنْعُ - يَعْنِي الشَّبُّورَ وَقَالَ زِيَادٌ: «شَبُّورُ الْيَهُودِ» - فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، وَقَالَ: «هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ»، فَذُكِرَ لَهُ النَّاقُوسُ، فَقَالَ: «هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى». فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ وَهُوَ مُهْتَمٌّ لِهَمِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَأُرِيَ الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ، فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَبَيْنَ نَائِمٍ وَيَقْظَانَ، إِذْ أَتَانِي آتٍ فَأَرَانِي الْأَذَانَ»، قَالَ: وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ سدد خطاكم، قَدْ رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَكَتَمَهُ عِشْرِينَ يَوْمًا، قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقَالَ لَهُ: «مَا مَنَعَكَ أَنْ تُخْبِرَنِي؟»، فَقَالَ: «سَبَقَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، فَاسْتَحْيَيْتُ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا بِلَالُ، قُمْ فَانْظُرْ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ، فَافْعَلْهُ» قَالَ: فَأَذَّنَ بِلَالٌ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (عَنْ أَبِي عُمَيْرِ بْنِ أَنَسٍ) هُوَ عَبْدُ اللهِ أَبُو عُمَيْرِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، (عَنْ عُمُومَةٍ لَهُ) أَيْ لِأَبِي عُمَيْرٍ (قَالَ) أَيْ عُمُومَةُ أَبِي عُمَيْرٍ، (لَهَا) أَيْ لِلصَّلَاةِ، (فَإِذَا رَأَوْهَا) أَيْ إِذَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ رَايَةً، (آذَنَ) مِنَ الْإِيذَانِ، (فَلَمْ يُعْجِبْهُ) أَيِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، (ذَلِكَ) أَيْ نَصْبَ الرَّايَةِ عِنْدَ حُضُورِ الصَّلَاةِ، (قَالَ) أَيِ الرَّاوِي، (فَذَكَرَ لَهُ) أَيْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، (الْقُنْعُ يَعْنِي الشَّبُّورَ) وَالشَّبُّورُ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ بُوقًا وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَالنَّسَائِيِّ قَرْنًا وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ الْأَرْبَعَةُ كُلُّهَا مُتَّحِدُ الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ صَوْتٌ. (فَلَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ) أَيِ اتِّخَاذَ الْقُنْعِ وَالشَّبُّورِ (وَقَالَ) أَيِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - (هُوَ مِنْ أَمْرِ الْيَهُودِ) أَيِ الشَّبُّورُ (قَالَ) أَيْ عُمُومَةُ أَبِي عُمَيْرٍ (فَذَكَرَ لَهُ) أَيْ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - (النَّاقُوسُ) هُوَ خَشَبَةٌ طَوِيلَةٌ تُضْرَبُ بِخَشَبَةٍ أَصْغَرَ مِنْهَا يَجْعَلُهُ النَّصَارَى عَلَامَةً لِأَوْقَاتِ صَلَاتِهِمْ

(فَانْصَرَفَ عَبْدُ اللهٍ بْنُ زَيْدٍ) مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - (وَهُوَ) أَيْ عَبْدُ اللهٍ (مُهْتَمٌّ) مِنَ الِاهْتِمَامِ أَيْ فِي مُقَدِّمَةِ الْأَذَانِ (لِهَمِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -) فِي ذَلِكَ، (فَأُرِيَ) أَيْ عَبْدُ اللهِ (الْأَذَانَ فِي مَنَامِهِ). قَالَ الرَّاوِي (فَغَدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -) أَيْ ذَهَبَ عَبْدُ اللهِ بْنُ زَيْدٍ فِي وَقْتِ الْغَدَاةِ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، (قَدْ رَآهُ) أَيِ الْأَذَانَ فِي الْمَنَامِ. (فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِعُمَرَ بْنِ الخطاب. ومن الهموم همّ الصادق بتكذيبه: كما وقع للصحابي الجليل زيد بن الأرقم سدد خطاكم لما سمع رأس المنافقين عبد الله ابن أبَيّ ابن سلول يقول لأَصْحَابِهِ: «لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ»، (يعني بالأعَزّ نفسه، ويقصد بالأذَلّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن معه)، قَالَ زَيْدٌ: «فَأَخْبَرْتُ عَمِّي فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَحَلَفَ وَجَحَدَ، فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَكَذَّبَنِي، فَجَاءَ عَمِّي إِلَيَّ، فَقَالَ: «مَا أَرَدْتَ إِلا أَنْ مَقَتَكَ رَسُولُ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَكَذَّبَكَ وَالْمُسْلِمُونَ»، فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْهَمِّ مَا لَمْ يَقَعْ عَلَى أَحَدٍ. فَبَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي سَفَرٍ قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي، فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي، فَقَالَ: «مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، قُلْتُ: «مَا قَالَ لِي شَيْئًا إِلّا أَنَّهُ عَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي»، فَقَالَ: «أَبْشِرْ»، ثُمَّ لَحِقَنِي عُمَرُ فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ قَوْلِي لأَبِي بَكْرٍ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (فَأَخْبَرْتُ عَمِّي) أَيْ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بن أبَيّ ابن سلول (فَانْطَلَقَ) أَيْ عَمِّي (فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ) أَيْ إِلَى عَبْدِ اللهِ بن أبَيّ ابن سلول، (قَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ) يُقَالُ خَفَقَ الرَّجُلُ إِذَا حَرَّكَ رَأْسَهُ وَهُوَ نَاعِسٌ، وَالْمَعْنَى نَكَسْتُ مِنْ شِدَّةِ الْهَمِّ لَا مِنَ النُّعَاسِ، (فَعَرَكَ أُذُنِي) أَيْ دَلَّكَهَا، (أَنَّ لِي بِهَا) أَيْ بِضَحِكَةِ رَسُولِ اللِه - صلى الله عليه وآله وسلم - فِي وَجْهِي.

وفي رواية مسلم للقصة قَالَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَأَرْسَلَ إِلَى عَبْدِ اللهٍ بْنِ أُبَيٍّ فَسَأَلَهُ فَاجْتَهَدَ يَمِينَهُ مَا فَعَلَ فَقَالَ: «كَذَبَ زَيْدٌ رَسُولَ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -»، قَالَ: فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِمَّا قَالُوهُ شِدَّةٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ تَصْدِيقِي {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} (المنافقون:1). ومنها هَمّ البريء بسبب التهمة الباطلة: وقد نالت أمنا عائشة - رضي الله عنها - زوجة رسولنا الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم - من هذا الهم نصيبًا وافرًا، فعندما رماها المنافقون في غزوة المريسيع بما رموها به من الفاحشة، وكانت مريضة، علمت بالخبر من إحدى نساء بيتها فازداد مرضها، وركبها الهَمُّ، حتى أَنْزَلَ اللهُ - عز وجل - براءتها في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)} (النور: 11 – 20). ومن كلامها - رضي الله عنها - في سياق حديثها عن حادثة الإفك: «فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي ... فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ (¬1)، ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي ... وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا ¬

_ (¬1) (لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ) أى لا يَنْقَطِعُ. (وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ) أَيْ لَا أَنَامُ.

أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِي الْمُقْبِلَةَ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ... فَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} عَشْرَ آيَاتٍ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي» (رواه البخاري ومسلم). وكذلك قصة المرأة التي اتُّهمت ظلمًا وروت قصتها عَائِشَةُ - رضي الله عنها - قَالَتْ: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ وَكَانَ لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ قَالَتْ فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ عِنْدَنَا فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ: وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ - رضي الله عنها -: «وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ؟»، قَالَتْ: خَرَجَتْ جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ فَسَقَطَ مِنْهَا فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا وَهِيَ تَحْسِبُهُ لَحْمًا فَأَخَذَتْهُ فَاتَّهَمُونِي بِهِ فَعَذَّبُونِي حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي، فَبَيْنَا هُمْ حَوْلِي وَأَنَا فِي كَرْبِي إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا حَتَّى وَازَتْ بِرُءُوسِنَا ثُمَّ أَلْقَتْهُ، فَأَخَذُوهُ فَقُلْتُ لَهُمْ: «هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ». (رواه البخاري). (فَتَحَدَّثُ): أي فَتَتَحَدَّثُ. بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، (الحِفْشٌ): هُوَ الْبَيْتُ الضَّيِّقُ الصَّغِيرُ، وَأَصْلُهُ الْوِعَاءُ الَّذِي تَضَعُ الْمَرْأَةُ فِيهِ غَزْلَهَا. والمراد به هنا الخِبَاءٌ وهو الْخَيْمَةُ مِنْ وَبَرٍ أَوْ غَيْرِهِ. الوشاح: قيل: أنه نوع من الحلي، والظاهر: أنه كان شيئًا من لباس المرأة الذي تتوشح به، وفيه حُلِيّ وسيور حمر. (مِنْ أَدَمٍ): من جلد. (الْحُدَيَّا): الحدأة. (تَعَاجِيبُ) أَيْ أَعَاجِيب وأحدها أعجوبة. (حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ طَلَبُوا فِي قُبُلِي) أي حتى فتشوا قُبُلَها، (فَبَيْنَا): فَبَيْنَما، (وَازَتْ) أَيْ حاذت. وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي أي كانت الفتنة التي تعرضت لها من إيذائها واتهامها سببًا في إسلامها وهجرتها، وكان الوشاح سببًا في نجاتها، وكان يوم الوشاح من الأعاجيب، لأن ما وقع فيه من اختطاف الحدأة للوشاح، واتهامها به كان من أعاجيب الزمان، وغرائب

الأيام وكان من نعم الله عليها حيث كان نقطة تحول في حياتها من شقاء إلى سعادة، وسببًا في إسلامها، وهجرتها من دار الكفر إلى دار الإِيمان على حد المثل القائل “ رُبَّ ضارة نافعة “. وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ فِي الْمَسْجِدِ لِمَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلًا كَانَ أَوِ امْرَأَةً عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ وَإِبَاحَةُ اسْتِظْلَالِهِ فِيهِ بِالْخَيْمَةِ وَنَحْوِهَا. وَفِيهِ الْخُرُوجُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَرْءِ فِيهِ الْمِحْنَةُ وَلَعَلَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ كَمَا وَقَعَ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَفِيهِ فَضْلُ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَإِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا؛ لِأَنَّ فِي السِّيَاقِ أَنَّ إِسْلَامَهَا كَانَ بعد قدومِها الْمَدِينَة. وفي الحديث دليل على أن الله تعالى قد يفرج كربات المكروبين ويخرق لهم العوائد وإن كانوا كفارًا. ومنها الهم بما قد يحصل للزوجة والذرية بعد الموت: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَقُولُ: «إِنَّ أَمْرَكُنَّ لَمِمَّا يُهِمُّنِي بَعْدِي، وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ إِلَّا الصَّابِرُونَ». قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ، فَسَقَى اللهُ أَبَاكَ مِنْ سَلْسَبِيلِ الجَنَّةِ، تُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَقَدْ كَانَ وَصَلَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِمَالٍ، يُقَالُ: بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا. (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) هُوَ اِبْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوْف (إِنَّ أَمْرَكُنَّ) أَيْ شَأْنَكُنَّ (لَمِمَّا) اللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَمَا مَوْصُولَةٌ (يُهِمُّنِي) أَيْ يُوقِعُنِي فِي الْهَمِّ (بَعْدِي) أَيْ بَعْدَ وَفَاتِي حَيْثُ لَمْ يَتْرُكْ لَهُنَّ مِيرَاثًا، وَهُنَّ قَدْ آثَرْنَ الْحَيَاةَ الْآخِرَةَ عَلَى الدُّنْيَا حِينَ خُيِّرْنَ. (وَلَنْ يَصْبِرَ عَلَيْكُنَّ) أَيْ عَلَى بَلَاءِ مُؤْنَتِكُنَّ. (إِلَّا الصَّابِرُونَ) أَيْ عَلَى مُخَالَفَةِ النَّفْسِ مِنْ اِخْتِيَارِ الْقِلَّةِ وَإِعْطَاءِ الزِّيَادَةِ. (قَالَ) أَيْ أَبُو سَلَمَةَ. (ثُمَّ تَقُولُ عَائِشَةُ، فَسَقَى اللهُ أَبَاكَ) أَيْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ.

(مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ) السَّلْسَبِيلُ اللَّبَنُ الَّذِي لَا خُشُونَةَ فِيهِ، وَالْخَمْرُ، وَعَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ اللهُ قال تعالى: { ... وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} (الإنسان: 17 - 18). (تُرِيدُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ) أَيْ تُرِيدُ عَائِشَةُ بِقَوْلِهَا أَبَاك عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ (وَقَدْ كَانَ وَصَلَ) مِنْ الصِّلَةِ، أَيْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَصَلَ (أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -) (بِمَالٍ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا) وَكَانَ اِبْنُ عَوْفٍ تَصَدَّقَ عَلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَدِيقَةٍ بِيعَتْ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا. وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَمِعْت رَسُولَ اللهٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ لِأَزْوَاجِهِ: «إِنَّ الَّذِي يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي هُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ»، اللَّهُمَّ اِسْقِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّة» (رواه الإمام أحمد في المسند، وحسنه الأرنؤوط). «اللَّهُمَّ اِسْقِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّة» هذا الدعاء من كلام أمِّ سلمة - رضي الله عنها -. ومنها الهمّ بسبب الدَّيْن: ومن أمثلة ذلك ما وقع للزبير بن العوام سدد خطاكم كما روى قصته ولده عَبْدُ اللهٍ بْنُ الزُّبَيْرِ سدد خطاكم فعن هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: «يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لا أُرَانِي إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟»، فَقَالَ: «يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي»، وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ - يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللهٍ بْنِ الزُّبَيْرِ - يَقُولُ ثُلُثُ الثُّلُثِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ»، قَالَ هِشَامٌ: «وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللهٍ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ - خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ - وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ». قَالَ عَبْدُ اللهٍ: «فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ، وَيَقُولُ: «يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلايَ»، قَالَ: «فَوَاللهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ حَتَّى قُلْتُ: «يَا أَبَتِ مَنْ مَوْلاكَ؟»، قَالَ: «اللهُ»، قَالَ: «فَوَاللهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلاّ قُلْتُ: «يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ» فَيَقْضِيهِ.

فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ سدد خطاكم، وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا إِلَّا أَرَضِينَ، مِنْهَا الغَابَةُ، وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ، وَدَارًا بِالكُوفَةِ، وَدَارًا بِمِصْرَ، وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي عَلَيْهِ، أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ، فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ، فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: «لاَ، وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ»، وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلاَ جِبَايَةَ خَرَاجٍ، وَلاَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ - رضي الله عنهم -. قَالَ عَبْدُ اللهٍ بْنُ الزُّبَيْرِ: «فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ»، قَالَ: «فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ اللهٍ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ أَخِي، كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ فَكَتَمَهُ؟»، فَقَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ»، فَقَالَ حَكِيمٌ: «وَاللهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ»، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: «أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟»، قَالَ: «مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي»، قَالَ: «وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُ اللهٍ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ». ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: «مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ، فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ»، فَأَتَاهُ عَبْدُ اللهٍ بْنُ جَعْفَرٍ، وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللهِ: «إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ»، قَالَ عَبْدُ اللهِ: «لاَ»، قَالَ: «فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ؟»، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: «لاَ»، قَالَ: «فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً»، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: «لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا»، قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ. فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، وَالمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: «كَمْ قُوِّمَتِ الغَابَةُ؟»، قَالَ: «كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ»، قَالَ: «كَمْ بَقِيَ؟» قَالَ: «أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ»، قَالَ المُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: «قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ»، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: «قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ»، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: «قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ»، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: «كَمْ بَقِيَ؟»، فَقَالَ: «سَهْمٌ وَنِصْفٌ»، قَالَ: «قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ». قَالَ: «وَبَاعَ عَبْدُ اللهٍ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ».

فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: «اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا»، قَالَ: «لَا، وَاللهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ». قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ، قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ. (رواه البخاري). (يَوْمَ الْجَمَلِ) الْوَقْعَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ سدد خطاكم وَمَنْ مَعَهُ وَبَيْنَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - وَمَنْ مَعَهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهِمُ الزُّبَيْرُ، وَنُسِبَتِ الْوَقْعَةُ إِلَى الْجَمَلِ لِأَنَّ يَعْلَى بْنَ أُمَيَّةَ الصَّحَابِيَّ الْمَشْهُورَ سدد خطاكم كَانَ مَعَهُمْ فَأَرْكَبَ عَائِشَةَ - رضي الله عنها - عَلَى جَمَلٍ عَظِيمٍ فَوَقَفَتْ بِهِ فِي الصَّفِّ فَلَمْ يَزَلِ الَّذِينَ مَعَهَا يُقَاتِلُونَ حَوْلَ الْجَمَلِ حَتَّى عُقِرَ الْجَمَلُ فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمُ الْهَزِيمَةُ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى أَوِ الْآخِرَةِ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ. (لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ) مَعْنَاهُ ظَالِمٌ عِنْدَ خَصْمِهِ، مَظْلُومٌ عِنْدَ نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَانَ يَتَأَوَّلُ أَنّه عَلَى الصَّوَاب، وَقيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ إِمَّا صَحَابِيٌّ مُتَأَوِّلٌ فَهُوَ مَظْلُومٌ وَإِمَّا غَيْرُ صَحَابِيٍّ قَاتَلَ لِأَجْلِ الدُّنْيَا فَهُوَ ظَالِمٌ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ أَوْ لِلشَّكِّ مِنَ الرَّاوِي وَأَنَّ الزُّبَيْرَ إِنَّمَا قَالَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ أَوْ لِلتَّنْوِيعِ، وَالْمَعْنَى لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا ظَالِمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللهَ يُعَجِّلُ لِلظَّالِمِ مِنْهُمُ الْعُقُوبَةَ أَوْ لَا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلَّا مَظْلُومٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ اللهَ يُعَجِّلُ لَهُ الشَّهَادَةَ، وَظَنَّ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ أَنَّهُ يُقْتَلُ مَظْلُومًا إِمَّا لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ كَانَ مُصِيبًا، وَإِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ سَمِعَ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَا سَمِعَ عَلِيٌّ سدد خطاكم وَهُوَ قَوْلُهُ لَمَّا جَاءَهُ قَاتِلُ الزُّبَيْرِ؛ فعَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ ابْنُ جُرْمُوزٍ عَلَى عَلِيٍّ وَأَنَا عِنْدَهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ: «بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ»، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا، وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ». (رواه الإمام أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وصححه، وصححه الذهبي وابن حجر، وقال الأرنؤوط: «إسناده حسن»).

(وَإِنِّي لَا أُرَانِي) - بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، مِنَ الظَّنِّ وَيَجُوزُ فَتْحُهَا - بِمَعْنَى الِاعْتِقَادِ وَظَنُّهُ أَنَّهُ سَيُقْتَلُ مَظْلُومًا قَدْ تَحَقَّقَ لِأَنَّهُ قُتِلَ غَدْرًا بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهُ عَلِيٌّ فَانْصَرَفَ عَنِ الْقِتَالِ فَنَامَ بِمَكَانٍ فَفَتَكَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُسَمَّى عَمْرَو بْنَ جُرْمُوزٍ. (وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللهِ - أَيِ بن الزُّبَيْرِ - قَدْ وَازَى)، أَيْ سَاوَى، وَالْمُرَادُ أَنه ساواهم فِي السن، والْمُرَادَ أَنَّهُ إِنَّمَا خَصَّ أَوْلَادَ عَبْدِ اللهِ دُونَ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَبِرُوا وَتَأَهَّلُوا حَتَّى سَاوَوْا أَعْمَامَهُمْ فِي ذَلِكَ فَجَعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا مِنَ الْمَالِ لِيَتَوَفَّرَ عَلَى أَبِيهِمْ حِصَّتُهُ. (خُبَيْبٌ) هُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. (الْغَابَةُ) أَرْضٌ عَظِيمَةٌ شَهِيرَةٌ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ. (لَا وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ) أَيْ مَا كَانَ يَقْبِضُ مِنْ أَحَدٍ وَدِيعَةً إِلَّا إِنْ رَضِيَ صَاحِبُهَا أَنْ يَجْعَلَهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَكَانَ غَرَضُهُ بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَخْشَى عَلَى الْمَالِ أَنْ يُضَيَّعَ فَيُظَنَّ بِهِ التَّقْصِيرُ فِي حِفْظِهِ؛ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ مَضْمُونًا فَيَكُونُ أَوْثَقَ لِصَاحِبِ الْمَالِ وَأبقى لمرُوءَتِه. (وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلاَ جِبَايَةَ خَرَاجٍ، وَلاَ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ - رضي الله عنهم -) أَيْ أَنَّ كَثْرَةَ مَالِهِ مَا حَصَلَتْ مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِظَنِّ السَّوْءِ بِأَصْحَابِهَا، بَلْ كَانَ كَسْبُهُ مِنَ الْغَنِيمَةِ. (فَحَسَبْتُ) مِنَ الْحِسَابِ. (فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ اللهٍ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: «يَا ابْنَ أَخِي، كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ فَكَتَمَهُ؟»، فَقَالَ: «مِائَةُ أَلْفٍ»، فَقَالَ حَكِيمٌ: «وَاللهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ»، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: «أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟»). إِنَّمَا قَالَ لَهُ مِائَةُ أَلْفٍ وَكَتَمَ الْبَاقِيَ لِئَلَّا يَسْتَعْظِمَ حَكِيمٌ مَا اسْتَدَانَ بِهِ الزُّبَيْرُ فَيَظُنُّ بِهِ عَدَمَ الْحَزْمِ وَبِعَبْدِ اللهِ عَدَمَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ فَيَنْظُرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ، فَلَمَّا اسْتَعْظَمَ حَكِيمٌ أَمْرَ مِائَةِ أَلْفٍ احْتَاجَ عَبْدُ اللهِ أَنْ يَذْكُرَ لَهُ الْجَمِيعَ وَيُعَرِّفَهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى وَفَائِهِ، وَكَانَ حَكِيمُ بن حزَام ابن عَمّ الزبير بن الْعَوام.

ولَيْسَ فِي قَوْلِهِ مِائَةُ أَلْفٍ وَكِتْمَانِهِ الزَّائِدَ كَذِبٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِبَعْضِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ صَادِقٌ. (وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ) أَيْ مَاتَ عَنْهُنَّ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ نَدْبُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ حُضُورِ أَمْرٍ يُخْشَى مِنْهُ الْفَوْتُ، وَأَنَّ لِلْوَصِيِّ تَأْخِيرُ قِسْمَةِ الْمِيرَاثِ حَتَّى تُوَفَّى دُيُونُ الْمَيِّتِ وَتُنَفَّذَ وَصَايَاهُ إِنْ كَانَ لَهُ ثُلُثٌ، وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَبْرِئَ أَمْرَ الدُّيُونِ وَأَصْحَابَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَأَنْ يُؤَخِّرَهَا بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ، وَإِلَّا فَمَنْ طَلَبَ الْقِسْمَةَ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي وَقَعَ الْعِلْمُ بِهِ وَصَمَّمَ عَلَيْهَا أُجِيبَ إِلَيْهَا وَلَمْ يُتَرَبَّصْ بِهِ انْتِظَارُ شَيْءٍ مُتَوَهَّمٍ، فَإِذَا ثَبَتَ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ اسْتُعِيدَ مِنْهُ. وَفِيهِ جَوَازُ التَّرَبُّصِ بِوَفَاءِ الدَّيْنِ إِذَا لَمْ تَكُنِ التَّرِكَةُ نَقْدًا وَلَمْ يَخْتَرْ صَاحِبُ الدَّيْنِ إِلَّا النَّقْدَ. وَفِيهِ جَوَازُ الْوَصِيَّةِ لِلْأَحْفَادِ إِذَا كَانَ مَنْ يَحْجُبُهُمْ مِنَ الْآبَاءِ مَوْجُودًا. وَفِيهِ أَنَّ الِاسْتِدَانَةَ لَا تُكْرَهُ لِمَنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْوَفَاءِ، وَفِيهِ جَوَازُ شِرَاءِ الْوَارِثِ مِنَ التَّرِكَةِ، وَأَنَّ الْهِبَةَ لَا تُمْلَكُ إِلَّا بِالْقَبْضِ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُ الْمَالَ عَنْ مِلْكِ الْأَوَّلِ؛ لِأَن بن جَعْفَر عَرَضَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنْ يُحِلِّلَهُمْ مِنْ دَيْنِهِ الَّذِي كَانَ على الزبير فَامْتنعَ ابن الزبير. وَفِيه بَيَان جود بن جَعْفَرٍ لِسَمَاحَتِهِ بِهَذَا الْمَالِ الْعَظِيمِ. وَفِيهِ مُبَالَغَةُ الزُّبَيْرِ فِي الْإِحْسَانِ لِأَصْدِقَائِهِ لِأَنَّهُ رَضِيَ أَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ وَدَائِعَهُمْ فِي غَيْبَتِهِمْ وَيَقُومُ بِوَصَايَاهُمْ عَلَى أَوْلَادِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَلَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتَّى احْتَاطَ لِأَمْوَالِهِمْ وَدِيعَةً أَوْ وَصِيَّةً بِأَنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ إِلَى تَصْيِيرِهَا فِي ذِمَّتِهِ مَعَ عَدَمِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهَا غَالِبًا وَإِنَّمَا يَنْقُلهَا مِنَ الْيَدِ للذمة مُبَالغَة فِي حفظهَا لَهُم. وَفِيهِ أَنْ لَا كَرَاهَةَ فِي الاستكثار من الزَّوْجَات والخدم.

وَفِيه بركَة الْعقار وَالْأَرْض لما فيه مِنَ النَّفْعِ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ بِغَيْرِ كَثِيرِ تَعَبٍ وَلَا دُخُولٍ فِي مَكْرُوهٍ كَاللَّغْوِ الْوَاقِعِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. وَفِيهِ شِدَّةُ أَمْرِ الدَّيْنِ لِأَنَّ مِثْلَ الزُّبَيْرِ مَعَ مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ السَّوَابِقِ وَثَبَتَ لَهُ مِنَ الْمَنَاقِبِ رَهِبَ مِنْ وُجُوهِ مُطَالَبَةِ مَنْ لَهُ فِي جِهَتِهِ حَقٌّ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَلَرُبَّ نَازِلَة ٍ يَضِيقُ بهَا الْفَتَى ... ذَرْعًا وعندَ اللهِ مِنها المخرجُ ضاقَتْ فلمَّا استحكمَتْ حلقاتُها ... فُرِجَتْ وكان يظنُّها لا تُفْرَجُ ومنها الهم للرؤيا يراها المرء: وقد وقع ذلك للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقَالَ: “ رَأَيْتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ أَنْفُخَهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَاذِبَيْنِ يَخْرُجَانِ مِنْ بَعْدِي يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: مَسْلَمَةُ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ وَالْعَنْسِيُّ صَاحِبُ صَنْعَاءَ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). ورواه البخاري بلفظ: «بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الأَرْضِ فَوُضِعَ فِي كَفِّي سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَبُرَا عَلَيَّ فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَذَهَبَا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا صَاحِبَ صَنْعَاءَ وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ». (رواه البخاري). (سِوَارَيْنِ) أَيْ قَلْبَيْنِ. (فَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا) أَيْ أَحْزَنَنِي، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ (فَكَبُرَا عَلَيَّ) قَالَ الْحَافِظُ هُوَ بِمَعْنَى الْعِظَمِ، وَإِنَّمَا عَظُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِكَوْنِ الذَّهَبِ مِمَّا حُرِّمَ عَلَى الرِّجَالِ. (فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ) هَذَا الْوَحْيَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَحْيِ الْإِلْهَامِ أَوْ عَلَى لِسَانِ الْمَلَكِ (أَنِ انْفُخْهُمَا فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا) وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى حَقَارَةِ أَمْرِهِمَا لِأَنَّ شَأْنَ الَّذِي يَنْفُخُ فَيَذْهَبُ بِالنَّفْخِ أَنْ يَكُونَ فِي غَايَةِ الْحَقَارَةِ، والْإِشَارَةَ إِنَّمَا هِيَ لِلْحَقَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ لَا

الْحِسِّيَّةِ، فإنَّ أَمْرَهُمَا كَانَ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَلَمْ يَنْزِلْ بِالْمُسْلِمِينَ قَبْلَهُ مِثْلُهُ، وَفِي طَيَرَانِهِمَا إِشَارَةٌ إِلَى اضْمِحْلَالِ أَمْرِهِمَا. (فَأَوَّلْتُهُمَا كَاذِبَيْنِ) إِنَّمَا أَوَّلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - السِّوَارَيْنِ بِالْكَذَّابَيْنِ لِأَنَّ الْكَذِبَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَلَمَّا رَأَى فِي ذِرَاعَيْهِ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَلَيْسَا مِنْ لُبْسِهِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حِلْيَةِ النِّسَاءِ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ مَنْ يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ، وَأَيْضًا فَفِي كَوْنِهِمَا مِنْ ذَهَبٍ وَالذَّهَبُ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى الْكَذِبِ، وَأَيْضًا فَالذَّهَبُ مُشْتَقٌّ مِنَ الذَّهَابِ فَعُلِمَ أَنَّهُ شَيْءٌ يَذْهَبُ عَنْهُ، وَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي نَفْخِهِمَا فَطَارَا، فَعَرَفَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُمَا أَمْرٌ، وَأَنَّ كَلَامَهُ بِالْوَحْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ يُزِيلُهُمَا عَنْ مَوْضِعِهِمَا، وَالنَّفْخُ يَدُلُّ عَلَى الْكَلَامِ. وفي الشريعة علاجات للهمّ الحاصل بسبب المنامات والأحلام المقلقة، ومنها التفل عن الشمال ثلاثًا، والاستعاذة بالله من الشيطان ثلاثًا، والاستعاذة بالله من شرّ ما رأى ثلاثًا، وأن يغَيّر الجنب الذي كان نائمًا عليه، أو يقوم يصلي، ولا يحدّث برؤياه تلك أحدًا من الناس. قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، وَالحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَنْفِثْ عَنْ شِمَالِهِ ثَلاَثًا، وَلْيَتَعَوَّذْ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَإِنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ» (رواه البخاري ومسلم). النفث: نفخٌ لطيفٌ لا رِيقَ معه. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الرُّؤْيَا مِنَ اللهِ، وَالحُلْمُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمُ الحُلُمَ يَكْرَهُهُ فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَسْتَعِذْ بِالله مِنْهُ، فَلَنْ يَضُرَّهُ» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ جَابِرٍ سدد خطاكمعَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا، وَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا، وَلْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ» (رواه مسلم). وقال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ، فَلَا يُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وَإِنْ رَأَى مَا يَكْرَهُ فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشَرِّهَا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ» (رواه مسلم). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ رُؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا، وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني).

86 - علاج الهموم

86 - علاج الهموم إذا اشتمَلَتْ علَى اليأسِ القلُوبُ ... وَضَاْقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيْبُ وأوْطَنَتْ المكارِهُ واستَقَرَّتْ ... وَأَرْسَتْ فِي أَمَاكِنِهَا الخُطُوْبُ ولم تَرَ لانْكِشَافِ الضُّرِّ وَجْهًا ... ولَا أغْنَى بحيلَتِه الأريبُ أتاكَ عَلَى قُنُوطٍ مِنكَ غوثُ ... يَمُنُّ به اللطيفُ المستجيبُ وكلُّ الحادِثاتِ إذا تَنَاهَتْ ... فَمَوْصُولٌ بِهَا فَرَجٌ قَرْيَبُ وَضَاْقَ بِمَا بِهِ الصَّدْرُ الرَّحِيْبُ: وَضَاْقَ الصَّدْرُ الرَّحِيْبُ بِمَا بِهِ من الهموم. خُطُوب: نوازل. أَريب: بصير بالأمور، ذو دهاء وفطنة. تناهت: بلغت نهايتَها. علاج الهموم: لا شك أن العقيدة تؤثر في المعالجة، فترى كثيرًا من الكفار وكذلك ضعفاء الإيمان يُصابون بالانهيار أو يُقدمون على الانتحار للتخلص من الكآبة والحبوط واليأس إذا ما وقعوا في ورطة أو أصابتهم مصيبة وكم مُلِئَتْ المستشفيات من مرضى الانهيارات العصبية والصدمات النفسية وكم أثَّرَتْ هذه الأمور على كثير من الأقوياء، فضلًا عن الضعفاء، وكم أدت إلى العجز التام أو فقدان العقل والجنون. أما من اهتدى بهدي الإسلام فإنه يجد العلاج فيما أتى من لدن العليم الخبير الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يُصْلِحُهُم؛ قال تعالى: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)} (الملك: 14). فهلم إلى استعراض بعض أنواع العلاجات التي جاءت في هذه الشريعة:

أولا: التسلّح بالإيمان المقرون بالعمل الصالح: قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)} (النحل: 97). وسبب ذلك واضح، فإن المؤمنين بالله الإيمان الصحيح، المثمر للعمل الصالح المصلح للقلوب والأخلاق والدنيا والآخرة، معهم أصول وأسس يتعاملون بها مع كلّ ما يَرِدُ عليهم من أنواع المسرات والأحزان. فيتلقون النّعم والمسارّ بقبولٍ لها، وشكرٍ عليها، ويستعملونها فيما ينفع، فإذا فعلوا ذلك أحسوا ببهجتها وطمعوا في بقائها وبركتها ورجاء ثواب شكرها وغير ذلك من الأمور العظيمة التي تفوق بخيراتها وبركاتها تلك المسرات. ويتلقون المكاره والمضار والهم والغم بالمقاومة لِما يُمْكِنُهُم مقاومته وتخفيف ما يمكنهم تخفيفه، والصبر الجميل لما ليس لهم عنه بُدٌّ، فيحصّلون منافع كثيرة من جَرَّاء حصول المكاره، ومن ذلك: المقاومات النافعة، والتجارب المفيدة، وقوة النفس، وأيضا الصبر واحتساب الأجر والثواب وغير ذلك من الفوائد العظيمة التي تضمحل معها المكاره، وتحل محلها المسار والآمال الطيبة، والطمع في فضل الله وثوابه، كما عبّر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن هذا المعنى بقوله: “ عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ» (رواه مسلم). وهكذا يكون النظر الإيجابي إلى الابتلاء. ثانيًا: النظر فيما يحصل للمسلم من تكفير الذنوب وتمحيص القلب ورفع الدرجة، إذا أصابته غموم الدنيا وهمومها: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلا كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» (رواه البخاري). وفي رواية مسلم: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلا نَصَبٍ وَلا سَقَمٍ وَلا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ».

فلْيَعْلم المهموم أن ما يصيبه من الأذى النفسي نتيجةً للهمّ لا يذهب سُدًى بل هو مفيد في تكثير حسناته وتكفير سيئاته، ولْيَعْلم المسلم أنه لولا المصائب لوَرَدْنا يوم القيامة مفاليس كما ذكر بعض السلف؛ ولذلك كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدنا بالرخاء. وإذا علم العبْدُ أن ما يصيبه من المصائب يكفّر عنه سيئاته فرح واستبشر، وخصوصًا إذا عُوجِل بشيء بعد الذنب مباشرة، قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ) أَيْ أَسْرَعَ (لَهُ الْعُقُوبَةَ) أَيِ الِابْتِلَاءَ بِالْمَكَارِهِ (فِي الدُّنْيَا) لِيَخْرُجَ مِنْهَا وَلَيْسَ عَلَيْهِ ذَنْبٌ، وَمَنْ فُعِلَ ذَلِكَ مَعَهُ فَقَدْ أَعْظَمَ اللُّطْفَ بِهِ وَالْمِنَّةَ عَلَيْهِ (أَمْسَكَ) أَيْ أَخَّرَ (عَنْهُ) مَا تَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ (بِذَنْبِهِ) أَيْ بِسَبَبِهِ (حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أَيْ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِذَنْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَعْنِي لَا يُجَازِيهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يَجِيءَ فِي الْآخِرَةِ مُتَوَفِّرَ الذُّنُوبِ وَافِيهَا فَيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنَ الْعِقَابِ. ثالثًا: معرفة حقيقة الدنيا: فإذا علم المؤمن أن الدنيا فانية، ومتاعَها قليل، وما فيها من لذة فهي مكدّرة ولا تصفو لأحد. إن أضحكت قليلًا أبكت طويلًا، وإن أعطت يسيرًا منعت كثيرًا، والمؤمن فيها محبوس كما قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ» (رواه مسلم). وهي كذلك نَصَبٌ وأذى وشقاء وعناء؛ ولذلك يستريح المؤمن إذا فارقها كما جاء عن أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، قَالُوا: «يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ»، قَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ» (رواه البخاري).

وموت المؤمن راحة له من غموم دار الدنيا وهمومها وآلامها كما في الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا قُبِضَ أَتَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ بِحَرِيرَةٍ بَيْضَاءَ، فَتَقُولُ: «اخْرُجِي إِلَى رَوْحِ اللهِ»، فَتَخْرُجُ كَأَطْيَبِ رِيحِ مِسْكٍ حَتَّى إِنَّهُمْ لَيُنَاوِلُهُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَشُمُّونَهُ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ بَابَ السَّمَاءِ، فَيَقُولُونَ: «مَا هَذِهِ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ الَّتِي جَاءَتْ مِنَ الْأَرْضِ؟»، وَلَا يَأْتُونَ سَمَاءً إِلَّا قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى يَأْتُونَ بِهِ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَهُمْ أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنْ أَهْلِ الْغَائِبِ بِغَائِبِهِمْ، فَيَقُولُونَ: «مَا فَعَلَ فُلَانٌ؟»، فَيَقُولُونَ: «دَعُوهُ حَتَّى يَسْتَرِيحَ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي غَمِّ الدُّنْيَا» (رواه ابن حبان وغيره، وصححه الألباني). إن هذا المعنى الذي يدركه المؤمن لحقيقة الدنيا يُهوّن عليه كثيرًا من وقع المصاب وألم الغمّ ونكد الهمّ؛ لأنه يعلم أنه أمر لا بدّ منه فهو من طبيعة هذه الحياة الدنيا. رابعًا: ابتغاء الأسوة بالرسل - عليهم السلام - وبالصالحين واتخاذهم مَثلا وقدوة: وهم أشد الناس بلاءً في الدنيا، والمرء يبتلى على قدر دينه، والله إذا أحب عبدًا ابتلاه، وقد سأل سعد سدد خطاكم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً»، قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). خامسًا: أن يجعل العبد الآخرة همه لكي يجمع الله له شمله لما رواه أنس سدد خطاكم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

(مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ) أَيْ قَصْدُهُ وَنِيَّتُهُ، (جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ) أَيْ جَعَلَهُ قَانِعًا بالكفاف والكِفَاية كَيْلَا يَتْعَبَ فِي طَلَبِ الزِّيَادَةِ (وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ) أَيْ أُمُورَهُ الْمُتَفَرِّقَةَ بِأَنْ جَعَلَهُ مَجْمُوعَ الْخَاطِرِ بِتَهْيِئَةِ أَسْبَابِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ (وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا) أَيْ مَا قُدِّرَ وَقُسِمَ لَهُ مِنْهَا (وَهِيَ رَاغِمَةٌ) أَيْ ذَلِيلَةٌ حَقِيرَةٌ تَابِعَةٌ لَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي طَلَبِهَا إِلَى سَعْيٍ كَثِيرٍ بَلْ تَأْتِيهِ هَيِّنَةً لَيِّنَةً عَلَى رَغْمِ أَنْفِهَا وَأَنْفِ أَرْبَابِهَا (وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ) أَيْ جِنْسَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْخَلْقِ كَالْأَمْرِ المحسوس مَنْصُوبًا بَيْنَ عَيْنَيْهِ (وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ) أَيْ أُمُورَهُ الْمُجْتَمَعَةَ (وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ) أَيْ وَهُوَ رَاغِمٌ فَلَا يَأْتِيهِ مَا يَطْلُبُ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى رَغْمِ أَنْفِهِ وَأَنْفِ أَصْحَابِهِ. قال ابن القيم - رحمه الله -: «إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمّل الله عنه سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كلّ ما أهمّه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمّله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكَلَه إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، ولسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره. فكلّ من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بُلِيَ بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته. قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)} (الزخرف: 36)». سادسًا: ذكر الموت: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» يَعْنِي الْمَوْتَ. (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وعَن أَنَسسدد خطاكم أَن رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - مَرَّ بِمَجْلِسٍ وَهُمْ يَضْحَكُونَ فَقَالَ: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ، فَإِنَّهُ مَا ذَكَرَهُ أَحَدٌ فِي ضِيقٍ مِنَ الْعَيْشِ إلاَّ وَسَّعَهُ عَلَيْهِ، ولَا فِي سَعَةٍ إلاَّ ضَيَّقَهُ عَلَيْهِ» (رواه البزار، وحسنه الألباني).

(هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) بالذال المُعْجَمَة أي قاطعها. ويجتمل أن يكون بالدال المهملة، والمراد على التقديرين الموت فإنه يقطع لذات الدنيا قطعًا. (أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ) أَي نغصوا بِذكرِهِ لَذَّاتِكُم حَتَّى يَنْقَطِع رُكُونَكُم إِلَيْهَا فتُقْبِلوا على الله - عز وجل -. والإكثار من ذكر الموت عَظِيم النَّفْع؛ إِذْ بِهِ ينقص حبّ الدُّنْيَا وتنقطع علاقَة الْقلب عَنْهَا، ولو فكر البُلَغاءُ في قول المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك لَعَلموا أنه أتى بهذا القليل على كل ما قيل في ذكر الموت ووُصِفَ به نظمًا ونثرًا. وقال أبو حمزة الخراساني: «من أكثر ذكر الموت حُبِّبَ إليه كلُّ باق، وبُغِّضَ إليه كلُّ فانٍ». وقال القرطبي: «ذِكْرُ الموت يُورِثُ استشعار الانزعاج عن هذه الدار الفانية والتوجه في كل لحظة إلى الآخرة الباقية ثم إن الإنسان لا ينفك عن حالين: ضيق وسعة ونعمة ومحنة؛ فإن كان في حال ضيق ومحنة فذكر الموت يسهل عليه ما هو فيه من الاغترار بها والركون إليها». وقيل: «لا يدخل ذِكْرُ الموتِ بيتًا إلا رَضِيَ أهلُه بما قُسِمَ لهم». أخي ما بالُ قلبِكَ ليسَ يَنْقَى ... كأنّكَ لا تظنُ الموتَ حقّا ألَا يا ابْنَ الذينَ فَنَوْا وماتُوا ... أمَا واللهِ ما ذهبُوا لِتَبْقَى سابعًا: دعاء الله تعالى: ومنه ما هو وقاية ومنه ما هو علاج، فأما الوقاية فإن على المسلم أن يلجأ إلى الله - عز وجل - ويدعوه متضرعًا إليه بأن يعيذه من الهموم ويباعد بينه وبينها، كما كان يفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فقد قال خادمه أنس بن مالك سدد خطاكم واصفًا حال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» (رواه البخاري). (ضَلَع الدَّيْن) ثقله وشدته. (غَلَبَة الرِّجَال) قَهْرهم. وهذا الدعاء مفيد لدَفْع الهَمّ قبل وقوعه، والدفع أسهل من الرفع.

ومن أنفع ما يكون في ملاحظة مستقبل الأمور استعمال هذا الدعاء الذي كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يدعو به؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» (رواه مسلم). فإذا وقع الهم وألمّ بالمرء، فباب الدعاء مفتوح غير مغلق، والكريم - عز وجل - إن طُرِق بابه وسُئِل أعطَى وأجاب. قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 186). ومن أعظم الأدعية في إذهاب الهمّ والغم والإتيان بعده بالفرج: الدعاء العظيم المشهور الذي حثّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كلّ من سمعه أن يتعلّمه ويحفظه، فقد قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرحًا»، قَالَ: فَقِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَلا نَتَعَلَّمُهَا؟»، فَقَالَ: «بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني، وقال أحمد شاكر: «إسناده صحيح»). هذا الحديث العظيم فيه اعترافُ العبد أنه مملوك لله وأنه لا غِنَى له عنه، وليس له سيد سواه، والتزامٌ بعبوديته وإعلانُ الخضوعِ والامتثالِ لأمْره ونهْيِه، وأن الله يصرّفه ويتحكّم فيه كيف يشاء، وإذعانٌ لحكم الله ورِضًى بقضائه، وتوسُّلٌ إلى الله بجميع أسمائه قاطبة، ثم سؤالُ المطلوب ونُشْدَانُ المرغوب. (وابْنُ أمَتِكَ) أي ابن جاريتك وهو اعتراف بالعبودية. (نَاصِيَتِي بِيَدِكَ) أي لا حول ولا قوة إلا بك، وهذا يدل على كمال قدرته تعالى على التصرف فيه، كما قال تعالى:

{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (هود: 56). (مَاضٍ) أي ثابت ونافذ (فِيَّ) أي في حقي (حُكْمُك) أي الأمري أو الكوني كإهلاك وإحياء ومنع وعطاء، فلا رَادّ لما قضيت. (عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ) أي ما قَدَّرْتَه عليَّ لأنك تصرفتَ في ملكك على وفق حكمتك؛ لأنك المالك من كل الوجوه، فلا يُتَصَوَّر الظلمُ في قضائك. (أوْ أنْزَلْتَه فِي كِتَابِكَ) أي: من الكتب السماوية، أي في جنس الكتب المنزلة. (اسْتَأثَرْتَ) أي تفرَّدْتَ به. واخترته واصطفيته في علمك مخزونًا عندك. (أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي) رَبِيعَ قَلْبِي: أي: متنزهه، ومكان رَعْيِه وانتفاعه بأنواره وأزهاره وأشجاره وثماره، المشبه بها أنواع العلوم والمعارف وأصناف الحكم والأحكام واللطائف. والربيع المطر الذي يحيى الأرض، شَبَّه القرآن به لحياة القلوب به، فتضمن الدعاء أن يُحْيِيَ قَلْبَه بربيع القرآن وأن يُنَوِّرَ به صدره فتجتمع له الحياة والنور، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام: 122). ولما كان الصدر أوسع من القلب كان النور الحاصل له يسري منه الى القلب لأنه قد حصل لما هو أوسع منه، ولما كانت حياة البدن والجوارح كلها بحياة القلب تسري الحياة منه الي الصدر ثم الى الجوارح سأل الحياة له بالربيع الذي هو مادتها، ولما كان الحزن والهم والغم يضاد حياة القلب واستنارته سأل أن يكون ذهابها بالقرآن؛ فإنها أحْرَى أن لا تعود، وأما إذا ذهبت بغير القرآن من صحة أو دنيا أو جاه أو زوجة أو ولد فإنها تعود بذهاب ذلك. (جِلاءَ حُزْنِي) أي: إزالة حزني. وقد ورد في السنّة النبوية أدعية أخرى بشأن الغم والهم والكرب ومنها:

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لَا إِلَهَ إِلّا اللهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلا اللهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الأَرْضِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» (رواه البخاري). وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سدد خطاكم قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني). وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهُنَّ عِنْدَ الْكَرْبِ أَوْ فِي الْكَرْبِ: اللهُ اللهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا». (رواه أبو داود، وصححه الألباني). ومن الأدعية النافعة في هذا الباب أيضًا ما علَّمَنَاه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بقوله: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو؛ فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ؛ لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). فإذا لهج العبد بهذه الأدعية بقلبٍ حاضر، ونية صادقة، مع اجتهاده في تحصيل أسباب الإجابة، حقق الله له ما دعاه ورجاه وعمل له، وانقلب همه فرحًا وسرورًا. وكمْ للهِ منْ تدبيرِ أمْرٍ ... طَوَتْهُ عنِ المشاهدة ِالغُيوبُ وكمْ في الغيبِ مِنْ تيسيرِ عُسْرٍ ... ومِنْ تفْريجِ نائبةٍ ٍ تنوبُ ومِنْ كَرَمٍ ومِنْ لُطفٍ خَفِيٍّ ... ومِنْ فَرَجٍ تَزولُ بهِ الكُروبُ ومَاليَ غيرُ بابِ اللهِ بابٌ ... ولا مَوْلَى سِواهُ ولا حَبيبُ كريمٌ مُنعمٌ برٌّ لطيفٌ ... جميلُ السِّترِ للدّاعِي مُجيبُ حليمٌ لا يُعاجِلُ بالخطايَا ... رَحيمٌ غيثُ رحمتِهِ يَصُوبُ نائبة: نازلة أو مصيبة. يَصُوبُ: ينصبّ وينزل. ثامنًا: الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: وهي من أعظم ما يفرج الله به الهموم؛ فالصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب لغفران الذنوب وسبب لكفاية العبد ما أهمه من أمر الدنيا والآخرة؛ فعن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ سدد خطاكم

قال: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا اللهَ، اذْكُرُوا اللهَ، جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ». قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟»، فَقَالَ: «مَا شِئْتَ». قُلْتُ: «الرُّبُعَ؟». قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ: «النِّصْفَ؟». قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ: «فَالثُّلُثَيْنِ؟». قَالَ: «مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ: «أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟». قَالَ: «إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني). قول أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ سدد خطاكم: «أكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلَاتِي؟» مَعْنَاهُ: إني أُكْثِرُ الدُّعَاءَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَك مِنْ دُعَائِي صَلَاةً عَلَيْك. (قُلْتُ أَجْعَلُ لَك صَلَاتِي كُلَّهَا) أَيْ أَصْرِفُ بِصَلَاتِي عَلَيْك جَمِيعَ الزَّمَنِ الَّذِي كُنْت أَدْعُو فِيهِ لِنَفْسِي. (قَالَ إِذًا تُكْفَى هَمَّك) الْهَمُّ مَا يَقْصِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، يَعْنِي إِذَا صَرَفْت جَمِيعَ أَزْمَانِ دُعَائِك فِي الصَّلَاةِ عَلَيَّ أُعْطِيتَ مَرَامَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وفي رواية للإمام أحمد (إسنادها جيد) عن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: «يَا رَسُولَ الله، أَرَأَيْتَ إِنْ جَعَلْتُ صَلَاتِي كُلَّهَا عَلَيْكَ؟». قَالَ: «إِذَنْ يَكْفِيَكَ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - مَا أَهَمَّكَ مِنْ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ».

87 - من طرق علاج الهموم

87 - من وسائل علاج الهموم (¬1) تاسعًا: التوكل على الله - عز وجل - وتفويض الأمر إليه: فمن علم أن الله على كل شيء قدير، وأنه المتفرد بالاختيار والتدبير. وأن تدبيره لعبده خير من تدبير العبد لنفسه وأنه أعلم بمصلحة العبد من العبد، وأقْدَر على جلبها وتحصيلها منه، وأنصح للعبد لنفسه وأرحم به منه بنفسه، وأبرّ به منه بنفسه. وعلم مع ذلك أنه لا يستطيع أن يتقدم بين يدَيْ تدبيره خطوة واحدة ولا يتأخر عن تدبيره له خطوة واحدة، فلا متقدم له بين يدي قضائه وقدره ولا متأخر. فألقى نفسه بين يديه وسلّم الأمر كله إليه، وانطرح بين يديه انطراح عبد مملوك ضعيف بين يدي ملك عزيز قاهر له التصرف في عبده بما شاء، وليس للعبد التصرف فيه بوجه من الوجوه، فاستراح حينئذ من الهموم والغموم والأنكاد والحسرات. وحمَّل كل حوائجه ومصالحه مَن لا يبالي بحملها ولا يثقله ولا يكترث بها. فتولاها دونه وأرَاهُ لطفَه وبِرَّه ورحمته وإحسانه فيها من غير تعب من العبد ولا نصب، ولا اهتمام منه؛ لأنه قد صرف اهتمامه كله إليه وجعله وحدَه هَمَّه. فصَرَف عنه اهتمامه بحوائجه ومصالح دنياه، وفرَّغ قلبه منها، فما أطيبَ عيشه وما أنعم قلبه وأعظم سروره وفرحه. وأما مَن أبَى إلا تدبيره لنفسه واختياره لها واهتمامه بحظه دون حق ربه، خلاه وما اختاره وولاه ما تولى فحضره الهم والغم والحزن والنكد والخوف والتعب، وكسف البال وسوء الحال، فلا قلب يصفو، ولا عمل يزكو، ولا أمل يحصل، ولا ¬

_ (¬1) بتصرف من رسالة علاج الهموم للشيخ محمد صالح المنجد.

راحة يفوز بها، ولا لذة يتهنى بها، بل قد حِيلَ بينه وبين مسرته وفرحه وقرة عينه. فهو يكدح في الدنيا كدح الوحش ولا يظفر منها بأمل ولا يتزود منها لمعاد. ومتى اعتمد القلب على الله، وتوكل عليه، ولم يستسلم للأوهام ولا ملكته الخيالات السيئة، ووثق بالله وطمع في فضله، اندفعت عنه بذلك الهموم والغموم، وزالت عنه كثير من الأسقام القلبية والبدنية، وحصل للقلب من القوة والانشراح والسرور ما لا يمكن التعبير عنه، والمعافَى من عافاه الله ووفقه لجهاد نفسه لتحصيل الأسبابِ النافعةِ المقويةِ للقلبِ، الدافعةِ لقلقه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (الطلاق: 3) أي كافِيهِ جميع ما يهمه من أمر دينه ودنياه. فالمتوكل على الله قوي القلب لا تؤثر فيه الأوهام، ولا تزعجه الحوادث لعلمه أن ذلك من ضعف النفس ومن الخور والخوف الذي لا حقيقة له، ويعلم مع ذلك أن الله قد تكفل لمن توكل عليه بالكفاية التامة، فيثق بالله ويطمئن لوعده، فيزول همه وقلقه، ويتبدل عسره يسرا، وتَرَحَه فرحًا، وخوفه أمنا فنسأله تعالى العافية وأن يتفضل علينا بقوة القلب وثباته بالتوكل الكامل الذي تكفل الله لأهله بكل خير، ودفع كل مكروه وضَيْر. عاشرًا: الحرص على ما ينفع والاهتمام بعمل اليوم الحاضر: ومما يدفع الهم والقلق الحرص على ما ينفع واجتماع الفكر كله على الاهتمام بعمل اليوم الحاضر، وقطعه عن الاهتمام في الوقت المستقبل، وعن الحزن على الوقت الماضي. ولهذا استعاذ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الهم والحزن، فالحزن على الأمور الماضية التي لا يمكن ردها ولا استدراكها والهم الذي يحدث بسببه الخوف من المستقبل، فيكون العبد ابن يومه، يجمع جده واجتهاده في إصلاح يومه ووقته الحاضر، فإن جمع القلب على ذلك يوجب تكميل الأعمال، ويتسلى به العبد عن الهم والحزن.

والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا دعا بدعاء أو أرشد أمته إلى دعاء فهو يحث مع الاستعانة بالله والطمع في فضله على الجد والاجتهاد في التحقق لحصول ما يدعو لدفعه؛ لأن الدعاء مقارِن للعمل، فالعبد يجتهد فيما ينفعه في الدين والدنيا، ويسأل ربه نجاح مقصده. ويستعينه على ذلك كما جاء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَلا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلا تَقُلْ: «لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا»، وَلَكِنْ قُلْ: «قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ»، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (رواه مسلم). فجمع - صلى الله عليه وآله وسلم - بين الأمر بالحرص على الأمور النافعة في كل حال، والاستعانة بالله، وعدم الانقياد للعجز الذي هو الكسل الضار، وبين الاستسلام للأمور الماضية النافذة، ومشاهدة قضاء الله وقدره، وجعل الأمور قسمين: 1 - قسمًا يمكن للعبد السعي في تحصيله أو تحصيل ما يمكن منه، أو دَفْعه أو تخفيفه، فهذا يُبْدِي فيه العبد مجهوده ويستعين بمعبوده. 2 - وقسمًا لا يمكن فيه ذلك، فهذا يطمئن له العبد ويرضى ويسلم، ولا ريب أن مراعاة هذا الأصل سبب للسرور وزوال الهم والغم. والحديث المذكور يدلّ على السعي في إزالة الأسباب الجالبة للهموم وفي تحصيل الأسباب الجالبة للسرور، وذلك بنسيان ما مضى عليه من المكاره التي لا يمكنه ردها، ومعرفته أن اشتغال فكره فيها من باب العبث والمحال، وأن ذلك حمق وجنون، فيجاهد قلبه عن التفكر فيها وكذلك يجاهد قلبه عن قلقه لما يستقبله، مما يتوهمه من فقر أو خوف أو غيرهما من المكاره التي يتخيلها في مستقبل حياته. فيعلم أن الأمور المستقبلة مجهولٌ ما يقعُ فيها من خير وشر وآمال وآلام، وأنها بيد العزيز الحكيم، ليس بيد العباد منها شيء إلا السعي في تحصيل خيراتها، ودَفْع

مضراتها ويعلم العبد أنه إذا صرف فكره عن قلقه من أجل مستقبل أمره، واتكل على ربه في إصلاحه، واطمأن إليه في ذلك صلحت أحوالُه، وزال عنه همُّه وقلقُه. إذَا أصبَحْتُ عندِي قوتُ يومِي ... فَخَلِّ الهَمَّ عنِّي يا سعيدُ ولا تُخْطَرْ همُومُ غَدٍ بِبالي ... فإنَّ غدًا له رزقٌ جديدُ أُسَلِّمُ إنْ أرادَ اللهُ أمْرًا ... فأتْرُكُ ما أريدُ لِمَا يريدُ الحادي عشر: الإكثار من ذكر الله: ومن أكبر الأسباب لانشراح الصدر وطمأنينته الإكثار من ذكر الله؛ فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في انشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)} (الرعد:28). ذكر - سبحانه وتعالى - علامة المؤمنين فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أي: يزول قلقها واضطرابها، وتحضرها أفراحها ولذاتها. {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: حقيق بها وحريٌّ أن لا تطمئن لشيء سوى ذكره، فإنه لا شيء ألذ للقلوب ولا أشهى ولا أحلَى من محبة خالقها، والأنْسَ به ومعرفته، وعلى قدر معرفتها بالله ومحبتها له، يكون ذِكْرُها له. وأعظم الأذكار لعلاج الهمّ العظيم الحاصل عند نزول الموت: لا إله إلا الله. الثاني عشر: اللجوء إلى الصلاة: قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} (البقرة:45)، وعَنْ حُذَيْفَةَ سدد خطاكم قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). (إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ) أَيْ نَزَلَ بِهِ أَمْرٌ مُهِمٌّ أَوْ أَصَابَهُ غَمٌّ.

الثالث عشر: الجهاد في سبيل الله: ومما يفرج الهم أيضا الجهاد في سبيل الله، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، يُذْهِبُ اللهُ بِهِ الْهَمَّ وَالْغَمَّ “ (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني). الرابع عشر: التحدث بنعم الله الظاهرة والباطنة: فإن معرفتها والتحدث بها يدفع الهم والغم، ويحث العبد على الشكر الذي هو أرفع المراتب وأعلاها حتى ولو كان العبد في حالة فقر أو مرض أو غيرهما من أنواع البلايا. فإنه إذا قابل بين نعم الله عليه التي لا تُحْصَى ولا تُعَدّ وبين ما أصابه من مكروه، لم يكن للمكروه إلى النعم نسبة، بل المكروه والمصائب إذا ابتلى الله بها العبد، وأدى فيها وظيفة الصبر والرِّضَى والتسليم، هانَتْ وطْأتُها، وخفَّتْ مُؤْنَتُها، وكان تأميل العبد لأجرها وثوابها والتعبد لله بالقيام بوظيفة الصبر والرضا، يدع الأشياء المرة حلوة فتنسيه حلاوةُ أجرِها مرارةَ صبرِها. ومن أنفع الأشياء في هذا الموضع استعمال ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ» (رواه مسلم). مَعْنَى (أَجْدَر) أَحَقّ، و (تَزْدَرُوا) تُحَقِّرُوا. هَذَا حَدِيث جَامِع لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْخَيْر؛ لِأَنَّ الْإِنْسَان إِذَا رَأَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا طَلَبَتْ نَفْسه مِثْل ذَلِكَ، وَاسْتَصْغَرَ مَا عِنْده مِنْ نِعْمَة اللهُ تَعَالَى، وَحَرَصَ عَلَى الِازْدِيَاد لِيَلْحَق بِذَلِكَ أَوْ يُقَارِبهُ. هَذَا هُوَ الْمَوْجُود فِي غَالِب النَّاس. وَأَمَّا إِذَا نَظَرَ فِي أُمُور الدُّنْيَا إِلَى مَنْ هُوَ دُونه فِيهَا ظَهَرَتْ لَهُ نِعْمَة اللهُ - سبحانه وتعالى - عَلَيْهِ، فَشَكَرَهَا، وَتَوَاضَعَ، وَفَعَلَ فِيهِ الْخَيْر.

وليس في الدنيا أحد لا يجد من هو أفضل منه في شيء، ومن هو أقل منه في أشياء؛ فإن كنت فقيرًا ففي الناس مَن هو أفقر منك! وإن كنت مريضًا أو معذبًا ففيهم مَن هو أشد منك مرضًا وأكثر تعذيبًا، فلماذا ترفعُ رأسك لتنظرَ من هو فوقك، ولا تُخْفِضُه لتُبْصِرَ مَن هو تحتك؟! إن كنت تعرف مَن نال من المال والجاه ما لم تَنَلْه أنت وهو دونك ذكاءً ومعرفة وخلقًا، فلِمَ لا تذكر مَن أنت دونه أو مثله في ذلك كله وهو لم يَنَلْ بعض ما نِلْتَ؟! وإن العبد إذا نصب بين عينيه هذا الملحظ الجليل، رأى نفسه يفوق قطعًا كثيرًا من الخلق في العافية وتوابعها، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال، فيزول قلقه وهمه وغمه، ويزداد سروره واغتباطه بنعم الله - عز وجل - التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها. وكلما طال تأمُّلُ العبدِ في نِعمِ الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربَّه قد أعطاه خيرًا كثيرًا ودفع عنه شرورًا متعددة، ولا شك أن هذا يدفع الهموم والغموم، ويوجب الفرح والسرور. الخامس عشر: الانشغال بعمل من الأعمال أو علم من العلوم النافعة: فإنها تلهي القلب عن اشتغاله بذلك الأمر الذي أقلقه. وربما نسي بسبب ذلك الأسباب التي أوجبت له الهم والغم، ففرحَتْ نفْسُه، وازداد نشاطُه، وهذا السبب أيضا مشترك بين المؤمن وغيره. ولكن المؤمن يمتاز بإيمانه وإخلاصه واحتسابه في اشتغاله بذلك العلم الذي يتعلمه أو يعلمه، ويعمل الخير الذي يعمله، إن كان عبادة فهو عبادة وإن كان شغله دنيويًا أو عادة دنيوية أصحَبَها النية الصالحة، وقصَدَ الاستعانة بذلك على طاعة الله، فلذلك أثره الفعال في دفع الهموم والغموم والأحزان. فكم من إنسان ابتلي بالقلق وملازمة الأكدار، فحلت به الأمراض المتنوعة فصار دواءه الناجح: نسيانه السبب الذي كدره وأقلقه، واشتغاله بعمل من مهماته.

وينبغي أن يكون الشغل الذي يشتغل فيه مما تأنس به النفس وتشتاقه؛ فإن هذا أدعَى لحصول هذا المقصود النافع. السادس عشر: النظر إلى الجوانب الإيجابية للأحداث التي يظهر منها بعض ما يُكره: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» (رواه مسلم). ومن فوائد هذا الحديث: زوال الهم والقلق وبقاء الصفاء، والمداومة على القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة وحصول الراحة بين الطرفين، ومن لم يسترشد بهذا الذي ذكَره النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - بل عكَسَ القضية فلحظ المساوىء، وعَمِيَ عن المحاسن، فلا بد أن يقلق، ولابد أن يتكدر ما بينه وبين من يتصل به من المحبة، ويخلّ بكثير من الحقوق التي على كُل منهما المحافظة عليها. السابع عشر: معرفة القيمة الحقيقية للحياة وأنها قصيرة وأنّ الوقت أغلى من أن يذهب في الهمّ والغمّ: فالعاقل يعلم أن حياته الصحيحة حياة السعادة والطمأنينة وأنها قصيرة جدًا، فلا ينبغي له أن يقصرها بالهم والاسترسال مع الأكدار فإن ذلك ضد الحياة الصحيحة، فيشح بحياته أن يذهب كثير منها نهبًا للهموم والأكدار ولا فرق في هذا بين البَرّ والفاجر، ولكن المؤمن له من التحقق بهذا الوصف الحظ الأوفر، والنصيب النافع العاجل والآجل. وينبغي أيضًا إذا أصابه مكروه أو خاف منه أن يقارن بين النعم الحاصلة له - دينية أو دنيوية - وبين ما أصابه من مكروه، فعند المقارنة يتضح كثرة ما هو فيه من النعم، واضمحلال ما أصابه من المكاره.

فاجعل الأمور النافعة نصب عينيك واعمل على تحقيقها، ولا تلتفت إلى الأمور الضارة لتلهو بذلك عن الأسباب الجالبة للهم والحزن واستعن بالراحة وإجماع النفس على الأعمال المهمة. الثامن عشر: عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات: ومن الأمور النافعة عدم السماح بتراكم الأعمال والواجبات، وذلك بحسمها في الحال والتفرغ للمستقبل؛ لأن الأعمال إذا لم تُحسم اجتمع عليك بقية الأعمال السابقة وانضافت إليها الأعمال اللاحقة، فتشتد وطأتها، فإذا حَسَمْتَ كُلَّ شيء في وقته تفّرغْتَ للأمور المستقبَلَة بقوة تفكير وقوة عمل. وينبغي أن تتخير من الأعمال النافعة الأهم فالأهم، ومَيِّزْ بين ما تميل نفسك إليه وتشتد رغبتُك فيه، فإن ضده يُحْدِثُ السآمة والملل والكدر، واستعن على ذلك بالفكر الصحيح والمشاورة، فما ندم من استشار، وادرس ما تريد فعله درسًا دقيقًا، فإذا تحققت المصلحة وعزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين. التاسع عشر: التوقع المستمر والاستعداد النفسي لجميع الاحتمالات: فإن الإنسان إذا استحضر في نفسه فَقْدَ عزيز أو مرض قريب أو وقوعًا في دين أو قهر عدو أو أي احتمال سيئ مما لم يحدث بعد - مع استعاذته بالله من ذلك ورجاء السلامة - فإنه لو وقع له شيء من ذلك حقيقة سيكون أهون عليه وأخف وطأة لتوقعه المسبق. ومما ينبغي التنبّه له أن كثيرًا من الناس من ذوي الهمم العالية يوطنون أنفسهم عند وقوع الكوارث والمزعجات على الصبر والطمأنينة. لكن عند الأمور التافهة البسيطة يقلقون، ويتكدر الصفاء، والسبب في هذا أنهم وطّنُوا نفوسهم عند الأمور الكبار، وتركوها عند الأمور الصغار فضَرَّتْهُم وأثرت في راحتهم. فالحازم يُوَطّن نفسه على الأمور الصغيرة والكبيرة ويسأل الله الإعانة عليها، وأن لا يَكِلَه إلى نفسه طرفة

عين. فعند ذلك يسهل عليه الصغير، كما سهل عليه الكبير ويبقى مطمئن النفس ساكن القلب مستريحًا. العشرون: الشكوى إلى أهل العلم والدين: ومن العلاجات أيضا الشكوى إلى أهل العلم والدين وطلب النصح والمشورة منهم، فإن نصائحهم وآراءهم من أعظم المُثَبِّتَات في المصائب. فيسمع المسلم من أهل العلم والقدوة ما يسليه ويخفف عنه آلام غمومه وهمومه. وقد شكى الصحابة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما كانوا يلقون من تعذيب، فهذا خَبَّاب ابْن الأَرَتِّ سدد خطاكم يقول: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ قُلْنَا لَهُ: «أَلا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلا تَدْعُو اللهَ لَنَا»، قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (رواه البخاري). وكذلك شكى التابعون إلى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، يقول الزبير بن عدي: «أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اصْبِرُوا فَإِنَّهُ لا يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (رواه البخاري). الحادي والعشرون: أن يعلم المهموم والمغموم أن بعد العسر يسرًا، وأن بعد الضيق فرجًا: فليحسن الظن بالله فإنه جاعل له فرجًا ومخرجًا. وكلما استحكم الضيق وازدادت الكربة قرب الفرج والمخرج. وقد قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} (الشرح: 5 – 6)، فذكر عسرًا واحدًا ويسرين، فالعسر المقترن بأل في الآية

الأولى هو العسر في الآية الثانية، أما اليسر في الآية الثانية فهو يسر آخر غير الذي في الآية الأولى. وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في وصيته لابن عباس - رضي الله عنهما -: «وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني). الثاني والعشرون: ومن علاجات الهموم ما يكون بالأطعمة: فعن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - أَنَّهَا كَانَتْ تَأْمُرُ بِالتَّلْبِينِ لِلْمَرِيضِ وَلِلْمَحْزُونِ عَلَى الْهَالِكِ، وَكَانَتْ تَقُولُ: «إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «إِنَّ التَّلْبِينَةَ تُجِمُّ فُؤَادَ الْمَرِيضِ وَتَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ». (رواه البخاري). وعَنْها أيضًا - رضي الله عنها - أَنَّهَا كَانَتْ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ مِنْ أَهْلِهَا فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النِّسَاءُ ثُمَّ تَفَرَّقْنَ إِلا أَهْلَهَا وَخَاصَّتَهَا، أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ، ثُمَّ صُنِعَ ثَرِيدٌ فَصُبَّتِ التَّلْبِينَةُ عَلَيْهَا، ثُمَّ قَالَتْ: «كُلْنَ مِنْهَا فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «التَّلْبِينَةُ مُجِمَّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ تَذْهَبُ بِبَعْضِ الْحُزْنِ». والتلبينة: هي حساء يعمل من دقيق أو نخالة ويجعل فيه عسل وسميت تلبينة لشبهها باللبن، وهي تطبخ من الشعير مطحونًا. ومعنى مُجِمَّة: أي تريح وتنشط وتزيل الهمّ. وهذا الأمر - وإن استغربه بعض الناس - هو حق وصدق ما دام قد ثبت من طريق الوحي عن المعصوم - صلى الله عليه وآله وسلم -، والله - سبحانه وتعالى - خلق الأطعمة وهو أعلم بخصائصها. هموم الآخرة أعظم وغمومها وكروبها أشدّ: إأن هموم الآخرة أعظم وغمومها وكروبها أشدّ، ومن أمثلة ذلك ما يُصيب الناس في أرض المحشر فقد روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «يَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ: «أَلا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ»، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: «عَلَيْكُمْ بِآدَمَ ... ». (رواه البخاري).

ولا علاج لغموم وكربات ذلك اليوم - يوم الجزاء - إلا بالإقبال على الله في هذا اليوم – يوم العمل. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ سدد خطاكم: «ارْتَحَلَتِ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً، وَارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَلاَ حِسَابَ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلاَ عَمَلٌ» (رواه البخاري). مَن ذَا الذِي قد نالَ راحةَ فِكْرِه ... في عُسره مِن عُمْرِه أو يُسْرِهِ؟ واللهِ لوْ عاشَ الفتَى مِن عُمْرِهِ ... ألفًا مِن الأعوامِ مالكَ أمْرِه مُتَنَعِّمًا فيها بكل لذيذةٍ ... متنعمًا فيها بسُكْنى قَصْرِه لا يعتريه السُقمُ فيها مَرةً ... كلّا ولا تَرِدُ الهمُومُ ببالِه ما كان ذلك كُلُّه في أنْ يَفِي ... بمَبِيتِ أوَّلِ ليلةٍ في قبرِه صبرًا فغمسة في الجنة تُنْسي كل شقاء وبؤس وبلاء، وغمسَةٌ في النار - عياذًا بالله - تُنْسِي كل لذة ونعيم. قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: «يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟»، فَيَقُولُ: «لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ»، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: «يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟»، فَيَقُولُ: «لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ». (رواه مسلم). (فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً): أي يُغْمَسُ غَمْسَةً. ورواه ابن ماجه بلفظ: «يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنَ الْكُفَّارِ، فَيُقَالُ: «اغْمِسُوهُ فِي النَّارِ غَمْسَةً»، فَيُغْمَسُ فِيهَا، ثُمَّ يُخْرَجُ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: «أَيْ فُلَانُ، هَلْ أَصَابَكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟»، فَيَقُولُ: «لَا، مَا أَصَابَنِي نَعِيمٌ قَطُّ»، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ الْمُؤْمِنِينَ ضُرًّا وَبَلَاءً، فَيُقَالُ: «اغْمِسُوهُ غَمْسَةً فِي الْجَنَّةِ»، فَيُغْمَسُ فِيهَا غَمْسَةً، فَيُقَالُ لَهُ: «أَيْ فُلَانُ هَلْ أَصَابَكَ ضُرٌّ قَطُّ، أَوْ بَلَاءٌ»، فَيَقُولُ: «مَا أَصَابَنِي قَطُّ ضُرٌّ، وَلَا بَلَاءٌ». (صححه الألباني).

88 - من ترك لله عوضه الله

88 - مَن ترك لله عوضه الله (¬1) نَسألُ اللهَ بِما يَقضِي الرّضَى ... حَسْبَيَ اللهُ بِمَا شاءَ قَضَى رُبَّ أمرٍ بِتُّ قدْ أبرَمْتُهُ ... ثُمَّ مَا أصْبَحْتُ إلاَّ فانقَضَى شَرُّ أيّامي هوَ اليَوْمُ الذي ... أقْبَلُ الدّنْيَا بدِينِي عِوَضَا قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ - عَزَّ وَجَلَّ - إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ». (رواه الإمام أحمد، وقال الألباني: «سنده صحيح على شرط مسلم») (¬2). (إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ) أي امتثالًا لأمره وابتغاءً لرضاه بغير مشاركة غرض من الأغراض معه. وهذا التعويض من الله تعالى، ليس هو التعويض المادي فقط، بل تلك الراحة والاطمئنان والسعادة، والتوفيق إلى الأعمال الصالحة، كل ذلك قد يكون من ذلك التعويض الرباني. قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق: 2 - 3). أمر الله - سبحانه وتعالى - بتقواه، ومن اتقاه فإن الله يجعل له فرجًا ومخرجًا. فكل من اتقى الله تعالى، ولازم مرضاة الله في جميع أحواله، فإن الله يثيبه في الدنيا والآخرة. ومن جملة ثوابه أن يجعل له فرجًا ومخرجًا من كل شدة ومشقة، وكما أن ¬

_ (¬1) هذه الخطبة والتي تليها بتصرف من كتاب (مَن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه) لإبراهيم بن عبد الله الحازمي. (¬2) أما لفظ: «ما ترك عبد شيئا لله لا يتركه إلا لله إلا عوضه منه ما هو خير له فى دينه ودنياه»، فقال الألباني: «موضوع بهذا اللفظ ... نعم صح الحديث بدون قوله في آخره: «في دينه ودنياه». [انظر سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني (1/ 61)].

من اتقى الله جعل له فرجًا ومخرجًا، فمن لم يتق الله، وقع في الشدائد والآصار والأغلال، التي لا يقدر على التخلص منها والخروج من تبعتها. وقوله تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} أي: يسُوقُ الله الرزق للمتقي، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به. وعن أبَيّ بن كعب سدد خطاكم قال: «ما من عبد ترك شيئًا لله إلا أبدله الله به ما هو خير منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به عبد فأخذ من حيث لا يصلح إلا أتاه الله بما هو أشد عليه». وقال قتادة بن دعامة السدوسي التابعي الجليل: «لا يقْدِرُ رَجلٌ على حَرَامٍ ثم يَدَعه ليس به إلا مخافة الله - عز وجل - إلا أبْدَله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خيرٌ له من ذلك». وإني لأدعو اللهَ والأمْرُ ضيّقٌ ... عليَّ فما ينفك أن يتفرّجا وربَّ فتىً ضاقتْ عليه وجوهُهُ ... أصاب له في دعوة الله مَخْرَجا ما حرّم الله على عبادة شيئًا إلا عوضهم خيرًا منه: فقد حرّم عليهم الربا وعوّضهم منه التجارة الرابحة، وحرّم عليهم القمار، وحرّم عليهم الحرير وأعاضهم منه أنواع الملابس الفاخرة من الصوف والكتان والقطن وغيرها، وحرّم عليهم الزنا واللواط وأعاضهم منه النكاح بالنساء الحسان، وحرّم عليهم شُرْبَ المسْكِر وأعاضهم عنه بالأشربة اللذيذة النافعة للروح والبدن، وحرّم عليهم سماع آلات اللهو من المعازف وغيرها وأعاضهم عنها بسماع القرآن العظيم، وحرّم عليهم الخبائث من المطعومات وأعاضهم عنها بالمطاعم الطيبات. ومن عجائب حكمة الله، أنه جعل مع الفضيلة ثوابها وهو الصحة والنشاط وجعل مع الرذيلة عقابها، وهو الانحطاط والمرض.

قال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: «إن للحسنة ضياءً في الوجه ونورًا في القلب، وسعةً في الرزق، وقوةً في البدن، ومحبةً في قلوب الخلق، وإن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمةً في القبر، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبغضةً في قلوب الخلق». مَنْ تَرَكَ لُبْسَ الثِّيَابِ الْمُرْتَفِعَةِ الْقِيمَةِ تَوَاضُعًا لِلهِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلهِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا». (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). (مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ) أَيْ لُبْسَ الثِّيَابِ الْحَسَنَةِ الْمُرْتَفِعَةِ الْقِيمَةِ (تَوَاضُعًا لِلهِ) أَيْ لَا لِيُقَالَ إِنَّهُ مُتَوَاضِعٌ أَوْ زَاهِدٌ وَنَحْوُهُ وَالنَّاقِدُ بصير، (دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ) أَيْ يُشَهِّرُهُ وَيُنَادِيهِ (مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ) أَيْ مِنْ أَيِّ حُلَلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. والحُلَّة: ثوب جيّد جديد، غليظًا كان أو رقيقًا، والجمع حِلالٌ وحُلَلٌ. من ترك الكذب والمراء: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ» (رواه أبو داود، وحسنه الألباني). (أَنَا زَعِيمٌ) أَيْ ضَامِنٌ وَكَفِيلٌ (ببيت) البيت ها هنا الْقَصْرُ يُقَالُ هَذَا بَيْتُ فُلَانٍ أَيْ قَصْرُهُ (فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ) أَيْ مَا حَوْلَهَا خَارِجًا عَنْهَا تَشْبِيهًا بِالْأَبْنِيَةِ الَّتِي تَكُونُ حَوْلَ الْمُدُنِ وَتَحْتَ الْقِلَاعِ (الْمِرَاءَ) أَيِ الْجِدَالَ؛ كَسْرًا لِنَفْسِهِ كَيْلَا يَرْفَعَ نَفْسَهُ عَلَى خَصْمِهِ بِظُهُورِ فَضْلِهِ.

نماذج لمن ترك لله فأبدله الله خيرًا منه: قد جرت سنة الله - عز وجل - في خلقه أن من آثَرَ الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرّة التامة، وإن هلك فالفوز العظيم، والله - سبحانه وتعالى - لا يضيع ما تحمّل عبدُه لأجله. وكل مَن خرج عن شيء مِنه لله حفظه الله عليه أو أعاضه الله ما هو أجَلّ منه. 1 - ترك يوسف الصديق - عليه السلام - امرأة العزيز لله واختار السجن على الفاحشة فكانت النتيجة أنْ عوّضه الله بأنْ مكّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء: هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف - عليه السلام - مِن محنة إخوته، وصَبْرُه عليها أعظمُ أجرًا، لأنه صبْرُ اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة لوقوع الفعل، فقدَّم محبة الله عليها، وذلك أن يوسف - عليه السلام - بَقِيَ مُكْرَمًا في بيت العزيز، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك، أنْ {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} أي: هو غلامها، وتحت تدبيرها، والمسكن واحد، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد، ولا إحساس بشر. وزادت المصيبة، بأن {وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ} وصار المحل خالِيًا، وهما آمنان من دُخُول أحد عليهما، بسبب تغليق الأبواب، وقد دعته إلى نفسها {وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ... أي: افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ، ومع هذا فهو غريب، لا يحتشم مثلُه ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه، وهو أسيرٌ تحت يدها، وهي سيدَتُه، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك، وهو شاب عَزَبٌ، وقد توعَّدَتْه، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن، أو العذاب الأليم. فصبر عن معصية الله، مع وجود الداعي القوي فيه، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان، الموجب لترك كل ما حَرَّم الله - ما أوجب له البُعد والانكفاف، عن هذه المعصية الكبيرة،

و {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه. بل إنه فضل السجن على معصية الله - سبحانه وتعالى -: قال تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)} (يوسف: 30 – 35). وكانت النتيجة أنْ عوّضه الله أن مكّنه في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء: قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} (يوسف: 50 - 57). فتأمل كيف جزاه الله - سبحانه وتعالى - على ضيق السجن أن مكنه في الأرض ينزل منها حيث يشاء، وأقرّت المرأة والنسوة ببراءته.

2 - ترَكَ الفاحشة خوفًا من الله فنجاه الله: يا ربّ ما أقربَ منكَ الفرجا ... أنتَ الرجاءُ وإليكَ الملتجا يا ربّ أشكو لكَ أمراً مزعجا ... أبهَمَ لَيلُ الخَطبِ فيهِ وَدَجَا يا ربّ فاجعلْ ليَ منهُ مَخْرَجا عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ يَتَمَاشَوْنَ أَخَذَهُمُ المَطَرُ، فَمَالُوا إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ فَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا لِلهِ صَالِحَةً، فَادْعُوا اللهَ بِهَا لَعَلَّهُ يَفْرُجُهَا». فَقَالَ أَحَدُهُمْ: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ، كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ، فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ فَحَلَبْتُ بَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ وَلَدِي، وَإِنَّهُ نَاءَ بِيَ الشَّجَرُ، فَمَا أَتَيْتُ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا، فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ، فَجِئْتُ بِالحِلاَبِ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا، أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا، وَأَكْرَهُ أَنْ أَبْدَأَ بِالصِّبْيَةِ قَبْلَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ». فَفَرَجَ اللهُ لَهُمْ فُرْجَةً حَتَّى يَرَوْنَ مِنْهَا السَّمَاءَ. وَقَالَ الثَّانِي: «اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ أُحِبُّهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ، فَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا، فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ فَلَقِيتُهَا بِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ: «يَا عَبْدَ اللهِ اتَّقِ اللهَ، وَلاَ تَفْتَحِ الخَاتَمَ»، فَقُمْتُ عَنْهَا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا». فَفَرَجَ لَهُمْ فُرْجَةً. وَقَالَ الآخَرُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ، فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ: «أَعْطِنِي حَقِّي»، فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَقَّهُ فَتَرَكَهُ وَرَغِبَ عَنْهُ، فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا، فَجَاءَنِي فَقَالَ: «اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَظْلِمْنِي وَأَعْطِنِي حَقِّي»،

فَقُلْتُ: «اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ البَقَرِ وَرَاعِيهَا»، فَقَالَ: «اتَّقِ اللهَ وَلاَ تَهْزَأْ بِي»، فَقُلْتُ: «إِنِّي لاَ أَهْزَأُ بِكَ، فَخُذْ ذَلِكَ البَقَرَ وَرَاعِيَهَا»، فَأَخَذَهُ فَانْطَلَقَ بِهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ مَا بَقِيَ». فَفَرَجَ اللهُ عَنْهُمْ» (رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري). (نَأى بِي الشَّجَر) أي تباعد عن مكاننا الشجر الذي ترعاه مواشينا فبعدتُ عن أهلي في طلبه فكان ذلك سبب تأخري في العودة إليهم. (وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ) أَيْ يَصِيحُونَ وَيَسْتَغِيثُونَ مِنَ الْجُوعِ. (فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي) أي حَالِي اللَّازِمَةُ. (لَا تَفْتَح الخَاتَمَ) الْخَاتَمُ كِنَايَةٌ عَنْ بَكَارَتِهَا. (بِفَرَقِ أُرْزٍ) الْفَرَقُ إِنَاءٌ يَسَعُ ثَلَاثَةَ آصَعٍ (فَرَغِبَ عَنْهُ) أَيْ كَرِهَهُ وسخطه وترَكَه. 3 - ترك فاحشة الزنا خوفاً من الله فأجرى الله على يديه معجزة: عن حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم، أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ جُرَيْجٌ يَتَعَبَّدُ فِي صَوْمَعَةٍ، فَجَاءَتْ أُمُّهُ». قَالَ حُمَيْدٌ: «فَوَصَفَ لَنَا أَبُو رَافِعٍ صِفَةَ أَبِي هُرَيْرَةَ لِصِفَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أُمَّهُ حِينَ دَعَتْهُ، كَيْفَ جَعَلَتْ كَفَّهَا فَوْقَ حَاجِبِهَا، ثُمَّ رَفَعَتْ رَأْسَهَا إِلَيْهِ تَدْعُوهُ، فَقَالَتْ: «يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ كَلِّمْنِي»، فَصَادَفَتْهُ يُصَلِّي، فَقَالَ: «اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَرَجَعَتْ، ثُمَّ عَادَتْ فِي الثَّانِيَةِ، فَقَالَتْ: «يَا جُرَيْجُ أَنَا أُمُّكَ فَكَلِّمْنِي»، قَالَ: «اللهُمَّ أُمِّي وَصَلَاتِي»، فَاخْتَارَ صَلَاتَهُ، فَقَالَتْ: «اللهُمَّ إِنَّ هَذَا جُرَيْجٌ وَهُوَ ابْنِي وَإِنِّي كَلَّمْتُهُ، فَأَبَى أَنْ يُكَلِّمَنِي، اللهُمَّ فَلَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ الْمُومِسَاتِ». قَالَ: «وَلَوْ دَعَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُفْتَنَ لَفُتِنَ». قَالَ: «وَكَانَ رَاعِي ضَأْنٍ يَأْوِي إِلَى دَيْرِهِ، فَخَرَجَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْقَرْيَةِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الرَّاعِي، فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا، فَقِيلَ لَهَا: «مَا هَذَا؟»، قَالَتْ: «مِنْ صَاحِبِ هَذَا الدَّيْرِ»، فَجَاءُوا بِفُئُوسِهِمْ وَمَسَاحِيهِمْ، فَنَادَوْهُ فَصَادَفُوهُ يُصَلِّي، فَلَمْ يُكَلِّمْهُمْ، فَأَخَذُوا يَهْدِمُونَ دَيْرَهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ نَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُ: «سَلْ هَذِهِ»، فَتَبَسَّمَ، ثُمَّ

مَسَحَ رَأْسَ الصَّبِيِّ فَقَالَ: «مَنْ أَبُوكَ؟»، قَالَ: «أَبِي رَاعِي الضَّأْنِ»، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْهُ قَالُوا: «نَبْنِي مَا هَدَمْنَا مِنْ دَيْرِكَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ»، قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ أَعِيدُوهُ تُرَابًا كَمَا كَانَ»، ثُمَّ عَلَاهُ». (رواه البخاري ومسلم، واللفظ له). فِيهِ قِصَّةُ جُرَيْجٍ رَضِيَ الله عَنْهُ وَأَنَّهُ آثَرَ الصَّلَاةَ عَلَى إِجَابَتِهَا فَدَعَتْ عَلَيْهِ فَاسْتَجَابَ اللهُ لَهَا، قَالَ الْعُلَمَاءُ: «هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الصَّوَابُ فِي حَقِّهِ إِجَابَتَهَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي صَلَاةِ نَفْلٍ، وَالِاسْتِمْرَارُ فِيهَا تَطَوُّعٌ لَا وَاجِبٌ، وَإِجَابَةُ الْأُمِّ وَبِرُّهَا وَاجِبٌ وَعُقُوقُهَا حَرَامٌ، وَكَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَفِّفَ الصَّلَاةَ وَيُجِيبَهَا ثُمَّ يَعُودَ لِصَلَاتِهِ، فَلَعَلَّهُ خَشِيَ أَنَّهَا تَدْعُوهُ إِلَى مُفَارَقَةِ صَوْمَعَتِهِ وَالْعَوْدِ إِلَى الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتِهَا وَحُظُوظِهَا وَتُضْعِفُ عَزْمَهُ فِيمَا نَوَاهُ وَعَاهَدَ عَلَيْهِ. (الْمُومِسَاتِ) أَيِ الزَّوَانِي الْبَغَايَا الْمُتَجَاهِرَاتِ بِذَلِكَ، وَالْوَاحِدَةُ مُومِسَةٌ. (دَيْرِهِ) الدَّيْرُ كَنِيسَةٌ مُنْقَطِعَةٌ عَنِ الْعِمَارَةِ تَنْقَطِعُ فِيهَا رُهْبَانُ النَّصَارَى لِتَعَبُّدِهِمْ وَهُوَ بِمَعْنَى الصَّوْمَعَةِ، وَهِيَ نَحْوَ الْمَنَارَةِ يَنْقَطِعُونَ فِيهَا عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِمْ. وَالْمَسَاحِي جَمْعُ مِسْحَاةٍ وَهِيَ كَالْمِجْرَفَةِ إِلَّا أَنَّهَا مِنْ حَدِيدٍ. (يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ) قَدْ يُقَالُ إِنَّ الزَّانِيَ لَا يَلْحَقَهُ الْوَلَدُ وَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَعَلَّهُ كَانَ فِي شَرْعِهِمْ يَلْحَقُهُ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ مِنْ مَاءِ مَنْ أَنْتَ، وَسَمَّاهُ أَبًا مَجَازًا. 4 - لما عقر سليمان بن داود سدد خطاكم الخيل التي شغلَتْه عن صلاة العصر حتى غابت الشمس سخر الله له الريح الرخاء اللينة، التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد. قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي

الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)} (ص: 30 - 40). {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} سليمان - عليه السلام - من فضائل داود، ومن منن الله عليه حيث وهبه له، فإن من أكبر نعم الله على عبده، أن يهب له ولدًا صالحًا، فإنْ كان عالمًا، كان نورًا على نور. {نِعْمَ الْعَبْدُ} سليمان - عليه السلام -، فإنه اتصف بما يوجب المدح، وهو {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي: رجَّاع إلى الله في جميع أحواله، بالتأله والإنابة، والمحبة والذكر والدعاء والتضرع، والاجتهاد في مرضاة الله، وتقديمها على كل شيء. ولهذا {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ}، لما عرضت عليه الخيل الجياد السبق الصافنات أي: التي مِنْ وَصْفِهَا الصُّفُون، وهو رَفْعُ إحدى قوائمها عند الوقوف، وكان لها منظر رائق، وجمال معجب، خصوصًا للمُحتاج إليها كالملوك، فما زالت تُعْرَض عليه حتى غابت الشمس في الحجاب، فألْهَتْهُ عن صلاة المساء وذِكْرِه. فقال ندمًا على ما مضى منه، وتقربا إلى الله بما ألهاه عن ذكره، وتقديما لحب الله على حب غيره: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} أي: آثرت حُب الخير، الذي هو المال عمومًا، وفي هذا الموضع المراد الخيل {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}. {رُدُّوهَا عَلَيَّ} فرَدُّوهَا {فَطَفِقَ} فيها {مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} أي: جعل يعْقِرُها بسيفه، في سُوقِها وأعناقها. {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} أي: ابتليناه واختبرناه بذهاب ملكه وانفصاله عنه بسبب خلل اقتضته الطبيعة البشرية، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} أي: شيطانًا قضى الله وقدَّرَ أن يجلس على كرسِيِّ ملكه، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان، {ثُمَّ أَنَابَ} سليمان إلى الله - سبحانه وتعالى - وتاب.

فـ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} فاستجاب الله له وغفر له، ورد عليه ملكه، وزاده ملكًا لم يحصل لأحد من بعده، وهو تسخير الشياطين له، يبنون ما يريد، ويغوصون له في البحر، يستخرجون الدُرّ والحلي، ومَن عصاه منهم قَرّنه في الأصفاد وأوْثَقَه. {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ}. وقلنا له: {هَذَا عَطَاؤُنَا} فَقَرَّ به عيْنًا {فَامْنُنْ} على مَن شئت، {أَوْ أَمْسِكْ} عن مَن شئت {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: لا حرج عليك في ذلك ولا حساب، لعلمه - سبحانه وتعالى - بكمال عدله، وحسن أحكامه، ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الآخرة، بل له في الآخرة خير عظيم. ولهذا قال: {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي: هو من المقربين عند الله المكرمين بأنواع الكرامات لله. ومن فوائد هذه الآيات تقديم سليمان محبة الله تعالى على محبة كل شيء. وأن كل ما أشغل العبد عن الله، فإنه مشئوم مذموم، فَلْيُفَارِقْه ولْيُقْبِلْ على ما هو أنفع له. ومن فوائدها القاعدة المشهورة أن «من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه»؛ فسليمان - عليه السلام - عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس، تقديمًا لمحبة الله، فعوضه الله خيرًا من ذلك، بأن سخر له الريح الرخاء اللينة، التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد، غدوها شهر، ورواحها شهر، وسخر له الشياطين، أهل الاقتدار على الأعمال التي لا يقدر عليها الآدميون.

5 - تجاوز عن المعسرين فتجاوز الله عنه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: «إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا»، فَلَقِيَ اللهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ» (رواه البخاري ومسلم). (يَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ) أَي الْفَقِير الْمَدْيُون لَهُ بِأَن يَحُطُّ عَنهُ أَو يُنْظِرُه إِلَى ميسرَة. وعن حُذَيْفَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَقَالُوا: «أَعَمِلْتَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا؟»، قَالَ: «لَا»، قَالُوا: «تَذَكَّرْ»، قَالَ: «كُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَآمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ، وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ، قَالَ: قَالَ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: «تَجَوَّزُوا عَنْهُ» (رواه البخاري ومسلم). (تَلَقَّتِ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ) استقبلَتْهَا عند الموت لتقبضها. (فِتْيَانِي) جمع فَتًى وهو الأجير والخادم. (يُنْظِرُوا الْمُعْسِرَ) من الإنظار وهو الإمهال. (وَيَتَجَوَّزُوا عَنِ الْمُوسِرِ) التَّجَاوُزُ وَالتَّجَوُّزُ مَعْنَاهُمَا الْمُسَامَحَةُ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَقَبُولِ مَا فِيهِ نَقْصٌ يَسِيرٌ. (الْمُوسِرِ) الغني. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أَظَلَّهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ» (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا) أَيْ أَمْهَلَ مَدْيُونًا فَقِيرًا (أَوْ وَضَعَ لَهُ) أَيْ حَطَّ وَتَرَكَ دَيْنَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ (أَظَلَّهُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ) أَيْ أَوْقَفَهُ اللهُ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ. وعَنْ بُرَيْدَةَ سدد خطاكم قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ»، قَالَ: ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»، قُلْتُ: سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللهِ تَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ»، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ: «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»،

قَالَ لَهُ: «بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ، فَإِذَا حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ» (رواه الإمام أحمد في المسند، وصححه الألباني والأرنؤوط). وَفِي هَذه الأحَادِيثِ فَضْلُ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ وَالْوَضْعِ عَنْهُ إِمَّا كُلُّ الدَّيْنِ وَإِمَّا بَعْضُهُ مِنْ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ، وَفَضْلُ الْمُسَامَحَةِ فِي الِاقْتِضَاءِ وَفِي الِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ اسْتُوْفِيَ مِنْ مُوسِرٍ أَوْ مُعْسِرٍ، وَفَضْلُ الْوَضْعِ من الدَّيْن، وأنه لا يُحْتَقَر شيءٌ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ فَلَعَلَّهُ سَبَبُ السَّعَادَةِ وَالرَّحْمَةِ.

89 - من ترك لله عوضه الله

89 - تَرَكوا لله فعوضهم الله 6 - عاقبة الاسترجاع والصبر: صبرت أُمُّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - فَأَخْلَفَ اللهُ لها رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: الإنسان المسلم معرض في هذه الحياة للاختبار والابتلاء والامتحان، فعليه إذا ابتُلِيَ أنْ يصبر ويحتسب مصيبته عنده الله، فإن الله لا يضيع عنده شيء، بل يُخْلِف عليه خيرًا مما أُخذ منه، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، يَقُولُ: “ مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ، فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللهُ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬1)، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا “، قَالَتْ: «فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، قُلْتُ: «أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ؟ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ثُمَّ إِنِّي قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللهُ لِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -». (رواه مسلم). (أجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا) مَعْنَى أَجَرَهُ اللهُ: أَعْطَاهُ أَجْرَهُ وَجَزَاءُ صَبْرِهِ وَهَمِّهِ فِي مُصِيبَتِهِ. (وَأَخْلِفْ لِي) يُقَالُ لِمَنْ ذَهَبَ لَهُ مَالٌ أو ولد أو قَرِيبٌ أَوْ شَيْءٌ يُتَوَقَّعُ حُصُولُ مِثْلِهِ: «أَخْلَفَ اللهُ عَلَيْكَ» أَيْ رَدَّ عَلَيْكَ مِثْلَهُ. فَإِنْ ذَهَبَ مَا لَا يُتَوَقَّعُ مِثْلُهُ بِأَنْ ذَهَبَ وَالِدٌ أَوْ عَمٌّ أَوْ أخٌ لِمَنْ لَا جَدَّ لَهُ وَلَا وَالِدَ لَهُ قِيلَ: «خَلَّفَ اللهُ عَلَيْكَ» بِغَيْرِ أَلِفٍ أَيْ كَانَ اللهُ خَلِيفَةً مِنْهُ عَلَيْكَ. إن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، فمن ترك لطم الخدود وشق الجيوب والنياحة وغير ذلك من المنكرات واحتسب مصيبته عند الله، واسترجع فإن الله - سبحانه وتعالى - يُخلفه وهو خير الوارثين. ¬

_ (¬1) البقرة: 156.

مَن يَتَّقِ اللهِ يُحْمَدْ في عواقبهْ ... ويَكْفِهِ شَرَّ مَن عَزّوا ومَن هَانُوا مَن استجَارَ بغيرِ اللهِ في فَزَعٍ ... فإنَّ ناصرَه عَجْزٌ وخُذْلَانُ فالْزِمْ يَدَيْك بحبلِ اللهِ معتصمًا ... فإنَّه الرُّكْنُ إنْ خانَتْك أرْكَانُ 7 - ترك تعلم السحر فكان مشعل هداية للآخرين: عن صُهَيْبٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «كَانَ مَلِكٌ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إِلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ»، فَبَعَثَ إِلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكَانَ فِي طَرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعَدَ إِلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ فَأَعْجَبَهُ، فَكَانَ إِذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بِالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إِلَيْهِ فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ. فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى الرَّاهِبِ، فَقَالَ: «إِذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ حَبَسَنِي أَهْلِي وَإِذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ حَبَسَنِي السَّاحِرُ»، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتْ النَّاسَ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمْ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فَقَالَ: «اللهُمَّ إِنْ كَانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هَذِهِ الدَّابَّةَ حَتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ»، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا وَمَضَى النَّاسُ. فَأَتَى الرَّاهِبَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّاهِبُ: «أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ الْيَوْمَ أَفْضَلُ مِنِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإِنَّكَ سَتُبْتَلَى فَإِنْ ابْتُلِيتَ فَلَا تَدُلَّ عَلَيَّ». وَكَانَ الْغُلَامُ يُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَيُدَاوِي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الْأَدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ فَأَتَاهُ بِهَدَايَا كَثِيرَةٍ فَقَالَ: «مَا هَاهُنَا لَكَ أَجْمَعُ إِنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي»، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ، فَإِنْ أَنْتَ آمَنْتَ بِاللهِ دَعَوْتُ اللهَ فَشَفَاكَ» فَآمَنَ بِاللهِ فَشَفَاهُ اللهُ، فَأَتَى الْمَلِكَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَنْ رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟» قَالَ: «رَبِّي» قَالَ: «وَلَكَ رَبٌّ غَيْرِي؟» قَالَ: «رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ»، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الْغُلَامِ. فَجِيءَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «أَيْ بُنَيَّ قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ»، فَقَالَ: «إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدًا إِنَّمَا يَشْفِي اللهُ» فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهِبِ فَجِيءَ بِالرَّاهِبِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ»، فَأَبَى

فَدَعَا بِالْمِئْشَارِ فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَلِيسِ الْمَلِكِ فَقِيلَ لَهُ: «ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ» فَأَبَى فَوَضَعَ الْمِئْشَارَ فِي مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ. ثُمَّ جِيءَ بِالْغُلَامِ فَقِيلَ لَهُ ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ فَأَبَى فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاطْرَحُوهُ»، فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الْجَبَلَ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ»، فَرَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَسَقَطُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ. فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ» فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «اذْهَبُوا بِهِ فَاحْمِلُوهُ فِي قُرْقُورٍ فَتَوَسَّطُوا بِهِ الْبَحْرَ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإِلَّا فَاقْذِفُوهُ»، فَذَهَبُوا بِهِ فَقَالَ: «اللهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بِمَا شِئْتَ فَانْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا وَجَاءَ يَمْشِي إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: «مَا فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟» قَالَ: «كَفَانِيهِمُ اللهُ». فَقَالَ لِلْمَلِكِ: «إِنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلِي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ»، قَالَ: «وَمَا هُوَ؟» قَالَ: «تَجْمَعُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَتَصْلُبُنِي عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعْ السَّهْمَ فِي كَبِدِ الْقَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ قَتَلْتَنِي». فَجَمَعَ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ فِي كَبْدِ الْقَوْسِ، ثُمَّ قَالَ «بِاسْمِ اللهِ رَبِّ الْغُلَامِ» ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ فِي صُدْغِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي صُدْغِهِ فِي مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: «آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الْغُلَامِ». فَأُتِيَ الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ: «أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ، قَدْ وَاللهِ نَزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ النَّاسُ»، فَأَمَرَ بِالْأُخْدُودِ فِي أَفْوَاهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ وَقَالَ: «مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ دِينِهِ فَأَحْمُوهُ فِيهَا أَوْ قِيلَ لَهُ اقْتَحِمْ»، فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: «يَا أُمَّهْ اصْبِرِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ» (رواه مسلم).

(الْأَكْمَه): الَّذِي خُلِقَ أَعْمَى، (الْمِئْشَار): الْمِنْشَار، (ذُرْوَة الْجَبَل): أَعْلَاهُ، (رَجَفَ بِهِمْ الْجَبَل): أَيّ اِضْطَرَبَ وَتَحَرَّكَ حَرَكَة شَدِيدَة، (الْقُرْقُور): السَّفِينَة الصَّغِيرَة، (انْكَفَأَتْ بِهِمْ السَّفِينَة): اِنْقَلَبَتْ، (الصَّعِيد): الْأَرْض الْبَارِزَة، (كَبِد الْقَوْس): مِقْبَضهَا عِنْد الرَّمْي، (الصّدْغ): جانب الوجه من العين إلى الأذن، (نَزَلَ بِك حَذَرك): أَيْ مَا كُنْت تَحْذَر وَتَخَاف، (الْأُخْدُود): هُوَ الشَّقّ الْعَظِيم فِي الْأَرْض، وَجَمْعه أَخَادِيد، (السِّكَك): الطُّرُق، وَأَفْوَاههَا: أَبْوَابهَا. (مَنْ لَمْ يَرْجِع عَنْ دِينه فَأَحْمُوهُ فِيهَا): اِرْمُوهُ فِيهَا مِنْ قَوْلهمْ: «حَمَيْت الْحَدِيدَة وَغَيْرهَا» إِذَا أَدْخَلْتهَا النَّار لِتُحْمَى، (تَقَاعَسَتْ): تَوَقَّفَتْ وَلَزِمَتْ مَوْضِعهَا، وَكَرِهَتْ الدُّخُول فِي النَّار. 8 - جزاء الصدق والأمانة: المسلم مأمور بأداء الأمانة، والتحلي بالأخلاق الحسنة والصفات الحميدة، فمن عمل بهذه الصفات جُوزي بالجزاء الأوفى في الدنيا والآخرة، فمن ترك الخيانة والغدر لله سبحانه بصدق وإخلاص، عوضه الله على ذلك خيرًا كثيرًا. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ، فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: «خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ»، وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأرْضُ: «إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا»، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: «أَلَكُمَا وَلَدٌ؟»، قَالَ أَحَدُهُمَا: «لِي غُلامٌ»، وَقَالَ الآخَرُ: «لِي جَارِيَةٌ»، قَالَ: «أَنْكِحُوا الْغُلامَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ وَتَصَدَّقَا». (رواه البخاري). (العقار) المراد به هنا الدار، (ألكما ولد؟): ألِكُلٍ منكُما ولد؟ وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: «ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ»، فَقَالَ: «كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا»، قَالَ: «فَأْتِنِي بِالكَفِيلِ»، قَالَ: «كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا»، قَالَ:

«صَدَقْتَ»، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي البَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ التَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا، فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى البَحْرِ. فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلاَنًا أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاَ، فَقُلْتُ: «كَفَى بِاللهِ كَفِيلًا»، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: «كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا»، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا»، فَرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا المَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَبًا، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ، فَأَتَى بِالأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ: «وَاللهِ مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ»، قَالَ: «هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟»، قَالَ: «أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ»، قَالَ: «فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالأَلْفِ الدِّينَارِ رَاشِدًا». (رواه البخاري). (الْتَمَسَ) طلب. (للْأَجَل) الزمن الذي حدده له للوفاء. (فنَقَرَهَا) حفرها. (صحيفة) رسالة مكتوبة. (زجَّجَ) سوى موضع النقر وأصلحه. (تسَلّفْت فلانًا) طلَبْت منه سلَفًا. (جَهَدْتُ) بذَلْتُ وسعيتُ. (وَلَجَتْ) دخَلَتْ في البحر. 9 - لما ترك المهاجرون - رضي الله عنهم - ديارهم لله وأوطانهم التي هي أحبُّ شيء إليهم أعاضهم الله - سبحانه وتعالى - أنْ فتح عليهم الدُّنيا وملّكَهم شرق الأرض وغربَها: قال رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: «تُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وَآبَاءِ أَبِيكَ»، فَعَصَاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ

قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: «تُهَاجِرُ وَتَدَعُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ، وَإِنَّمَا مَثَلُ الْمُهَاجِرِ كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ»، فَعَصَاهُ فَهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ: «تُجَاهِدُ فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ وَالْمَالِ، فَتُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَيُقْسَمُ الْمَالُ»، فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ قُتِلَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَرِقَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، أَوْ وَقَصَتْهُ دَابَّتُهُ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ» (رواه النسائي، وصححه الألباني). (قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ) جَمْعُ طَرِيقٍ، كَرَغِيفٍ وَأَرْغِفَةٍ. (كَمَثَلِ الْفَرَسِ فِي الطِّوَلِ) الطِّوَلِ: الْحَبْلُ الطَّوِيلُ يُشَدُّ أَحَدُ طَرَفَيْهِ فِي وَتَدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ فِي يَدِ الْفَرَسِ لِيَدُورَ فِيهِ ويرعى وَلَا يذهب لوجهه. وَهَذَا من كَلَام الشَّيْطَان ومقصوده أَن المُهَاجر يصير كالمقيد فِي بِلَاد الغربة لَا يَدُور الا فِي بَيته وَلَا يخالِطُه إلا بعضُ معارفه فَهُوَ كالفرس فِي طَوْل لَا يَدُور وَلَا يرْعَى الا بِقَدرِهِ، بِخِلَاف أهل الْبِلَاد فِي بِلَادهمْ فَإِنَّهُم مبسوطون لَا ضيق عَلَيْهِم فأحدهم كالفرس الْمُرْسل. (فَهُوَ جَهْدُ النَّفْسِ) بِمَعْنى الْمَشَقَّة والتعب (وَالْمَالِ) الْمرَاد بِالْمَالِ الْجِمال وَالْعَبِيد وَنَحْوهمَا أَو المَال مُطلقًا. وقَالَ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «تَغْزُونَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ فَارِسَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُهَا اللهُ» (رواه مسلم). وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا» (رواه مسلم). (زَوَىَ) جمع. 10 - ترك عقد اللؤلؤ في الحرام فناله بالحلال: في ذيل طبقات الحنابلة نقل الحافظ ابن رجب الحنبلي هذه القصة في ترجمة القاضي أبي بكر الأنصاري البزاز عنه أنه قال: «كنتُ مجاورًا بمكة - حرسها الله تعالى -

فأصابني يومًا من الأيام جوعٌ شديدٌ لم أجد شيئًا أدفع به عني الجوع، فوجدتُ كيسًا من إبْرَيْسَم (¬1) مشدودًا بشرابة (¬2) من إبريسم أيضًا فأَخذْتُه وجئتث به إلى بيتي، فحلَلْتُه فوجدتُ فيه عِقْدًا (¬3) مِن لُؤلؤ لم أرَ مِثْله، فخرجْتُ فإذا الشيخ ينادي عليه، ومعَه خرقة فيها خمسمائة دينار، وهو يقول: «هذا لمن يَرُدّ علينا الكيس الذي فيه اللؤلؤ»، فقلت: «أنا محتاج، وأنا جائع، فآخذ هذا الذهب فأنتفع به، وأرُدُّ عليه الكيسَ». فقُلت له: «تعالَ إليَّ»، فأخذْتُه وجئتُ به إلى بيتي، فأعطاني علامة الكيس، وعلامة الشرابة، وعلامة اللؤلؤ وعَدَدَه، والخيط الذي هو مَشدُود به، فأخرجْتُه ودَفَعْتُه إليه. فسلم إليّ خمسمائة دينار، فما أخذتها، وقلت: «يجب عليَّ أنْ أعيده إليك ولا آخذَ له جزاء»، فقال لي: «لا بُدَّ أنْ تأخذ». ألح عليَّ كثيرًا، فلم أقبل ذلك منه، فتركني ومضى. وأما ما كان مِنّي فإني خرجتُ من مكة وركبتُ البحر، فانكسر المركب وغرق الناس، وهلكَت أموالهم، وسلِمْتُ أنا على قطعة من المركب، فبقيتُ مُدّةً في البحر لا أدري أين أذهب، فوصَلْتُ إلى جزيرة فيها قومٌ، فقعَدتُ في بعض المساجد، فسمعوني أقرأ، فلم يبق في تلك الجزيرة أحد إلا جاء إليّ وقال: «علِّمْني القرآن». فحصل لي من أولئك القوم شيء كثير من المال. ثم إني رأيتُ في ذلك المسجد أوراقًا من مصحف، فأخذتها أقرأ فيها فقالوا لي: «تُحْسِنُ تكتب؟». فقلت: نعم، فقالوا: «عَلِّمْنَا الخَطّ»، فجاءوا بأولادهم من الصبيان والشباب، فكنتُ أعَلّمُهم، فحصل لي أيضًا من ذلك شيء كثير فقالوا لي بعد ذلك: « ¬

_ (¬1) الإبْرَيْسَمُ: أحسن الحرير. (¬2) أي رباط. (¬3) العِقْد: قلادةٌ أو خيط يُنظَم فيه الخرزُ ونحوُه ويحيط بالعنق. والجمع: عُقود.

عندنا صبيَّةً يتيمة، ولها شيء من الدُنيا نريد أن تتزوجَ بها»، فامتنعتُ، فقالوا: «لا»، بل وألزموني، فأجَبْتُهُم إلى ذلك. فلما زفُّوها إليَّ مدَدْتُ عيني أنظر إليها، فوجدت ذلك العقد بعينه معلقًا في عنقها، فما كان لي حينئذ شغل إلا النظر إليه. فقالوا: «يا شيخ، كسرتَ قلب هذه اليتيمة مِن نظرك إلى هذا العقد، ولم تنظر إليها»، فقصصتُ عليهم قصة العقد فصاحوا وصرخوا بالتهليل والتكبير، حتى بلغ إلى جميع أهل الجزيرة، فقلتُ: «ما بكم». فقالوا: «ذلك الشيخ الذي أخذ منك العقد أبو هذه الصبية، وكان يقول: «ما وجدتُ في الدنيا مسلمًا إلا هذا الذي ردَّ علَيَّ هذا العقد»، وكان يدعو ويقول: «اللهم اجمع بيني وبينه حتى أزَوّجَه بابنتي»، والآن قد حصلَتْ». فبقيتُ معها مدة ورُزِقْتُ منها بولدَيْن، ثم إنها ماتت فورثْتُ العقد أنا وولداي، ثم مات الولدان فحصل العقد لي فبعته بمائة ألف دينار. 11 - ثمرة الأمانة: عف عن الباذنجان فرزقه الله الباذنجان والمرأة صاحبة الباذنجان ودارها: كان في أحد مساجد دمشق طالب علم وكان مضرب المثل في فقره وفي إبائه وعزة نفسه وبذلها للآخرين. وكان يسكن في غرفة في المسجد، مر عليه يومان لم يأكل فيهما شيئًا وليس عنده ما يطعمه ولا ما يشتري به طعامًا، فلما جاء اليوم الثالث أحس كأنه مُشْرِفٌ على الموت، وفكر ماذا يصنع، فرأى أنه بلغ حد الإضرار الذي يجوز له أكل الميتة أو السرقة بمقدار الحاجة. وآثر أن يسرق ما يقيم صلبه - هذا ما رآه في حاله هذه. وكان المسجد يتصل سطحه ببعض البيوت، يستطيع المرء أن ينتقل من أولها إلى آخرها مشيًا على أسقفها، فصعد إلى سقف المسجد وانتقل منه إلى الدار التي تليه فلمح بها نساء فغض من بصره وابتعد، ونظر فرأى إلى جنبها دارًا خالية وشم رائحة الطبخ تصدر منها، وكانت البيوت من دور واحد، فقفز قفزتين من السقف إلى الشرفة فصار

في الدار وأسرع إلى المطبخ فكشف غطاء القدر فرأى فيها باذنجانًا محشوًا، فأخذ واحدة ولم يُبَالِ مِن شدة جوعه بسخونتها وقضم منها قضمة. فما كاد يبتلعها حتى ارتد إليه عقله ودينه وقال لنفسه: «أعوذ بالله؛ أنا طالب علم مقيم في المسجد، ثم اقتحم المنازل وأسرق ما فيها؟»، وكَبُرَ عليه ما فعل وندم واستغفر، ورد الباذنجانة، وعاد من حيث جاء، فنزل إلى المسجد وقعد في حلقة الشيخ وهو لا يكاد من شدة الجوع يفهم ما يسمع. فلما انقضى الدرس وانصرف الناس جاءت امرأة مستترة - ولم يكن في تلك الأيام امرأة غير مستترة - فكلمَتْ الشيخ بكلام لم يسمعه فتلفت الشيخ حوله فلم يَرَ غيره فدعاه وقال له: «هل أنت متزوج؟»، قال: «لا». قال: «هل تريد الزواج؟»، فسكت، فأعاد عليه الشيخ سؤاله فقال: «يا شيخ ما عندي ثمن رغيف، والله، فلماذا أتزوج؟». قال الشيخ: «إن هذه المرأة أخبرتني أن زوجها توفي وأنها غريبة عن هذا لبلد ليس لها فيه ولا في الدنيا إلا عم عجوز فقير وقد جاءت به معها - وأشار إليه قاعدًا في ركن الحلقة - وقد ورثَتْ دار زوجها ومعاشه وهي تحب أن تجد رجلًا يتزوجها لئلا تبقى منفردة فيطمع بها». قال: «نعم»، وسألها الشيخ: «هل تقبلين به زوجًا؟»، قالت: «نعم». فدعا الشيخ عمها ودعا شاهدين وعقَدَا العقد، ودفع المهر عن التلميذ، وقال له: «خذ بيد زوجتك»، فأخذ بيدها فقادَتْه إلى بيتها، فلما أدخَلَتْه كشفت عن وجهها فرأى شبابًا وجمالًا، وإذا البيت هو البيت الذي اقتحمه، وسألَتْه: «هل تأكل؟»، قال: «نعم»، فكشفت غطاء القِدْر فرأت الباذنجانة فقالت: «عجبًا، مَن الذي دخل الدار فقضمها؟»، فبكى الرجل وقص عليها الخبر، فقالت له: «هذه ثمرة الأمانة، عفَفْتَ عن الباذنجانة الحرام، فأعطاك الله الدار كلها وصاحبتها بالحلال».

13 - تركا الحرام فرزقهما الله الحلال: كان في طريقه إلى الجامعة، فركب سيارة أجرة وجلس بجواره طالب في المدرسة الفنية الصناعية، وفي أثناء الطريق نزل السائق إلى حديقة جوافة فانتزع بعض الثمار، وعرض عليهما بعضها فرفضا قائلَيْن إن هذا حرام ولا يجوز أكْلُه، وإنه لم يستأذن أصحاب الحديقة، فسكت السائق. وفي الطريق وبعد مسافة يسيرة قابلَتْه سيارة نقل محمّلة بثمار الجوافة، فأعطاهُ سائقُها بعض الثمار التي كانت أمامه في التابلوه (¬1)، وعندما أخذها السائق عرض عليهما بعض تلك الثمار قائلًا: «كُلَا مِن هذه؛ فهي حلال». فأكلا منها، وكان جزاء صبرهما عن الحرام أن رزقهما الله من نفس الثمار ولكن بالطريق الحلال. ¬

_ (¬1) تابلوه السَّيَّارة: صندوق معدنيّ- غالبًا- مجهَّز لاحتواء عدَّادَي البنزين والسُّرعة، ومؤشِّر الحرارة وجهاز الراديو، وخِزانة صغيرة. [انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، للدكتور أحمد مختار عبد الحميد عمر (1/ 279)].

90 - المسجد الأقصى في قلب كل مسلم

90 - المسجد الأقصى في قلب كل مسلم عجبًا أذَلُّ الناسِ تَغْصبُ أرضَنا ... وتَعِيثُ في حُرُمَاتِنا استِهْتَارَا في المسجدِ الأقصَى تُدار رُؤوسُهم ... ويُدَنّسُون رِحابَه اسْتِحْقَارَا قُولُوا بربّي كيفَ يهدأُ بالُنا ... والقُدسُ خلّفْنا عليها العَارَا والقدسُ تصرخُ أنقذوني فالعِدَا ... رامُوا بإسراءِ النبيِّ دمَارَا ها هُم بَنُو صهيونَ داسُوا حُرْمَتِي ... جعَلُوا الغوايةَ والفسادِ شعارَا إسلامُنا بالأمسِ أنشأَ أمَّةً ... كانَتْ تعيشُ مذلةً وصَغَارَا فغَدَتْ بفضلِ اللهِ أعظمَ أمَّةٍ ... كانَتْ لكُلّ الحائرينَ مَنَارَا وإذا اتخَذْنا دينَنَا مِنْهاجَنا ... فبِهِ نُرَبِّي صفوةً أبرارَا يشدَّ المسلمون رحالهم إلى المسجد الحرام لأداء مناسك الحج، ويشدُّون رحالهم إلى المسجد النبوي، ولو أنهم استطاعوا لشدُّوا رحالهم إلى المسجد الأقصى، ولكنَّه تحت غصب وعدوان اليهود، ولا حول ولا قوة إلا بالله. وما دمنا لا نستطيع في هذه الحال شدَّ الرحال إلى المسجد الأقصى بالأجساد فهيا نشدُّ إليه الرحال بالأرواح والفؤاد، فنتجول في تاريخه وفضائله وبركاته وشيء من أحكامه. أمَّا حدوده فكل ما كان داخل السور فهو من المسجد الأقصى وما لا فلا. وأمَّا تاريخ بناء المسجد الأقصى فقد أخبر الصادق الصدوق بأنَّه ثاني مسجد وُضِعَ على ظهر الأرض، فعن أَبي ذَرٍّ سدد خطاكم عَنْهُ قَالَ قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلُ؟»، قَالَ: «الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ». قَالَ: قُلْتُ: «ثُمَّ أَيٌّ؟»، قَالَ:

«الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى»، قُلْتُ: «كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟»، قَالَ: «أَرْبَعُونَ سَنَةً، ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ» (رواه البخاري). (أَيّ مَسْجِد وُضِعَ فِي الْأَرْض أَوَّلُ) بِضَمِّ اللَّام، مِثْل قَبْلُ وَبَعْدُ، وَالتَّقْدِير أَوَّل كُلّ شَيْء. (الْمَسْجِد الْأَقْصَى) يَعْنِي مَسْجِد بَيْت الْمَقْدِس، وَقِيلَ لَهُ الْأَقْصَى لِبُعْدِ الْمَسَافَة بَيْنه وَبَيْن الْكَعْبَة، وَقِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَرَاءَهُ مَوْضِع عِبَادَة، وَقِيلَ لِبُعْدِهِ عَنْ الْأَقْذَار وَالْخَبَائِث، وَالْمَقْدِس الْمُطَهَّر عَنْ ذَلِكَ. قَوْلُهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -: (أَرْبَعُونَ سَنَة) فِيهِ إِشْكَال، لِأَنَّ إِبْرَاهِيم بَنَى الْكَعْبَة، وَسُلَيْمَان - عليه السلام - هُوَ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى (¬1) وَبَيْنهمَا أَكْثَر مِنْ أَلْف سَنَة. وَالجَوَاب أَنَّ الْإِشَارَة إِلَى أَوَّل الْبِنَاء وَوَضْع أَسَاس الْمَسْجِد وَلَيْسَ إِبْرَاهِيم أَوَّل مَنْ بَنَى الْكَعْبَة وَلَا سُلَيْمَان أَوَّل مَنْ بَنَى بَيْت الْمَقْدِس، قَالَ الْقُرْطُبِيّ: «إِنَّ الْحَدِيث لَا يَدُلّ عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيم وَسُلَيْمَان لَمَّا بَنَيَا الْمَسْجِدَيْنِ اِبْتَدَآ وَضْعهمَا لَهُمَا، بَلْ ذَلِكَ تَجْدِيد لِمَا كَانَ أَسَّسَهُ غَيْرهمَا». قَوْلُهُ: (فَصَلِّهْ) بِهَاءٍ سَاكِنَة وَهِيَ هَاء السَّكْت. قَوْلُهُ: (فَإِنَّ الْفَضْل فِيهِ) أَيْ فِي فِعْل الصَّلَاة إِذَا حَضَرَ وَقْتهَا. ¬

_ (¬1) فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ - عليه السلام - لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - خِلَالًا ثَلَاثَةً: سَأَلَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» (رواه النسائي وصححه ابن حجر والألباني). (حُكْمًا يُصَادِف حُكْمه) أَيْ يُوَافِق حُكْم اللهِ تَعَالَى، وَالْمُرَاد التَّوْفِيق لِلصَّوَابِ فِي الِاجْتِهَاد وَفَصْل الْخُصُومَات بَيْن النَّاس. (فَأُوتِيَهُ) عَلَى بِنَاء الْمَفْعُول مِنْ الْإِيتَاء وَنَائِب الْفَاعِل ضَمِير مُسْتَتِر لِسُلَيْمَان وَالضَّمِير الْمَنْصُوب لِمَسْئُولِهِ. (أَنْ لَا يَأْتِيه) أَيْ لَا يَجِيئهُ وَلَا يَدْخُلهُ أَحَد. (لَا يَنْهَزهُ) لَا يُحَرِّكهُ. (أَنْ يُخْرِجهُ) مِنْ الْإِخْرَاج أَوْ الْخُرُوج وَالظَّاهِر أَنَّ فِي الْكَلَام اِخْتِصَارًا وَالتَّقْدِير أَنْ لَا يَأْتِيه أَحَد إِلَّا يُخْرِجهُ مِنْ خَطِيئَته كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمّه.

في الحديث السابق ما يدل على أن سليمان - عليه السلام - بنى مسجدًا ولم يبن هيكلًا كما تزعمه اليهود، كما يدل الحديث السابق على أن بناء سليمان - عليه السلام - لم يكن بناء ابتداءٍ وتأسيس، وإنما كان بناء تجديد للمسجد. من فضائل المسجد الأقصى: 1 - من فضائل المسجد الأقصى إخبار الله تعالى في كتابه بأن البركة حوله؛ قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} (الإسراء: 1). {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أي: بكثرة الأشجار والأنهار والخصب الدائم. ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة، وأنه يطلب شد الرحل إليه للعبادة والصلاة فيه. 2 - ومن فضائل المسجد الأقصى استحباب شدّ الرحال إليه على وجه العبادة، وهذا باتفاق العلماء، وذلك لقول رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: “ لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا» (رواه البخاري ومسلم)؛ ولهذا فقد أجمع العلماء على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه كالصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن والاعتكاف وغيرها. 3 - ومن فضائل المسجد الأقصى وبركاته أن الصلاة فيه بمئتي صلاة وخمسين صلاة؛ لأن الصلاة في مسجده - صلى الله عليه وآله وسلم - بألف صلاة، وصلاة في مسجده - صلى الله عليه وآله وسلم - أفضل من أربع صلوات في المسجد الأقصى. عَنْ أَبِي ذَرٍّ سدد خطاكم قَالَ: تَذَاكَرْنَا وَنَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، أَيُّهُمَا أَفْضَلُ: مَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، أَوْ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا، أَفْضَلُ مِنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعْمَ الْمُصَلَّى، وَلَيُوشِكَنَّ أَنْ لاَ يَكُونَ لِلرَّجُلِ مِثْلُ شَطَنِ فَرَسِهِ مِنَ الأَرْضِ، حَيْثُ يَرَى مِنْهُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ خَيْرٌ لَهُ

مِنَ الدُّنْيَا جَمِيعًا، أَوْ قَالَ: خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» (رواه الحاكم، وصححه، ووافقه الذهبي والألباني). الشطن: هو الحبل. 4 - ومن فضائل المسجد الأقصى أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أسري إليه وصلى بالأنبياء هناك، ومنه عرج به إلى السماء حيث وصل إلى السماوات العلى، إلى سدرة المنتهى، وفُرِضَتْ عليه الصلوات الخمس التي يؤديها المسلمون كل يوم وليلة، والتي راجع فيها ربنا - عز وجل - حتى وصلت إلى هذا العدد بعد أن كانت خمسين صلاة فبقيت خمسين في الميزان وخمسًا في الأداء والأفعال، ثم عاد إليه ثم رجع إلى مكة في نفس الليلة - صلى الله عليه وآله وسلم -. 5 - ومن فضائل المسجد الأقصى أن الدجال لا يدخله، فقد روى جُنَادَةُ بْنُ أَبِى أُمَيَّةَ فَقَالَ: «أَتَيْنَا رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَقُلْنَا حَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَلاَ تُحَدِّثْنَا مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّاسِ»، فَشَدَّدْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «قَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فِينَا فَقَالَ: «أَنْذَرْتُكُمُ الْمَسِيحَ وَهُوَ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ - قَالَ أَحْسَبُهُ قَالَ: الْيُسْرَى - يَسِيرُ مَعَهُ جِبَالُ الْخُبْزِ وَأَنْهَارُ الْمَاءِ، عَلاَمَتُهُ يَمْكُثُ فِى الأَرْضِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، يَبْلُغُ سُلْطَانُهُ كُلَّ مَنْهَلٍ لاَ يَأْتِى أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ الْكَعْبَةَ وَمَسْجِدَ الرَّسُولِ والْمَسْجِدَ الأَقْصَى وَالطُّورَ». (رواه الإمام أحمد وصححه الأرنؤوط). 6 - ومن فضائل المسجد الأقصى أن نبي الله محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - كانوا يصلون وقبلتهم المسجد الأقصى في ابتداء فرضية الصلاة، ثم تحولت القبلة إلى الكعبة بعد الهجرة بستة أو سبعة عشر شهرًا فعَنِ البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ سدد خطاكم، أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ المَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ «صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ المَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا» (رواه البخاري).

تنبيه: برغم بركات المسجد الأقصى وفضائله ومزاياه، فإن المسجد الأقصى ليس حَرَمًا بإجماع العلماء، ومن الخطأ وصفه بالحرم أو ثالث الحرمين كما هو شائع، فإن الحرم ما حرم الله صيده ونباته، ولم يحرم الله صيدًا ونباتًا إلا في مكة والمدينة. من أبرز علامات الإيمان الحب في الله والبغض في الله: إن من أبرز علامات الإيمان الحب في الله والبغض في الله والمولاة والمعاداة من أجل العقيدة الحقة , ومن أجل دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينًا سواه , ولا يرضى من الأديان غيره , فكل دين غير دين الإسلام فهو باطل وغير مقبول عند الله , قال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85)، فدين الإسلام هو الحق وما سواه فهو باطل وضلال، قال تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (يونس:32). إن عداوة الدين هي أقصى العداوات وأشدها, وهي التي لا هوادة في عداوتها, فكل العداوات قد يرجى زوالها إلا عداوة من يعاديك من أجل عقيدتك ودينك, إلا أن تتبعه وتسير معه على دينه، قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (البقرة:120) , وكل من كان أبعد عن الحق وأعتق للباطل كانت عداوته لهل الحق أشد وأبشع, ولهذا كانت عداوة اليهود وعداوة المشركين أشد العداوات للإسلام وأهله , لا يألون جهدًا في الوقيعة بالمسلمين في دمائهم وأعراضهم وأموالهم قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} (المائدة: 82). فهؤلاء اليهود الذين لعنهم الله وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت , ووصفهم بأنهم سماعون للكذب آكالون للسحت , وأنهم قالوا العزير ابن الله , وقالوا يد الله مغلولة , وقالوا إن الله فقير ونحن أغنياء , تعالى الله وتقدس عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.

إن هؤلاء اليهود هذا دأبهم في دابر الأزمان , وهذا ديدنهم مع سائر الأنبياء والمرسلين وأولياء الله المتقين , إنهم أعداء الإسلام , أعداء العدل والوئام , أعداء المرسلين وعباد الله المؤمنين , لا يرقبون في مؤمن إلًا ولا ذمّة وأولئك هو المعتدون. كم تكرر منهم العداء على العاملين , وكم تجبروا على المستضعفين , وكم نكثوا أيمانهم , وكم نبذوا مواعيد ومواثيق , أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم، لقد استمرؤوا إزهاق الأرواح واغتصاب الأموال وانتهاك الحرمات , لقد تجرأوا على حرق المسجد الأقصى والاستهانة به وبشعائر دين الإسلام، ويحاولون هدمه ونسفه بين حين وآخر على عباد الله القانتين والقائمين والرُكّع السجود. لقد هتكوا بالمسلمين العاملين بغيًا وعدوانًا واستهانة بالمسلمين واحتقارًا لهم وجرحًا لشعور عموم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. اليهود ومراحل الصراع: إن الصراع بين الحق والباطل صراع قديم قدم الحياة على ظهر هذه الأرض، والأيام دُول كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} (آل عمران: 14). ولا شك أننا نعيش مرحلة من مراحل الدولة للباطل وأهله، يوم أن انشغل عن الحق أهله حيث تمكن أخس وأحقر وأذل أمم الأرض من أبناء يهود من إقامة دولتهم اللعينة الحقيرة على الثرى الطاهر في الأرض المباركة وسيطروا على مسرى الحبيب محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وحرقوا منبر صلاح الدين، بل وهم يقومون الآن بحفريات خطيرة في المسجد الأقصى لهدمه وتدميره وإقامة ما يسمونه بالهيكل المزعوم!! وقد صرح أكبر حاخاماتهم في القدس بأنه لابد من هدم المسجد الأقصى لإقامة ما يسمونه بالهيكل المزعوم ثم قال: «إن العرب سيغضبون أول الأمر لكن سيصبح الأمر عاديًا بعد ذلك»!!

جريمة حرق المسجد الأقصى: احترق المسجد الأقصى المبارك بِيَد الغدر ونار الحقد، بجريمة بشعة خُطِّط لها بليل ودُبِّر لها بإحكام، ونُفِّذت في ظلّ الاحتلال أول جريمةِ حرقٍ للمسجد الأقصى في تاريخه. لقد استيقظ أهل القدس ورأوا المسجد صباح يوم الحادي والعشرين من شهر أغسطس لعام ألف وتسعمائة وتسع وستين، استيقظوا على استغاثات المسجد، تنطلق من حناجر المرابطين الذين هبّوا لإطفاء الحريق بنور إيمانهم وصدق عزيمتهم وثبات موقفهم الذي لا يرضخ لمخطّطات العدوان ولا يستكين لجرائم المحتلين. ولقد شاهد العالم ألسنة النيران التي علت قبّة المسجد تشكو إلى الله ظلمَ الظالمين واعتداء المعتدين الذين لا يرعَون للمقدسات حُرْمةَ، ولا يَرْقُبُون في مؤمنٍ إلًا ولا ذمة. إنّ الحريق الذي استهدف المسجد الأقصى وجودًا وحضارة لم يتوقّف عند إحراق منبر صلاح الدين الأيوبي والأجزاء التي تمثّل فنّ الحضارة والعمارة الإسلامية على امتداد التاريخ الإسلامي في المسجد الأقصى، بل امتدّ هذا الحريق وانتشر في ربوع أرضنا المباركة بأشكال متعدّدة؛ في محاولات لطمس معالم هذه الديار وفرض التهويد على الأرض والمقدسات، وفي الطليعة وبؤرة الصراع تأتي مدينة القدس والمسجد الأقصى المبارك. لقد زحف ويزحف التهويد على هذه المدينة من خلال المستعمرات والمستوطنات التي تتطوَّقها من جميع جهاتها، بل امتدّت هذه المستوطنات إلى أحيائها العربية، ومن شأنها تقطيع أوصال هذه الأحياء وفصلها عن بعضها البعض. كما انتشر سرطان الاستيطان في الأراضي الفلسطينية من خلال مصادرات الأراضي من أصحابها الشرعيين لإقامة المستوطنات وابتلاع أكبر قدر من الأرض في بناء وإقامة الطرق والشوارع الالتفافية، مما أحرق مقوّمات الاقتصاد لأبناء شعبنا الذي يعتمد على

الزراعة واستغلال الأرض التي جُرّفَتْ من قبل الاحتلال ودمّرت مزارعها وقطعت الملايين من أشجارها. لم يكن الحريق المشؤوم للمسجد الأقصى المبارك الاعتداءَ الوحيد على هذا المسجد، بل تعددت أشكال العدوان التي استهدفت وتستهدف المسجد من خلال الحفريات التي جرت وتجري خاصّة في الجهة الجنوبيّة الشرقية من جدران المسجد، ومن الجهة الغربية التي كان من أخطرها نفق البراق الذي يمتدّ من ساحة البراق بمحاذاة الجدار الغربي للمسجد الأقصى وأسفل الأروقة والمدارس الإسلامية التي تعود إلى فترات متقدمة من العصر الأمويّ والعباسي والمملوكي، وصولًا إلى العهد العثماني. هذا النفق الذي أثر وما يزال يؤثِّر على العمائر الإسلامية والأملاك الوقفية الواقعة فوقه بالتصدع والتشقق، ويعرضها لخطر الانهيار. كما نفذ المعتدون من خلال هذا النفق إلى (بئر قايتباي) الواقع في مواجهة قبة الصخرة المشرفة، إلا أن الأوقاف الإسلامية استطاعت وبوقفة شجاعة من أبناء هذه الديار إعادة الأمور إلى سابق عهدها، وتجنيب أرض المسجد الأقصى دنس هذا العدوان. إن المسجد الأقصى المبارك الذي تعرض لاعتداءات كثيرة في ظل الاحتلال من الحرق إلى الحفريات، إلى إطلاق النار في ساحاته وفي أروقته وتحت قبابه، ومقتل الأبرياء من المصلين في رحابه الطاهرة، وهم يذودون عنه بصدورهم العارية إلا من وهج الإيمان وقوّة الإرادة والعقيدة في ردّ العدوان، وإفشال أهداف المعتدين في فرض الأمر الواقع على المسجد ومرافقه والتدخل في شؤونه، في هجمة تستهدف السيطرة عليه لتنفيذ أحلام الحالمين بهيكل مزعوم على أنقاضه، لا سمح الله. وفي الوقت الذي تشتدّ فيه وطأة الاحتلال على شعبنا وأرضنا بقصف الأبرياء في المدن والقرى والمخيمات وسقوط القتلى على ثرى هذه الأرض الطاهرة التي أبت وأبى شعبها المرابط أن يركع إلا لله وحده، فلن تلين قناة هذا الشعب للحصار

والإغلاق والحواجز، ولا لجدران الفصل العنصرية التي تمزق أوصال الوطن في محاولات يائسة للنيل من شعبنا والقفز عن تضحياته لتمرير مخططات الاحتلال وتنفيذ أهدافه التي ما عادت خافية على أبناء شعبنا وعلى أبناء الشعوب الإسلامية. أسئلة مريرة: لماذا نسيت أو تناست الأمة تاريخ اليهود؟!! لماذا يا قوم والتاريخ بين أيدينا مسطور؟!! لماذا يا قوم والحقائق معلومة للأحياء، بل وللأموات داخل القبور؟!! لماذا نسيت الأمة تاريخ اليهود؟!! سؤال يحتاج إلى جواب، والجواب في كلمات قاطعة لأن المؤامرة على هذا الدين وعلى هذه الأمة قد حبكت تعليميًا وإعلاميًا حبكًا دقيقًا محكمًا!! وضعوا المناهج الدراسية لنا ولأبنائنا وضعًا دقيقًا فشوهوا العقيدة وشوهوا مفهوم لا إله إلا الله، ونَحَّوْا عن الحكم شريعة الله وشوهوا التاريخ الإسلامي، ومجَدوا المناهج الجاهلية الأرضية. مجدوا جاهلية (حورس)!! وجاهلية (مينا)!! وجاهلية (خوفو)!! علمونا في المناهج أن (ماجلان) عبقري وبطل كل زمان!! ولم يعلمونا أنه هو الذي أضرم في المسلمين النيران!! علمونا أن الدين هو الرجعية والتخلف!! علّمونا أن الحملة الفرنسية كانت فتحًا لمصر ولم تكن غزوًا ولم يخبرونا أن نابليون قد دخل الجامع الأزهر بخيوله لحرق قلوب العلماء والمسلمين!! علمونا أن العلمانية هى الصراط المستقيم!! ومن يعرض عنها فإن له معيشة ضنكا!! علمونا أن التمسك بالدين رجعية، وأن التمسك بالدين تخلف، وأن خليفة المسلمين هو الرجل المريض!! علمونا منذ اللحظات الأولى في هذه المناهج الدراسية حب جبران، والسوبر مان وشكسبير وسارتر وسيمون ديبوفوار وكل الوجوديات وما بها من أفكار وأن هؤلاء هم الذين يقولون الحق ويعدلون به!!!

علمونا كيف يكون الإستسلام بذلٍ وعار؟ بل وكيف يكون القبول للخروج من الأرض والديار؟! ولا زال مسلسل خروج المسلمين من الأرض مستمرًا إلى هذا النهار!! بدأت أولى حلقات (مسلسل خروج المسلمين من الآرض) في بلاد الأندلس. ثم في بلاد مورو في الفلبين، في بخاري، وفي طشقند، وفي طجكستان، وفي تركستان، في كشمير، في الصومال، وفي البوسنة، وفي الشيشان، وفي فلسطين، ولا زال المسلسل مستمرًا حتى الآن!! وسؤال مرير آخر: لماذا انتصر اليهود وانهزم المسلمون؟! لماذا انتصر اليهود وهم لا يزيدون عن بضعة ملايين، وانهزم المسلمون وهم يزيدون على ألف مليون؟!! والجواب في آية واحدة محكمة من الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد 11). فلما غيرت الأمة دين ربها وشريعة نبيها وتخلت عن أصل عِزِّها أذلها الله. إنه الذل لليهود الذين يتلاعبون بالعالم الإسلامي!! بل بالعالم كله!! فاستوى المسلمون مع اليهود في المعاصي والبعد عن الملك، فترك الله المسلمين لليهود فذل اليهود المسلمين. سُنَةُ ثابتة ... إن الله لا يحابي أحدًا من الخلق بحال مهما ادعى لنفسه من مقومات المحاباة. سُننُ ربانية في الكون لا تتغير ولا تتبدل لابد أن يعيها المسلمون من جديد. ما السبيل؟! بعد هذا العرض المر المؤلم لهذا التاريخ المسطور المعلوم يتساءل الشباب بل والمسلمون: ما السبيل؟! ما الحل؟! ما الطريق؟! في نقاط محددة نقدم مشروع الخلاص من هذا المأزق الحرج والواقع المر الأليم: أولًا: أن ترجع الأمة إلى الله - جل وعلا - بتصحيح العقيدة والعبادة وتحكيم الشريعة وتقويم الأخلاق تحويل الإسلام إلى منهج عملي وواقع حياة.

ثانيًا: أن تصطلح الأمة مع شبابها الطاهر المتوضئ، المؤمن الذي تصب الأمة الآن علي رأسه جام غضبها في الوقت الذي تكرم فيه الساقطين والتافهين ممن سيكونون أول من يفر ساعة الجد كفرار الفئران لابد أن تعرف الأمة قدر الشباب الطاهر الذي سيقف في الميدان إذا جد الجد وحمي الوطيس. لابد من الصلح معه فإن أمة تتحدى شبابها الطاهر أمة خاسرة لا كيان لها ولا بقاء. هذا الشباب هو مصدر القلق والفزع والرعب لأعداء الله - جل وعلا - بل وقد صرح اليهود بذلك فقالوا: «لقد استطعنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في المنطقة أن يظل الإسلام بعيدًا عن حلقة الصراع، ولابد أن يبقى الإسلام بعيدًا عن حلبة الصراع»!!! إن الصراع بيننا وبين اليهود ليس صراع أرض وحدود ولكن صراع عقيدة ووجود. ثالثًا: رفع راية الجهاد في سبيل الله، فلا عِزَّ للأمة إلا بالجهاد. فما ذلت الأمة وهانت إلا يوم أن ضيعت الجهاد، الذي جعله رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ذروة سنام هذا الدين. ولقد حرص أعداؤنا على أن يحُولُوا بين الأمة وبين الجهاد وحاولوا بشتى الطرق ألا تربى الأجيال المسلمة على روح الجهاد وسير الأبطال الفاتحين!! وها هو الواقع يصرخ في وجوه المخمورين الغافلين أن مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة وجميع المحافل الدولية لن تعيد للأمة المكلومة أراضيها أو دمائها أو كراماتها، بل ولا سبيل لذلك مطلقًا إلا برفع راية الحهاد في سبيل الله. فالعالم اليوم لا يحترم إلا الأقوياء!! كما قال الإرهابي الكبير (مناحم بيجن): «إننا نحارب إذن نحن موجودون»!!! ويجب أن نكون على يقين أن المستقبل لهذا الدين رغم كيد اليهود المجرمين والمنافقين. وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه في آخر الزمان ستقاتل أمته اليهود فعن أبي هريرة سدد خطاكم أنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تُقَاتِلُوا الْيَهُودَ حَتَّى يَقُولَ الْحَجَرُ وَرَاءَهُ الْيَهُودِيُّ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ» (رواه البخاري) وفي رواية

للبخاري أيضًا: «تُقَاتِلُكُمْ الْيَهُودُ فَتُسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ ثُمَّ يَقُولُ الْحَجَرُ: يَا مُسْلِمُ هَذَا يَهُودِيٌّ وَرَائِي فَاقْتُلْهُ» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية لمسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ، فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ، فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ: يَا مُسْلِمُ، يَا عَبْدَ اللهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ، إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ» (رواه مسلم). (الْغَرْقَد نَوْع مِنْ شَجَر الشَّوْك مَعْرُوف بِبِلَادِ بَيْت الْمَقْدِس). يا أُمتي وجبَ الكفاحْ ... فدعي التشدق والصياحْ ودَعِي التقاعُسَ ليسَ يُنْصَرُ ... مَن تقاعسَ واسْتراحْ غصَبوا فلسطينًا وقالوا ... ما لنا عنها بَراحْ ما عاد يُجدينا البُكاءُ ... على الطُلُولِ ولا النُّواحْ يا قومْ إن الأمرَ جِدٌّ ... قد مضى زمنُ المِزاحْ سقَط القِناعُ عن الوُجوهِ ... وفِعْلُهم بالسرِّ بَاحْ عادَ الصليبيّونَ ثانيةً ... وجالوا في البِطاحْ عادُوا وما في الشَّرقِ (نور ... الدين) يحكُمُ أو (صلاحْ) عاثوا فسادًا في الدِيَار ... كأنها كلْاٌ مُباحْ لم يخجَلوا من ذبْحِ شيخٍ ... لو مشَى في الريح طاحْ أو صِبْيَةٍ كالزهْرِ لم ... يَنْبٌتْ لهم ريشُ الجناحْ ذبحُوا الصبيَّ وأمَّهُ ... وفَتَاتَها ذاتَ الوِشاحْ عبثوا بأجسادِ الضحايا ... في إنتِشاءٍ وانشِراحْ لم يَشْفِ حِقدهمُ دمٌ ... سفحوه في صَلَفٍ وَقَاحْ

فغَدوا علَى الأعراضِ لم ... يَخْشَوا قِصَاصًا أو جُناحْ لم يعبَأوا بقرار أمنٍ ... داَنَهُم أو باقِتراحْ يا أمَّةَ الإسلامِ هُبُّوا ... واعْمَلوا فالوقتُ راحْ الكفْرُ جَمَّعَ شَمْلَهُ ... فلِمَ النِّزاعُ والانْتِطاحْ فتجمَّعُوا وتَجَهَّزوا ... بالمُستطاعِ وبالمُتاحْ يا ألفِ مِليونٍ وأينَ ... هُمُو إذا دَعَتِ الجِراحْ هاتُوا من المليارِ ملْيونًا ... صِحاحًا من صِحاحْ من كُلِّ ألفٍ واحدًا ... أغْزُو بِهِم في كُلِّ سَاحْ لا بُدّ من صُنْعِ الرجالِ ... ومِثْلُه صُنْعُ السلاحْ وصِناعةُ الأبطالِ عِلمٌ ... قد دَارَه أُولو الصلاحْ مَنْ لمْ يُلَقَّنْ أصْلَهُ ... مِن أهِلهِ فَقَدَ النجاحْ لا يُصْنَع الأبطالُ إلا ... في مساجِدِنا الفِساحْ في رَوْضَةِ القُرْآنِ في ... ظِلِّ الأحاديثِ الصِحاحْ لا يستوِي في منطِق ... إلايمان سكرانٌ وصاحْ مَنْ همُّه التَّقْوَى وآخرُ ... همُّهُ كأسٌ ورَاحْ شَعْبٌ بغَيرِ عقيدةٍ ... وَرَقٌ تُذَرِّيهِ الريَاحْ من خانَ (حيَّ على الصلاةِ) ... يخُونُ حيَّ على الكِفاحْ (براح): مُتّسع من الأرض لا نباتَ فيه ولا عمرانَ ولا ماء. (طاح): سقط (الصَلَف): التَّكبُّر والعُجب. (وَقَاحْ): وقُحَ الشَّخصُ: قلَّ حياؤُه واجترأ على فعل القبائح ولم يعبأ بها. (رَاحْ): خمر.

موضوعات مناسبات

91 - لا يضر السحابَ نبحُ الكلاب إمامَ المرسلينَ فِداكَ رُوحي ... وأرواحُ الأئمةِ والدعاةْ رسُولَ العالمينَ فِداكَ عِرضِي ... وأعراضُ الأحبةِ والتقاة جريمة الاستهزاء بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: هزّت العالمَ الإسلاميَّ أجمع تلك الحملات المشينة التي تهدف إلى الإساءة إلى البشير النذير رسول الله محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، وكم آلمت كل مسلم غيورٍ على دينه بما فيها من استهزاء وسخرية بمعتقدات أمتنا الإسلامية. هجوتَ محمدًا، فأجبتُ عنهُ ... وعندَ اللهِ في ذاكَ الجزاءُ أتَهْجُوهُ، وَلَسْتَ لَهُ بكُفْءٍ ... فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُمَا الفِداءُ هجوتَ مباركًا، برًّا، حنيفًا ... أمينَ اللهِ، شيمتهُ الوفاءُ فَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... ويمدحهُ، وينصرهُ سواءُ فَإنّ أبي وَوَالِدَهُ وَعِرْضي ... لعِرْضِ محمدٍ منكمْ وقاءُ هل تطفئ البصقة ضوء الشمس؟ «لا يضر السحابَ نبحُ الكلاب، ولن يَضِيرَ السماءَ نقيقُ الضفادع». يا نَاطِحَ الجَبَلَ العالي ليَكْلِمَه ... أَشفِقْ على الرّأسِ لا تُشْفِقْ على الجَبَلِ قال بيير فوجل (أبو حمزة): «حالُ مَن يَسُبُّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كالباصق على الشمس ... لن تجاوزَ البصقةُ رأسَه ثم تهوِي على وجهِه، ولا يضرُّ الشمسَ شيءٌ».

كناطحٍ صخرةً يومًا لِيُوهِنَها ... فلم يَضِرْها وأوْهَى قرنَه الوعِلُ و (بيير فوجل) هو أحد المسلمين الألمان، وأحد الدعاة إلى الإسلام في ألمانيا، وكان نصرانيًا بروتستانتيًا، أسلم على يديه في يوم واحد 1250 شخصًا بعد محاضرة ألقاها عن الإسلام. قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)} (الصف: 7 - 9). {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} والحال أنه لا عذر له، وقد انقطعت حجته؛ لأنه {يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} ويُبَيَّن له ببراهينه وبيناته، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الذين لا يزالون على ظلمهم مستقيمين، لا تردهم عنه موعظة، ولا يزجرهم بيان ولا برهان، خصوصًا هؤلاء الظلمة القائمين بمقابلة الحق ليردوه، ولينصروا الباطل، ولهذا قال الله عنهم: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} أي: بما يصدر منهم من المقالات الفاسدة، التي يرُدُّون بها الحق، وهي لا حقيقة لها، بل تزيد البصير معرفة بما هم عليه من الباطل، {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أي: قد تكفل الله بنَصْر دينه، وإتمام الحق الذي أرسل به رسله، وإشاعة نوره على سائر الأقطار، ولو كره الكافرون، وبذلوا بسبب كراهتهم كل سبب يتوصلون به إلى إطفاء نور الله فإنهم مغلوبون. وصاروا بمنزلة من ينفخ عين الشمس بفمه ليطفئها، فلا على مرادهم حصلوا ولا سَلِمَتْ عقولهم من النقص والقدح فيها. فنور الله لا يمكن أن تطفئه الأفواه، ولا أن تطمسه كذلك النار والحديد، في أيدي العبيد! وإن خُيِّلَ للطغاة الجبارين، وللأبطال المصنوعين على أعين الصليبيين واليهود أنهم بالغو هذا الهدف البعيد! ثم ذكر سبب الظهور والانتصار للدين الإسلامي، الحسي والمعنوي، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} أي: بالعلم النافع والعمل الصالح. بالعلم الذي يهدي إلى

الله وإلى دار كرامته، ويهدي لأحسن الأعمال والأخلاق، ويهدي إلى مصالح الدنيا والآخرة. {وَدِينِ الْحَقِّ} أي: الدين الذي يدان به، ويتعبد لرب العالمين الذي هو حق وصدق، لا نقص فيه، ولا خلل يعتريه، بل أوامره غذاء القلوب والأرواح، وراحة الأبدان، وترك نواهيه سلامة من الشر والفساد فما بعث به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من الهدى ودين الحق، أكبر دليل وبرهان على صدقه، وهو برهان باق ما بقي الدهر، كلما ازداد العاقل تفكرًا، ازداد به فرحًا وتبصرًا. {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} أي: ليعليه على سائر الأديان، بالحجة والبرهان، ويظهر أهله القائمين به بالسيف والسنان، فأما نفس الدين، فهذا الوصف ملازم له في كل وقت، فلا يمكن أن يغالبه مغالب، أو يخاصمه مخاصم إلا فلجه وبلسه، وصار له الظهور والقهر، وأما المنتسبون إليه، فإنهم إذا قاموا به، واستناروا بنوره، واهتدوا بهديه، في مصالح دينهم ودنياهم، فكذلك لا يقوم لهم أحد، ولا بد أن يظهروا على أهل الأديان، وإذا ضيعوه واكتفوا منه بمجرد الانتساب إليه، لم ينفعهم ذلك، وصار إهمالهم له سبب تسليط الأعداء عليهم، ويعرف هذا، من استقرأ الأحوال ونظر في أول المسلمين وآخرهم. إنا أعطيناك الكوثر: قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} (الكوثر: 1 – 3). يقول الله - سبحانه وتعالى - لنبيه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ممتنا عليه: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: الخير الكثير، والفضل الغزير، الذي من جملته، ما يعطيه الله لنبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة، من النهر الذي يُقالُ له {الْكَوْثَرَ} ومن الحوض. طوله شهر، وعرضه شهر، ماؤه أشد

بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته كنجوم السماء في كثرتها واستنارتها، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا. والكوثر صيغة من الكثرة وهو مطلق غير محدود. يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء. إنا أعطيناك ما هو كثر فائض غزير. غير ممنوع ولا مبتور. فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور. هو واجِدُه في النبوة. وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه. وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته، وينبوع لا نهاية لفيضه وغزارته! وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه، ويصلي على من يصلي عليه في الأرض، حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء. وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون، في أرجاء الأرض، وفي الملايين بعْدَ الملايين السائرة على أثره، وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه، وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة. وهو واجِدُه في الخير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه. سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به، ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فَاض! وهو واجده في مظاهر شتى، محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها! إنه الكوثر، الذي لا نهاية لفيضه، ولا إحصاء لعوارفه، ولا حد لمدلوله. ومِن ثَمَّ ترَكه النص بلا تحديد، يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد. ولما ذكر الله - سبحانه وتعالى - مِنَّتَه عليه، أمره بشكرها فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} خص هاتين العبادتين بالذكر؛ لأنهما من أفضل العبادات وأجل القربات. فعلى غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون، وجه الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى شكر النعمة بحقها الأول. حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه. في الصلاة وفي

ذبح النسك خالصاً لله غير ملق بالًا إلى شرك المشركين، وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم. والصلاة تتضمن الخضوع في القلب والجوارح لله، وتنقلها في أنواع العبودية، وفي النحر تقرب إلى الله بأفضل ما عند العبد من الذبائح، وإخراج للمال الذي جبلت النفوس على محبته والشح به. {إِنَّ شَانِئَكَ} أي: مبغِضُك وذامُّك ومنتقصك {هُوَ الْأَبْتَرُ} أي: المقطوع من كل خير، مقطوع العمل، مقطوع الذكر. وأما محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو الكامل حقًا، الذي له الكمال الممكن في حق المخلوق، من رَفْع الذكر، وكثرة الأنصار والأتباع - صلى الله عليه وآله وسلم -. في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر. وفي هذه الآية يرد الكيد على كائديه، ويؤكد سبحانه أن الأبتر ليس هو محمد، إنما هم شانئوه وكارهوه. ولقد صدق فيهم وعيد الله. فقد انقطع ذكرهم وانطوى. بينما امتد ذكر محمد وعلا. ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم، في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهده سامعوه الأولون! إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر. فهو ممتد الفروع عميق الجذور. وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر. إن مقاييس الله غير مقاييس البشر. ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد. فأين الذين كانوا يقولون عن محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - قولتهم اللئيمة، وينالون بها من قلوب الجماهير، ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق؟ أين هم؟ وأين ذِكْراهم، وأين آثارهم؟ إلى جوار الكوثر من كل شيء، ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه: الأبتر؟!

إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر، وكيف وهي موصولة بالله الحي القيوم؟ إنما يُبْتَر الكفر والباطل والشر، ويُبْتَرُ أهله، مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل ممتد الجذور. وصدق الله العظيم. وكذب الكائدون الماكرون. أيُّها الشَّانِئُ أَقْصِرْ ... إِنَّمَا جِئْتُ لِأَفْخَرْ أَيُّهَا الشَّانِي تَدَبَّرْ ... فِي جَزَاءِ مَنْ تَجَبَّرْ عِنْدَ رَبِّ الْعَرْشِ تَلْقَى ... كُلَّ مَا تَجْنِي مُسَطَّرْ هل يَضِيرُ الشَّمْسَ يَوْمًا ... جَحْدُ مَنْ لِلنُّورِ أَنْكَرْ هَلْ يُمِيطُ الضَّوْءَ عَنْهَا ... أمْ بِنُورِ الْحَقِّ يُقْهَرْ أَيُّ وَجْهٍ لِقِرَانٍ؟ ... ذَاكَ نَجْمٌ لَسْتَ تُذْكَرْ أَنْتَ لَا تَسْمُو لِتُرْبٍ ... دَاسَهُ الْهادي الْمُظَفَّرْ شَادَ فِي الْآفَاقِ عِزًّا ... أُسُّهُ الدِّينُ الْمُطَهَّرْ أَيُّهَا الْفُجَّارُ مَهْلًا ... إِنَّنَا يَوْمًا سَنَثْأَرْ إِنْ أَقَمْنَا الشَّرْعَ فِينَا ... إِنَّنَا حَتْمًا سَنُنْصَرْ (الشانئ): المبغِض. (قِران): مقارنة. (تُرْب): تراب. من عادى لله وليًا فإن الله يحاربه فكيف بمن عادى نبيَّ الله محمدًا خليل الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ قَالَ: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ» (رواه البخاري).

(مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا) الْمُرَادُ بِوَلِيِّ اللهِ الْعَالِمُ بِاللهِ الْمُوَاظِبُ عَلَى طَاعَتِهِ الْمُخْلِصُ فِي عِبَادَتِهِ. (فَقَدْ آذَنْتُهُ) أَيْ أَعْلَمْتُهُ، وَالْإِيذَانُ الْإِعْلَامُ، (بِالْحَرْبِ) فَكَأَنَّ الْمَعْنَى فَقَدْ تَعَرَّضَ لِإِهْلَاكِي إِيَّاهُ، فَأَطْلَقَ الْحَرْبَ وَأَرَادَ لَازِمَهُ أَيْ أَعْمَلُ بِهِ مَا يَعْمَلُهُ الْعَدُوُّ الْمُحَارَبُ، وفِي هَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ لِأَنَّ مَنْ حَارَبَهُ اللهُ أَهْلَكَهُ. الذين يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ملعونون في الدنيا والآخرة: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)} (الأحزاب: 56 – 58). صلاة الله على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذِكْرُه بالثناء في الملأ الأعلى؛ وصلاة ملائكته دعاؤهم له عند الله - سبحانه وتعالى -، وهذا فيه تنبيه على كمال رسول اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ورفعة درجته، وعلو منزلته عند اللهِ - سبحانه وتعالى - وعند خلقه، ورفع ذِكْرِه. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} اقتداءً باللهِ - سبحانه وتعالى - وملائكته، وجزاءً له على بعض حقوقه عليكم، وتكميلا لإيمانكم، وتعظيمًا له - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومحبة وإكرامًا، وزيادة في حسناتكم، وتكفيرًا من سيئاتكم. وأين تذهب صلاة البشر وتسليمهم بعد صلاة الله العلي - سبحانه وتعالى -، وصلاة الملائكة في الملأ الأعلى؛ واقتران صلاة المؤمنين بصلاة الله - سبحانه وتعالى - واقتران تسليمهم بتسليمه فيه تشريف لهم. وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - مشروع في جميع الأوقات، وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة. وأفضل هيئات الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - ما علم به أصحابه: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ» (رواه البخاري). أو «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ

عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ؛ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». (رواه الترمذي، وصححه الألباني). ولما أمر الله - سبحانه وتعالى - بتعظيم رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، والصلاة والسلام عليه، نهى عن أذيته، وتوعد عليها فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}، وهذا يشمل كل أذية، قولية أو فعلية، من سب وشتم، أو تَنَقّصٍ له، أو لدينه، أو ما يعود إليه بالأذى. {لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي: أبعدهم وطردهم، ومِن لَعْنِهِم في الدنيا أنه يحتِّم قتل من شتم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - وآذاه. {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} جزاءً له على أذاه، أن يؤذَى بالعذاب الأليم، فأذِيَّةُ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، ليست كأذِيَّةِ غيره، لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يؤمن العبد بالله حتى يؤمن برسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وله من التعظيم، الذي هو من لوازم الإيمان، ما يقتضي ذلك، أن لا يكون مثل غيره، وإن كانت أذية المؤمنين عظيمة، وإثمها عظيمًا، ولهذا قال فيها: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي: بغير جناية منهم موجبة للأذى {فَقَدِ احْتَمَلُوا} على ظهورهم {بُهْتَانًا} حيث آذوهم بغير سبب {وَإِثْمًا مُبِينًا} حيث تَعَدَّوْا عليهم، وانتهكوا حرمة أمر اللهِ باحترامها. إنا كفيناك المستهزئين: قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر:95 - 99). في هذه الآيات أمر الله - سبحانه وتعالى - رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - أن لا يبالي بالمشركين ولا بغيرهم وأن يصدع بما أمَرَ الله ويعلن بذلك لكل أحد ولا يعوقنه عن أمره عائق ولا تصده أقوال

المتهوكين، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: لا تبال بهم واترك مشاتمتهم ومسابتهم مقبلًا على شأنك، {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} بك وبما جئت به، وهذا وعد من الله - سبحانه وتعالى - لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، أن لا يضره المستهزئون، وأن يكفِيَه الله إياهم بما شاء من أنواع العقوبة. وقد فعل - سبحانه وتعالى - فإنه ما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتَلَه شر قتلة. ثم ذكر وصفهم وأنهم كما يؤذونك يا رسول الله، فإنهم أيضًا يؤذون الله ويجعلُون معه {إِلَهًا آخَرَ} وهو ربهم وخالقهم ومدبرهم {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} غِبّ أفعالهم إذا وردوا القيامة، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} لك من التكذيب والاستهزاء، فنحن قادرون على استئصالهم بالعذاب، والتعجيل لهم بما يستحقون، ولكن الله يُمْهِلُهُم ولا يُهْمِلُهم. فأنت يا محمد {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} أي: أكْثِرْ مِنْ ذِكْر الله وتسبيحه وتحميده والصلاة فإن ذلك يوسع الصدر ويشرحه ويعينك على أمورك. {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي: الموت أي: استمر في جميع الأوقات على التقرب إلى الله بأنواع العبادات، فامتثل - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر ربه، فلم يَزَل دائبًا في العبادة، حتى أتاه اليقين من ربه - صلى الله عليه وآله وسلم -.

92 - الله - سبحانه وتعالى - يدافع عن خليله - صلى الله عليه وآله وسلم -

92 - الله - سبحانه وتعالى - يدافع عن خليله - صلى الله عليه وآله وسلم - نماذج من عقاب الله - سبحانه وتعالى - للمستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: 1 - عن أبي هريرة سدد خطاكم أنه قال: «قال أبو جهل: «هل يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْن أَظهُرِكُم»، قَالَ: فَقِيلَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ: «وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيتُهُ يَفعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ»، قَالَ فَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ يُصَلِّي - زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ - فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ. فَقِيلَ لَهُ: «مَا لَكَ؟» فَقَالَ: «إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ، وَهَوْلًا، وَأَجْنِحَةً»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا». (رواه مسلم). (يَنْكِصُ): يرَجعُ عَلَى عَقِبَيْهِ، يَمْشِي عَلَى وَرَائِهِ. (الهَوْل): فَزَع ورهبة. والجمع أهوال. 2 - عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه قال: «كان لهب بن أبي لهب يسب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ»، فخرج في قافلة يريد الشام فنزل منزلًا فقال: «إني أخاف دعوة محمد»، قالوا له: «كلا»، فحَطّوا مَتاعَهم حوله وقعدوا يحرسونه، فجاء الأسد فانتزعه فذهب به» (رواه الحاكم في المستدرك، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر العسقلاني). 3 - عن أنس سدد خطاكم قال: «كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا، فَأَسْلَمَ وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَانْطَلَقَ هَارِبًا حَتَّىَ لَحِقَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ. فَكَانَ يَقُولُ: «مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ»، قَالُوا: «هَذَا قَدْ كَانَ يَكْتُبُ لِمُحَمَّدٍ»، فَأُعْجِبُوا بِهِ، فَمَا لَبِثَ أَنْ قَصَمَ اللهُ عُنُقَهُ فِيهِمْ، فَأَمَاتَهُ اللهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا: «هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا

فَأَلْقَوْهُ»، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالُوا: «هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ»، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ؛ فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ، فَتَرَكُوهُ مَنْبُوذا». (رواه البخاري ومسلم). فهذا الملعونُ الذي افترى على النبيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه ما كان يدري إلا ما كتب له، قصمه الله وفضحه بأن أخرجه من القبر بعد أن دُفن مرارًا، وهذا أمرٌ خارجٌ عن العادة، يدلُ كلّ أحدٍ على أن هذا عقوبةً لما قالهُ، وأنه كان كاذبًا، إذ كان عامة الموتى لا يصيبهم مثل هذا، وأن هذا الجُرمَ أعظمُ من مجرد الارتداد، إذ كان عامةُ المرتدين يموتون ولا يصيبهم مثل هذا، وأن اللهَ منتقمٌ لرسولهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - ممن طعن عليه وسَبّهُ، ومُظْهِرٌ لدينه، ولكذب الكاذب إذا لم يمكن للناس أن يقيموا عليه الحد. 4 - عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى مَعَ عَبْدِ اللهِ بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ» قال الزُّهْرِيُّ: «فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ. (رواه البخاري). (يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ): أَيْ يَتَفَرَّقُوا وَيَتَقَطَّعُوا. وفي رواية أن عبد الله بن حذافة السهمي قال: «فدفَعْتُ إليه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فَقُرِئَ عليه، ثم أخذه فمزقه، فلما بلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «اللهم مَزِّقْ مُلْكَهُ». وكتب كسرى إلى باذان - عامِلَه في اليمن - أنِ ابعثْ من عندك رجلين جَلْدَيْن إلى هذا الرجل الذي بالحجاز فلْيَأتِيَاني بخبره، فبعث باذان قهرمان ورجلًا آخر وكتب معهما كتابًا، فقدما المدينة، فدفعا كتاب باذان إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ودعاهما إلى الإسلام - وفرائصهما ترعد -، وقال: «ارجِعَا عَنّي يومَكُما هذا حتى تأتياني الغد فأخْبِركما بما أريد»، فجاءاه من الغد فقال لهما: «أبْلِغَا صَاحِبَكُما أنَّ

رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّهُ كِسْرَى فِي هَذِهِ اللّيْلَة» (رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى وصححه الألباني). وكان هلاك كسرى بأنْ سلط الله عليه ابنه شيرويه فقتله. 5 - ذكر الحافظ ابن حجر في كتابه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) أن بعض أمراء المغول تنَصَّر فحضر عنده جماعة من كبار النصارى والمغول فجعل واحد منهم ينتقص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهناك كلب صيد مربوط فلما أكثر من ذلك وثب عليه الكلب فخمشه فخلصوه منه. وقال بعض من حضر: «هذا بكلامك في محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -». فقال: «كلا، بل هذا الكلب عزيز النفس، رآني أشير بيدي فظن أني أريد أن أضربه»، ثم عاد إلى ما كان فيه فأطال، فوثب الكلب مرة أخرى فقبض على زردمته فقلعها فمات من حينه، فأسلم بسبب ذلك نحو أربعين ألفا من المغول. (زَرْدَمَهُ زَرْدَمَة: أي خَنَقَه. (الزَّرْدَمَةُ): الابتلاعُ. و (الزّرْدَمةُ): موضعُ الازْدِرام في الحَلْق. وقيل: الزَّرْدَمَهُ من الإنسان تحت الحلقوم واللسانُ مركّب فيها. 6 - أفتى فقهاءَ القيروانِ وأصحابَ سُحنُون بقتلِ إبراهيم الفزاري، وكان شاعرًا متفننًا في كثير من العلومِ، وكان يستهزىء باللهِ وأنبيائهِ ونبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، فأمر القاضي يحيى بن عمرَ بقتله وصلبه، فطُعن بالسكينِ وصُلب مُنكسًا، ثم أُنزل وأُحرق بالنارِ، وحكى بعضُ المؤرخين أنه لما رُفعت خشبته، وزالت عنها الأيدي استدارت وحولته عن القبلةِ فكان آيةً للجميعِ، وكبَّر الناسُ، وجاءَ كلبٌ فولغ في دمهِ. 7 - في أحد ردوده على أحد الكُتّاب الَّذِيْ وصف الرَّسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بوصفين لا يليقان به ذكر الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - في كتابه (كلمة الحق) هذه القصة عن والده محمد شاكر، وكيل الأزهر في مصر سابقًا، أن خطيبًا مفوهًا فصيحًا كان يتوافد إليه الناس لسماع خطبه، حضر إليه ذات يوم في خطبته أحد أمراء مصر وهو، فأراد هذا الخطيب مدح هذا الأمير والثناء عليه، وكان هذا الأمير قد أكرم طه حسين الذي كان يطعن في القرآن وفي اللغة العربية، فلما حضر طه حسين والأمير في الخطبة، قام هذا الخطيب المفَوّه يمدح ذلك الأمير قائلًا له: «جاءه الأعمى فما عبس بوجهه وما تولى».

وفي كلامه هذا إساءة إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - قال عن قصته - صلى الله عليه وآله وسلم - مع ابن أم مكتوم سدد خطاكم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)} (عبس: 1 – 2 (، فلما صلى الخطيب بالناس قام الشيخ محمد شاكر والد الشيخ أحمد شاكر O ، بعد الصلاة يعلن الناس في المسجد أن صلاتهم باطلة , وأمرهم أن يعيدوا صلاة الظهر , فأعادوها، ذلك بأن الخطيب كَفَرَ بما شتم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - تعريضًا لا تصريحًا. فالله سبحانه عتب على رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - حين جاءه ابنُ أم مكتوم الأعمى , وهو يحدث صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام , فأعرض عن الأعمى قليلًا حتى يفرغ من حديثه , فأنزل الله عتاب رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في سورة كريمة، ثمّ جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل , يريد أن يتملق الأمير، فمدحه بما يوهم السامع أنه يريد إظهار منقبة لعظمته , بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكان صنع الخطيب المسكين تعريضًا برسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يرضى به مسلم. يعلق الشيخ أحمد شاكر قائلًا: «ولم يَدَع الله لهذا المجرم جُرْمه في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسمُ بالله لقد رأيته بعيني رأسي بعد بضع سنين، وبعد أن كان عاليًا منتفخًا، مستعزًا بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيْتُه مهينًا ذليلًا، خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه؛ فما كان موضعًا للشفقة، ولا شماتة فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيت من عبرة وعظة». 8 - ذكره الشيخ محمد صالح المنجد أن أحدهم ذهب لنيل شهادة الدكتوراه خارج بلده، فلما أتم دراسته وكانت تتعلق بسيرة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، طلب منه أستاذه النصرانى أن يسجل في رسالته ما فيه انتقاص للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعريض له، فتردد الرجل بين القبول والرفض، واختار في نهاية الأمر دنياه على آخرته، وأجابه إلى ما أراد طمعًا في تلك الشهادة، فما أن عاد إلى بلده حتى فوجئ بهلاك جميع أولاده وأهله في حادث مروع، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.

9 - في اليوم الأول من أغسطس 1993م، الساعة الثانية ظهرًا، وفي (ركن الخطباء) فى حديقة (هايد بارك) الشهيرة بوسط العاصمة البريطانية (لندن) اعتاد بعض المسلمين الإنجليز المؤهلين لدعوة بنى جلدتهم إلى الاسلام أن يتواجدوا بصفة أسبوعية فى (ركن الخطباء) بالحديقة المذكورة، ليتناوبوا على الخطابة داعين إلى توحيد الله - عز وجل -، وموضحين حقائق الإسلام، ومفندين شبهات أعدائه، وفى اليوم المذكور وقف الأخ أبو سفيان داعيًا إلى الله - عز وجل -، فانْبَرَى له رجل بريطانى نصرانى فأخذ يقاطعه ويشوش عليه، ثم تدني إلى ما هو أشنع من ذلك، فطوَّعَتْ له نفسه أن يلعن ويسب الله - عز وجل -، والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، والاسلام. فلم يُمْهِلْه الله طرفة عين، وإذا بالخبيث يخر فى الحال على وجهه صريعًا لليدين وللفم بعد أن بال على نفسه، وأخذت الرغوة الكريهة المقززة تنبعث من فمه، وفشلت كل محاولات إسعافه إذ كان قد نفق فى الحال، وأفضى إلى جبَّار السموات والأرض - جل وعلا -، وكان أحد رجال الشرطة البريطانية المخصصين لحفظ الأمن والنظام يراقب الموقف برمته مع الحاضرين عن كثب، فلما نفضوا أيديهم منه، وأيسوا من حياته أقبل الشرطى نحو أخينا (أبى سفيان) قائلًا له: «هذا ربك قد انتقم منه فى الحال؟»، فأجابه (أبو سفيان): «نعم هو الله الذى فعل ذلك، فادعوا الروح القدس كي تعيده إلى الحياة إن استطعتم». الله - عز وجل - ينتقمٌ لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ممن طعن عليه وسَبَّه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وإنَّ الله منتقمٌ لرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ممن طعن عليه وسَبَّه، ومُظْهِرٌ لِدِينِهِ ولِكَذِبِ الكاذب إذا لم يُمْكِن الناس أن يقيموا عليه الحدّ، ونظير هذا ما حَدَّثَنَاه أعدادٌ من المسلمين العُدُول، أهل الفقه والخبرة، عمَّا جربوه مراتٍ متعددةٍ في حَصْرِ الحصون والمدائن التي بالسواحل الشامية، لما حصر المسلمون فيها بني الأصفر في زماننا.

قالوا: «كنا نحن نَحْصُرُ الحِصْنَ أو المدينة الشهر أو أكثر من الشهر وهو ممتنعٌ علينا حتى نكاد نيأس منه، حتى إذا تعرض أهلُهُ لِسَبِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والوقيعةِ في عرضِه تَعَجَّلنا فتحه وتيَسَّر، ولم يكد يتأخر إلا يومًا أو يومين أو نحو ذلك، ثم يُفتَح المكان عنوة، ويكون فيهم ملحمة عظيمة»، قالوا: «حتى إن كنا لَنَتَبَاشَرُ بتعجيل الفتح إذا سمعناهم يقعون فيه، مع امتلاء القلوب غيظًا عليهم بما قالوا فيه». (الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، ص116 - 117). يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ سدد خطاكم قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا تَعْجَبُونَ كَيْفَ يَصْرِفُ اللهُ عَنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ وَلَعْنَهُمْ؛ يَشْتِمُونَ مُذَمَّمًا وَيَلْعَنُونَ مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ». (رواه البخاري). كَانَ الْكُفَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ شِدَّةِ كَرَاهَتِهِمْ للنَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - لَا يُسَمُّونَهُ بِاسْمِهِ الدَّالِّ عَلَى الْمَدْحِ فَيَعْدِلُونَ إِلَى ضِدِّهِ فَيَقُولُونَ: «مُذَمَّمٌ»، وَإِذَا ذَكَرُوهُ بِسُوءٍ قَالُوا: «فَعَلَ اللهُ بِمُذَمَّمٍ»، وَمُذَمَّمٌ لَيْسَ هُوَ اسْمُهُ، وَلَا يُعْرَفُ بِهِ؛ فَكَانَ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ مَصْرُوفًا إِلَى غَيْرِهِ. وعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: «لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} (المسد: 1) أقبلت العوراء أمُّ جميل بنت حرب ولها وَلْوَلَة وفي يدها فهر وهي تقول: «مذممًا أبَيْنَا، ودِينَهُ قَلَيْنَا، وأمْرَه عصَيْنَا»، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر فلما رآها أبو بكر قال: «يا رسولَ الله، قد أقبلَتْ، وأنا أخافُ أن تَرَاكَ». فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنَّهَا لَنْ تَرَانِي»، وقرأ قرآنًا فاعتصم به كما قال، وقرأ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} (الإسراء: 45). فوقفَتْ على أبي بكر ولم تَرَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فقالت: «يا أبا بكر إني أخْبِرْتُ أن صاحبَك هَجَاني»، فقال: «لا، ورَبّ هذا البيت، ما هجاكِ»، فوَلَّتْ وهي تقول:

«قد علمَتْ قريش أني بِنتُ سيدِها». (رواه الحاكم في المستدرك، وصححه، ووافقه الذهبي). (وَلْوَلَة) وَلْوَلَت المرأَةُ: دَعَتْ بالوَيْل، ورفعت صوتها بالبكاء والصِّياح (الفِهْرُ): الحَجَر قدر ما يكسر به جَوْزٌ، أو يُدَقُّ به شيءٌ. أتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ينصرون حبيبهم - صلى الله عليه وآله وسلم -: 1 - عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ سدد خطاكم أَنَّهُ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: «يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟»، قُلْتُ: «نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي». قَالَ: «أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا». فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النَّاسِ فَقُلْتُ: «أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ». فَابْتَدَرَاهُ، فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَخْبَرَاهُ فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ»، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: «أَنَا قَتَلْتُ»، فَقَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟»، قَالَا: «لَا»، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ فَقَالَ: «كِلَاكُمَا قَتَلَهُ وَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَالرَّجُلَانِ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ» (رواه مسلم). (تَمَنَّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَع مِنْهُمَا) مَعْنَى أَضْلَعَ: أَقْوَى. (لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ) أَيْ شَخْصِي شَخْصَهُ. (حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا) أَيْ لَا أُفَارِقُهُ حَتَّى يَمُوتَ أَحَدُنَا وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَجَلًا. (فَلَمْ أَنْشَبْ) مَعْنَاهُ لَمْ أَلْبَثْ. 2 - عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللهَ وَرَسُولَهُ»، فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَتُحِبُّ أَنْ أَقْتُلَهُ»، قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: «فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا»، قَالَ: «قُلْ»، فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَإِنَّهُ قَدْ عَنَّانَا، وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ

أَسْتَسْلِفُكَ»، قَالَ: «وَأَيْضًا وَاللهِ لَتَمَلُّنَّهُ»، قَالَ: «إِنَّا قَدْ اتَّبَعْنَاهُ فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ أَرَدْنَا أَنْ تُسْلِفَنَا وَسْقًا أَوْ وَسْقَيْنِ». فَقَالَ: «نَعَمِ، ارْهَنُونِي». قَالُوا: «أَيَّ شَيْءٍ تُرِيدُ؟»، قَالَ: «ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ»، قَالُوا: «كَيْفَ نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ»، قَالَ: «فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ»، قَالُوا: «كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُسَبُّ أَحَدُهُمْ فَيُقَالُ: رُهِنَ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ، هَذَا عَارٌ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ - يَعْنِي السِّلَاحَ -». فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ فَجَاءَهُ لَيْلًا وَمَعَهُ أَبُو نَائِلَةَ - وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ - فَدَعَاهُمْ إِلَى الْحِصْنِ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: «أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟». ِفَقَالَ: «إِنَّمَا هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَأَخِي أَبُو نَائِلَةَ». قَالَتْ: «أَسْمَعُ صَوْتًا كَأَنَّهُ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّمُ»، قَالَ: «إِنَّمَا هُوَ أَخِي مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعِي أَبُو نَائِلَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طَعْنَةٍ بِلَيْلٍ لَأَجَابَ». قَالَ: «وَيُدْخِلُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ مَعَهُ رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: «إِذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِلٌ بِشَعَرِهِ فَأَشَمُّهُ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي اسْتَمْكَنْتُ مِنْ رَأْسِهِ فَدُونَكُمْ فَاضْرِبُوهُ». وَقَالَ مَرَّةً: «ثُمَّ أُشِمُّكُمْ»، فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحًا وَهُوَ يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ: «مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رِيحًا» - أَيْ أَطْيَبَ – قَالَ: «عِنْدِي أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ وَأَكْمَلُ الْعَرَبِ»، فَقَالَ: «أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمَّ رَأْسَكَ؟»، قَالَ: «نَعَمْ»، فَشَمَّهُ، ثُمَّ أَشَمَّ أَصْحَابَهُ، ثُمَّ قَالَ: «أَتَأْذَنُ لِي»، قَالَ: «نَعَمْ»، فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ قَالَ: «دُونَكُمْ»، فَقَتَلُوهُ، ثُمَّ أَتَوْا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَأَخْبَرُوهُ. (رواه البخاري ومسلم). (كَعْب بْنِ الْأَشْرَفِ) أَيِ الْيَهُودِيّ. وكَانَ شَاعِرًا وَكَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٌ. (فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا) كَأَنَّهُ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَفْتَعِلَ شَيْئًا يَحْتَالُ بِهِ، وَقد ظهر من السِيَاق أَنَّهُمُ اسْتَأْذَنُوا أَنْ يَشْكُوا مِنْهُ وَيَعِيبُوا رَأْيَهُ. (إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ) يَعْنِي النَّبِيّ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (قَدْ عَنَّانَا) مِنَ الْعَنَاءِ وَهُوَ التَّعَبُ.

(قَالَ: وَأَيْضًا) أَيْ وَزِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ فَسَّرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَاللَّهِ لَتَمَلُّنَّهُ) مِنَ الْمَلَالِ. (ارْهَنُونِي) أَيِ ادْفَعُوا لِي شَيْئًا يَكُونُ رَهْنًا عَلَى التَّمْرِ الَّذِي تُرِيدُونَهُ. (وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ) لَعَلَّهُمْ قَالُوا لَهُ ذَلِكَ تَهَكُّمًا، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ جَمِيلًا. (وَلَكِنْ نَرْهَنُكَ اللَّأْمَةَ) قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي السِّلَاحَ كَذَا قَالَ، وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ: اللَّأْمَةُ الدِّرْعُ، فَعَلَى هَذَا إِطْلَاقُ السِّلَاحِ عَلَيْهَا مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْكُلِّ عَلَى الْبَعْضِ. وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ لِئَلَّا يُنْكِرَ مَجِيئَهُمْ إِلَيْهِ بِالسِّلَاحِ. (وَكَانَ أَخَاهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ) يَعْنِي كَانَ أَبُو نَائِلَةَ أَخَا كَعْبٍ بن الأشرف. (فَإِنِّي قَائِلٌ بِشَعْرِهِ فَأَشُمُّهُ) وَهُوَ مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ عَلَى الْفِعْلِ. (وَقَالَ مَرَّةً: فَأُشِمُّكُمْ) أَيْ أُمَكِّنُكُمْ مِنَ الشَّمِّ. وفي الحديث جواز الْكَذِبُ فِي الْحَرْبِ، وَفِيهِ جَوَازُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ إِذَا كَانَتِ الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ قَدْ بَلَغَتْهُ، وَفِيهِ جَوَازُ الْكَلَامِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي الْحَرْبِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ قَائِلُهُ إِلَى حَقِيقَتِهِ. وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى قُوَّةِ فِطْنَةِ امْرَأَته الْمَذْكُورَة وَصِحَّة حَدِيثهَا وَبَلَاغَتِهَا فِي إِطْلَاقِهَا أَنَّ الصَّوْتَ يَقْطُرُ مِنْهُ الدَّم. 3 - عن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ سدد خطاكم قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِلَى أَبِي رَافِعٍ الْيَهُودِيِّ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَتِيكٍ وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَيُعِينُ عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُ وَقَدْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ لِأَصْحَابِهِ: «اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ، فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ وَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ لَعَلِّي أَنْ أَدْخُلَ». فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنْ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ: «يَا عَبْدَ اللهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ، فَادْخُلْ؛ فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُغْلِقَ الْبَابَ». فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ، فَلَمَّا دَخَلَ النَّاسُ أَغْلَقَ الْبَابَ ثُمَّ عَلَّقَ الْأَغَالِيقَ عَلَى وَتَدٍ. فَقُمْتُ إِلَى الْأَقَالِيدِ فَأَخَذْتُهَا فَفَتَحْتُ الْبَابَ، وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ، وَكَانَ فِي عَلَالِيَّ لَهُ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعِدْتُ إِلَيْهِ فَجَعَلْتُ كُلَّمَا فَتَحْتُ بَابًا أَغْلَقْتُ

عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ. قُلْتُ: «إِنْ الْقَوْمُ نَذِرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ»، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ لَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنْ الْبَيْتِ. فَقُلْتُ: «يَا أَبَا رَافِعٍ»، قَالَ: «مَنْ هَذَا؟»، فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ ِالصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ وَأَنَا دَهِشٌ، فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا وَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنْ الْبَيْتِ فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: «مَا هَذَا الصَّوْتُ يَا أَبَا رَافِعٍ»، فَقَالَ: «لِأُمِّكَ الْوَيْلُ؛ إِنَّ رَجُلًا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ». فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنَتْهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ ظُبَّةَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ؛ فَعَرَفْتُ أَنِّي قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الْأَبْوَابَ بَابًا بَابًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ لَهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي، وَأَنَا أُرَى أَنِّي قَدْ انْتَهَيْتُ إِلَى الْأَرْضِ، فَوَقَعْتُ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ فَانْكَسَرَتْ سَاقِي، فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَةٍ، ثُمَّ انْطَلَقْتُ حَتَّى جَلَسْتُ عَلَى الْبَابِ، فَقُلْتُ: «لَا أَخْرُجُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ»، فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِي عَلَى السُّورِ فَقَالَ: «أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ تَاجِرَ أَهْلِ الْحِجَازِ»، فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي فَقُلْتُ: «النَّجَاءَ فَقَدْ قَتَلَ اللهُ أَبَا رَافِعٍ»، فَانْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَحَدَّثْتُهُ فَقَالَ: «ابْسُطْ رِجْلَكَ»، فَبَسَطْتُ رِجْلِي فَمَسَحَهَا فَكَأَنَّهَا لَمْ أَشْتَكِهَا قَطُّ. (رواه البخاري). (وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ) أَيْ رَجَعُوا بِمَوَاشِيهِمُ الَّتِي تَرْعَى. (تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ) أَيْ تَغَطَّى بِهِ لِيُخْفِيَ شَخْصَهُ لِئَلَّا يُعْرَفَ. (فَهَتَفَ بِهِ) أَيْ نَادَاهُ. (فَكَمَنْتُ) أَيِ اخْتَبَأْتُ. (ثُمَّ عَلَّقَ الْأَغَالِيقَ) الْأَغَالِيقُ جَمْعُ غَلَقٍ: مَا يُغْلَقُ بِهِ الْبَابُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْمَفَاتِيحُ، كَأَنَّهُ كَانَ يَغْلِقُ بِهَا وَيَفْتَحُ بِهَا. (يُسْمَرُ عِنْدَهُ) أَيْ يَتَحَدَّثُونَ لَيْلًا. (فِي عَلَالِيٍّ لَهُ) جَمْعُ عَلِيَّةٍ، وَهِيَ الْغُرْفَةُ. (نَذِرُوا بِي) أَي علمُوا وأصْلُهُ مِنَ الْإِنْذَارِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُحْذَرُ مِنْهُ. (فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ) أَيْ قَصَدْتُ نَحْوَ صَاحِبِ الصَّوْتِ. (وَأَنَا دَهِشٌ) مُتَحَيِّرٌ مَدْهُوشٌ. (فَمَا أَغْنَيْتُ شَيْئًا) أَيْ لَمْ أَقْتُلْهُ. (هَدَأتْ الْأَصْوَات) أَي سَكَنَتْ. (فَأَضْرِبُهُ) ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ مُبَالَغَةً لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ الْحَالِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَدْ مَضَى.

(فَلَمْ يُغْنِ) أَيْ لَمْ يَنْفَعْ. (ظُبَّةُ السَّيْف) حَرْفُ حَدّ السَّيْفِ. (فَوَضَعْتُ رِجْلِي وَأَنَا أُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ أَظُنُّ. (أَنْعَى أَبَا رَافِعٍ) النَّعْيُ خَبَرُ الْمَوْتِ، وَالِاسْمُ النَّاعِي. (فَقُلْتُ النَّجَاء) أَيْ أَسْرِعُوا. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفَوَائِدِ جَوَازُ اغْتِيَالِ الْمُشْرِكِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ وَأَصَرَّ، وَقَتْلُ مَنْ أَعَانَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - بِيَدِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ لِسَانِهِ، وَجَوَازُ التَّجسِيسِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ وَتَطَلُّبُ غِرَّتِهِمْ، وَالْأَخْذُ بِالشِّدَّةِ فِي مُحَارَبَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَجَوَازُ إِبْهَامِ الْقَوْلِ لِلْمَصْلَحَةِ، وَتَعَرُّضِ الْقَلِيلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَثِيرِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَالْحكم بِالدَّلِيلِ والعلامة لاستدلال بن عَتِيكٍ عَلَى أَبِي رَافِعٍ بِصَوْتِهِ، وَاعْتِمَادِهِ عَلَى صَوت الناعي بِمَوْتِهِ. 4 - عن ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلَّا قَامَ»، فَقَامَ الْأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا صَاحِبُهَا كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَنْهَاهَا فَلَا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا، وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا» فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلَا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ». (رواه أبو داود، وصححه الألباني). (أُمُّ وَلَدٍ) أَيْ غَيْرُ مسلمة ولذلك كانت تجترىء عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الشَّنِيعِ. والجَارِيَةُ إِذَا وَلَدَتِ لِسَيِّدِهَا اسْتَحَقَّتِ الْعِتْقَ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا بِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَتُسَمَّى حِينَئِذٍ (أُمَّ وَلَدٍ) وَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنَ اسْتِمْرَارِ تَسَرِّي سَيِّدِهَا بِهَا إِلَى أَنْ يَمُوتَ أَحَدُهُمَا، وَلاَ تُبَاعُ، وَلَهَا أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ.

(وَتَقَعُ فِيهِ) يُقَالُ وَقَعَ فِيهِ إِذَا عَابَهُ وَذَمَّهُ (وَيَزْجُرُهَا) أَيْ يَمْنَعُهَا (فَلَا تَنْزَجِرُ) أَيْ فَلَا تَمْتَنِعُ (فَأَخَذَ) أَيِ الْأَعْمَى (الْمِغْوَلَ) مِثْلَ سَيْفٍ قَصِيرٍ يَشْتَمِلُ بِهِ الرَّجُلُ تَحْتَ ثِيَابِهِ فَيُغَطِّيهِ، وَقِيلَ حَدِيدَةٌ دَقِيقَةٌ لَهَا حَدٌّ مَاضٍ، وَقِيلَ هُوَ سَوْطٌ فِي جَوْفِهِ سَيْفٌ دَقِيقٌ يَشُدُّهُ الْفَاتِكُ عَلَى وَسَطَهِ لِيَغْتَالَ بِهِ النَّاسَ. (وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا) أَيْ تَحَامَلَ عَلَيْهَا (فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ) لَعَلَّهُ كَانَ وَلَدًا لَهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَمُتْ. (فَلَطَّخَتْ) أَيْ لَوَّثَتْ (مَا هُنَاكَ) مِنَ الْفِرَاشِ. (فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ) أَيِ الْقَتْلُ. (فَقَالَ: أَنْشُدُ اللهَ رَجُلًا) أَيْ أَسْأَلُهُ بِاللَّهِ وَأُقْسِمُ عَلَيْهِ. (فَعَلَ مَا فَعَلَ) مَا مَوْصُولَةٌ، أي فَعَلَ الذي فَعَلَ. (لِي عَلَيْهِ حَقٌّ) أَيْ مُسْلِمًا يَجِبُ عَلَيْهِ طَاعَتِي وَإِجَابَةُ دَعْوَتِي. (يَتَزَلْزَلُ) أَيْ يَتَحَرَّكُ. (بَيْنَ يَدَي النَّبِيّ) أَيْ قُدَّامَهُ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (مِثْلَ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ) أَيْ فِي الْحُسْنِ وَالْبَهَاءِ وَصَفَاءِ اللَّوْنِ. (أَلَا) بِالتَّخْفِيفِ (إِنَّ دَمَهَا هَدَرٌ) لَعَلَّهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلِمَ بِالْوَحْيِ صِدْقَ قَوْلِهِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إِذَا لَمْ يَكُفَّ لِسَانَهُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَلَا ذِمَّةَ لَهُ فَيَحِلُّ قَتْلُهُ. وفِيهِ أَنَّ سَابَّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يُقْتَلُ. 5 - عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قُالُ: «كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: «يَالَلْمُهَاجِرِينَ»، وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: «يَالَلْأَنْصَارِ» فَسَمِعَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»، قَالُوا: «رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَسَعَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ»، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَعُوهَا؛ فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، فَسَمِعَ ذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ، فَقَالَ: «أَوَقَدْ فَعَلُوهَا، وَاللهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ»، فَقَالَ عُمَرُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ»، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَعْهُ؛ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»، فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ: «وَاللهِ لَا تَنْقَلِبُ حَتَّى تُقِرَّ أَنَّكَ الذَّلِيلُ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْعَزِيزُ»، فَفَعَلَ. (رواه الترمذي، وصححه الألباني). (فَكَسَعَ) كَسَعَهُ: ضَرَبَ دُبُرَهُ بِيَدِهِ أَوْ بِصَدْرِ قَدَمِهِ. (يَا لَلْمُهَاجِرِينَ) أَيْ أَغِيثُونِي، وَكَذَا قَوْلُ الْآخَرِ (يَا لَلْأَنْصَارِ). (مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ) أَيْ مَا شَأْنُهَا وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ

إِنْكَارٌ وَمَنْعٌ عَنْ قَوْلِ يَا لَفُلَانٍ وَنَحْوِهِ. (دَعُوهَا) أَيِ اتْرُكُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، وَهِيَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ (فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) مِنَ النَّتِنِ أَيْ أَنَّهَا كَلِمَةٌ قَبِيحَةٌ خَبِيثَةٌ. (أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ) أَيْ أَتْبَاعَهُ. (فَقَالَ لَهُ) أَيْ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ. (لَا تَنْقَلِبُ) أَيْ لَا تَرْجِعُ. (حَتَّى تُقِرَّ) مِنَ الْإِقْرَارِ أَيْ حَتَّى تَعْتَرِفَ. (فَفَعَلَ) أَيْ فَأَقَرَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ بِأَنَّهُ الذَّلِيلُ وَرَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْعَزِيزُ. لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ (¬1): قدَّر الله بحكمته أن يجعل من قلوب بعض بني آدم قلوب شياطين بدلًا من القلب الإنساني تبغض مَن فطر الله قلوب الخلق على محبته من الأنبياء والأولياء، وفي مقدمتهم خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين، وخير البرية أجمعين: محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ليتحقق من وراء ذالك مصالح عظيمة لا تخطر ببال الكفار المجرمين منها: 1 - أن يستخرج الله - عز وجل - من قلوب المؤمنين والمسلمين في الأرض ما تُكِنُّه لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مِن حُبٍّ وتعظيم، واستعداد لفدائه بالأبدان والأرواح، والأولاد، والأموال؛ فهو أحب لديهم من أنفسهم وأهليهم وأولادهم. 2 - أن يُظْهِر الله آيات قدرته في قطع شأن من أبغض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذا من دلائل نبوته، قال تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)} (الكوثر: 1 – 3). (الأَبْتَرُ) أي: المقطوع. فلا بد أن يُذِلَّ اللهُ ويُصَغِّرَ مَن أبغض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. 3 - أن يَظهر لكل عاقل ومنصف عجز الكافرين عن مواجهة الحجة بالحجة، فلا يجدون سبيلًا إلا الكذب والبهتان، والبذاءة والسب، فيعلم كل واحد أن الذين ¬

_ (¬1) بتصرف من مقالة بهذا العنوان للشيخ ياسر برهامي على موقع صوت السلف. ونشرت بجريدة (الفتح) يوم الجمعة 27 شوال 1433هـ - 14 سبتمبر 2012م.

كفروا حُجتهم داحضة عند ربهم، وهذا من دلائل نبوته - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأسباب دخول الكافرين في ملته. 4 - أن يجد المؤمنون الأسوة الحسنة لهم فيما يجدون مِن ألمٍ وطعن، حتى أكرم الخلق عند الله - عز وجل - يتعرضون للظلم والطغيان، والكذب عليهم ومحاولة تنفير الناس عنهم، وكل ذالك مآله إلى اضمحلال، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} (فاطر:10). 5 - حصول الخير الذي ذكره الله في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)} (النور:11)، فهو زيادة في رَفْع الدرجات عند الله، ومزيد الحسنات منه - سبحانه وتعالى -. 6 - أن يخيف الله الكافرين والمنافقين، ويُلقي الرعب في قلوبهم عند رؤيتهم غَضبة المسلمين لنبيهم، وانتشار أن حكم السب والطعن في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وعرضه وأذيته هو القتل، فيعذب الله هؤلاء المجرمين بالخوف والرعب، والهم والغم، وكراهية الناس لهم - حتى بَنِي ملتهم - بما جرُّوا عليهم من المخاطر وأنواع الفساد، ثم جعل الله ما أنفقوا من الأموال حسرة في قلوبهم؛ مصداق قوله قال تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)} (الأنفال:36). ولعل المسلمين في كل مكان أن يستغلوا هذه الفرصة في الدعوة إلى الله - عز وجل -، وبيان دلائل نبوته - صلى الله عليه وآله وسلم - للناس: مؤمنهم، وكافرهم، ونشر سنته وسيرته، فالقلوب مفتوحة الآن أكثر مما مضى لذلك. ولكن لا بد هنا من وقفة؛ للتنبيه على أن غضبة المسلمين في كل مكان يجب أن تكون ملتزمة بالشرع حتى في هذا المقام؛ فلا يجوز قتل أو تدمير لمن لم يشارك أو يُقِرّ أو يرضَى أو يمتدح مثل هذا الفعل الإجرامي.

وقَتْل رسل الكفار عمومًا ولو كانوا مرتدين محرم، قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لرسولي مسيلمة الكذاب وهما على دينه: «أَمَا وَاللهِ لَوْلا أَنَّ الرُّسُلَ لا تُقْتَلُ لَضَرَبْتُ أَعْنَاقَكُمَا» (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). فالدبلوماسيون الأجانب اليوم مثل رسل الكفار قديمًا، وقَتْلُهم غير جائز شرعًا، ولا يجوز أن تتحول صور الاحتجاج إلى معارك بين المحتجين الغاضبين وبين قوات الأمن الوطنية المكلفة بحراسة السفارات، فالدولة لا تملك الآن غير حمايتها وفقًا للمعاهدات التي تلتزم الوفاء بها. ولعل في هذه الحادثة ما يجمع قلوب المسلمين على حب النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعظيمه بعد ما فرقتهم أسباب الدنيا. قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (النساء: 19). أيها المسلمون: الزموا دين الله - سبحانه وتعالى - وسنة نبيّه المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم -، كفاكم لهوًا وغفلة وتخاذلًا، سيروا مع علمائكم ودعاتكم للخير والزموه، قدموا أموالكم ووقتكم وأرواحكم فداء لهذا الدين العظيم، عيشوا بالإسلام وللإسلام، وإياكم أن تفضلوا الدنيا الفانية وزينتها على الآخرة الباقية ونعيمها الخالد، قاطعوا منتجات من يُؤذون رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ويحاربون هذا الدين إذا دعاكم علماؤكم. ابذلوا وقدّموا وأعينوا بكل ما تستطيعون، عوّضوا عن أيام سباتكم السابق بهِمَّةٍ ربما تحيي أمة، كونوا كسلفكم الصالح أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد، تعلموا دينكم، وعلموا أبناءكم، أنشئوهم على تقوى الله وحب الله والعيش لله، كونوا معهم عبادًا لله منيبين مستغفرين طائعين ملبين، وستجدون كيف أن الدنيا كل الدنيا ستقف تحت أقدامكم خاضعة ذليلة.

اقهروا شهواتكم بلذة الطاعة، أذيبوا الشحناء من قلوبكم ببركة الأخوة الإسلامية، أزيلوا الظلام بنور القرآن وهَدْي السنة بسلوككم الذي يتمثل بهما عسى الله تعالى أن يكتب لنا وقفة صادقة مع نبيه ودينه، وأن يستخدمنا في نشر الخير والدعوة للخير والذود عن الخير، إنه ولي ذلك والقادر عليه. هدية لجميع الكفار بالعالم: موقف يدل على نبوة وصدق الصادق الأمين محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -: عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: «انْكَسَفَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ - أحد أبناء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ النَّاسُ: «انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ» فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمَا، فَادْعُوا اللهَ وَصَلُّوا حَتَّى يَنْجَلِيَ». (رواه البخاري). فلو أن ساحرًا أو كذابًا أو مشعوذًا حدث معه هذا الموقف لاستغله واعتبره دليلًا على صدقه، ولكن المعصوم - صلى الله عليه وآله وسلم - لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.

93 - المولد النبوي هل نحتفل

93 - المولد النبوي هل نحتفل؟ لم تأت بدعة إلا وهُجِرَتْ أو أمِيتَتْ سُنَّةٌ: اعلم أخي المسلم أنه لم تأت بدعة محدثة من البدع إلا وهُجِرَتْ أو أمِيتَتْ سُنَّةٌ من السُنن، وقد قال التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي - رحمه الله -: «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سُنَّتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة» (رواه الدرامي، وقال الألباني: إسناده صحيح). وقد استفاض العلم بأنه لا يجوز إحداث عيد يحتفل به المسلمون غير عيدي الأضحى والفطر، لأن الأعياد من جملة الشرع والمنهاج والمناسك، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} (الحج:67). ولا يجوز الاحتفال بمولد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا غيره؛ لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يفعله, ولا خلفاؤه الراشدون, ولا غيرهم من الصحابة - رضوان الله على الجميع - ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة, وهم أعلم الناس بالسنة, وأكمل حُبًّا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومتابعةً لشرعه ممن بعدهم، وقد قال - سبحانه وتعالى - في كتابه المبين: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر:7) وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3). وإحداث مثل هذه الموالد يُفهَم منه أن الله - سبحانه وتعالى - لم يُكْمِل الدين لهذه الأمة , وأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به , حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به , زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله , وهذا بلا شك فيه خطر

عظيم, واعتراض على الله - سبحانه وتعالى - وعلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - , والله - سبحانه وتعالى - قد أكمل لعباده الدين, وأتم عليهم النعمة. والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد بلغ البلاغ المبين, ولم يترك طريقًا يوصل إلى الجنة, ويباعد من النار إلا بَيَّنَهُ للأمة , كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِىٌّ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» (رواه مسلم في صحيحه). ومعلوم أن نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو أفضل الأنبياء وخاتمهم , وأكملهم بلاغًا ونُصحًا , فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله - سبحانه وتعالى - لَبَيَّنَهُ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - للأمة , أو فَعَله في حياته , أو فعله أصحابه - رضي الله عنهم - , فلما لم يقع شيء من ذلك عُلِمَ أنه ليس من الإسلام في شيء , بل هو من المحدثات التي حذر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - منها أمته. ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بكثرة من يفعله من الناس في سائر الأقطار , فإن الحق لا يعرف بكثرة الفاعلين , وإنما يعرف بالأدلة الشرعية. ثم إن غالب هذه الاحتفالات بالموالد - مع كونها بدعة - لا تخلو من اشتمالها على منكرات أخرى كاختلاط النساء بالرجال , واستعمال الأغاني والمعازف , وشرب المسكرات والمخدرات , وغير ذلك من الشرور , وقد يقع فيها ما هو أعظم من ذلك , وهو الشرك الأكبر , وذلك بالغلو في رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - أو غيره من الأولياء ودعائه والاستغاثة به , وطلبه المدد , واعتقاد أنه يعلم الغيب , ونحو ذلك من الأمور الكفرية التي يتعاطاها الكثير من الناس, حين احتفالهم بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره ممن يسمونهم بالأولياء. ومن العجائب والغرائب أن الكثير من الناس ينشط ويجتهد في حضور هذه الاحتفالات المبتدعة , ويدافع عنها , ويتخلف عما أوجب الله عليه من حضور الجُمَع والجماعات , ولا يرفع بذلك رأسًا , ولا يرى أنه أتى منكرًا عظيمًا , ولا شك أن ذلك

من ضعف الإيمان وقلة البصيرة , وكثرة ما ران على القلوب من صنوف الذنوب والمعاصي , نسأل الله العافية لنا ولسائر المسلمين. ومن ذلك: أن بعضهم يظن أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يحضر المولد , ولهذا يقومون له محيّين ومرحبين , وهذا من أعظم الباطل , وأقبح الجهل , فإن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يخرج من قبره، قبل يوم القيامة , ولا يتصل بأحد من الناس , ولا يحضر اجتماعهم , بل هو مقيم في قبره إلى يوم القيامة , وروحه في أعلى عليين عند ربه في دار الكرامة. قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)} (المؤمنون: 15 - 16).وقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» (رواه مسلم) , فهذه الآية الكريمة , والحديث الشريف , وما جاء في معناهما من الآيات والأحاديث , كلها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وغيره من الأموات , إنما يخرجون من قبورهم يوم القيامة , وهذا أمر مُجْمَعٌ عليه بين علماء المسلمين ليس فيه نزاع بينهم , فينبغي لكل مسلم التنبه لهذه الأمور, والحذر مما أحدثه الجهال وأشباههم من البدع والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان. كل بدعة ضلالة: قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)} (النساء: 59). وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: « ... إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ» (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود، وصححه الألباني، وروى مسلم لفظة: «وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ».

«وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ»: كناية عن شدة التمسك بها، و «النواجذ»: الأضراس. الأصل في العبادات المنع: قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى عبادات يتخذونها دينًا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة، وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم. فالأصل في العبادات أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. والأصل في العادات أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله» (¬1). وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} (الأحقاف: 11)، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: «أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه، يعنون بلالًا وعمارًا وصهيبًا وخبابًا - رضي الله عنهم - وأشباهم من المستضعفين والعبيد والإماء ... وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فِعْلٍ وقوْل لم يثبت عن الصحابة - رضي الله عنهم - هو بدعة، لأنه لو كان خيرًا لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها» (¬2). وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفِيتُم» (¬3). وقال حذيفة - رضي الله عنه -: «كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فلا تتعبدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا» (¬4). ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2582) (¬2) تفسير القرآن العظيم (عند تفسير الآية 11 من سورة الأحقاف). (¬3) رواه الإمام الدارمي (175). (¬4) الأمر بالاتباع للسيوطي (ص62).

يستدل كثير من الناس بالنصوص العامة لتسويغ بدعهم، والتدليل على واقعهم! وهذا خطأ كبير: ونرد عليهم بالموقف التالي وهو ما رواه نَافِعٌ أَنَّ رَجُلًا عطَسَ إِلَى جَنْبِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ». قَالَ ابْنُ عُمَرَ: «وَأَنَا أَقُولُ الْحَمْدُ لِلهِ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَلَيْسَ هَكَذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، عَلَّمَنَا أَنْ نَقُولَ الْحَمْدُ لِلهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» (رواه الإمام الترمذي، وحسنه الشيخ الألباني). فقد أنكر ابن عمر - رضي الله عنهما - على هذا الرجل مع أن عموم قولِ الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} (الأحزاب: 56) تدخل فيه تلك الصلاة، ولكن ما هكذا فهمها الصحابة فمَن بعدهم وما هكذا طبقها السلف الصالح - رضي الله عنهم -، وفهمُهم أوْلى، ومرتبتهم أعلى. هل في الدين بدعة حسنة؟ من قسم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة فهو مخطىء ومخالف لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «كُلّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة» (رواه مسلم).؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حكم على البدع كلها بأنها ضلالة، وهذا يقول ليس كل بدعة ضلالة، بل هناك بدعة حسنة. وقال الإمام مالك - رحمه الله -: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة:3)، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا». يلزم من القول بالبدع الحسنة لوازم سيئة جدًا: أحدها: أن تكون هذه البدع المستحبة - حسب زعمهم - من الدين الذي أكمله الله لعباده ورضيه لهم. وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأن الله تعالى لم يأمر عباده بتلك البدع، ولم يأمر بها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يفعلها ولا فعلها أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم

من الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين وتابعيهم بإحسان، وعلى هذا فمن زعم أنه توجد بدع حسنة في الدين فقد قال على الله - سبحانه وتعالى - وعلى كتابه وعلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بغير علم. الثاني: أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - قد تركوا العمل بسنن حسنة مباركة محمودة، وهذا مما يُنَزَّه عنه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأصحابه - رضي الله عنهم -. الثالث: أن يكون القائمون بالبدع الحسنة المزعومة قد حصل لهم العمل بسنة حسنة مباركة محمودة لم تحصل للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا لأصحابه - رضي الله عنهم -. قواعد عامة لمعرفة البدعة: 1 - كل عبادة ليس لها مستندٌ إلاَّ حديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فهي بدعة مثل صلاة الرغائب. 2 - إذا ترك الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائمًا ثابتًا، والمانع منتفيًا؛ فإنّ فِعْلَها بدعة، مثل التلفظ بالنية عند الدخول في الصلاة، والأذان لغير الصلوات الخمس، والصلاة عقب السعي بين الصفا والمروة. 3 - كل تقرب إلى الله بفعل شيء من العادات أو المعاملات من وجه لم يعتبره الشارع فهو بدعة، مثل اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقة إلى الله، والتقرب إلى الله بالصمت الدائم، أو بالامتناع عن الخبز واللحم وشرب الماء البارد، أو بالقيام في الشمس وترك الاستظلال. 4 - كل تقرب إلى الله بفعل ما نَهى عنه - سبحانه وتعالى - فهو بدعة، مثل التقرب إلى الله تعالى بالغناء. 5 - قال الشيخ ابن عثيمين: الاتباع لا يتحقق إلا إذا كان العمل موافقًا للشرع في ستة أمور، هي: 1 - السبب: فإذا تعبد الإنسان لله - تعالى - بعبادة مقرونة بسبب ليس شرعيًا فهي بدعة مردودة على صاحبها، مثل إحياء ليلة السابع والعشرين من رجب بالتهجد

يدّعون أنها ليلة الإسراء والمعراج، فالتهجد في أصله عبادة، لكن لما قرن بهذا السبب كان بدعة، لكونه بُنِيَ على سبب لم يثبت شرعًا. 2 - الجنس: فإذا تعبد الإنسان لله - تعالى - بعبادة لم يُشرع جنسها فهي غير مقبولة، كالتضحية بفرس، لأن الأضاحي لا تكون إلا من جنس بهيمة الأنعام وهي الإبل - البقر - الغنم. 3 - القَدْر: فلو أراد إنسان أن يزيد صلاة على أنها فريضة أو ركعة في فريضة، فعمله ذلك بدعة مردودة، لأنها مخالفة للشرع في المقدار أو العدد. 4 - الكيفية: فلو نكس إنسان الصلاة لما صحت صلاته؛ لأن عمله مخالف للشرع في الكيفية. 5 - الزمان: فلو ضحى إنسان في رجب، أو صام رمضان في شوال، أو وقف بعرفات في التاسع من ذي القعدة لما صح ذلك منه، لمخالفته للشرع في الزمان. 6 - المكان: فلو اعتكف إنسان في منزله لا في المسجد أو وقف يوم التاسع من ذي الحجة بمزدلفة لما صح ذلك منه لمخالفته للشرع في المكان (¬1). متى وُلِدَ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ يقام الاحتفال بالمولد النبوي في الثاني عشر من ربيع الثاني باعتبار أنه يوم ولادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونحن إذا ما بحثنا عن حقيقة هذا التاريخ نجد أنه لا يوجد نَصٌّ نبوي يدل على هذا التاريخ، فلم يتكلم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - البتة عن تاريخ ميلاده بل الذي ورد أنه ولد في يوم اثنين، أما ما وراء ذلك من التحديدات فلا تصح. ثم إذا ما فتشنا كتب السيرة النبوية محاولين معرفة تاريخ مولده سنجد أن أهل التاريخ والسِّيَر يختلفون حوله إلى أقول: ¬

_ (¬1) انظر الإبداع في بيان كمال الشرع وخطر الابتداع للشيخ ابن عثيمين (ص21 - 22).

أولًا: اختلفوا في سنة ولادته - صلى الله عليه وآله وسلم -: الأكثرون على أن ولادته - صلى الله عليه وآله وسلم - كانت في عام الفيل، قيل بعد حادثة الفيل بخمسين يومًا، وقيل بخمس وخمسين يومًا، وقيل بشهر، وقيل بأربعين يومًا، وقيل بعد الفيل بعشر سنين، وقيل: قبل الفيل بخمس عشرة سنة، وقيل: غيره. ثانيًا: اختلفوا في الشهر الذي ولد فيه - صلى الله عليه وآله وسلم -: فقيل: في شهر صفر، وقيل: في ربيع الآخر، وقيل: في رجب، وقيل: في رمضان. ثالثًا: اختلفوا في يوم ولادته - صلى الله عليه وآله وسلم -: فقيل: غير معين، وقيل: في ربيع الأول، من غير تعيين اليوم، وقيل: لِلَيْلتين مضتا من ربيع الأول، وقيل: لثماني ليال مضَيْنَ منه، وقيل لتسع خلَوْن منه، وقيل: لعشر مضين منه، وقيل لاثنتي عشرة مضت منه، وقيل: لسبع عشرة مضت منه، وقيل: لثماني عشرة مضين منه، وقيل: لثمان بقين منه. يظهر لنا مما سبق: 1 - أن هذا الخلاف بين علماء السيرة يدل على عدم وجود دليل صحيح صريح في هذه المسألة بحيث يتفقون على يوم محدد. 2 - لم يثبت نص في تحديد تاريخ مولده - صلى الله عليه وآله وسلم -. 3 - أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يسألوا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مما يدل أن معرفة تاريخ مولده - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يعني لهم شيئًا كبيرًا. 4 - أن الاحتفال ليس من الشرع إذ لو كان كذلك لَذُكِر التاريخ فما مِن أمر فيه خير إلا ودلنا عليه. عَلَامَ يدل ذلك؟ إنه يدل على أنَّ المسلم ليس مطلوبًا منه الاهتمام بتاريخ المولد، ولا العناية بضبطه، إنَّما الواجب عليه أن ينظر كيف هو في حبه لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومتابعته في

شريعته، واقتدائه بسنته واهتدائه بهديه، وحرصه على التخلق بِخُلُقِهِ. فأين نحن مما فرض الله علينا تجاه نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ هذا هو الذي ينبغي على كل مسلم أن ينظر كيف هو فيه مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. إن ليلة المولد لم يكن السلف الصالح - وهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والتابعون لهم بإحسان - يجتمعون فيها للعبادة ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يُعَظَّم إلا بالوجه الذي شرع به تعظيمه، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله لكن يتقرب إلى الله - عز وجل - بما شرع. وإن يوم الجمعة خير يوم طلعت عليه الشمس، وأفضل ما يُفعل في اليوم الفاضل صومه، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن إفراد يوم الجمعة بالصيام مع عظيم فضله، فدل هذا على أنه لا تحدث عبادة في زمان ولا في مكان إلا إن شرعت، وما لم يشرع لا يفعل، إذ لا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما أتى به أولها، ولو فتح هذا الباب لجاء قوم فقالوا: يوم هجرته إلى المدينة يوم أعز الله فيه الإسلام فيجتمع فيه ويتعبد، ويقول آخرون: الليلة التي أسري به فيها حصل له فيها من الشرف ما لا يقدر قدره فتحدث فيها عبادة فلا يقف ذلك عند حد. والخير كله في اتباع السلف الصالح الذين اختارهم الله له فما فعلوا فعلناه وما تركوا تركناه. حكم الاحتفال بالمولد النبوي لا يجوز الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأن ذلك من البدع المحدثة في الدين، ويرجع ذلك إلى ذلك الاجتماع المخصوص بتلك الهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص وإلى اعتبار ذلك العمل من شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص شرعي بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنة أن عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعًا، وعمل المولد بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله تعالى وزيادة فيه تُعَد مِن شرْع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم.

وبدعة المولد النبوي إنما حدثت بعد القرون الثلاثة المفضلة كما قال الحافظ ابن حجر، والحافظ السخاوي وغيرهما. وأول من احتفل بالموالد هم بنو عبيد القداح المتسمون بالفاطميين، ومعلوم ما يُكِنّه العبيديون لأهل الإسلام من كراهية وحقد، وما يبطنونه من عقائد فاسدة يسترونها بإظهار محبة آل البيت والولاء لهم. والاحتفال بالمولد مخالف لأمر الله - سبحانه وتعالى - بطاعة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومخالف لأمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وفيه وقوع في المحدثات التي حذر منها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبيّنَ أنها طريق إلى النار. والاحتفال بالمولد فيه مشابهة للنصارى في احتفالهم بميلاد المسيح - عليه السلام -. يمكن أن نقسم الموالد إلى قسمين: 1 - مولد صاحبَتْه الخرافات والمخالفات كالاختلاط بين الرجال والنساء وسماع الموسيقى، والغلو في النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. 2 - مولد يكون مقتصرًا على سماع درس أو محاضرة مثلا. فالنوع الأول لا شك في تحريمه لما يصاحبه من الضلالات والمخالفات. وأما النوع الثاني فإذا جعلناه من باب العبادات فهو بلا شك لا يجوز لأن إحداث عمل تعبدي زائد لا يجوز. وإذا جعلناه من باب العادات والتي نجد فيه فرصة لتعليم سيرة النبي ونحوها فلا يمكن أن يقال بالجواز للأسباب التالية: 1 - أن تاريخ مولده - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس متفقا عليه. 2 - أنه قد يفتح بابًا لما لا يجوز شرعًا كأن تدخله بعض البدع. 3 - قد يعتقد الناس مندوبيته واستحبابه الشرعي في حين أن الأمر ليس كذلك.

4 - سيفتح هذا بابًا لأن يقال إن هناك أيامًا مهمة في حياة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كالبعثة والتي فيها بُشِّرَ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالنبوة وأُمِرَ بالإنذار فهي كذلك تستحق الاحتفال، والهجرة والانتصارات في حياته وأيام نجاته من المؤامرات وغيرها مما لن ينتهي. 5 - أن فيه مشابهة للنصارى، وقد علم من نصوص الشرع طلب مخالفتهم، إلا ما نَصّ الشارع على مشروعيته فنحن نتبع الشرع سواء وافق النصارى أو غيرهم أم لا، أما ما لم يرد به الشرع وفيه المشابهة فالمطلوب فيه المخالفة. وبناء على ما سبق فيحرم الاحتفال سواء كان بدون مخالفات أو معها، وكلما زادت البدع كلما قوي التحريم. وبناء عليه يحرم: 1 - إقامة المولد والتعاون على ذلك. 2 - الإنفاق عليه وفيه، لأنه ليس من أوجه البر التي يؤجر عليها المسلم. 3 - كل ما من شأنه إحياؤه واستمراره ودوامه كالوقف عليه وغيره. الاحتفال بالمولد النبوي من البدع التي لم يفعلها السلف الصالح: اتفق أهل العلم من لا يرى منهم عمل المولد ومن يراه على أن الاحتفال بالمولد النبوي لم يفعله السلف الصالح، فلم يحتفلوا بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، بل تركوه، وما تركوه لا يمكن أن يكون ترْكُهُم إياه إلا لكَوْنه لا خير فيه؛ فإن ما حدث بعد السلف - رضي الله عنهم - لا يخلو: - إما أن يكونوا عَلِمُوه وعَلِمُوا أنه موافق للشريعة ولم يعملوا به، ومعاذ الله أن يكون ذلك؛ إذ أنه يلزم منه تنقيصهم وتفضيل من بعدهم عليهم، ومعلوم أنهم من أكمل الناس في كل شيء وأشدهم اتباعًا. - وإما أن يكونوا عَلِمُوه وتركوا العمل به، ولم يتركوه إلا لموجب أوجب

تركه فكيف يمكن فعله؟! - وإما أن يكونوا لم يعْلَموه فيكون من ادعى علمه بعدهم أعلم منهم وأفضل وأعرف بوجوه البر وأحرص عليها ولو كان ذلك خيرًا لعلموه ولظهر لهم، ومعلوم أنهم أعقل الناس وأعلمهم. فما تركه السلف الصالح لا بد أن يكون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد ترَكَه، وتَرْكُه سُنّة، كما أن فِعْلَه سنة، فمن استحب فعل ما تركه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان كمن استحب ترك ما فعله ولا فرق. ومما يدل على أن السلف الصالح لم يحتفلوا بيوم المولد النبوي اختلافهم في تحديد اليوم الذي ولد فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كما سبق بيانه.

94 - لماذا لا نحتفل بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -

94 - لماذا لا نحتفل بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يظهر فساد القول بجوازه ومشرعية من خلال الأوجه التالية: الوجه الأول: أن هذا الفعل لم يفعله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا أمَر به ولا فعله صحابته - رضي الله عنهم - ولا أحد من التابعين ولا تابعيهم، ولا فَعَله أحد من أهل الإسلام خلال القرون المفضلة الأولى، وإنما ظهر - كما تقدم - على ايدي أناس هم أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان وهم الباطنيون. إذا تقرر هذا فالذي يفعل هذا الأمر داخل ضمن الوعيد الذي توعد الله - عز وجل - صاحبه وفاعله بقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (النساء: 115)، والذي يفعل ما يسمى بالمولد لا شك أنه مُتَّبِعٌ لغير سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وتابعيهم - رضي الله عنهم -. الوجه الثاني: أن الذي يمارس هذا الفعل واقع فيما حذر منه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من إحداث البدع. الوجه الثالث: أن فاعل هذه البدعة غير مأجور على فِعْله بل مردود على صاحبه؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» وفي رواية «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). «فَهُوَ رَدٌّ» أي: مردود على صاحبه. ولا يكفي حسن النية بل لابد من متابعة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

الوجه الرابع: قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3). والذي يقول إن المولد عبادة نتعبد لله تعالى بها ما موقفه من هذه الآية؟ إن قال إنه مصدق بها لزمه: - إما أن يقول إن المولد ليس بعبادة ويكون أقرب إلى العبث واللعب منه إلى ما يقرب الى الله ?. - أو أنه مستدرك على الله - عز وجل - وعلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - بأنهم لم يدُلّونا على هذه العبادة التي تقرب إلى الله. فإن قال: أنا لا أقول أنها عبادة ولا أستدرك على الله - عز وجل - ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ومؤمن بهذه الآية لزمه الرجوع إلى القول الحق وأنها بدعة محدثة. الوجه الخامس: أن الممارس لهذا الأمر - أي بدعة المولد - كأنه يتهم للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - بالخيانة وعدم الأمانة - والعياذ بالله -؛ لأنه كتم على الأمة ولم يدلها على هذه العبادة العظيمة التي تقربها إلى الله. وقد قال الإمام مالك - رحمه الله -: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (المائدة:3)، فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليوم دينًا». الوجه السادس: أن فاعل المولد معاند للشرع ومشاق له لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقًا خاصة على وجوه وكيفيات خاصة وقصر الخلق عليها بالأوامر والنواهي وأخبر أن الخير فيها والشر في مجاوزتها وتركها؛ لأن الله أعلم بما يصلح عباده وما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليعبدوه وفق ما يريد سبحانه.

والذي يبتدع هذه البدعة رادٌّ لهذا كلِّه زاعمٌ أن هناك طرقًا أخرى للعبادة وأن ما حصره الشارع أو قصره على أمور معينة ليس بلازم له، فكأنه يقول بلسان حاله إن الشارع يعلم وهو أيضًا يعلم، بل ربما يفهم أن يعلم أمرًا لم يعلمه الشارع، سبحانك هذا بهتان عظيم وجرم خطير وإثم مبين وضلال كبير. الوجه السابع: أن في إقامة هذه البدعة تحريف لأصل من أصول الشريعة وهي محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واتباعه ظاهرًا وباطنًا واختزالها في هذا المفهوم البِدْعِيّ الضيق الذي لايتفق مع مقاصد الشرع المطهر إلى دروشة ورقص وطرب وهَزّ للرؤوس؛ لأن الذين يمارسون هذه البدعة يقولون إن هذا من الدلائل الظاهرة على محبته ومن لم يفعلها فهو مبغض للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وهذا لاشك تحريف لمعنى محبة الله - عز وجل - ومحبة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن محبة الله والرسول تكون باتباع سنته ظاهرًا وباطنًا كما قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)} (آل عمران:31). الوجه الثامن: أن هذا المولد فيه مشابهة واضحة لدين النصارى الذين يحتفلون بعيد ميلاد المسيح وقد نهينا عن التشبه بهم كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ َتَشَّبَه بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ». (رواه الإمام أحمد وغيره، وصححه الألباني). الوجه التاسع: أن فيه قدحا في من سبقنا من الصحابة ومن أتى بعدهم بأننا أكثر محبة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم، وأنهم لم يوفوه حقه من المحبة والاحترام لأن فاعلي المولد يقولون عن الذين لا يشاركونهم إنهم لا يحبون النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وهذه التهمة منصرفة إلى أصحابه الأطهار الذين فدَوْه بأرواحهم وبآبآءهم وأمهاتهم - رضي الله عنهم -.

الوجه العاشر: أن فاعل هذا المولد واقع فيما نهى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمته صراحة فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ». (رواه البخاري). فقد نهى عن تجاوز الحد في إطرائه ومدحه وذكر أن هذا مما وقع فيه النصارى وكان سبب انحرافهم. وما يفعل الآن من الموالد من أبرز مظاهر الإطراء وإذا لم يكن في الموالد - التي تنفق فيها الأموال الطائلة وتنشد فيها المدائح النبوية التي تشتمل على أعظم أنواع الغلو فيه - صلى الله عليه وآله وسلم - من إعطائه خصائص الربوبية - إطراء ففي ماذا يكون الإطراء؟ الوجه الحادي عشر: بدعة المولد النبوي مجاوزة في الحد المشروع في ما أمِرْنَا به مِن محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومجاوزة للحد المشروع في إقامة الأعياد ففي شرع المسلمين عيدان فقط، ومن أتى بثالث فهو متجاوز للحد المشروع، بل إنهم قد فضلوا الاحتفال المبتدع على عيدَي الفطر والأضحى كما نسمع طوال شهر ربيع الأول في إذاعة القرآن الكريم المصرية من تواشيح طه الفشني التي يقول فيها: ميلادُ طهَ أكرمُ الأعيادِ ... وبشيرُ كلِّ الخيرِ والإسعادِ ومن ذلك تواشيح النقشبندي التي يقول فيها: وأتى ربيع فمرحبًا بهلاله ... قد أقبل الإسعاد في إقباله شهر به سَعِدَ الزمانُ فحقُّه ... أنْ يزدهي شرفًا على أقرانِه ما ازدانَت الأعيادُ إلا أنها ... جمعتْ لزينتِها بديعَ جمالِه الوجه الثاني عشر: أن فعل المولد غلُوٌّ مذموم في شخص النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ومن أعظم الذرائع المؤدية

للشرك الأكبر وهو الكفر المخرج من الملة لأن الغلو في الصالحين كان سبب وقوع الأمم السابقة في الشرك وعبادة غير الله - عز وجل -. وقد جاءت الشريعة بسد الذرائع الموصلة للشرك. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أمته من ذلك فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِى الدِّينِ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِى الدِّينِ». (رواه ابن ماجه، ن وصححه الألباني)، وهذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال. ومعلوم أن سبب الشرك الذي وقع في بني آدم هو مجاوزة الحد والغلو في تعظيم الصالحين؛ فقد قال ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح: 23): «صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِى كَانَتْ فِى قَوْمِ نُوحٍ فِى الْعَرَبِ بَعْدُ، أَمَّا وُدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لِبَنِى غُطَيْفٍ بِالْجُرُفِ عِنْدَ سَبَا، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ، لآلِ ذِى الْكَلاَعِ. أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِى كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا، وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ». (رواه البخاري). وقارن بما حصل عند قوم نوح مع أنهم لم يصرفوا شيئًا من العبادة في أول الأمر حتى وقعوا في الشرك والسبب هذه التماثيل وهي مظهر من مظاهر الغلو وانظر ما حصل ويحصل في الموالد فهو ليس من ذرائع الشرك فحسب؛ بل يحصل الشرك بعينه من دعاءٍ لغير الله - عز وجل - وإعطائه - صلى الله عليه وآله وسلم - بعض خصائص الرب - سبحانه وتعالى - كالتصرف في الكون وعلم الغيب، ففي هذه الموالد يترنمون بالمدائح النبوية وعلى رأسها بردة البوصيري الذي يقول: ... يا أكرمَ الخلقِ مَا لي مَن ألوذُ بِه ... سواكَ عندَ حُلولِ الحادثِ العمِمِ فإنّ مِن جودِكَ الدُنيا وضُرتُها ... ومِن علومِك عِلْمُ اللوحِ والقلمِ

فماذا بقي لرب العباد - سبحانه وتعالى -؛ إن هذا ليس شركًا في الألوهية بل هو شرك في الربوبية وهو أعظم من شرك كفار قريش - والعياذ بالله -؛ لأن كفار قريش كانوا يعتقدون أن المتصرف في الكون هو الله - عز وجل - لا أصنامُهم، وهؤلاء يزعمون أن المتصرف في الكون الذي بيده الدنيا والآخرة هو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وانظر إلى قوله: «يا أكرمَ الخلقِ مَا لي مَن ألوذُ بِه» فهو يعتبر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - هو الملاذ وهو الذي يستغاث به ويدعوه عند الملمات، وهذا هو عين شرك كفار قريش الذين كانوا يعبدون الأوثان، فهل هم أحسن حالًا منه؟! فهم عند الشدائد يخلصون الدعاء والعبادة، والبوصيري عند الشدائد والملمات يدعو غير الله. والموالد لا يمكن أن تقوم بغير أبيات البردة فهي الشعيرة والركيزة الأساسية في هذه الموالد البدعية، ولو لم يكن فيها إلا هذه المفسدة لكفى بها مبررًا لتحريمها والتحذير منها. وإن زعم شخص أنه سوف يخليه مما تقدم قلنا له المولد بحد ذاته هو مظهر من مظاهر الغلو المذموم فضلًا عما يحتويه من طوام عظيمة وبدعة في الدين محدثة لم يشرعها ولم يأذن بها الله. الوجه الثالث عشر: أن الفرح بهذا اليوم والنفقه فيه وإظهار الفرح والسرور فيه قَدْحٌ في محبة العبد لنبيه الكريم - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ إذ هذا اليوم - بالإجماع - هو اليوم الذي توفي فيه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فكيف يفرح فيه؟ وأما يوم مولده فمختلف فيه، فكيف تكون عبادة عظيمة تقرب إلى الله واليوم الذي يحتفل فيه غير مجزوم به. وقد قال ابن الحاج في كلامه على عمل المولد: «العجب العجيب كيف يعملون المولد بالمغاني والفرح والسرور لأجل مولده - صلى الله عليه وآله وسلم -، في هذا الشهر الكريم وهو - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه انتقل إلى كرامة ربه - عز وجل - وفجعت الأمة وأصيبت بمصاب عظيم لا يعدل ذلك

غيرها من المصائب أبدًا، فعلى هذا كان يتعين البكاء والحزن الكثير وانفراد كل إنسان بنفسه لِمَا أصِيبَ به، لقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لِيُعَزِّ الْمُسْلِمِينَ فِى مَصَائِبِهِمُ الْمُصِيبَةُ بِى» (¬1)، فلما ذكر - صلى الله عليه وآله وسلم - المصيبة به ذهبت كل المصائب التي تصيب المرء في جميع أحواله وبقيت لا خطر لها. فانظر في هذا الشهر الكريم - والحالة هذه - كيف يلعبون فيه ويرقصون ولا يبكون ولا يحزنون، ولو فعلوا ذلك لكان أقرب إلى الحال، مع أنهم لو فعلوا ذلك والتزموه لكان أيضًا بدعة، وإن كان الحزن عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - واجبًا على كل مسلم دائمًا لكن لا يكون على سبيل الاجتماع لذلك والتباكي وإظهار التحزن بل ذلك - أعني: الحزن - في القلوب، فإن دمعت العين فيا حبذا وإلا فلا حرج إذا كان القلب عامرًا بالحزن والتأسف، إذ هو المقصود بذلك كله، وإنما وقع الذكر لهذا الفصل؛ لكونهم فعلوا الطرب الذي للنفوس فيه راحة وهو اللعب والرقص والدف والشبابة وغير ذلك مما تقدم بخلاف البكاء والحزن إذ أنه ليس للنفس فيه راحة، بل الكمد وحبس النفوس عن شهواتها وملاذها. ولو قال قائل: أنا أعمل المولد للفرح والسرور لولادته - صلى الله عليه وآله وسلم - ثم أعمل يومًا آخر للمآتم والحزن والبكاء عليه. فالجواب: أنه قد تقدم أن من عمل طعامًا بنية المولد ليس إلا، وجمع له الإخوان، فإن ذلك بدعة، هذا وهو فعل واحد ظاهره البر والتقرب ليس إلا، فكيف بهذا الذي جمع بدعًا جملة في مرة واحدة، فكيف إذا كرر ذلك مرتين مرة للفرح ومرة ¬

_ (¬1) رواه الإمام مالك في الموطأ، وصححه الألباني، وقي رواية: «إِذَا أُصِيبَ أَحَدُكُمْ بِمُصِيبَةٍ، فَلْيَذْكُرْ مُصِيبَتَهُ بِي، فَإِنَّهَا أَعْظَمُ الْمَصَائِبِ عِنْدَهُ». (رواه الدارمي، وعبد الرزاق في المصنف، والطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/ 97) برقم 1106).

للحزن، فتزيد به البدع ويكثر اللوم عليه من جهة الشرع؟!» (¬1). الوجه الرابع عشر: اشتمال هذه الموالد على كثير من كبائر وعظائم الأمور والتي يرتع فيها أصحاب الشهوات ويجدون فيها بغيتهم مثل: الطرب والغناء واختلاط الرجال بالنساء، ويصل الأمر في بعض البلدان التي يكثر فيها الجهل أن يشرب فيها الخمر، وكذلك إظهار ألوان من الشعوذة والسحر، ومن يحضر هذه الأماكن بغير نية القربة فهو آثم مأزور غير مأجور، فكيف إذا انضم إليه فعل هذه المنكرات على أنها قربة إلى الله - عز وجل -، فأي تحريف لشعائر الدين أعظم من هذا التحريف. الوجه الخامس عشر: اشتماله على أنواع عظيمة من البذخ والتبذير وإضاعة الأموال وإنفاقها على غير أهلها. الوجه السادس عشر: أن في هذه الموالد استنفاد الطاقات والجهود والأموال وإشغال الأوقات وصرف للناس عن ما يُكادُ لهم من قِبَلِ أعدائهم فتصبح كل أيامهم رقص وطرب وموالد، فمتى يتفرغون لتعلم دينهم ومعرفة ما يخطط لهم من قبل أعدائهم. ولهذا لما جاء المستعمرون للبلاد الإسلامية حاولوا القضاء على كل معالم الإسلام وصرف الناس عن دينهم ومحاولة إشاعة الرذيلة بينهم، وما كان من تصرفات المسلمين فيه مصلحة لهم وفَتٌّ في عضد المسلمين وإضعاف لشأنهم فإنهم باركوه وشجعوه مثل الملاهي والمحرمات ونحوها، ومن ذلك البدع المحدثة التي تصرف الناس عن معالم الإسلام الحقيقية مثل بدعة المولد وغيرها من الموالد. ¬

_ (¬1) المدخل لابن الحاج (2/ 16 - 17) باختصار.

نابليون بونابرت يُحْيِي المولد ويدعمه: ذكر المؤرخ المصري الجبرتي أن المستعمرين الفرنسيين عندما احتلوا مصر بقيادة نابليون بونابرت انكمش الصوفية وأصحاب الموالد فقام نابليون وأمرهم بإحيائها ودعمها، فقد ذكر الجبرتي أن نابليون أمر الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أوله إلى آخره (¬1). ما هدفهم من تأييد ودعم مثل هذه البدع وهذه الموالد؟ يقول المؤرخ الجبرتي المعاصر لهم: «ورخص الفرنساوية ذلك للناس لِمَا رأوا فيه من الخروج عن الشرائع واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفِعْل المحرمات» (¬2). ويعلق عبد الرحمن الرافعي قائلًا: «فنابليون قد استعمل سياسة الحفلات ليجذب إليه قلوب المصريين من جهة، وليعلن عن نفسه في العالم الإسلامي بأنه صديق الإسلام والمسلمين» (¬3). الأمريكيون يحتفلون بالموالد: حضر توماس رايلي السفير الأمريكي في المغرب يوم 14 أبريل 2006 عيد المولد النبوي الشريف الذي أحيته الطريقة القادرية. وشارك السفير الأمريكي في مصر فرانسيس ريتشارد دوني أهالي مدينة طنطا احتفالاتهم بمولد السيد البدوي، اتباعًا لعادة استَنَّها منذ وصوله إلي مصر، بل إنه حرص علي لقاء شيخ مشايخ الطرق الصوفية الشيخ حسن الشناوي في أحد سرادقات ¬

_ (¬1) انظر كتابيه عجائب الآثار (2/ 201، 249) ومظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس (ص47). (¬2) تاريخ عجائب الآثار (2/ 306). (¬3) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم لعبد الرحمن الرافعي (ص 258 - 261).

الطرق الصوفية، قبل أن يذهب برفقة محافظ الغربية مترجِّلًا وسط الجموع، إلي سرادق مشيخة عموم السادة الجازولية الحسينية، حيث حضر إحدي حلقات الذكر ليشارك الحضور أذكارهم علي نغمات الدف ومع التهليل وهو جالس علي الأرض. ولاحظ المراقبون إصرار السفير علي حضور معظم احتفالات المولد (¬1). الصوم بمناسبة المولد النبوى: جاء في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة (1/ 899) للشيخ عبد الرحمن الجزيري - عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ـ: «ويكره أيضًا صوم يوم المولد النبوي». وسُئل الشيخ عطية صقر - رحمه الله - هذا السؤال: «ما هو اليوم الذى نصومه بمناسبة المولد النبوى الشريف، وهل إذا صادف يوم جمعة يكون صومه حلالًا؟». فأجاب: «صيام التطوع مندوبُ لا يختص بزمان ولا مكان، ما دام بعيدًا عن الأيام التى يحرُم صيامها، وهى العيدان وأيام التشريق ويوم الشك على اختلاف للعلماء فيه، والتى يكره صيامها كيوم الجمعة وحده، ويوم السبت وحده. وهناك بعض الأيام يستحب الصيام فيها كأيام شهر المحرم، والأشهر الحرم، وعرفة وعاشوراء، وكيوم الاثنين ويوم الخميس من كل أسبوع، والثلاثة البيض من كل شهر وهى الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، وستة من شهر شوال، وكثير من شهر شعبان، كما كان يفعل النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - وليس من هذه الأيام يوم ذكرى مولد النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -، والذى اعتاد الناس أن يحتفلوا بها فى اليوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول، فلا يندب صومه بهذا العنوان وهذه الصفة، وذلك لأمرين: أولهما: أن هذا اليوم لم يتفق على أنه يوم ميلاده - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقد قيل إنه ولد يوم التاسع من شهر ربيع الأول وقيل غير ذلك. ¬

_ (¬1) توظيف أتباع ابن عربي في الحرب علي أتباع بن لادن، بقلم: منتصر حمادة، مجلة الراصد، العدد 62.

وثانيهما: أن هذا اليوم قد يصادف يومًا يُكْرَه إفراده بالصيام كيوم الجمعة فقد صح فى البخارى ومسلم النهى عنه بقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمْعَةِ، إِلّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ». هذا بخصوص صوم يوم الميلاد النبوى فى كل عام، أما صيام يوم الاثنين من كل أسبوع فكان يحرص عليه النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -، لأمرين: أولهما: أنه قال إن الأعمال تعرض على الله فيه وفى يوم الخميس، وهو يحب أن يعرض عمله وهو صائم، كما رواه الترمذى وحسَّنه. وثانيهما: أنه هو اليوم الذى ولد فيه وبعث فيه كما صح فى رواية مسلم، فكان يصومه أيضًا شكرًا لله على نعمة الولادة والرسالة. فمن أراد أن يشكر الله على نعمة ولادة النبى - صلى الله عليه وآله وسلم - ورسالته فليشكره بأية طاعة تكون، بصلاة أو صدقة أو صيام ونحوها، وليس لذلك يوم معين فى السنة، وإن كان يوم الاثنين من كل أسبوع أفضل، للاتباع على الأقل، فالخلاصة أن يوم الثانى عشر من شهر ربيع الأول ليس فيه عبادة خاصة بهذه المناسبة، وليس للصوم فيه فضل على الصوم فى أى يوم آخر، والعبادة أساسها الاتباع، وحبُّ الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يكون باتباع ما جاء به كما قال فيما رواه البخارى ومسلم: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» (¬1). ¬

_ (¬1) فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com ، تاريخ الفتوى: مايو 1997.

95 - كشف شبهات من قال بجواز الاحتفال بالمولد

95 - كشف شبهات من قال بجواز الاحتفال بالمولد الشبهة الأولى: قال بعض العلماء أن الاحتفال بالمولد بدعة حسنة، وجرى به العمل في كل البلاد. الجواب: 1 - من المعلوم أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قضى وقرر بأن كل بدعة ضلالة، ولم يرِدْ نَصّ من كتاب أو سنة يمكن أن يُستَنَد إليه في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة. 2 - المبتدع يتخذ من زلات العلماء حجة لبدعته على الشرع، قال الإمام الشاطبي - رحمه الله -: « ... الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة، حتى يتثبت ويسأل عن حكمه؛ إذ لعل المعتمَد على عمله يعمل على خلاف السُنّة، ولذلك قيل: لا تنظر إلى عمل العالم، ولكن سَلْه يصْدُقْك، وقالوا: ضعف الروية أن يكون رأي فلانًا يعمل فيعمل مثله، ولعله فعله ساهيًا» (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: « ... عادة بعض البلاد أو أكثرها، وقول كثير من العلماء، أو العبّاد، أو أكثرهم، ونحو ذلك ليس مما يصلح أن يكون معارضًا لكلام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يعارض به» (¬2). 3 - قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كلامه على المواسم المبتدعة من موالد وغيرها: «إذا فعلها قوم ذوو فضل فقد تركها قوم في زمان هؤلاء معتقدين لكراهتها، وأنكرها قوم كذلك، وهؤلاء التاركون والمنكرون إن لم يكونوا أفضل ممن فعلوها ¬

_ (¬1) الاعتصام (2/ 508). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ص245).

فليسوا دونهم في الفضل، ولو فرضوا دونهم في الفضل، فتكون حينئذٍ قد تنازع فيها أولو الأمر، فترد إذن إلى الله والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. وكتاب الله وسنة رسوله مع من كرهها لا مع من رخَّصَ فيها، ثم عامة المتقدمين الذين هم أفضل من المتأخرين مع هؤلاء التاركين المنكرين» (¬1). الشبهة الثانية: قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكرها وتعظيم يومها لاجلها ولأنه ظرف لها، واستدلوا بتخريج الحافظ ابن حجر العسقلانى الاحتفال بالمولد على صيام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم عاشوراء حيث إن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ «مَا هَذَا؟». قَالُوا: «هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِى إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ». فَصَامَهُ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (رواه البخاري ومسلم). فقال الحافظ ابن حجر: «أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح في القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا، وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ... » وذكر حديث صيام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم عاشوراء ... ثم قال: «فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما منَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأيُّ نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينة حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء، ومن لم يلاحظ ذلك لا ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص291).

يبالي بعمل المولد في أي يوم من الشهر، بل توسع قوم فنقلوه إلى يوم من السنة وفيه ما فيه، فهذا ما يتعلق بأصل عمله. وأما ما يعمل فيه فينبغي أن يقتصر فيه على ما يفهم الشكر لله تعالى من نحو ما تقدم ذكره من التلاوة والإطعام والصدقة وإنشاد شيء من المدائح النبوية والزهدية المحركة للقلوب إلى فعل الخير وعمل الآخرة، وأما ما يتبع ذلك من السماع واللهو وغير ذلك فينبغي أن يقال: ما كان من ذلك مباحًا بحيث يقتضي السرور بذلك اليوم لا بأس بإلحاقه به، وما كان حرامًا أو مكروهًا فيمنع، وكذا ما كان خلاف الأولى» (¬1). الجواب: 1 - تخريج الحافظ ابن حجر عمل المولد على صيام عاشوراء لا يمكن الجمع بينه وبين جزمه بأن ذلك بدعة لم تُنقل عن أحد من السلف من القرون الثلاثة؛ فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه مَنْ بعدهم، يمنع اعتبار ذلك الفهم صحيحًا، إذ لو كان صحيحًا لم يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهمه من بعدهم، كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلًا عليه إذ لو كان دليلًا لعمل به السلف الصالح. فاستنباط الحافظ ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي ـ ما دام الأمر كذلك ـ من حديث صوم يوم عاشوراء أو من أي نص آخر، مخالف لما أجمع عليه السلف الصالح من ناحية فهمه ومن ناحية العمل به، وما خالف إجماعهم فهو خطأ، لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى. ¬

_ (¬1) جواب الحافظ ابن حجر العسقلاني عن سؤال وجه إليه عن عمل المولد ذكره السيوطي في أحسن المقصد في عمل المولد، وهو من محتويات الحاوي للفتاوي (1/ 196)، وذكرها الزرقاني في شرحه للمواهب اللدنية (1/ 140).

وقد بسط الإمام الشاطبي الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتابه (الموافقات) وأتى في كلامه بما لا شك في أن الحافظ ابن حجر العسقلانى لو تنبه له لما خرّج عمل المولد على حديث صوم يوم عاشوراء ما دام السلف لم يفهموا تخريجه عليه منه ولم يعملوا به على ذلك الوجه الذي فهمه منه (¬1). 2 - حديث صوم يوم عاشوراء لنجاة موسى - عليه السلام - فيه وإغراق فرعون فيه ليس فيه سوى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - صامه وأمر بصيامه (¬2). 3 - الشرط الذي شرطه الحافظ ابن حجر للاحتفال بالمولد النبوى ـ وهو تحري ذلك اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى - عليه السلام - لا سبيل إليه (¬3)، حيث إن يوم عاشوراء يوم محدد معروف أما يوم ميلاد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فغير محدد حيث اختلف العلماء في تعيينه على أقوال كثيرة. 4 - من أجاز الاحتفال بالمولد النبوي يقرّ أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يزِدْ فيه على غيره من الشهور شيئًا من العبادات، فهل نحن أعلم وأحرص على الدين من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وأصحابه؟! وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. والرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد صام يوم عاشوراء وحث على صيامه فكان صيامه سنة، وسكت عن يوم ولادته - الذي هو الثاني عشر من ربيع الأول - كما يقول به أكثر المحتفلين، فلم يشرع فيه شيئًا فوجب أن نسكت كذلك، ولا نحاول أن نشرع فيه صيامًا ولا قيامًا ولا احتفالًا. 5 - أما بالنسبة لقولهم إن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة ¬

_ (¬1) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل للعلامة إسماعيل الأنصاري (ص78 - 79). (¬2) القول الفصل (ص80). (¬3) نفس المصدر والصفحة.

لتذكرها وتعظيم يومها لاجلها ولأنه ظرف لها. فالجواب: إن من أعظم الأمور التي وقعت في زمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، مجيء الملك إليه بالنبوة وهو في غار حراء وتعليمه أول سورة العلق، ومن أعظم الأمور أيضًا الإسراء به - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى بيت المقدس والعروج به إلى السموات السبع وما فوقها وتكليم الرب - عز وجل - له وفرْضه الصلوات الخمس، ومن أعظم الأمور أيضًا هجرته - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى المدينة، ومن أعظم الأمور أيضًا وقعة بدر وفتح مكة، ولم يرد عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه كان يعمل الاجتماع لتذكر شيء من هذه الأمور العظيمة وتعظيم أيامها. ولو كانت قاعدتهم التي توهموها وابتكروها صحيحة لكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يهتم بأوقات هذه الأمور العظيمة ويعقد الاجتماعات لتذكرها وتعظيم أيامها. وفي تركه - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك أبلغ رد على مزاعمهم وتقوُّلهم على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. الشبهة الثالثة: قول السيوطى إن الاحتفال بالمولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدْر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف. الجواب: 1 - ما الدليل على أن الاحتفال بالمولد من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها؟ وما هو مقدار هذا الثواب؟ وهل نحن أحرص من الصحابة والتابعين على هذا الثواب؟ وهل نحن أكثر تعظيمًا لقدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - منهم؟ فهم لم يحتفلوا، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. 2 - تعظيم قدْر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يكون باتباع هديه وليس باختراع عبادات لم يشرعها فإن ذلك فيه اتهام له بأنه قصَّر في تبليغ الرسالة أو أن الرسالة لم تكتمل، وإذا كان الصحابة لم يفعلوا المولد فهل معنى ذلك أنهم كانوا لا يعظمون قدر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

3 - الشهر الذي يحتفلون فيه بمولد نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه، نبَّهَ على ذلك غير واحد من أهل العلم، منهم ابن الحاج والفاكهاني. الشبهة الرابعة: عندما سُئل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن صوم يوم الاثنين قال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ» (رواه مسلم)، فتشريف هذا اليوم متضمن تشريف هذا الشهر الذي ولد فيه، ألا ترى أن صوم هذا اليوم فيه فضل عظيم؛ لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - ولد فيه؟ وإقامة المولد شكر لله تعالى على نعمة ولادة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. وصيام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بمعنى الاحتفال به، إلا أن الصورة مختلفة، ولكن المعنى موجود. الجواب: 1 - صوم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الاثنين ليس دليلًا على بدعة الاحتفال بالمولد فقد سُئِل عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، ويوم بُعِثْتُ، أو أُنزِلَ عليَّ فيه» (رواه مسلم)، فالرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يصم يوم ولادته وهو اليوم الثاني عشر من ربيع الأول إن صح أنه ذلك، فقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - يصوم ذلك اليوم (يوم الاثنين) من كل أسبوع وعلى طول الشهر، وعلى مدى العام كله، ولم يكن ذلك مرة واحدة في العام، فأين هذا مما يفعله المسلمون اليوم؟ ولو كان احتفالًا كما يزعم الزاعمون لاختلفت الكيفية، كأن يجتمع الصحابة مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويتسابقون في إلقاء الخطب والأناشيد كما هو حال الكثير من المسلمين اليوم، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث. 2 - هل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما صام يوم الاثنين شكرًا على نعمة الإيجاد والإمداد ـ وهو تكريمه ببعثته إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا ـ أضاف إلى الصيام احتفالًا كاحتفال أرباب الموالد من تجمعات ومدائح؟

والجواب: لا، وإنما اكتفى بالصيام فقط، إذًا ألا يكفي الأمة ما كفى نبيها، ويسعها ما وسعه؟ وهل يقدر عاقل أن يقول: لا؟ وإذًا فلم الافتيات على الشارع والتقدم بالزيادة عليه، والله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، ويقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} (الحجرات: 1)، وحال من قال بجواز إقامة المولد زيادة على صيام يوم الاثنين الثابت في السنة يشبه حال من صلى سنة المغرب مثلًا ثلاث أو أربع ركعات بحجة أنه أتى بالركعتين التي ثبتت بالسنة ثم أضاف إليها ركعتين زيادة في الخير!!. 3 - من أراد اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فلْيَصُم يوم الاثنين كما صامه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، فإذا كان المراد من إقامة المولد هو شكر الله تعالى على نعمة ولادة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - فيه فإن المعقول والمنقول يحتم أن يكون الشكر من نوع ما شكر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ربه وهو الصوم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يختار إلا ما هو أفضل، وعليه فلنصم كما صام. 4 - النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يخص اليوم الثاني عشر من ربيع الأول ـ إن صح أن ذلك هو يوم مولده - صلى الله عليه وآله وسلم - ـ بالصيام ولا بشيء من الأعمال دون سائر الأيام، ولو كان يعظم يوم مولده، كما يزعمون لكان يتخذ ذلك اليوم عيدًا في كل سنة، أو كان يخصه بالصيام أو بشيء من الأعمال دون سائر الأيام. وفي عدم تخصيصه بشيء من الأعمال دون سائر الأيام دليل على أنه لم يكن يفضله على غيره وقد قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} ... (الأحزاب: 21). 5 - أما قولهم عن صيام الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم الاثنين إن هذا في معنى الاحتفال به، إلا أن الصورة مختلفة، ولكن المعنى موجود، فالجواب عنه يفهم من الجواب عن السؤال التالي: هل يجوز لنا أن نقول: أن مشروعية الصلاة في الأوقات الخمسة تعني

مشروعية الصلاة في الجملة، وأنه يجوز لنا أن نُحْدِثَ وقتًا أو وقتين زيادة على الصلوات الخمس المكتوبة؟ وأنه يجوز لنا أن نقول: إن مشروعية صيام رمضان، تعني مشروعية الصيام في الجملة! وأنه يجوز لنا أن نحدث صيام شهر آخر غير رمضان على سبيل الوجوب؟ هل يجوز لنا أن نقول: إن مشروعية الحج في زمان مخصوص، تعني مشروعيته في الجملة، وأنه يجوز لنا أن نقول: بتوسعة وقت الحج طوال العام كالعمرة تخفيفا على الأمة وتوسعة عليها؟ إننا حينما نقول بذلك لا نقول بأن الصورة مختلفة، بل الصلاة هي الصلاة، والصوم هو الصوم، والحج هو الحج، إلا أن الجديد في ذلك الزيادة على المشروع فقط. يلزم المجوزون للاحتفال بالمولد أن يقول: بجواز ذلك كما قالوا: بأن صيام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم مولده، يدل على جواز إقامة الاحتفال بذكرى المولد. 6 - النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علل صيامه يوم الاثنين بسببين: أ- أنه وُلِدَ يوم الاثنين. ب- يوم الاثنين بعث فيه إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فلماذا يحتفلون بواحدة ويتركون الأخرى؟ الشبهة الخامسة: أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عقّ عن نفسه بعد النبوة، مع أنه ورد أن جده عبد المطلب عقّ عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن هذا فعله - صلى الله عليه وآله وسلم - إظهارًا للشكر على إيجاد الله تعالى إياه رحمة للعالمين، فيستحب لنا أيضًا إظهار الشكر بمولده - صلى الله عليه وآله وسلم - بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات.

الجواب: 1 - ما رُوى أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عق عن نفسه غير صحيح ولم يثبت، فقد ضعفه الأئمة مالك، وأحمد بن حنبل، والبزار، والبيهقي، والنووي، والحافظ المزي والحافظ الذهبي، والحافظ ابن حجر (¬1). 2 - لو ثبت هذا عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان هذا الحكم يخصه بل لاستُحِبَّ لكل مسلم أن يعُقَّ عن نفسه شكرًا لله على نعمة الخلق والإيجاد، حتى ولو لم يكن المخلوق نبيًا. 3 - على فرض صحة الحديث ـ رغم وضوح ضعفه ـ فإنه لا يزيد أن يكون مثل حديث صيام يوم الاثنين وقد سبق الرد عليه. 4 - هل ثبت أن العقيقة كانت مشروعة لأهل الجاهلية وهم يعملون بها حتى نقول إن عبد المطلب قد عقّ عن ابن ولده؟ وهل أعمال أهل الجاهلية يعتد بها في الإسلام؟ حتى نقول إذا عق النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن نفسه شكرًا لا قيامًا بسنة العقيقة، إذا قد عق عنه؟ سبحان الله ما أعجب هذا الاستدلال وما أغربه، وهل إذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ذبح شاة شكرًا لله تعالى على نعمة إيجاده وإمداده يلزم من ذلك اتخاذ يوم ولادته - صلى الله عليه وآله وسلم - عيدًا للناس؟ ولما لم يَدْعُ إلى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ويبين للناس ماذا يجب عليهم فيه من أقوال وأعمال كما بين ذلك في عيدي الفطر والأضحى؟ أنسي ذلك أم كتمه، وهو المأمور بالبلاغ؟ سبحانك اللهم إن رسولك - صلى الله عليه وآله وسلم - ما نسي ولا كتم ولكن الإنسان كان أكثر شيء جدلًا. ¬

_ (¬1) راجع نص كلامهم في القول الفصل (ص80 - 84).

الشبهة السادسة: وجود الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب النجاة لمن اتبعه، وتقليل حظ جهنم لمن أُعدّ لها، لفرحه بولادته - صلى الله عليه وآله وسلم -، فمن المناسب إظهار السرور. قَالَ عُرْوَةُ بن الزبير: «وَثُوَيْبَةُ مَوْلاَةٌ لأَبِى لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتِ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ (¬1)، قَالَ لَهُ: «مَاذَا لَقِيتَ؟»، قَالَ أَبُو لَهَبٍ: «لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّى سُقِيتُ فِى هَذِهِ بِعَتَاقَتِى ثُوَيْبَةَ» (رواه البخاري). الجواب: 1 - اتباع النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سبب النجاة وليس ابتداع أعياد ما أنزل الله بها من سلطان. 2 - هذا الخبر لا يصح؛ لأنه مرسل، رواه البخاري، قال الحافظ ابن حجر: «الْخَبَرَ مُرْسَلٌ أَرْسَلَهُ عُرْوَةُ وَلَمْ يَذْكُرْ مَنْ حَدَّثَهُ بِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولًا فَالَّذِي فِي الْخَبَرِ رُؤْيَا مَنَامٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ وَلَعَلَّ الَّذِي رَآهَا لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ أَسْلَمَ بَعْدُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ» (¬2). (والمقصود الجزء الذي ذكرناه، أما المنسوب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - والذي لم نذكره فلا). 3 - ذلك الخبر لا حجة فيه لو كان موصولًا لأنه رؤيا منام وقد يكون من رآها من الكفار، قال الحافظ ابن حجر: «الَّذِي فِي الْخَبَرِ رُؤْيَا مَنَامٍ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ وَلَعَلَّ الَّذِي رَآهَا لَمْ يَكُنْ إِذْ ذَاكَ أَسْلَمَ بَعْدُ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ» (¬3). 4 - ما في مُرسَل عُروة هذا من أن إعتاق أبي لهب ثويبة كان قبل إرضاعها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يخالف ما عند أهل السير من أن إعتاق أبى لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر: «بِشَرِّ حِيبَةٍ:: أَيْ سوء حَال» (فتح الباري (9/ 145). (¬2) فتح الباري (9/ 145). (¬3) نفس المصدر (9/ 146).

بدهر طويل، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) (¬1). 5 - الفرح الذي فرحه أبو لهب ـ إن صح ـ فإنما هو فرح طبيعي لا تعبدي بمولود لأخيه؛ إذ كل إنسان يفرح بالمولود يولد له، أو لأحد إخوانه أو أقاربه، والفرح إن لم يكن لله لا يثاب عليه فاعله، وهذا يضعف استدلالهم بالرواية إن صحت. 6 - لم يجيء في هذه الرواية مع ضعفها أنه يخفف عن أبي لهب العذاب كل إثنين ولا أن أبا لهب أعتق ثويبة من أجل بشارتها إياه بولادة المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكل هذا لا يصح. 7 - لم يثبت من طريق صحيح أن أبا لهب فرح بولادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولا أن ثويبة بشرته بولادته، فكل هذا لم يثبت، ومن ادعى ثبوت شيء من ذلك فعليه إقامة الدليل على ما ادعاه، ولن يجد إلى الدليل الصحيح سبيلًا. الشبهة السابعة: قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} (يونس 58). فالله - سبحانه وتعالى - طلب منا أن نفرح بالرحمة، والنبيُّّ - صلى الله عليه وآله وسلم - رحمة، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} (الأنبياء 107). الجواب: 1 - إن المقصود بالفضل والرحمة المفروح بهما ما عنته الآية السابقة لهذه الآية، وهو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: 57). وقد قال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)} (يونس 58): «وقد دارت أقوال السلف على أن ¬

_ (¬1) نفس المصدر (9/ 148).

فضل الله ورحمته ـ أي في هذه الآية ـ الإسلام والسنة» (¬1). وكتب التفسير المشهورة كتفسير ابن جرير ومختصره لابن كثير وتفاسير القرطبي والبغوي والبيضاوي والنسفي وابن الجوزي ليس فيها أي إشارة إلى العلاقة بين معنى هذه الآية والاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويكفي في توضيح معنى الآية ذِكْرُ كلام الإمام الطبري شيخ المفسرين إذ لو نُقِل كلام الجميع لطال المقام. قال ابن جرير: «يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -: قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بك، وبما أنزل إليك من عند ربك: بفضل الله أيها الناس الذي تفضل به عليكم وهو الإسلام، فبيَّنَه لكم ودعاكم إليه، وبرحمته التي رحمكم بها فأنزلها إليكم، فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، فبصَّركم بها معالم دينكم؛ وذلك القرآن. {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه والقرآن الذي أنزله عليهم، خير مما يجمعون من حطام الدنيا وأموالها وكنوزها، وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل». اهـ. يظهر من هذا أن الآية تتحدث عن شيء آخر ولا يدخل فيها نصًّا أو دلالة ما ذكروه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هو المراد بالرحمة هنا، كما أن في هذا إغفال تام لسياق الآية. 2 - إن الرحمة للناس لم تكن بولادة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإنما كانت ببعثه وإرساله إليهم، وعلى هذا تدل النصوص من الكتاب والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107).فنص على أن الرحمة للعالمين إنما كانت في إرساله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يتعرض لذكر ولادته. وأما السنة ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً». ¬

_ (¬1) اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية (ص38).

3 - إن الاستدلال بالآية على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي من قبيل حمل كلام الله - سبحانه وتعالى - على ما لم يحمله عليه السلف الصالح والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه في العمل به، وهو أمر لا يليق؛ لأن الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العمل بالنص عليه لا يُقبَل ممن بعدهم دعوى دلالة النص الشرعي عليه، إذ لو كان دليلًا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين، ثم يفهمه من بعدهم. فعمل الأولين كيف كان مصادم لمقتضى هذا المفهوم ومعارض له، ولو كان ترك العمل، قال: فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من خالف الإجماع فهو مخطىء، وأمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - لا تجتمع على ضلالة. فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى، وليس ثم إلا صواب أو خطأ فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف (¬1). 4 - إن سلَّمْنا بأن المراد بالرحمة هو النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فما دخل المولد بالفرح به، إن المولد يعني الاحتفال في يوم معين من السنة أو بصورة مستمرة بأسلوب مخصوص، والآية تأمر بالفرحة دون توقيت، كما أنها فرحة كذلك بما أنزل على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من تشريع والذي هو كذلك رحمة للناس ولا علاقة للمولد بهذا كله. 5 - هل الصحابة - رضي الله عنهم - احتفلوا بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ بالطبع لا. هل الصحابة - رضي الله عنهم - فرحوا برحمة الله، أي بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على قول المجوّزين للاحتفال؟ لو طبقنا كلامهم فسنقول: بالطبع الصحابة - رضي الله عنهم - لم يفرحوا بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. هذا هو لازم كلامهم، وحاشا الصحابة - رضي الله عنهم - من أن يكونوا كذلك، فإنهم بذلوا أموالهم وأنفسهم حبًّا لله ولرسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. ¬

_ (¬1) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي (3/ 71).

الشبهة الثامنة: قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} (هود:120)، والمولد النبوي الشريف يشتمل على أنباء النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وفي ذكره تثبيت لأفئدة المؤمنين. الجواب: 1 - لا علاقة لهذه الآية بالمولد كما هو ظاهر. 2 - تثبيت الفؤاد إنما يكون بما ثبت في القرآن والسنة وليس بالخزعبلات من القصص التي تهز الإيمان بدلًا من تثبيته. 3 - من المعلوم أن السيرة النبوية وذكر قصص الأنبياء كما هو وارد في القرآن وصحيح السنة مما هو مطلوب طوال العام وبدون طقوس ومظاهر خاصة. الشبهة التاسعة: قوله تعالى حكاية عن عيسى بن مريم سدد خطاكم: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)} (المائدة 114). وقوله تعالى على لسان سيدنا عيسى - عليه السلام -: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} (مريم: 33). قالوا: هذه الآية والتي قبلها وغيرهما من الآيات، حافلة بالإشارات إلى ميلاد المسيح - عليه السلام -، ومدحه ومزاياه التي مَنَّ الله بها عليه، وهي بمجموعها شاهدة وداعية إلى الاحتفال بهذا الحدث العظيم. وما كان ميلاد محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - بأقل شأنًا من ميلاد عيسى - عليه السلام -، بل ميلاد الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أعظم منه، لأنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أكبر نعمة، فيكون ميلاده أيضًا أكبر وأعظم.

الجواب: 1 - إننا أمة الإسلام ليس لنا سوى عيدين لا غير، وما يدعو إليه هؤلاء فيه مشابهة للنصارى ومن المعلوم أن من مقاصد الشرع مخالفتهم في شعائرهم. 2 - الآية الأولى لا تذكر الاحتفال ولا تدل عليه لا دلالة ولا اقتضاءً، وإنما تتحدث عن المائدة التي أنزلها الله من السماء لبني إسرائيل من أتباع عيسى - عليه السلام -. والمائدة هي: الخوان عليه طعام. ومعنى الآية كما جاء في تفسير السعدي: أي: يكون وقت نزولها عيدًا وموسمًا، يتذكر به هذه الآية العظيمة، فتحفظ ولا تنسى على مرور الأوقات وتكرر السنين، كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لآياته، ومنبها على سنن المرسلين وطرقهم القويمة، وفضله وإحسانه عليهم. 3 - نسأل دعاة الاحتفال عن موعد يوم المائدة في شرع عيسى - عليه السلام -؟ فلن يجيبوا، وإن أجابوا نسألهم: متى احتفل به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ فلن يجيبوا، وإن أجابوا فسيقولون إنه لم يحتفل. وعندئذٍ نقول لهم: خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونقول لهم: «أأنتم أعلم أم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟». 4 - نطالب المحتفلين بإثبات أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - احتفل بميلاد عيسى - عليه السلام - طبقًا لفهمهم للآية، وأنَّى لهم ذلك؟!! وإن كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يحتفل بميلاد عيسى - عليه السلام - فهل هم أعلم من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - بمعنى الآية؟ 5 - الآيات - على قولهم - حافلة أيضًا بالإشارات إلى موت المسيح - عليه السلام -، {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} (مريم: 33). فهل يستدل بها دعاة الاحتفال على جواز الاحتفال بموت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

الشبهة العاشرة: قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (الفتح: 9). الجواب: ليس من توقيره - صلى الله عليه وآله وسلم - أن نبتدع في دينه غير ما شرعه وجاء به، بل التوقير الحق هو اتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه وقد نهانا عن الابتداع، فوجب اتباعه إيمانًا وتوقيرًا. الشبهة الحادية عشرة: قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} (الأحزاب: 56). قالوا: والاحتفال بالمولد تطبيع النفس على كثرة الصلاة عليه - صلى الله عليه وآله وسلم - رجاء أن ينطبع حبه وحب آله في القلوب. الجواب: يُستحب الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في كل وقت لما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا»، وقد حث النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على الإكثار من الصلاة عليه في أوقات معينه كيوم الجمعة وبعد الأذان وعند ذكره - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى غير تلك الأوقات ومع ذلك لم يأمر أو يحث على الصلاة عليه في ليلة مولده. فيجب أن نعمل بما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ونَرُدّ ما لم يأمر به لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» وفي رواية «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). «فَهُوَ رَدٌّ» أي: مردود على صاحبه.

الشبهة الثانية عشرة: قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)} (آل عمران: 164). قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)} (الإسراء: 1). الجواب: الآيتان السابقتان لا تدلان على مشروعية المولد، كما أن المراجع لكتب التفسير يجد لهما سياقات ودلالات أخرى لا تتفق وما أرادوا التدليل عليه، ومن الغريب وضعهم لهاتين الآيتين في غير موضعهما للتدليل على ما لا تدلا عليه. وتذكرنا هذه الاستدلالات بمناظرة جرت لابن حزم مع بعضهم فاستدل مناظره بآية لا تدل على المراد، فما كان من ابن حزم إلا أن قال: «إذا كان هذا دليلك فدليلي {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (الناس: 1). الشبهة الثالثة عشرة: يقولون إن الله - سبحانه وتعالى - كَرَّم بعض الأماكن المرتبطة بالأنبياء مثل مقام إبراهيم - عليه السلام - حيث قال تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (البقرة: 125)، وهذا فيه حَثٌ على الاهتمام بكل ما يتعلق بالأنبياء ومنها الاهتمام بيوم مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. الجواب: 1 - العبادات مبناها على التوقيف والإتباع لا على الرأي والابتداع. فما عظمه الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - من زمان أو مكان فإنه يستحق التعظيم وما لا فلا. والله تبارك وتعالى قد أمر عباده أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ولم يأمرهم أن يتخذوا يوم مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عيدًا ويبتدعوا فيه بدعًا لم يؤمروا بها.

وقد صح عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ - رضي الله عنه - بِالْبَيْتِ فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا». فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا». فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: «صَدَقْتَ» (رواه الإمام أحمد، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح). فرجع معاوية - رضي الله عنه - عن رأيه لما استبان له أن رأي ابن عباس موافق لسنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. الشبهة الرابعة عشرة: قول الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - في فضل يوم الجمعة: «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ قُبِضَ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ» (رواه أبو داود، وصححه الألباني). قالوا: يؤخذ من قوله - صلى الله عليه وآله وسلم - في فضل يوم الجمعة، وعدّ مزاياه: «فِيهِ خُلِقَ آدَمُ» تشريف الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبي كان من الأنبياء - عليهم السلام - فكيف باليوم الذي ولد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين - صلى الله عليه وآله وسلم -. الجواب: 1 - جاءت النصوص الشرعية الصريحة الثابتة بفضل يوم الجمعة، واعتباره أحد أعياد المسلمين، واختصاصه بخصائص ليست لغيره، فنحن نقف مع النصوص الشرعية حيث وقفت، ونسير معها حيث اتجهت فالله - سبحانه وتعالى - يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7)، ويقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)} (الحجرات: 1). ولا نبيح لأنفسنا أن نشرع تفضيل يوم بعينه، لم يرد النص بتفضيله، إذ لو كان خيرًا لشرع لنا تفضيله، كما شرع لنا تفضيل يوم الجمعة، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (مريم: 64).

ولو جاءت نصوص شرعية تنص على فضل يوم ذكرى ميلاد سيدنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، لكنا بتوفيق الله وهدايته أسرع الناس إلى اعتبار ذلك والأخذ به، امتثالا لقوله تعالى:: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر: 7). 2 - النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يكن يخص يوم الجمعة بشيء من نوافل الأعمال وقد نهى عن تخصيصه بالصيام وعن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام ففي صحيح مسلم» عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «لاَ تَخْتَصُّوا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ بِقِيَامٍ مِنْ بَيْنِ اللَّيَالِى وَلاَ تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ مِنْ بَيْنِ الأَيَّامِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ فِى صَوْمٍ يَصُومُهُ أَحَدُكُمْ». وإذا كان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يخص يوم الجمعة بشيء من نوافل الأعمال من أجل أن آدم - عليه السلام - قد خُلِقَ فيه فأي متعلق لدعاة الاحتفال في ذكر ذلك الاستدلال به على جواز الاحتفال بالمولد. 3 - لماذا نهى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن صيام يوم الجمعة تطوعًا وحده؟ ولماذا لم يقل إثر إخباره أو فيما بعد: فأقيموا لأبيكم وأبي عيد وجود، أو حلقة ذكر بمناسبة الذكرى نتدارس فيها نعم الله على خلقه، ونذكر فيها العامة، وتكون سنة لمن بعدنا؟ وهل يمكن أن تكون محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لأبيه آدم - عليه السلام - قاصرة أو معدومة؟ أم أن هؤلاء يعلمون ما لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -.

96 - كشف شبهات حول الاحتفال بالمولد

96 - كشف شبهات حول الاحتفال بالمولد الشبهة الخامسة عشرة: الاستدلال بأن جبريل - عليه السلام - أمر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة الإسراء والمعراج أن يصلي ركعتين ببيت لحم مولد عيسى - عليه السلام - ثم قال: «أتدري أين صليتَ؟ صليتَ ببيت لحم حيث ولد عيسى - عليه السلام -». الجواب: ورد في قصة الإسراء أن جبريل - عليه السلام - أمر محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - بذلك، لكنه لا يصح فهو منكر كما قال الحافظ ابن كثير في تفسيره لسورة الإسراء والألباني في تعليقه على سنن النسائي. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وقد ثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لما أتى بيت المقدس ليلة الإسراء صلى فيه ركعتين ولم يُصَلّ بمكان غيره ولا زاره، وحديث المعراج فيه ما هو في الصحيح، وفيه ما هو في السنن أو في المسانيد، وفيه ما هو ضعيف، وفيه ما هو من الموضوعات المختلقات مثل ما يرويه بعضهم فيه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال له جبرائيل: «رهذا قبر أبيك إبراهيم انزل فصل فيه، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصل فيه» (¬1). 2 - بيت لحم كنيسة من كنائس النصارى ليس في إتيانها فضيلة عند المسلمين سواء كان مولد عيسى - عليه السلام - أو لم يكن. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 438).

الشبهة السادسة عشرة: أن شعراء الصحابة كانوا يقولون قصائد المدح في الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - مثل كعب بن زهير وحسان بن ثابت؛ فكان يرضى عملهم؛ ويكافئهم على ذلك. الجواب: لم يُذْكَر عن أحد من شعراء الصحابة - رضي الله عنهم - أنه كان يتقرب إلى الله بإنشاد القصائد في ليلة مولده، وإنما كان إنشادهم في الغالب عند وقوع الفتوح والظفر بالأعداء، وعلى هذا فليس إنشاد كعب بن زهير وحسان بن ثابت وغيرهما من شعراء الصحابة - رضي الله عنهم - بين يدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ما يتعلقون به في تأييد بدعة المولد. الشبهة السابعة عشرة: أن الموالد اجتماع ذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي وهذه أمور مطلوبة شرعًا وممدوحة وجاءت الآثار الصحيحة بها وبالحث عليها. الجواب: 1 - الإنكار على إقامة المولد - وإن كان يحتوي على بعض الأمور المشروعة - يرجع إلى ذلك الاجتماع المخصوص بتلك الهيئة المخصوصة في الوقت المخصوص، وإلى اعتبار ذلك العمل من شعائر الإسلام التي لا تثبت إلا بنص الشارع بحيث يظن العوام والجاهلون بالسنن أن عمل المولد من أعمال القرب المطلوبة شرعًا. وعمل المولد بهذه القيود بدعة سيئة وجناية على دين الله وزيادة فيه تعد من شرع ما لم يأذن به الله ومن الافتراء على الله والقول في دينه بغير علم. 2 - نفس نية المولد في ذلك العمل بدعة؛ فالأعمال الصالحة لا تقبل إلا بشرطين كما قال أهل العلم: الإخلاص ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -. الشبهة الثامنة عشرة: الاحتفال بالمولد النبوي أمر استحسنه العلماء وجرى به العمل في كل صقع فهو مطلوب شرعًا للقاعدة المأخوذة من أثر ابن مسعود - رضي الله عنه -: «ما رآه المسلمون حسنًا

فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح». الجواب: 1 - المقصود بقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: الصحابة؛ لأنه قال هذا القول استدلالًا على إجماع الصحابة على اختيار أبى بكر الصديق - رضي الله عنه - للخلافة كما في رواية الحاكم وغيره. ومن توسع في الاستدلال بهذا الأثر قصد به الإجماع، فقد بوب له جماعةٌ من أهل الحديث في باب (الإجماع)، واستدل به كثير من العلماء على الإجماع. 2 - لم يحتفل الصحابة - رضي الله عنهم - بالمولد النبوي، فهذا الأثر دليل على عدم جواز الاحتفال به؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على عدم الاحتفال به، وهذا يدل على أنهم لم يروه حسنًا، بل رأوه سيئًا، وقد قال عبد الله بن مسعود: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند الله قبيح». فهذا يدل على أن الاحتفال بالمولد عند الله قبيح وليس حسنًا، ولو علم الصحابة - رضي الله عنهم - فيه خيرًا لسبقونا إليه. 3 - مَن أول من استحسن المولد من العلماء؟! هل هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟ قطعًا: لا. هل هم التابعون؟ قطعًا: لا. هل هم تابعو التابعين؟ قطعًا: لا. هل هم قادة الفاطميين والرافضة بمختلف طوائفهم ونحلهم؟ اللهم: نعم.

هل هم أهل الطرق الصوفية؟ اللهم: نعم. فهل نقبل أمرًا أتى به الفاطميون وغيرهم، ممن يشهد التاريخ الإسلامي بتدنيسهم مُحَيَّا الإسلام، ونترك ما عليه أصحاب القرون الثلاثة المفضلة، من صحابة وتابعين وعلماء أجلاء، لهم فضلهم في العلم والتقى، والصلاح والاستقامة وسلامة المعتقد، ودقة النظر وصدق الاتباع والاقتداء بمن أمرنا الله تعالى أن نجعله أسوة لنا وقدوة لمسالكنا وهو رسولنا وحبيبنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -. الشبهة التاسعة عشرة: إذا كان أهل الصليب اتخذوا ليلة مولد نبيهم عيدًا أكبر فأهل الإسلام أولى بالتكريم وأجدر. الجواب: 1 - لا شك أن الاحتفال بالمولد النبوي واتخاذه عيدًا مبني على التشبه بالنصارى في اتخاذهم مولد المسيح عيدًا. وهذا مصداق ما ثبت عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ». قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟»، قَالَ: «فَمَنْ؟». (رواه البخاري ومسلم). وإذا عُلم أن عيد المولد مبني على التشبه بالنصارى فليُعلم أيضًا أن التشبه بالنصارى وغيرهم من المشركين حرام شديد التحريم لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني). الشبهة العشرون: قياس الاحتفال بالمولد النبوي على ما يقام للرؤساء من الاحتفالات إحياءً للذكرى.

الجواب: 1 - الاحتفال بالمولد النبوي إذا كان بطريق القياس على الاحتفالات بالرؤساء صار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ملحقًا بغيره وهذا ما لا يرضاه عاقل. 2 - النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد قال الله في حقه: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)} (الشرح: 4)، فذِكْرُه - صلى الله عليه وآله وسلم - مرفوع في الأذان والإقامة والخطب والصلوات وفي التشهد والصلاة عليه وفي قراءة الحديث واتباع ماجاء به، فهو أجَلُّ مِن أن تكون ذكراه سنوية فقط. الشبهة الحادية والعشرون: إن الاحتفال بالمولد إحياء لذكرى المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - وذلك مشروع عندنا في الإسلام، فأنت ترى أن أكثر أعمال الحج إنما هي إحياء لذكريات مشهودة ومواقف محمودة. الجواب: 1 - ما زعموه من أن الاجتماع في المولد لإحياء ذكرى المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - أمر مشروع في الإسلام هو من التقوّل على الله وعلى رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فإن الله تعالى لم يشرع الاجتماع لإحياء ذكرى المصطفى - صلى الله عليه وآله وسلم - لا في يوم المولد ولا في غيره من الأيام، ولم يشرع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا بقوله ولا بفعله. 2 - إذا كان الأمر كما يزعمون فلماذا لم يفعل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا صحابته الكرام - رضي الله عنهم - شيئًا من ذلك، أم أنهم أوسع منهم علمًا وفهمًا لدين الله - عز وجل -. الشبهة الثانية والعشرون: عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِى كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا». قَالَ: «أَىُّ آيَةٍ». قَالَ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}. قَالَ عُمَرُ: «قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِى نَزَلَتْ فِيهِ

عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ» (رواه البخاري). الجواب: 1 - في هذا اتباع لليهودي الذي ذكر طبعهم مِن كونهم يحتفلون بالوقائع والحوادث والذي يريد منا المستدلون بهذا الدليل أن نتبعهم فيه. 2 - لم ينتبه هؤلاء المحتفلون إلى أن عمر - رضي الله عنه - رغم معرفته بزمان ومكان نزول الآية لم يكترث لقول اليهودي ولم يدفعه هذا لأن يحتفل بذلك اليوم ولا غيره، فهل نتبع هدي الخلفاء الراشدين أم مقولات اليهود، أم أن اليهودي كان أفقه من عمر وصحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. الشبهة الثالثة والعشرون: قال الحافظ ابن كثير أن أول من أحدث ذلك من الملوك صاحب إربل، وكان شهمًا شجاعًا عاقلًا عادلًا. الجواب: 1 - لم أجد في (البداية والنهاية) أنه أول من أحدث ذلك، بل ذكر ابن كثير أنه كان يعمل المولد فقال: «أَمَّا صَاحِبُ إِرْبِلَ فَهُوَ: الْمَلِكُ الْمُظَفَّرُ، أَبُو سَعِيدٍ كُوكُبُرِي بْنُ زَيْنِ الدِّينِ عَلِيِّ بْنِ بُكْتِكِينَ أَحَدُ الْأَجْوَادِ وَالسَّادَاتِ الْكُبَرَاءِ وَالْمُلُوكِ الْأَمْجَادِ، لَهُ آثَارٌ حَسَنَةٌ، ... وَكَانَ يَعْمَلُ الْمَوْلِدَ الشَّرِيفَ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَيَحْتَفِلُ بِهِ احْتِفَالًا هَائِلًا. وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ شَهْمًا شُجَاعًا بَطَلًا عَاقِلًا عَالِمًا عَادِلًا، رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى» (¬1). 2 - على فرض أنه أول من أحدث ذلك فالبدعة في الدين لا تُقْبَل من أي أحد كان، وعدالته لا توجب عصمته (¬2)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «عادة بعض البلاد ¬

_ (¬1) البداية والنهاية (17/ 204 - 205). (¬2) القول الفصل (ص87 - 88) عن رسالة للشيخ محمد بن إبراهيم في حكم الاحتفال بالمولد النبوى (ص77).

أو أكثرها، وقول كثير من العلماء أو العباد، أو أكثرهم ونحو ذلك ليس يصلح أن يكون معارضًا لكلام رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يعارض به» (¬1). وأبو بكر ومَن بعده من الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - لم يحتفلوا وسنتهم أولى بالاتباع من صاحب إربل. 3 - الإمام ابن كثير في كتابه البداية والنهاية، إنما ينقل التاريخ، ولا يعني نقله لحدث تاريخي، أنه يقرّ ما فيه، وأما ثناؤه على صفات الملك الحميدة، فلا يتناقض مع كون المولد بدعة، فالشخص قد يجمع بين الصواب والخطأ، والسنة والبدعة. وهذا الملك (كوكبري) كانت لديه بدع أخرى أيضًا، كما قال ابن كثير أنه كان يَعْمَلُ لِلصُّوفِيَّةِ سَمَاعًا مِنَ الظُّهْرِ إِلَى الْفَجْرِ، وَيَرْقُصُ بِنَفْسِهِ مَعَهُمْ (¬2). 4 - حتى لو فُرِضَ أن الإمام ابن كثير أثنى على الملك الذي احتفل بالمولد، فثناؤه كان على حسن قصد الملك، لا على بدعة المولد. الشبهة الرابعة والعشرون: الاحتفال بالمولد النبوي تذكير بأهمية صاحب الذكرى الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وأمر الجميع باتباعه، ومن أجل ذلك، ولأن العهد بين زمنهم وزمنه بعيد فإنهم يتخذون من هذا الاحتفال تذكيرًا به وبما جاء به من الحق والخير، الذي سعدت به البشرية حيث أخرجها من ظلمات الشرك والجهل إلى نور التوحيد والعدل، ودفعًا للصبية الصغار وغيرهم من العامة إلى استشعار محبة صاحب هذه الرسالة والالتفاف حول دعوته، ولتذكير الجميع بها على أساس قوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} (الذاريات: 55). ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص245). (¬2) البداية والنهاية (17/ 205).

الجواب: قال الشيخ عطية سالم في تفسير سورة الإنسان من (تتمة أضواء البيان): «من المسلمين من يقول: نعلم أن المولد ليس سنة نبوية ولا طريقًا سلفيًا ولا عمل القرون المشهود لها بالخير، وإنما نريد مقابلة الفكرة بالفكرة والذكريات بالذكرى، لنجمع شباب المسلمين على سيرة سيد المرسلين. وهنا يمكن أن يقال: إن كان المراد إحياء الذكرى لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فإن الله تعالى قد تولى ذلك بأوسع نطاق حيث قرن ذكره - صلى الله عليه وآله وسلم - مع ذكره تعالى في الشهادتين، مع كل أذان على كل منارة من كل مسجد، وفي كل إقامة لأداء صلاة، وفي كل تشهد في فرض أو نفل مما يزيد على الثلاثين مرة جهرًا وسرًا، جهرًا يملأ الأفق، وسرًا يملأ القلب والحس. ثم تأتي الذكرى العملية في كل صغيرة وكبيرة في المأكل باليمين؛ لأنه السُنّة، وفي الملبس في التيامن لأنه السُنّة، وفي المضجع على الشق الأيمن لأنه السُنّة، وفي إفشاء السلام وفي كل حركات العبد وسكناته إذا راعى فيها أنها السُنّة عن النَّبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وإن كان المراد التعبير عن المحبة، والمحبة هي عنوان الإيمان الحقيقي، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» (¬1)؛ فإن حقيقة المحبة طاعة من تحب، وفعل ما يحبه وترك ما لا يرضاه أو لا يحبه. وإن كان المراد مقابلة فكرة بفكرة. فالواقع أنه لا مناسبة بين السببين ولا موجب للربط بين الجانبين لبعد ما بينهما، كبعد الحق عن الباطل والظلمة عن النور. ومع ذلك، فإن كان ولا بد فلا مُوجِب للتقييد بزمن معين بل العام كله لإقامة الدراسات في السيرة وتعريف المسلمين الناشئة منهم والعوام وغيرهم بما تريده من ¬

_ (¬1) رواه الإمام البخاري.

دراسة للسيرة النبوية». الشبهة الخامسة والعشرون: شيخ الإسلام ابن تيمية استحسن الاحتفال بالمولد النبوي وقال: قد يثاب بعض الناس على فعل المولد. الجواب: 1 - هذا عين الكذب فشيخ الإسلام ابن تيمية ممن ينكر ذلك ويقول إنه بدعة وهذا نَصُّ كلامه - رحمه الله -: «أما اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيع الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، أو بعض ليالي شهر رجب، أو ثامن عشر ذي الحجة، أو أول جمعة من رجب، أو ثامن شوال الذي يسميه الجهال: عيد الأبرار - فإنها من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها» (¬1). 2 - يتعلق أهل البدع بكلام له - رحمه الله - في اقتضاء الصراط المستقيم، ويبترونه، وهذا نَصّ المقصود منه: «ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى - عليه السلام -، وإما محبة للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وتعظيمًا، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد - لا على البدع - من اتخاذ مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عيدًا، مع اختلاف الناس في مولده، فإن هذا لم يفعله السلف، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا، ولو كان هذا خيرًا محضًا، أو راجحًا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وأكثر هؤلاء ¬

_ (¬1) الفتاوى الكبرى (4/ 414) ط دار المعرفة، بيروت، تحقيق: الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتي مصر الأسبق.

الذين تجدهم حُرَّاصًا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حُسن القصد، والاجتهاد الذي يُرجَى لهم بهما المثوبة، تجدهم فاترين في أمر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم -، عما أُمروا بالنشاط فيه، وإنما هم بمنزلة من يحلي المصحف ولا يقرأ فيه، أو يقرأ فيه ولا يتبعه، وبمنزلة من يزخرف المسجد، ولا يصلي فيه، أو يصلي فيه قليلًا، وبمنزلة من يتخذ المسابيح والسجادات المزخرفة، وأمثال هذه الزخارف الظاهرة التي لم تشرع، ويصحبها من الرياء والكبر، والاشتغال عن المشروع ما يفسد حال صاحبها. واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير، لاشتماله على أنواع من المشروع، وفيه أيضًا شر، من بدعة وغيرها، فيكون ذلك العمل خيرًا بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من أنواع المشروع وشرًّا بالنسبة إلى ما اشتمل عليه من الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين، وهذا قد ابتلى به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة، فعليك هنا بأدبين: أحدهما: أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطنًا وظاهرًا، في خاصتك وخاصة من يطيعك. وأَعْرِف المعروف وأَنْكِر المنكر. الثاني: أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه، فلا تدعو إلى ترك منكر بفعل ما هو أنكر منه، أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه، ولكن إذا كان في البدعة من الخير، فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئًا إلا بشيء، ولا ينبغي لأحد أن يترك خيرًا إلا إلى مثله أو إلى خير منه ... فتعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعيظمه لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - كما قدمته لك أنه يحسُن مِن بعض الناس ما يُستَقْبَح مِن المؤمن المسدد، ولهذا قيل للامام أحمد عن بعض الأمراء إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال: «دَعْهُ فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب»، أو كما قال مع أن مذهبه أن زخرفة المصاحف مكروهة. وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط، وليس مقصود

أحمد هذا وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها، فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا الفساد الذي لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ككتب الأسماء أو الأشعار أو حكمة فارس والروم. فتفَطّنْ لحقيقةِ الدين وانْظُرْ ما اشتملتْ عليه الأفعال من المصالح الشرعية والمفاسد بحيث تعرف ما ينبغي من مراتب المعروف ومراتب المنكر حتى تقدم أهمها عند المزاحمة، فإن هذا حقيقة العمل بما جاءت به الرسل. فإن التمييز بين جنس المعروف وجنس المنكر وجنس الدليل وغير الدليل يتيسر كثيرًا، فأما مراتب المعروف والمنكر ومراتب الدليل بحيث تُقّدَّم عند التزاحم أعْرَفَ المعروفَيْن فتدعو إليه، وتنكر أَنْكَرَ المنكرَيْن، وترجح أقوى الدليلين فإنه هو خاصة العلماء بهذا الدين، فالمراتب ثلاث: أحدها: العمل الصالح المشروع الذي لا كراهة فيه. والثانية: العمل الصالح من بعض وجوهه أو أكثرها إما لحسن القصد أو لاشتماله مع ذلك على أنواع من المشروع. الثالثة: ما ليس فيه صلاح أصلًا إما لكونه تركًا للعمل مطلقًا أو لكونه عملًا فاسدًا محضًا. فأما الأول فهو سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - باطنُها وظاهرُها، قولها وعملها، في الأمور العلمية والعملية مطلقًا، فهذا هو الذي يجب تَعَلّمُه وتعليمه والأمر به وفعله على حسب مقتضى الشريعة من إيجاب واستحباب. والغالب على هذا الضرب (¬1) هو أعمال السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان. ¬

_ (¬1) الضرب: النوع.

وأما المرتبة الثانية فهي كثيرة جدًا في طرق المتأخرين من المنتسبين إلى علم أو عبادة ومن العامة أيضًا، وهؤلاء خيرٌ ممَّنْ لا يعمل عملًا صالحًا مشروعًا ولا غير مشروع، أو من يكون عمله من جنس المحرم كالكفر والكذب والخيانة والجهل ويندرج في هذا أنواع كثيرة. فمن تعبَّدَ ببعض هذه العبادات المشتملة على نوع من الكراهة كالوصال في الصيام وترك جنس الشهوات ونحو ذلك، أو قصد إحياء ليال لا خصوص لها كأول ليلة من رجب ونحو ذلك، قد يكون حاله خيرًا من حال البطال الذي ليس فيه حرصٌ على عبادة الله وطاعته. النوع الثالث: ما هو معظم في الشريعة كيوم عاشوراء ويوم عرفة ويومي العيدين والعشر الأواخر من شهر رمضان والعشر الأول من ذي الحجة وليلة الجمعة ويومها والعشر الأول من المحرم ونحو ذلك من الأوقات الفاضلة. فهذا الضَّرْب قد يحدث فيه ما يعتقد أن له فضيلة وتوابع ذلك ما يصير منكرًا ينهى عنه، مثل ما أحدث بعض أهل الأهواء (¬1) في يوم عاشوراء من التعطش والتحزن والتجمع وغير ذلك من الأمور المحدثة التي لم يشرعها الله ولا رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا أحد من السلف، لا من أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا من غيرهم. لكن لما أكرم الله فيه سبط نبيه (¬2) أحد سيدي شباب أهل الجنة وطائفة من أهل بيته بأيدي الفجرة الذين أهانهم الله، وكانت هذه مصيبة عند المسلمين يجب أن تتلقى به أمثالها من المصائب من الاسترجاع المشروع، فأحدث بعض أهل البدع في مثل هذا اليوم خلاف ما أمر الله به عند المصائب وضمُّوا إلى ذلك مِن الكذب والوقيعة في ¬

_ (¬1) يقصد الشيعة. (¬2) أي الحسين بن علي بن أبي طالب ب.

الصحابة البرآء من فتنة الحسين وغيرها أمورًا أخرى مما يكرهها الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬1). 3 - إن ما قاله دعاة الاحتفال بالمولد سببه سوء فهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وسيرته فكلامه - رحمه الله - إنما هو في حق من فعله جاهلًا كما أشار إلى ذلك الشيخ ابن باز - رحمه الله - (¬2). 4 - أما قول شيخ الإسلام: «وأكثر هؤلاء الذين تجدهم حُرَّاصًا على أمثال هذه البدع، مع ما لهم من حُسن القصد، والاجتهاد الذي يُرجَى لهم بهما المثوبة ... »، فليس فيه إقرار المولد، ومن ينقل عنه من أهل البدع يبتر كلامه ولا ينقل ما قبله ولا ما بعده. فقول شيخ الإسلام ليس فيه إلا الإثابة على حسن القصد، وهي لا تستلزم مشروعية العمل الناشئ عنه؛ ولذلك ذكر شيخ الإسلام أن هذا العمل - أي الاحتفال بالمولد - يستقبح من المؤمن المسدد، وذكر أن اتخاذ المولد عيدًا لو كان خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا؛ لأنهم أشد محبة وتعظيمًا لرسول الله منا. 5 - شيخ الإسلام صرح في أول تلك العبارة: بأن الداعي للاحتفال بالمولد النبوي قد يكون مضاهاة للنصارى في مولد عيسى - عليه السلام -، أي: فيكون غير مشروع لتلك المضاهاة. وقد يكون الداعي إليه محبة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيثاب المحتفل في هذه الحالة على محبته للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - التي دعته إلى ذلك الاحتفال، لا على بدعة الاحتفال. 6 - كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ليس فيه إقرارٌ لبدعة المولد، بل كلامه عن فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص404 - 405). (¬2) انظر مجموع فتاوى ابن باز (9/ 211 - 212).

فإنه فَرَّقَ في تلك العبارة بين مَن يعمل المولد ولا يتركه إلا إلى شر منه، وبين المؤمن المسدّد الذي ليس كذلك، فذكر أن الذي يعمل المولد ولا يتركه إلا إلى شر منه لا يُدعَى إلى تركه؛ لما يترتب على ذلك من ارتكاب ما هو شر منه، وأن المؤمن المسدّد يُسْتَقْبَح منه الاحتفال بالمولد ويجب عليه الحرص على التمسك بالسنة ظاهرًا وباطنًا في خاصته وخاصة من يطيعه. 7 - ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية ما في المواسم المبتدعة - من موالد وغيرها - من مفاسد راجحة على ما فيها من المنفعة، فقال: «منها - مع ما تقدم من المفسدة الاعتقادية والحالية - أن القلوب تستعذبها وتستغني بها عن كثير من السنن، حتى تجد كثيرًا من العامة يحافظ عليها ما لا يحافظ على التراويح والصلوات الخمس. ومنها: أن الخاصة والعامة تنقص بسببها عنايتهم بالفرائض والسنن وتفتر رغبتهم فيها، فتجد الرجل يجتهد فيها ويخلص وينيب ويفعل فيها ما لا يفعل في الفرائض والسنن، حتى كأنه يفعل هذه البدعة عبادة، ويفعل الفرائض والسنن عادة ووظيفة، وهذا عكس الدين، فيفوته بذلك ما في الفرائض والسنن من المغفرة والرحمة، والرقة والطهارة والخشوع، وإجابة الدعوة، وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك من الفوائد، وإن لم يفته هذا كله فلا بد أن يفوته كماله. ومنها: ما في ذلك من مصير المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وما يترتب على ذلك من جهالة أكثر الناس بدين المرسلين، وانتشار زرع الجاهلية. ومنها: مسارقة الطبع إلى الانحلال من ربقة الاتباع وفوات سلوك الصراط المستقيم، وذلك أن النفس فيها نوع من الكبر فتحب أن تخرج من العبودية والاتباع بحسب الإمكان، كما قال أبو عثمان النيسابوري - رحمه الله -: «ما ترك أحد شيئًا من السنة إلا لكبر في نفسه»، ثم هذا مظنة لغيره فينسلخ القلب عن حقيقة الاتباع للرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ويصير فيه من الكبر وضعف الإيمان ما يفسد عليه دينه أو يكاد، وهم يحسبون أنهم

يحسنون صنعًا. ومنها: ما تقدم التنبيه عليه في أعياد أهل الكتاب من المفاسد التي توجد في كلا النوعين المحدثين: النوع الذي فيه مشابهة، والنوع الذي لا مشابهة فيه» (¬1). الشبهة السادسة والعشرون: بالنسبة للمولد النبوي: أنتم تقولون على أنه بدعة، ولكن البدعة تكون بالعبادة، وليست بالعادة وهذه قاعدة شرعية، وأما بالنسبة للذين يرقصون ويحدث عندهم اختلاط أو تبرج وسفور ومهرجانات، هذا حرام بلا شك. ولكن إذا أحضر الشخص حلوى ووزعها على أهله فما المشكلة؟ وأيضًا إذا الشخص أخذ الاحتفال بالمولد النبوي عبادة فهذا لا يجوز، أما من أخذها عادة يعني الواحد تعوَّد على أنه ليلة المولد يوزع حلوى فما المشكلة فيها؟ ثم كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أي أن البدعة تؤدي إلى النار، فهل الفرح بذكرى مولد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وتمييز هذا اليوم عن غيره بالفرح لا بالعبادة يؤدي إلى جهنم والعياذ بالله!!! وأيضا إذا الشخص أنجبت زوجته يحضر حلوى بمناسبة الفرح ويطعم الناس فكيف بذكرى ولادة أفضل الخلق سيدهم وسيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -؟! الجواب: 1 - الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس مجرد عادة، بل إنه أصبح عبادة عند كثير ممن يفعله، لأن الذين يحتفلون بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقصدون بذلك القربة، وإن الله تعالى لا يُتَقَرَّبُ إليه إلا بما شرع، وإن التعظيم الحقيقي لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إنما هو في الوقوف عند ما جاء به وعدم الزيادة عليه أو الاستدراك على شريعته. 2 - وبما أنهم يحتفلون بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سنويًا فقد أصبح الاحتفال عندهم عيدًا، لأنه يعود ويتكرر كل عام، والأعياد من شعائر الإسلام وهي شريعة من ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (ص: 291).

الشرائع فيجب فيها الاتباع وعدم الابتداع. 3 - اتخاذ موسم غير المواسم الشرعية وتعظيمه والتوسعة فيه في المأكل والمشرب وإظهار الزينة هو من البدع ومن الإحداث في الدين، وقد نهانا نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الابتداع والإحداث في الدين أشد النهي، وفاعل هذه البدعة غير مأجور على فعله بل مردود على صاحبه لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ» وفي رواية «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). «فَهُوَ رَدٌّ» أي: أي مردود على صاحبه وغير مقبول منه. 4 - الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ليس من شريعة الإسلام ولم يفعله الصحابة، لا من أهل البيت ولا من غيرهم، مع قيام المقتضي وعدم المانع منه، ولو كان ذلك خيرًا لسبقونا إليه فإنهم كانوا على الخير أحرص، وكانوا أشد محبة وتعظيمًا لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. 5 - قد كانت للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أيام متعددة، كيوم بدر والخندق وفتح مكة ويوم حنين ويوم هجرته ويوم دخوله المدينة ونحو ذلك، ثم لم يتخذ صحابة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - لا من أهل بيته ولا من غيرهم - تلك الأيام أعيادًا، وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون حوادث نبي الله عيسى - عليه السلام - مواسم وأعيادًا (¬1). 6 - الشخص إذا أنجبت زوجته وأحضر حلوى بمناسبة الفرح وأطعم الناس هذه عادة وليست عبادة، أما إذا كررها كل عام في نفس الموعد فقد أدخلها في جملة الأعياد التي لا يجوز إحداث شيء منها إلا بدليل من القرآن أو السنة الصحيحة. أما ذكرى ولادة أفضل الخلق سيدهم وسيدنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فيكفينا فيها أن أصحابه - رضي الله عنهم - الذين هم أكثر الناس حبًّا له ومعرفةً لفضله لم يحتفلوا هذا الاحتفال المبتدع. ¬

_ (¬1) بتصرف من فتاوى موقع الشبكة الإسلامية، بإشراف الدكتورعبد الله الفقيه، رقم الفتوى 62785.

الشبهة السابعة والعشرون: ليلة المولد أعظم من ليلة القدر لأن لولاها ما كانت هناك ليلة قدر. الجواب: هذا القول لا دليل عليه لا من الكتاب ولا من السنة، ولا نعلم أن أحدًا من الأئمة قال به، بل الثابت أن ليلة القدر هي خير ليالي العام لأن العبادة فيها تعدل عبادة ألف شهر، بل أكثر!! ومن ادعى غير ذلك فليأتنا بالدليل. الشبهة الثامنة والعشرون: إذا كان المولد النبوي الشريف بدعة محرّمة كسائر البدع؛ لِمَ سكت عنها العلماء وتركوها حتى ذاعت وشاعت، وأصبحت كجزء من عقائد المسلمين، أليس من الواجب عليهم أن ينكروها قبل استفحال أمرها وتأصلها؟ ولمَ لمْ يفعلوا؟ الجواب: لقد أنكر هذه البدعة العلماء من يوم ظهورها، وكتبوا في ردها الرسائل، ومن قدر له الإطلاع على كتاب المدخل لابن الحاج عرف ذلك وتحققه. ومن بين الردود القيمة رسالة الشيح تاج الدين عمر بن علي اللخمي الإسكندري الفقيه المالكي، صاحب شرح الفاكهاني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، وله رسالة سماها (المورد في الكلام على المولد). ومما قاله في مقدمة هذه الرسالة: «لا أعلم لهذا المولد أصلًا في كتاب ولاسنة، ولم يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها المبطلون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكالون» اهـ. ولكن الأمم في عصور انحطاطها تضعف عن الاستجابة لداعي الخير والإصلاح بقدر قوتها على الاستجابة لداعي الشر والفساد، لأن الجسم المريض يؤثر

فيه أدنى أذى يصيبه، والجسم الصحيح لا يؤثر فيه إلا أكبر أذى وأقواه. ومن الأمثلة المحسوسة أن الجدار الصحيح القوي تعجز عن هدمه المعاول والفؤوس، والجدار المتداعي للسقوط يسقط بهبة ريح أو ركلة رِجْل؛ ولذا فلا يدل بقاء هذه البدعة وتأصلها في المجتمع الإسلامي على عدم إنكار العلماء لها. الشبهة التاسعة والعشرون: لماذا صار الاحتفال بالمولد بدعة؛ لأنه لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، مع أن تنقيط المصحف أيضا لم يكن على عهد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولم يكن بدعة؟ الجواب: بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، محدثة على غير هدي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأما تنقيط المصحف فوسيلة لتعليم القراءة الصحيحة، ولم تُفْعل في زمنه - صلى الله عليه وآله وسلم - لعدم الحاجة إليها، وليس لأنّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد تركها قاصدا ذلك، تعبدا لله تعالى بتركها كما فعل - صلى الله عليه وآله وسلم - في تَرْكِه الاحتفال بيوم مولده.

97 - رأس السنة هل نحتفل

97 - رأس السنة هل نحتفل أعياد كثيرة: يلحظ المسلم كثرة الأعياد في هذه الأزمنة، مثل عيد مولد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعيد (شم النسيم) المسمى بعيد الربيع، و (عيد الحب)، واحتفال الشخص بعيد ميلاده ... الخ، وكل هذا من اتباع اليهود والنصارى والمشركين، ولا أصل لهذا في الدين، وليس في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد الفطر وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة. وقد تابع بعض هذه الأمة الأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس في عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم وهيئاتهم، ومن ذلك اتباعهم في ابتداع (عيد رأس السنة الميلادية، وعيد رأس السنة الهجرية) فصارا يومين معظَّمين تُعَطَّل فيهما الدوائر. وإن ما يُعرَف بعيد رأس السنة الميلادية - والذي يحتفل به كثير من الناس في الأول من يناير كل عام - وما يُعرف بعيد رأس السنة الهجرية - والذي يحتفل به كثير من الناس في الأول من المحرم كل عام - من جملة البدع والمحدثات التي دخلت ديار المسلمين، لغفلتهم عن أحكام دينهم وهدي شريعة ربهم، وتقليدهم واتباعهم للغرب في كل ما يصدره إليهم؛ وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). الأعياد من جملة الشرع والمنهاج والمناسك: وقد استفاض العلم بأنه لا يجوز إحداث عيد يحتفل به المسلمون غير عيدي الأضحى والفطر، لأن الأعياد من جملة الشرع والمنهاج والمناسك، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} (الحج:67).

وللأسف يحرص كثير من المسلمين على الاحتفال برأس السنة الميلادية حيث يخرجون إلى المتنزهات والحدائق العامة وشواطئ البحر، وتزدان المحلات بالزينات والأنوار وأشجار عيد الميلاد، وتكثر في هذا اليوم حفلات الرقص والغناء، يرتحل لها الناس من هنا وهناك، وتستباح القُبُلات وتعاطي الخمور في بعض الأوساط لهذه المناسبة، ويتم إلقاء المخلفات والزجاجات من النوافذ عند منتصف الليل، وتكثر هدايا (بابا نويل). كما يتم تبادل التهاني بالعام الجديد، والرجم بالغيب في معرفة أخبار العام الجديد، والتكريس للأشهر الإفرنجية مما يؤدي لمزيد من الجهل بالأشهر العربية وما ارتبط بها من أحكام شرعية. والمسلم في مشاركته لغيره في هذا الاحتفال يخالف ما جاء ما في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فالأعياد من أعظم شعائر الدين، ولا يجوز موافقة المشركين في أعيادهم بحال. وأهل الكتاب ودُّوا لو بذلوا الأموال العظيمة في سبيل مشاركة المسلمين لهم في أعيادهم، ومشابهتهم قد تجر إلى الكفر؛ ولأن تشابه الظواهر يجر إلى تشابه البواطن وهدم لمفهوم الولاء والبراء، كما يترتب على المشابهة مودة ومحبة بين المسلم والكافر. أتحبُّ أعداءَ الحبيبِ وتَدَّعِي ... حُبًّا لهُ مَا ذاكَ في الإمكانِ فلا تُجَابُ الدعوة لأعياد الكفار، ولا تقبل الهدية المتعلقة بشعائر دينهم، ولا يبيعهم المسلم ما يستعينون به على عيدهم، ولا يُحْدِث شيئًا زائدًا في عيدهم، بل يمرّر هذا اليوم كسائر الأيام فمَن كانت عادته أكل اللحم والحلوى والبيض في غير ذلك من الأيام أكَلَها في يوم عيدهم بلا حرج؛ وإلا فمشابهتهم في عيدهم توجب لهم السرور والعزة.

وقد حذَّر إمام المتقين - صلى الله عليه وآله وسلم - أمته أشد التحذير من أعيادهم، وكان من شروط عمر - رضي الله عنه - ألا يُظْهِر الذميون شعائر دينهم. ليست المشاركة في أعياد المشركين من سماحة الإسلام: وليست المشاركة في أعياد المشركين من سماحة الإسلام في شيء، بل هي إظهار لشعائر المشركين ودينهم، وتبقى شبهة يرددها الكثيرون، وهي أن أهل الكتاب يهنئوننا بعيدنا فكيف لا نهنئهم بعيدهم؟! والإجابة على ذلك أنهم يهنئوننا بحق ونحن لا يجوز لنا أن نهنئهم بباطل، وخذ على سبيل المثال ما يسمى بعيد القيامة المجيد فهم يعتقدون أن الإله قد مات ثم قام!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا، فالله حي لا يموت، قيوم لا ينام، فكيف يهنئهم المسلم على مثل هذا المعتقد؟! بل لو اعتقد المسلم مثل ذلك لَكَفَرَ. الاحتفال بالعام الهجري: أما الاحتفال بالعام الهجري، أو الاحتفال بحَدَث الهجرة، فهذا أمر لم يسبقنا إليه السابقون الأولون، الذين هاجروا وعرفوا أحداث الهجرة وتطورها، لم يفعلوا شيئًا من ذلك، لأنه هذا الحدث قوَّى الإيمان في قلوبهم، هذا أثَرُه عليهم، أما أنهم أحدثوا احتفالًا أو خُطبًا أو تحدُثًا، فهذا أمرٌ لم يكن، فإذا كان الصديق وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم -، ومِن قبلِهم إمامهم سيد الأولين والآخرين - صلى الله عليه وآله وسلم -، لم يضعوا لذلك حفلًا معينًا ولا خطابةً معينة، فهذا يدلنا على أن هذا أمر محدث، وأنه لا يجوز أن نفعل شيئًا من ذلك، بل إذا تذكرنا شكرنا الله على النعمة، وقويَتْ رغبتُنا في الخير وشكَرْنا الله على نصر نبيه، وإعلاء دينه، هذا هو المطلوب. وإنما كان أول من احتفل بالعام الهجري ناصرو البدعة من ملوك الدولة الفاطمية , حيث كان أحد أعيادهم اتخذوه محاكاة لليهود والنصارى في اتخاذ رأس السنة عيدًا لهم.

فمن ذلك الوقت حتى يومنا هذا نجد أن كثيرًا من المسلمين اهتموا بهذه المناسبة وأَوْلَوْها عناية فائقة وأضْفَوْا عليها طابع القدسية والجلال حتى أصبحت كأنها شرعية. والقلوب عادة لا تتسع للبدعة والسنة فالقلب المشغول بالبدع فارغ من الهدى والسنن، وأنت تجد الناس لما احتفلوا برأس السنة الهجرية وما شابه ذلك قَلّ اهتمامهم وإظهارهم الفرحة والبهجة في عيد الفطر والأضحى؛ بحيث تخلو الشوارع والمتنزهات من السيارات والمارة، فما دخلت بدعة إلا وخرجت في المقابل سُنَّة، مصداق ذلك أنك ترى البعض يتحرى الاحتفال برأس السنة - خاصة الميلادية - بينما تجده يقضي يومي عيدي الفطر والأضحى نائمًا في بيته يغشاه الكسل والفتور. فلم تأت بدعة محدثة من البدع إلا وهجرت أو أميتت سنة من السنن، وقد قال التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي - رحمه الله -: «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سُنَّتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة» (رواه الدرامي، وقال الألباني: إسناده صحيح). شبهة: وكَوْنُ الكثرة أو بعض المنسوبين للعلم يشارك في هذه الأعياد فهذا لا يبررها إذ لا أسوة في الشر، وكل إنسان يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -. قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} (الأنعام:116)، وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)} (يوسف:103)، وقال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} (يوسف: 106). فاعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف من أتاه، واسلك طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.

فعلى المسلم أن يقتصر في احتفاله على الأعياد الإسلامية، ويتجنب الأعياد البِدْعية سواء استحدثها المسلمون كالمولد النبوي ورأس السنة الهجرية، أو الأعياد التي استحدثها المشركون كشَمّ النسيم ورأس السنة الميلادية. الصراط المستقيم أمور باطنة في القلب، وأمور ظاهرة: إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب: من اعتقادات، وإرادات، وغير ذلك، وأمور ظاهرة: من أقوال، أو أفعال قد تكون عبادات، وقد تكون أيضًا عادات في الطعام واللباس، والنكاح والمسكن، والاجتماع والافتراق، والسفر والإقامة، والركوب وغير ذلك. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورًا ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال، يوجب للقلب شعورًا وأحوالًا. لماذا الأمر بمخالفة اليهود والنصارى في الهدي الظاهر؟ قد بعث الله محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم، والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر، وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها: 1 - أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة - مثلًا - يجد من نفسه نوع تخلُّق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضيًا لذلك، إلا أن يمنعه مانع. 2 - أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال والانعطاف على أهل الهدى، والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين.

وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا وظاهرًا أتم، وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين، أشد. 3 - أن مشاركتهم في الهدي الظاهر، توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التميز ظاهرًا، بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين. هذا، إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحًا محضًا لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان شُعبة من شُعَب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم؛ فهذا أصل ينبغي أن يُتَفَطَّنُ له. بعض الأدلة من القرآن والسنة على النهي عن التشبه بالكافرين: 1 - قال تعالى: {آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} (الجاثية: 16 – 19). أخبر سبحانه، أنه أنعم على بني إسرائيل بِنِعَم الدين والدنيا، وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيًا من بعضهم على بعض، ثم جعل محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - على شريعة شرعها له، وأمره باتباعها، ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته. وأهواؤهم: هو ما يهوونه، وما عليه المشركون من هديهم الظاهر، الذي هو من موجبات دينهم الباطل، وتوابع ذلك فهم يهوونه، وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه؛

ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم، ويُسَرُّون به، ويَوَدُّون أن لو بذلوا مالًا عظيمًا ليحصل ذلك. 2 - قال سبحانه لموسى وهارون:: {فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)} (يونس:89)، وقال سبحانه: {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف:142)، وَقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)} (النساء:115)، إلى غير ذلك من الآيات. وما هم عليه من الهَدْيِ والعمل، هو من سبيل غير المؤمنين، بل ومن سبيل المفسدين، والذين لا يعلمون. 3 - قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح)، وهذا الحديث أقل أحواله: أن يقتضى تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم، كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة:51)؛ فقد يُحمَل هذا على التشبه المطلق، فإنه يوجب الكفر، ويقتضي تحريم أبعاض ذلك، وقد يحمل على أنه منهم، في القدر المشترك الذي شابههم فيه، فإن كان كفرًا، أو معصية، أو شعارًا لها كان حكمه كذلك. وبكل حال: يقتضي تحريم التشبه، بعلة كونه تَشَبُّهًا، والتَّشَبُّه: يعم مَنْ فَعَل الشيء لأجل أنهم فعلوه، وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك، إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير، فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضًا، ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبهًا نظر، لكن قد ينهى عن هذا؛ لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة، كما أمر بصبغ اللحى وإحفاء الشوارب، مع أن قوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» (رواه الترمذي وصححه

الألباني)، دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل، بل بمجرد ترْك تغيير ما خُلِق فينا، وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية، الاتفاقية، وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زيّ غير المسلمين. وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - أن أمته ستتبع سنن الأمم قبلها، فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟». قَالَ «فَمَنْ» (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِى بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»، فَقِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟». فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ؟» (رواه البخاري). فأخبر - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى، وهم أهل الكتاب، ومضاهاة لفارس والروم، وهم الأعاجم. وقد كان - صلى الله عليه وآله وسلم - ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء، وليس هذا إخبارًا عن جميع الأمة، بل قد تواتر عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» (رواه البخاري ومسلم). وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللهَ لاَ يَجْمَعُ أُمَّتِى - أَوْ قَالَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - عَلَى ضَلاَلَةٍ» (رواه الترمذي وصححه الألباني). وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ يَزَالُ اللهُ يَغْرِسُ فِى هَذَا الدِّينِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلُهُمْ فِى طَاعَتِهِ» (رواه ابن ماجه وحسنه الألباني). فعُلِم بخبره الصِّدق أنه في أمته - صلى الله عليه وآله وسلم - قومٌ مستمسكون بهَدْيه، الذي هو دين الإسلام محضًا، وقوم منحرفون إلى شُعبة من شُعَب اليهود، أو إلى شعبة من شعب

النصارى، وإن كان الرجل لا يكفر بكل انحراف، بل وقد لا يفسق أيضًا، بل قد يكون الانحراف كفرًا، وقد يكون فسقًا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ، وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان، فلذلك أُمِر العبدُ بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلًا. ونفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنوَّر قلبه، حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون - من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان. ونفس ما هم عليه من الهَدْي، والخُلُق، قد يكون مُضِرًا، أو مُنْقِصًا فيُنهى عنه، ويُؤمر بضده، لما فيه من المنفعة والكمال. وليس شيء من أمورهم، إلا وهو: إما مضر، أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة، ونحوها، مضرة، وما بأيديهم - مما لم ينسخ أصله - فهو يقبل الزيادة والنقص. موافقة اليهود والنصارى في أعيادهم: إذا تقرر هذا الأصل في مشابهتهم فنقول: موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين: الطريق الأول: ما تقدم من أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا، ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم، وفي تركه مصلحة مخالفتهم، حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمرًا اتفاقيًا، ليس مأخوذًا عنهم لَكَانَ المشروع لنا مخالفتهم، لما في مخالفتهم من المصلحة، فمن وافقهم فوّت على نفسه هذه المصلحة، وإن لم يكن قد أتى بمفسده، فكيف إذا جمعهما؟

وأما الطريق الثاني - الخاص - في نفس أعياد الكفار: فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ قَالَ: «كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمْ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى» (رواه النسائي وصححه الألباني). فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرُّهما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا ترَكهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: «وَقَدْ أَبْدَلَكُمْ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى»، والإبدال من الشيء، يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما. حريم العيد: العيد: اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة، فليس النهي عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام، وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك. وكذلك حريم العيد: وهو ما قبله وما بعده من الأيام التي يُحْدثون فيها أشياء لأجله، أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله، أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمها حكمه فلا يفعل شيء من ذلك، فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم، كيوم الخميس والميلاد ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع، أو الشهر الآخر، وإنما المحرك على إحداث ذلك وجود عيدهم، ولولا هو لم يقتضوا ذلك. فهذا أيضًا من مقتضيات المشابهة. لكن يُحَالُ الأهلُ على عيد الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ويُقْضَي لهم فيه من الحقوق ما يقطعُ

استشرافَهم إلى غيره، فإن لم يرضَوا فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومن أغضب أهله لله، أرضاه الله وأرضاهم. وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ». (رواه البخاري ومسلم). هل يجب على المسلم أن يعرف أعياد الكفار؟ أعياد الكفار كثيرة مختلفة، وليس على المسلم أن يبحث عنها، ولا يعرفها، بل يكفيه أن يعرف في أي فعل من الأفعال أو يوم، أو مكان، أو سبب هذا الفعل أو تعظيم هذا المكان أو الزمان من جهتهم، ولو لم يعرف أن سببه من جهتهم، فيكفيه أن يعلم أنه لا أصل له في دين الإسلام، فإنه إذا لم يكن له أصل فإما أن يكون قد أحدثه بعض الناس من تلقاء نفسه، أو يكون مأخوذًا عنهم، فأقل أحواله: أن يكون من البدع. وكثيرٌ من الناس قد وقعوا فيه، فمن ذلك: الخميس الحقير، الذي في آخر صومهم، فإنه يوم عيد المائدة فيما يزعمون، ويسمونه عيد العشاء، وهو الأسبوع الذي يكون فيه من الأحد إلى الأحد - هو عيدهم الأكبر، فجميع ما يحدثه الإنسان فيه من المنكرات. فمنه: خروج النساء، وتبخير القبور، ووضع الثياب على السطح، وكتابة الورق وإلصاقها بالأبواب، واتخاذه موسمًا لبيع البخور وشرائه وكذلك شراء البخور في ذلك الوقت، إذ اتخذ وقتًا للبيع، ورقى البخور مطلقًا في ذلك الوقت، أو في غيره أو قصد شراء البخور المرقي، فإن رقى البخور واتخاذه قربانًا هو دين النصارى والصابئين، وإنما

البخور طيب يتطيب بدخانه كما يتطيب سائر الطيب من المسك وغيره، مما له أجزاء بخارية، وإن لطفت، أو له رائحة محضة، ويستحب التبخر حيث يستحب التطيب. وكذلك اختصاصه بطبخ رُزّ بلبن، أو بسيسة، أو عدس، أو صبغ، أو بيض، ونحو ذلك. ومن ذلك ترك الوظائف الراتبة: من الصنائع، والتجارات، أو حلق العلم، أو غير ذلك، واتخاذه يوم راحة وفرح، واللعب فيه بالخيل أو غيرها، على وجه يخالف ما قبله وما بعده من الأيام. والضابط: أنه لا يحدث فيه أمر أصلًا، بل يجعل يومًا كسائر الأيام، فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نهاهم عن اليومين اللذين كانا لهم يلعبون فيهما في الجاهلية، ونهى - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يُعَيِّدون فيه. (رواه أبو داود وصححه الألباني)؛ وإذا كان الذبح بمكان عيدهم مَنْهِيًّا عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟ وأعياد الفرس مثل النيروز والمهرجان، وأعياد اليهود أو غيرهم من أنواع الكفار، أو الأعاجم أو الأعراب، حكمها كلها على ما ذكرناه من قبل. حكم إعانة المسلمين المتشبهين بالكفار في أعيادهم: وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يُعَان المسلم المتشبه بهم في ذلك. بل ينهى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تُجَبْ دعوتُه، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات، غير هذا العيد، لم تُقْبل هديته، خصوصًا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، مثل إهداء الشمع ونحوه، في الميلاد، أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير، الذي في آخر

صومهم. وكذلك أيضًا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يستعان به على التشبه بهم كما ذكرناه. ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد، من الطعام واللباس ونحو ذلك، لأن في ذلك إعانة على المنكر. بيع المسلمين للكفار في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم: فأما بيع المسلمين لهم في أعيادهم، ما يستعينون به على عيدهم، من الطعام واللباس، والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم، فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم، وهو مبني على أصل، وهو: أن بيع الكفار عنبًا أو عصيرًا يتخذونه خمرًا لا يجوز، وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا. الأعياد والمواسم المبتدعة: سائر الأعياد والمواسم المبتدعة من المنكرات المكروهات، سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه. وذلك أن أعياد أهل الكتاب والأعاجم نهي عنها لسببين: أحدهما: أن فيها مشابهة الكفار. والثاني: أنها من البدع. فما أحدث من المواسم والأعياد هو منكر، وإن لم يكن فيها مشابهة لأهل الكتاب، لوجهين: أحدهما: أن ذلك داخل في مسمى البدع المحدثات، فيدخل فيما رواه مسلم في

صحيحه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ - رضي الله عنهما - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ وَعَلاَ صَوْتُهُ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ يَقُولُ: «صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ». وَيَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ». وَيَقْرُنُ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ». وفيما رواه أيضًا في الصحيح عن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». وفي لفظ في الصحيحين: «مَنْ أَحْدَثَ فِى أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي الحديث الصحيح عن العرباض بن سارية عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِى فَسَيَرَى اخْتِلاَفًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ». (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني). وهذه قاعدة قد دلت عليها السنة والإجماع، مع ما في كتاب الله من الدلالة عليها أيضًا، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (الشورى:22)، فمن ندب إلى شيء يُتَقَرَّبُ به إلى الله، أو أوجبه بقوله أو بفعله، من غير أن يشرعه الله؛ فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله. ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله شرع من الدين ما لم يأذن به الله. نعم، قد يكون متأولًا في هذا الشرع، فيُغفَر له لأجل تأويله، إذا كان مجتهدًا الاجتهاد الذي يعفى معه عن المخطئ ويثاب أيضًا على اجتهاده، لكن لا يجوز اتباعه في ذلك، كما لا يجوز اتباع سائر من قال أو عمل، قولًا أو عملًا، قد علم الصواب في خلافه، وإن كان القائل أو الفاعل مأجورًا أو معذورًا. وقد قال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ

سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} (التوبة:31). وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - وَفِى عُنُقِى صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ. فَقَالَ «يَا عَدِىُّ اطْرَحْ عَنْكَ هَذَا الْوَثَنَ». وَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ فِى سُورَةِ بَرَاءَةَ:: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَحَلُّوا لَهُمْ شَيْئًا اسْتَحَلُّوهُ وَإِذَا حَرَّمُوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا حَرَّمُوهُ». (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). فمن أطاع أحدًا في دين لم يأذن به الله في تحليل أو تحريم أو استحباب أو إيجاب فقد لحقه من هذا الذم نصيب، كما يلحق الآمر الناهي أيضًا نصيب. ثم قد يكون كل منهما معفوًا عنه لاجتهاده، ومُثابًا أيضًا على الاجتهاد، فيتخلف عنه الذم لفوات شرطه، أو لوجود مانعه، وإن كان المقتضي له قائمًا. ويلحق الذم مَنْ تَبَيَّنَ له الحق فتركه، أو من قصّر في طلبه حتى لم يتبين له، أو أعرض عن طلب معرفته لهوى، أو لكسل، أو نحو ذلك. وأيضًا: فإن الله تعالى عاب على المشركين شيئين: أحدهما: أنهم أشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا. والثاني: تحريمهم ما لم يحرمه عليهم. وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك حين قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِى خُطْبَتِهِ «أَلاَ إِنَّ رَبِّى أَمَرَنِى أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِى يَوْمِى هَذَا: «كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلاَلٌ وَإِنِّى خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِى مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» (رواه مسلم). قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «مَعْنَى (نَحَلْته) أَعْطَيْته، وَفِي الْكَلَام حَذْف، أَيْ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: كُلّ مَال أَعْطَيْته عَبْدًا مِنْ عِبَادِي فَهُوَ لَهُ حَلَال. (حُنَفَاء كُلّهمْ) أَيْ: مُسْلِمِينَ، وَقِيلَ: طَاهِرِينَ مِنْ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: مُسْتَقِيمِينَ

مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْهِدَايَة، وَقِيلَ: الْمُرَاد حِين أَخَذَ عَلَيْهِمْ الْعَهْد فِي الذَّرّ، وَقَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} (الأعراف: 172). قَوْله تَعَالَى: (فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينهمْ) أَيْ: اسْتَخَفُّوهُمْ فَذَهَبُوا بِهِمْ وَأَزَالُوهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ، وَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الْبَاطِل. وقال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام:148)، فجمعوا بين الشرك والتحريم، والشرك يدخل فيه كل عبادة لم يأذن الله بها، فإن المشركين يزعمون أن عبادتهم: إما واجبة، وإما مستحبة، وأن فعلها خير من تركها. ثم مِنهم مَن عَبَد غير الله، ليتقرب بعبادته إلى الله. ومنهم من ابتدع دينًا عبدوا به الله، في زعمهم، كما أحدثته النصارى من أنواع العبادات المحدثة. وأصل الضلال في أهل الأرض إنما نشأ من هذين: 1 - إما اتخاذ دين لم يشرعه الله. 2 - أو تحريم ما لم يحرمه الله. ولهذا كان الأصل الذي بَنَى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم أن أعمال الخلق تنقسم إلى: 1 - عبادات يتخذونها دينًا، ينتفعون بها في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة. 2 - وإلى عادات ينتفعون بها في معايشهم. فالأصل في العبادات: أن لا يشرع منها إلا ما شرعه الله. والأصل في العادات: أن لا يُحْظر منها إلا ما حظره الله. وهذه المواسم المحدثة: إنما نهى عنها لما حدث فيها من الدين الذي يتقرب به المتقربون.

السُنّة في استقبال السَّنَة الهجرية فضل صيام شهر الله المحرم: عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ». (رواه مسلم). صيام يوم عاشوراء، اليوم العشر من شهر الله المحرم: قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِى قَبْلَهُ» (رواه مسلم). فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ - إِنْ شَاءَ اللهُ - صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِعَ». قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّىَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -. (رواه مسلم). نصيحة الشيخ العثيمين في استقبال العام الهجري الجديد: «النصيحة التي ينبغي للإنسان أن ينصح بها نفسه في استقبال هذا العام أن ينظر ماذا أودع في العام الماضي من الأعمال الصالحة؟ وماذا قام فيه من الأعمال التي تنفعه وتنفع غيره من المسلمين؟ وعلى الإنسان في مستقبل هذا العام أن يعد نفسه بالجِدّ والاجتهاد وتتميم ما نقص في العام الماضي، وتحسين ما كان فيه شيء من الاعوجاج أو الانحراف حتى يستقبل هذا العام بجدٍ ونشاط، ولْيُعلم أن الإنسان إذا عَوَّدَ نفسه الكسل اعتاد عليه وصعب عليه أن ينشط بعد ذلك، وإذا عوَّد نفسه النشاط وبث الوعي الديني في الأمة سهل عليه ذلك وكان دَيْدَنًا له، حتى إنه ليحزن ويضيق صدره إذا لم يقم بهذا الأمر (¬1). ¬

_ (¬1) باختصار من لقاءات الباب المفتوح (2/ 131 - 132).

98 - شم النسيم هل نحتفل

98 - شم النسيم هل نحتفل؟ السعيد مَن ثبت على الحق مهما كانت الصوارف عنه: إن الصراع بين الحق والباطل دائم ما دامت الدنْيَا، واتباع فئام من الأمة المحمدية أهلَ الباطل في باطلِهم من يهود ونصارى ومجوس وعباد أوثان وغيرهم، وبقاء طائفة على الحق رغم الضغوط والمضايقات، كل ذلك سنن كونية مقدرة مكتوبة، ولا يعني ذلك الاستسلام وسلوك سبيل الضالين؛ لأن الذي أخبرنا بوقوع ذلك لا محالة حذَّرنا من هذا السبيل، وأمرنا بالثبات على الدين مهما كثر الزائغون، وقوي المنحرفون، وأخبرنا أن السعيد من ثبت على الحق مهما كانت الصوارف عنه، في زمن للعامل فيه مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمل الصحابة - رضي الله عنهم -. فعَنْ عُتْبَةَ بن غَزْوَانَ - رضي الله عنه - أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»، قَالُوا: «يَا نَبِيَّ اللهِ، أَوْ مِنْهُمْ؟»، قَالَ: «بَلْ مِنْكُمْ». (رواه الطبراني في المعجم الكبير، وصححه الألباني). ولسوف يكون من أمة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - أقوام ينحرفون عن الحق صوب الباطل يغيّرون ويبدّلون، وعقوبتهم أنهم سيُحجزون عن حوض النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حينما يَرِدُه الذين استقاموا ويشربون منه؛ فقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: «أَلاَ هَلُمَّ»، فَيُقَالُ: «إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ»، فَأَقُولُ: «سُحْقًا سُحْقًا». (رواه مسلم). ومن أعظم مظاهر التغيير والتبديل، والتنكر لدين محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - اتِّباع أعداء الله - سبحانه وتعالى - في كل كبيرة وصغيرة، باسم الرقي والتقدم، والحضارة والتطور، وتحت شعارات التعايش السلمي والأخوة الإنسانية، والنظام العالمي الجديد والعولمة والكونية، وغيرها من الشعارات البراقة الخادعة.

وإن المسلم الغيور ليلحظ هذا الداء الوبيل في جماهير الأمة إلا من رحم الله - سبحانه وتعالى - حتى تبعوهم وقلدوهم في شعائر دينهم وأخص عاداتهم وتقاليدهم كالأعياد التي هي من جملة الشرائع والمناهج. قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)، وقال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67) أي: عيدًا يختصون به. شم النسيم من جملة البدع: وعيد (شم النسيم) المسمى بعيد الربيع، هو من جملة البدع والمحدثات التي دخلت ديار المسلمين، لغفلتهم عن أحكام دينهم وهدي شريعة ربهم، وتقليدهم واتباعهم للغرب في كل ما يصدره إليهم؛ وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). وقد استفاض العلم بأنه لا يجوز إحداث عيد يحتفل به المسلمون غير عيدي الأضحى والفطر؛ لأن الأعياد من جملة الشرع والمنهاج والمناسك، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} (الحج:67). بعض الأدلة من القرآن والسنة على النهي عن التشبه بالكافرين (راجع خطبة: رأس السنة، هل نحتفل؟!). موافقة الكافرين في أعيادهم: موافقتهم في أعيادهم لا تجوز من طريقين: الطريق الأول: أن هذا موافقة لأهل الكتاب فيما ليس في ديننا، ولا عادة سلفنا، فيكون فيه مفسدة موافقتهم، وفي تركه مصلحة مخالفتهم، حتى لو كان موافقتهم في ذلك أمرًا

اتفاقيًا، ليس مأخوذًا عنهم لَكَانَ المشروع لنا مخالفتهم، لما في مخالفتهم من المصلحة، فمن وافقهم فوّت على نفسه هذه المصلحة، وإن لم يكن قد أتى بمفسده، فكيف إذا جمعهما؟ وأما الطريق الثاني - الخاص - في نفس أعياد الكفار: فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ قَالَ: «كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمْ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى» (رواه النسائي وصححه الألباني). فوجه الدلالة: أن العيدين الجاهليين لم يقرُّهما رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، بل قال: «وَقَدْ أَبْدَلَكُمْ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى»، والإبدال من الشيء، يقتضي ترك المبدل منه، إذ لا يجمع بين البدل والمبدل منه، ولهذا لا تستعمل هذه العبارة إلا فيما ترك اجتماعهما. حريم العيد: العيد: اسم جنس يدخل فيه كل يوم أو مكان لهم فيه اجتماع، وكل عمل يحدثونه في هذه الأمكنة والأزمنة، فليس النهي عن خصوص أعيادهم، بل كل ما يعظمونه من الأوقات والأمكنة التي لا أصل لها في دين الإسلام، وما يحدثونه فيها من الأعمال يدخل في ذلك. وكذلك حريم العيد: وهو ما قبله وما بعده من الأيام التي يُحْدثون فيها أشياء لأجله، أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله، أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال حكمها حكمه فلا يفعل شيء من ذلك، فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم، كيوم الخميس والميلاد ويقول لعياله: إنما أصنع لكم هذا في الأسبوع، أو الشهر الآخر، وإنما المحرك على إحداث ذلك وجود عيدهم، ولولا هو لم يقتضوا ذلك.

فهذا أيضًا من مقتضيات المشابهة. لكن يُحَالُ الأهلُ على عيد الله ورسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ويُقْضَي لهم فيه من الحقوق ما يقطعُ استشرافَهم إلى غيره، فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله، ومن أغضب أهله لله، أرضاه الله وأرضاهم. وليحذر العاقل من طاعة النساء في ذلك، ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ». (رواه البخاري ومسلم). لا يُحْدَث في يوم عيد الكفار أمر أصلا، بل يُجْعَل يومًا كسائر الأيام: فإن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - نهاهم عن اليومين اللذين كانا لهم يلعبون فيهما في الجاهلية، ونهى - صلى الله عليه وآله وسلم - عن الذبح بالمكان إذا كان المشركون يُعَيِّدون فيه. (رواه أبو داود وصححه الألباني)، وإذا كان الذبح بمكان عيدهم مَنْهِيًّا عنه، فكيف بالموافقة في نفس العيد بفعل بعض الأعمال التي تعمل بسبب عيدهم؟ حكم إعانة المسلمين المتشبهين بالكفار في أعيادهم: وكما لا نتشبه بهم في الأعياد، فلا يُعَان المسلم المتشبه بهم في ذلك. بل يُنْهَى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تُجَبْ دعوتُه، ومن أهدى من المسلمين هدية في هذه الأعياد، مخالفة للعادة في سائر الأوقات، غير هذا العيد، لم تُقْبل هديته (¬1)، خصوصًا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، مثل إهداء الشمع ونحوه، في الميلاد، أو إهداء البيض واللبن والغنم في الخميس الصغير، الذي ¬

_ (¬1) جاء في فتاوى موقع موقع الإسلام سؤال وجواب، بإشراف الشيخ محمد المنجد: «الإهداء لهم في عيدهم لا يجوز لأنه من إعانتهم على باطلهم، وأيضًا عدم جواز هدية المسلم المتشبه بهم في عيدهم؛ لأن قبولها إعانة له في تشبهه وإقرار له وعدم إنكار عليه الوقوع في هذا الفعل المحرم».

في آخر صومهم. وكذلك أيضًا لا يهدى لأحد من المسلمين في هذه الأعياد هدية لأجل العيد، لا سيما إذا كان مما يستعان به على التشبه بهم كما ذكرناه. ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد، من الطعام واللباس ونحو ذلك، لأن في ذلك إعانة على المنكر. بيع المسلمين للكفار في أعيادهم ما يستعينون به على عيدهم: فأما بيع المسلمين لهم في أعيادهم، ما يستعينون به على عيدهم، من الطعام واللباس، والريحان ونحو ذلك، أو إهداء ذلك لهم، فهذا فيه نوع إعانة على إقامة عيدهم المحرم. وهو مبني على أصل، وهو: أن بيع الكفار عنبًا أو عصيرًا يتخذونه خمرًا لا يجوز، وكذلك لا يجوز بيعهم سلاحًا يقاتلون به مسلمًا. منشأ عيد شم النسيم وقصته: وهو ما يسمى زورًا في مصر بعيد الربيع، وهو عادة ابتدعها أهل الأوثان لتقديس بعض الأيام تفاؤلًا به أو تزلفًا لما كانوا يعبدون من دون الله (¬1). عيد شم النسيم من أعياد الفراعنة، ثم نقله عنهم بنو إسرائيل، ثم انتقل إلى الأقباط بعد ذلك، وصار في العصر الحاضر عيدًا شعبيًا يحتفل به كثير من أهل مصر من أقباط ومسلمين وغيره. كانت أعياد الفراعنة ترتبط بالظواهر الفلكية، وعلاقتها بالطبيعة، ومظاهر الحياة؛ ولذلك احتفلوا بعيد الربيع الذي حددوا ميعاده بالانقلاب الربيعي، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل. ويقع في الخامس والعشرين من شهر برمهات، وكانوا يعتقدون - كما ورد في كتابهم المقدس عندهم - ¬

_ (¬1) الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ - رحمه الله - (ص 275).

أن ذلك اليوم هو أول الزمان، أو بدء خلق العالم. بين عيد الفصح وشم النسيم: نقل بنو إسرائيل عيد شم النسيم عن الفراعنة لما خرجوا من مصر، وقد اتفق يوم خروجهم مع موعد احتفال الفراعنة بعيدهم. واحتفل بنو إسرائيل بالعيد بعد خروجهم ونجاتهم، وأطلقوا عليه اسم عيد الفصح، والفصح كلمة عبرية معناها (الخروج) أو (العبور)، كما اعتبروا ذلك اليوم - أي يوم بدء الخلق عند الفراعنة - رأسًا لسنتهم الدينية العبرية تَيَمُّنًا بنجاتهم، وبدء حياتهم الجديدة. وهكذا انتقل هذا العيد من الفراعنة إلى اليهود، ثم انتقل عيد الفصح من اليهود إلى النصارى وجعلوه موافقًا لما يزعمونه قيامة المسيح، ولما دخلت النصرانية مصر أصبح عيدهم يلازم عيد المصريين القدماء - الفراعنة - ويقع دائمًا في اليوم التالي لعيد الفصح أو عيد القيامة. كان الفراعنة يحتفلون بعيد شم النسيم؛ إذ يبدأ ليلته الأولى أو ليلة الرؤيا بالاحتفالات الدينية، ثم يتحول مع شروق الشمس إلى عيد شعبي تشترك فيه جميع طبقات الشعب كما كان فرعون، وكبار رجال الدولة يشاركون في هذا العيد. من مظاهر الاحتفال بشم النسيم: يخرج المحتفلون بعيد شم النسيم جماعات إلى الحدائق والحقول والمتنزهات؛ ليكونوا في استقبال الشمس عند شروقها، وقد اعتادوا أن يحملوا معهم طعامهم وشرابهم، ويقضوا يومهم في الاحتفال بالعيد ابتداء من شروق الشمس حتى غروبها، وكانوا يحملون معهم أدوات لعبهم، ومعدات لهوهم، وآلات موسيقاهم، فتتزين الفتيات بعقود الياسمين (زهر الربيع)، ويحمل الأطفال سعف النخيل المزين بالألوان والزهور، فتقام حفلات الرقص الزوجي والجماعي على أنغام الناي والمزمار والقيثار، ودقات الدفوف، تصاحبها الأغاني والأناشيد الخاصة بعيد الربيع، كما تجري المباريات الرياضية والحفلات التمثيلية.

كما أن الاحتفال بالعيد يمتد بعد عودتهم من المزارع والمتنزهات والأنهار إلى المدينة ليستمر حتى شروق الشمس سواء في المساكن حيث تقام حفلات الاستقبال، وتبادل التهنئة أو في الأحياء والميادين والأماكن العامة حيث تقام حفلات الترفيه والندوات الشعبية. أطعمة هذا العيد: كان لشم النسيم أطعمته التقليدية المفضلة، وما ارتبط بها من عادات وتقاليد أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الاحتفال بالعيد نفسه، والطابع المميز له والتي انتقلت من الفراعنة عبر العصور الطويلة إلى عصرنا الحاضر. وتشمل قائمة الأطعمة المميزة لمائدة شم النسيم: (البيض، والفسيخ، والبصل، والخس، والملانة (¬1))، وقد أخذ كثير ممن يحتفلون بأعياد الربيع في دول الغرب والشرق كثيرًا من مظاهر عيد شم النسيم ونقلوها في أعيادهم الربيعية. بيض شم النسيم: يعتبر البيض الملون مظهرًا من مظاهر عيد شم النسيم، ومختلف أعياد الفصح والربيع في العالم أجمع، واصطلح الغربيون على تسمية البيض (بيضة الشرق). بدأ ظهور البيض على مائدة أعياد الربيع - شم النسيم - مع بداية العيد الفرعوني نفسه أو عيد الخلق حيث كان البيض يرمز إلى خلق الحياة، كما ورد في متون كتاب الموتى وأناشيد (إخناتون الفرعوني). وهكذا بدأ الاحتفال بأكل البيض كأحد الشعائر المقدسة التي ترمز لعيد الخلق، أو عيد شم النسيم عند الفراعنة. أما فكرة نَقْش البيض وزخرفته، فقد ارتبطت بعقيدة قديمة أيضًا؛ إذ كان ¬

_ (¬1) (الحِمَّصُ والحِمِّصُ): نبات زراعي عُشبي حولي حبي من القرنيات الفراشية يسمى حبه الأخضر في مصر (ملانة). (المعجم الوسيط).

الفراعنة ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات ويجمعونه أو يعلقونه في أشجار الحدائق حتى تتلقى بركات نور الإله عند شروقه - حسب زعمهم - فيحقق دعواتهم ويبدؤون العيد بتبادل التحية (بدقة البيض)، وهي العادات التي ما زال أكثرها متوارثًا إلى الآن - نعوذ بالله من الضلال -. أما عادة تلوين البيض بمختلف الألوان وهو التقليد المتبع في جميع أنحاء العالم، فقد بدأ في فلسطين بعد زعم النصارى صلب اليهود للمسيح - عليه السلام - الذي سبق موسم الاحتفال بالعيد، فأظهر النصارى رغبتهم في عدم الاحتفال بالعيد؛ حدادًا على المسيح، وحتى لا يشاركوا اليهود أفراحهم. ولكن أحد القديسين أمرهم بأن يحتفلوا بالعيد تخليدًا لذكرى المسيح وقيامه، على أن يصبغوا البيض باللون الأحمر ليذكرهم دائمًا بدمه الذي سفكه اليهود. وهكذا ظهر بيض شم النسيم لأول مرة مصبوغًا باللون الأحمر، ثم انتقلت تلك العادة إلى مصر وحافظ عليه الأقباط بجانب ما توارثوه من الرموز والطلاسم والنقوش الفرعونية. ومنهم انتقلت إلى روما، وانتشرت في أنحاء العالم الغربي النصراني في أوربا وأمريكا، وقد تطورت تلك العادة إلى صباغة البيض بمختلف الألوان التي أصبحت الطابع المميز لأعياد شم النسيم والفصح والربيع حول العالم. الفسيخ (السمك المملح): ظهر الفسيخ - أو السمك المملح - من بين الأطعمة التقليدية في العيد في الأسرة الفرعونية الخامسة عندما بدأ الاهتمام بتقديس النيل: نهر الحياة، (الإله حعبى) عند الفراعنة الذي ورد في متونه المقدسة عندهم أن الحياة في الأرض بدأت في الماء ويعبر عنها بالسمك الذي تحمله مياه النيل من الجنة - حسب زعمهم -. وقد كان للفراعنة عناية بحفظ الأسماك، وتجفيفها وتمليحها وصناعة الفسيخ

والملوحة واستخراج البطارخ - كما ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوت - فقال عنهم: «إنهم كانوا يأكلون السمك المملح في أعيادهم، ويرون أن أكله مفيد في وقت معين من السنة، وكانوا يفضلون نوعًا معينًا لتمليحه وحفظه للعيد، أطلقوا عليه اسم (بور)، وما زال يطلق عليه حتى الآن، فهو في العامية المصرية (بوري). بصل شم النسيم: ظهر البصل ضمن أطعمة عيد شم النسيم في أواسط الأسرة الفرعونية السادسة وقد ارتبط ظهوره بما ورد في إحدى أساطير منف القديمة التي تروى أن أحد ملوك الفراعنة كان له طفل وحيد، وكان محبوبًا من الشعب، وقد أصيب الأمير الصغير بمرض غامض عجز الأطباء والكهنة والسحرة عن علاجه، وأقعد الأمير الصغير عن الحركة، ولازم الفراش عدة سنوات، امتُنِع خلالها عن إقامة الأفراح والاحتفال بالعيد مشاركة للملك في أحزانه. وكان أطفال المدينة يقدمون القرابين للإله في المعابد في مختلف المناسبات ليشفى أميرهم، واستدعى الملك الكاهن الأكبر لمعبد آمون، فنسب مرض الأمير الطفل إلى وجود أرواح شريرة تسيطر عليه، وتشل حركته بفعل السحر. وأمر الكاهن بوضع ثمرة ناضجة من ثمار البصل تحت رأس الأمير في فراش نومه عند غروب الشمس بعد أن قرأ عليها بعض التعاويذ، ثم شقها عند شروق الشمس في الفجر ووضعها فوق أنفه ليستنشق عصيرها. كما طلب منهم تعليق حِزَم من أعواد البصل الطازج فوق السرير وعلى أبواب الغرفة وبوابات القصر لطرد الأرواح الشريرة. وتشرح الأسطورة كيف تمت المعجزة وغادر الطفل فراشه، وخرج ليلعب في الحديقة وقد شُفِى من مرضه الذي يئس الطب من علاجه، فأقام الملك الأفراح في القصر لأطفال المدينة بأكملها، وشارك الشعب في القصر في أفراحه، ولما حل عيد شم النسيم بعد أفراح القصر بعدة أيام قام الملك وعائلته، وكبار رجال الدولة بمشاركة

الناس في العيد، كما قام الناس - إعلانًا منهم للتهنئة بشفاء الأمير - بتعليق حزم البصل على أبواب دورهم، كما احتل البصل الأخضر مكانه على مائدة شم النسيم بجانب البيض والفسيخ. ومما هو جدير بالذكر أن تلك العادات التي ارتبطت بتلك الأسطورة القديمة سواء من عادة وضع البصل تحت وسادة الأطفال، وتنشيقهم لعصيره، أو تعليق حزم البصل على أبواب المساكن أو الغرف أو أكل البصل الأخضر نفسه مع البيض والفسيخ ما زالت من العادات والتقاليد المتبعة إلى الآن في مصر وفي بعض الدول التي تحتفل بعيد شم النسيم أو أعياد الربيع. خس شم النسيم: كان الخس من النباتات التي تعلن عن حلول الربيع باكتمال نموها ونضجها، وقد عرف ابتداء من الأسرة الفرعونية الرابعة حيث ظهرت صوره من سلال القرابين التي يقربونها لآلتهم من دون الله - سبحانه وتعالى - بورقه الأخضر الطويل وعلى موائد الاحتفال بالعيد، وكان يسمى الهيروغليفية (حب) كما اعتبره الفراعنة من النباتات المقدسة الخاصة بالمعبود (من) إله التناسل، ويوجد رسمه منقوشًا دائمًا تحت أقدام الإله في معابده ورسومه - تعالى الله عن إفكهم وشركهم -. حمص شم النسيم: هي ثمرة الحمص الأخضر، وأطلق عليه الفراعنة اسم (حور - بيك) أي رأس الصقر لشكل الثمرة التي تشبه رأس حور الصقر المقدس عندهم. وكان للحمص - كما للخس - الكثير من الفوائد والمزايا التي ورد ذكرها في بردياتهم الطبية. وكانوا يعتبرون نضج الثمرة وامتلاءها إعلانًا عن ميلاد الربيع، وهو ما أخذ منه اسم الملانة أو الملآنة. وكانت الفتيات يصنعن من حبات الملانة الخضراء عقودًا، وأساور يتَزَيَّنَّ بها في الاحتفالات بالعيد، كما يقُمْنَ باستعمالها في زينة الحوائط ونوافذ المنازل في الحفلات

المنزلية. ومن بين تقاليد شم النسيم الفرعونية القديمة التزين بعقود زهور الياسمين وهو محرف من الاسم الفرعوني القديم (ياسمون) وكانوا يصفون الياسمين بأنه عطر الطبيعة التي تستقبل به الربيع، وكانوا يستخرجون منه في موسم الربيع عطور الزينة وزيت البخور الذي يقدم ضمن قرابين المعابد عند الاحتفال بالعيد. علاقة شم النسيم بالعقيدة النصرانية، لماذا لا يكون عيد شم النسيم إلا يوم الاثنين؟ تبدأ شعائر النصارى بالصوم الكبير ويستمر أربعين يومًا، ثم بعد تمام الأربعين خمسون يومًا تنتهي بعيد الخمسين أو العنصرة، ثم أسبوع الآلام، وهو آخر أسبوع في فترة الصوم، ويشير إلى الأحداث التي قادت إلى صلب المسيح - عليه السلام - وقيامته - كما يزعمون -. ويبدأ أسبوع الآلام بأحد السعف؛ وهو يوم الأحد الذي يسبق أحد الفصح، ويتلوه خميس العهد أو الصعود، ويشير إلى العشاء الأخير للمسيح واعتقاله وسجنه، ثم الجمعة الحزينة - وهي السابقة لعيد الفصح، وتشير إلى موت المسيح على الصليب - حسب زعمهم -، ثم سبت النور - وهو يوم الانتظار وترقب قيام المسيح، ثم أحد عيد الفصح - أو عيد القيامة، وفي يوم الاثنين التالي لعيد القيامة يقع الاحتفال بشم النسيم. وكما ترى فعيد شم النسيم لا يكون إلا يوم الاثنين بسبب ارتباطه الوثيق بالشعائر النصرانية الوثنية، التي يزعمون فيها صلب المسيح الذي يعتقدون أنه ابن الله ثم قيامته يوم الأحد الذي يسبق شم النسيم.

99 - حكم الاحتفال بشم النسيم

99 - حكم الاحتفال بشم النسيم حكم الاحتفال بشم النسيم: مما سبق عرضه في قصة نشأة هذا العيد وأصله ومظاهره قديمًا وحديثًا يتبين ما يلي: أولا: أصل هذا العيد فرعوني، كانت الأمة الفرعونية الوثنية تحتفل به ثم انتقل إلى بني إسرائيل بمخالطتهم للفراعنة، فأخذوه عنهم، ومنهم انتقل إلى النصارى، وحافظ عليه الأقباط - ولا يزالون ـ. فالاحتفال به فيه مشابهة للأمة الفرعونية في شعائرها الوثنية؛ إن هذا العيد شعيرة من شعائرهم المرتبطة بدينهم الوثني، والله تعالى حذرنا من الشرك ودواعيه وما يفضي إليه؛ كما قال - سبحانه وتعالى - مخاطبًا رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)} (الزمر:65 - 66)، ولقد قضى الله سبحانه - وهو أحكم الحاكمين - بأن من مات على الشرك فهو مخلد في النار؛ كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)} (النساء:48).وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)} (النساء:116). ثانيًا: اسم هذا العيد ومظاهره وشعائره من بيض مصبوغ أو منقوش وفسيخ (سمك مملح) وبصل وخس وغيرها هي عين ما كان موجودًا عند الفراعنة الوثنين، ولها ارتباط بعقائد فاسدة كاعتقادهم في البصل إذا وضع تحت الوسادة أو علق على الباب أو ما

شابه ذلك فإنه يشفي من الأمراض ويطرد الجان كما حصل في الأسطورة الفرعونية، ومن فعل ذلك فهو يقتدي بالفراعنة في خصيصة من خصائص دينهم الوثني، والنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول: «مًنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح). قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «هذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}» (¬1). وهذه الاعتقادات التي يعتقدونها في طعام عيد شم النسيم وبيضه وبصله مناقضة لعقيدة المسلم، فكيف إذا انضم إلى ذلك أنها مأخوذة من عباد الأوثان الفراعنة؟ لا شك أن حرمتها أشد؛ لأنها جمعت بين الوقوع في الاعتقاد الباطل وبين التشبه المذموم. ثالثًا: كل مَن كَتَب عن هذا العيد من المعاصرين يذكرون ما فيه من اختلاط، وتهتك في اللباس، وعلاقات محرمة بين الجنسين، ورقص ومجون، إضافة إلى المزامير والطبول وما شاكلها من آلات اللهو، فيكون قد أضيف إليه مع كونه تشبهًا بالوثنيين في شعائرهم جملة من مظاهر الفسق والفجور كافية في التنفير عنه، والتحذير منه. رابعًا: اتفق أهل العلم على تحريم حضور أعياد الكفار والتشبه بهم فيها، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة (¬2). ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 314). (¬2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص 425)، أحكام أهل الذمة لابن القيم (2/ 227 - 527).

وينطبق ذلك على الاحتفال بشم النسيم؛ وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مًنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح)، وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟»، قَالَ: «فَمَنْ؟» (¬1) (رواه البخاري ومسلم). وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِي بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»، فَقِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟»، فَقَالَ «وَمَنِ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ؟» (رواه البخاري). فشم النسيم عيد فرعوني، ثم يهودي، ثم نصراني؛ فكيف يسوغ لمسلم أن يتشبه بكل هؤلاء مع علمه بنهي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن التشبه بغير المسلمين. فبدعة الاحتفال بشم النسيم لم يكن المسلمون يعرفونها، وإنما انتقلت إليهم عن الكفار، وهذه ليست كالأمور العادية من الاختراعات والمأكولات التي لا تخالف شرع الله، فتكرارها كل عام في نفس اليوم يجعلها عيدًا من أعياد الكفار، وليس للمسلمين التشبه بهم في أعيادهم وإن لم تكن أعيادًا دينية. خامسًا: يحتفل النصارى بهذا العيد بعد احتفالهم بميلاد الرب - الذي يزعمون أنه المسيح - عليه السلام - ثم مَوت الرب على الصليب، ثم دفن الرب في القبر، ثم قيامة الرب بعد ثلاثة أيام، فإذا كانت هذه الشعائر والمعتقدات لا يجوز لمسلم أن يشارك النصارى فيها؛ فكيف يجوز له أن يشاركهم فيما بُنِيَ عليها؟ سادسًا: قال ابن القيم - رحمه الله -: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق، مثل ¬

_ (¬1) «فَمَنْ»:أي فَمَنْ غيرُ أولئك.

أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم، فيقول: عيد مبارك عليك، أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم إثمًا عند الله وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك، ولا يدري قبح ما فعل. فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه» (¬1). فإذا كان هذا حكم مجرد التهنئة بأعياد الكفار فما حكم مشاركتهم فيها؟ قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «وإنما كانت تهنئة الكفار بأعيادهم الدينية حرامًا وبهذه المثابة التي ذكرها ابن القيم؛ لأن فيها إقرارًا لما هم عليه من شعائر الكفر، ورِضىً به لهم، وإن كان هو لا يرضى بهذا الكفر لنفسه، لكن يَحرم على المسلم أن يَرضى بشعائر الكفر أو يُهنئ بها غيره؛ لأن الله - تعالى - لا يرضى بذلك، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (الزمر:7)، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة:3). وتهنئتهم بذلك حرام سواء كانوا مشاركين للشخص في العمل أم لا، وإذا هنئونا بأعيادهم فإننا لا نُجيبهم على ذلك؛ لأنها ليست بأعياد لنا، ولأنها أعياد لا يرضاها الله - تعالى -؛ لأنها إما أعياد مبتدعة في دينهم، وإما مشروعة لكن نُسِخت بدين الإسلام الذي بَعَث الله به محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى جميع الخلق، وقال فيه: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران:85). وإجابة المسلم دعوتهم بهذه المناسبة حرام؛ لأن هذا أعظم من تهنئتهم بها لما في ذلك من مشاركتهم فيها. ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة (1/ 441).

وكذلك يَحرم على المسلمين التّشبّه بالكفار بإقامة الحفلات بهذه المناسبة، أو تبادل الهدايا، أو توزيع الحلوى أو أطباق الطعام، أو تعطيل الأعمال ونحو ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَشَبّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ». ومَنْ فَعَل شيئا من ذلك فهو آثم، سواء فَعَلَه مُجاملة أو تَودّدًا أو حياءً أو لغير ذلك من الأسباب؛ لأنه من المُداهنة في دين الله، ومن أسباب تقوية نفوس الكفار وفخرهم بِدينهم (¬1). وقال الشيخ علي محفوظ - عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف - رحمه الله -: «مما ابْتُلِي به المسلمون وفشا بين العامة والخاصة مشاركة أهل الكتاب من اليهود والنصارى في كثير من مواسمهم ... فانظر ما يقع من الناس اليوم من العناية بأعيادهم وعاداتهم، فتراهم يتركون أعمالهم - من الصناعات والتجارات والاشتغال بالعلم - في تلك المواسم، ويتخذونها أيام فرح وراحة يوسعون فيها على أهليهم، ويلبسون أجمل الثياب ويصبغون فيها البَيْض لأولادهم كما يصنع أهل الكتاب من اليهود والنصارى. فهذا وما شاكله مصداق قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الحديث الصحيح: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟». قَالَ «فَمَنْ» (رواه البخاري)، وناهيك (¬2) ما يكون من الناس من البدع والمنكرات والخروج عن حدود الدين والأدب في يوم شم النسيم. ¬

_ (¬1) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (3/ 44 - 46). (¬2) وكأنه أراد أن يقول: ومما يزيد الطين بلة ما يكون في هذه المناسبات من فسق وفجور، وهو الغالب عليها؛ وإلا فحسبها أنها أعياد المشركين!

وما أدراك ما شم النسيم؟ هو عادة ابتدعها أهل الأوثان لتقديس بعض الأيام تفاؤلًا به أو تزلفًا لما كانوا يعبدون من دون الله، فعمرت آلافًا من السنين حتى عمت المشرقين، واشترك فيها العظيم والحقير، والصغير والكبير ... فعلى من يريد السلامة في دينه وعرضه أن يحتجب في بيته في ذلك اليوم المشؤوم، ويمنع عياله وأهله وكل من تحت ولايته عن الخروج فيه حتى لا يشارك اليهود والنصارى في مراسمهم، والفاسقين الفاجرين في أماكنهم، ويظفر بإحسان الله ورحمته» (¬1). سابعًا: إن إضافة عيد في حياة الأمة لا يكون إلا بدليل من الشرع، فالأعياد من العبادات والأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بما لم يشرعه الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع» (¬2). وقال ابن عابدين - رحمه الله -: «سُمِّيَ الْعِيدُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ لِلهِ - تَعَالَى - فِيهِ عَوَائِدَ الْإِحْسَانِ أَيْ أَنْوَاعَ الْإِحْسَانِ الْعَائِدَةَ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُلِّ عَامٍ: مِنْهَا الْفِطْرُ بَعْدَ الْمَنْعِ عَنْ الطَّعَامِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَإِتْمَامُ الْحَجِّ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَالنَّشَاطُ وَالْحُبُورُ غَالِبًا بِسَبَبِ ذَلِكَ» (¬3). وعيد شم النسيم نوع من العبادات المحدثة في دين الله وهذا الاحتفال ليس من باب العادات، لأنه يتكرر، ولهذا كَانَ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ قَالَ: «كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمْ اللهُ بِهِمَا ¬

_ (¬1) الإبداع في مضار الابتداع (275 - 277). (¬2) اقتضاء الصراط المستقيم (ص266). (¬3) حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الابصار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان لمحمد أمين الشهير بابن عابدين (2/ 165).

خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى» (رواه النسائي وصححه الألباني)، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم» (¬1). قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «عيد: اسم لما يعتاد فعله أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملًا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعامًا ودعا الناس فهذا يسمى عيدًا، ولأنه جعله يعود ويتكرر» (¬2). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «العيد اسم لما يُعادُ من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد: إما بِعَوْد السنة، أو بعود الأسبوع أو الشهر، أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورًا منها: يوم عائد كيوم الفطر، ويوم الجمعة، ومنها: اجتماع فيه، ومنها: أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقًا، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدًا. فالزمان كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليوم الجمعة: «إنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ» (¬3)، والاجتماع والأعمال: كقول ابن عباس: «شَهِدتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬4)، والمكان كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا» (¬5)، وقد يكون لفظ العيد اسمًا لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب، كقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَعْهُمَا يَا أبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلّ قَوْمٍ عِيدًا وَإِنَّ هَذَا عِيدُنَا» (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين (1/ 302 - 303). (¬2) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (9/ 443). (¬3) رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني. (¬4) رواه البخاري ومسلم. (¬5) رواه أبو داود، وصححه الألباني. (¬6) اقتضاء الصراط المستقيم (ص169)، والحديث رواه البخاري ومسلم.

* فالعيد يطلق على: - زمان العيد. - مكان العيد. - الاجتماع والأعمال من العبادات أو العادات. - مجموع اليوم والعمل فيه. * وعندما نطبق كلام شيخ الإسلام على الاحتفال بشم النسيم نجده عيدًا وليس عادة فقط فهو: 1 - يوم عائد بِعَوْدِ السنة (يتكرر كل سنة). 2 - يحدث فيه اجتماع للأهل أوالأقارب أو الأصدقاء. 3 - يحدث فيه أعمال مثل الخروج إلى الحدائق، وأكل أطعمة معينة كالبيض والفسيخ وغيرهما. فالاحتفال بهذا الشكل يجعله عيدًا يتكرر كل سنة على وجه مخصوص؛ وهو بهذه الكيفية عيد مبتدع لم يكن عليه عمل السلف الصالح - رضي الله عنهم -. موقف المسلم من عيد شم النسيم: يمكن تلخيص ما يجب على المسلم في الآتي: أولًا: عدم الاحتفال به، أو مشاركة المحتفلين به في احتفالهم، أو حضور الاحتفال به؛ وذلك لما فيه من التشبه بالفراعنة الوثنيين ثم باليهود والنصارى، والتشبه بهم فيما يخصهم محرم فكيف بالتشبه بهم في شعائرهم؟! ثانيًا: عدم إعانة من يحتفل به من الكفار أقباطًا كانوا أم يهودًا أم غيرهم بأي نوع من أنواع الإعانة، كالإهداء لهم، أو الإعلان عن وقت هذا العيد أو مراسيمه أو مكان الاحتفال به، أو إعارة ما يعين على إقامته، أو بيع ذلك لهم، فكل ذلك محرم؛ لأن فيه إعانة على ظهور شعائر الكفر وإعلانها، فمن أعانهم على ذلك فكأنه يقرهم عليه،

ولهذا حرم ذلك كله. وقد أحسن الشيخ علي محفوظ - رحمه الله - حينما أوصى كل مسلم في بلاد يُحْتَفَلُ بهذا العيد فيها أن يلزم بيته، ويحبس أهله وأولاده عن المشاركة في مظاهر هذا العيد واحتفالاته. ثالثًا: الإنكار على من يحتفل به من المسلمين، ومقاطعته في الله تعالى إذا صنع دعوة لأجل هذا العيد، وهجره إذا اقتضت المصلحة ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «وكما لا نتشبه بهم في الأعياد فلا يُعَان المسلم في ذلك؛ بل يُنْهَى عن ذلك، فمن صنع دعوة مخالفة للعادة في أعيادهم لم تُجَبْ دعوته، ومن أهدى مِن المسلمين هدية في هذه الأعياد مخالفة للعادة في سائر الأوقات غير هذا العيد لم تُقْبَل هديته خصوصًا إن كانت الهدية مما يستعان بها على التشبه بهم، ولا يبيع المسلم ما يستعين به المسلمون على مشابهتهم في العيد من الطعام واللباس ونحو ذلك؛ لأن في ذلك إعانة على المنكر» (¬1). وبناء على ما قرره شيخ الإسلام فإنه لا يجوز للتجار المصريين من المسلمين أو في أي بلاد يحتفل فيها بشم النسيم أن يتاجروا بالهدايا الخاصة بهذا العيد من بيض منقوش، أو مصبوغ مخصص لهذا العيد، أو سمك مملح لأجله، أو بطاقات تهنئة به، أو غير ذلك مما هو مختص به؛ لأن المتاجرة بذلك فيها إعانة على المنكر الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم -. كما لا يحل لمن أهديت له هدية هذا العيد أن يقبلها؛ لأن في قبولها إقرارًا لهذا العيد، ورضًا به. ولا يعني ذلك الحكم بحرمة بيع البيض أو السمك أو البصل أو غيره مما أحله الله تعالى، وإنما الممنوع بيع ما خصص لهذا العيد بصبغ أو نقش أو تمليح أو ما شابه ذلك، ولكن لو كان المسلم يتاجر ببعض هذه الأطعمة، ولم يخصصها لهذا العيد لا ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 519 - 520).

بالدعاية، ولا بوضع ما يرغب زبائن هذا العيد فيها فلا يظهر حرج في بيعها ولو كان المشترون منه يضعونها لهذا العيد. رابعًا: عدم تبادل التهاني بعيد شم النسيم؛ لأنه عيد للفراعنة ولمن تبعهم من اليهود والنصارى، وليس عيدًا للمسلمين، وإذا هنئ المسلم به فلا يرد التهنئة. قال ابن القيم - رحمه الله -: «وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق مثل: أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول: عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه، فهذا إن سلم قائله من الكفر فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب، بل ذلك أعظم عند الله وأشد مقتًا من التهنئة بشرب الخمر، وقتل النفس، وارتكاب الفرج الحرام ونحوه، وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك وهو لا يدري قبح ما فعل، فمن هنأ عبدًا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه» (¬1). خامسًا: توضيح حقيقة عيد شم النسيم وأمثاله من الأعياد التي عَمّتْ وطَمّتْ في هذا الزمن، وبيان حكم الاحتفال بها لمن اغتر بذلك من المسلمين، والتأكيد على ضرورة تميُّز المسلم بدينه، ومحافظته على عقيدته، وتذكيره بمخاطر التشبه بالكفار في شعائرهم الدينية كالأعياد، أو بما يختصون به من سلوكياتهم وعاداتهم؛ نصحًا للأمة، وأداءً لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بإقامته صلاح البلاد والعباد. والواجب على العلماء أن يحذروا المسلمين من مغبة الاحتفال بعيد شم النسيم، أو مشاركة المحتفلين به، أو إعانتهم بأي نوع من أنواع الإعانة على إقامته، وحث الناس على إنكاره ورفضه؛ لئلا يكون الدين غريبًا بين المسلمين. ¬

_ (¬1) أحكام أهل الذمة (1/ 441 - 442).

وكثيرٌ من إخواننا المسلمين في مصر يحتفلون بهذا العيد ولا يعرفون حقيقته وأصله، وحكم الاحتفال به، وبعضهم يعرف حقيقته، ولكنهم يقللون من خطورة الاحتفال به ظنًا منهم أنه أصبح عادة وليس عبادة، وحجتهم أنهم لا يعتقدون فيه ما يعتقده الفراعنة أو اليهود والنصارى. وهذا فهم خاطئ فإن التشبه في شعائر الدين يؤدي إلى الكفر سواء اعتقد المتشبه بالكفار في هذه الشعيرة ما يعتقدون فيها أم لم يعتقد؟ بخلاف التشبه فيما يختصون به من السلوكيات والعادات فهو أخف بكثير، ولا سيما إذا انتشرت بين الناس ولم تعد خاصة بهم، وكثير من الناس لا يفرق بين الأمرين. ولذا فإننا نرى المسلم يأنف من لبس الصليب؛ لأنه شعار النصارى الديني بينما نراه يحتفل بأعيادهم أو يشارك المحتفلين بها، وهذا مثل هذا إن لم يكن أعظم، لأن الأعياد من أعظم الشعائر التي تختص بها الأمم. فتوى الشيخ عطية صقر - رحمه الله - عن شم النسيم (¬1) السؤال: يحتفل المصريون بيوم شم النسيم، فما هو أصل هذا الاحتفال، وما رأى الدين فيه؟ الجواب: شم النسيم بعد أن كان عيدًا فرعونيًّا قوميًّا يتصل بالزراعة جاءتْهُ مِسْحَةٌ دينية، وصار مرتبطًا بالصوم الكبير وبعيد الفصح أو القيامة. وعيد شم النسيم يتغير كل عام لاعتماده مع التقويم الشمسي على الدورة القمرية، وهو مرتبط بالأعياد الدينية غير الإسلامية، ولهذه الصفة الدينية زادت فيه طقوس ومظاهر على ما كان معهودًا أيام الفراعنة وغيرهم، فحرص الناس فيه على أكل ¬

_ (¬1) باختصار من فتاوى الأزهر، نسخة إلكترونية على موقع وزارة الأوقاف المصرية www.islamic-council.com ، تاريخ الفتوى: مايو 1997.

البيض والأسماك المملحة، وذلك ناشئ من تحريمها عليهم في الصوم الذي يُمْسِكُون فيه عن كل ما فيه روح أو ناشئ منه، وحرصوا على تلوين البيض بالأحمر، ولعل ذلك لأنه رمز إلى دم المسيح على ما يعتقدون وقد تفنن الناس في البيض وتلوينه حتى كان لبعضه شهرة في التاريخ. ولا شك أن التمتع بمباهج الحياة من أكل وشرب وتنزه أمر مباح ما دام في الإِطار المشروع، الذي لا ترتكب فيه معصية ولا تنتهك حرمة ولا ينبعث من عقيدة فاسدة. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)} (المائدة:87)، وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (الأعراف:32). لكن هل للتزين والتمتع بالطيبات يوم معين أو موسم خاص لا يجوز في غيره، وهل لا يتحقق ذلك إلا بنوع معين من المأكولات والمشروبات، أو بظواهر خاصة؟ هذا ما نحب أن نلفت الأنظار إليه. فلماذا نحرص على شم النسيم في هذا اليوم بعينه والنسيم موجود في كل يوم؟ إنه لا يعدو أن يكون يوما عاديًّا من أيام الله حكمه كحكم سائرها، بل إن فيه شائبة تحمل على اليقظة والتبصر والحذر، وهى ارتباطه بعقائد لا يقرها الدين، حيث كان الزعم أن المسيح قام من قبره وشم نسيم الحياة بعد الموت. ولماذا نحرص على طعام بعينه في هذا اليوم، وقد رأينا ارتباطه بخرافات أو عقائد غير صحيحة، مع أن الحلال كثير وهو موجود في كل وقت، وقد يكون في هذا اليوم أردأ منه في غيره أو أغلى ثمنًا. إن هذا الحرص يبرر لنا أن ننصح بعدم المشاركة في الاحتفال به مع مراعاة أن المجاملة على حساب الدين والخلق والكرامة ممنوعة لا يقرها دين ولا عقل سليم، والنبى - صلى الله عليه وآله وسلم - يقول «مَنْ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنْ

الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ» (رواه الترمذى ورواه بمعناه ابن حبان في صحيحه) (¬1). شبهات حول الاحتفال بعيد شم النسيم: الشبهة الأولى: الذين يحتفلون بهذا اليوم لا يتقربون بذلك إلى الله ولا يعتبرونه قربة ولا عبادة سواء المسلمين أو النصارى. الجواب: أولًا: لا يشترط لكون الفعل تشبهًا بالكفار أن يقصد به القربة والعبادة فلو أن مسلمًا لبس صليب النصارى ولم يقصد العبادة والقربة فهل يقول هؤلاء إن ذلك جائز مع أنه شعار النصارى ودليل على أن لابسه راضٍ بانتسابه إليهم، والرضا بما هم عليه كفر (¬2)؟ فكذلك الاحتفال بأعيادهم محرم ولا يشترط فيه قصد القربة والعبادة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «لا يرخص في اللعب في أعياد الكفار، كما يرخص في أعياد المسلمين ... فلا يجوز لنا أن نفعل في كل عيد للناس من اللعب ما نفعل في عيد المسلمين ... ومن المعلوم أن هؤلاء - أي اليهود والنصارى والفرس - كانت لهم أعياد يتخذونها، ومن المعلوم أيضًا أن المقتضي لما يُفعل في العيد: من الأكل والشرب، واللباس والزينة، واللعب والراحة ونحو ذلك، قائم في النفوس كلها إذا لم يوجد مانع خصوصًا نفوس الصبيان والنساء وأكثر الفارغين من الناس. ¬

_ (¬1) وصححه الألباني، قال المباركفوري: «(مَنْ اِلْتَمَسَ) أَيْ طَلَبَ (بِسَخَطِ النَّاسِ) السَّخَطُ وَالسُّخُطُ وَالسُّخْطُ وَالْمَسْخَطُ الْكَرَاهَةُ لِلشَّيْءِ وَعَدَمُ الرِّضَا بِهِ (كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ) لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مِنْ حِزْبِ اللهِ وَهُوَ لَا يَخِيبُ مَنْ اِلْتَجَأَ إِلَيْهِ، أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ. (وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ) أَيْ سَلَّطَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهِ حَتَّى يُؤْذُوهُ» باختصار من (تحفة الأحوذي). (¬2) انظر فتاوى اللجنة الدائمة (2/ 119).

ثم من كان له خبرة بالسِّيَر عَلِم يقينًا أن المسلمين على عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ما كانوا يشركونهم في شيء من أمرهم، ولا يغيرون لهم عادة في أعياد الكافرين، بل ذلك اليوم عند رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وسائر المسلمين يوم من الأيام لا يختصونه بشيء أصلًا إلا ما قد اختُلف فيه من مخالفتهم فيه، كصومه» (¬1). ثانيًا: هذا اليوم مرتبط بدين النصارى وأعيادهم بدليل أنه ليس له يوم محدد في السنة بالتقويم الميلادي، فشم النسيم هو اليوم التالي لعيد القيامة - يوم الأحد - ويسبق هذا العيد سبت النور ويسبقه الجمعة الحزينة، فيوم شم النسيم ليس مرتبطًا فقط بأعياد الفراعنة بل له علاقة بأعياد النصارى. ثالثًا: لو أن إخواننا المسلمين في فلسطين المحتلة احتفلوا كل عام يوم (15أبريل) بعيد الفصح (عيد اليهود) ولم يتقربوا إلى الله بذلك ولم يعتبروه قربة وعبادة، فهل هذا الاحتفال بدعة ومحرم كما يقول علماء الإسلام أم لا؟ فكذلك الاحتفال بشم النسيم. الشبهة الثانية: عيد شم النسيم تحول إلى عادة. الجواب: كَوْن عيد شم النسيم تحول إلى عادة كما يقوله كثير من المحتفِلين به وهم لا يعتقدون فيه ما يعتقده أهل الديانات الأخرى لا يبيح الاحتفال به. ودليل ذلك ما رواه ثَابِتُ بْنُ الضَّحَّاكِ - رضي الله عنه - قَالَ: نَذَرَ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - أَنْ يَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ فَأَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «إِنِّى نَذَرْتُ أَنْ أَنْحَرَ إِبِلًا بِبُوَانَةَ». فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟». قَالُوا: «لَا». قَالَ: «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟». قَالُوا: «لَا». قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ؛ ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 445 - 449) بتصرف.

فَإِنَّهُ لاَ وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِى مَعْصِيَةِ اللهِ وَلاَ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ». (رواه أبو داود، وصححه الألباني). فيلاحظ في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اعتبر أصل البقعة، ولم يلتفِتْ إلى نية هذا الرجل في اختيار هذه البقعة بعينها، ولا سأله عن ذبحه لمن يكون: أهو لله - سبحانه وتعالى - أم للبقعة؛ لأن ذلك ظاهر واضح، وإنما سأله النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - عن تاريخ هذه البقعة: «هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟»، «هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟». فلما أجيب بالنفي أجاز الذبح فيها لله تعالى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «إذا كان تخصيص بقعة عيدهم محذورًا فكيف نفس عيدهم؟» (¬1). وعيد شم النسيم ليس في زمان العيد ومكانه فحسب، بل هو العيد الوثني الفرعوني عينه في زمانه وشعائره ومظاهر الاحتفال به، فحرم الاحتفال به دون النظر إلى نية المحتفل به وقصده، كما يدل عليه هذا الحديث العظيم. الشبهة الثالثة: لا مانع أن يُنتفَع بيوم عطلة شم النسيم بالتنزه الخالي من المظاهر الموروثة. الجواب: 1 - كيف يُنتفَع بيوم العطلة (الأجازة) فيه للفسح والتنزه الخالي من المظاهر الموروثة وطبيعة الاحتفال أصلًا هي التنزه حيث يخرج الناس للمزارع والحدائق للاحتفال بهذا اليوم. 2 - كيف يتميز المسلم الذي يريد أن يتنزه بعيدًا عن المظاهر الموروثة عن المسلم الآخر الذي يحتفل بهذه البدعة؟ هل يأخذ معه في الحدائق التونة بدلًا من الفسيخ، والفول السوداني بدلًا من الترمس، والبيض غير الملون بدلًا من الملون، أم ماذا يفعل ليتميز؟ فمجرد الخروج للتنزه في هذا اليوم مشاركة في هذا الاحتفال وتكثير لسواد ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 443).

النصارى ومن يتشبهون بهم. 3 - أليس حضور المسلم هذه الأماكن فتنة للآخرين الذين يحتفلون بهذا اليوم بالطريقة المبتدعة؟ فكيف يعرف الناس أن هذا يتنزه بالمظاهر الموروثة وذاك يتنزه بالمظاهر غير الموروثة؟ حكم أكل الفسيخ والسردين: س: ما هو حكم الإسلام في أكل الفسيخ والسردين؟ حيث إننا علمنا أو سمعنا أنه ميتة؛ لأنه يمتص من دم بعضه، ويتركوه في الشمس حتى الانتفاخ، وكذلك السردين، فهل أكله بهذه الطريقة حلال أم حرام؟ ج: يجوز أكل الفسيخ والسردين ونحوهما من حيوانات البحر، ولو كان ميتة وتراكم بعضه على بعض وسرى ما يسيل من بعضه إلى بعض؛ لما ثبت أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» (¬1). حكم أكل الفسيخ والسردين في شم النسيم: س: ما حكم أكل الفسيخ والسردين المملح؟ ج: الفسيخ المنتن إذا كان يضر فأكله محرم؛ لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في الصيد: «إِذَا رَمَيْتَ بِسَهْمِكَ فَغَابَ عَنْكَ فَأَدْرَكْتَهُ فَكُلْهُ مَا لَمْ يُنْتِنْ» (رواه مسلم)، وأما إذا كان نَتنُه يسيرًا لا يضر في الغالب فأكل هذا المنتن مكروه وليس بمحرم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أكل من إهالة سنخة - أي: من دهن متغير الرائحة -، وأما السردين المملح فلا بأس به. أما تخصيص هذه الأكلات بأيام معينة كـ (شم النسيم)؛ فهو من عادات الكفار في الأصل، لا يجوز للمسلمين أن يتشبهوا بهم فيها (¬2). ¬

_ (¬1) فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية (22/ 322)، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه. (¬2) فتاوى موقع صوت السلف، بإشراف الشيخ ياسر برهامي.

100 - عيد الأم هل نحتفل

100 - عيد الأم هل نحتفل؟ فقدان الهوية؟ إن من أخطر مظاهرِ فَقْدِ الهويَّة في أمتنا الإسلامية استبدال أعياد بدعية بأعيادنا الإسلامية، ومن هذه الأعياد المبتدعة التي انتشرت في الناس انتشار النار في الهشيم - ظنًّا منهم أن ذلك من البِرِّ المأمور به شرعًا - ما يُسَمَّى بعيد الأم، وهو في حقيقة الأمر تقصيرٌ في حق الأم لأنه يقصر برها على يومٍ واحدٍ في السنة مع أن المأمور به شرعًا هو بِرُّها على دوام العمر. ويلحظ المسلم كثرة الأعياد في هذه الأزمنة، مثل عيد (شم النسيم) المسمى بعيد الربيع، و (عيد الحب)، واحتفال الشخص بعيد ميلاده ... الخ، وكل هذا من اتباع اليهود والنصارى والمشركين، ولا أصل لهذا في الدين، وليس في الإسلام إلا عيد الأضحى وعيد الفطر وعيد الأسبوع وهو يوم الجمعة. وقد تابع بعض هذه الأمة الأمم السابقة من اليهود والنصارى والفرس في عقائدهم ومناهجهم وأخلاقهم وهيئاتهم، ومن ذلك اتباعهم في ابتداع (عيد الأم) أو (عيد الأسرة)، وهو اليوم الذي ابتدعه النصارى تكريمًا - في زعمهم - للأم، فصار يومًا معظَّما تُعَطَّل فيه الدوائر، ويَصِلُ فيه الناسُ أمهاتِهم ويبعثون لهن الهدايا والرسائل الرقيقة، فإذا انتهى اليوم عادت الأمور إلى ما كانت عليه من القطيعة والعقوق. والعجيب من المسلمين أن يحتاجوا لمثل هذه المشابهة وقد أوجب الله تعالى عليهم بر الأم وحرَّم عليهم عقوقها وجعل الجزاء على برها أرفع الدرجات. إن ما يُعرَف بعيد الأم - والذي يحتفل به كثير من الناس في الحادي والعشرين من مارس كل عام - هو من جملة البدع والمحدثات التي دخلت ديار المسلمين، لغفلتهم عن أحكام دينهم وهدي شريعة ربهم، وتقليدهم واتباعهم للغرب في كل ما

يصدره إليهم. وقد قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). ولم تأتِ بدعة محدثة من البدع إلا وهجرت أو أميتت سنة من السنن، وقد قال التابعي الجليل حسان بن عطية المحاربي - رحمه الله -: «ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سُنَّتهم مثلها، ثم لا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة» (رواه الدارمي، وقال الألباني: إسناده صحيح). مصداقُ ذلك أنك ترى الرجل غير بَارٍّ بأمه، لا يَصِلُها إلا قليلًا، فإذا كان هذا اليوم، جاءها بهدية، أو قدم لها وردة، ويظن في نفسه أنه بذلك قد عمل الذي عليه تجاهها. وقد استفاض العلم بأنه لا يجوز إحداث عيد يحتفل به المسلمون غير عيدي الأضحى والفطر، لأن الأعياد من جملة الشرع والمنهاج والمناسك، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)} (الحج:67). بعض الأدلة من القرآن والسنة على النهي عن التشبه بالكافرين: (راجع خطبة: رأس السنة، هل نحتفل؟!). الاحتفال بعيد الأم: إن بِرَّ الوالدين عبادةٌ مأمور بها العبد في كل يوم بقدر استطاعته، وأكمل المسلمين من أتمها في كل يوم وأداها كما ينبغي، والاحتفال بعيد الأم بتحديد يوم معين وكيفية معينة لبر الوالدين هو تخصيص لهذه العبادة بما لم يأت به الشرع، وأقصى ما يقدمه المرء في هذا اليوم لأمه هو مُطالَبٌ به طوال أيام العام بقدر استطاعته لإدخال السعادة والرضا على نفسها وأيضًا يفعل ذلك مع أبيه. ولو كان في الاحتفال بعيد الأم خيرٌ يُقَرب إلى الله - عز وجل -، لَفَعَلَه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ولَفَعَلَه سلفنا الصالح - رضي الله عنهم -، ولَحَثُّوا عليه.

وإضافة عيد في حياة الأمة لا يكون إلا بدليل من الشرع، فالأعياد من العبادات والأصل في العبادات التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بما لم يشرعه الله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «الأعياد شريعة من الشرائع فيجب فيها الاتباع، لا الابتداع» (¬1). قال ابن عابدين - رحمه الله -: «سُمِّيَ الْعِيدُ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنَّ لِلهِ - تَعَالَى - فِيهِ عَوَائِدَ الْإِحْسَانِ أَيْ أَنْوَاعَ الْإِحْسَانِ الْعَائِدَةَ عَلَى عِبَادِهِ فِي كُلِّ عَامٍ: مِنْهَا الْفِطْرُ بَعْدَ الْمَنْعِ عَنْ الطَّعَامِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَإِتْمَامُ الْحَجِّ بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ وَلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ فِيهِ الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَالنَّشَاطُ وَالْحُبُورُ غَالِبًا بِسَبَبِ ذَلِكَ» (¬2). وعيد الأم نوع من العبادات المحدثة في دين الله وهذا الاحتفال ليس من باب العادات، لأنه يتكرر، ولهذا كَانَ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَانِ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - الْمَدِينَةَ قَالَ: «كَانَ لَكُمْ يَوْمَانِ تَلْعَبُونَ فِيهِمَا وَقَدْ أَبْدَلَكُمْ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْفِطْرِ وَيَوْمَ الْأَضْحَى» (رواه النسائي وصححه الألباني)، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم» (¬3). قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: «عيد: اسم لما يعتاد فعله أو التردد إليه، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملًا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعامًا ودعا الناس فهذا يسمى عيدًا، ولأنه جعله يعود ويتكرر» (¬4). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: «العيد اسم لما يُعادُ من الاجتماع العام على ¬

_ (¬1) اقتضاء الصراط المستقيم (ص266). (¬2) حاشية رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الابصار في فقه مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان لمحمد أمين الشهير بابن عابدين (2/ 165). (¬3) انظر: القول المفيد على كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين (1/ 302 - 303). (¬4) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (9/ 443).

وجه معتاد عائد: إما بِعَوْد السنة، أو بعود الأسبوع أو الشهر، أو نحو ذلك فالعيد يجمع أمورًا منها: يوم عائد كيوم الفطر، ويوم الجمعة، ومنها: اجتماع فيه، ومنها: أعمال تجمع ذلك من العبادات أو العادات، وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقًا، وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدًا. فالزمان كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليوم الجمعة: «إنَّ هَذَا يَوْمُ عِيدٍ جَعَلَهُ اللهُ لِلْمُسْلِمِينَ» (¬1)، والاجتماع والأعمال: كقول ابن عباس: «شَهِدتُ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -» (¬2)، والمكان كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِى عِيدًا» (¬3)، وقد يكون لفظ العيد اسمًا لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب، كقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «دَعْهُمَا يَا أبَا بَكْرٍ، فَإِنَّ لِكُلّ قَوْمٍ عِيدًا وَإِنَّ هَذَا عِيدُنَا» (¬4). * فالعيد يطلق على: - زمان العيد. - مكان العيد. - الاجتماع والأعمال من العبادات أو العادات. - مجموع اليوم والعمل فيه. * وعندما نطبق كلام شيخ الإسلام على الاحتفال بعيد الأم نجده عيدًا وليس عادة فقط فهو: 1 - يوم عائد بِعَوْدِ السنة (يتكرر كل سنة في 21 مارس). 2 - يحدث فيه اجتماع للأهل والأقارب. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني. (¬2) رواه البخاري ومسلم. (¬3) رواه أبو داود، وصححه الألباني. (¬4) اقتضاء الصراط المستقيم (ص169)، والحديث رواه البخاري ومسلم.

3 - يحدث فيه أعمال مثل إهداء الهدايا. فالاحتفال بهذا الشكل يجعله عيدًا يتكرر كل سنة على وجه مخصوص وهو بهذه الكيفية عيد مبتدع لم يكن عليه عمل السلف الصالح - رضي الله عنهم -. وفي الاحتفال بعيد الأم مخالفة أخرى وهي التشبه بالكفار، قال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» (رواه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح)، وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟»، قَالَ: «فَمَنْ؟» (رواه البخاري ومسلم). «فَمَنْ»:أي فَمَنْ غيرُ أولئك. وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَأْخُذَ أُمَّتِى بِأَخْذِ الْقُرُونِ قَبْلَهَا، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ»، فَقِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، كَفَارِسَ وَالرُّومِ؟»، فَقَالَ: «وَمَنِ النَّاسُ إِلاَّ أُولَئِكَ؟» (رواه البخاري). فبدعة الاحتفال بعيد الأم لم يكن المسلمون يعرفونها، وإنما انتقلت إليهم عن الكفار، وهذه ليست كالأمور العادية من الاختراعات والمأكولات التي لا تخالف شرع الله، فتكرارها كل عام في نفس اليوم يجعلها عيدًا من أعياد الكفار، وليس للمسلمين التشبه بهم في أعيادهم وإن لم تكن أعيادًا دينية. تكريم الإسلام للوالدين: مَن أحدث هذه البدعة إنما أحدثها تعويضًا عن تقصير مجتمعه في حق الأم، وانقطاع روابط الود والصلة، فأحب أن يكرمها، ويرُدَّ إليها شيئًا من حقها، فعمد إلى إحداث هذا اليوم لتحتفل به الأسر تكريمًا لها، فكانوا كمن سكت دهرًا ونطق نُكْرًا. وماذا يُغْنِي عن الأم يوم في السنة، وبقية العام تكون نزيلة ملجأ، أو تعيش مع كلب أو هرة، هما أوفى لها ممن رضع من ألبانها وتربى في حجرها. والاحتفال بالأم وتكريمها على هذه الطريقة المحْدَثة لن يعطيها عشر معشار ما

كفلت لها الشريعة المطهرة من الحقوق، وكيف يمكن ذلك، وقد أمر الله - عز وجل - ببرها والإحسان إليها الدهر كله، وجعله حقًّا لها وهي على قيد الحياة. وعندما تكون في عالم الأموات، فإن من برها الدعاء لها، والتصدق عنها، والحج والاعتمار عنها، ولم يجعل لهذا الإحسان يومًا أو وقتًا واحدًا يُحْتَفَل فيه بها، ولم تأت شريعة من الشرائع بمثل ما جاءت به شريعة الإسلام. يقول الشاعر: لأمِّكَ حَقٌّ لو علِمْتَ كبيرُ ... كَثيرُكَ يا هذا لدَيهِ يسيرُ فكمْ ليلةٍ باتَتْ بثِقْلِكَ تشتكِي ... لَها مِن جَوَاها أنَّةٌ وزفيرُ وفِي الوَضعِ لو تدرِي عليْكَ مشقةٌ ... فكمْ غُصَصٍ منها الفؤادُ يطيرُ وكمْ غسلَتْ عنكَ الأذَى بيمينِهَا ... ومِن ثَدْيِها شُربٌ لدَيْك نَمِيرُ وكم مَرّة جاعَتْ وأعطَتْكَ قُوتَها ... حُنُوًّا وإشفاقًا وأنتَ صغيرُ فَضَيَّعْتَهَا لَما أسَنّتْ جَهَالةً ... وطالَ عليكَ الأمرُ وهو قصيرُ فَدُونَكَ فارغبْ فِي عَمِيمِ دُعائِهَا ... فأنت لِما تَدْعو إليه فقيرُ (الجَوَى):الحُرْقة وشدَّة الوَجْدِ من عشق أَو حُزْن، والجَوَى السُّلُّ، وتطاوُل المرض. وذِكْرُ حقوق الأم في الشريعة باب يطول، ويكفي التنبيه إلى أن الله تعالى أمر ووصى في مواضع من كتابه بالإحسان إلى الوالدين، وقرنه بالأمر بعبادته والنهي عن الشرك به، وأمر بالشكر لهما متصلًا بالشكر له، وخص الأم بالذكر في بعض هذه الوصايا للتذكير بزيادة حقها على الأب. قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} (لقمان: 14). وَقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا

تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} (النساء: 36).وَقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} (الإسراء:23 - 24). قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «يزيد البر بهما مع اللطف، ولين الجانب، فلا يغلظ لهما في الجواب، ولا يحدّ النظر إليهما، ولا يرفع صوته عليهما، بل يكون بين يديهما مثل العبد بين يدي السيد، تذللًا لهما». وقال سعيد بن المسيب في قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}: «هو: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ». ولا يمنع من برهما والإحسان إليهما كونهما غير مسلمين أو عاصيين، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} (لقمان: 15). فأمر تعالى بمصاحبتهما بالمعروف مع كفرهما، بل ومع أمْرِهِما ولَدَهُما بالكفر بالله تعالى، وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ - رضي الله عنهما - قَالَتْ: «قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟»، قَالَ: «نَعَمْ صِلِي أُمَّكِ» (رواه البخاري ومسلم). (رَاغِبَة) قِيلَ: مَعْنَاهُ رَاغِبَة عَنْ الْإِسْلَام وَكَارِهَة لَهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ طَامِعَة فِيمَا أَعْطَيْتهَا. وَحَرِيصَة عَلَيْهِ. وَفِي الحديث: جَوَاز صِلَة الْقَرِيب الْمُشْرِك. وحق الأم مقدم على حق الأب ويزيد عليه بأضعاف ثلاثة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟»، قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟»، قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ»، قَالَ: «ثُمَّ مَنْ؟»، قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ» (رواه البخاري ومسلم).

قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «الصَّحَابَة هُنَا بِفَتْحِ الصَّاد بِمَعْنَى الصُّحْبَة، وَفِيهِ الْحَثّ عَلَى بِرّ الْأَقَارِب، وَأَنَّ الْأُمّ أَحَقّهمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَعْدهَا الْأَب، ثُمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب، قَالَ الْعُلَمَاء: وَسَبَب تَقْدِيم الْأُمّ كَثْرَة تَعَبهَا عَلَيْهِ، وَشَفَقَتهَا، وَخِدْمَتهَا، وَمُعَانَاة الْمَشَاقّ فِي حَمْله، ثُمَّ وَضْعه، ثُمَّ إِرْضَاعه، ثُمَّ تَرْبِيَته وَخِدْمَته وَتَمْرِيضه، وَغَيْر ذَلِكَ». وقال الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من (صحيح البخاري): «قَالَ اِبْن بَطَّال: مُقْتَضَاهُ أَنْ يَكُون لِلْأُمِّ ثَلَاثَة أَمْثَال مَا لِلْأَبِ مِنْ الْبِرّ، قَالَ: وَكَانَ ذَلِكَ لِصُعُوبَةِ الْحَمْل ثُمَّ الْوَضْع ثُمَّ الرَّضَاع، فَهَذِهِ تَنْفَرِد بِهَا الْأُمّ وَتَشْقَى بِهَا، ثُمَّ تُشَارِك الْأَب فِي التَّرْبِيَة. وَقَدْ وَقَعَتْ الْإِشَارَة إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} (لقمان: 14)، فَسَوَّى بَيْنهمَا فِي الْوِصَايَة، وَخَصَّ الْأُمّ بِالْأُمُورِ الثَّلَاثَة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمُرَاد أَنَّ الْأُمّ تَسْتَحِقّ عَلَى الْوَلَد الْحَظّ الْأَوْفَر مِنْ الْبِرّ، وَتُقَدَّمَ فِي ذَلِكَ عَلَى حَقّ الْأَب عِنْد الْمُزَاحَمَة» اهـ. أمِّي وأمُّكَ يا فَتَى أحْسِنْ لها ... البِرُّ بالأمِّ الحنُونَةِ واجِبُ وهْنًا علَى وهْنٍ تحَمَّلَتِ الأذَى ... والطفلُ في أحشائِها يتقَلّبُ مَن كانَ يرتَقِبُ الليالي ساهرًا ... مَن كان عَن أحزانِنا يتَجَنَّبُ وإذا الهمومُ تجمعتْ وتكاثرَتْ ... فورًا إلى صدرِ الحنونةِ أهربُ أوْلَى الخلائقِ باستلامِ موَدَّتِي ... أمِّي وأمِّي ثُمَّ أمِّي فالأبُ وعَنْ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «إِنَّ اللهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ - ثَلَاثًا - إِنَّ اللهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ» (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

وقد حرَّم الإسلام عقوق الوالدين وجعله من الكبائر فقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ» (رواه البخاري ومسلم). قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث من صحيح مسلم: «أَمَّا (عُقُوق الْأُمَّهَات) فَحَرَام، وَهُوَ مِنْ الْكَبَائِر بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاء، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة عَلَى عَدِّهِ مِنْ الْكَبَائِر، وَكَذَلِكَ عُقُوق الْآبَاء مِنْ الْكَبَائِر، وَإِنَّمَا اِقْتَصَرَ هُنَا عَلَى الْأُمَّهَات لِأَنَّ حُرْمَتهنَّ آكَد مِنْ حُرْمَة الْآبَاء، وَلِأَنَّ أَكْثَر الْعُقُوق يَقَع لِلْأُمَّهَاتِ، وَيَطْمَع الْأَوْلَاد فِيهِنَّ». اهـ باختصار. وقال - صلى الله عليه وآله وسلم -: «بَابَانِ مُعَجَّلَانِ عُقُوبَتُهُمَا فِي الدُّنْيَا: الْبَغْيُ وَالْعُقُوقُ» [رواه الحاكم في (المستدرك) وصححه الألباني]. قال المناوي في (فيض القدير): (بَابَانِ مُعَجَّلَانِ عُقُوبَتُهُمَا فِي الدُّنْيَا) أي قبل موت فاعليهما: (الْبَغْيُ) أي مجاوزة الحد والظلم، (وَالْعُقُوقُ) للوالدين وإنْ عَلَيَا، أو أحدِهما، أي إيذاؤهما ومخالفتهما فيما لا يخالف الشرع. وقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أدْرَكَ أحَدَ وَالِدَيْهِ فَماَتَ فَدَخَلَ النَّارَ فَأبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَمَاتَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأدْخِلَ النَّارَ فَأبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَّلّ عَلَيْكَ فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأبْعَدَهُ اللهُ قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ» (صحيح رواه الطبراني). وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضي الله عنهما - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «رِضَى الرَّبِّ فِي رِضَى الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» (رواه الترمذي وصححه الألباني).وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِلَفْظِ: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُهُ فِي سَخَطِهِمَا» (وحسنه الألباني). وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةَ: جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - فَقَالَ: «يَا رَسُولَ اللهِ أَرَدْتُ الْغَزْوَ وَجِئْتُكَ أَسْتَشِيرُكَ»، فَقَالَ: «هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ؟»، قَالَ: «نَعَمْ»، فَقَالَ: «الْزَمْهَا،

فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا»، ثُمَّ الثَّانِيَةَ ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فِي مَقَاعِدَ شَتَّى كَمِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ» (رواه الإمام أحمد والنسائي وحسنه الألباني) (¬1). والمقصود بالغزو هنا جهاد طلب الكفار في عقر دارهم، وليس جهاد دفع الكفار عن بلاد المسلمين، (فَإِنَّ الْجَنَّةَ عِنْدَ رِجْلَيْهَا) أَيْ نَصِيبُك مِنْهَا لَا يَصِل إِلَيْك إِلَّا بِرِضَاهَا، بِحَيْثُ كَأَنَّهُ لَهَا وَهِيَ قَاعِدَة عَلَيْهِ، فَلَا يَصِل إِلَيْك إِلَّا مِنْ جِهَتهَا، فَإِنَّ الشَّيْء إِذَا صَارَ تَحْت رِجْل أَحَد، فَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَصِل إِلَى آخَر إِلَّا مِنْ جِهَته. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله - عز وجل - مِن بِرّ الوالدة» (رواه البخاري في الأدب المفرد، وصححه الألباني). فهذا البر هو الاحتفال بالوالدين - لا سيما الأم - الذي دعا إليه الإسلام وحث عليه ورغب فيه، والناس بعد ذلك أحد شخصين: · بارٌّ بأمه كما أمرته الشريعة المطهرة، فهذا لا يجوز له الاحتفال بهذا اليوم، لأنه بدعة، ولأن هدي الإسلام في هذا الباب أتم وأحكم. · وشخص لم يكن بأمه بارًّا، وهذا لن يكون بهذا الاحتفال وهذا اليوم بارًّا، بل هو ممن جمع بين العقوق والابتداع. ولعل للغرب ما يسوغ اختراع هذا اليوم وأمثاله، إذ لا قيمة - في ظل فلسفتهم المادية - للروابط الأسرية عندهم، ولا أهمية للقرابة، ولا حق للأم التي حملت ثم ولدت ثم أرضعت وسهرت، فتحتاج أمهاتهم ولو يومًا من السنة يتذكرن فيه ¬

_ (¬1) أما رواية: «الجنة تحت أقدام الأمهات» فسندها ضعيف، ضعفه الشيخ الألباني - رحمه الله - في (ضعيف الجامع) برقم (2666). ومن القصص المكذوبة قصة عقوق علقمة لأمه وأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - هَمَّ أن يحرقه بالنار أمام أمه، هذه القصة أخرجها ابن الجوزي في (الموضوعات 3/ 87)، والعقيلي في كتاب (الضعفاء الكبير 3/ 461)، والسيوطي في (اللآلئ المصنوعة 2/ 296).

أولادهن، ويرسلون إليهن الهدايا وبطاقات معايدة، ولكن الذي لا يمكن فهمه وتفسيره إلا على وجه التبعية البغيضة تقليد بعض أبناء المسلمين لأساتذتهم في الغرب وإحياء (يوم الأمومة) في ديار أهل الإسلام، مع أن المسلمين ليسوا محتاجين يومًا ولا أسبوعًا ولا شهرًا يكرمون فيه أمهاتهم، إذ إن دينهم يحتم عليهم بر والديهم العمر كله، ويجعل جزاء ذلك الجنة، فما الداعي إلى نقل يوم الأمومة إلى ديار المسلمين؟ عيد الأم عندنا في كل يوم، وليس يوم واحد ونرميها بعدها في أقرب دار المسنيين!! لماذا احتفل الغربيون بعيد الأم؟ إن المتتبع لأحوال الأسرة عموما وللأم خاصة في المجتمعات غير الإسلامية ليسمع ويقرأ عجبًا، فلا تكاد تجد أسرة متكاملة يصل أفرادها بعضهم بعضًا فضلا عن لقاءات تحدث بينهم وفضلا عن اجتماع دائم. ومن النادر أن تجد أسرة كاملة تتسوق أو تمشي في الطرقات. وعندما يصير الأب أو الأم في حالة الكِبَر يسارع البَارُّ بهما!! إلى وضعهما في دور العجزة والمسنِّين، وقد ذهب بعض المسلمين إلى بعض تلك الدور وسأل عشرة من المسنِّين عن أمنيته، فكلهم قالوا: «الموت!!»، بسبب ما يعيشه الواحد منهم من قهر وحزن وأسى على الحال التي وصل إليها وتخلى عنهم فلذات أكبادهم في وقت أحوج ما يكون إليهم. يقول الدكتور عبد الله عزام - رحمه الله -: «أحد إخواننا تزوج امرأة أمريكية وزارونا , فأبي وأمي في البيت, وأبي يأمر الولد: «هات يا ولد كذا , اذهب وأحضر الشاي» , ينهره وما إلى ذلك , فتعجبَتْ هذه المرأة الأمريكية , قالت: «كيف هؤلاء يستطيعون أن يحكموا على ابنهم , هؤلاء كبار في السن عندنا يرمونهم في ملاجئ في بيوت العجزة , كيف هؤلاء يحترمونهم بهذا الشكل , ويطيعونهم؟».

قالوا لها: «هذا هو الإسلام , لا جَنَّةَ إلا عن طريق هؤلاء» , هي ذهلت , أبي عمره سبعة وثمانون سنة , وأمي عمرها خمسة وثمانون سنة , كيف هؤلاء يُطَاعُون في البيت , وهؤلاء شباب كبار يطيعونهم , وزوجتي تطيع أمي وتطيع أبي؟ كيف هذا؟ هي تعجبَتْ، لأنها وجدت أن جدتها وأمها وغير ذلك يغيب عنها أبناؤها سنة كاملة لا يزورونها, لا يزورونها, ويمر في السيارة ويرى والده في الطريق في السيارة فلا يقف حتى ليسلم على أبيه. وذات يوم اجتمعت على الإشارة سيارتان , سيارة الأب وسيارة الابن , فالوالد أوقف سيارته جانبًا ووقف حتى ينزل ابنه يسلم عليه , فابنه قال: «هاي هاي، باي» واستمر ماشيًا , مشى , فنزلت الدمعة من عينه. هذا قال له آخر: «ما بالك؟». قال: «منذ خمس سنوات لم أر هذا الولد الذي يقول لي: «هاي هاي». ولذلك اتفقوا على يوم اسمه يوم ماذا؟ عيد الأم في بداية الربيع , قالوا: هذا عيد الأم يعني يوم في السنة نزور الأم , نأخذ لها باقة زهور أو قطعة كاتوه ونقول لها: اسكتي من السنة إلى السنة , نعم! وتجد عيد الأم أين؟ في قرية من قرانا طول الليل والنهار أمه وأبوه في وجهه, والصبح فاصولياء مسلوقه , والظهر الرز , والمغرب الحليب , طول النهار في وجهها، وبالتالى يعملون لها عيد أم , نعم مساكين! التقليد , هنا التقليد المذموم , هذا تقليد القرود , لأن القرود يحاكون , يمثلون كل شيء يرونه. ولذلك البنت الأوروبية عندما تسلم ويحسن إسلامها وتتزوج لا تطيق فراق زوجها أبدًا , لأنها تراه الدنيا بأسرها , كانت ضائعة تائهة , لا أحد يتكلم معها.

يحدثني أحد إخواننا كان في أمريكا يدرس الدكتوراه , فقال: سكنتُ عند عجوز , ففي الصباح وأنا نازل الجامعة أقول لها: ( Good morning) , والمساء وأنا طالع إلى غرفتي أقول لها Good evening)) (¬1) ، عمرها سبعون , فالمهم كبيرة , قال: بعد يومين أو ثلاثة نادَتْنِي , قالت: «كم تريد راتبك؟». قلت لها: «لماذا؟» قالت: «لأنك تُسَلِّمُ عَلَيَّ , أريد أن أدفع لك راتبًا لأني أسمع صوت إنسان». ولذلك هناك كان تمسُّكُهم بالكلاب , يقول لك: الناس كلهم غدورا بي وتركوني, فلم يبق لي إلا هذا الكلب الوفي , نعم , ما بقي إلا هذا الكلب , قال: هذا أفضل من أولادي , لأنه لم يبق مَن يُسَلّيني إلا هذا الكلب , ولذلك كثير من كبيرات السن أو كبار السن يموتون في غرفهم ولا يدري أحد عن موتهم حتى تخرج رائحتهم وتشمئز منها النفوس , وتزكم رائحته الأنوف , فيتصلون بالبلدية , تعالوا هنالك في الحارة واحد ميت أو واحدة ميتة , تعالوا خذوها وارموها. نعم والد جونسون رئيس الولايات الأمريكية مات في المزرعة , لا أحد عرف , ما دَلَّهُم عليه إلا كلبه , جونسون!! رئيس الولايات الأمريكية. ولذلك مجتمع منهار نهائيًا , بنت تبكي ووالدها يدفعها , فيسأل شاب عربي ما بالها؟ قال: «هي تريد أن تستأجر كأنه بمائة دولار, وشاب آخر يدفع لي - غريب - مائة وخمسين دولارا في الغرفة, فأنا أؤجر الغرفة لهذا الشاب». أخ قادم من أمريكا قال لي: نحن أهم صفتين عندنا الحياء والكرم, اجتثت هاتان الصفتان من الأوروبيين , دعا عربي - العربي كريم - دعا أمريكيًّا إلى بيته , عمل له غداء من اللحوم ومن غيره , فهو مكث عنده ساعتين، فواكه وحديث، وبعدها ¬

_ (¬1) لا يجوز ابتداء غير المسلمين بالسلام لقول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: «لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ» (رواه مسلم).

ودعه وخرج الأمريكي , فوضع له بطاقة , فقرأ البطاقة: «مكثْتُ عندك ساعتين وأجْرَتي في الساعة عشرون دولارًا , أرجو دَفْع أربعين دولارًا لي». مجتمع مُنْتَه , لكن حنحنة الحديد وطنطنة الفولاذ وأزير الطائرات لا زالت تغطي على هذا المجتمع المنهار , تغطي على أكوام القمامة التي تحول إليها المجتمع, مزبلة وموضوع فوقها كم قطعة ذهب - أجَلَّكُم الله - , فاحمدوا الله على دين الله , احمدوا الله على دين الإسلام (¬1). هل تعلم؟ يوم عيد الأم - وهو 21 مارس - هو يوم عيد النيروز عند الفرس المجوس. وفي يوم 21 مارس من كل عام يحتفل البهائيون بعيد النيروز، وعيد النيروز هو رأس السنة البهائية والتى تبدأ يوم 21 مارس من كل عام. تنبيه: جاء في قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، قرار رقم: 34 (9/ 4) بشأن البَهائيَّة: «بعد التدبر العميق في معتقدات هذه الفئة والتأكد من أن البهاء، مؤسس هذه الفرقة يدّعي الرسالة، ويزعم أن مؤلفاته وحي منزل، ويدعو الناس أجمعين إلى الإيمان برسالته، وينكر أن رسول الله هو خاتم المرسلين، ويقول إن الكتب المنزلة عليه ناسخة للقرآن الكريم، كما يقول بتناسخ الأرواح. وفي ضوء ما عمد إليه البهاء، في كثير من فروع الفقه بالتغيير والإسقاط، ومن ذلك تغييره لعدد الصلوات المكتوبة وأوقاتها، إذ جعلها تسعًا تؤدى على ثلاث مرات، في البكورة مرة، وفي الآصال مرة، وفي الزوال مرة، وغيَّر التيمم، فجعله يتمثل في أن ¬

_ (¬1) في ظلال سورة التوبة للدكتور عبد الله عزام - رحمه الله -، نشر واعداد: مركز الشهيد عزام الإعلامي، بيشاور - باكستان، والكتاب على ما يبدو من أسلوبه أنه محاضرات صوتية مفرغة.

يقول البهائي: (بسم الله الأطهر الأطهر)، وجعل الصيام تسعة عشر يومًا، تنتهي في عيد النيروز، في الواحد والعشرين من آذار (مارس) في كل عام، وحوّل القبلة إلى بيت البهاء في عكا بفلسطين المحتلة، وحرم الجهاد وأسقط الحدود، وسوى بين الرجل والمرأة في الميراث، وأحل الربا. وبعد الإطلاع على البحوث المقدمة في موضوع (مجالات الوحدة الإسلامية) المتضمنة التحذير من الحركات الهدامة التي تفرقّ الأمة، وتهز وحدتها، وتجعلها شيعًا وأحزابًا وتؤدي إلى الردة والبعد عن الإسلام، قرر ما يلي: اعتبار أن ما ادعاه البهاء من الرسالة، ونزول الوحي عليه، ونسخ الكتب التي أُنزلت عليه للقرآن الكريم، وإدخاله تغييرات على فروع شرعية ثابتة بالتواتر، هو إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة. ومنكِرُ ذلك تنطبق عليه أحكام الكفار بإجماع المسلمين (¬1). مفاسد الاحتفال بعيد الأم يزعم مُرَوِّجُو الاحتفال بعيد الأم أنه يقوي الروابط الأسرية ويدخل السعادة عليها، ولكن الواقع غير ذلك فمن مفاسده: 1 - ذلك الاحتفال بهذا العيد المزعوم - بالإضافة إلى مخالفته للشرع - يحمِّل ميزانية الأسرة أعباءً في هذا الشهر، بل ربما اقترض البعض احتفالًا بهذا اليوم. فالأطفال في سن المدارس يشترون بمصروفهم هدايا لأمهاتهم، ثم عليهم بعد ذلك تكريم معلماتهم في الفصل والناظرة أو المديرة في المدرسة، ولا يكفي مصروفهم لذلك فيضطر الآباء والأمهات إلى تغطية نفقات هذه الهدايا الواجب تقديمها في زعمهم لعدم إحراج أولادهم بين زملائهم وأمام معلماتهم. ¬

_ (¬1) مجلة المجمع (العدد 4، ج3، ص 2189).

وتواجه السيدات العاملات ضرورة تكريم رئيساتهن في العمل وكبار زميلاتهن بهدايا مناسِبة، مجاملةً شِئْنَ أم أبَيْنَ. ويتمادى الأمر فيحتاج الزوج إلى تكريم أم زوجته - حماته - كما يكرم أمه، وتكرم الزوجة أم زوجها - حماتها - كما تكرم أمها، والتكريم بهدايا قَيِّمَة تُرضي مَن تُقَدَّم إليه إرضاءً تامًا وإلا .... 2 - الأرامل والمسِنَّات ممن لا أولاد لهن يعِشْنَ هذا اليوم في حزن وأسى وربما البكاء، وقد هيج احتفال المجتمع بهذه المناسبة مشاعرهن، وهن المحرومات ممن يحتفي بهن من الأولاد. 3 - الأيتام يتملكهم الحزن في هذا اليوم، وقد تجدد في نفوسهم الشعور بالحرمان من الأم بينما ينعم من حولهم بأمهاتهم والقرب منهن. 4 - يأتي هذا العيد المزعوم على بعض الآباء فيشعرون بنوع من الأسى لما رأوه من تجاهل المجتمع لدورهم ومكانتهم في أسرهم بقصر التكريم على الأمهات دونهم. لذا سمعنا من ينادي بتخصيص يوم يكون عيدًا للأب، أو تسمية عيد الأم بعيد الأسرة، ليكون للأم والأب معًا دفعًا لما ينتاب نفوس الأباء من جراء تجاهلهم. 5 - الأمهات يَعْتَدْنَ من الأولاد الهدايا، وقد تكون مكلفة وفي غير المقدور، فإذا لم يقدم الابن هدية تغضب الأمهات. 6 - الأم التي لديها أكثر من ولد، ذكرًا أو أنثى، وخاصة المتزوجين والمتزوجات، تقارن بين ما يقدمه كل منهم، وأقل ما يمكن أن يحدث هو أن تغضب على بعضهم. 7 - الزوجة تطالب زوجها أن تقدم لأمها هدية كما يفعل زوجها مع أمه، وهذا قد يؤدي إلى مشكلات ومقارنات وتكليف فوق الطاقة. 8 - الأم تعتبر ولدها مقصرًا إذا نسي أو ترك عادته معها كل عام، وقد تلومه،

وقد تقاطعه، وقد تغضب عليه، وقد تعتبر زوجته، أو تعتبر زوج ابنتها السبب في هذا التقصير، فتحدث القطيعة بين الأسر. 9 - قد يؤدي الدوام على هذا الاحتفال كل عام إلى اعتقاد أنه قربة من القربات، وأن هذا واجب ديني، وعند ذلك يعتقد الناس أن المقصر فيه مقصرٌ في واجب ديني. إن علاجَ مشكلة العقوق ليس بالابتداع في الدين وإنما بتربية الأمة - خاصةً النشء - على بر الوالدين كما يحبه الله - عز وجل - وعلمه لنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وقام به سلف الأمة - رضي الله عنهم -، وأن ننبذ ما يخالف ديننا، فلن يصلح أخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

§1/1